سعود سليمان الحارثي
20 Aug 2006, 02:46 PM
طفل بمليار مسلم
بينما الحجاج بن يوسف الثقفي جالساً في منظرة
له و عنده وجوه أهل العراق أُتي بصبي يبلغ عمره بضع عشرة
سنة و له ذؤابتان مرخيتان قد بلغتا خصره ، فلما أُدخل عليه لم
يعبأ (يهتم ) بالحجاج و لم يكترث به ، و إنما صار ينظر إلى بناء
المنظرة و ما فيها من العجائب و يلتفت يميناً و شمالاً ثم اندفع
يقول " أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون * و تتخذون مصانع لعلكم
تخلدون"(الشعراء 128-129).
و كان الحجاج متكئاً فاستوى في مقعده .
و قال : يا غلام ، إني أرى لك عقلاً و ذهناً ، أحفظت القرآن ؟
قال : أو خفت عليه من الضياع حتى أحفظه ، و قد حفظه الله
تعالى؟
قال : أفجمعت القرآن ؟
قال : أو كان مفرقاً حتى أجمعه ؟
قال : أو أحكمت القرآن ؟
قال : أوليس الله أنزله محكماً ؟
قال : أفاستظهرت القرآن ؟
قال : معاذ الله أن أجعله وراء ظهري .
فقال الحجاج و قد ثار غضباً : ويلك قاتلك الله ... ماذا أقول ؟
قال الغلام : الويل لك و لقومك ، قل أوعيت القرآن في صدرك ؟
فقال الحجاج فاقرأ شيئاً .
فاستفتح الغلام : أعود بالله من الشيطان الرجيم ، بسم اله
الرحمن الرحيم ، "إذا جاء نصر الله و الفتح * و رأيت الناس
(يخرجون من دين الله) أفواجا ".
فقال الحجاج : ويحك إنهم " يدخلون " .
فرد عليه الغلام قائلاً : كانوا يدخلون ، أما اليوم فصاروا
يخرجون .
فقال الحجاج : و لمَ ؟
فقال الغلام : نعم شيطان ثقيف الحجاج .
قال الحجاج : ويلك من رباك ؟
قال الغلام : الذي زرعك .
قال الحجاج : فمن أمك ؟
قال الغلام : التي ولدتني .
قال الحجاج : فأين ولدت ؟
قال الغلام : في بعض الفلوات .
قال الحجاج : فأين نشأت ؟
قال الغلام في بعض البراري .
قال الحجاج : أمجنون أنت فأعالجك ؟
قال الغلام : لو كنت مجنوناً لما وصلت إليك و وقفت بين يديك
كأنني ممن يرجو فضلك أو يخاف عقابك .
قال الحجاج : فما تقول في أمير المؤمنين ؟
قال الغلام : رحم الله أبا الحسن رضي الله عنه و أسكنه جنات
خلده .
قال الحجاج : ليس هذا عنيت ، إنما أعني عبد الملك بن مروان .
قال الغلام : على الفاسق الفاجر لعنة الله .
فقال الحجاج : ويحك بمَ استحق اللعنة أمير المؤمنين ؟
قال الغلام : أخطأ خطيئة ملأت ما بين السماوات و الأرض .
قال الحجاج : ما هي ؟
قال الغلام : استعماله إياك على رعيته ، تستبيح أموالهم ، و
تستحل دماءهم .
فالتفت الحجاج إلى جلسائه و قال : ما تشيرون في هذا الغلام ؟
قالوا : اسفك دمه فقد خلع الطاعة و فارق الجماعة .
فقال الغلام : يا حجاج ، جلساء أخيك فرعون خير من جلسائك ،
حيث قالوا لفرعون عن موسى عليه السلام و أخيه " أرْجِهْ و
أخاهُ " (الأعراف :111) و هؤلاء يأمرون بقتلي إذن و الله تقوم
عليك الحجة بين يدي الله ملك الجبارين و مذل المستكبرين .
فقال له الحجاج : هذِّب ألفاظك و قصر لسانك ، فإني أخاف عليك
بادرة الأمر ، و قد أمرت لك بأربعة آلاف درهم .
فقال الغلام لا حاجة لي بها .. بيَّضَ الله وجهك و أعلى كعبك .
فالتفت الحجاج إلى جلسائه و قال : هل علمتم ما أراد بقوله :
بيض الله وجهك و أعلى كعبك ؟
قالوا : الأمير أعلم .
قال : أراد بقوله بيَّضَ الله وجهك العمى و البرص ، و بقوله :
أعلى كعبك التعليق و الصلب.
ثم التفت إلى الغلام و قال له : ما تقول فيما قلت .
قال الغلام : قاتلك الله ما أفهمك !
فاستشاط الحجاج غضباَ و أمر بضرب عنقه ، و كان الرقَّاشيُ
حاضراً فقال : أصلح الله الأمير ، هبه لي .
قال : هو لك ، لا بارك الله لك فيه .
فقال الغلام : و الله لا أرى أيكما أحمق من صاحبه ، الواهب أجلاً
قد حضر ، أم المستوهب أجلاً لم يحضر ؟
فقال الرقَّاشيُ : استنقذتك من القتل و تكافئني بهذا الكلام ؟
فقال الغلام : هنيئاً لي الشهادة إن أدركتني السعادة ، و الله إن
القتل في سبيل الله أحب إلي من إن أرجع إلى أهلي صُفْر اليدين .
فأمر له الحجاج بجائزة و قال : يا غلام قد أمرنا لك بمائة ألف
درهم ، و عفونا عنك لحداثة سنك ، و صفاء ذهنك ، و حسن
توكلك على الله ، و إياك و الجرأة على أرباب الأمر فتقع مع من لا
يعفو عنك .
فقال الغلام : العفو بيد الله لا بيدك ، و الشكر له لا لك و لا جمع
الله بيني و بينك ، ثم همَّ بالخروج فابتدره الغلمان .
فقال الحجاج : دعوه فوالله ما رأيت أشجع منه قلباً ، و لا أفصح
منه لساناً ، و لعمري ما رأيت مثله قط ، و عسى هو لا يجد مثلي
، فإن عاش هذا الغلام ليكونن أعجوبة عصره.(1)
(1)من وصايا الرسول صلى الله عليه و سلم ص 411-413
...
م . ن . ق . و . ل
بينما الحجاج بن يوسف الثقفي جالساً في منظرة
له و عنده وجوه أهل العراق أُتي بصبي يبلغ عمره بضع عشرة
سنة و له ذؤابتان مرخيتان قد بلغتا خصره ، فلما أُدخل عليه لم
يعبأ (يهتم ) بالحجاج و لم يكترث به ، و إنما صار ينظر إلى بناء
المنظرة و ما فيها من العجائب و يلتفت يميناً و شمالاً ثم اندفع
يقول " أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون * و تتخذون مصانع لعلكم
تخلدون"(الشعراء 128-129).
و كان الحجاج متكئاً فاستوى في مقعده .
و قال : يا غلام ، إني أرى لك عقلاً و ذهناً ، أحفظت القرآن ؟
قال : أو خفت عليه من الضياع حتى أحفظه ، و قد حفظه الله
تعالى؟
قال : أفجمعت القرآن ؟
قال : أو كان مفرقاً حتى أجمعه ؟
قال : أو أحكمت القرآن ؟
قال : أوليس الله أنزله محكماً ؟
قال : أفاستظهرت القرآن ؟
قال : معاذ الله أن أجعله وراء ظهري .
فقال الحجاج و قد ثار غضباً : ويلك قاتلك الله ... ماذا أقول ؟
قال الغلام : الويل لك و لقومك ، قل أوعيت القرآن في صدرك ؟
فقال الحجاج فاقرأ شيئاً .
فاستفتح الغلام : أعود بالله من الشيطان الرجيم ، بسم اله
الرحمن الرحيم ، "إذا جاء نصر الله و الفتح * و رأيت الناس
(يخرجون من دين الله) أفواجا ".
فقال الحجاج : ويحك إنهم " يدخلون " .
فرد عليه الغلام قائلاً : كانوا يدخلون ، أما اليوم فصاروا
يخرجون .
فقال الحجاج : و لمَ ؟
فقال الغلام : نعم شيطان ثقيف الحجاج .
قال الحجاج : ويلك من رباك ؟
قال الغلام : الذي زرعك .
قال الحجاج : فمن أمك ؟
قال الغلام : التي ولدتني .
قال الحجاج : فأين ولدت ؟
قال الغلام : في بعض الفلوات .
قال الحجاج : فأين نشأت ؟
قال الغلام في بعض البراري .
قال الحجاج : أمجنون أنت فأعالجك ؟
قال الغلام : لو كنت مجنوناً لما وصلت إليك و وقفت بين يديك
كأنني ممن يرجو فضلك أو يخاف عقابك .
قال الحجاج : فما تقول في أمير المؤمنين ؟
قال الغلام : رحم الله أبا الحسن رضي الله عنه و أسكنه جنات
خلده .
قال الحجاج : ليس هذا عنيت ، إنما أعني عبد الملك بن مروان .
قال الغلام : على الفاسق الفاجر لعنة الله .
فقال الحجاج : ويحك بمَ استحق اللعنة أمير المؤمنين ؟
قال الغلام : أخطأ خطيئة ملأت ما بين السماوات و الأرض .
قال الحجاج : ما هي ؟
قال الغلام : استعماله إياك على رعيته ، تستبيح أموالهم ، و
تستحل دماءهم .
فالتفت الحجاج إلى جلسائه و قال : ما تشيرون في هذا الغلام ؟
قالوا : اسفك دمه فقد خلع الطاعة و فارق الجماعة .
فقال الغلام : يا حجاج ، جلساء أخيك فرعون خير من جلسائك ،
حيث قالوا لفرعون عن موسى عليه السلام و أخيه " أرْجِهْ و
أخاهُ " (الأعراف :111) و هؤلاء يأمرون بقتلي إذن و الله تقوم
عليك الحجة بين يدي الله ملك الجبارين و مذل المستكبرين .
فقال له الحجاج : هذِّب ألفاظك و قصر لسانك ، فإني أخاف عليك
بادرة الأمر ، و قد أمرت لك بأربعة آلاف درهم .
فقال الغلام لا حاجة لي بها .. بيَّضَ الله وجهك و أعلى كعبك .
فالتفت الحجاج إلى جلسائه و قال : هل علمتم ما أراد بقوله :
بيض الله وجهك و أعلى كعبك ؟
قالوا : الأمير أعلم .
قال : أراد بقوله بيَّضَ الله وجهك العمى و البرص ، و بقوله :
أعلى كعبك التعليق و الصلب.
ثم التفت إلى الغلام و قال له : ما تقول فيما قلت .
قال الغلام : قاتلك الله ما أفهمك !
فاستشاط الحجاج غضباَ و أمر بضرب عنقه ، و كان الرقَّاشيُ
حاضراً فقال : أصلح الله الأمير ، هبه لي .
قال : هو لك ، لا بارك الله لك فيه .
فقال الغلام : و الله لا أرى أيكما أحمق من صاحبه ، الواهب أجلاً
قد حضر ، أم المستوهب أجلاً لم يحضر ؟
فقال الرقَّاشيُ : استنقذتك من القتل و تكافئني بهذا الكلام ؟
فقال الغلام : هنيئاً لي الشهادة إن أدركتني السعادة ، و الله إن
القتل في سبيل الله أحب إلي من إن أرجع إلى أهلي صُفْر اليدين .
فأمر له الحجاج بجائزة و قال : يا غلام قد أمرنا لك بمائة ألف
درهم ، و عفونا عنك لحداثة سنك ، و صفاء ذهنك ، و حسن
توكلك على الله ، و إياك و الجرأة على أرباب الأمر فتقع مع من لا
يعفو عنك .
فقال الغلام : العفو بيد الله لا بيدك ، و الشكر له لا لك و لا جمع
الله بيني و بينك ، ثم همَّ بالخروج فابتدره الغلمان .
فقال الحجاج : دعوه فوالله ما رأيت أشجع منه قلباً ، و لا أفصح
منه لساناً ، و لعمري ما رأيت مثله قط ، و عسى هو لا يجد مثلي
، فإن عاش هذا الغلام ليكونن أعجوبة عصره.(1)
(1)من وصايا الرسول صلى الله عليه و سلم ص 411-413
...
م . ن . ق . و . ل