المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الروائية د. ناديا خوست ..... أديبة سوريه ...!!


sanaa
18 Nov 2005, 04:01 AM
ضمن اطار التعرف على أدباء الوطن العربي
أحببت أن أتحدث اليوم عن الأديبة السورية د ناديا خوست
وأنا بصراحة من أشد المعجبين يكتاباتها
وأتمنى أن تجد لديكم القبول
مع خاص الود لكم

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif


http://www.syrianstory.com/images/n-kostte.jpg
http://www.syrianstory.com/glitter.gifالروائية د. ناديا خوست http://www.syrianstory.com/glitter.gif


http://www.syrianstory.com/glitter.gifسيرة موجزة :http://www.syrianstory.com/glitter.gif

ولدت في دمشق. ودرست فيها.

ساهمت في تأسيس مجلة مدرسية وناد ثقافي مدرسي.

تخرجت من كلية الآداب في الجامعة.

ساهمت في الندوة الأدبية فيها. ثم في تأسيس رابطة الكتاب الشباب.

اختصت في الآداب في جامعة موسكو. درست اللغة الفرنسية سنة في جامعة ستراسبورغ.

كتبت المقالة الأسبوعية في الصحافة منذ سنة 1978. كتبت السيناريو عن قصصها.

عضوة في اللجنة التي وضعت نظام البناء لدمشق القديمة. عضوة مؤسسة في هيئة دمشق القديمة.

عضوة في مجلس محافظة دمشق دورة واحدة.

ساهمت في حماية بعض الأبنية التاريخية وفي تعديل المخطط التنظيمي لدمشق.

اشتركت في مؤتمرات عالمية عن قضايا المرأة والسلام.


http://www.syrianstory.com/glitter.gifمؤلفاتها: http://www.syrianstory.com/glitter.gif


1-أحب الشام -قصص- دمشق 1967

2-في القلب شيء آخر - قصص- دمشق 1979

3-كتّاب ومواقف - دراسة أدبية - دمشق 1983

4-في سجن عكا - قصص - دمشق 1984

5-الهجرة من الجنة - دراسة عن العلاقة بالمدينة العربية - دمشق 1989

6-لا مكان للغريب - قصص - دمشق 1990

7-دمشق ذاكرة الإنسان والحجر - دراسة عن العلاقة بالمدينة العربية - دمشق 1993

8-حب في بلاد الشام - رواية - دمشق 1996

9-مملكة الصمت - قصص - دمشق 1997

10-أعاصير في بلاد الشام - رواية - 1998

11-شهداء وعشاق في بلاد الشام، رواية، اتحاد الكتاب العرب،2000.

12- وداع ولقاء في بلاد الشام دمشق 2002

ولها العديد من القصص القصيرة

وسوف أورد العديد من أعمال الأديبة تباعاً

http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/image.002.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/image.001.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:08 AM
القصص القصيرة للأديبة

http://www.syrianstory.com/glitter.gif 1 http://www.syrianstory.com/glitter.gif

جلطة


انعقد يومذاك بيني وبينه الحوار . ولم أفهم أني بذلك كنت أعبر البوابة إلى هنا من هناك.

وجدت يومذاك على طاولتي بطاقة باسمي من المدير، تدعوني إلى اجتماع . وقبل ذلك اليوم، كانت حتى رسائلي الشخصية تضيع في غرفة البواب. قرأت اسمي على البطاقة وتساءلت دهشاً : ماذا جرى؟ وسمعت الجواب! يقيم المدير احتفالاً مصوراً يجب ألا يغيب عنه أحد.

مشيت إلى الإحتفال. ورأيت لأول مرة صالون المدير الذي كان محجوزاً للضيوف الكرام . أدهشني أن المدير كان واقفاً عند الباب يستقبل كل واحد منا، يصافحه ويستوقفه ليسأله عن صحته وأسرته وحاله. جلست مع الجالسين في حلقة كبيرة ، وجلس هو في الصدر. قدمت لنا القهوة المرة، وسلال السكاكر . ثم بدأ مديرنا الكلام فقال:

اغفروا لي ما مضى! لنقل معاً: طواه العالم القديم! كان لابد لي ، كرؤساء المؤسسات، من حاجب يمنع وصولكم إلي. كان لابد لي من سكرتير ينقل لي صورة الواقع كيلا تشوشها الآراء. ولابد من سائق يفتح لي باب السيارة وباب المصعد وينحني فتنحنوا لي مثله. كنت في سياق ذلك الزمان!

من حظنا جميعاً أن ذلك العالم البيروقراطي انهار، كما انهار سور برلين، وأشرق عصر الديمقراطية ، وأصبحنا مجتمعين معاً فيه.

ألتقي بكم اليوم، لأطلب أولاً اعتراف كل شخص به، ولأعلن ثانياً أن مكتبي سيكون كالبيت الأبيض، تستطيعون أن تجتمعوا أمامه رافعين ما تشاؤون من يافطات. بل تستطيعون أن تدوروا أمامه دورات كما يدور المواطنون في تلك البلاد. الحرية شعار هذا الزمن! فلا تخافوا أحداً، ولا تخافوا من شيء! سندخل بجرأة العصر الجديد، وسنبرهن للعالم على مستوانا الحضاري ! فلنقتلع العداوة والكره من القلوب ! أعلن لكم على مسؤوليتي: لا يوجد عدو!

كان مديري الذي ألقى علينا تلك الخطبة بصوت عميق حنون، واقفاً أمامنا ثم أمر لنا بالمشروبات ، قد سجن مرة أحد الموظفين في الحمام، وحسم رواتب كثير من الموظفين ، وفرض أن تكون جدران مكاتبنا من الزجاج ليرانا ولا نراه . كان يرفض اللقاء بنا، لكنه يفتح بواباته للرجال المهمين أكانوا تجاراً أم سياسيين . وقد صادفه سكرتيره مرة ينحني للتلفون كأنه ينحني لمن كلمه به. كان ذا أعاصير. وقد عانيت شخصياً منه يوم قصف حلمي كما يقصف الورد. كنت مرشحاً للسفر بمنحة لم تتوفر شروطها إلا لدي: لست متزوجاً، وعمري هو المطلوب، اللغة التي أعرفها هي المرغوبة، والخبرة نفسها تماماً. لكنه رشح مكاني ابن أخته من فوق السطوح دبر له المنحة وأبعدني. قبل أن أتذمر أرسل حاجبه فقال لي: لا نريد كلاماً لا طعم له! تذكر أن مصير الإنسان في لسانه! ما حدث هو القانون في المؤسسات والأحزاب والمنظمات والهيئات، وهو سنة في الشرق أكثر مما هو في الغرب، وفي الجنوب أكثر مما هو في الشمال. أيمكن ألا يفضل الواحد قريباً يعرفه على الغرباء الذين لا يعرفهم ولو كانوا أبناء حزبه ومؤسسته وبلده؟! فافهم أنه لا يوجد أحد تشكو ما حدث إليه!

بعد تلك الحادثة لم أرشح نفسي لأمر أبداً، ولو كان السفر إلى الواق الواق. فهمت أن السفر والمنح والوفود والرحلات ليست كما تصورتها، بل لجني المال والفائدة الشخصية. ويوم أدركت ذلك كنت قد فهمت قوانين الحياة.

قلت لنفسي وأنا أسمع كلام مديرنا، انقلب العالم عاليه أسفله إذن، فلم لا ينقلب مديرنا مثله! مع أن ما رأيته حتى الآن هو التحول من الأحسن إلى الأسوأ! لعل صاحبنا جمعنا ليستنجد بنا كي نحميه من الإعصار!

كان زملائي حذرين فأظهروا أنهم يتلقون كلماته كما يتلقون السكاكر. لكنهم من الحذر اكتفوا بتعبير الوجه وتفادوا التعليق. أنا تهورت! قد يكون سبب اندفاعي فوضى العالم التي أكلت صبري. وكنت كثيراً ما أردد في تلك الأيام مهزوز القلب: فليكن! أكثر من القرد ما مسخ الله! فسألته: نحن أحرار إذن كالعصافير، في هذا العالم الجديد؟ ضحك: طبعاً، أعني ما أقول! وهل تظنني دون شغل كي أبعثر وقتي وأوافق علي هدر وقتكم!

كدت أضحك، فقد خطر لي أن قوات الأمم المتحدة وممثلي الدولتين سيؤكدون بالضمانات كلماته. وكثيراً ما كان يخطر لي كلما وقع خلاف بين الجيران أني سأرى قوات الطوارىء تنزل بمروحياتها بينهم، وأن المفاوضين سيتدخلون ويجعلون الخلافات الصغيرة مسائل عظيمة. وقد تشترك في ذلك شركات السلاح! لكني كبحت ضحكتي وقلت في جد: اذن سأجهر بما في النفوس. أعلن في هذه المناسبة التاريخية: لا يستهيويني هذا العالم المولود! افتتح بالكذب والتدجيل. ولأنقل لك ما يقوله الناس: حروب جديدة، فيها ما في القديمة من قتل واحتلال. العالم أسوأ مما كان. عالم وحشي، تقصف فيه المدن وتغتصب فيها لنساء. فيه قتل على الهوية، على الفكر، أو العنصر، أو الدين، أو الضمير. يحاسب الانسان حتى على ماضيه. ويفرض عليه أن يخلع جلده ويرميه. والعرب في هذا العالم في أردأ حال، تقصف مدنهم، يقتلون، يحاصرون بالنار والجوع والبرد، ويحكم عليهم بأن يعلنوا أن القاصفين الغرباء أصدقاؤهم الحكماء. أمس كنت في التعزية بصديق، فتبينت أن الحاضرين نسوا الميت وجعلوا التعزية بما هو أعظم منه . حتى تصورت أنهم يهزون الأعلام السوداء. وأشد ما أغضبهم أن يبدو المهزومون كالمنتصرين وقالوا غاضبين: زمن لا جغرافية فيه ولا تاريخ! الجديد أن يطلب منا أعداؤنا وأصحابهم من أقربائنا، أن نعلن: العار شرف، والاحتلال تحرير، والوحشية حضارة، والعدو صديق . باختصار: أن نقول اللبن أسود! وهذا ما لن نفعله!

رويت ذلك لمديري أمام الجمع، وقبل أن ألاحظ أنه أصفر، قلت له:أنا مثل اولئك الرجال !ردد بعد أن فكر زمناً: مستحيل!ذلك مستحيل! سألته: ما هو المستحيل؟ قال: تصور أننا على شاطىء والمركب الذي انتظرناه وصل. وأنا مدير رحلتكم، فهل أترك بعضكم يتخلف عنها؟ فيصبح جزء منا في البحر وجزء على البر؟ قلت له: كأننا لم نكن كذلك حتى اليوم!

جرى بيننا حوار متوتر، تابعه زملائي وهم يخفون ابتسامتهم مرة وينظرون إلي مرة نظرتهم إلى متهور أو مجنون، ويشجعونني مرة خفية كأني أعبر عن المخبأ في نفوسهم. ودفعني ذلك فقلت إن المركب الذي وصل ليس المركب الذي انتظرناه. المهم أن نعرف مسار الرحلة قبل أن نقفز إلى الزورق! والمهم أن نفحصه قبل أن نتراحم عليه ونندفع إليه! يحتمل أن يكون مثقوباً، وأن نحشد فيه كي نغرق! إذا صح أننا في زمن الحرية فلكل منا الحق في أن ينتظر رحلته التي رغب بها طول عمره، لا أن يربط على مركب الشيطان!

ارتبك مديري وقال لي: أنت أفهم من المؤسسات العالمية، والأحزاب العربية والكونية، ومن البارلمانات المحلية والغربية، ومن مجالس الوزراء الدنيوية، وشخصيات العالم القديم التي هرولت إلى بوابات العالم الجديد راجية الدخول إليه؟ أنت أفهم من المنظّرين الذين كتبوا مئات الصفحات في مدح الاصلاحات، وبحثوا في أسسها الفلسفية والاقتصادية، في ثمارها الإنسانية والفنية وبينوا آفاقها الملونة، وتسابقوا في سبل استدانتها واستلهامها في أنحاء الأرض؟ لن ترغمني أن أكون خارج الإجماع العظيم الذي لم يسبقه مثيل في التاريخ!

قلت له: تسمه إجماعاً ويسميه الناس مثلي "هوبرة" لكنه لم يسمعني، بل قال: لن أسمح لك بأن تشوه سمعتنا! لن أربط قدميك وساقيك كيلا تستخدم صورتك وثيقة ضدنا! لكنك ستسير إلى المركب كما نسير إليه. فلو عرف العالم المتحضر أني أسمح لك بمعارضة قضية الحرية والسلام لقصف بيتك الذي يقع على بعد خطوتين من بيتي أو لكلفني بأن أقصفك بيدي. ولا أظن أنك ترغب لي بمثل هذا الموقف بعد حياتنا المشتركة في مؤسسة واحدة!

انقلب الموقف فأصبحت أنا الذي يجب أن أشفق عليه، وأنقذه من ورطته! قال: كي يمتنع التشويش، ستوقعون مجتمعين على هذا الدفتر فنكون معاً متعاونين متعاضدين. ولم يترك برهة الحوار.

نشر سكرتيره دفتراً مزيناً بشرائط مذهبة، مغلقاً بجلد أزرق، دفتراً ثخيناً لكل منا فيه خانة تعرف به، فيها صورته وفيها مكان بارز لتوقيعه. استل السكرتير القلم، فارتعشنا. قال في حزم ووقار ومهابة: سيتقدم من أعلن اسمه ليوقع بخط واضح أمام اسمه وصفته. قلت: هذا إذن احصاء! أو إلزام! أجابني: هذا من تحديات الحضارة والحوار والسلام! وستوقع عندما يحين دورك! غضبت: أين حرية الرأي إذن؟ متى باليتم بتوقيعي إلا في لائحة الدوام؟! رماني بنظرة سامة: توقيعك كان ضرورياً في الانتخابات والاستفتاءات! نسيت؟ هذا أيضاً استفتاء! أعلنت في تهور: لن أوقع إلا على ما أختار! لم أختر هذا العالم ولم أسع إليه بل سجل أني ضده! وأني لا أوافق على هذا السلام فإلى جهنم وبئس المصير! هذا ليس تحدي الحضارة بل تحدي الضمير!

قال مديري في هدوء: أعرف أنكم تحتاجون زمناً كي تألفوا الحرية وتتربوا على استعمالها دون أن تضيعوا صوابكم! أعرف ذلك من تجربتي الشخصية! كان عندي مرة طير جميل خطر لي أن أطلقه في الغرفة، فضاع صوابه. كسر الأكواب الثمينة والثريا الجميلة، ووسخ الأرائك المخملية. جن! ولم يعد عقله إليه إلا عندما أعدته إلى القفص. لا أقفاص في العالم الجديد! لكننا يجب أن نتدرب على استعمال الحرية فلا نشمت بنا العدو.

انسحب في مهابة بعد ذلك الكلام . أسرع موظف ففتح له الباب، وانحنى له آخر كما كان ينحني في الزمن القديم. انسحب لأنه يخشى أن ينقل أنه سمع ما أقول! بعد خروجه استقام السكرتير وأعلن في قسوة باردة: تحسب أنك ستسجل اسمك في حلم بعيد؟! لا، لن نسمح بأن يقال أنا تهاونا أو زللنا أو خفنا من الغوغاء! لن نسمح بذلك لمن هو أكبر منك ولا لمن هو أصغر منك! مشكلتك أنك تفكر بعقل العالم القديم. لم تفهم حتى الآن أنه اندثر!

قرر السكرتير أن يقدمني على الآخرين في التوقيع. التفت إلى رجاله المخلصين فدفعوني إلى الدفتر الأزرق ذي الشرائط المذهبة. وعندئذ وقعت. سمعت زملائي يرددون: جلطة! وخلال جنازتي سمعتهم يحصون من سكت قبله في ذلك اليوم. تحدثوا هامسين أحاديث فيها حزن علي وعلى الراحلين. لكن المكبرات كانت تعلن أن قلبي لم يتحمل أفراح الاحتفال بنهاية أكبر صراع في هذا القرن، وبالانتقال من عالم التوحش إلى عالم الحضارة والسلام. حاولت أن أدفع غطاء التابوت كي أعلن الحقيقة للسائرين في الموكب، فوجدته مغلقاً بالمسامير والأقفال. وتذكرت القول الذي كانت أمي تردده: الكذب على الموتى وليس على الأحياء! وقررت أن أصحح لها مثلها عندما نلتقي.

ولهذا وجدت نفسي أفتش الشواهد باحثاً عن اسمها. لم أجده! فطرقت القبور متسائلاً هل سرق مأواها؟ ثم سمعت همس جارتها: أمس طلب من الموتى التوقيع في دفتر ذي شرائط مذهبة يعلن نهاية أطول صراع في القرن! حاولت أمك الانتحار. لكنها لم تستطع الموت مرة ثانية فهربت. وما زالوا يبحثون عنها بالأنوار الكشافة والكلاب. أنصحك يا ابني، لا تذكر اسمها!

http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:10 AM
القصص القصيرة للأديبة

http://www.syrianstory.com/glitter.gif 2 http://www.syrianstory.com/glitter.gif

عودة


يا لتلك السنوات الشفافة التي عبرها في مملكة الصمت! قبل أن تتبدد تلك المملكة ويفقد آخر أصدقائه.

في نهاية المساء كان يخرج مع صديقه إلى الليل فيتجولان تحت النجوم . ويلاحظان معا أن مملكة الصمت لم تعد تشفي القادمين إليها. ألم يسمعا مرات بكاء رجال ونساء على البيوت التي تركوها، والأموال التي خبأوها؟ ألم ير أنهم حتى بعد أن اجتازوا العتبة إلى مملكة الصمت لم يأسوا على الحياة التي ضيعوها، بل على الأشياء التي جمعوها، والمتع التي قطفوها، والأحقاد التي لم يطلقوها؟

عجز مجلس مملكة الصمت عن حماية مايميز المملكة التي كانت في أيامها الماضية هادئة، يحترم فيها ماتجرفه الحياة خارجها. كأن ريحا استقدمت إلى المملكة نمطا جديدا من الموتى. فماعاد يصدق المثل: لايموت إلا الجيد! باولئك الجدد اختل كل شيء. كانوا يتدافعون إلى الصفوف الاولى، يرفعون أصواتهم ويحركون أذرعهم في خشونة، يجهرون بالرغبة في أن يجعلوا مملكة الصمت الشفافة كالدنيا المعتمة خارجها. بل بدأ بعضهم يستخدم آخرين في كنس طرقات لاتمسها الأقدام، وغسل أكفان بيضاء لاتتسخ. وفي إحدى الليالي أخبره صديقه الأخير أنه سمع مجموعة تفكر بالعودة إلى ملابس الدنيا المزينة المتغيرة، وتخطط لطلبها من بلاد أخرى. بل أحصت تلك المجموعة المعارضين والموافقين المحتملين في التصويت.

في الليالي التالية لم يخرج سكان مملكة الصمت إلى القمر ليتجولوا في أشعته الفضية. بل تفرقوا مجموعات تتآمر إحداها على الأخرى. في البداية نظرت إحداها إلى الثانية مستنكرة. ثم صارت تهز قبضتها متوعدة. ثم جلجلت العظام في أنحاء المملكة. ونسي الموتى أنهم اتفقوا على كتمان مابينهم عن حارس المقبرة، فلم يبالوا بأن يسمع ضجتهم ويعرف سرهم، ويميز تجمعاتهم ويهرع إلى سلاحه!

استعاد مع صديقه الأخير أزمنة مملكة الصمت القديمة، أيام كان السابقون يحيطون بالقادم الجديد ويساعدونه على عبور العتبة، حتى يخلع ماحمله من الغيرة والشره والكيد، أو من البؤس والحزن والغبن! أيام كان الجار يفيق على بكاء جاره ويسهر معه حتى يجفف آخر دموع الوداع! أيام كان الرجال والنساء يخرجون إلى الليل منذ تبدأ العتمة ويستمتعون بما فاتهم في الحياة، بقراءة الشعر الذي لم ينتبهوا إليه، وانتشال الكلام المنسي، والتقاط النجوم التي وقعت على الأرض! كانت تلك الأيام لاكتشاف الخير الضائع من القلب، الخير الذي مرت حياة كاملة دون أن يكشفوه، والعذوبة التي تجعل الروح كضوء القمر. لحماية مارمته المدينة، كي يبقى حتى تتذكره ذات يوم فتستعيده من مملكة الصمت! في الأيام القديمة كان يستطيع أن يتدخل إذا تبين خرقا، فرأى قادما جديدا متكبرا يتوهم أنه يستطيع أن يستمر في مساره الذي تعوده في الدنيا. متى بدأ عجزه وعجز الكثرة عن القلة إذن؟ متى بدأ الفساد ينتشر كالوباء؟

بحث ذلك مع صديقه الأخير وخمن أسبابا متنوعة. خطر له أن السبب الأول هو الخوف الذي استقدم إلى مملكة الصمت التي تجاوز سكانها كل مايهددون بأن يسلب منهم. لكن صاحبه قال له: المال! أجابه: لا! فالمال أيضا دون سلطة هنا!

بعد اختفاء صديقه الأخير أعلن لنفسه السبب القاتل: الضعف الذي استحدثه الخوف والمال في الناجين منهما، وأمور إنسانية لاأحيط بها الآن!

لم يكن أهل مملكة الصمت يخرجون من أسوارها. ولم يعرفوا الشوق إلى حياتهم الاولى إلا في بداية أيامهم فيها، وهم بعد يعانون من أثر الوداع والعواطف الجامحة. وهم لم يتأملوا بعد حياتهم الماضية في هدوء ويتعودوا أنهم خرجوا منها. وكانت مهمة السابقين أن يساعدوهم في عبور تلك العتبة. لو استعملت مصطلحات الأحياء لقيل إن الجنسية الجديدة ماكانت تمنح لهم بالموت فقط والعبور من مملكة إلى أخرى، بل بالعبور الآخر من عالم الصغائر المنهكة إلى عالم الحكمة. عندئذ كانوا يمرون هادئين عقلاء، دون أمجاد ودون ذل. دون غطرسة المناصب أو الجشع إليها أو الخوف عليها، ودون الطاعة الذليلة التي توهم المطيع بعظمة اولئك.

لكن الأيام الجديدة استقدمت الأشواق القديمة. عرفت مملكة الصمت الصراع الأول يوم انقسم سكانها إلى راغبين في الخروج منها وإلى من ينبه إلى قوانينها الرصينة. هل حدث التصويت يوم استكمل ترتيب التوازن الجديد في السر؟ ذهل هو وصاحبه عندما ارتفعت الأذرع كثيرة، جريئة. وكان أول من أظهر الرغبة في الخروج وحرض عليه مجلس المملكة! نعم! ذهل. وقال يالبراءتنا! وردد صاحبه: بل يالغفلتنا!

بعد ذلك اليوم المشهود تدفق سكان مملكة الصمت كل ليلة خارج أسوارها. لم تعد المملكة التي رتبوها بلادهم. أصبحت بلادهم المدينة التي لايحكمونها! في كل يوم كانت مملكة الصمت تضيع بعض سكانها. وكان المفقودون كالمهاجرين الذين لامكان لهم في البلاد الغريبة، يقبلون البقاء على عتباتهم القديمة، تحت مداخل بيوتهم، وفي برد الحدائق العامة، مسحورين بالفرجة على مافقدوه من مجد أو من أمتعة. وكان أعقلهم يكتفي بمراقبة أولاده المحبوبين، بعيون دامعة.

بدلت تلك الأحداث حتى موضوع أحاديثه مع صديقه الأخير. فأصبح يستعرض معه أسماء المفقودين، ويحاول أن يتبين معه القوة التي جردتهم من سنوات الحكمة. ويتساءلان عما يغري الإنسان باستعادة ضعفه بعد أن ينجو من سطوة الخوف والمال؟ فهل كان يتصور أن صديقه القديم، العارف تلك المتاهات، يمكن أن يتوه فيها؟

ذات ليلة لم يخرج من قبره. وفي الليلة التالية لم يبتعد عنه خوفا على روحه مما اجتاح المملكة. لايريد أن يسمع حديث العائدين وهم يصفون ماخيل إليهم أنهم يستعيدونه ولو كانوا على العتبات مع الكلاب والقطط! لايريد أن يرى زهو اولئك الذين عرفهم عقلاء، وهم يصورون عودتهم كأنها نصر. مايزال الرصاص يلعلع هناك! يسمعه في الليل، يطارد المشردين من الأحياء والكلاب. ألم ينتبه إليه هؤلاء العائدون؟

يوم ربط سكان مملكة الصمت أكفانهم، واستعدوا للرحيل مجموعات، دون خجل، خيل إليه في برهة خاطفة أنه هو المخطئ. سمع حفيف الأكفان على الأرض، والموكب يتدافع عند البوابة. واستعاد الشعور الإنساني بالألم. وفهم أنهم استقدموا إليه ذلك الشعور الذي نجا منه سنوات. وعرف أنه لايمكن أن يبقى معزولا عن الخراب الشامل. وعندئذ خف إليه صاحبه، وتجولا معا زمنا يتحدثان عن الأيام القديمة في المملكة التي رتبوها حتى أصبح حلم الأحياء أن يجعلوا مدنهم مثلها. قدموا فيها القتلى الشباب والصغار والمظلومين، زينوا قبورهم بصورهم، ونقلوا إلى المنسي منها أغصان النخل والآس من القبور الأخرى. بل نقلوا إلى جوارها حتى الشجيرات التي زرعها الزوار الأغنياء للمدللين.

تصور أنه مع صديقه يمكن أن يبدأ تأسيس المملكة المهجورة. قال: لنبدأ القصة من أولها! نعرف القوانين التي كانت مألوفة هنا قبل خراب البصرة! ذهب الراغبون في المدينة الصاخبة. فلتزدحم بهم الطرقات والعتبات، وليرضوا على قتلهم مرات! تركوا لنا هذه المساحة الشفافة فلنرتبها كما كانت أيام أتينا إليها! بحثا معا حتى التفاصيل، كيلا تفشل مملكة الصمت مرة أخرى. فهل كان يتوقع تلك المفاجأة العاصفة؟!

يوم خلت المملكة من سكانها، أتاه صاحبه وقال له: سأخرج إلى هناك! فسأله: أنت أيضا؟ رد: ماذا بقي؟!

حقا! تبدد سكان مملكة الصمت، ولم يعد يصادف البياض الفاتن الذي يتجول رشيقا هادئا على أشعة القمر. أقفرت مملكة الصمت من جلساتها وثقافتها. وسمع عويل القادمين مرغمين إليها، وحفيف هربهم في اليوم التالي منها. وحدث مرات أن أعاد الأحياء اولئك الموتى بالقوة ورموهم خلف البوابة. وجرت مشاهد مؤلمة ليس فيها كبرياء. قال له صاحبه: سأخرج لأتبين لماذا وكيف؟ رد ساخرا: ماالفائدة؟ أتبحث أنت أيضا عن الطرقات التي لاعودة منها؟ أتستعيد أنت أيضا مايذل ويوهن؟ وهل كان يستطيع أن يقول أكثر من ذلك؟ ابتعد صديقه الأخير وحيدا، ولم يعد في الأيام التالية. يوم كانت في مدن الأحياء قواعد وأصول، كان يقال: خان الخبز والملح! هو لايستطيع أن يقول ذلك! ولن يقول خان! لابد أن عصرا همجيا قد وصل فانساق حتى سكان مملكة الصمت كالمضبوعين ومدوا رقابهم لمن يضع الرسن فيها.

تذكر يوم تعارفهما. باح يومئذ كل منهما بسبب موته للآخر. وتقاربا من تلك البداية. قال:

- دفعت أربعين ألفا، جمعتها في شق النفس. سمّها خوّة أو إجازة مرور أو ثمن الحرية! لكن السيد الذي قبضها نقل من مكانه في اليوم التالي، فطلب من استلم وظيفته المبلغ نفسه. لم أقدر على الدفع مرة أخرى، فخصوني بأشق الأعمال. مت من القهر!

- ينظر الواحد منا إلى سبب موته في هدوء الآن. يبدو لي أني كنت أستطيع أن أعيش بعض سنوات إضافية. لكني أتساءل الآن لماذا؟ قد يضحكك سبب موتي كما يضحكني الآن. كنت أمشي في الطريق فصادفت رجلا يفتح باب سيارة فخمة، ويظل منحنيا، ورجل قميء ينزل منها ويمشي متغطرسا إلى البوابة. عرفته! تذكرته! كان طالبا كسولا في صفي، يسخر من غبائه الأساتذة والطلاب. بدا لي أني ضيعت عمري هباء. ماالفائدة من الجد والدراسة، من الاندفاع في القلق على الوطن؟ كنت أسقي أشجار الطريق. أطعم القطط الجائعة، أغلق صنابير المياه المفتوحة، أساعد من لاأعرفه، وفي عملي أشتغل كالثور. يوم رأيت ذلك الفاشل وانتبهت أنه يمسك القدر، شعرت بأن ريحا عاصفة تجرفني. عدت إلى البيت، ومت.

في تلك الأيام مات عشرات من أصدقائي. كانت الأيام مضطربة، فتساقطنا بالجلطة واحدا إثر آخر. كأن الدنيا تتخلص من جيل وتطويه لتفرغ مكانه لآخر يناسب الزمان. خيل إلي أن ذلك كان سبب موتي، لكني فهمت فيما بعد أن الموت لايأتي لسبب واحد. في تلك الأيام المضطربة كان الموت يتسرب إلينا مع الهواء.

فقد صديقه الأخير! لمن يبوح بما يخطر له؟ مع من سيحلم باستعادة مملكة الصمت العادلة؟ في تلك الليلة تجول وحده في العتمة. لم يتساءل عن صلاح الدين ونور الدين وست الشام الذين كانوا يحضرون اجتماعات الشعر وينشرون مهابتهم على الحاضرين. فقد اختفوا منذ بدأ تبديل الملابس والإغراء بالمال والتهديد بالخوف. اختفوا مجتمعين مع الشعراء القدماء والعلماء، كأنهم ماتوا موتا لاعودة منه، أو هاجروا إلى بلاد النسيان. لم يتساءل حتى عن الغوغاء التي تبينها خلال الأحداث الأخيرة صاخبة، مشاغبة، متكبرة، ترفع رايات متنوعة تنزل إحداها وتقدم أخرى بما يتفق ومجرى الأحداث وحركة الرياح.

مشى وحيدا، ورددت الجدران وأشجار السرو حفيف أكفانه البيضاء. اكتمل الطوق إذن، فلاراحة هنا أو هناك. ولامأوى من الجنون العاصف بأرض الأحياء والأموات. ولكن أيمكن أن يكون هو العاقل الوحيد في مملكة الصمت؟ خطر له أن يخرج هو أيضا ليتفقد مايسحر الناس. ارتعش. هو؟ هو أيضا يبحث عما يبرر خروجه من مملكة الصمت؟ لا، هو، لن يهجر مملكته! سيعود!

تجول في هدوء. ولم يصادف إلا الأحياء الباحثين عن مكان يبيتون فيه مستندين إلى شجرة أو مستلقين على بلاط القبور. وكاد يضحك من حركة الخروج والدخول! فهؤلاء يتسللون داخلين ويأوون الليل هنا كالسارقين، وأصحاب هذه المملكة يتسللون منها في الليل ويأوون تحت النوافذ والأشجار في السر!

اقترب من البوابة. فليخرج! فليمتحن نفسه وليكشف الحقائق! نعم، فليخرج! لن ينسى أن عودته ضرورة. إذا لم يعد أغلقت مملكة الصمت وطويت من الذاكرة كما تطوى مدن الشرق!

عند الباب تعثر بالقمامة، تجاوزها ومشى إلى المدينة. ودهش. من النوافذ تدفقت ضحكات كالبكاء، وبكاء كالضحك. ولم يدر أذلك من الخوف أم من الجنون. ولم يتبين هل في المدينة احتفال أم مأتم عظيم. واستنتج أن المدينة ضيعت بهجة الأفراح كما ضيعت جلال المآتم. فاختلط فيها البكاء بالنجيب. مشى. لم يعرف في أي من عمريه مشاهد كالتي رآها! ولم يتعرف إلى مكان ألفه! قلب أهل المدينة كل شيء إذن. أحرقوا ذاكرتهم كلها. نبشوا الأرض، هدموا البيوت، بدلوا الطرقات، نزعوا كل ماكان جميلا ووضعوا في مكانه كل ماهو قبيح. كيف استطاعوا أن يوفقوا في ذلك؟! ياللمهارة؟ تعثر بأحواض وبحرات لم ير مثلها في عمره. كاد يسقط في حفر. لم يتحمل مارآه، فأسرع إلى شارع كان يحب المشي فيه، كانت البساتين على جانبيه، وأشجار الجوز الباسقة تظلل رصيفيه، فيه كان يلتقط حبات الجوز الساقطة من الأشجار فيملأ بها جيبيه.

ليته لم يقصد ذلك المكان! ليته ظن أن الجمال يمكن أن يتخفى أو يهرب في ثنية من ثنيات الزمان. رأى رصيفا عاريا، وسورا عظيما من الحجر، ومدى فارغا. لم يصادف أية شجرة من أشجار الجوز. لو كان حيا لانتحر!

ركض إلى مملكة الصمت. أفلحت المدينة إذن في إعادة الغضب والقرف والخيبة إلى قلبه الذي شفي منها في السنوات الشفافة الطويلة. توقف لاهثا. لمح أشباحا بيضاء تحت العتبات، وقرب مداخل البيوت. وخيل إليه أن الشارع نفسه يمتلئ بحركة المتشردين. هل يسألهم: لماذا بقيتم هنا، فخسرتم مملكة الصمت ولم تربحوا الدنيا؟ هل يسألهم أيمكن أن يصبح الذل عادة؟ أيمكن أن يفسد الإنسان في الدنيا وفي الآخرة؟

لعله لم يشعر من قبل بمثل ذلك الألم. فقد حتى الحلم والذكرى! ويكاد لايدري هل عاش حقا قبل مملكة الصمت أم لا، لأنه لم يجد أية من الإشارات التي كانت مسجلة في دفتر عمره! لم يجد أي مكان كان يتذكره!

مشى إلى مملكة الصمت حزينا، مسرعا، متعبا. خلف بوابتها وقف الحارس يتأمله ساخرا وهو يقترب، حتى أصبحت بينهما البوابة المغلقة.

- أنت؟! لن تعبر العتبة أبدا! لن أقبلك أبدا في مملكة الصمت! لن أسمح أبدا بذلك التجمع ! أمكنتكم محفوظة! سيزورها الأحياء. وليسكبوا عليها ماء الورد! سيريحكم ويريحنا أن تبقوا أفرادا موتى!

http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:15 AM
القصص القصيرة للأديبة

http://www.syrianstory.com/glitter.gif 3 http://www.syrianstory.com/glitter.gif

المنفي


أغمض عينيه. لو أنه لم ير مارآه! كان يعيش وحيدا. وحيدا؟ ماأكثر الشباب حوله! يدرسهم في الجامعة، ويتابع من يسافر منهم ليختص. ومن بعيد تأتي رسائل شباب آخرين إليه. هو نفسه مايزال شابا كالطلاب. يزور الجامعة التي تخرج منها، وتظل غرف الأساتذة حية في ذاكرته. يتفقدها كل صيف. يلتقي هناك بأساتذته المحبوبين. يدعونه إلى العشاء، فيتذوق الطعام والشراب الذي اشتاق إليه، ويلاحظ استقرار الغرف التي يستقبلونه فيها. يقف أمام مكتبات أساتذته ويتفقد ماأضافوه إليها، ويتابع أفراحهم بالحفيد. وهاهو يفكر اليوم معهم بالأيام الجديدة العاصفة. ويستمع إلى نصائحهم: لاتتجول وحيدا! قد تطارد عصابة لونك الأسمر، أو قد يتذكرك شخص كان لايستسيغك! نعم، نحن أنفسنا لانخرج من البيت بعد الغروب! نعم، لانستطيع أن نتجول في هذه المدينة التي كنت تسرح فيها من أول الليل إلى آخره، وكنت فيها بعد منتصف الليل تختصر الطريق فتعبر الغابة المدثرة بالضباب!

يسألونه هل تتذكر الصف الطويل أمام بائع الزهر؟ هل تتذكر الحلوى ذات الرقائق والجوز التي كنت تحبها؟ والفوانيس المعلقة على الحارات؟ والساعة التي كنت تتأمل أشخاصها وهم يخرجون مع دقاتها؟ كنت تقف في طرف الساحة مستمتعا بها. هل تتذكر المقاهي في ثنيات الجبال، ومقاعدها الخشبية، وكؤوس البيرة الكبيرة، والنهر الذي يخترق المدينة، والطريق هناك؟

كان يقصد براغ، بلد جامعته، في كل صيف. لأنه كان محروما من العودة إلى مدينته. فهل كان يتصور أنه يسكت حاجته إلى الوطن، وهو يستعيد هناك كل سنة، الحارات والمقاهي والبيوت والجامعة وأثاث الغرف والأصدقاء؟ تنقل بينها وبين الجزائر عشر سنوات. شغل نفسه بالناس والأمكنة، لكنه فشل في أن يستعيض عن بلده بحب امرأة أو بأسرة! لعل قلبه لاينفتح إلا في سياق سعادة كبرى. تحكمه صور لايستطيع أن يبعدها ليقدم أخرى أصغر منها!

في زيارته الأخيرة، خيل إليه أنه أصبح يشبه أحد أساتذته. أستاذا لم يتزوج، ملأ غرف بيته بمكتبة كبيرة. كان يستقبله في الصباح الباكر. "أستيقظ ياابني مبكرا، أعمل في ضوء النهار، وأنام مبكرا. أنت لست مثلي. أنت شاب. اسهر! براغ حلوة في الليل!" لكن ذلك كان في الأيام القديمة. فالعاصفة اقتلعت حتى هذا البلد المستقر الحكيم. قال له أستاذه: عندنا لن يستمر ذلك! يفضلون أن يحدث الانقلاب دون فوضى. لكن حياة وأجيالا ستطوى. حتى يستكمل ذلك لاتتجول ليلا، ولاتتحدث بلغتك!

مع ذلك كان هناك أكثر أمانا مما هو في الجزائر. في الجزائر كان الخطر همجيا. لاتستطيع أن تحاور قاتلك أو أن تسأله عن سبب الموت الذي يرفعه عليك. لم يبلّغه أحد الحكم عليه بالإعدام. لكنه كان يشعر بذلك الحكم. وكأنه كان في سنوات حياته يتحرك أمام قضاة سريين، وهو يدرس طلابه، ويدافع عن الإصلاح الزراعي، ويؤكد أن العدل الاجتماعي أساس الملك. ويتحدث عن حرية الرأي التي ترسخ وحدة الوطن. ويرسم آفاقا فيها كثير من الحلم المسنود بالوقائع. ستكون يوم توزع الثروة العربية الكبرى بالعدل بين العرب، ويستطيع المواطن أن يبحر ويمشي ويطير ويسري، ويصعد جبال اليمن السعيد ويقطف منه القهوة، ويجمع التمر من نخل الصحراء، والصنوبر من الغابات، والتفاح والعنب والموز من البساتين والكروم والبيارات. يهبط تحت مستوى البحر، ويرتفع إلى الجبال المكللة بالثلج. ويتنقل بين آثار الحضارة العربية من الصحراء إلى البحر والنهر. يوم نكون هكذا هل يعاملنا الغرب أو الشمال كما يعاملنا اليوم؟ هل يستطيع أن يرسل طائراته فتقصف مدينة تاريخية وتدك فيها الملاجئ والجسور ومصانع الأدوية؟ هل يستطيع أن يمنع العرب من العلم والدواء، ويرعى القوة النووية الإسرائيلية؟ هل تستطيع إسرائيل أن تقصف لبنان وأن تعلن أن القدس عاصمتها الأبدية؟ هل يجرؤ رئيس شمالي أن يعلن أنه علّق ملف القدس، كأنه يملكها؟

اندفع جهاد إلى ذلك الحديث أمام طلابه. نسي أمامهم الموت! فهل كان يقصد أن يستنهض فيهم مقاومة الشر؟ بل كرر ماتعود أن يقوله. أضاف صفحة إلى سجل العمر الذي يحاسب عليه. لاتلم نفسك ياجهاد! لاتستطيع أن تتقدم خطوة؟ لكنك لم تتراجع خطوة!

عاد من الجامعة متوهجا، يردد كلمة أبيه: لايصح في النهاية إلا الصحيح! كان طفلا يومذاك، ومضافة أبيه محطة الثوار إلى فلسطين ومعبر الجرحى والسلاح. ورأى أباه يجلس جريحا على دابة ويدثره بعباءته، ويودعه: لايصح في النهاية إلا الصحيح! وهاهو بعد عقود من السنين يسمع كلمات أبيه نضرة فواحة كياسمين الصباح!

كان يعبر الشارع بسيارة وقت قتلت فتاتان. التفت ذاهلا. رأى صبيتين تقعان على الأرض، إحداهما سافرة والأخرى محجبة. أدهشته السرعة والبساطة التي تطوى بها الحياة! ظل يلتفت. فقال رجل في السيارة: قتلت المحجبة لأنها تمشي مع سافرة كافرة! وضع كفه على فمه، ليمنع صرخة أم ليمنع الغثيان؟ فهم أنه لايستطيع أن يرد موتا عن أبرياء. لايستطيع أن يدافع عن امرأة. لاشهامة اليوم! نزل من السيارة وعبر الطريق، ثم عبر الممر إلى بيته دون أن يتلفت مستطلعا. لن يستطيع أن يفلت من الموت!

قال له زميله في اليوم التالي: كانت الجزائر على القائمة بعد العراق! ستفكك البلاد العربية بالقتال، وبالفقر، وباليأس، وبالأوهام! لاتعاد بالقصف فقط إلى العصور الحجرية. تعاد إلى هناك أيضا بالعصابات! نحن اليوم مناطق حيوية، مواقع آبار ومياه ومعادن وعمال. ولايفترض ذلك أن نكون أقوياء، بل أن تكون إسرائيل قوية لتدير ذلك المشروع! ثروتنا؟ لاتحلموا بها! أحرق العمق الجغرافي، ولن تبقى لنا حبة قمح أو نهر أو قطرة ماء!

في تلك الليلة تذكر مدينته. استحضر وجه أبيه الذي مات في غيابه، وصوت أمه التي ماتت في غيابه. خطر له أن يتصل بأخيه بالتلفون لكنه خشي عليه. استعاد بيته المبني من الحجر الأسود. جلس هناك مواجه الفلاة. غمره ضوء المساء، وبقي ساكنا حتى مشت إليه أمه في العتمة ووضعت يدها على كتفه. شعر برطوبة حبات التين وبدبقها. مسح يده مسرعا حيث أحرقها حليب التين. لم تنضج تلك الحبة. بل نضجت، ياابني، نضجت! ظهر القمر متوهجا، برتقاليا، كبيرا. راقبه وهو يرتفع ويصغر ويصبح فضيا. وأقبل البرد فارتعش. ثم وصل الناس فملأوا المضافة. استقبلهم أبوه. وكانت أباريق القهوة ساخنة على جمر المنقل.

وبدا له أن مايمنعه من العودة إلى بلده سخيف وظالم. ذنبه أنه لم يمسك لسانه، وجهر برأيه؟ كان مخلصا، مستقيما فلم يبحث عن الدروب الملتوية والأقنعة التي تقال بها الحقائق. آه، تبحث عن ذنوبك؟ فهل خطر لك يوما أن تقتل إنسانا؟ هل خطر لك أن تقطع رزق إنسان أو أن تسجن إنسانا؟ هل قبلت أن تعاون من يهاجم بلدك؟ لم تملك غير عقلك ولسانك وأحلامك. كنت أعزل في هذا العالم الذي ينظم فيه الشر والفساد وتحشد في الدفاع عنهما العصابات والسياسة والمؤسسات. بحثت عن سند الحلم في العالم، فانهار ذلك العالم فجأة. لم يبق فيه مأوى تلجأ إليه. الطيور المهاجرة في الشباك. ولافضاء! فهل تريد أن تشخص في هذه الليلة لماذا أنت وحيد وحزين؟ لأنهم هجموا عليك، كما يهجم الظلام على الضوء! أنت المدن المقصوفة، المساجد القديمة والجسور الرائعة التي صوبت إليها القنابل في سيراجيفو. الجامع الأزرق الذي هدم في كابول. الجسر القديم الذي دمر في بغداد. الحقول المحروقة في إقليم التفاح. أصابوك هناك، وهناك، وهناك! لكنك مازلت معافى. لأنك تتذكر مسار حياتك وتمشي فيه مرة أخرى..

كان كل ماحدث فيما بعد تفصيلات. ظل طوال اسبوعين ملقى في بيته على الأرض. لايعرف أحد سواه كيف دفعوه على العتبة بين الموت والحياة. ويحاول هو أن يتكلم، لكن همسه لايصل إلى سمع الأحياء. لم يقرأ أحد عليه الحكم بالإعدام، ولم يطلب منه قاتلوه أن يدافع عن نفسه. ضربة على رأسه، ثم ضربة أخرى على جبهته! سقط على الأرض ونزف دمه وماءه. انصرفوا عندما اطمأنوا إلى موته. وكان يردد في نفسه: آه، يابلد المليون والنصف شهيد! كنت أنشد نشيد الجزائر في المدرسة، قبل أن يصبح نشيدها الرسمي!

ظل يتأمل حياته وحيدا اسبوعين طويلين، طويلين. وزع ماجناه في عشر سنوات على المهاجرين الذين فقدوا عملهم ومأواهم. على الذين انهارت منظماتهم وفقدوا أمانهم. على الذين أصبحوا أفرادا دون مجموعات. على الحالمين بالرحيل إلى بلاد لاتقبلهم. وكان خلال ذلك يسمع طلقات الرصاص في الشارع، ويسمع نداء النساء المذبوحات. تليت عليه أسماء أصحابه المقتولين بعده. وكان ذلك يعلو على صوت الأخبار التي تذاع من راديو بقي مفتوحا قرب رأسه. الأخبار التي تهنئ بأعياد، وتصف احتفالات، وتزين بلادا في يوم هزيمتها، وترفع أقواس النصر في مدن مكسورة. في ثنيات الأخبار هجع القتلى في الشوارع، وتراكمت البيوت المقصوفة، وتطايرت قنابل الغاز والرصاص. حاول أن ينهض ليسند شابا أصيب في رأسه، وفي تلك البرهة فتح الباب ودخل رجال صوروه ورسموه وسجلوه بين القتلى. حاول أن يرتب نفسه، ويستعيد دمه وماءه. حاول أن ينهض، لكنه لم يستطع ، وعندئذ بكى..

أهكذا يعود هو الشاب محمولا إلى مدينته؟ ولأنه كذلك يعبر الحدود؟ لايستطيع أن يتجول في الأسواق المزدحمة والحارات الضيقة! لايستطيع أن يتناول كأسا من نبع بلده البارد! لن يجتمع أهله وأصحابه وجيرانه في المضافة حتى الصباح ليلة استقباله! ولن ترد بيته الصبايا اللواتي تركهن فتيات صغيرات وجئن ليتفرجن عليه! اجتمعت الدموع في حلقه وعينيه. هل كان يتمنى لو يستطيع أن يتجول في البلاد التي كان يرسمها لطلابه في الجامعة، ليختار منها مكانا يؤويه غير مدينته؟ أم كان يريد أن تعتذر له مدينته ليغفر لها منفاه؟ لاتعتذر المدن من أحد، ياجهاد! لايطلب منها مالا تملكه!

شعر بأن مكانه يضيق. ورغم كل مانزفه من مائه، وجد دموعا يذرفها طول الطريق، ووجهه مغمور بالسماء، وهو يهتز على ايقاع حامليه. حتى توقفوا به في مكان واسع لم يعرفه من قبل. على مد العين فاجأته قبور الشهداء. كان مكانه في آخر المقبرة، بين أمكنة كثيرة مجهزة للعائدين. قرأ الشواهد التي عبرها. كان أصحابها شبابا أصغر منه. قتلوا كلهم في غيابه، وحملوا مثله إلى هذه الغابة من بعيد. أطرق في أسى: رغم ذلك مازلتم تنتظرون المزيد من العائدين! لمست يد كتفه. لابأس! آه، نعم! هنا على تخوم المدينة يستطيعون أن يجتمعوا وأن يتحدثوا في حرية. أن يلوموا وأن يعتبوا على من ضيع الزمان. هنا يستطيعون أن يستمروا في عداوتهم عدوهم، ويستطيعون أن يكرروا مايمحى من الكتب والخطابات والجرائد والإذاعات. ويستطيعون أن يعلنوا أن العصابات التي تنزع عن المدن العربية حضارتها، تقتل من سجلهم العدو على قوائم الإعدام.

جفف جهاد دموعه مسرعا. وخرج من مكانه الضيق.. فهم أنهم كانوا ينتظرونه من زمان! حزيران 1994


من مجموعتها مملكة الصمت الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب

http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:17 AM
القصص القصيرة للأديبة

http://www.syrianstory.com/glitter.gif 4 http://www.syrianstory.com/glitter.gif

ليلة المسرحية
لايذكر الموتى أنهم رأوا مثل هذه الليلة. لا ! تبدو كأنها نهاية الأيام! لارغبة لي في الفرجة على هذا الهوان، لكني تفرجت بملء عيني كيلا تفوتني لمحة مما أراه. جددت مااؤمن به، وجلوت الحب والحكمة والغضب! ورأيت مرة أخرى صلة الرحم بين الأرض والناس!

تجدد ماتؤمن به؟ وأنت ممن لاتشيخ قلوبهم! وأنت ممن تمر الحياة أمامه وتبقى موازينه مناسبة لها. ولأعترف لك: أخشاك أحيانا يانور الدين، وأنت تستشف مالايرى! لست متسرعا، حاشاك، لكنك تسبق بحكمك مالايحيط به النظر. وأعرفك إذا صمت! فذلك لأنك تتحاشى أن تفاجئ من حولك بما لايتوقعه! أنت وقتئذ تتريث حتى يتهيأ من حولك لما لم يتضح بعد.

حدثت ضجة، في تلك الليلة، في مملكة الصمت. توافد أهلها إلى الساحة ليطلوا على الدنيا التي تركوها من زمان . ففي وسطها نصب مسرح. وفي القاعة أمامه صف الشهود والمتفرجون.

هؤلاء هم رجال العالم اليوم، ياصلاح الدين؟!

لم تخف السخرية على صلاح الدين. فنور الدين يلمح الضعف والغرور حتى في الملابس، ويخترق الصوت ليقدر الصدق والكذب. فيرتبك أمامه أكبر الناس ارتباكه أمام المتصوفين.

في حطين محا صلاح الدين ماكان بينه وبين معلمه نور الدين من فتور. ولعله محا أكثر من ذلك وهما يتابعان، من مملكة الصمت، البلاد التي تركاها، ويتبينان أن أفكارهما تسلك طرقات متشابهة. ولكن لماذا يخيل إلى صلاح الدين هذه الليلة، أنه أقدر من نور الدين على تحمل المسرحية التي تعرض في الدنيا؟ وهل كان يستطيع إبعاده عنها، وأصغر سكان مملكة الصمت سار إلى الساحة للفرجة!

في طريقهما إليها صادفا حشدا متنوعا، فيه أهل دمشق الذين وقفوا على الأسوار يوم وصل الفرنجة إلى الربوة. والشباب الذين هرعوا لينقذوا صفد. وإحسان كم ألماظ الذي اغتيل في سمخ. ومطران اللد الذي رافق عسكر صلاح الدين وبقي في حطين. وطيار شاب اسمه عمر صفر أسقطت طائرته. وفتيان كان في ظنهم أنهم سيصلون إلى طبرية. شباب في عمر واحد تقريبا. ماالذي جعلهم يخلعون ثيابهم البيضاء، ويأتون كما كانوا في آخر أيامهم هناك؟ هل خيل إليهم أنهم يستطيعون العودة إلى هناك ليدفعوا ماحاولوا أن يدفعوه حتى الرمق الأخير؟ لماذا تنظر إليهم يانور الدين؟ لماذا؟ تتبين أنهم فقراء! أنهم كانوا أحيانا معيلي أسرهم، وكانوا أحيانا عشاقا تركوا حبيبات شابات، فلاحين دون أرض، توهموا أن بلادهم هي أرضهم. شباب، متصوفون تبعوا حلمهم الخفاق. لولاهم ماذا كان يمكن أن يفعل سعيد العاص، والشيخ القسام، وفوزي القاوقجي، ذلك الفقير الذي نهشوه بالكلام. وفرحان السعدي الذي لم يرحم عمره السبعيني الحكم بالإعدام!

لم ينظر صلاح الدين إلى نور الدين! لماذا ياصلاح الدين؟ هل نخجل نحن عن الضحايا، أم عن الإسم والبلاد؟ فكر كل منهما في السلطة التي تحيي أو تميت. تسهر على العدل أو تمتص رمق البيوت، وتكبل المدن بالخوف. وتذكر نور الدين الشدة التي أخذ بها نفسه وقاوم بها في نفسه مايهبه السلطان. وفكر صلاح الدين بما اضطر إليه من السياسة كي يقيم الملك الممتد، ويعبر الزمن حتى حطين. اضطر في حياته إلى اللين حيث لم يشأه، لكنه لم ينشر رحمته على من يجب ألا تنشر عليه. قدم لأعدائه الماء بعد حطين، لكنه منعه عمن هاجم الأبرياء.

خلفهما على بعد وقف معين الدين أنر. لعله كان معنيا أكثر من الآخرين بما يراه! شغل معين الدين التفكير في الملك مرات. أمسك العصا من الوسط. وعد وراوغ. وحاول أن يخيف أهله بأعدائهم! هو، يعرف معنى أن يقف عدو في عاصمة البلد! لعنه الناس يومذاك، وسعوا إلى نور الدين. لكن هل ينسى أهل مدينته أنه خرج إلى لقاء الفرنجة؟ فما بال هؤلاء يحتفلون بالهزيمة كأنها انتصار؟

انتفض معين الدين. نعم، ارتكب الإثم! وحاسبه على ذلك أهل مدينته. لكنه، خرج بنفسه إلى الفرنجة يوم وصلوا إلى الربوة. وصادف في طريقه شيخين حاول أن يثنيهما فقاطعاه: بعنا واشترى! لايزال يذكر تلك الأيام، والناس على الأسوار، والحرب في بساتين دمشق قائمة، وهو يطلب في سواد الليل النجدة من المدن، ينتظرها ولايستسلم، فتأتي راكبة وراجلة، وتطرد الفرنجة وتلاحقهم.

رأى معين الدين فتيات يلبسن جاكيتات حمراء ويحركن أعلاما من الورق. تحية لمن يابنات؟ وابتساماتكن لمن؟ ولماذا؟ هل تحتفلن بانتصار؟ أليس لكن أقرباء من النائمين في الرمال؟ كيف استنبتم؟ هل ألفتم في المدارس حفظ جواب محدد على كل سؤال، فسهل أن تنفذوا أوامر الحكام ولو كانت استقبال الأعداء؟

تساءل صلاح الدين هل تعبر نظرة نور الدين عن الاحتقار أم عما هو أكثر من ذلك مما لايستطيع أن يسميه؟ هز رأسه وقال لنفسه: نور الدين متصوف من المتصوفين في حب البلاد! أشد مايؤلمه أن يبتسم المهزومون، وتبدو الخيانة سياسة، والمتخاذلون سياسيين!

- ياصلاح الدين كيف أصبح هؤلاء حكاما، لهم أن يتدخلوا في شؤون كبرى كشؤون الحرب والسلام؟ ماذا جرى للبلاد حتى ارتفع هؤلاء إلى هناك!

آه يامعلمي، هل تسألني عما تعرفه وأعرفه؟ دهاء الحاكم، وخوف الرعية! صفق الناس للحاكم. شكروه على الهواء الذي تنفسوه والخبز الذي أكلوه. شكروه على الشمس وعلى السماء والقمر والنجوم. نسوا أنهم هم الذين يزرعون ويخبزون. من الخوف نسوا العصيان. نسوا حتى الأفراح والأعياد. قدر لهم الفرح والحزن في أوقات. وعندما وصل موكب الأعداء كانوا مايزالون يصفقون. فقيل للأذكياء منهم: قدر لامفر منه! وقيل للباقين: انتصار! والبسوا ملابس الفرح الحمراء، وصفوا في المسرح ووضعت في أيديهم الأعلام. فكانوا كما رأيت، زينة في القاعة، مثل رسوم القدماء.

سمع نور الدين حركة فالتفت. رأى الشباب خلفه وحوله وأمامه، في ملابسهم التي وصلوا بها إلى مملكة الصمت في قديم الزمان.

- هؤلاء الشباب عرفوا تلك البلاد! وماتوا هناك! قل لي ياصلاح الدين، ماعلاقة هؤلاء الواجمين باولئك المبتسمين السعداء؟ أهكذا يبتكر الحكام قطع الأجيال عن الأجيال؟

- يقال هناك: "زمن جديد "، "عصر جديد". يجب إذن أن ينقطع اولئك عن هؤلاء!

كان القسام آخر من وصل. هل في متابعة هذه المسرحية الصغيرة من فائدة؟ لايزال الصراع بين الشرق والغرب كما تركناه! تغيرت فقط البيارق والأعلام! وكان القسام يتابع الأوهام التي تصور للأحياء أن المدن الباقية تنجو إذا هجروا حيفا ويافا وعكا وطبرية... وأدهشه أن ينسى اولئك الأحياء أن في المدن التي يسامحون بها العدو قبورا، منها قبره، ومزارات، وذكريات. وأن منها حطين نفسها، مقابر شهدائها وقادتها، والبحيرة التي أوى إليها المتنبي، شيخ الشعراء! قال: آه، من يفرّط ببلد يخسر جميع البلاد! وهل يملك واحد أو مجموعة ذلك القرار؟ كان يعرف حيفا أكثر من بلده. ويقول لنفسه بلدي حيث الخطر على العرب! وكان الخطر حيث تدفقت الهجرة وحماها الانتداب. فهل تغير الزمان؟ سيبوح بأمر! الخطر حيث يفسد المال الذمة والأخلاق! قال: وطن الأغنياء رحالة، متنقل، لذلك بدأت من الفقراء.

ردد كلمته سعيد العاص. "نعم ياشيخ! وطن الأغنياء رحالة، متنقل! لم نلتق، وكم التقينا حيث مررت! لم نفكر يومذاك بما يسميه هؤلاء الأحياء، التوازن الكوني". "لو فكرنا مثلهم، ياسعيد، لما كان لهذه البلاد تاريخ! فأيامنا كانت أسوأ من هذه الأيام. هؤلاء عرفوا زمنا كانوا فيه أقوياء، مسلحين، بحارة في المسرات، لهم أصدقاء. نحن كنا نبحث عن الفشكة والقميص وقطعة الخبز!

يا سعيد، أعرف أنك كنت في قميص ممزق! استحى منك من أراد أن يهديك قميصا، لما يعرفه من عزة نفسك. لكن، انظر إلى هؤلاء! مزينون، خاط لهم عدوهم الياقات والأردان، ولعلهم معطرون وعطرهم من هناك!"

صمت الجمع فجأة. كأنما حدث أمر جلل تحت، في الدنيا. وبدا لهم أنهم يسمعون لغة لايعرفونها. تناوب رجال على أوراق وقعواعليها. " آه، محوا الزمان والمدن والأحلام والقبور والأسماء!" ودوى عندئذ التصفيق. بعد زمن من الصمت استدار صلاح الدين عن ذلك المسرح. اسمعهم يانور الدين، اسمعهم! يقولون: "ظلت القضية خمسا وأربعين سنة دون حل". هكذا حلوها؟! استمر الاحتلال الفرنجي مئتي عام! جدعت الأنوف، دمرت المدن، سبيت النساء، ولكن لم يجرؤ أحد منا على التنازل عن البلاد! قبلنا الهدنة في حرب طويلة، ولم نقبل إلغاء مقاومة الاحتلال. هل يتصورون أنهم بضعفهم، سيأخذون "الأرض مقابل السلام"؟ كلام! إذا تدفق الغرباء، خسروا الأرض والأمان!

حدث اضطراب في المسرح! خرائط مغشوشة! خلاف ! استمع نور الدين إلى الخبر وتبادل النظر مع القسام. وقال لناقل الخبر: يابني، الخطأ ليس ذلك. الخطأ أنهم يستقبلون العدو في بلادهم، ويقبلون توطينه بينهم. هل فاتهم أنهم قبلوا سيادته الكبرى في هذه اللحظة؟

قال القسام في كبرياء: يانور الدين، لسنا شهودا! في زمننا، لم نقبل أقل من ذلك بكثير! وكان الإنتداب يدرب المستوطنين ويجعلهم جيشا، ويغضي عن طائراتهم ومصفحاتهم، ويجهز مجموعات منهم لتلاحقنا. كانت بنادقنا من مخلفات الحرب، يحكم علينا بالإعدام إذا اكتشفت معنا. ومع ذلك، قاومنا المستوطنين ودولة كبرى. ولم نهب الإحتلال اسما آخر!

تقدم من القسام رجاله الحكماء، وأحاط بسعيد العاص رجاله الأشداء، ثم تقدم شباب وفتيات، غطوا الساحة بالنضارة. كانوا في تلك البرهة بالثياب التي قتلوا فيها، في لون كاكي، وفي ألوان مزهرة. كانوا جنودا من الاحتياط تصوروا أنهم سينتصرون ثم يعودون إلى قراهم. كانوا جنودا قطعوا الطريق وهم يرفعون الشحم عن أسلحتهم. كانوا جنودا طردت أمهاتهم وآباؤهم من القرى وقت الإحتلال. كانوا أصدقاء قتلى ومهجرين. كانوا يسكنون في غرف تحت السلالم، وفي أقبية معتمة، وفي غرف من الطين في البساتين. وكانوا أطباء وطيارين، وكانوا فدائيين لم يعرف أهلهم قرارهم إلا بعد أن نفذوه. رددوا فرادى كلمة القسام ونور الدين: لم نوقع! ثم تجمعت الأصوات وأصبحت صوتا واحدا! وتبين نور الدين عندئذ أن يوسف العظمة في وسطهم بملابسه التي خرج بها إلى ميسلون. وسمعه يقول: كنت أعرف أن الإحتلال مقرر، وأننا دون سلاح ولاطيران. لكننا بميسلون حجبنا الإعتراف بالعدو، وقاومناه.

في تلك البرهة وصلت أفواج من الأطفال والشباب والفتيات. لاتزال جروحهم ظاهرة في رؤوسهم وفي موضع القلب. كانت في وجوههم الصرخة الأخيرة التي صرخوها في الحارات. وماتزال تفوح منهم الغازات. كانت عظامهم ماتزال مكسورة. كان الشباب منهم يحملون أطفالا خنقوا في المهد. وصلوا كما وصلوا إلى دمشق سنة 1936 وفي سنة 1948. وأحاط بهم الجمع. وبدا الجمع ملونا، جميلاً ، مهيبا ورشيقا. حتى ذهل معين الدين أنر من الفرق بينهم وبين الجمهور الذي كان يحضر المسرحية في أسفل الدنيا، ويمثل الفرح والانتصار.

سمع نور الدين همسة فتاة: لهؤلاء مملكة الصمت فقط، ولاولئك الدنيا! فتوقف، والتفت كما كان يلتفت إلى جريح: يابنتي، لاتخافي من المنتصرين!

في أسفل الدنيا استمر الاحتفال. قيل إن زمنا جديدا يبدأ، وطلب من الضحايا أن يكونوا عقلاء وأن يبرهنوا على نية حسنة. طلب منهم ألا يخيبوا ظن الشهود والمحتفلين. وروي أن المباحثات سترسم سور الحديقة التي سيوضع فيها أهل البلاد، وستنظف اللغة من كلمات احتلال، مستوطنات، هجرة، عدوان، وستزين قاعات أخرى للاحتفال بالمساواة بين الأقوياء والضعفاء، وبين الغرباء وأهل البلاد.

من طرف كتفه لمح القسام آخر صور المسرحية وقال: انتفضنا سنة 1936 لنوقف الهجرة، ولم تكن كما هي اليوم! فجذبه سعيد العاص من يده إلى الأمام حيث الشباب. ياشيخ، لسنا اليوم في مسجد حيفا الكبير، فلاتبدأ درسك! قل لي، من بقي في ذاكرة جيلي وجيلك، عبد الرحمن اليوسف، أم يوسف العظمة! لاتقلق على الأحياء إذا ظل إنسان منهم يذكرنا هناك! سيهربنا المخلصون من جيل إلى آخر، ومن حلم إلى حلم! قلقي على الأحياء فقط، ياسعيد؟ قلقي على هؤلاء الشباب الذين يقتلون اليوم مرة أخرى!

كان نور الدين كعادته قد حزر مايجب أن ينجزه. وعندما التفت سعيد رأى رايات مرفوعة، ورجالا على جياد، ومشاة، وآليات حديثة، حشودا متنوعة الأسلحة والملابس والألوان، وملامح تركمانية وشركسية وكردية وعربية. وتبين جمالا نادرا لم يصادف مثله في حياته. جمع نور الدين كل من دافع عن هذه البلاد، وأعاد القادة المنتصرين كي يكرروا نجاحهم، والقادة المهزومين كي يحاولوا الانتصار، وتناسى الأخطاء الصغرى التي فرقت الأصحاب والأقرباء. جمع من الأزمنة الطويلة كل من استطاع. نادى حتى أسراب الطيارين وطواقم الدبابات. ولم يتخلف أحد من شيوخ القسام حتى الجنود الصغار والفدائيين الشباب. وبينهم كانت فتيات بالبنطال ونساء بملابس مطرزة وأغطية بيضاء. وجميع المحكومين بالإعدام. مشى الحشد مهيبا، جميلا. فاستعجل القسام سعيدا، وهو يمسح من عينيه الدموع. " يالحزن من يفكر في كل هؤلاء، ويالقوة من يفكر في كل هؤلاء !"

http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:19 AM
القصص القصيرة للأديبة

http://www.syrianstory.com/glitter.gif 5 http://www.syrianstory.com/glitter.gif

المتأخر


لم يومن بالحظ في حياته، حتى يوم اشترى ورقة يانصيب . فهل يضطر إلى الإيمان به بعد موته؟ بم يفسر إذن ما حدث؟

ولد بعد خمس بنات. فكان يفترض أن يكون مولده فرحة عظيمة في الحي كله. لكن زغردة واحدة لم تسمع في بيت أهله أو في بيوت جيرانه. لم يحدث ذلك لأن ابن شيخ الحارة ولد في ذلك اليوم نفسه، في تلك الساعة نفسها. بل ولد ثلاثة صبيان في حارته يومذاك حتى سميت تلك السنة سنة الصبيان. لكن ابن شيخ الحارة خطف الانتباه إليه باحتفال مشهود. نقل السجاد من بيوت المولودين في ذلك اليوم، وقطعت أغصان الكينا حتى من الشجرة التي غرسها جد الصبي وعقدت قوساً على بوابة شيخ الحارة . وهناك كانت العراضة الكبيرة التي بدت كأنها تهنىء قادماً من الحج!

سمعت في البيوت سخرية من ذلك، لكن الساخرين أنفسهم مشوا إلى بيت شيخ الحارة وقدموا له التهنئة والهدايا، ورووا له أن منجماً أكد مولد نابغة يحمل أبوه صفات المختار نفسها تماماً. انشغلت الحارة كلها يومذاك بالمنجمين والتنجيم وأعلنت أن الخير سينتشر في البلاد كلها طوال حياة المولود السعيد، وأن الكوارث ستنزل بها إذا مرض. لذلك قررت الحارة أن تحرس صحته .

قدم أهل الصبي يومذاك الكراوية لأصحابهم، في السر. لكن هؤلاء الأصحاب ذاقوا مقدار ملعقة منها فقط، ولم يمنعهم الخجل أن يعلنوا: لم تترك كراوية المختار مكاناً لغيرها‍! ووصفوا الكراوية التي قدمت في بيت المختار: زبادي كبيرة، ملأى بالفستق واللوز وجوز الهند!

يجب أن يعترف بأن حظه سيء! لولا ذلك لا نزلق كي يولد تحت نجم آخر! فرغم الأحداث التي واكبت مولده، كان في المدرسة متفوقاً.لكنه لم يذق مرة الاحتفال بتفوقه، حتى بين أهله. فالحارة كانت ترتب الاحتفالات بتفوق ابن المختار في دراسته في اليوم والساعة التي ينوي أهله فيها الاحتفال به. ويوم أحاط أهله احتفالهم بالسر خوفاً من العين ومن المصادفات، فوجئوا بما لم يتوقعوه: مات رجل وقور من أجداده. فتكتموا على موته كيلا يفسدوا الاحتفالات بتفوق ابن المختار، لكن هل يمكن أن يحتفلوا هم بابنهم!!

لحقته المصادفات حتى في ختانه. دعي الأهل والأصحاب إلى سيران في البستان. وحضّر أهله اللحم والرز . لكن ابن كبير التجار وصل يومذاك من غربته الطويلة فخرج أهل الحارة لاستقباله، ومعهم المدعوون إلى الختان من أقربائه . هل فضلوا الحفلة الكبرى للفرجة على الأجنبية الشقراء التي قيل إنه أتى بها، ووصل صيت جمالها بالبريد قبل أن تصل!

أصبح يتوقع الأحداث الكبيرة كلما فكر باحتفال أو دعوة يجمع فيها أصحابه . فكان يبتسم سائلاً أمه: هل تريدون عرساً أو مأتماً أو احتفالاً يهز الحارة؟ فيفهم من يسمعه مقصده . نعم، لم يعرف في عمره، أو يعرفوا، أن حارته لم تشاركه في حزنه وفرحه!

هل نسي ذلك كله يوم سحرته زميلته فأحبها، ولم يحترس فأظهر حبه! انتظرها ومشى معها ورأسه مستدير إليها كأن حفر الطريق لا توجد، ولا يوجد الرجال الغلاط الذين لا يفهمون أنه شريكهم في الأرصفة! دفعه أحدهم مرة حتى كادت كتفه تنكسر، وكاد يقع لو لم تمسك به حبيبته.

في ذلك اليوم اكتشف حبها العميق له! لو لم يرفض اقتراحها لأوصلته هي حتى موقف الباص، أو لأركبته تاكسي يوصله إلى باب بيته! بعد ذلك اليوم تجولا في طرقات المدينة حتى كاد يخيل إليه أنها انتهت . فهل يلومها بعد ذلك إذا تركته؟

رآها تركب سيارة فخمة إلى جانب رجل، وفهم لماذا اختفت من مجال رؤيته . تذكر أن ذلك التاجر الغني راقبها وهي تمشي معه . واكتشف رشاقة خطوتها وأناقة جسمها وحركة شعرها الذي يرف في ايقاع! ألم يلمح تلك السيارة مرات خلال سيرهما في الشوارع؟

عجز الحب عن الدفاع عن النفس أمام أموال التاجر وفخامته!

لذلك طلب من أمه أن تخطب له فتاة من حي بعيد، من أسرة متواضعة، وأن تبقي الخطبة في السر حتى ليلة العرس . فقالت أمه لأهل العروس أنها تخشى الحسد والعين، وأكدت أن العرس المطنطن سيعوض الخطبة السرية .

كان يتلفت كلما زار بيت خطيبته، ليتأكد أن شخصاً لم يتبعه .وكان كالسمن والعسل مع خطيبته وأهلها . كانوا يتركونه وحده مع خطيبته عندما يحضرون القهوة . فيسمحون بالحد الممكن من خلوة لا تمنع الشابين من التعارف، ولا تسمح به.

رتبت خطوات العرس، وعلقت بذلة العروس في غرفتها لتحفظ بهجة السر . وانشغل الأهل بشراء التفاصيل التي يعرفون أنها ستظل ناقصة حتى يستكملها الزوجان عندما يكتشفان أن الحب يأكل ويطبخ وينام وينشر الغسيل، ويغلي الثياب البيضاء في وعاء، ويبدل شراشف السرير، ويهتم بكبس المخلل في قطرميزات، وبحبك البامياء حبالاً لتجف . ويمد الملوخية على ملاءات .

كيف وصل في تلك الزحمة ذلك الشاب مع أمواله التي كنزها في عشر سنوات في الخليج؟ قالت أم الفتاة لأمه الذاهلة: قدم ابنك خير! لم يخطبها قبله أحد! لم تخترها امرأة من نساء الحارة لابنها! منذ خطبها ابنك نستقبل كل يوم خطابين، فنفهمهم أنهم تأخروا لأن البنت مخطوبة . لكن النصيب يخرس اللسان . عندما زارنا أهل هذا الشاب أعجبوا بالعروس، ولم يثنهم ما أعلناه فعادوا مع ابنهم . رآها صدفة، صدفة . وكأن الله، جل اسمه، أغلق أفواهنا عندما طلبها بنفسه منا! نصيب.. نصيب..

قالت أمه: بل الأموال، الأموال! يلحقك الأغنياء أينما مشيت، ويتبعون خطاك يا ابني حتى أكاد أؤمن بالجن، أستغفر الله! يحلو في عيون الناس كل ما تمد يدك نحوه! ينتبهون إلى ما تنبه إليه! لم تقل له أمه: يسرقون اللقمة من فمك! لكنه فهم ما لم تقله .

ما العمل إذن؟ هل قرر في ذلك اليوم أن يترك الدنيا لأهلها القادرين على إنفاق الأموال على الفتيات وإغراء العرائس، وترتيب الاحتفالات بالولادة والختان ونجاح الأولاد في المدارس والجامعات والأعمال؟ هل أحب تلك الفتاة التي لم ينتبه إليها أحد قبله، ولذلك لم يطق بعدها الحياة؟

قالت أمه: بحثت تحت الملاءات وفي البيوت المظلمة حتى اكتفشتها. لولا ملابس الخطبة وصبغ الوجه بالحمرة لما انتبه إليها أحد . مع ذلك كبّرها ابني بموته في عين خطيبها! فوصل خطابون جدد إليها بعد مأتمه . أنا أعرف أنه لم يمت من الحب! ولكن من يفهم ذلك! لم يحزن الأم أن ابنها طق ومات، فقط. بل أن ابن شيخ الحارة الذي ولد معه في اليوم نفسه، مات بعده بدقائق . وفي ذلك اليوم نفسه وقع سقف مقهى فخم فوق مجموعة من الشباب كانوا يرقصون مع مجموعة من الشابات الجميلات. صاحت أمه: يا ويلي، لحقوه حتى إلى القبر!

لم يجد أهله آسا يتقدم جنازته ويزين قبره! وكم كان يحب الآس! لم يجد أصحابه حتى زهر الأكاليل الرخيص لجنازته، ولم يجدوا حتى شرائط سوداء يشيرون بها إلى موته.

انشغلت أمه عن الحزن بالتفكير في مصيره: لم يعطونا حتى الآن رخصة بدفنه! قال لها صاحبه: البلد كلها مشغولة بغيره! وكاد يقول لها " قدمه خير " لكنه صحح جملته فقال: قدمه جرّارة! وروى لها أنه رآه يدخل مطعماً يكاد يفلس، فإذا بالناس يتدفقون إليه!

بعد ذلك الكلام تسلل بعض الشباب خائفين على أنفسهم، وقالت النساء: فأل الله ولا فألك!

وصل الشاب إلى المقبرة في أول المساء، دون آس ودون أكاليل . لم يجد سيارة ينقل بها ويعلن منها اسمه ويقال: ترحموا عليه يرحمكم الله! لو لم يحمله أصحابه المخلصون الذين أتوا إليه بعد حضورهم مأتم ابن شيخ الحارة، لبقي في الحارة كأنه لم يقصد الخروج منها . رفعوه على أكتافهم مرة، ووضعوه على الأرض مرة . التفتوا فلم يجدوا أحداً غيرهم وراءه . فاضطر أولئك الأصحاب المخلصون إلى الاعتذار من صديقهم المحبوب، فالطريق طويل، والعزم قليل، والله نفسه لا يأمر إلا بما يستطاع! تركوه فكشف الغطاء ونهض، وأكمل طريقه الطويل ماشياً .

لم تعرف تلك التفاصيل أمه التي جلست وحيدة في البيت . لكنها قدرت وهو بعد أمام الباب أنه لن يصل إلى ملجئه الأخير إلا بشفقة الملائكة . فتركته هناك وجلست في صدر الغرفة كمن ينتظر المعزين . يجب أن تقوم بذلك الطقس من طقوس المأتم على الأقل! فلا صوت بكاء يعلن للميت أن فراقه مؤلم للمحبين، ولا تلاوة تخفف عنه الوحدة وتشعره بأنه يودع في مهابة . ولا زهر ولو كان "الغريب"! فالمقرئون والأزهار والناس في اتجاه آخر، تستدعيه عواطف أخرى منها طلب الستر ومنها الطموح.

من غير الأم يستطيع أن يتخيل الغرفة الفارغة مزدحمة بالملائكة الطيبين، يلبسون ملابسهم البيضاء النظيفة ويجلسون صامتين! جلست الأم بينهم مستمعة إلى الحفيف حتى فتح الباب ودخلت امرأة عجوز فكادت تظنها من الجن . ثم تأملتها وفهمت أن الانسان إذا تقدم في السن ضيع أنواعاً من العواطف، منها الشعور بالخوف . وبدا لها أن الإنسان إذا فقد من يخاف عليهم ويحبهم، فقد الرغبة في الحياة . لم تكن أم المتوفى قد شارفت على تلك السن . لكنها باحت للمعزية العجوز بشعورها بالراحة، لأن ابنها وصل إلى مكان وزمان لا سباق فيه . وقالت لها: يستمتع من يتحمل أثقال الحياة بمرة واحدة يحمل فيها على الأكتاف .

وكان ابنها وقتذاك يمشي في الطريق الطويل . ويرى الأكاليل معلقة على الجانبين، والآيات القرآنية والكلمات المأثورة على ورق كبير، في إطارات من خشب معلقة على شرفات البيوت .

رأى من الأزهار ما لم ير مثله في حياته كلها . واستمتع بذلك . لو يستطيع أن يواسي أمه ويقول لها: وفرت ذلك عليك وعلى أصحابي، فها هو الزهر يحف بطريقي من أوله إلى آخره!

توقف برهة عند البوابة . هل يودع الأمس الذي امتد على حياته؟ هل يودع المدينة التي لم تودعه؟ لا مجال للعتب أو الحزن! فالعالم الجديد، أيضاً، لم يرسل موفداً لاستقباله! دفع البوابة وكانت بوابة رائعة، واسعة، مزخرفة، مدهونة باللون الأبيض، خلفها أشجار كثيفة، حديقة عظيمة! لم يجد عند الباب حارساً يدله إلى مكانه، فهل يستطيع أن يصل إليه في هذه العتمة؟ من يتناول منه الورقة التي في يده؟ من يسجله؟ هنا أيضاً لا مكان له؟ أيتكرر هنا أيضاً ما حدث له يوم عبر المسافرون كلهم الحدود قبله مع أنهم وصلوا بعده؟ وما حدث يوم حمل أوراقه إلى المؤسسة ليطلب عملاً، فنودي كل من كان بعده؟ قال لنفسه: يا للحرية! وتجول حراً كالهواء .

تجول حتى غيبت العتمة الأشجار والأرقام . وعندئذ سمع ترتيلاً شجياً فتبع الصوت . فرأى هناك ابن شيخ الحارة كالمحتفى به وسط شباب وكهول عرفهم في حياته . رأى وسط مرج من الشموع والأزهار، الأغنياء الذين خطفوا منه يومه الأخير، والفقراء المحتفين بهم! سحرته الشموع والأزهار والثياب الناصعة التي تتألق في ضوء الشموع . أينضم إليهم ويرتل معهم؟ أيترك مأتمه ليشترك في احتفالهم؟

استدار عن ذلك السحر . قرر أن يتجول في العتمة . لكنه وجد نفسه وسط حلقات من الناس، وراءها حلقات . كان اتجاه حركتها نحو المركز حيث ابن شيخ الحارة والأغنياء والفقراء والشموع . فاندفع عكسها . لكنه كان يقاد إلى المركز كلما خطا خطوة في الاتجاه المعاكس . كأن ريحاً تدفعه . وكان يبدو كأنه هو الذي اختار اتجاهه .


http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:21 AM
القصص القصيرة للأديبة

http://www.syrianstory.com/glitter.gif 6 http://www.syrianstory.com/glitter.gif

الراعي


تعود أهل المدينة المسحورة أن يملأوا الساحات إذا ناداهم راعي مدينتهم. حتى أدعى الغرباء، من الغيرة، أن أهل تلك المدينة خائفون من راعيها! لم يفهم الغرباء كيف يهرع رجال بإرادتهم على نداء، مسرعين ولو كاد أحدهم يدوس الآخر! وقالوا: اولئك مضبوعون، فالعاقل لا يركض ليرى طرف وجه المحبوب! واستمر ذلك زمناً طويلاً.

حتى نزل المنادون مرة إلى الأسواق، كالعادة، يتقدمهم الطبل والمزمار. ونادوا كالعادة: ياأهل المدينة المسحورة! ونشروا لفافة من جلد الغزال وقرأوا المكتوب فيها. فرددت الأسواق الصامتة نداءهم، ولكن لم يخرج إليهم أحد. ولم يلحقهم ولد. رددت الحارات والجدران نداءهم، ولكن لم تفتح نافذة ولم تتحرك ستارة. حتى سمعوا أصوات خطواتهم كأنها الطبول.

فرجعوا إلى راعي المدينة وأعلنوا له: الأسواق مفتوحة، والبيوت والأشجار والمياه موجودة. الرعية فقط متخلفة!

أيصدقهم؟ كيف يمكن أن يختفي سكان مدينة كاملة في ليلة؟ قال: يعرف زمننا تهجير شعوب وقوميات، واستقدام سكان، وتبديل هويات، لكن لذلك إشارات من قصف أو حرائق أو زلازل أو، على الأقل، مؤتمرات! لم أسمع ولم أر مثل تلك العلامات! أكد له حراسه ما قال: نعم لم نسمع حتى تنفس الطفل. فهل يهاجر أو يهرب سكان مدينة دون أن نسمع على الأقل صوت أقدام؟

وأعلن حراس الأبراج والبوابات أنهم لم يلمحوا في الليلة الماضية مسافراً أو هارباً أو مهاجراً. مر فقط قطيع من الذئاب كأنه قطعة واحدة. رأوه واضحاً، لكن ضبابة غطته بعد ذلك فلم يعرفوا اتجاهه، واجتاحتهم عندئذ رغبة مفاجئة بالنوم فناموا. فلا تسلوهم عن مساره. بوابات السور، على كل حال، مغلقة لن يعبرها الطير الطائر فهل يعبرها قطيع من الذئاب!

قال راعي المدينة: آه! لا يشعر حتى حراس السور بالمسؤولية مثلي! أنا الذي تابعت قطيع الذئاب من برجي الذي يعلو جميع الأبراج، ورأيته يحوم حول المدينة! كنت إذن أكتب النداء إلى رعيتي عندما كانت الرعية والحراس نائمين! ونزل باحثاً عن رعيته.

رأى مدينة غريبة . كانت الأبواب كلها تنفتح إذا دفعها. وكانت الأسواق كلها مفتوحة، كأن الناس سيقصدونها بعد برهة . فتذكر أنه كان يتمنى في بعض الأيام، وقت يضيق بثرثرة أهل مدينته، وطلباتهم، ورغباتهم، لو كانت المدينة دون سكانها. ها هي الآن كذلك! فلماذا يشعر بالوحشة؟ لاحظ أنه يمشي وحيداً. اختفى حراسه كما اختفت الرعية! أهربوا خوفاً من الذئاب، أم تسللوا هرباً منه؟ تركوه! ولا مجال الآن لأن يهدد أحداً. لا يستطيع الآن أن يشهر الخوف سلاحاً. لا يستطيع أن يكون ملكاً أو أميراً أو غنياً لأنه في مدينة دون ناس، أكان أولئك الناس راضين أم خائفين، أكانوا سعداء أم أشقياء.

اندفع باحثاً عن شعبه. دفع أول باب صادفه، فرأى بيتأ فقيراً، نظيفاً ساكناً. في المطبخ رأى مقعداً عليه طراحة مغطاة بقماش نظيف، لكن الرفوف فيه فارغة، فخرج مسرعاً. في الباحة رأى شجرة ليمون مثمرة .فقال لنفسه: لدى أصحاب البيت إذن ما يؤكل! ولاحظ على البلاط أثر الماء. كل شيء يشير إلى الأحياء، فأين هم؟ في البيت التالي، رأى وهو يقف على عتبة غرفة، أصحاب البيت جالسين. لكنهم لم يتحركوا وهو يتقدم إليهم. ولم يلتفتوا إليه. اقترب ولمسهم، فلم يرتعشوا. شعر ببرودة الحجر تحت أصابعه. فتراجع ذاهلاً، وخرج من البيت. في الطريق الساكن انتبه إلى قطة. اقترب منها ورفع قدمه كمن يهم بأن يرفسها. لم تتحرك. ضرب بقدمه الأرض أمامها فبقيت ساكنة. فاندفع إلى بيت آخر، وفتح الغرف واحدة إثرأخرى. فوجد في إحداها أسرة مجتمعة كأنها تنتظر أمراً. لم يتحرك أحد منها وهو يقترب منها. في البيت الثالث والرابع والخامس تكرر المشهد نفسه: أشخاص جالسون أو واقفون كأنهم يصغون إلى بلاغ مهم أو ينتظرون إعلاناً عن حدث. لكنهم جامدون، ساكنون، بشر من حجر.

اجتاحه الغضب. صاح: مؤامرة ! يا للماكرين! لم يجرؤوا على الخلاص منه فخلصوه من أنفسهم . لم يتركهم فتركوه. ثم خطر له أن أعداءه أرسلوا إلى مدينته، في السر، ساحراً أو شريراً انتقم منه فحول رعيته إلى تماثيل من حجر. تلفت. لا أنس ولا جن! آه، ليعترف لنفسه بأن أمنيته كانت أن يتحول سكان مدينته إلى تماثيل تسمع ولا تتكلم، تشتغل ولا تطلب، تحضر ولا تناقش أو تفكر. لكن كيف تحقق ذلك؟! ولماذا تحقق ذلك الآن وهو في حاجة إلى رعية يحشدها لترد قطيع الذئاب!

سمع هدير الذئاب! اقتربت اذن! تسلقت الأسوار واندفعت إلى المدينة! لم يغنه حراسه ولم تسعفه أبراجه! صرخ: ياناس، انهضوا! ياناس هجمت الذئاب على مدينتكم! رددت الجبال صراخه. ولكن لم يهرع إليه أحد من سكان مدينته.وتذكر عندئذ أنه أعلن مرات قبل هذا اليوم أن الذئاب تهاجم المدينة. أعلن ذلك يوم انعقد الصراع بينه وبين أولاد عمه على الميراث. ويوم كاد منافسه يحتل قصره. ويوم..ويوم.. فكان الناس يتجمعون تحت برجه، وكل منهم يحمل ماتيسر له، عصاً أو سكيناً أو حجراً. فكان يكسب بهم معاركه ضد منافسيه، والناس يظنون أنه يكسبها ضد الذئاب. كانت المرة الأخيرة التي طلب فيها معونة الناس على الذئاب، يوم شيد مائدة من الأحجار الكريمة، حشد فوقها أنواعاً من الثمار النادرة والأطعمة التي نقلت من بلاد بعيدة، خلال مجاعة اجتاحت مدينته، فتنقل الرسل يروون الأخبار عن ذلك قائلين: أموالكم تهدر وأولادكم يموتون من الجوع! صرخ يومذاك: هجمت الذئاب، فنسي الناس ما قيل لهم، وركضوا لينقذوا المدينة من الذئاب!

وقف في وسط الطريق وصرخ: أقسم أن الذئاب تجتاح المدينة الآن! يا ناس، أقسم لكم..! لم تتحرك على ندائه ستارة، ولم يرتجف باب، لم يظهر ولد أو قطة على سطح. لم يخرج إليه أحد! صرخ: النجدة! النجدة، ياناس! فرددت الحارات والأسواق نداءه. في السكون سمع صوت الذئاب. ومع ذلك ظلت حتى الأشجار ساكنة . كان كل شيء في المدينة جامداً حتى الهواء.

وعندئذ انتبه إلى أنه الحي الوحيد الآن، وأن الذئاب التي أخاف بها رعيته، يمكن أن تمزقه، فاجتاحه الخوف، الخوف نفسه الذي كان سلاحه ودرعه في مدينته! فتلفت باحثاً عن الجهة التي يمكن ألا تهاجمه منها الذئاب. لكن الأصوات وصلت إليه من الجهات كلها، كأنها تقصده. ثم رآها. وفي برهة خاطفة كالبرق فهم أن رعيته اجتمعت إلى ساحر وطلبت نصيحته كي يخلصها منه ومن الذئاب معاً.

كان الحل الذي وجده لها، إذن، أن يحولها إلى صخر بانتظار الزمن المأمول؟ وأن تتركه وحده للذئاب تنهشه؟ ألذلك رأى الناس في وضع من يبحث أمراً أو ينتظر حدثاً عظيماً؟

شعر بغضب هائل، وصرخ: أيتها الذئاب، تعالي! سأدلك إلى جميع المخابىء! وسأبحث لك عن الإكسير الذي خبأه الساحر ليوم الخلاص المنتظر! أيتها الذئاب اتبعيني، أنا الآن راعيك، ودليلك في المدينة المسحورة! سأنبش حتى حجارة الأرض باحثاً عن الأسرار، ولن أسمع بأن يكون الموت الظاهر اليوم موتاً مؤقتاً. بل سأجعله موتاً أبدياً. سأكسر الصخور، وأفرق المجتمعين ولو كانوا تماثيل. سأبدد هذه المدينة في الريح. هيا أيتها الذئاب، أنت وأنا عليها! سأربي هذه الرعية في مرعى ذي أسوار، أفلح ببعضها أرضي وأحصد زرعي، وتتناولين أنت منها لحمها وشحمها!

علىهذا النداء حضر حراسه الذي كانوا قد اختفوا كأن الريح بعثرتهم. حضروا كأنهم منتصرون. لم يسألهم الراعي أين كانوا، ولم يسألوه كيف صاحب الذئاب، ولم السؤال وكل منهم يشعر بالأمان. انتهى زمن الخشية من الذئاب، وهاهو ينتقل مع حراسه من جانب المهزومين إلى جانب المنتصرين!

لم يستطع أهل المدينة المسحورة أن يدهشوا لأن راعي المدينة دعا الذئاب ووعدهم بالبحث عن إكسير خلاصهم، هو الذي عاش عمره كله يهددهم باجتياح الذئاب، فيطعمونه ويسقونه ويخدمونه في انتظار المعركة المنتظرة التي ستخلص المدينة من الذئاب وتنشر فيها الأمان! لم يستطيعوا أن يدهشوا لأن حراسه الذين عاشوا في أبراجهم المرتفعة كي يكونوا قادرين على رصد قطيع الذئاب في الليل والنهار فيحذروا المدينة منه، ناموا في ليلة المصير، ثم اختفوا ولم يسمعوا إلا نداء الراعي الأخير! لم يدهش أهل المدينة .. لأنهم كانوا من حجر وصخر. وقد غربت الشمس في ذلك اليوم من الشرق، ولاحظت وهي تغرق في العتمة أن على الصخور ندى كالدموع، وقبل أن تتساءل: أيبكي الحجر؟ اجتاحتها العتمة، وسمعت صوت قطيع الذئاب ممزوجاً بهتافات المنتصرين .


http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:23 AM
القصص القصيرة للأديبة

http://www.syrianstory.com/glitter.gif 7 http://www.syrianstory.com/glitter.gif

القرنفلة


كادت تضحك. أنت؟ ماأصغر الآخرة! وكاد هو أيضا يضحك: أنت؟! تركها وكل منهما في المدرسة بعد. اختفت يومذاك، ولم يعرف مكان بيتها الجديد. خطؤه أنه ظنها باقية في ذلك الحي! كان صغيرا، فلم ينتبه إلى تنقل الناس في مدينته، مع أنه سمع حوار أمه وأبيه. قالت أمه: لم يبق في الحارة أحد نعرفه. باع أهل الحارة بيوتهم، أو أخذوا "فروغها"، وانتقلوا إلى أحياء بعيدة. بالفرق بين ثمن البيت هنا وبين ثمنه هناك اشتروا بيتين أو بيتا ودكانا أو شاركوا في مشاريع. لماذا لانكون مثلهم؟

كان فتيا فلم يتصور أن البنت الجميلة التي تمر كل يوم على رصيف بيته، يمكن أن تنتقل من ذلك الحي. لم يفهم أن المخازن الجديدة التي انتشرت في حارته تعني أن المنطقة غيرت صفتها "من سكنية إلى تجارية". لاحظ أن الستائر نزعت عن نوافذ الطابق الأول من البيوت، وأن الأبواب أغلقت بأخشاب دقت بالمسامير. وأن تلك البيوت بقيت مهجورة زمنا، ثم حضرت الورشات وهدمت جدرانها. ثم رفعت بوابات ذات قناطر، وظهرت مخازن كسيت بالخشب والرخام. فأصبحت البيوت القديمة ذات الأخصاص والسطوح القريبة من الأرض، غريبة في حيها. صارت تبدو فقيرة ومسكينة كأنها تنتظر من يشتريها ويكسوها لتليق بما يجاورها.

ناولته أمه ذات يوم علبة من الكرتون وقالت له: اجمع أغراضك وضعها فيها. بعنا البيت! فهل كان يستطيع أن يعترض؟ وماأهمية أن يبقى في ذلك البيت بعد أن فقد أصحابه وأولاد جيرانه الذين انتقلوا إلى أحياء جديدة؟! أعطوه عناوينهم يوم رحلوا، وحاول أن يزورهم فركب باصات وسرفيسات إلى أحياء لم يرها من قبل. تاه، وسأل المارين وأصحاب الدكاكين، وصف شكل أصحابه وشكل آبائهم، لكنه لم يهتد في يسر إلى تلك البيوت. كان أصحابه سكانا مجهولين في تلك الأنحاء.

لذلك انقبض قلبه. سيكون هو أيضا مجهولا هناك، لايسلم على صاحب الدكان، ولايصادف أولاد الجيران في الطريق. كم مرة وقع في هذا الحي على الأرض فهرع إليه الجيران ودهنوا جرحه باليود وضمدوه دون أن ينادوا أهله! كم مرة فتق قميصه وهو يلعب في الحارة، فخاطه أو رتقه الجيران دون أن يخبروا أهله! حدث أن كسر زجاج نافذة في أحد البيوت وهو يلعب بالطابة مع أصحابه! هرب مثلهم وابتعد عن البيت. فركّب أبوه زجاجا جديدا للنافذة المكسورة، وأرسله ليعتذر عما جنى. فسقاه الجيران شراب الورد، شرابا أطيب من الشراب الذي تحضره أمه! أيمكن أن يجد في الحي الجديد البعيد مثل اولئك الجيران؟

نظر إليها وهما يمشيان تحت السرو، وقال لنفسه: بريق عينيها لم يتغير! وتذكر أنه كان مسحورا به. وحكى لها كيف رتب أغراضه في العلبة التي تناولها من أمه، وانتقل إلى حي بعيد جديد لاأصحاب له فيه. في ذلك العمر تطلب القدمان والعينان مساحات واسعة. يتسلق الفتى الأسوار والأشجار، يقصد الجبل البعيد ليكتشف الصخور والمغاور، يركب الدراجة مع أصحابه ويبتعد عن حارته إلى الربوة، يسبح في النهر سرا ويحاول أن يخفي وجهه الذي لوحته الشمس، ولايمنعه التأنيب من العودة إلى النهر. يكتشف البساتين والأنهار. فكيف يقيد ببيت صغير في بناء، يحتج الجيران فيه إذا جر كرسيا، أو رمى ورقة مشتعلة من النافذة!

هي؟ فقدت يومذاك السطح! كانت تصعد إلى السطح، وترى البلد من مرتفع. تجلس على سقف الدرج، وتنزلق متزحلقة. تتسلق القرميد وتتفرج على حدائق الجيران من فوق. تغرف الماء من برميل الماء على السطح وتسكبه على نفسها وقت الحر، أمام المدينة والسطوح والحمام الذي يدور في السماء، والغسيل المنشور. السطح مملكتها. وقد فقدتها! السطح في البناء الجديد مشترك بين الجيران كلهم. قد يخطر لأحدهم أن يتفقد المدخنة، وقد يخطر لآخر أن ينشر الغسيل، وهي هناك. يراقب سكان الطابق الأخير كل حركة على السطح. تزعجهم الضجة! ممنوع النط على الحبل! بل يشعرون حتى بالخطوة المتسللة! على كل حال، هل تستطيع أن تتحرك في حرية على سطح فيه صواني المربى على الأرض، وفيه الغسيل منشور على الحبال؟

نظر إليها وابتسم: أنت داويتني يومذاك! لو كان في الدنيا، أكان يجرؤ على البوح كما يبوح هنا ببساطة ويسر؟! بحث عنها وقت خروج الطالبات من المدارس. كان يقصد في كل اسبوع مدرستين! يظل واقفا أمامهما حتى تنصرف جميع الطالبات ويغلق الباب. مرة ناداه أبوه وسأله: ألا تظن أنك بكرت في متابعة بنات المدارس؟! وصله إذن الخبر!

ماذا قلت له؟

- لم أستطع أن أعترف له بأني منذ سنوات أتابعك!!

ابتسمت:

- هل أخذت قائمة بأسماء المدارس من مديرية التربية؟!

- تسخرين مني؟ جردت من المدارس مااستطعت!!

لم يترك فرصة غاب فيها أستاذ أو أجّل درس، إلا أفاد منها! بعد إحدى المسيرات سألوه في المدرسة: لماذا هربت؟ ولم يوفق إلا بكذبة يتداولها الطلاب: دخت! لكن هل كنت أكذب؟

- دوختني ياليلى! جعلتني مثل قيس!

ضحكت ضحكتها نفسها ذات الرنين! الضحكة التي أطل على صوتها من النافذة، فرآها أول مرة وهي تعبر بيته مع زميلتها. يومذاك نظر إلى الساعة وحفظ الموعد، واليوم. كتبت ذلك على الجدار. أعلنت أسرارك على الجدران؟ لا، لايستطيع أن يفك تلك الشيفرة غيري! كنت أكتب ماأريد مقطّعا، كلمة فوق، وكلمة تحت، وأخرى مائلة حولاء! هل تركت شيفرتك في البيت القديم؟ تركتها كي يشقوا في حلها! مسكين! طار البيت! مررت به، فلم أعرف أنه كان هناك. لم يتركوا شيئا منه. لم يتركوا حتى شجرة الكينا أمامه! لولا المخزن المقابل له لما استطعت أن أحدد مكانه! إذن عدت إلى هناك؟ طبعا عدت! تصورت أنك سترمي علي قرنفلة أخرى!

تبوح هي أيضا في يسر! لو كانت في الدنيا لما جسرت على البوح! عادت باحثة عنه. لاتتصور أن ذلك كان سهلا! ركبت باصين! في المرة الأولى كان البيت موجودا، وستائر النافذة ماتزال هي نفسها تلك الستائر المطرزة. ولكن ماذا يمكن أن أفعل؟ هل أقف مقابل بيتك حتى تظهر؟ ضحك: كما وقفت أمام المدارس! قالت: لاأستطيع ذلك! لكني عبرت الطريق مرتين وأنا أحدق في الأرض كأني أبحث عن شيء ضاع مني! فنادتني امرأة من النافذة: يابنتي، ماذا ضيعت؟ قلت لها: قلم الحبر! فأرسلت ابنتها لتبحث معي عنه! عبرنا الطريق مرة ثالثة.. ولم نجد القلم!! ابتسم: كنت أبحث عنك في أمكنة بعيدة، وأنت تبحثين قرب بيتي عن القلم!! عادت فيما بعد إلى هناك، لكن البيت نفسه كان قد طار، ولم تلمح في أية نافذة من البناء الجديد الستائر المطرزة، ففهمت أنه ضاع.

كان يمكن أن يصادفها أو أن تصادفه في مركز البلد، في الشعلان مثلا، في سوق الحميدية مثلا.. لكنهما لم يلتقيا أبدا. كان يقال: الدنيا صغيرة! لا، أقول: الآخرة صغيرة! تضحك ويضحك! قالت لي أمي: عيناك زائغتان! لو لم أكن أعرفك، لقلت إنك تبحثين عن شخص! سألني أبي وأنا أركض إلى النافذة: أيذهب بعقلك صوت امرأة؟! ركضت يومذاك إلى النافذة لأني سمعت صوت ضحكة خيل إلي أنها ضحكتك! كان ذلك بعد عشر سنوات على فراقنا. بعد عشر سنوات تتذكر ضحكتي التي سمعتها مرة واحدة؟ ستسخرين مني إذا اعترفت لك بأني رفعت غطاء التابوت وأطللت منه وقت سمعت صوتا يشبه صوتك!

ياللمبالغة! لكن اعترافه ممتع! مرت سنوات طويلة دون أن تسمع مثل هذا الحديث الشيق! جلست على حجر تحت شجرة سرو، وجلس قربها. وتذكرا ذلك اليوم الأول. كانت تمشي مع رفيقتها، راجعتين من المدرسة. كانت تلبس مريولا أزرق، وجوارب قصيرة بيضاء، وكانت على رأسها شريطة بيضاء، وحول رقبتها قبة بيضاء مطرزة. كانت تحمل دفاترها بيدها. كان ذلك آخر يوم من أيام السنة المدرسية، والصيف مايزال طويلا أمامها، وماتزال تتوهم أنه سيتسع لما تعجز عن استيعابه مئات السنوات. لم تكن تحتاج إلى قصة مضحكة كي تضحك. وقتئذ رنت ضحكتها، ضحكة سمعها من غرفته التي تطل على الطريق. كأن نافورة البيت فتحت فجأة! كأن أمه غنت فجأة! كأن جارته أمسكت بالعود فجأة! مدّ نصف جسمه خارج النافذة ليتابعها وهي تمشي مع زميلتها. وظل ينتظرها حتى انتهى الصيف وعادت إلى مدرستها.

صار يركض ليتجاوزها. يسرع ليعود ويعبرها وجها لوجه. لكنها لم تنتبه إليه! فانتظرها مرة في نافذته حتى مرت تحتها، وعندئذ رمى عليها قرنفلة حمراء. تدرب زمنا طويلا، واستعان بزميله كي تسقط القرنفلة تماما أمامها. تدرب حتى اتسخت القرنفلة! في البرهة المنتظرة قطف من الإصيص أجمل قرنفلة وجلس ينتظرها. ونجح! وقعت القرنفلة الحمراء أمامها تماما. رفعت رأسها، متلفتة تبحث عمن رماها. آه، لاتنتبه إليه، تبحث في اتجاه آخر! مدّ نفسه من النافذة وقال: أنا! أنا رميتها! فضحكت، ضحكت، ضحكت وهي تنظر إليه. ثم وضعت ذراعها في ذراع زميلتها ومشت مبتعدة!

لم ترفعي رأسك إلى النافذة فيما بعد أبدا! لم أرفعه، لكني كنت أنظر من بعيد إلى نافذتك! لم ترفعي رأسك أبدا حتى عندما كنت أمد نفسي منها! قالت: كنت أسمع أمك تحذرك: ستقع ياقيس!! ضحكت، ضحكت، ضحكت وهي تنظر إليه: هانحن التقينا أخيرا! يكاد يشعر بالحزن وهو يرد: هنا؟! ضيعنا هناك، لنكسب هنا؟! ابتسمت. الحزن ممنوع هنا، وكذلك الندم !


http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:26 AM
القصص القصيرة للأديبة

http://www.syrianstory.com/glitter.gif 8 http://www.syrianstory.com/glitter.gif

امرأتان في مملكة الصمت


جرّت صاحبتها:

لماذا لاتريدين العودة إلى الحياة؟

مرة أخرى؟ لا!

وتأملتها هالة وهي تسحب يدها وتنظر إلى سكان مملكة الصمت. أتفترقان بعد عشر سنوات من الجيرة؟ تركتها تنصرف إلى ماحولها ذاهلة. وخمنت ماتفكر فيه. نعم، انقلب الناس فجأة، كأنهم خبأوا رغبات سرية، دفنوها في أعماق بعيدة!

نودي أمس في مملكة الصمت: "من يرغب في العودة إلى الدنيا بشكل آخر، فليقف في الجهة اليمنى! ومن يرغب في انتظار الصراط والحساب فليقف في الجهة اليسرى! في السادسة صباحا تفتح نقاط العبور!" نظرت هالة إلى يمينها، ففاجأتها جموع الراغبين في العودة إلى الحياة. هرع إلى هذه الجهة حتى اولئك الذين عاشوا دهرا في مملكة الصمت وألفوا قوانينها، وشفيوا من الغيرة وحب المال وزينة الدنيا. قالت لصاحبتها: ياأمل، هذه هي الحقيقة! فنظرت أمل إليها عاتبة: أمس لم تكن هذه هي الحقيقة! وأنت أيضا لم تكوني هكذا! بماذا ترد؟ صمتت وتأملت صاحبتها، وتابعت مايشف من أفكارها.

عادت إلى أمل تلك العاطفة المنسية، الذهول. كانت القاعدة أن الامتحانات الصعبة في الدنيا. وأن امتحان مملكة الصمت الصعب هو الأيام الأولى، وقت تكون الدنيا عالقة بعد بروح القادمين منها! "ما بال هؤلاء يتسابقون على العودة إلى تلك المهجورة وقد نجونا من بريقها!" التفتت وفحصت الوجوه حولها. أبمثل هذه السرعة تغيرت ملامح الأشخاص الذين عرفتهم؟ تبدلت حتى قاماتهم وحركتهم، فبدت فيها الرغبة في الانتقام، والشهوة إلى المال، والعطش إلى المتعة. ورأت اولئك الذين كانوا يتنزهون أمس منصرفين إلى ضوء القمر في مملكة الصمت، يحاولون أن يتقدموا على أصدقاء الأمس ليأخذوا دورهم. بل سمعت حارس المقبرة يعلن لهم في ترفع: "لاتتزاحموا! الفرص كثيرة. لن يؤثر الدور على نوع مصيركم!" انتصر الحارس عليهم إذن! هم أنفسهم أعادوه حارسا، يأمر ويمنع!

نعم، عادت الرغبات! لذلك عاد التملق والنفاق والضعف والحسد! تذكرت أمل ماتركته في آخر أيامها في الدنيا، أيام قيل: "عصرنا يؤشر إلى انهيار القيم الأخلاقية والعواطف الإنسانية. يقتل الناس، تقصف المدن، ولايستنهض ذلك حتى الدفاع عن النفس!"

ياأمل، لماذا تستعيدين الآن كل ذلك؟ ألم نتركه عشر سنوات؟

تسألينني ياهالة، أنت العائدة إلى الدنيا!!

استدارت أمل! مسكينة! أعرف عم تبحثين! تبحث أمل عن الطرف الآخر المنسي، عن الذين اختاروا الصراط! لاتتبين أحدا منهم! فتقول لنفسها: لعلني لاأراهم.. تحجبهم عني كثافة الراغبين في العودة إلى الدنيا! لا، ياأمل! لاأحد هناك، لاأحد حيث تبحثين! يخجل حتى الراغب في تلك الجهة من الإعلان عن قصده! من يجرؤ على مقاومة هذا المد العظيم؟ من يجسر علىالايمان بأنه هو المصيب وهذا الجمع الكبير مخطئ؟!

تراجعت أمل خطوة إلى الوراء! قالت لنفسها: ياللهول! ووضعت كفها على عينيها! أيفسد الناس حتى هنا! أينهارون بنداء واحد فقط؟ أتفقد ويفقدون حتى هذا المكان الآمن الأخير؟ جرتها هالة. فسحبت أمل يدها: إلى هناك مرة أخرى؟ لا!

في آخر الأيام هناك سهرت أمل الليل كله تفكر في حياتها. قالت لها بنتها: تركت الجامعة! لافائدة من الدراسة! لن أقبل بعض الآلاف من الليرات في الشهر! سأبحث عن شغل يعطيني ماأستحقه! تستحقينه؟ هل اشتغلت زمنا، وتعبت، وتفوقت فصرت تستحقين أكثر مما تأخذينه؟ تريدين القفز إلى فوق دون تعب؟ آه هذه الشابة، أيضا، تريد من أول العمر الوصول إلى آخر درجات السلم! هذه الشابة، أيضا، تبحث عن الجني السريع وترمي الهوى ولذة التعب! لم أكن أقوى من الدنيا لأغريها بغير ذلك!

اأمل لاتستعيدي ذلك! في أول لقاء بيننا هنا حكيت لي عن خيبتك. ثم شفيت كما يشفى سكان مملكة الصمت! في تلك الليلة فوجئت أمل بعقل آخر لاعلاقة لها به. لم تعرفه ؟ بل لم تعترف به! خيل إليها أنها ستلجأ إلى ابنها. لكنه رجع في تلك الليلة متأخرا. ورأته يربط عصبة على رأسه. من أين استوردت ياابني هذه العصبة؟ وتضع قرطا في أذنك؟ فلتجعل شعرك ضفائر كالبدو القدماء، كي أشعر بأنك نبتة في أرضك!! أرضي؟ أنت ياأمي من زمن آخر! لاتشعرين بأننا في زمن بعده! همك العمل! هواك: "بلادي"! لاتوجد بلاد مغلقة اليوم! هذا زمن اللاحدود! قولي لي بماذا كافأك بلدك؟ وبماذا أفادك هواك؟ ركض الناس أمامك وسبقوك. بنوا البيوت وبدلوا السيارات على حساب بلادك! تجولوا في الدنيا على حساب بلادك! غيروا "بلادك" وأنت تحملين صورها وتركضين! تركضين إلى الخلف! بلادك صورة في خيالك، لم تعد توجد في الواقع! آه، من رأى شابا لم ينبت شاربه بعد يكلم أمه هكذا؟ شابا يدين زمنا لايعرفه، وينتسب إلى زمن لايعترف به؟ ماذا قدمت من عمل كي تصبح ذا آراء، ياابني؟ مازلت تأكل على سفرة أمك ياحبيبي! نسيت ياأمي كلماتك؟ كنت تقولين: الرأي حق الإنسان؟ تحاربني إذن بكلماتي وفكري ياابني؟ هذه موضة العالم اليوم! من فؤادي قتلوني ياحبيبي! لكني رفضت الموت! رفضت الهزيمة هناك. لم أعرف أنك طريق الهزيمة الآخر إلي! هربت منك الحياة ياأمي وأنت تبحثين في الهزيمة والانتصار!

سهرت أمل يومذاك حتى الصباح. كان يصعب عليها أن تعترف بأنها مهزومة. لاتوجد هزيمة قبل المعركة الأخيرة! وقبل الموت لاتوجد معركة أخيرة! لكنها يجب أن تخرج من الحفرة! أشعلت الضوء، وتذكرت الدنيا التي بنتها قشة، قشة. تذكرت حتى الأيام التي كانت تشتهي فيها النوم ورأسها يسقط فوق مكتبها، وهي تنهض على رؤوس أصابعها فتغسل وجهها بالماء البارد لتصحو، وزوجها وطفلاها نائمون. تذكرت اندفاعها وحماستها في البيت والشغل. كانت تردد وهي تلهث أن الحياة أكثر سعة من الولد والزوج. وأن الحياة الواسعة هي التي تغمر بيت المرأة بالحب.

خيل إلى أمل في تلك الأيام أن الدنيا الواسعة انفجرت. "في عمري لن تعود! ستعود فيما بعد!" ولكن لماذا ينفجر بيتها؟ لماذا تنهمر فوقها حجارته وتسقط فوقها أشجاره؟ قالت: الناس كالعالم، يتسابقون على الانتحار. لايفخرون بما فيهم من جمال، بل بما فيهم من بشاعة. كأن الحياة تهرب منهم فيحاولون أن يصيدوا مالهم ومالغيرهم فيها! يدعس الواحد منهم على الآخر ليأخذ لقمة زائدة، وليرتفع مقدار إصبع!

ومع ذلك لم تترك الحياة إلا يوم شعرت بأنها أصبحت دون مكان. قالت: لاأحد يحتاجني، لافي البيت ولاخارجه! يجب ألا آخذ من الشمس والهواء حصة آخر! يومذاك، فقط، ماتت.

سحبت أمل يدها من يد صاحبتها:

لاأريد العودة! لافائدة من العودة في شكل آخر إذا كانت إلى تلك الدنيا نفسها!

لاتبقي هنا ياأمل! أمامك فرصة لتختاري حياة جديدة! اختاري أن تكوني شجرة أو طيرا، إذا مللت مصير البشر! انظري! يرحلون كلهم إلى الدنيا! فهل تبقين هنا وحيدة؟

سحبت أمل يدها مرة أخرى:

سأبقى هنا، وستعودون إلي! وأدارت إلى الجمع ظهرها.

تأملتها هالة. نظرت إلى ظهرها المستقيم. كانت أمل تمشي في الاتجاه المعاكس وحدها. تجري بكبرياء في مجرى مستقل، ضيق، بجانب مجرى هادر يتدفق عكسها. بدا ظهرها المستقيم وسط جمع يحاول الواحد فيه أن يتقدم على الآخر. وشعرت بأن تلك المبتعدة أقرب إليها من هؤلاء المتسابقين على العودة إلى الدنيا. لكن قرارها، هي أيضا، كان حاسما.

في الليلة الماضية بعد أن سمعت المنادي يغري سكان مملكة الصمت بالعودة إلى الحياة، فكرت بالدنيا القديمة التي تركتها. وتبينت أن عشر سنوات في مملكة الصمت قد انتهت في برهة. عاد إليها كل ماتركته. شعرت بالرغبات القديمة نفسها، بالخيبة القديمة نفسها، وبالأفراح القديمة نفسها! مشت في الممرات التي هجرتها عشر سنوات. وأدهشها أن تتبدد مملكة الصمت التي بدت لها مستقرا هادئا، حلما يصعب حتى على الأحياء أن يرسموا تفاصيله. نهضت، ومشت في ضوء القمر. جلست تحت سروة طويلة. وتساءلت: أيمكن حقا أن أختار العودة إلى الدنيا؟ وأن تختار صاحبتي أمل مملكة الصمت؟! كان يفترض العكس! وعادت إليها التفاصيل..

كم كانت جميلة هناك! قال شيخ مرة وهي تمر قربه: سبحان الخالق! فابتسمت.. لم يبق إلا أن يحبها شيخ! لم لا؟ ماأكثر الذين أحبوها! في الليلة الماضية تذكرت ثلاثة رجال منهم. وانصرفت إلى استعادة التفاصيل. في البرهة الأخيرة كان يحدث مايباعد بينها وبين المحبوب. لكن قبل ذلك.. كم كان الحب جميلا، وكم كانت مرغوبة! استسلمت للصور، وغمرتها متعة ناعمة كالمخمل.

خففت من الضوء. وبدأت تكتشف أن يده تلتهب كلما صافحته. وعرفت أنه قال لأصدقائه: مربوط بشعرها، تجرني أينما شاءت وأتبعها مطيعا! كان يبدو سعيدا، منتشيا، وهي تمشي إلى جانبه. وكان يظهر أنه فخور بها. تحدق الآن فيه، تتأمله، تفحصه. ثم تقول: كان حبه حقيقيا! لكنها كانت صغيرة خلية البال، وكان هو مرهقا. عاش ضعف عمرها. يوم أعلنت عن فرحها لأن فرش البنفسج نزل إلى السوق، وتحدثت عن مواسم ستظل تنتظرها، قال مسرعا: مازال العمر لك جديدا. أنا، تكاثر علي! لم يخطر لها أنه تساءل: يوم ينثني ظهري، ألن يغريها شاب في مثل عمرها؟ كان ذلك يوم استوقفه صديقه في الطريق وهي معه، فقال له معرّفا: الخطيبة! فلمحت في عيني صديقه ذهولا وخيبة.

كان فراقهما كالصاعقة، مفاجئا، سريعا، ومحرقا. صادفا مرة قريبتها. فعرّفته بها، لكنها لم تقل لقريبتها: الخطيب، بل قالت في احترام: الأستاذ! كيف التقى بقريبتها فيما بعد؟ كيف أرسل أهله إليها وخطبها؟ تجهل ذلك! أعلنت تلك الخطبة فجأة! يمر الآن موكب الألم أمامها. وترى نفسها وهي تكتم بكاءها. هل كانت حزينة على الحب؟ بل أكثر من ذلك! كانت مخدوعة، لاتستطيع أن تحتفظ حتى بذكرى المحبوب. كان يجب أن تمزق تلك القطعة من حياتها وترميها. بعد سنوات طويلة فهمت أن صفحات الحياة لاترمى. وتذكرت أنه جلس مرة أمامها وقال:هل ستحبينني بعد عشر سنوات؟ كانت صبية لاتعرف بعد تغير الرغبات. ولم تر من قرب الموت والشيخوخة. ولم تجرب بعد تحرر النظرة من المحبوب، وطيرانها إلى أفق ممتد بعده. أفهمها العمر فقط سطوة الرغبة، وقرار العقل. لكنها يوم فهمت ذلك رأت ذلك الرجل كما ترى حالة من الضعف. رجلا جرفه هواه، أحب شابة في عمر بنته، زين بها ياقته في زهو، ثم اختار بعقله زوجة لايمشي معها!

هل برأته، أو أبعدته، فيما بعد، كي تدافع عن ذلك الجزء من حياتها؟ بعد شهر من الفراق صادفته في الطريق، ورأته ينحني لها في احترام. كادت تضحك! وعبرته خفيفة الخطوة. وفهمت أنها طوته.

كان الرجل الثاني في مثل عمرها. طوله يناسب طولها. كانت تردد ضحكته ويردد ضحكتها. لم يظهر بالكلمات زهوه بأنها تحبه. سعادته بها كانت تظهر ذلك. لكنه كان ذاهلا أمام العالم. يوم أحبها كان كل منهما يعرف أنه مايزال يستند إلى أهله. ومازالت أمامهما سنوات من الانتظار. لابأس! فكل منهما موجود في أفق الآخر! ولكن لماذا كانت تبعد شعورها بأنه موثق وثقيل؟ كانت قدماها لاتمسان الأرض كأنها تطير. آه، من يجهل جمال الحب بين شابين في عمر واحد!

يوم افترقا تذكرت أنه قال مرة كأنه باحث: لايستطيع الرجل أن يضبط نفسه. لذلك قد يقيم علاقة عابرة ولو كان عاشقا. سألته مازحة: والمرأة؟ رد: المرأة من طبيعة أخرى! لم تتوقف عند حوارهما الخاطف، لأنه لم يكن الرجل الذي تحدث عنه، ولأنها لم تكن المرأة التي يجب أن يتميز عنها الرجل.

كانت واهمة! اعترف لها بأنه في غيابها خلال الصيف أقام علاقة خاطفة لم تمس حبه لها! سألته: من هي؟ اعترف.. صديقتها!

ابتعدت عنه. لايزال يحبها؟ ياللحب الذي لايصمد إذا غابت شهرا عنه! لكنها فكرت طويلا في تباين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة! طبيعة؟ قرر الرجال ذلك كي تزيد حقوق الرجل، فيلهو وهو مطمئن إلى "طهارة" امرأته. ويكون له دائما مأوى مفتوح الذراعين! هكذا يصبح الحب سجنا تقبله المرأة وينجو منه الرجل! لحقها. لكنها لم تلتفت إليه. وانشغلت بالتفكير: كان هذا الحب المكتوم الذي انثنى عليه شابان منسوجا إذن في العالم الذي ظنته منصرفا عنهما! تدخل العالم الغريب البشع إذن في حبهما! ولم يكن ذلك العالم هو ماحولها، بل جميع العوالم السابقة التي لم تعرفها هي وربما لم يعرفها أهلها! تبعها. لا! لاأريد قطعتين! أحكم أنا فؤاده، وتحكم الطبيعة سلوكه! وقالت لنفسها: نجوت! وابتعدت عنه وهو مايزال يتبعها. كفى! قال: أيتها الهاجرة! آه، إذن أنا الهاجرة!

عندما أتى الحب الأخير فحصته من بعد بكل مالديها من المقاييس. راقبت لهفته وخيبته وأساه. تركته يلوب حولها. لم تكن مستعجلة. وكم كان مجنونا وهو يعلن حبه! وقف مقابل بيتها والثلج يهطل. قال الجيران: مجنون.. أو مكلف بمراقبتنا! رأت فوق رأسه قبعة من الثلج، وقالت هي أيضا: مجنون!

ثم عادت الأشواق تبدل مقاييس الأيام، وتمد الساعات، وتسمعها أصواتا في رعشة الغيمة على الشفق، وفي تنفس الأشجار، وفوح الزنبق، ورنين القمر. وعاشت سنة مع مواسم المضعف والنرجس وزهر الليمون، مع المطر والزعتر والطرخون. وبدا لها الباذنجان رائعا، ونضارة الكوسا مدهشة. أصغت في متعة حتى إلى صوت الحنفية التي تقطر. وأصبح العمل ممتعا، ولكل من الساعات معنى. سألته مرة مازحة: إلى متى ستحبني؟ قال: حتى ينتهي عمري! فابتسمت. من يحكم مغيبه! لكن جوابه ممتع!

لم يعترف لها. اعترفت لها صديقتها! باحت لها بأنه يحبها! روت لها: قال لي سأحبك حتى ينتهي عمري! وسألتها: مارأيك فيه؟ رأيها؟ ليست لديه كلمات جديدة يقولها لحبيبة جديدة! مسكين! تسألها رأيها فيه؟! رأيها فيه أمس أم اليوم؟

لم تشعر بالحزن عليه. حزنها أكبر منه! فقدت الثقة.. بالمواطن! جرى حوار بينها وبين نفسها، قالت:

تقصف القنابل المدن، ويتفرج العالم كل مساء على حرائقها وهو يتناول عشاءه، كأنها موقد! فهل تسلم روح الإنسان وعواطفه؟ يتراكض الناس، وخلال الركض يدعسون فؤادهم..

تبرئينه ؟

لا! أفسر لماذا ينهار الضعفاء. يتصورون أنهم إذا ركضوا يستطيعون أن يخطفوا قطعة من الحياة. يعجزون، فيتناولون امرأة إضافية.. لايعرفون أن الحصص مقدرة، ولن ينالوا إلا ماقرر لهم!

لكنها يومذاك تبينت أن المحبين لايبتعدون. يختارون صديقة حبيبتهم أو قريبتها. وتذكرت أن زميلتها في المدرسة أحبت شابا أحبها ثم تزوج صاحبتها. وأن جارها أحب الأخت الكبرى لكنه تزوج الأخت الصغرى.لابد من سبب لذلك..

لم تجد الجواب على سؤالها في الكتب. طبعا يجب أن تبقى بعض جوانب الإنسان مجهولة! وإلا لما استمرت الدراسات. يجد أساتذة الجامعات صعوبة في اختيار موضوعات لطلابهم. فإذا لم يضطرب العالم وتنهار الروح كيف يجدون موضوعات للبحث العلمي!

وجدت الجواب صدفة، وهي تلمح فلاحا يستند إلى الحائط وزوجته تفرش البرغل على السطح. قالت: ربما كانوا مثل هذا الفلاح! لاهمة للمحب، لذلك يتناول القريبة من يده! بذل الجهد في الحب السابق، ولايستطيع أن يكرر ذلك! عند المرأة التالية، يهمد، يستقر، وهو متوج بالمجد، مزين بوسام الحرب الذي يشهد على جنونه. لايستطيع أن يعيش ولهان طول عمره!

ــ ربما، ربما. لكن يبدو لي أن في الرجل المعاصر أزمنة سابقة، قد يكون منها عصر العبودية، وقت كان يملك زوجته وأخواتها ويملك حتى بناته!

ــ لاأشعر بأن في روحي عصور العبودية! أشعر بأن فيها أزمنة لم تصل بعد !

خيل إليها يومذاك أنها على ذروة جبل تشاهد منه الناس من بعد وتفحص حياتها وحياتهم. لم تشعر بالغيرة، بل شعرت بالأسى لأن اولئك الرجال يتبددون. يمضون دون أن يتركوا ذكريات. وهم؟ هل يستطيعون أن يخرجوا من صناديقهم صورا تؤكد أنهم عاشوا، يوم يصبح العمر وراءهم، ولاشيء يثبت أنهم عبروا الحياة غير مايتذكرونه ومن يتذكرهم؟

أدهشها أنها لاتستطيع أن تستحضر أي لقاء به. لم توفق حتى في استحضار ملامح وجهه! لكنها من تلك الذروة وصلت يومذاك إلى مملكة الصمت.

فلماذا تترك هذه المملكة الهادئة، وتعود إلى هناك؟ لترى الشيب والقامات التي ضمرت حيث كان الشباب؟ لترى محبيها مع صديقاتها؟ لتنوس مرة أخرى بين الأشواق وبين المرارة، وتذوق الأرق وتنتظر أن ينتهي الليل؟ أتعود لتنحني على عملها مجدة تلهث، والمدللات يعبرنها إلى الصف الأول؟ أتعود إلى العالم الذي تركته متفرجا على الحروب وحرق المدن، وهو يكوم كل مساء القتلى والجرحى وضحايا الحوادث واللصوص؟ ويعلق على جدرانه صور الرجال المسؤولين عنه وهم يبتسمون للمصورين؟

لماذا تعود إلى هناك؟ ليعصف بها الوجد مرة أخرى، لتطير بالفرح وتسقط بالحزن، تغلق نوافذها مغبونة غاضبة، ثم تفتحها لتلتقط طرف شعاع القمر، وتستدعي شدو العصافير الدورية، وتغري بفتات الخبز بقايا الشحارير المهاجرة؟

تبينت هالة أن ظهر صاحبتها أمل يبتعد لأنها هي أيضا تمشي.. تمشي مع الجمع في الجهة المعاكسة. تمشي مع ناس يركضون إلى انتقام منعهم الموت عنه، إلى مال لم يكن لديهم الوقت كي يخطفوه أو يسرقوه. وهي؟ تمشي هادئة، خفيفة، إلى عملها الذي غابت عنه، إلى الغبن الذي ستشعر به، إلى الأرق وغدر المحبين..

تنتهي الآن عشر سنوات في مملكة الصمت، حيث مشت في ضوء القمر بين السرو، ورف ثوبها الأبيض في نسيم الليل. لكن ذلك لم يكن قمر الشتاء الذي سعت إلى السطح لتلقاه، وأهلها حول المدفأة يشوون الكستناء. وقصدته في فناء البيت، ومدت جسمها إليه من الشرفة، وهي بقميص أبيض تجمع قبته العالية ضوءه الناصع، وارتعشت من البرد والوجد وهي تسمع رنين أجراسه! عاشت في مملكة الصمت عشر سنوات هادئة كسماء رائقة، دون رعشة في القلب، دون لهفة، دون أشواق. كان ذلك هو الموت!

مشى الجمع إلى نقاط العبور، مشغولا بالمشروع الذي سيضيع به حياته مرة أخرى. بما سينفق فيه أيامه، ويخسر به عمره وهو يتوهم أنه يكسبه. ومشت هي مفتونة بالعودة إلى شمس الشتاء في يوم صاح، لتكتشف أول بنفسج في الحوض، وتتفقد البراعم المبكرة في شجرة الخوخ، لترسم الغيوم على السماء، لتستبقي غروب الشمس، لتقف على الحدّ بين النهار والليل، والضوء يتقدم بكل مافيه من وهج، والليل في جانب من السماء مبهور به.

- أعود إلى هناك!

عند نقطة العبور بين مملكة الصمت والدنيا، أجابت حارس الحدود:

- أعود كما كنت، بالإسم نفسه!


http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:35 AM
http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

أعاصير في بلاد الشام

رواية

مقدمة
بقلم الكاتبة: د. ناديا خوست

تستند هذه الرواية إلى شهادات شخصية، وإلى موسوعات ووثائق ومذكرات وكتب تاريخية.
لكن كل مايعبر رؤية الروائي يتلون بألوانها. تلونت حتى الشهادات بهوى رواتها. ولعل في المذكرات التاريخية نفسها أطياف من رؤى أصحابها. لذلك قاطعتها بالوثيقة، كيلا يسجل المؤرخ أن مناخ الرواية وأحداثها غير صحيحة. مع أني لم أقصد تأليف رواية تاريخية.
لكني أبحت لنفسي أن أستقرئ وأن أشيّد الممكن والمستحيل، بحقوق الروائي الذي يريد أن يصوغ مثلا جميلة ومؤثرة، وخالدة أكثر من أصولها وظلالها. مندفعة برغبتي في أن تكون محبوبة. وأترك للمختص البحث في الصلة بين النماذج وأصولها، بين الوثيقة وأدائها، بين الحقيقة الفنية والحقيقة الواقعية.


http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif
http://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:37 AM
- 1 -

عاد إلى مدينته! لا، عاد إلى إحدى المدن التي عاش فيها! مدينته مطمورة تحت التراب. ولاتقع في جزء الخريطة الذي قد يفاوض عليه! استخرج فيها من رماد القرون مسرح من الزمن الروماني، وفسيفساء، ونقود أموية. لكن عقد بيته والشرفة التي تفرج فيها على غزالة الراجعة من العين، والفونوغراف الذي سمع به أغنيات أسمهان لن تستخرج من أنقاضها.

هل كان من قرب ومن بعد يحوم حولها متنقلا بين بلاد الشام واوربا لاجئا من اليأس أو الشوق؟ لو بقيت لخرج منها كالشباب الذين يقصدون المدن الكبيرة، يتبع عطشه إلى الدنيا. لقصد المدن التي قصدها أبوه دون أن يتاجر بالغنم مثله، باحثا عن النساء محاولا أن يمسك بجوهر الحياة، يتصور أنه يزيد عمره وهو ينفقه. ولاستمتع بكل عودة إلى بلدته الصغيرة، حاملا حقيبته على حضنه في سيارة تنط وتترنح على الطريق الترابي، وإذ ينزل منها بين أشجار الزيتون تكون النساء قد لمحنه وهن يبعدن الشمس بأكفهن عن عيونهن، ويكن أرسلن صبيّة تركض لاهثة لتعلن لأهله ولكل من تصادفه: رجع! رجع! فتنطلق الزغاريد ويخجل قيس بها، ثم يستسلم لأفراح لها طريقتها في التعبير عن فورانها. لن يصبر! سيخرج إلى البيادر والبساتين متفقدا طريق العين، باحثا عن الصبايا اللواتي لمسهن أو قبلهن أو نظر من بعد إليهن. سيأتي حشد منهن في ذلك المساء. وسيقرأ طموح الأمهات: لو يطلب بناتهن! لن يسألن عن النساء اللواتي عرفهن في غربته، فأي رجل لايفعل ذلك! سيكتفين بما ترسمه أمه وكأنه كان بطلا وحيدا في البلاد البعيدة، ناجحا ومحترما ومعشوقا، حتى أن تلك البلاد نفسها لم تتركه يفلت منها إلا بعد إصراره على العودة إلى بلدته العزيزة! سيصدقن كل ماترويه وهن يحاولن أن يرسمن بصورهن الخاصة البلاد التي كبر فيها وتجول في طولها وعرضها. وسيستقبلنها في احتفال وهي تبحث له عن عروسه التي وصف لها تفاصيلها المرغوبة !

لكن ذلك لم يكن مصير قيس! وصل إلى مطار رأى فيه موظفين جديين، ولم يسمع الزغاريد. كان المعسكر الاشتراكي قد ألغي فلم يعد قيس مشبوها بل أصبح مواطنا في بلاد صارت كلها ضحية. وصل في الزمن الذي كان اليساريون فيه لايزالون يفسرون الانقلاب العالمي كأنه إصلاحات ضرورية، ويشعر القوميون والمؤسسات الرسمية فيه بأن كارثة نزلت بالدنيا، أفقدتهم سندا يتكئون عليه ولو لم يحبوا طرازه. غرب ثلث الأرض وبدأت العتمة! فشعر حتى "رجل الشارع" بأن الكون يترنح. وصل قيس وقتذاك فأصبح استجوابه جلسات يفسر فيها ماحدث لمستمعين يريدون أن يعرفوا التفاصيل علّهم يستنتجون مصير بلادهم الصغيرة. ألا يبدو أنها عاشت بالتوازن بين اليمين واليسار وبين الغرب والشرق لأنها ليست بعد "معسكرا" قوياً !

مرض قيس منذ أول أيامه في الدنيا. كي ينجو، نصح الشيخ أباه بأن يبدل اسمه فيتغير نجمه، فسماه قيسا! كان أبوه كأهل بلاده مسحورا بهوى قيس الذي رددته ألف سنة مديدة. مفتونا كالرجال بهوى ليلى التي يحبها الرجال لكنهم يتزوجون أخرى، يعشقونها وهم يعرفون أنها لايمكن أن تكون زوجة. قال لابنه وكان بعد صبيا: ياقيس، النساء زينة الدنيا. لكل امرأة مذاقها. اسرح بينهن لكن تزوج امرأة صغيرة لم يقبّل فمها غير أمها، ولتكن لك منها أسرة. لاتبخل على زوجتك بحقها فيك! ولكن لاتقصّر على نفسك في حقوقك! ولتكن غنيا فدون مال لن تأتي النساء إليك ولن تستطيع أن تدللهن!

نفذ قيس وصية أبيه؟ روحه دعته إلى ذلك! هام قيس القديم في الصحراء، لكن المنفى فتح لقيس الجديد مدى واسعا كي يهيم. عرف فيه اللوعة وهو سعيد بالنساء. لذلك كان معهن رقيقا وفظا. ولو عاد أبوه الآن لقال له قيس: يابا، كثرة النساء لم ترو العطش إلى الحبيبة!

هل أراد قيس أن يودع ثلاثة عقود من عمره في مقهى ماريا؟ أحب ذلك المقهى المزين بصور الفنانين والكتاب الذين جلسوا فيه، وجمع المرايا والثريات في الطابق العلوي، إلى المقاعد الخشب في الطابق الأول. كان يجلس فيه كل يوم ولو قليلا. ومنه التقط المرأة التي فرط لها تسعا وتسعين وردة حمراء. كم مرة التقى هنا بطوران روبرت زميله في قسم الفلسفة! كان في الصف عشرون طالبا من اليهود وطالب واحد غير يهودي. كانوا يستعينون بقيس في الدروس. فقال قيس لطوران روبرت مرة: تدّعون أنكم الشعب المختار مع أنكم لستم أكثر ذكاء منا. هاأنت مثل زملائك تستعين بي! غاب طوران سنتين. أدى الخدمة العسكرية في إسرائيل. فسأله قيس:

- أنت ابن هذا البلد أم من إسرائيل؟

- لاتعرف ياقيس أن إسرائيل نفسها لنا؟ في هذا البلد ولد هرتزل ونوردو. ومن هنا أكثر قياديي إسرائيل! اسمع ياقيس! لك أنت قرية في فلسطين. لكن لي جبل كامل هو جبل طرعان!

- مع ذلك لم تبق على الجبل! لماذا عدت إذن؟

- عدت في مهمة ثقافية.

- مهمة ثقافية أم تجسسية؟

- ثقافية ياقيس. ثقافية! مهمتي أن أجمع كل كلمة تكتب عن الشرق الأوسط. وسأرصد كل رصاصة يمكن أن ترسل إلى بلد عربي!

كان طوران يقصده كلما رآه في مقهى نرسيس قرب الجامعة. رأى حذاءه مرة ملوثا بالوحل فسأله: أين غطست؟ فسر له قيس أنه يعبر منطقة موحلة من بيته البعيد. بيتك بعيد؟ هل تريد بيتا في وسط البلد؟ أستطيع أن أؤمنه لك في أسبوع! تأمله قيس. له مثل تلك السلطة؟! كم الخرق متسع إذن! أبعد قيس نظرته عنه إلى فتاة جميلة مرت. فسأله طوران: تريدها؟ تكرر ذلك في مقهى ماريا أيضا. نادى طوران الفتاة التي نظر إليها قيس: تعالي، يريدك قيس! جفل قيس: ياسيدتي، نتحدث حديثا خاصا سنكمله أولا! عادت الفتاة إلى طاولتها. وسأل قيس طوران: هل أنت موساد، مهمتك أن تقدم البنات اليهوديات لمن يريدهن؟ ياطوران أعرف أن راكوشي اليهودي الذي عاد بعد الانتصار على النازية صفى قيادة الداخل، قتل رايك ووضع اليهود في المراكز القيادية "لأنهم الوحيدون الموثوقون". لكني أتساءل هل ستلعبون الدور نفسه الآن؟ ضحك طوران:

- لك نظرة استراتيجية ياقيس! أنا معجب بك! تعال معي لنلتقي بشينغري ايرفين! صار صاحب دار نشر!

- كما أصبحت أنت مخرجا مسرحيا في أشهر مسارح البلد؟! لاأريد أن أراه!

- لم تنس أنه حارب العرب في سلمة قرب يافا؟ لكنك لم تقصر فيه. قلت له لاتهاجم النظام الاشتراكي لأنكم أنتم تحكمون فيه.

- لو كان هناك نظام اشتراكي حقيقي لاعتقلك!

- نحن لسنا أكثرية هنا، ياقيس!

- صحيح! النور أكثر منكم عددا. قوتكم كيفية وليست كمية. تحكمون المال والفكر والسياسة!

مر بالمقهى فيكتور الذي انحاز ضد تيتو ذات يوم وهرب من يوغوسلافيا. وكان مختصا في الشؤون العربية. ويسر له قيس السفر إلى لبنان والأرض المحتلة مرات. زار إسرائيل وكتب عن العرب. وضع فيكتور الرسائل التي وصلته على الطاولة الصغيرة أمام قيس: اقرأ: "أتى اليوم الذي ستعلق فيه على المشنقة أيها الفاشي عدو الساميين"! يهددونني أيضا بالهاتف! اشترى اليهودي ميكسا روبرت، يعني روبرت ماكسويل، الجريدة الناطقة باسم الحكومة. وضع رئيسا لها يوسف كوفاتش وطردني منها في اليوم نفسه. لم يجلس فيكتور وقتا طويلا. لايستطيع أن يبقى في مكان واحد! هل سنلتقي ياقيس مرة أخرى؟ ربما، ربما!

مر بالمقهى بعده غابور ناج الذي يحب العرب. كان رئيس قسم العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية. أخذ مكانه اليهودي يوسف كوفاتش. وطار هو إلى أعلى فصار نائب وزير الخارجية، ثم أبعد سفيرا ثم طرد. ماهو مصيري؟ أبحث عن عمل! ربما نلتقي ياقيس مرة أخرى!

أتى صديق قيس المحبوب، جورج ماكاّي. يهددونك أيضا؟ اسمع ياجورج. يصر الصهيونيون على تبرئة اليهود من دم المسيح، مع أن بطرس بين في إنجيله بصراحة أنهم سلموا السيد المسيح. فإما أن الإنجيل الذي تدرّسه الكنيسة كاذب، وبطرس كذاب، ويجب أن يلغى حتى اسم كنيسة القديس بطرس مركز البابا في روما. أو أن الكنيسة مخترقة بالصهيونية. قال ماكاّي: صحيح! لكني لاأجرؤ أن أكتب عن ذلك. لو كتبته هل أجد من يشنره؟! ربما نلتقي ياقيس ذات يوم! ربما! كان جورج ماكاّي مستشارا للشؤون العربية في اللجنة المركزية كان!

لمح طوران وهو يدخل إلى المقهى جورج ماكاّي فلم يقترب من قيس إلا عندما ابتعد ماكاّي. سأل قيسا وهو يجلس إليه: استمعت إلى خائن الشعب اليهودي؟! فليجد الآن من ينشر كتبه! وهل كانت تنشر كتبه حقا ياطوران؟! كان كتابه ينزل إلى السوق فتجمعونه في اليوم نفسه! وهكذا تفعلون حيثما تستطيعون ذلك. لكنكم تصرخون إذا مسّ النسيم قبر يهودي. فيالحرصكم على الحرية! كتب جورج ماكاّي عن آنا سينتش بطلتكم! نسيت ذلك ياطوران؟ يذكّره قيس بتآمر المنظمة الصهيونية على اليهود! كانت آنا سنتش من القلة التي رحّلت بالاتفاق بين ايخمن النازي وكستنر الصهيوني، شرط أن تمنع المنظمة اليهود الباقين من مقاومة النازية. وصلت آنا سنتش إلى فلسطين، ونظمت في الكتيبة اليهودية، ثم أنزلها البريطانيون بالمظلة في منطقة الريف الجديد، ووصلت إلى كستنر في بودابست فسلمها للنازيين الذين عذبوها حتى الموت! مع ذلك انتخب كستنر نائبا في إسرائيل. لكنه اغتيل خلال محاكمة ايخمن كيلا يكون ممن يمكن أن يعترف ايخمن بتعاونهم معه. فهم طوران مايقصده قيس! لكنه معجب بمتابعة قيس تلك الدقائق. ياقيس، لاتضيع وقتك في الحقد! أحبك، لذلك أقول لك ارحل اليوم قبل الغد! صارت هذه البلاد لنا! انتفض قيس. قيلت هذه الكلمات نفسها لأبيه وقيس مايزال في المدرسة ومايزال يسكن في بيته وبلدته! قالها لأبيه في فلسطين صاحبه اليهودي يوسف. ياطوران، يبدو أنكم لن تتركوا لنا إلا خطا أرقّ من حدّ السيف!

هكذا ودع قيس أصحابه وأعداءه. فماذا يستبقيه؟!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:38 AM
- 2 -

هل فهم قيس حدس الأنبياء وبصيرة المنجمين يوم قال: مابدأ به الثوار نسيه السياسيون فكان هذا الخراب؟ أم توحّد كالصوفيين بما يفكر فيه ويحبه فشعر بوهنه! قال لأبناء بلده في المقهى: أمّنت الاشتراكية للإنسان العلم والمسكن والصحة والراحة والثقافة. إنجازها الأمان! امشوا في الشوارع حتى الصباح! لكن كل ذلك الآن في خطر. في هذا البلد الاشتراكي متحف هرتزل ومتحف نوردو الصهيونيين العنصريين! تتدفأ الصهيونية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بأن اليهود ضحايا النازية. تملك الإعلام والسياسة وربما اللجنة المركزية! يوم ينهار الاتحاد السوفييتي سيسبقه هذا البلد في الانهيار. قال له رئيس الوفد الزائر: كلامك خطر، وقد يرميك في السجن! رد: ليتني مخطئ وليكن مصيري السجن! فالبلاد العربية والفلسطينيون سيخسرون سندهم العالمي إذا سقط المعسكر الاشتراكي!

انتبه عبد الله قبل عقود من السنوات إلى قدرة قيس على قراءة الزمن. قال: تتجاوز نظرته الشاملة التفاصيل إلى الجوهر، وتلخص في دقة المسار الممكن. كان قيس وقتذاك في السادسة والعشرين، يحتاج أن يرعى موهبته، وأن يحميها فيه الآخرون. لكن عبد الله قتل، وتشرد قيس. فبقيت تلك الموهبة له حدسا يستمتع به أصحابه. يوم حلمت ياقيس بأن أبا محمد اغتيل في رأسه برصاصة الموساد، فنهضت من فراشك لاهثا وقلت في ثقة: لابد أن الاغتيال حدث، كان الاغتيال حقا قد حدث. لكن الكارثة التي تتنبأ بها الآن لاتصدق! رد قيس: بل صدّقوا! لم ينجح تدمير المعسكر الإشتراكي من الأطراف، من برلين وبودابست وبراغ. لذلك سيدمر من المركز. ليس مسار التاريخ مؤامرات. لكن المؤامرة جزء مهم من التاريخ. في عصرنا تخطط الأحداث تخطيطا. وسنكون شهود كارثة آخر عقد من القرن!

لم يتنبأ قيس بخراب المعسكر الاشتراكي فقط، بل بخراب بيته الشخصي. يوم شعر بأنه عاجز عن تأسيس وطن، وعاجز عن تأسيس منظمة أو ناد أو تجمع، تصور أنه يستطيع أن يؤسس أسرة على هواه. نفذ وصية أبيه! فتزوج شابة من أسرة كاثوليكية محافظة. فاته أنه لايستطيع أن يحبس في سجن السعادة الصغير، وأن الأسر دون جدران في الرياح العاصفة! عندما لعب لعبته القديمة فخاطب زوجته بينه وبين نفسه ولم تستشف حواره، كان ذلك متأخرا. قال لنفسه: سأعدّ حتى العشرة كي تحزري ماأريد! عدّ حتى الخمسين. احتجبت روحها عنه! فلم تعد تقرأه ويقرأها! سترت سنة كاملة أن ابنه لايداوم في المعهد الذي سجله فيه، واستقبلته في الأعياد كأنه يعود في عطلة. اكتشف قيس مجموعة متضامنة تسوّره، أسرته وأسرة زوجته. هو الغريب! افترقا فراقا عاصفا. لم يعترف لنفسه بأن علاقته بها مرت في غروب طويل لابد أن ينتهي. وأن ذلك لم يكن فقط علاقة بين شخصين، بل بين عالمين كانا منذ البداية مختلفين. أوهمه الشباب بأنه يستطيع أن يخترع أسرة ووطنا في مجتمع غريب! فإذا به يكتشف بعد عمر أنه بين مجموعة يصلّي كهولها للأمس وشبابها للخلاص من الاشتراكية!

تجول غرباتشوف يومذاك في الغرب يطلب مساعدات. مساعدات للاتحاد السوفييتي الذي يستدين منه خمسون بلدا؟ قال قيس: يشهّر بوطنه، ويفعل مايعفّ عنه بلد من بلاد العالم الثالث! واستمع إلى ندوة تغنى فيها فالين، مسؤول العلاقات العامة في الحزب الشيوعي السوفييتي، "بالتخلف الاقتصادي". وإلى لقاء بمخرج سوفييتي في مهرجان اوربي قال فيه: كل حرب قذرة حتى حرب التحرير! وعرض فيلمه عن اليهود. تابع قيس في التلفزيون السوفييتي الانبهار بالمخازن اليابانية التي تبقى مفتوحة طول الليل. والأبحاث التي تدعو إلى "اقتصاد السوق". ورحلات غرباتشوف. وصل غرباتشوف إلى برلين الشرقية فتجمع عشرون شابا صرخوا متحمسين: غوربي، غوربي! وطلبوا جوازات سفر إلى الغرب. قال غرباتشوف لهونيكر لاتعتمد على الجنود السوفييت لحماية ألمانيا الديمقراطية! فهل رد هونيكر كما رد عليه سياسي عربي عندما قال إن المساعدات لحركات التحرر ترهقه: يكفينا أن تلجم عنا القطب الآخر! وصل غرباتشوف إلى بكين فتظاهر الطلاب وصرخوا: غوربي، غوربي! وكانت الكاميرات التلفزيونية الغربية تنتظر غرباتشوف هناك. قال قيس لنفسه: حتى التفاصيل محبوكة في مهارة! سيفرض غرباتشوف سقوط البلاد الاشتراكية! سيقتل شاوشيسكو وسيسجن هونيكر، لكنهم لن يطالوا كاسترو الذي انسحب من المؤتمر وقت أعلن غرباتشوف "إعادة البناء" !

في ذلك اليوم كانت زوجة بوخارين مدعوة إلى اجتماع كبير في مسرح، حضره ابن قيس. قرأت المرأة العجوز وصية قالت إن زوجها تلاها عليها حتى حفظتها، وظلت تحفظها منذ موته، ولم تسجلها على الورق خوفا من الإرهاب! وتكلم الرجل الذي قدمها في تفصيل مؤثر عن الجرائم القديمة، والخسائر الإنسانية، واحتفى بزمن جديد للحرية والديمقراطية. وكأنما هب إعصار قوي على القاعة لم يعرف منذ زمن الثورات الكبرى، وانفجر الحقد الذي ملأها بنشيد هادر. وجد ابن قيس أباه، عندما رجع إلى البيت، جالسا يتفرج على محطات التلفزيون التي تبث زيارة غرباتشوف إلى الصين. فجلس بعيدا عنه. رأى الطلاب يتظاهرون في الساحة ويصرخون: غوربي، غوربي! ثم وقفت الكاميرا على الدبابات. ياللفظاعة! ياللوحشية! نهض عندئذ ابن قيس وهو يصرخ كالطلاب: فاشيون، إرهابيون! هذه هي الاشتراكية! قلب الطاولة نحو أبيه وقال له: أنت مثلهم، تستطيع أن تفعل مايفعلونه هناك! أنت حتى في البيت ديكتاتور فاشي!

امتدت بين قيس وابنه مسافات أبعد مما بينهما وبين الصين. ماأعمق الغربة بينهما! لايشعر ابنه بما عاشه ولايعرف العالم الحزين خارج مدينته الهادئة، خارج البيت الذي ينعم فيه بما يريد. هل قصر عليه قيس يوما بما يرغب؟! غمره بما لم ينعم به قيس في طفولته وشبابه. يقول لقيس وهو خارج ليسهر، أريد قرشا فيقول له قيس خذ قرشين. يقول له سأعود في الثانية عشرة فيقترح عليه قيس بل عد في الساعة الواحدة. لكن ابنه لم يحترم أبدا موعدا، ولم يقدّر أن أباه يريد أن يعلمه الدقة. في مثل عمره كان قيس يشعر بأنه مسؤول عن بلاد ومستقبل! فهل لابنه مشروع جدي؟ شاب لايشغله غير التمرد الأحمق، والتسلية وشتم الاشتراكية! لايقدر الجهد الذي يوفر له الراحة في البيت والأمان في المدينة !

تناول قيس منفضة السيجارات ورمى ابنه بها: أيها الأحمق لاتعرف مايرتب للعالم! لاتقدّر النعمة التي عشت فيها، ولن تعرفها إلا عندما تسلب منك! هل يتمنى أب لابنه الجوع؟! في تلك البرهة تمناه قيس لابنه كي يصحو ويفهم الحقيقة! وفي تلك البرهة شعر بأنه وحيد وغريب في بيته نفسه، وأنه خسر ماأنفق عليه عمره!

غشت ابتسامة غرباتشوف اليساريين الذين رافقهم قيس في تلك الأيام فقالوا له في حفاوة: "نحتاج بريسترويكا عربية". ولم يصدقها الرسميون العرب. فهمس لنفسه: اليمين التقليدي وحركات التحرر هي التي تشعر بالكارثة لأنها تفهم ماتفقد! واستمع إلى حديث هيث عن خطر كسر التوازن الدولي!

يتفرج قيس كثيرا على التلفزيون؟ نعم! لأنهم يحاربون به! لكنه أطفأ التلفزيون نصف ساعة ليقرأ مرة أخرى مقابلة مع موري، سكرتير الحزب الشيوعي النمساوي، نشرتها جريدة يمينية نمساوية. سئل: كيف تفسر مايجري في الإتحاد السوفييتي؟ رد: أفسره بندرة الشيوعيين هناك. سئل: لكن الشيوعيين هناك يعدون 16 مليونا. رد: لم أقصد عدد الأعضاء. سئل: وكم عدد الشيوعيين هناك في رأيك؟ رد: لايتجاوز أصابع اليد. تقصد أصابع اليدين؟ رد: بل أقصد أصابع اليد الواحدة.

قال قيس: والآن ستبدأ التصفيات! لكن التصفيات كانت أنيقة! في زاوية مهملة من الجريدة خبر صغير. "ظهر أن الجثة التي وجدت طافية في الدانوب منذ أيام هي جثة..." تأوه قيس! هذا وزير الدفاع الذي يحب العرب! يالهذه الديمقراطية التي تحاسب على الماضي وتنتقم منه! استعاد قيس أسماء القتلى والمنتحرين في ذلك الشهر. نخبة كاملة! عشية رأس السنة الماضي انتقى قيس زجاجات فاخرة من النبيذ والشمبانيا والكونياك والليكور، صفها في صندوق، وحملها إلى مكتب وزير الدفاع. تعرف السكرتيرة قيسا. قالت له: غير موجود، لكنه سيعود. تفضل انتظره. قال لها: أرسلي من يحمل بعض الأشياء له. قالت: سأنزل بنفسي. ضحك: لا، أرسلي من يستطيع أن يحملها. في ذلك اليوم خابره وزير الدفاع وقال له: هديتك كبيرة. أرجو أن تقبل هديتي التي تناسب دخلي وهو أقل من دخلك. رمز صداقتنا وتقديري المقاومة العربية! هديته هذا الغطاء المطرز المفروش على هذه الطاولة! كيف قتل هذا الإنسان المثقف الذواقة؟ لاتبالي هذه الديمقراطية بثروة وطنية ولاتعتد إلا بالولاء! مع ذلك لم يتصور قيس وقتذاك أن ثروات وبنى ثقافية ومؤسسات ستقتسم وتوزع وتدمر. ستتناثر حتى المجموعات الموسيقية والعلمية والرياضية في أنحاء الأرض! سينتحر جزء من أرض البشر!

في زاوية صغيرة من الجريدة خبر آخر صغير: "ظهر أن جثة المنتحر التي وجدت في الغابة هي جثة.." هذا صديقه العزيز! قال له قيس مرة: عندما كنت أدخل مع الوفود العربية إلى بناء الجبهة الوطنية التي تستضيفهم كنت أقرأ "هنا كان يسكن المستشرق المجري إرمين فان بيري". عرفت أنه أول رسول من هرتزل إلى السلطان عبد الحميد كي يبيعه فلسطين! يهودي كان يجيد العربية والفارسية والتركية وغيرها! فهل تغرس الصهيونية ذاكرتها حتى هنا لديكم؟ ماكس نوردو الذي كرستم له متحفا هو الصهيوني شيمون شوتفيلد، ابن حاخام بودابست. تغرس الصهيونية ذاكرة هنا أيضا! رد: ربما، ربما! لكن أليست دعوة الوفود العربية إلينا الشاهد على أننا نقاوم الصهيونية؟ ياقيس، اسمع! لاتمش على طرف الرصيف! نعم، توجد هنا صهيونية! ونصحه: لاتحمل أنت رسالة كارلوس إلينا. قل له سنقبلها، لكن ليرسلها مع شخص آخر!

رمى قيس الجريدة. كم يشعر بأنه وحيد وغريب وحزين! كل مالديه راح مع عالم طوي. في هذا العالم الجديد لاشيء له، لاأحد له، ولامكان له، وقد يكون ذات يوم هو الجثة الطافية في الدانوب. نعم، بلاده هي الآمنة في هذا العالم المضطرب! اكتمل الحصار! اجتمعت الهزيمة الخاصة والعامة. اكتملت أيضا الحقيقة. أنه ليس من هنا، ومايزال مريضا بهواه!

قيس وحده في البيت الذي استقبل فيه سفراء، وقادة سياسيين، ولاجئين سياسيين، ومنفيين، وأصدقاء منهم كارلوس وزوجته ليلي وصديقه ستيف. رتب ثيابه في حقيبة. على الرفوف الكتب التي انتقاها، حوله الكراسي والطاولة الخيزران الخضراء التي يحبها، "الفازات" التي اختارها من مخازن المعروضات القديمة، في الخزانة الكؤوس الكريستال المحفورة التي كان يستمتع بالشراب بها! أشياء تجسد العمر الطائر في مادة تلمس وترى! يتركها! يجب أن يرحل!

رافقه إلى المطار بعض أصدقائه. رحل دون أن يلتفت. لم يتنبأ مودعوه بعد بأنهم يجب أن يرحلوا. سيفهمون فيما بعد أن العالم القديم انتهى!

في ذلك الغروب، شعر وهو يحط في مطار فيينا بأنه آمن وحر. جلس في مقهى صغير في المطار. أمامه حول طاولة صغيرة مستديرة شاب وفتاة كأنها ليلى. في عنقها حلية في شكل عشتار. ذهل. ماذا أتى بعشتار إلى هنا؟! قال في يقين: تلك بشارة! سأجد ليلى! فهل يخيب حدسه الذي ماخاب حتى اليوم؟ طلب فنجانا آخر من القهوة. فنجانا ثالثا. انصرف الشابان فنهض. تجول أمام واجهات المخازن في المطار. ياللذوق والألوان! فجأة، رأى أمامه في الواجهة حلية في شكل عشتار. دخل وطلبها. وأكد ذلك له بأنه سيلقى ليلى. في حقيبته الهدايا التي جمعها لها خلال أربعين سنة. مسافر ألف ليلة وليلة الذي اغترب باحثا عن الكنز، تكسرت سفنه وظنوه فقد. عاد بصندوق صغير، يبحث عن الكنز في بلده! فهل يجده؟

عبرت امرأة غجرية صالة المطار إلى البوابة التي ينتظر قيس قربها طائرته. فتوهجت الصالة بألوان ملابسها، ورددت هسهسة حليها. لم ينظر قيس فقط إليها، نظر إليها آخرون أيضا! تلفتت واختارت مقعدا قرب قيس. تسافر إذن معه على الطائرة نفسها! مصادفة أخرى؟ لكنه خمن أنها ستنزل في محطة بعده. سألها: إلى بيروت؟ ابتسمت: كيف عرفت؟ ابتسم: أقرأ الكف دون أن أفحص خطوطه! رفعت حاجبين مرسومين في أناقة: وخمنت أيضا أني من أصل غجري؟ هز رأسه. ينحني قيس لهذا الزمن الذي فتّح جمال الغجر فأطلق شعرهم الكثيف، ووضح عيونهم السوداء، وعرض أقمشتهم المجنونة! وجعل أغنياتهم من أغنيات الملاهي الفخمة. فهل يستطيع أن يمد كفه لهذه الغجرية ويرجوها: اقرئي، ليملي عليها مايتمناه؟!

يوم جلس في الليدو على شاطئ طبرية، في طريقه من صفد إلى صفورية سنة 1947، تنبأت له غجرية بحظ كبير عند النساء! فزها بذلك. بعد عشر سنوات، قال له رجل فحص كفه في مطعم الريّس في دمشق: أنت محظوظ بالنساء. فأطربه ذلك! لكنه كان يريد واحدة منهن، واحدة مشغولة بالدنيا كأنها لاتراه! بعد عشر سنوات أخرى استهوته في فيينّا شاعرة أكبر منه بعشرين سنة. نظرت في ضوء الفجر إلى يديه وقلّبتهما. لم تتأمل خطوط كفه، رأت خفقاتها. سمع القصيدة التي بدأت تصوغها. وضمها إليه وهو يتصور أنه يضم ليلى في الخمسين من العمر. لمس ليلى وتفقد شعرها وقامتها، ثم ابتعد إلى طرف الغرفة ونظر إلى قوامها الذي تكور على السرير. أهكذا ستكون ليلى يوم يلتقي بها؟ ليته يلتقي الآن بغجرية موشومة الجبين والذقن تهز بيدها الودع ليجلس على الأرض أمامها ويرجوها: ابحثي عنها! أين هي الآن؟ لن يسخر من نفسه لأنه يستمع إليها! سيتطلع إليها ليصدق ماستقوله وهي تنبش بأصابعها حياته. سيصغي إليها وهي تقول له: علم الله، لاهي طويلة ولاهي قصيرة، لاهي سمينة ولاهي نحيفة. قلبك هناك لكن بينك وبينها سبعة بحور وسبعة جبال. فكرك عندها، لكنك لن تلتقي بها إلا بعد سبع إشارات قد تكون سبع أيام أو سبع سنين أو سبعة عقود. قل إن شاء الله! سيجفل: لا! فتسأله: عندك شيء من أثرها؟ يتناول من جيبه صورتها ويتفرج على الغجرية وهي تتأمل ليلى، ثم تقول: بينك وبينها سؤال. عينها عليك وهي تدير لك ظهرها. لكنك ستلتقي بها بعد أربع إشارات، قل إن شاء الله! سيفرغ قيس كل مافي جيبيه على كف الغجرية، ليغريها بأن تقلل عدد إشاراتها!.

حكى للمرأة ذات الأصل الغجري حكاية غجرية طبرية. أخرج صورة ليلى من جيبه فقلبتها بين كفيها. وهسهست أقراطها مع حركة رأسها. أمها مغنية مشهورة، لكنها لاتذكر أبدا أن أحدا من أقربائها يقرأ الكف أو يهز الودع! أعاد قيس صورة ليلى إلى جيب صدره، أغمض عينيه وعاد إلى أزمنته.

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:39 AM
- 3 -


عاد قيس من غربته الطويلة ليعيش في بلدة صباه. على مسافة خمسين كيلومترا من بلدة طفولته. خمسين كيلومترا أطول من خمسة ملايين سنة. لكنه كالمتحضرين الذين ينصبون خيامهم في الصيف، وكالبدو الذين كانت خيامهم حول مدينة صباه وكان يسهر عندهم شاعره المحبوب عرار، زيّن بيته ورتبه، فرشه بالسجاد وزرع حوله الورد، وجمع فيه أصحابه القدماء وأصحابه الجدد واستعاد بهم ديوان أبيه المطمور تحت التراب. فحص معهم الأمل والتعاسة، صرخ معهم وبكى في الليل على آخر سنوات القرن الذي عاش فيه. ورش على مرارة الهزائم هوى ليلى. يجب أن تبقى ليلاه من شهب القرن معلقة في السماء كيلا يعتم النهار! دفن القرن عدله وجماله، وأمسك قيس بليلاه كشمس لاحق لها في الغروب!.

وهاهو قيس العصر، أمير فاتن دون محظيات. شاعر دون منبر. سياسي دون حزب. رائد غاضب على الحاضر. مهاجر من بلاد قلبت وجهها إلى بلاد تصوغ وجوهها. مدى تحبسه المدن. ملك غاضب لأن الحاضر لايسترد انتصارات الأمس. ماض عملاق أمام حاضر قزم. صحو يشتهي الغيبوبة لينسى الحزن. رجل يقف على عتبة الألف الثالثة، كأسه في يده، وعلى رأسه المكلل بالزهر الأبيض تتوهج مدن ونساء وغابات بقيت في الألف الثانية. طوى أصحابها صورهم وابتعدوا على مساراتهم، لكن النسخة الاولى بقيت في يديه مع دويّها الرائع. هل سيجد مجد غرناطة على عتبة الألف الثالثة، تردد له نغمات أعوادها، وهو يتنقل بين فنادق الدرجة الاولى وغاباتها ليبذّر هداياه على النساء فاتنا ومفتونا؟ لماذا يحزن؟ كان في القمة في مملكة جمهورها منتقى، ليلها منشور لخطواته العلنية والسرية! لكن تلك الجمهورية انتهت! والزمن الذي صفّ فيه أعشاشه المجنونة والمزوّقة غير ألوانه ونصّب ملوكا آخرين!

يقف صاحيا، في لياقة، وكأسه في منتصف الطريق إلىالنخب. لو عادت جميع محباته ومحبوباته لتوسدن مرة أخرى فراشه المتجدد، ولكان ماهرا مرات أخرى في ابتكار ليال تظل على ذرى الأشواق حتى يصل النهار واهنا مرة أخرى. لو عدن لرواهن بشهده، ولسحرهن بانتباهه إلى كل خفقة في بشرتهن وفي أعماقها. لكن القرن مضى. جمع صناديقه، طوى فيها العاشقات والمعشوقات وصفّها على بوابته الكبرى. والجديدات اللواتي تسللن تحت نوافذه وقرعن أجراسهن منتظرات أن يفتح الباب لن يجدن قاعات ينتظرنه فيها، ولن يجدن كراس ينتظرنه عليها. رحّلتها الألف الثانية، والألف الثالثة لم تصفّ كراسيها بعد!

يقف قيس مدثرا بكنوزه، مرصعا بأوسمته، مزركشا بجروحه. ملكا متوجا أمام ممالكه الراحلة، والهالكة، والمبعدة، المنتصرة والمهزومة. محبوبا مرة أخرى بأمجاده المكبوتة وبأمجاده المنجزة، بجروحه الملتئمة وجروحه المفتوحة، بأناشيده الخابية وأغانيه المتوهجة. وينسج ذلك له عروشا في فراغ بين قرنين تهاوت فيه العروش القديمة ولايوجد فيه مؤمنون بعروش جديدة. يقف إلها فريدا، خالقا متألما، بطلا دامعا. لايندم على عمره المديد حيث تستلقي في غاباته معشوقاته الدائمات والعابرات، وتومض مقاهيه التي يعبق فيها سحره، ومدن الصيف ومدن الشتاء التي مشى فيها أربع عقود ناثرا أكياس الخلفاء المعقودة على الذهب. ليس نادما على السحر الذي عطر به الفتيات السعيدات! ليس نادما على الفتنة التي بهر بها النساء وأثار بها أحقاد الرجال، واستصفى بها فقط الفريد من الأصدقاء! ليس نادما! لكنه يحلم بأن يجمع قطرات عسله المنثورة على زهور الحدائق ويحبكها واحدة إلى جانب الأخرى ليصوغ بحيرة صافية لمحبوبته المفقودة! تحلم؟ كيف ستنسل خيوطا من نسيجك الذي نشرته في كبرياء أمير عربي ويظل ذلك النسيج سليما، مستلقيا على سجادك الأحمر المفروش هناك، وهناك، وهناك؟ في تلك المروج الشاسعة لم تكن ليلاك موجودة! على جميع السلالم التي صعدتها، في الفنادق التي سهرت فيها، في الدلال الذي غمرت به محبوباتك الشرعيات وغير الشرعيات، لم تكن موجودة! ولن يكون لها مهما سقيتها من عسل الملكة، ومهما قدمت لها من تفاح الجنة، مانثرته عليهن! تبحث عنها، يتلامح سرابها، وفي تلك اللحظة تهس العقود التي زينت بها نساءك، وتهف عطورهن، تحف معاطفهن، وتسقط مع الندى دموعهن وترن في قمر الشرق ضحكاتهن. رغم حبك العظيم لم يبق لليلى الأسطورية من القصور التي احتشدت فيها مملوكاتك الملونات والبيضاوات سوى السنوات المعتمة الأخيرة في ذيل قرن أقفل صناديقه وأطفأ ثرياته واستدار. ماأعجب ذلك! امتدت جميع حدائق قيس وجميع سنواته الذهبية للعابرات، ولم تبق لليلى المقدسة إلا أطراف مروجه..

ولد قيس في قرية تبعد عن الناصرة سبعة كيلومترات، اسمها صفورية. كانت مكللة بالتاريخ الذي يكلل قرى بلاد الشام. فكانت في أيام الرومان صفوريس، عاصمة الجليل كله. وكانت طوال الأربعة القرون الاولى من المسيحية عاصمة مقاطعة واسعة. وكانت قاعدة للفرنجة ضد صلاح الدين الأيوبي في سنة 1183، بنوا فيها قلعة، وأخذها صلاح الدين منهم بعد حطين. وبنى الشيخ ضاهر العمر سنة 1745 قلعة على تلّتها. وبنيت كنيسة القديسة حنة فيها على أنقاض كاتدرائية من القرن السادس. وذكر ياقوت الحموي في معجمه أنها قرب طبرية.

يوم ولد قيس كانت القرية قسمين. قديم وحديث، بينهما البيادر وحولهما بساتين الزيتون. تطل عليها القلعة. في مدخلها خزان ماء كبير. هنا سكّ الاسكندر المكدوني نقودا. وسكّ عبد الملك بن مروان نقودا عليها أحرف عربية إلى جانب الأحرف اليونانية. وجد قيس بعضها وقت حفر أبوه تحت العقد في بيته ليستخرج الكنز. اكتشف في صفورية فيما بعد، تحت القلعة مباشرة، مدرج روماني لخمسة آلاف متفرج، واكتشف شارع الأعمدة، وفسيفساء الحارة الشرقية، وفسيفساء قصر عذراء صفورية: سجادة فيها مليون ونصف قطعة.

في العشرينيات من القرن العشرين، قبل عقد من مولد قيس، بني فيها دير راهبات صفورية على أرض وقف إسلامي، فيه عيادة طبية، ومركز يعلم الفتيات الخياطة. وقع الدير في الحرب العالمية الثانية في ضيق فقرر المجلس البلدي في جلسته في 26/10/1946 مساعدة الدير بخمسين جنيه فلسطيني. وكانت في الدير وقتذاك خمسون طالبة من قرى فلسطين. وكانت في صفورية وقتذاك مدرسة ذكور تنتهي بالصف السادس الابتدائي درس فيها قيس. ومدرسة إناث.

يوم ولد قيس كان أخوه قد مات طفلا، ودفن في مقبرة الكركي، مقبرة الأطفال التي لعب فيها قيس فيما بعد وامتطى فيها ضريح سيدي اللويسي. كانت للقرية مقبرة أخرى عامة تمتد على 15 دونما دمّر المستوطنون اليهود جزءا منها بعد الاحتلال. ومقبرة الأشراف عند سور القلعة الشرقي، التي حمتها في التسعينيات جمعية تراث صفورية. ومقبرة السعدية في منطقة باب المطلّة حيث دخلت المصفحات الإسرائيلية على الطريق المعبدة واحتلت البلد.

كانت القرية وقت ولد قيس تشرب من نبع يسمى القسطل. على طول مجراه طواحين تديرها المياه، كان بعضها مايزال يعمل في أول القرن. مشى قيس قربها آخر مرة كأنه من "قطافي الزيتون" يوم تسلل إلى صفورية. وفي سنة 1948 قبيل التهجير، عرف قيس في صفورية عشر معاصر للزيتون، تدير حجارتها البغال أو الخيول. كان الزيتون يعصر أيضا في البيوت بحجر مخروطي يدار باليد على حجر مستدير، ثم ينقع الدريس بالماء الساخن فيطفو الزيت ويجمع من وجه الماء ويسميه أهل صفورية "زيت الطفاح".

ركب قيس باصات شركة الناصرة التي أسستها في السنوات العشرين مجموعة من شباب صفورية، وسارت بين حيفا وطبرية والناصرة وإربد. وباص العفيفي الذي يملك ألف رأس غنم، صديق أبيه، وأبي غريمه فيما بعد. ورأى الشاحنات التي تنقل المحصول إلى حيفا وإربد وبغداد والناصرة وبيروت. يوم نزل قيس مع أبيه إلى دمشق وهو في الثامنة من العمر سحرته السيارة التي عبرت به الطرقات، وأمسك بها المدى. لكنه أحب الخيل، وأدهشته الجمال. أدهشته لأن لدى أبي صبحية العرّابة الطفلة التي كانت تقطف من حاكورته الصبار، ستة جمال؟!

لا، لاشيء يعلو على الخيل! كأنه وعى مكانة الخيل الأصيلة في صفورية، التي يتناقل هويتها الإبن عن أبيه. تفرج قيس على أناقتها محبوس النفس. استمتع بالفرجة عليها ورأى في الخيل قمة المهارة في الحب والتعبير الرشيق عنه. هل كان يحلم بأن يركب فرس أبيه المعنّقة يوم يصبح شابا، ويتجول بها في القرية أمام الفتيات؟

كان أبو قيس تاجر أغنام، يستوردها من الشام ومن تركيا. تبقى في حظيرته برعاية الرعيان حتى تباع. يملك دونمين من الأراضي الزراعية في جهة، وفي الجهة الأخرى ثلاثة دونمات. وفرسا أصيلة اسمها المعنّقة. يسّر له السفر بين الشام وتركيا سعة في الحياة، فلم يقصّر في الاستمتاع بها. كان راضيا على حياته؟ أقلقه فقط أن ابنه الأول مات. وأن ابنه الثاني كان في الأشهر الاولى من حياته ضعيفا، يوحي بأنه ميت، فتوجه أمه فراشه إلى القبلة مستسلمة للقدر. هل يستسلم هو له؟ نادى الشيخ. فحص الشيخ الطفل النحيل وقال لأبيه: غيّر اسمه، ليكون تحت نجم آخر! أي إسم أكثر شقاء من إسم قيس؟ فليكن سميّ الذي هام في الصحراء عاشقا معذبا، ومات من الوجد! ليكن مالم يستطع أبوه أن يكنه رغم غرامياته المتناثرة في دمشق وفلسطين! يوم قرر أن يسمي ابنه قيسا كانت تنزل في بيته امرأة من حيفا، تغيب في غرفته ساعات، فتخرج زوجته من البيت صامتة لاتعبر عن غضب أو رضا. إذن فليسمّه قيسا!

تعافى قيس، كأنه مشتاق للحياة التي سيعيشها فيما بعد! وأصبح الأكبر بين إخوته. لاحظ أبوه شوقه المسرع إلى الحياة، فأرسله إلى كتّاب الشيخ. وأكرم الشيخ، فكأنما كان الدرس لقيس فقط. فختم القرآن مسرعا، وتعلم القراءة والكتابة مسرعا. غير أبوه سنة ميلاده كي تقبله مدرسة صفورية في الصف الثاني وهو بعد في السادسة من العمر. التهم قيس صفوف المدرسة القليلة. وملأ الفراغات فيها بحكايا أبي زيد الهلالي وعنترة والظاهر بيبرس وبالشعراء..

خلال ذلك كان يلعب في مقبرة صفورية متحديا الليل والعفاريت. ويتفرج على التشباية وقت يخيم النّور في ظاهر صفورية. ويخرج إلى البيادر حيث يكوّم البرتقال ويباع كوم البرتقال بقرش. ويلعب بالبرتقال مع أصحابه كأنه كرة. ستظل نكهة برتقال فلسطين في فمه، وعبقه على كفه طوال السنوات التي عاشها فيما بعد. بعد نصف قرن من خروجه من صفورية حلم بأنه سيمسك ببرتقالة يافاوية كأنه يمسك بحجر ثمين، وأنه سيقول لليلى: "لامثيل لبرتقال فلسطين"، كأنه بائع البرتقال اليافاوي الذي كان ينادي قبل نصف قرن في حارات دمشق.

أحب قيس في بلده شجرة الخروب. عبرت شجرة الخروب الفلسطينية الوارفة الحكايا التي سمعها. تحتها يختبئ الغول، ويلتقي العفاريت. في أغصانها الكثيفة الانتصار والهزائم والحب والخوف. جرب الخروج إليها في المساء، وامتحن نفسه بظلمتها في الليل. وفي النهار استلقى تحتها مع أصحابه فلم يشعر بالشمس في عز الظهر. تلمّظ مستمتعا بدبس الخروب. وأكل قرون الخروب الخضراء المسحوقة، "أم قيق".

في طفولته تفرج على أمه وهي تنتقي السليم من الرمان، وتنتقي البطيخ، وحمله إلى "السدّة" فوضعه وسط الحنطة ليحفظ للشتاء. أتى أبوه بالعنب الحلواني، ذوّب الرمل الأصفر، ووضع فيه العناقيد ثم علقها. في الشتاء غسل عنها الطين الأصفر فإذا هي طازجة وسليمة، عنب في عز البرد!.

طفولة قيس سهر تحت النجوم، ركض في البيادر، فرجة على الحياة في القرية، وحب مبكر يلوّع ويمتع. رغبة في القبض على الحياة بالكفين، وزهو فرح بالنفس. يعرضه أبوه أمام أصحابه ليتلو أمامهم الشعر والحكايا والقرآن! ويطلبه أهل القرية من أبيه كي يغني في الأعراس بصوته الدافئ الرخيم. صوت كأنه خزن عمرا من الوجد والحب. غنى في العرس، واستمتع بالدلال. في الصباح عرف أن العريس أعاد المرأة التي تزوجها إلى أهلها لأنها لم تعجبه. قال لنفسه: لكنها حلوة! قال أبوه للعريس: علّمها! وسمعهما يسمّيان أعضاء الجسم بأسمائها. وفي ذلك المساء سمع النساء المجتمعات على المصطبة يتحدثن عما جرى بين العروسين حديثا مقطعا بضحك ونكات وحكايا. فاستمع في انتباه وبدأ يصوغ الصور كأنه يرتب المعلومات في دفتر.

في ذلك النهار مرت قرب القسطل امرأة من القرية، جميلة كالقمر. أبناؤها مثلها، جمال وحلاوة، بعضهم شقر. زوجها بشع، قصير. سمع قيس أهل الضيعة: دخلها الجن! رد آخرون: لا، البطن بستان!.

عاد قيس من وسط القرية. بين صفورية القديمة وصفورية الجديدة يخيم النّور أحيانا. يقصدهم من يريد الشراب والفرجة على الرقص والغناء! قصد قيس المرور قرب خيامهم! ليلمح من بعد رقصهم. تفرج مع الأولاد على التشباية عند النّور. وستبقى في ذاكرة قيس المقدمات الطويلة التي يتقرب فيها الحصان من الفرس. مرت وقتذاك امرأة راجعة من العين، رأت التشباية فانقلبت جرة الماء من رأسها وانكسرت. ضحك قيس بملء قلبه، وضحك الأولاد فاحمرت المرأة: كان يجب أن يحزمكم أهلكم بالحبال ويحبسوكم في البيوت! نبقى في البيوت ياخالتي؟ من يتفرج إذن على التشباية؟! يجب أن يعلقكم آباؤكم من آذانكم! لماذا ياخالتي؟ لاسرّ في القرية! حقا، يخبأ فيها فقط من يبحث عنه الإنكليز، فيقفز من سطح إلى سطح حتى يصبح في آخر القرية ويهرب من العسكر! تخبأ الأسلحة التي يحكم الإنكليز بالإعدام على من يحملها ومن يخفيها! مع أن اليهود يبنون تحت الأرض في مستعمراتهم معامل للأسلحة! لكن هل يعرف قيس أن في حظيرة بيته مسدس في حفرة فوقها حجارة؟

عرض قيس أمام أصدقاء أبيه مايحفظه من الشعر. لكن عينيه على الأولاد الذين ينادونه بالإشارة من بعد. ترك أباه مستمتعا باعتداده بابنه، ولحق الأولاد مع أنه يدرك أنه أذكى وأهم منهم. حكت النساء أمس وهن جالسات على المصطبة، وحكى الرجال في المضافة، وهم يضحكون، عن المجنون الذي مشى نصف عار. فمرت به امرأة راجعة من النبع، ونظرت إليه. من يخشى من الإعجاب بمجنون وسيم! قالت: هذا هو السعد! فغضب المجنون: من سمح لك بأن تتحدثي عني. سأشتكي عليك! سمع قيس النساء يفخرن بأزواجهن أو يندبن حظهن. هل التقط يومذاك أن النساء لايبقين في السر تفصيلا حميما، لذلك كان مع كل امرأة كأنه أمام جميع النساء؟!

فيما بعد قال لنفسه: القرية هي الصراحة، والمدينة هي التحفظ. كل شيء في القرية طبيعي وبسيط، ولذلك لاداعي للخجل منه. كأن الانسان في الزمن الذي عاش فيه دون التعقيد الذي غمر علاقات الرجال والنساء فيما بعد بالمكر والكذب وبالخجل والذنوب!

في ذلك المساء في صفورية، سمع قيس أول مرة الأغنية التي سمعها في إربد فيما بعد: شامية وجايه من الشام! كانت الشام حلمهم، عاصمتهم. ردد: شامية؟ وتفرج جالسا بين أصحاب أبيه على رجل تزوج من شامية. كان وسط الرجال كالمحظوظ، ورآهم في صمت يغبطونه. أغمض قيس عينيه ليتصور الشام التي يحكي عنها أبوه. المدينة الجميلة ذات الورد والريحان، ذات المياه، مدينة الحضارة الرخية التي يتطلع إليها البدوي والريفي كما يتطلع المؤمن إلى الجنة. تساءل فيما بعد: لماذا يتمنى الرجل في بلده أن يتزوج شامية؟ هل المرأة هي الصورة الأخرى من المدينة المرغوبة، عاصمة بلاد الشام التي يحنون إليها؟ العاصمة المفقودة؟ عرف أمرا آخر فيما بعد: تصبح اللغة نفسها رقيقة وسحرية، مناورة ومغرية عند الشاميات. وكأنه لمس وقتذاك آثار آلاف السنوات التي شيدت حضارة في مدينة وفي ذوق وطباع.

عاش قيس في صفورية حتى السنة التي سماها العرب "سنة النكبة". في ليلة 15 تموز 1948 قصفتها ثلاث طائرات إسرائيلية. ووصلت في الليلة نفسها إلى محيطها فرقة شيفا وفصيلا مدفعية تسللت خمسة عشر كيلومترا في أرض عربية. عند الفجر احتلت صفورية كمقدمة للهجوم على الناصرة في "عملية ديكل". هاجر بعض سكانها إلى سوريا. وطرد من بقي فيها في أيلول 1948. ووضع في كانون الثاني 1949 من عاد إليها متسللا في سيارات وأجلي إلى الرينة وكفر كنا. أعلنت منطقة عسكرية مغلقة، ونسفت. رأى قيس بيته ركاما عندما رجع متسللا. لماذا نسفت صفورية؟ لماذا؟ خمن قيس السبب فيما بعد.

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:40 AM
- 4 -


سمية من المعجبات بأبي قيس. جارة، خارجة داخلة إلى بيته كل يوم. يجب أن يبتكر وضعا يغطي ترددها على بيته. لذلك ألبس قيسا ملابس جديدة، وأعلن: قيس لبنت سمية! أصبحت سمية حرة.. حقها أن تطمئن على "عريس" بنتها المقبل!

عادة معروفة، لكنها ليست وعدا قاطعا: ابن فلان لبنت فلان. إذا ولدت بنت كانت لابن فلان! ملأ بيت أبي قيس بريق عيني سمية، صوتها المغني، ولونها الأبيض. لماذا سترت أم قيس ذلك الهوى؟ كانت تراه نزوة لاخطر منها لأن كلا منهما لن يهجر أسرته؟ لكن ماهو الحب الذي يفقد أبا قيس الصبر ليغزل لسمية طريقا إلى بيته، وهو يحفظ لامرأته أن تبقى زوجته الوحيدة؟

الحب؟ كان في أغاني أسمهان وعبد الوهاب ولور دكاش! نور القلب وضوء العين! الإنسان دونه كالوردة التي لاتراها عين، كالجرة الفارغة من الماء، كالعقد الذي لايزين عنقا! كيف سيكون الحب لقيس؟ ينظر إلى الأشجار والمدى والسماء ويتساءل عن الحب الذي سيلقاه! أيها الساعي إلى الحب ستجده على عرض حياتك، وستجد فيه الجنون والشقاء! الحب؟ بحر يمكن أن تغرق فيه فتفقده! هل سترشف الحب كالذواقة متمهلا، أم ستكثر منه حتى تشك فيه، وحتى تطلب مايحرضك عليه؟

كانت صبحية العرّابة في الثامنة. تجلس قرب أمها بجانب التنور، تلعب بقطعة من العجين وتتعلم كيف تخبز الخبز. تشكل من العجين لعبة. رجلا ستحبه؟ طفلا ستنجبه؟ ستحب ذات يوم شابا من شباب البلد تصادفه في طريق العين أو عند موقف الباص الذي ينزل من البلد! سيكون شابا وسيما تخبز له الخبز، وتنجب له الأولاد. كيف؟ متى؟ تنظر إلى المدى خلف الفرن وتقول: الله يعلم!

كان قيس يسكن بيتا سياج حاكورته من الصبار. وياللصبار! يتفتح زهره الأصفر فيزين السياج. يخضر ثمره، ثم يتورد فينتظر الفتيان قطافه بإذن صاحب البستان ودون إذنه! قالت له صبحية قرب باب البستان: اقطع لي صبارا! قال لها: أعطيك ملء الصحن إذا..! سألته: ماذا إذا؟ قال: إذا أحببتني! لم ترتعش. نظرت برهة واحدة فقط إلى الأرض. تفاوضا كما يتفاوض طفلان يلعب أحدهما مع الآخر. كم مرة تفاوضا قبل ذلك؟ اعطني الدحلة الزرقاء! إذا أعطيتك الدحلة ماذا تعطيني؟ أعطيك "كرديلة"! أي "كرديلة"؟ التي فيها الرجل الذي يرفع السيف! لا! أريد التي فيها المرأة ذات الشعر الأشقر! قبلت صبحية العرّابة الشرط. دخلت معه إلى "الحاكورة"، قطع لها الصبار، غامر بيديه، علق الشوك بقميصه، وتحمل وخزه حتى انصرفت صبحية. ملأ قيس الصحن بالثمار. كانت صبحية تقف حاملة له الصحن. عندما امتلأ وضعته على الأرض. قبّلته على خديه بسرعة وركضت. تركته سعيدا وانصرفت بصحن الصبار سعيدة. بصحن الصبار؟ بالحب! أصبح الصبار فاكهتها المحبوبة. تأتي حاملة صحنا وتقف قرب قيس. يسألها: تريدين صبارا؟ فتهز رأسها موافقة. والصبار لايعني الصبار. أكان قيس يحتاج إلى عقود من الزمن كي يتذوق نضارة تلك الأيام؟

في صفورية الجديدة التي بنيت على مطل صفورية القديمة، لاصبار على سياج بيت قيس. لكن للبيت شرفة تطل على طريق العين. تمر البنات بها حاملات جرارهن. تفرج عليهن. ميز جرة كل واحدة، حفظ مشيتها، وقفتها، ضحكتها، جرس صوتها. استحلى منهن قريبته غزالة. صار يعرفها أكثر من صاحباتها. كانت في مثل عمره. وربما في التاسعة من العمر.

في تلك الأيام كان قيس كالناس مفتونا بأسمهان. تبكيه أغنية "ليت للبرّاق عينا" كأنما في أعماق قلبه آبار سرية للحزن فتحتها الأغنية! لماذا يلمسك، ياقيس المدلل، الأسى أكثر من الفرح؟ ألأنك تستشف الحياة التي سترمي نفسك فيها؟ أم لأن الحزن أكثر رسوخا في الدنيا من الفرح حتى اليوم؟ لأن في الهواء الذي تتنفسه قهر عريق كجبال هذه البلاد، كأنقاض حضارتها المنثورة في الحجارة والرمال؟ هل ورثت الحزن فتسرب إليك في الدم من المدن المحروقة قبل عصرك والتي ستحرق في زمنك؟ من القتلى الذين كانت تكوّم رؤوسهم أبراجا عند بوابات المدن؟ من الرؤوس المقطوعة التي كانت ترسل كالهدايا من بلد إلى بلد، دليلا إلى أن الانتقام حدث والحكم نفذ، أو تملقا من محكوم لحاكم فظّ؟ من المصلوبين على أسوار المدن؟ من السبايا اللواتي كن يوطأن في عجل قبل أن تدفع فديتهن أو قبل أن يوزعن على المنتصرين توزيعا آخر؟ من أغاني الجواري الحزينات على السيد المحبوب المقتول، الراغبات عن القاتل الوارث؟ أم هذا الحزن الذي لاسبب له صدى من أحزانك المقبلة؟

أخرج قيس الغرامافون إلى الشرفة. لكنه لم يضع كوانة "ليت للبراق عينا". بل اختار "اسقنيها بأبي أنت وأمي" ووجه بوق الغرامافون إلى طريق العين. صدحت أسمهان: "املأ الكاس ابتساما وغراما". وصل صوتها إلى البنات عند النبع في جو لاصوت فيه إلا صوت العصافير. التفتن ولاحظ أنهن أبطأن. نظر إلى غزالة! هل تتبين غزالة أنه ينظر إليها، وأنها المقصودة بالأغنية؟ أيمكن أن تظن كل واحدة أنها المقصودة؟ لا، عرفت غزالة أنه ينظر إليها، أنه وجّه بوق الغرامافون نحوها، وأنها هي التي يتمنى أن تملأ له الكأس. وضاع قيس في الالتباس بين كأس ماء من الجرة وكأس خمر محرمة، لم يذقها بعد ولم ير أحدا يذوقها حوله. نظرت غزالة إليه، ولمح طيف ابتسامتها. يعرف أن هذا الحب لامدى له، ويستمتع بما يسببه ذلك من الحزن. كيف ستصل ياقيس إلى غزالة المحاطة برفيقاتها؟ هل ترغب بهذا الحب من بعد كي تستمتع بعذابك؟ وتجد به مبرر حزنك؟ غزالة قريبتك فما أسهل أن تذهب معها إلى الحاكورة! هاهي غزالة! تمشي وحدها إلى النبع حاملة جرتها. وضع الكوانة منذ رآها في أول الطريق، وصدحت "اسقنيها" لكنه تمسك بالشرفة. لم يخرج إلى الطريق كي يلتقي بها! رأى ابتسامتها كاملة. له! له! ربما اختارت أن تمشي إلى النبع وحدها كي تعرف هل هي المقصودة بأغنيته؟ تلكأت قرب شرفته. وعبأ عينيه منها. فهم كل منهما أنه يحب الآخر. يحبه؟ هل لذلك اسم آخر! أكملت غزالة طريقها إلى النبع، وبقي قيس واقفا قرب أسمهان. ظل يتابعها حتى كادت تغيب عنه. انتظر عودتها. وراقبها وهي تصبح أكثر وضوحا كلما اقتربت من شرفته. كانت الكوانة قد انتهت فعبأ زنبرك الغرامافون وأعادها مرة أخرى. أنزلت غزالة جرتها عندما أصبحت موازية شرفته، ونظرت إليه. فهم أنها تقول له: هل تريد أن تشرب؟ واندفع إلى حافة الشرفة يملأ منها عينيه. لماذا لايأتي ليشرب من جرتها؟ أليست أسمهان تغني باسمه اسقنيها؟ لم يتحرك! فرفعت غزالة الجرة إلى كتفها ومشت وهي تلتفت إليه وتبتسم. وبقي قيس واقفا عند حافة الشرفة.

لكنه في مرات أخرى جلس تحت شجرة السدر الوحيدة في البلد، على بعد مئة متر من العين. فوقه ثمر الدوم الأصفر يزين شجرة السدر. هناك العين بين الحارة الغربية والحارة الشرقية، التي تستقي البنات من حنفياتها، وتشرب المواشي من الران الواسع قربها. ستمر البنات الراجعات من العين أمامه! هاهن! وغزالة تعبره وهو يصغي إلى رنة خلخالها. غنى كأنما لنفسه: "ياحليوه طاب حمامك، وأنا ع الباب بستنى، يامحلا رنة خلخالك، رنة خلخالك جنّنا.." سمعته فقط غزالة؟ لماذا تضحك إذن رفيقاتها وينظرن إليه؟ كان قيس يومذاك وحده تحت شجرة السدر التي يتسع ظلها لأربعين شابا. فالشباب مشغولون بالتشباية على بعد خمسين مترا من العين حيث ينزل النّور. سيرى قيس غزالة مرات في البيادر والناس منهمكون في درس القمح وتذريته. وسيأتي إلى هناك فلاحون محملون بثمار الزعرور التي قطفوها من الشجر. ستركض غزالة وسيتبعها وهي تتفرج على المقايضة: مدّان ونصف من القمح بمدّ واحد من الزعرور! بعد صب الزعرور بالمدّ الخشبي سيغرف قيس ملء كفيه منه لغزالة.

- تحبين الزعرور؟

- وأنت؟

- أحبه! كم أحبه، ياغزالة!

- تحبه؟

تسأله عن الزعرور أم تسأله عنها؟ سيسعى قيس إلى شجر الزعرور، ليقطف لها ملء قميصه، ويعود موشى الذراعين بالجروح!

صار قيس يحب كرم ابن عم أبيه! في الكرم دوالي عنب وشجر زيتون. وفي طرف البستان المرتفع شجرة توت كبيرة، قربها عين ماء. لابد أن تأتي غزالة إلى هنا! لابد! لكنها لم تأت في ذلك اليوم. أتت أختها خديجة. وكان قيس وقتذاك على شجرة التوت. رآها من فوق، في طرف البستان تنكش الأرض. ثم جاء شاب لايعرفه قيس. لابد أنه من قرية أخرى! فتركت الأرض ومشت معه حتى الشجرة التي تسلقها قيس. بقي زمنا حابسا نفسه. ورأى الشاب يتناول يديها ويضعهما على صدره ثم رآه يقبلها. غصّ قيس بريقه وأغلق فمه بيده. نهضت خديجة وتلفتت حولها. لم ترفع رأسها إلى أعلى! لماذا ابتعدت؟ خافت؟ وانصرف الشاب.

لم تظهر غزالة بين البنات الذاهبات إلى العين. فقدر أنها في الكرم. ركض، ركض حتى انقطع نفسه. رآها على شجرة التوت في طرف البستان، فوقف حتى هدأ. ثم مشى حتى الشجرة. لم تكن غزالة في عمر خديجة لتلبس شنتيانا، فرأى ساقيها العاريتين..

- كنت مارا بالصدفة فقلت أطل على الكرم..

- كنت مارا صدفة؟

- نعم، صدفة!

من يربط زمبرك الفونوغراف إذن ويضع كوانة أسمهان، فتقول البنات: لك ياغزالة! تحادثا وهي ترمي له حبات التوت حتى وصلت خديجة. رأتهما فصرخت: غزالة، انزلي! لم تنزل غزالة بل ارتفعت غصنا إلى الأعلى. هجمت خديجة على قيس رافعة قضيب الرمان بيدها. صاح: لن تضربيني! وإياك أن تضربي غزالة! سأقول لأهلك إنك كنت هنا مع..! رأيتك.. رأيتك! ذهلت خديجة وارتخت يدها عن القضيب.

كانت هي التي ترعى الغنم وتحلب الماعز. منذ ذلك اليوم صار قيس حرا في الجلوس مع غزالة على شجرة التوت. وحاولت مرة أن ترمي حبات التوت في فمه تماما وهي على الشجرة فلوثت قميصه. وصارت خديجة تحمل له الحليب الطازج، وتخصه بالشمندور، وترسل له الهريسة الطيبة. بقي ذلك الحب بينه وبين غزالة حتى انشغل عنها بالغزال. كان حبا كالزهر يتفتح في الربيع على أغصان عارية، ثم يترك مكانه للورق الأخضر. غاب عن غزالة أول مرة وقت زار عمه في مستعمرة بيت لحم الألمانية.

المستعمرة قرب صفورية. لكن الطريق إليها يتلوى فيصل قيس على الحمارة في ساعة ونصف. يشتغل ابراهيم، عم قيس، هناك. المستعمرة فيلات كل منها من طابقين. في طرف المستعمرة بناء متصل من طابق واحد، فيه لكل عائلة من العمال العرب غرفتان. في أيام الصيف تنام الأسر على السطح المتصل فتكاد تتجاور. ينام قيس عند عمه أحيانا، ويمتعه أن يملأ عينيه بسماء واسعة كثيرة النجوم. يستلقى على الفراش ويحاول أن يعدها. فيقول له عمه في حنان: تعد النجوم؟ ستظهر الثآليل في يديك! يضحك قيس. لن تظهر! يلتفت قيس بعد ذلك إلى النائمين ويخمن متى يغفو ذاك ومتى ينام هذا.

في المستعمرة أشجار فاكهة، أشجار زيتون، وحقول من القمح والذرة. وحول المستوطنة غابات من شجر البلوط. يسرح قيس متنقلا مع عمه، متفرجا على البساتين التي يرتبها الألمان، وعلى الزهور التي يحشدونها حول بيوتهم.

يستقبل العم قيسا عادة في فرح. ويسعى قيس إلى ذلك الحب ساعة ونصفا على الحمار، قاطعا البساتين والبيادر، صاعدا وهابطا مع الدرب. لكنه هذه المرة استعجل الحمار طول الطريق لأن عمه أرسل له خبرا: التقطت لك شيئا ظريفا. تعال!

برقت عينا قيس: ماهو هذا الشيء ياعمي؟ جرّه عمه من يده: تعال! في الليل وضعت الأفخاخ في غابة البلوط. فأمسك فخ بقدم غزال. غزال صغير، صغير ظل يتأوه حتى الفجر. نقله العم إلى بيته وقال: هذا لقيس! قال العم: لعل عمره لايتجاوز الشهر. خذه واعتن به! احتضن قيس الغزال. لو عرفت ياعمي، لحملت له سكاكر! كانت الإقامة تطيب لقيس في المستعمرة. لكنه الآن يريد العودة فورا إلى بيته، ليعانق الغزال، ليطعمه، ليدلله، ليحبه!

ركب قيس الحمار. وضع عمه الغزال بين يديه: مع السلامة! عاد قيس إلى صفورية مبطئا من الخوف على الغزال. لمحته أمه من بعيد فخرجت. سألته: أين ستضعه؟ سمعها أبوه. لماذا رجع قيس مبكرا؟ وقف في الباب. احتفوا بالغزال. لكن هذا غزال قيس! لايخفى على قيس أن غزاله حزين، وحيد. لاتخف، ياغزالي! سأحبك أكثر من أمك! ربّت قيس على جبين الغزال، على عنقه ورأسه. نظرت عينا الغزال الواسعتان إلى قيس. وتفرج قيس على أهدابه. حلو، حلو! عانقه. مدّ له كفه المليء بالسكر وشعر بلسان الغزال عليه. هذه أول إشارة رضا منه! في الليل أفاق قيس مرات ليتفقد الغزال. فنهض أبوه وجثا إلى جانبه: غزال حلو! الحق معك! لكن نم. الغزلان أيضا تحتاج النوم!

طار صيت غزال قيس. غزال يتبع صاحبه أينما مشى. فيزهو به قيس أمام الأولاد. يطلبون أن يلمسوه، يرجون أن يطعموه. لا! لايأكل إلا من يدي! تفرجوا! رافق الغزال قيسا وأصحابه إلى البيادر، واكبهم وهم يمشون في القرية، ويصلون إلى الزيتون. استمتع قيس بالركض والغزال يركض خلفه. سبقه الغزال واستدار إليه. أتت غزالة وتفرجت على الغزال. سألها قيس: حلو؟ قالت: لذلك ماعدت تأتي إلى الكرم؟ قال: سأحاول أن آتي غدا! سألته: مع الغزال؟ رد: لاأعرف! إذا أراد الغزال أخذته معي! سألته: صار يفهم كلامك؟ رد مزهوا: يفهم! انظري! ناداه: تعال! فحرك الغزال أذنيه واستدار إلى قيس. قال: شفت؟! جثت قرب الغزال: اتركني ألمسه! قال: المسيه! نظر إليها الغزال. قالت: ماأحلى عينيه! زها قيس. كأنها تقول له ماأحلى عينيك!

في تلك الليلة سرق الغزال. بحث عنه قيس في البيادر والكروم. قال له أبوه: لن يتركوا أثرا يدلك إليه. لو عرفت من سرقه ياويله! وكان صادقا. هو أيضا أحب الغزال! لكنه لن يبوح لقيس بما يظنه: أكلوا الغزال! يقال إن لحمه طيب! ذاق مرة كبة في الشام من لحم الغزال!

قطفت غزالة آخر حبات التوت لقيس. تدلله؟ شاركته حزنه على الغزال. وفي ذلك اليوم نادته ليصعد إليها على شجرة التوت. وهناك عانقته: لاتحزن ياقيس! كنت أعرف أنهم لن يتركوه! عرفت؟ كيف؟ ردت: لأنه حلو! هل كانت تدرك أن الجميل مهدد، وأن مصير النقي مرّ؟ كيف خمنت مالاتستطيع ولايستطيع بعد التعبير عنه؟

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:41 AM
- 5 -


لعل أحلى أيام قيس وقت كان يتنقل بين عالم النساء وعالم الرجال. فيسمع حكايا النساء وأساطيرهن، ويلحق أحلامهن، ويضحك من نكاتهن، ويعرف منهن الوجه الخفي من رجالهن. ويشرف في مضافات الرجال على المدن ويعرف حوادث البلاد ويسمع الشعر. يتعفف الرجال عن ذكر النساء، ولعلهم لايعرفون إلا ظاهرهن. لكن النساء يفصّلن في حديثهن عن أزواجهن وأولادهن. فينشرن المخادع والأسرة في صراحة، ليعلن السعادة أو التعاسة أو يطلبن النصيحة أو ليضحكن. فيرى قيس خفايا الرجال الذين يظهرون في المضافة، ويعرف ظهر الصورة. ويتبع مؤامرات النساء الصغيرة، ويكتشف فيها صبرهن ومثابرتهن.

انتظرت أمه سفر أبيه مع التوبي الذي كان من مسؤولي منطقة الجليل الأعلى في ثورة 1936 وخرجت مع زوجته عائشة. ركبت كل منهما حمارا، وأردفت عائشة قيسا وراءها فلف ذراعيه حول خصرها. رحلوا إلى قرية المشهد، بين كفر كنّا والرينة. في الطريق وضع قيس خده على ظهر عائشة، وعندما التفتت إليه في حنان شد ذراعيه حول خصرها. تعرف أنها تعجبه، ألم يقل لها أمام النساء: لماذا لست أمي؟ كانت بيضاء، ممتلئة، بضّة، في وجهها رضى السعادة. وهي الوحيدة بين النساء التي لم تكن تتحدث عن تفاصيل حياتها مع زوجها. تقول فقط: هنيّ، رضيّ، لم يرفع صوته أمامي مرّة! كانت عائشة وقتذاك في الخامسة والعشرين من العمر. لكنها منذ تزوجت لم تنجب. لذلك قصدت مع أم قيس الشيخ المشهور في قرية المشهد. انتشرت شهرة الشيخ منذ داوى طفلة مشلولة فخرجت من بيته تمشي. كيف داواها؟ روى أبوها أن الشيخ سأله كيف أصيبت بالشلل، فقال له: أفاقت مشلولة. قرر الشيخ أن يداويها بالتي كانت هي الداء. كان المرضى يقيمون يوما عند الشيخ فيأكلون وينامون الليل عنده. فطلب من أمها أن تمثل خلال الأكل أنها تختنق. عندما مثلت دور المختنقة بالطعام صرخ الشيخ للفتاة: هاتي كوب ماء! فهبت البنت واقفة. داواها بالرعب الذي شلّها! وداوى النساء العاقرات بشاش مضمخ بسائل، فانتشرت أخبار من حملن ولم تنتشر أخبار من فشلن.

تفرج قيس على الشيخ المهيب وتناول من زوجته الغداء تحت شجرة الخروب التي تظلل البيت كله. سهر تحت سماء موشاة بالنجوم حتى غفا، وفي الصباح ركب الحمار خلف عائشة. في الطريق عبرهما خيّال مسرع فجفل حمار عائشة ووقعت على الأرض، ووقع معها قيس دون أن يفلت خصرها من ذراعيه. على الأرض ضحكت فأضحكته وبقيا مكانهما ضاحكين زمنا وأمه واقفة تتفرج عليهما. ثم ضحكت هي أيضا. فاستسلم قيس للحمرة البراقة التي غمرت وجهها، وانقلب على ظهره لتملأ عينيه فلايرى سواها. وبقيت فوقه على زرقة السماء متألقة، وغمرته السعادة لأنها ليست في تلك البرهة أقل جمالا ونضرة من عائشة. عندما امتطت المرأتان حماريهما سارتا متوازيتين وفهم قيس من حديثهما أن أمه طلبت من الشيخ أن يبعد زوجها عن النساء. فأعطاها الشيخ ورقة مكتوبة لتنقعها في الجرة التي يشرب منها زوجها الماء. لكنه أوصاها: يابنتي، يبطل هذه الأوراق الوجه العبوس، وتقوّيها النفس الرضيّة! فهل أضحكت أمه فقط عائشة وقيس المتشبث بها؟ أم الفلاة الرحبة التي تصغّر الهموم وتذكّر الإنسان بأن مايفسد حياته عابر وتافه؟ أم كانت مستسلمة لنصيحة الشيخ، ولوهمها بأن زوجها لن يرى من النساء غيرها، مثل عائشة الحالمة بطفل؟

لم تستبق تلك الرحلة الممتعة إلى قرية المشهد قيسا عند أمه. فلازم أباه في الأمسيات. وبدا لأمه أن أباه هو الذي يربيه ليكون مثله. فلوّحت له بتجمع النساء على المصطبة وبهسهسة حليهن وأحاديثهن المسلية، وقالت له، وهو يبحث عن متسع ليجلس قرب عائشة، كأنها ستحرمه من الجنة: كبرت! رح إلى مضافة أبيك ففيها مايسليك أكثر من مصطبتنا! هل تدري أنها كانت تعلن حقيقة، فقريبا لن يستطيع قيس أن يستمتع بقبل النساء اللواتي يرغبن بأن تكون أجنتهن مثله، ولن يستطيع أن يحيط خصر عائشة بذراعيه، ولن يسمح له بأن يدخل الحمام مع أمه. سيحرم من عالم النساء الملون الفاتن. تلومه أمه لأنه يلتصق بأبيه؟ وتهدده بأن تحرمه مبكرا من جنة النساء؟ لو تفهم حاجته إليها وإلى أبيه معا! عند أبيه يتفرج قيس على الحياة! يراقب أباه ويتعلم منه الحكمة والسياسة! ابتعد قيس عن المصطبة متألما. وسمع عائشة تلوم أمه: لو كان عندي ابن مثل قيس لاستبقيته قربي!

طلب رجل من أبي قيس أن يجحّش زوجته! ينتخب عادة للتجحيش صديق موثوق أو رجل وضيع لايمكن أن يمسك الزوجة. الرجل صاحب أبي قيس. ويفترض أن يقوم هو بالتجحيش. لكنه لن يفعل ذلك! اعفني من هذا، زوجتك مثل أختي! والتجحيش لايقنعني. على الرجل أن يتحمل نتيجة تسرعه! لكن اختر من تشأ أكن شاهدك!

قال أبو قيس لابنه: التجحيش درس للرجل الذي يرمي القسم بالطلاق على زوجته ثلاث مرات. لاتجوز له إلا إذا تزوجها آخر ثم طلقها. في الشرع يجب أن يذوق من يعقد عليها عسيلتها، وأن يتحمل زوجها القديم ذلك. لكن لاأحد يذوق عسيلة أحد! شهد أبو قيس ذلك الزواج الشكلي. لكن زوجة صديقه أطالت الخلوة بزوجها الجديد، وزوجها القديم يحترق قرب أبي قيس. ثم خرجت وأعلنت أنها لاتريد الطلاق من الرجل الذي تزوجته "على سنة الله ورسوله"! سترحل معه إلى قرية أخرى لأنها خرقت العرف، وهي تقبل ذلك! من باعني بالفول أبيعه بالقشور!

كان أبو قيس وهو يلملم الفضيحة ويهوّن على صاحبه المصيبة، مشغولا بأخيه ابراهيم. من حظه أنه أنجز شراء الغنم من تركيا وسلّمه للراعي قبل أن ينغمس في مشاكل من حوله! تزوج ابراهيم، أخو قيس، من ابنة السعدي، بطل انتفاضة 1936 الذي يسكن قرب القلعة. يقول السعدي إن أخا قيس كبّر الكلام، ولم يحترم المقام. لذلك سحب بنته واستعادها إلى بيته. أرسل ابراهيم "جاهة" إلى السعدي، فردها! أرسل أبو قيس "جاهة" أخرى فردها السعدي. تريد المرأة العودة إلى بيت زوجها لكن أباها عنيد. غضب أبو قيس وقال لأخيه: سأخطب لك امرأة أخرى ولتبق بنت السعدي عند أبيها! أعلن أبو قيس في تلك الليلة أمام المجتمعين أن البطولات التي يدعيها السعدي فيها كثير من الخيال، وفيها مالايقبله قلب المسلم كقتل الأبرياء ولو كانوا أعداء. ودعا الحاضرين إلى عرس أخيه ابراهيم.

تجمع الناس في الباحة أمام غرف العقد في منتصف الليل. غنوا ورقصوا وأكلوا. وفي منتصف الليل دخلت أم العروس إلى الغرفة التي اجتمع فيها العروسان تحمل صينية فيها طعام. ثم خرجت وأغلقت عليهما الباب. بقي الناس في الباحة. عندما سمعوا صرخة المرأة أطلقوا الرصاص في الهواء وزغردت النساء. ثم مد رجل منديلا أبيض من الباب، تناوله العروس وأعاده بعد أن غمسه بدم عروسه. فأطلق الرصاص مرة أخرى وارتفعت الزغاريد.

كان ابراهيم يعرف في تلك الليلة أن بنت السعدي تبكي، وأن أباها غاضب ومغموم. تعرف ذلك النساء المحتفلات بالعرس ومنهن أم قيس. يعرف ابراهيم أنه سيستعيد زوجته بنت السعدي عندما يلين أبوها. لكنه منساق في الحياة، ولايمكن أن يعارض رغبة أخيه الأكبر. يجب أن يولد له أبناء، يجب أن يدافع عن كرامته أمام أهل البلد. لايستطيع أن يكون عاشقا يبكي على امرأة يحجزها أبوها عنه. مع أنه في الليلة الاولى مع امرأته الجديدة فهم ماكان بينه وبين بنت السعدي من السعادة. وميز الفرق بين بنت السعدي التي تبدو كأنها نحتت لأجله وبين هذه التي تفيض عنه.

تفرج قيس على العرس منذ بدأت الاحتفالات به. مشى بين بيت عمه وبين بيت العروس. غاص بين الرجال وبين النساء. استمع إلى الأهازيج. لم يدعه أحد كي يغني كما يدعوه الغرباء في أعراسهم. فبدا صغيرا في بيته. لكنه تأمل المنديل الأبيض المرقش بالدم، وأنصت إلى الفرح الذي امتد في طلقات الرصاص. هل أفهموه في ذلك اليوم أنه يجب ألا يتزوج إلا بكرا؟ أم أشربوه زهو الرجل بأن يكون الفاتح الأول؟ جلس إلى جانب أبيه في آخر الليل. رأى الناس ينصرفون بعد أن أعلنت لهم شهادة الدم شرف الفتاة التي تزوجها عمه. واندفع في قلب قيس حب للنساء اللواتي بدأن ينصرفن. نظر إلى قاماتهن وملابسهن الزاهية وسمع أساورهن وأقراطهن وعقودهن، وحط نظره عند غزالة التي كانت هي أيضا بين برهة وأخرى تنظر إليه. احتفلت البلد بالعرس، فهل سيتزوج قيس هكذا ذات يوم، فيدقون له الطبل وينفخون له بالمزمار ويطلقون له الرصاص ويمد يده إليهم بمنديل أبيض مرقش بدم عروسه؟ هل سيعرض دم امرأته المحبوبة للغرباء؟ نظر إلى غزالة ورأى في عينيها سعادة ونعاسا. وكان هو أيضا سعيدا لكنه يشتهي النوم.

توسطت النساء فأعدن بنت السعدي إلى بيتها بعد أن ولد لزوجها ولد من زوجته الثانية. عاشت مع ضرتها في بيت واحد. وانتقلت معها وقت الهجرة من صفورية إلى دمشق، وسكنت معها في المزة. أما السعدي فبقي في صفورية! قاوم الإسرائيليين حتى قتلوه تحت شجرة البلوط المعمرة أمام بيته قرب القلعة.

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:42 AM
- 6 -


هل تستطيع أم قيس أن تملأ عيني رجل يتنقل بين بلاد الشام متاجرا قادرا أن يلبي مايشتهيه ويروي أهواءه؟ ماذا يستبقي رجل معتد بشبابه، بعيد عن أيام المرض وأيام الشيخوخة، مخلصا لزوجة واحدة؟ أوهمته قوته وغناه بأنه لن يضعف ولن يفتقر، وكانت نساء المدن التي يعبرها مغريات وممكنات.

لمح قيس أهواء أبيه، فهل فهمه وهو بعد في الثامنة من العمر؟ أمسك قيس بمكانة الولد الأكبر لدى أبيه. وربما كبّرته في العمر الصداقة التي أشعره بها أبوه، والمكاشفة بينهما. وكأنه قبل ماعرضه أبوه دون كلام: واجب رب الأسرة أن يشبع امرأته ويكفي بيته، وحقه في حياة متسعة لاتطالها زوجة مشغولة بأولادها وطبخها. المسرات حق الرجل، شرط أن يعود بعدها إلى أسرته! بين الناس والأهل مكان الزوجة. لامكان هناك للعشيقة! فهل قبل قيس مبكرا، أن يجمع الرجل بين حقه في التنقل بين النساء وبين واجباته في الأسرة؟ أم دفعه إلى المسار ذاته فيما بعد، حبه المفقود؟

في ذلك العمر راقب قيس أباه معجبا به. سجلت أمه له ذلك. وغشها أنه معتد بنفسه، فلم تفهم حاجته إلى أن تحتضنه وتربت على رأسه حتى ينام، وتعانقه حتى يشعر بنفسها الحار على رقبته، وبصدرها على صدره، وبذراعيها حول كتفيه. فظل عطشه إلى الأم قويا، قاهرا، مع أنه رفض بكبرياء أن يتصور أنه كان دائما يشتهي في المرأة، الأم! فهمت كونستانس ذلك بعد عقود، فتحملت من الشفقة والرحمة إهانته مرة، وبحثت له مرة عن صديقته، واستقبلت مرة صديقته الأخرى. لو انتبهت ليلى ذات يوم إلى عطشه إلى الأم لتندت عيناها وأغضت. ولسألها: وأنت؟ ولردت: شبعت من أمي!

كان في الثامنة يوم رأى أمه جالسة على كرسي الحمام المنخفض. غرفت الماء من الجرن. تفرج عليها ذاهلا وهي تسكب الماء على شعرها الطويل وتغمض عينيها رافعة رأسها إلى أفق لاتراه. لمعت كتفاها، وتابع قيس سيلان الماء على صدرها وبطنها وركبتيها. عندما شهق قالت: قيس، أنت هنا؟ همهم: هنا! قالت: ناولني إذن صابونة. هذه صغيرة! وضع الصابونة في كفها ورأى ذراعها تمتد إليه بطولها، فيصبح كتفها أكثر جمالا. تساءل: لم يرها أبي وهي تغتسل أبدا؟ أمتعه صوت الماء المنسكب عليها، ومد يده فلمسه. ماذا تفعل ياقيس؟ ألمس الماء! ضحكت. كانت في تلك البرهة رائقة. كأنها لاتفكر إلا بنفسها، ولاتحس بهزيمتها الدائمة أمام أبيه. كأنها تمخر الدنيا وهي تستحم، فرحة بجسمها، بالماء، بالصابون، وتسمع تنفس بشرتها. قالت له: ماتزال هنا؟ إذن افرك لي ظهري. تناول قطعة الليف التي زرعتها وجففتها ونظفتها. لمس رقة الليف الذي امتلأ بالماء والصابون وخشونته. فرك ظهرها من أوله إلى آخره مبهورا ببشرتها. تكاد تكون دون عظام. في مكان العمود الفقري قناة ضيقة منخفضة قليلا عما يجاورها. لايوجد لوح الكتف! انتبهت إلى يده. كم أنت ماهر ياقيس! سأجعلك تساعدني في غسل إخوتك!

هل فهم قيس هناك أن الحمام في الشرق وقت للراحة والسعادة، للنفس؟ تنوس فيه المرأة بين المفرد والجمع. تحزم بقجتها المطرزة، تحمل معها "الترابة" الطيبة وصابون الغار، تحمل طعامها ومخللاتها وتدعو جاراتها، فيتجمعن معا في الحمام. تتنقل ليلى، كالفتيات الصغيرات، بين النساء في حمام عمره خمسمائة سنة، وتتوه بين نساء عاريات، بين ضجة طاسات الماء، بين نوافير البحرة تحت القبة، وبين نجوم الوسطاني والجواني. قبة سماوية أخرى، مصاطب ومناشف مطرزة بالخيوط المذهبة والفضية، ملابس زاهية، صحون الطعام، نكات وأحاديث وحكايا، أجران وقباقيب ومياه. تهرب ليلى كلما نادتها أمها لتفركها. تجلسها في حضنها وتغطيها بالصابون. تنزلق هاربة. تمسك بها إحدى النساء وتقودها إلى أمها لتسكب عليها الماء.

ترك قيس باب الحمام مفتوحا. لفّت أمه نفسها بالمناشف. لذلك هب قيس واقفا عندما قال أبوه سنذهب إلى حمامات طبرية: عظيم! سأله أبوه مداعبا: تعرفها؟ لم نأخذك بعد إليها!

نزل قيس وأسرته في بيت في طبرية ذي فسحة واسعة تظللها دالية كبيرة. في طرف الفسحة ليوان يرتفع عليها. رأى قيس صاحبة البيت جالسة ولمح أباه يلمس كفها التي تمسك بفنجان القهوة. وخمن أن أباه يعرفها. لايعني نزول أبيه إلى طبرية التجارة فقط إذن!

استبقي أخوه الصغير معه وذهبت أمه إلى الحمامات. تنزه مع أخيه على شاطئ طبرية. وجد أصدافا صغيرة جدا. ثم ملّ ذلك. فعاد إلى البيت يجر أخاه مرة ويحمله مرة. تركه عند صاحبة البيت ومشى إلى بركة النساء. بركة واسعة، الماء فيها إلى الركبة، ماء ساخن متدفق جار. احتجت بعض النساء: كبير! اخرجيه! ردت على المحتجات نساء أخريات: صغير لكن قطعته كبيرة! قالت أمه: لم يبلغ بعد الثامنة! قالت امرأة ساخرة ماتقوله عادة النساء: هاتي أباه معك في المرة التالية! بقي قيس هناك خلال ذلك الحوار وبعده. جلس على أرض البركة القديمة وغرف منها الماء، تمرغ بالماء. وتفرج على النساء. يالهذا المخلوق الراقي! ماأملح النساء! بدا له أن الرجال مساكين لأنهم ليسوا كالنساء. زاغت عيناه وهو يرى نساء يغرفن الماء، ونساء راكعات في الماء، ونساء مستلقيات أو جالسات على طرف البركة، ونساء يتنقلن. ويوم رأى فيما بعد في اوربا لوحات تسجل الحمامات الشرقية تنهد: ناقصة! دون أصوات وبخار وحركة، دون طيب! غاب عن اللوحات أيضا عبق التاريخ الذي تنفسه قيس يومذاك. فحمامات طبرية التي وصل إليها بين آثار طبرية القديمة، تذكّر بحمّات الكنعانية، بمشيدات الرومان، بالفتح الإسلامي الذي هندس الحمام العتيق، والجزار الذي شيد الحمام الكبير. ليت رجلا أمسك بيد قيس يومذاك ودلّه إلى الفضاء الخفي في تلك الأمكنة، وحدثه عنها ليزيد من نشوته، ويقول له ليس سببها المياه المعدنية الحارة، ولاالنساء المتمرغات فيها، بل المكان الذي احتضن كل ذلك!

بعد طبرية رافق قيس أباه إلى القدس. تجول معه في المدينة. انتظره حتى اتفق مع التجار وحاسبهم. صعد أدراج القدس العتيقة، تفرج على الأسواق، وتوقف أمام السبلان وفتنه سبيل قايتباي. مشى إلى المسجد الأقصى. أذهلته باحة المسجد الواسعة، والسجاد والثريات والسقف المرتفع. صلى في المسجد الأقصى مع أبيه وهو ينقل نظره بين الجدران والسقف والأرض. ثم تفرج ذاهلا على قبة الصخرة. قال له أبوه: سقطت الصخرة من نيزك ما قبل أن يوجد البشر! فرفع ذراعه كلها مشيرا إلى الزخارف. كان ذاهلا، كأنه عاجز عن التنفس، فلم يستطع أن يتكلم. وبدا لأبيه أنه ضيّق عينيه كمن بهره ضوء ساطع. فتلفت مستطلعا. لايوجد ضوء مبهر! الضوء عنصر في الزخرفة، يرتمي بمقدار مايحفظ سحرها. لكنه هو أيضا رفع عينيه إلى الفسيفساء التي ترسم أشجار نخيل أسطورية، وثمارا ذهبية، وزهورا وأوراقا أجمل من كل مافي الدنيا من زهر وثمار وأشجار. وضيّق هو أيضا عينيه. بقيا زمنا صامتين. وضاع قيس في خضرة وزرقة الفسيفساء. لم يخمن أبو قيس أن ابنه سيقع مغمى عليه! قال له وهو يلفه بذراعه ويعبران باحة المسجد الواسعة: يفتح الرجل عينيه على الجمال ويتقصاه، ولكن لايغمى عليه! هل واجه قيس هناك أول مرة في عمره السحر الذي يخلقه الفن ويتوج به الحضارات وهو يزيح الواقع العادي ويصوغ آخر فاتنا للسعادة؟ وضع أبو قيس كفه على كتف قيس: احفظ ياقيس! لم يصلّ عمر بن الخطاب في كنيسة القيامة كي يحميها. نظف الصخرة بيديه وصلى هنا. في هذه المدينة بويع أول ملك عربي كبير. بنى الوليد بن عبد الملك المسجد الأقصى الذي نهب الصليبيون كنوزه واستعاده صلاح الدين ووضع فيه المنبر الذي هيأه له نور الدين الشهيد. سنصلي هناك الآن معا! دار أبو قيس حول نفسه تحت القبة ودار معه قيس: احفظ ياقيس! بنى قبة الصخرة عبد الملك بن مروان سنة 691 هذه السقوف المذهبة، والجدران المرخمة، والنوافذ الزجاجية، والفسيفساء التي أوقعتك اشتغلها كلها المعماريون السوريون! ردد قيس مسحورا: دمشق! قال أبوه: نعم، كانت عاصمتهم دمشق!

سألته أمه عن جولاته فارتبك. ثم حذف قبة الصخرة وحكى لها فقط عن باحة المسجد الأقصى الواسعة جدا، جدا، وعن الصلاة على السجاد القديم. خلال صلاته رفع عينيه وتأمل النوافذ والسقف وكاد يستدير إلى الأعمدة. فتنه المنبر الذي قدمه للمسجد نور الدين الشهيد. قالت له أمه: تستدير وأنت تصلي؟ حرام! آه، عجز إذن عن التعبير عما فعله المكان في روحه! لم يستطع في ذلك العمر أن يفهمها أن الصلاة قد تكون ضيقة إذا كان المصلي ضيقا، وقد تكون واسعة، رائعة، إذا شعر بالكون! كان عليه أن يقطع عمرا كي يفهم ذلك. بعد عقود قال لنفسه: كل مانراه يغتني أو يفتقر بنا. فينا يوجد الشطر الآخر من جوهر الكون!

قرر أبو قيس أن يبدد ذهول ابنه فأخذه في القدس إلى السينما. شاهدا فيلم قيس وليلى. ابتسم أبوه: سميّك كان عاشقا مشهورا! لم يلاحظ قيس أن أباه تفرج عليه في السينما. بعد الفيلم قال له: الرجل الذي لايعرف النساء ليس رجلا! لكن لاتسلّم امرأة حياتك! لم يبح قيس لأبيه بأنه أحب مجنون ليلى، وبأنه لايخجل لو كان مثله. لكنه عندئذ قاس أباه بمجنون ليلى ورأى نمطين من الرجال واحدا مثل أبيه يتنقل بين النساء حرا، وآخر كالمجنون يهوى واحدة!

لكن هل كان ابو قيس يجر ابنه معه إلى القدس وحيفا ودمشق كي يعرض له الدنيا ويجعله في سرعة رجلا؟ أم كان يتستر به؟ لم تستطع أم قيس أن تفهم من قيس هل يلتقي أبوه بالنساء في حيفا أو القدس. فقدرت أن ذلك يحدث في الليل وقت ينام قيس. كانت محقة! في دمشق نزل قيس وأبوه في فندق أمية في المرجة. أفاق قيس في الليل، لم يجد أباه في الغرفة فبقي ساهرا حتى رجع. قال له: لاتتركني وحدي! خذني معك! أخذه الأب معه تلك الليلة. مشيا في الحارات. ووصلا إلى باب كبير فيه باب صغير كأبواب ألف ليلة. دقه الأب بحلقة كبيرة من النحاس المزخرف ففتحته مواربا امرأة بضة. مشيا خلفها في دهليز، وانفتحت أرض دار واسعة في أطرافها أشجار وفي وسطها بركة. جلسوا تحت سماء الليل الساجي. نظر قيس إلى المرأة بملء عينيه. رآها في ثوب ملون. وفاح عطر لاشبيه له، فاح من ضحكتها، من بشرتها البيضاء، من قامتها الممتلئة، فاح من الياسمين الذي عرش فوقها، فاح من الورد ومن بركة الماء ومن الأحواض ومن أصص النباتات المحتشدة بين أرض الدار والليوان. فاح من بيت لم ير شبيها له من قبل. قال له أبوه: قبّل خالتك! فاقترب منها، وفتحت هي ذراعيها له. ارتعش؟ خالته؟ هذه المرأة البضة البيضاء الرخية خالته؟ كل مافيها سعيد ومستريح. كل مافيها نعمة. كانت مختلفة عن النساء اللواتي رآهن في بلده. وكل ماحولها مختلف.

عاد من تلك الجنة مع أبيه إلى بلده. سألته أمه: ماذا رأيت، أين كنت؟ قال لها: زرنا خالتي. خالتك؟ شكلها؟ كيف رأيتها؟ وصف قيس المرأة البيضاء البضة الرخية. وصف البيت. قبّلتك؟ في الأيام التالية ظهرت حبوب حول فم قيس. فأمسكت أمه بفرصة لن تضيعها! هذه الحبوب دليل مرض جنسي! طبعا تنتقل الأمراض الجنسية بالملامسة! بدأ قيس مساراته إلى الأطباء في حيفا وطبرية. وسار معه أبوه الذي وقع في المصيدة. لم تضيع أمه الفرصة! جرّت زوجها كأنها تقتص منه.

انحاز قيس إلى أبيه في تلك الأيام، وفقدت أمه سحرها الذي بهره في الحمام. لمس غضبها عليه لأنه يرافق أباه. قالت: يربيه أبوه كي يكون مثله! وقالت: لو لم أسأله عمن رأى لما باح لي بتلك المرأة! شعرت بانبهار قيس بمغامرات أبيه. هما حزب واحد! فليأخذه! فهم قيس أنها أبعدته. وستر ظمأه إلى الأم بالتكبر. وأنسى نفسه أنه حتى في تلك الأيام تمنى أن تضمه إلى صدرها!

فهل أبعد عنه في جلافة النساء اللواتي أحببنه، لأنه كان ينتقم من أمه التي لم تفهم شوقه إلى حنانها؟ هل تعلق بكونستانس، وعمرها ضعف عمره، لأنه شم فيها أما؟ وبدالّة الإبن طلب أن تستقبله مع ايرينا في بيتها، وأعجبه أن تقول لها: أنت الآن صاحبة البيت فأرجو أن تقومي بواجب ضيافة قيس؟ لا! لايستعاد حب الأم الذي حرم منه. هناك، تحت الخروبة الوارفة، في البيدر، تحت الزيتونة، تحت السقف العقد، كان يريد أن تحتضنه أمه، وتشبعه من حبها! وهناك لم يحدث ذلك!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:43 AM
- 7 -


لم تستوقف أبا قيس إلا برهة جولات زوجته بين الأطباء لتتهمه بعلاقاته بالنساء! عاد إلى الديوان! وكان يستمتع برواية الحوادث القديمة روايات متنوعة كي يمتع أصحابه. يقول لهم: نقلب حكاية تعرفونها كي نجددها! في إحدى رواياته فسر لماذا سمى ابنه قيسا: قال لي الشيخ، كي يعيش غيّر اسمه! سألته، أي اسم يهبه العمر الطويل ياشيخنا؟ غرق الشيخ في التفكير. كان في شبابه يحب فتاة اسمها ليلى يصادفها على حافة طريق العين. كاد مصير الشيخ يشبه مصير مجنون ليلى لو لم ينتقل من القرية! لايعرف أحد سر الشيخ! التقط شيخنا فرصة أن ينادى شخص في قريته "قيسا"، فيذكره بأيام شبابه! قال الشيخ، قيس عند العرب أسطورة. سمّوه قيسا لعله يعيش بمقدار ماتعيش أسطورة قيس! على كل حال، يعرف شيخنا أنه هو الذي سيعلّم ابني، مهما كان اسمه! ألم يقل هارون الرشيد للغيمة، اذهبي فأينما هطلت أتى إلي خراجك؟!

ابتسم أحد أصحابه: قبلنا الرواية! مع أن الشيخ قال إنك أنت اخترت الإسم! لايخطر لغيرك مثله! فهم أبو قيس الوخزة فقال: هنيئا للقادر!

في صفورية التي يسكنها خمسة آلاف شخص تقريبا، مدرسة الخطيب حسن حلابو، ومدرسة الخطيب الشيخ يوسف. ومدرستان أميريتان واحدة للبنات وواحدة للبنين. التعليم في مدرسة الذكور من الصف الأول إلى الصف السابع، طلابها من صفورية والقرى المجاورة. بعد المدرسة ينتقل الأولاد إلى مدارس الناصرة أو القدس. وقد تنتقل البنات إلى مدارس راهبات الناصرة. لن ينتظر أبو قيس سن دخول قيس إلى المدرسة! فليدرس عند الشيخ الخطيب! أغرق أبو قيس الشيخ بهباته فأصبح الدرس لقيس. من بقي من التلاميذ يستمع الى مايقرأه قيس أو مايشرحه الشيخ لقيس! فحفظ القرآن قبل السادسة من العمر، وحفظ بعض الشعر.

لم يبق عند الشيخ مايقدمه لقيس ذي السادسة من العمر. كبّره أبوه في النفوس سنة، وقدمه للمدرسة: هاهو في السابعة من العمر! ماذا يفعلون في الصف الأول بتلميذ حفظ القرآن؟! سيحرج المعلم لأنه سيهمس للتلاميذ بما يعرفه! المدرسة ليست زريبة للأولاد، بل مكان للعلم! امتحنوه! فوضعوه في الصف الثالث! وقرّب ذلك رحيله من بلدته.

سأل أبو قيس صديقه المعلم شكري يوم أنهى قيس المدرسة: مارأيك؟ هل نرسله إلى كلية في القدس أم إلى الناصرة؟ رد: الناصرة قريبة، وفيها أقربائي. لن يشعر قيس فيها بالغربة. سيعنون به ولو كان "داخليا".

ياأبا قيس، يفرحك أن يشعر قيس بأنه رجل قبل الأوان! يطربك طموحه إلى حياة واسعة! تحمّل إذن! قرأ قيس إعلانا في الجريدة عن الحاجة إلى موظفين للبريد في حيفا. فقدم طلبا للوظيفة دون أن يستشير أحدا. ظهرت النتائج، نجح! سينفق على نفسه كالرجال! سيكون موظفا ذا هيبة!

جنّ أبوه عندما وصله الخبر. موظف في هذا العمر؟! نرصف أحلامنا بأولادنا حجرا فوق حجر فتسوقهم أحلام أخرى! لايهمه مصير ابنه الأصغر. لايبدو فيه ذكاء لمّاح. لكن قيسا يجب أن يكرّس لمصير عظيم! شرط ذلك: العلم! نعم، جنّ أبو قيس! لاشيء ولاأحد يمكن أن يهدئه! جرّ قيسا إلى شجرة الزيتون في بستان البيت وربطه إليها، وهدر: سيعاقب كل من يقدم لقيس طعاما أو شرابا! ضربه. ضربه انتقاما مما يخفيه في رأسه الصغير، انتقاما منه لأنه هدم الأحلام الكبيرة به، وعقابا على إهماله الدلال الذي رفل فيه. ضربه من كل قلبه. وضربه انتقاما من نفسه لأنه اضطر إلى ضربه! وفي البرهة التي تركه فيها مربوطا إلى الشجرة تمنى أن يرجوه جار أو صديق: فكّه! وتمنى أن يقول له قيس: أخطأت! انصرف وفي غضبه الهائج ألم لأنه ضرب ابنه المفضل!

بقي قيس مربوطا إلى شجرة الزيتون من الصباح إلى المساء. شعر بالقهر أكثر مما شعر بألم الضرب والجوع والعطش. في المساء أتى شكري وفكّه من الشجرة. سمعه قيس يقول لائما أباه. ماهكذا يعامل قيس! ناقشه وأقنعه! وهل يرضى شاب ذكي مثل قيس أن يترك المدرسة ليغلق مستقبله بيده! فهم قيس أن شكري لايحدث أباه فقط، بل يحدثه أيضا. مسّته كلمات شكري: "يغلق مستقبله"! قيس الذي يريد الدنيا في راحته، يغلق مستقبله؟ ماهذه الوظيفة التي بهرته بوجاهتها؟ يريد أن ينطلق بعيدا عن البيت؟ الدراسة خارج صفورية تطلقه إلى مدينة أرحب من قريته ذات الخمسة الآلاف شخص! آه، ياقيس لو عرفت أنك ستحرم من قريتك وأنها ستصبح ذات يوم أنقاضا لما ضقت بها! ستتمنى ذات يوم أن تعود إليها لتمشي في الطريق قرب النبع!

في تلك الأيام صار شكري يزور أبا قيس يوميا، وينادي قيسا ليتحدث إليه. سمع قيس اقتراح شكري: سأسجله، إذا وافق، في المدرسة الثانوية في صفد. هناك أقرباء زوجتي، بيت الحاج عيسى. سيكونون مثل أهله، يقصدهم متى رغب، ويطلب منهم مايطلبه الولد من أهله. لن يكون غريبا في صفد!

لكن قيسا كان قد جرح جرحا عميقا. أبوه الذي دلله وفضله على أولاده يضربه؟ يضربه بقسوة كأنه ينتقم منه؟ عرف أهل البيت وعرف شكري أنه ظل مربوطا طول النهار إلى شجرة الزيتون كما تربط الدواب! هل يستطيع قيس أن يتحمل ذلك القهر؟

السلاح ممنوع على العرب. يعاقب الإنكليز من يجدون عنده رصاصة عقوبة صارمة قد تكون الأشغال الشاقة المؤبدة وقد تكون الإعدام. لايبالي اليهود بذلك. يكدسون الأسلحة ويصنّعونها في معامل السلاح السرية في مستعمراتهم. يستوردونها بالبواخر مموهة. يحملون الأسلحة باسم الشرطة وباسم حرس المستعمرات الشرعيين ويهربونها. ينتج اليهود ذخيرة لرشيش ستن. يستخدمون في ذلك الآلات القديمة التي نقلت من بولندا وبريطانيا وخلّصت من مستودعات ميناء بيروت كآلات صناعية بمساعدة البريطانيين. ينتج اليهود الرصاص من عيار 9 مم. لديهم بناء لإنتاج العيارات النارية بنته الهاغانا على عمق خمسة أمتار ونصف، مغطى بالتراب، يدخل ويخرج منه العمال من مصبغة ومخبز تابعين للكيبوتس. أنتجت معامل السلاح اليهودية في سنة مئة مدفع هاون، و44,500 قذيفة هاون. أنتجت رشيشات، وقنابل يدوية، 53 ألف قنبلة. يجوب موفدو اليهود الولايات المتحدة ويشترون بأثمان رمزية معامل للسلاح. يشترون الآلات باسم تجار يهود وبأسماء شركات عربية وهمية. وترسل الآلات كأنها آلات صناعية عادية إلى عناوين مشاريع صناعية. تنزل في ميناء حيفا وينقلها عمال عرب. في اوربا اشترت الوكالة اليهودية السلاح وخزنته في مخبأ في مارسيليا. أرسل الجنود اليهود في الوحدات البريطانية شحنات من السلاح، أيضا. تحرس الفرقة اليهودية التي تعسكر في بلجيكا، مخابئ السلاح السرية. في تولوز بفرنسا "مخبأ العناية بلاجئي ويتامى الحرب" بناه أعضاء الحركة المعادية للنازية. هناك مخبأ الأسلحة. بعد الحرب، ستنقل الأسلحة من بلجيكا في قوافل كأنها تنقل لاجئين يهودا من ألمانيا بسيارات الفرقة اليهودية إلى مرسيليا تتقدمها دراجات نارية.. ستسير ثلاث قوافل إلى مرسيليا وتولوز وفيلنوف. وعندما يكشف الأمن الفرنسي مافيها من أسلحة سيصرخ الصهيوني المسؤول عنها متهما من يعرقلونها بالعداوة لليهود: قتل ستة ملايين يهودي في اوربا.. الشعب اليهودي في إسرائيل صمم على الدفاع عن نفسه! فتمر شرط أن يكون مرافقوها بزي عسكريين بريطانيين. صفقة مهمة: 300 مدفع برن، 600 بندقية بريطانية، 300 مسدس، مدفعان مضادان للدروع، 500 رشيش ستن، 4,15000 رصاصة.

تفتح اعتمادات في المصارف، ويتنكر اليهود باسم رجال أعمال عرب. يخفى السلاح داخل مراجل بخارية، آلات إسمنت، هيئت في ورشة ووضب فيها السلاح. في ميناء حيفا تسلم إلى الهاغانا.

العرب؟ يستطيعون فقط أن يخفوا مسدسا هنا وبارودة هناك! وبعض الفشك! لدى أبي قيس مسدس. يعرف قيس مكانه! مخبأ في حظيرة الغنم، في فجوة في الأرض مغلقة بحجارة.

أخرج قيس المسدس من الحظيرة، جلس تحت شجرة الزيتون التي ربطه أبوه إليها. في تلك البرهة لم يفكر في قريته أو في البلاد. فكر في نفسه. بدا له أنه اكتفى من القهر. وأنه سينتقم من الظلم الذي وقع عليه، من أحلامه الواسعة التي لايدري هل قصد أن يحققها بوظيفة في البريد وبهجرة إلى بلد كبير مثل حيفا أم كان باحثا تائها عن الطريق إليها. يريد أن ينهي الاضطراب الذي يشعر به الإنسان الحساس عندما يقف على التخوم بين مرحلة من حياته ومرحلة أخرى مجهولة. يريد أن يقطع بحدّ باتر الأمس المعروف عن الغد المجهول. في تلك البرهة أحب الحياة إلى حدّ مؤلم، إلى حدّ أنه يرفض ألا تكون كما يريد تماما. مع أنه لايعرف بعد كيف يريدها أن تكون. يعرف فقط أن الحاضر انتهى والمستقبل غائب. جلس إلى شجرة الزيتون التي ربطه أبوه إليها، وتجولت نظرته في البستان دون أن يرى شيئا منه. رفع المسدس بيده وسدده إلى صدغه، وضغط الزناد. سمع الزناد، لكن الرصاصة لم تنطلق. أنزل المسدس وتفرج عليه. مد ذراعه وضغط الزناد في الهواء. انطلقت الرصاصة، فذهل. سكن. لماذا لم تنطلق الرصاصة على رأسه وانطلقت في الفراغ؟ وضع المسدس إلى جانبه. وغمره شعور غريب لايستطيع أن يحيط به. رهبة مشوبة بالفرح، اضطراب مشوب بنبوءة غريبة. لم تنطلق الرصاصة من المسدس لأن عمره يجب ألا ينتهي الآن! لأن القدر يريده أن يعيش تجربة لم يعشها بعد! قدّر له أن يحقق أمرا لاأحد يعرفه بعد! سيظل هذا الشعور يلازمه طول حياته، ويتقدم لينجده في أيامه الصعبة. عندما أتى شكري قال له قيس: أقبل ياعمي أن تسجلني في مدرسة صفد الثانوية!

غاب عنه ذلك الشعور وقت أحب شهرزاد. وكان يومذاك أيضا على تخوم أخرى. لكن ذلك حدث فيما بعد.

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:44 AM
- 8 -


أدهشته صفد يوم وصل إليها في الصباح. كانت الشمس تتوهج على عشرات النوافذ في بيوت من الحجر الأبيض وسط الخضرة على جبل مرتفع. تبع إشارة أبيه: حارة الأكراد، حارة الجورة، حارة البرج، حارة السوق.. وهناك قلعة صفد التي استردها صلاح الدين من الفرنجة يوم استرد قلعة كوكب. واستردها بعده الظاهر بيبرس. دفن بيبرس شهداءه في ظاهرها واستقدم البنائين من دمشق ليعمروها، واشتغل معهم بنفسه. بعد ذلك العمل الصعب نقشت قطعة صغيرة من الحجر تذكّر بأنه خلصها من الفرنج الملاعين. لكن الزلزال هدمها فيما بعد.

سكن قيس مع الطلاب الغرباء في البناء الضخم الذي كان سرايا وكان في أيام الحرب ثكنة عثمانية، ويسمونه "المنزل". لم يشعر بالغربة، بل كان سعيدا بحريته. رتب على السرير فراشه، وفي الخزانة ثيابه، وعلى الطاولة كتبه ودفاتره. تجول في "المنزل" مستطلعا، وخرج إلى المدينة. اكتشف فيها الطريق الذي يتنزه فيه أهلها في المساء دائرين حولها. والأزقة الضيقة المرصوفة بالحجر الأسود. أحب صفد الجبلية. من أرض القلعة أطل على جبل الجرمق في غربها، أعلى جبل في فلسطين، وعلى جبل طابور في جنوبها. هناك في البعد جبل الكرمل وبحيرة طبرية وجبال حوران والجولان. في الدفتر على طاولته في "المنزل" حدود قضاء صفد: قضاء مرجعيون في شماله، قضاء طبرية في جنوبه، قضاء القنيطرة في شرقه، وقضاء عكا وصور في غربه.

تجول قيس في الأسواق التي تعرض الخضار، واشترى الليمون الحلو المقطوف من وادي الليمون. وفي يوم الجمعة نزل مع الطلاب إلى وادي الطواحين، ومشى بين أشجار الفواكه. "تأتي مياه وادي الطواحين من نبع قرية ميرون ، وتصل إلى طبرية. تدير طواحين أهل صفد هنا. في الموسم نقطف من هذه الأشجار التوت والخوخ". أعجبه وادي الطواحين فغنى "حول ياغنام حول، بات الليلة هين". ففاجأ زملاءه بحلاوة صوته. صمتوا مستمعين إليه. ومنذ ذلك اليوم في وادي الطواحين صار شريكهم في نزهاتهم. رافقهم إلى قرى صفد، بيريا، الجاعونة، الجشّ، سعسع، الصفصاف، قدس، ماروس، ميرون. يريد أن يرى كل شيء، ويلمس الأنهار والجبال والشجر! لو تؤكل لأكلها! لو تحتضن لاحتضنها! قال له يسار: ياقيس، تريد أن تشربها كلها؟ كأنك ستتركها غدا!

خلال تلك النزهات، استصفى قيس من زملائه في الصف يسارا، شابا أشقر مهذبا مرحا من أهل صفد. دعاه يسار مرات ليتغدى عنده في أيام الجمعة. فرأى صورة أبيه في إطار من خشب، وبعض الأوسمة على طاولة مرتفعة تحت الصورة، وشهادات مكتوبة بالتركية بأحرف عربية. كان أبو يسار قاضيا في صيدا وعجلون. درس في صفد ثم في بيروت ثم في القدس ثم في استنبول. التحق بفيصل ورجع إلى بلده بعد دخول الفرنسيين إلى دمشق. وكان مرة رئيس بلدية. وحضر المصالحات والأعراس والمآتم. قال قيس وهو يتفرج على الكتب المصفوفة على الرفوف، والشمس تتوهج على الثريا الكبيرة: يعجبني بيتك يايسار! رد يسار: البيت الذي نسفه الإنكليز كان أجمل! لكن قيسا لم يكن رأى بعد أجمل مافي البيت: أخت يسار، أميرة. فهم قيس ذلك عندما دخلت تحمل صينية من الفواكه. تسمرت عليها عيناه. بعد أسابيع صار الثلاثة يصعدون أحيانا إلى السطح ويستمتعون بالمطل على القرى والطرقات التي تمتد تحت صفد. ويجلسون أحيانا على طراحة قرب القماش الأبيض الذي نشر عليه العدس والبرغل، ويتحدثون سعداء بأنهم معا. شعر قيس بأن زميله لاحظ أن أميرة تستهويه وأنه يرحب بذلك الهوى ويحرسه. لم تعد صفد لقيس مدرسة فقط. أصبحت زملاء العمر الجميل، وبداية حب يرجفه الشوق كما يرجف النسيم ورق الليمون الحلو.

تعلن أميرة وهم على السطح متى ستزور أختها. تنتقي وقت الزيارة بعد المدرسة. فيفهم قيس الموعد. بيت أختها مقابل "المنزل". يسرع قيس إلى الدكان المجاور "للمنزل" منذ يلمحها، مستعدا لشراء أي شيء لايحتاجه. يطلب أقلاما أو سكاكر أو صابونا من صاحب الدكان، وتقف هي قربه لابسة عباءتها الصفدية البرتقالية المخططة بخطوط سوداء. تمتد بينهما البرهة التي يدير لهما فيها صاحب الدكان ظهره باحثا عما طلبه قيس. فتفتح أميرة عباءتها لمحة خاطفة وتريه عنقها وصدرها، كأنها تفتح باب الجنة له.

أميرة في عمره، شقراء، في وجهها الأبيض ضوء، رضا، سعادة هادئة بالصبا. يطلب قيس شيئا آخر من البائع، لتطول وقفتهما معا. ثم تستدير أميرة إلى بيت أختها، ويظل واقفا أمام المنزل حتى تغيب خلف الباب. يعود إلى "المنزل" مسحورا بحركة الملاءة التي كشفت جزءا فقط من قدها الذي يراه عندما يزور زميله في بيته. ينظم شعرا فيها ويقرأه لزميله في الغرفة. منذ تلك الأيام كان ينشر عواطفه لأصحابه ويستمتع بها وهو يعرضها!

من يحفظ سر حب بطلاه في بلدة صغيرة؟ انتشرت قصيدة قيس في أميرة بين أصحابهما، ووصلت إلى أخيها وحطّت على طاولة الأستاذ. ابتسم أخوها، وكتم السر. قال الأستاذ لقيس: اقرأ علي شعرك! شعري؟ نعم آخر قصيدة نظمتها! ارتبك. اقرأها! قرأها مترددا. راقب قيس قصيدته على وجه الأستاذ. وفي نهاية القصيدة كان ينشد حرا ويهب الكلمات روحها. ماذا تعني الأطياف السعيدة على وجه الأستاذ؟ الفرح بتلميذ يجيد صياغة الهوى في هذا العمر؟ نضارة الشباب؟ أم ذكرى حب بعيد جرف الأستاذ في صباه؟ هب نسيم على الأستاذ والتلميذ. وبقيا صامتين زمنا. لكن قيسا لم يشعر بارتباك من ذلك الصمت. فهمه، مع أن الشباب يحبون التدفق الذي يحرق الساعات. سمع كلمات الأستاذ قبل أن يعلنها! سمعها في رضاه. "ياقيس اكتب دائما! لاتكتب فقط وقت يدفعك الهوى أو القلق. أتمنى أن يكون الشعر هو الريح التي تدفعك لتجعل النسمة مركبا!"

تحوم الكلمات التي يسمعها الشباب. لاتبحث عن مكان تحط فيه! فالدم الحار عاصفة، والثقة بأنه سيصوغ حياة لم يصغها أحد قبله هي التي تدفعه. تطير الكلمات التي يسمعها الشباب كالحمام حوله حتى تصادف سطحا تحط عليه ذات يوم. هل سيكون قيس من الناس الذين يثبّتون حياتهم بكلام مكتوب، أم من الذين ينثرون حياتهم في الفلاة كبذور زهور الربيع؟ أيهما تختار ياقيس؟ أتكون محراثا يشق التراب، أم طائرا مغردا ينتقل من أغصان إلى أغصان؟

رغم إعجاب قيس بصفد كانت تبهجه العودة إلى صفورية. يحب الطريق! يركب من صفد باصا من باصات شركة أبي عثمان الأسدي. يمر بالجاعونة، جب يوسف، سعيدة. وينزل في طبرية. يتجول فيها على شاطئ البحيرة. يقفز على درجات المقاهي إلى الشاطئ. يبقى هناك حتى موعد الباص من طبرية إلى الناصرة. ثم يركب باصا من باصات شركة ايفيد الإسرائيلية أو باصات العفيفي. ومن الناصرة يركب باص شركة العفيفي إلى صفورية. بين الناصرة وصفورية طريق حلزوني جبلي يمكن أن يقطعه ماشيا في ساعة.

سكن قيس في غرفة مع صديقه صبري الحمود في "المنزل" الذي يسكنه الطلاب الغرباء. بناء قديم من طابقين. في الطابق العلوي غرف للطلاب والأساتذة. وفي السفلي باحة واسعة، وقسم فيه خزائن للطلاب، يضعون في أكياس فيها ثيابهم فتغسل وتنشر. قرب "المنزل" بيت أخت أميرة، ودكان أبي ناظم حيث تتوقف أميرة ويتوقف قيس ويتبادلان النظر وأبو ناظم مشغول بتحضير ماطلبه كل منهما!

أمس أتى أبو قيس إلى صفد، أخذه إلى دكان أبي رياض وطلب منه أن ينتقي قطعة قماش، فاختارها قيس خمرية. قاس أبو رياض ذراعي قيس وطول بنطاله. وقال له: تعال جرب طقمك بعد يومين! ودع قيس أباه في ذلك الدكان مقابل البريد، ومشى إلى "المنزل" تاركا البريد إلى اليسار. مر بشركة باصات أبي عثمان الأسدي، وانحرف نحو الجسر، ثم مر ببيت العسكري تحت القلعة مباشرة، ثم ببيت زكي قدورة رئيس بلدية صفد، ودار مع الطريق إلى "المنزل". لم يجد رفيقه صبري الحمود فركض خارجا من "المنزل". يمر عادة بدار النقيب، ليصل إلى مدرسته الثانوية، "كلية الجرمق". بين دار النقيب وبين المدرسة ملعب واسع محاط بسلسلة من الحجر، هناك توقف قيس. جلس على "السلسلة" مع المتفرجين على مباراة كرة القدم. مقابل الملعب وادي الطواحين. والمدرسة نفسها على مرتفع تطل منه على وادي الطواحين. مدرسة قديمة من طابقين، ذات أقواس. من صفد يمدّ قيس نظره كيفما تلفت. وكم يحب ذلك المدى من الجبال والقرى والأشجار!

جلس قيس على "السلسلة" التي تحيط بالملعب. تفرج مع زملائه على مباراة بين الطلاب. أمامه ابن الأسدي، صبي أشقر جميل. نط الصبي كلما أدخل هدف. كانوا جميعا يلبسون كالطلاب بنطلونات قصيرة تظهر سيقانا مسمرة. تساءل قيس مبهورا بجمال أهل صفد: هل يوجد فيها إنسان بشع؟ مرت بينه وبين المباراة فتيات ونساء وأولاد ورجال. بيت الأسدي، بيت الخضرا، بيت النحوي..... عيون حلوة، قدود ممشوقة، وجوه بيضاء. انتبه إلى أنه يستعرض الجمال لاالمباراة. فنهض مع أصحابه ومشوا. لهم الطريق، والسماء، والأشجار، والحدائق التي تحيط البيوت، لهم المرتفع والمطل على وادي الطواحين والجبال. عادوا إلى العم أبي ناظم ليشتروا من دكانه مايلزمهم لرحلة الغد إلى عين الزيتون. ودعوا يوم الخميس بمباراة كرة القدم.

ذهبوا إلى عين الزيتون مشيا. قطعوا المسافة إليها من صفد في خمس وأربعين دقيقة في طقس حلو، لاحار ولابارد. عين الزيتون، بين ميرون وصفد، على قمة شمال صفد، كأنها ضاحيتها، على سفح وادي الدلب، الذي سماه الجغرافي العربي القديم الدمشقي وادي دليبة. قال يسار: يتدفق الماء من عين في الوادي ساعتين ثم ينقطع فينتظره من يستسقي. ويظن الجاهلون أن الجن تحكم ماءه. لم نعرف يايسار أنك موهوب بالخيال! إذا لم تصدقوني انزلوا إلى هناك! سننزل في المرة القادمة! عبروا بيوت عين الزيتون المبنية بالحجر، جامعها ومدرستها. صادفوا حولها حجارة أثرية. لم يتوقفوا إلا برهة أمام تلك الأحجار. فلسطين مليئة بها! والتاريخ لهم فلماذا يفكرون فيه وهم في عمر الشباب؟ البلاد لهم، والزمان لهم! ولد آباؤهم هنا، ولد أجدادهم هنا، وهذه الأحجار موجودة. لم تستوقفهم لكنهم تنفسوا عبقها، استندوا إليها بظهورهم، واتكؤوا عليها بأذرعهم وهم يمدون سيقانهم على العشب الربيعي. تأملوا أزهار الربيع التي بدت من بعد مساحات صفراء وبيضاء وحمراء. تلك الحمرة شقائق النعمان! كم يحبها قيس! يقول اليهود إن المسيح سيظهر هنا عندما يعود في آخر الزمان! يسمي اليهود القرية عين زيتيم. عين الزيتون مرتفعة، يمر الطريق من عكا إلى صفد تحتها. أمام قيس مساحات واسعة مزروعة بالزيتون. في القرية 820 عربيا. لهم كل تلك الأشجار التي يراها على مدّ العين. غابات من شجر الزيتون! قرب الطلاب عين استقوا منها، لذلك لم يحملوا معهم ماء في رحلتهم إلى عين الزيتون. فالنبع صاف، بارد، طيب. جلسوا تحت شجر الزيتون، أطلوا على طيطبا والجشّ. في الأسبوع الماضي رحلوا إلى قرية بيريا التي تجاور عين الزيتون، أطلوا منها على صفد وقابلوا جبل الجرمق من الغرب وانحدروا إلى واديها. بيريا صغيرة، فيها 240 شخصا فقط، بيوتها من الحجر. في الأسبوع القادم سيرحلون إلى الجرمق. سيرون منه حتى حيفا! سيمدون أذرعهم ويقولون: هناك لبنان! ويصعدون إلى القمة. في القمة فوهة واسعة كأنها فوهة بركان، أحيطت بسياج خوفا على الحيوانات والناس. سيتوقفون خلف السياج ويرمون في الفوهة حجرا وينتظرون زمنا.. ثم يسمعون صوت ارتطام الحجر بالماء. وسيقول شخص: هذا الماء يجري حتى قبرص! هل كانوا يتصورون في ذلك العمر أن إسرائيل التي لم تكن موجودة يومذاك، ستبحث حقوقها في المياه وتفرض بالقوة أن تأخذ مياها عربية من الليطاني ونهر الشريعة؟ لم يعرف قيس إلا فيما بعد أن المذكرة الصهيونية إلى مؤتمر السلم في سنة 1919 طلبت حق اسرائيل في المياه، وإسرائيل لم تكن بعد موجودة إلا في وعد بلفور! لذلك لم يشعر قيس في تلك الأيام إلا بالفرح بالدنيا التي كان يراها. لم يعرف بعد مايتركه الظلم من مرارة تشوب كل مايتذوقه ويشاهده! استرخى كزملائه على حقوقه في بلاده وهوائه ومائه، وتصور أن كل مايراه سيبقى موجودا حيث يتركه وسيعود إليه وقتما أراد.

بعد تلك الرحلة إلى عين الزيتون، بدأ أسبوعا عطلة الربيع في سنة 1947 ترك قيس، كالطلاب، صفد ليعود إلى بيته في صفورية. في طريقه من صفد إليها مر بالجاعونة. وصل إلى طبرية. سينتظر الباص ساعتين على الأقل، ليأخذه من طبرية إلى الناصرة، ومن الناصرة إلى صفورية. جلس في الليدو على شاطئ طبرية تحت شجرة وارفة ضخمة. حوله السماء والماء وجبال بعيدة. لعل المتنبي جلس في مكان قيس نفسه يوم صاغ قصيدته عن البحيرة! رفع قيس ذراعيه في الفضاء. أي مصير سيكون لي، قولي أيتها البحيرة! طلب بيرة. وذاقها أول مرة في حياته. نيسان والربيع أخضر، واليوم دافئ. والنساء يسبحن في البحيرة. أي عالم مبهر! صحا على خطوات. رأى غجرية، قصدته ومدت يدها له: هات كفك! أصرت أن "تفتح" له. أعطاها مبلغا كبيرا: عشرة قروش. فحصت خطوط كفه وقالت: ابحث عن حظك عند النساء! هناك حظك! لكن هل يحزنك أن أصارحك؟ قولي! ستموت مبكرا. في الثانية والثلاثين من العمر. هل قصدت أنه سيتزوج في تلك السن؟ لكن الغجرية التي تنبأت بأنه سيفقد حياته مبكرا، لم تتنبأ بأنه سيفقد وطنه!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 04:49 AM
- 9 -



جلس أبو قيس مع صاحبه اليهودي العربي يوسف على المصطبة أمام بيته. اشترى يوسف من أبي قيس غنما من القطعان التي استوردها من تركيا وسوريا، سيبيعه للجيش الإنكليزي. وهاهما يطلان على صفورية القديمة وهما يشربان الشاي. يستمتع أبو قيس عادة بجلسته هناك كلما عاد من سفر، ويحرك الشاي بملعقة فيها قليل من العنبر. تحدث عن فندق أمية الذي يحب أن ينزل فيه في المرجة في دمشق. الشام يايوسف بهجة! ابتسم يوسف. يعرف أن أبا قيس يستمتع أيضا بعذوبة الشاميات. من في فلسطين لاتفتنّه! الشاميات أسطورة بلهجتهن الناعمة، ببياضهن الياسميني ونعومة بشرتهن، ومهارتهن في تدليل الرجل. ذوّبت الحضارات كلها فيهن الرقة والغنج.

أمامهما امتدت صفورية القديمة. قال يوسف في صفاء: اسمعني ياأبا قيس، بع كل شيء وارحل! التفت أبو قيس إليه: أرحل؟ لماذا؟ ياأبا قيس، اجمع مالك وارحل! ستكون هذه البلاد كلها لنا! ضحك أبو قيس: ستكون لكم ياأولاد الميتة؟ أهمل يوسف سخرية أبي قيس: أحبك ياأبا قيس، أكلنا الخبز والملح وتغديت على سفرتك. لذلك أقول لك اجمع مالك وارحل! ارحل! يرحل؟ كان مستقرا في بيته الذي بناه في صفورية الجديدة. مستقرا في مساره بين عمله وأسرته والنساء اللواتي يستهوينه، والمدن التي يسافر إليها ويعود منها. لديه أولاد، وبيت بناه في ذوقه، وتجارة موفقة، وهو في صحته. الآن تحلو الحياة، فكيف يترك كل ذلك ويرحل؟ أرحل من بيتي وبلدي؟ لا، يايوسف! ضحك: إذا حدث المستحيل وأخذتم البلد سأكون في حمايتك! كان ساخرا لذلك أذهله أن يقول له يوسف في جد: صدقني ياأبا قيس، لن أستطيع وقتذاك حمايتك! ضحك أبو قيس. لماذا نضيّع وقتنا في الخيال! عندي شغل في عكا. المشاكل موجودة منذ سنوات بيننا وبين الإنكليز والمهاجرين اليهود، لكننا الأكثرية يايوسف، والبلد لنا. أنتم اليهود العرب منا، مع أن بعضكم يخوننا!

عرف أبو قيس فيما بعد أن اليهود العرب تجسسوا على التجمعات الدينية والجماهيرية والمساجد العربية، وتابعوا مايشتريه العرب من السلاح. وسهلوا بمعلوماتهم وبمعرفتهم اللغة العربية والبلد كمواطنين "خطة أيار 1946" التي نظمت الانتقام من العرب وتخويفهم. سهلوا تفجير القنابل في المقاهي والأسواق ومحطات المواصلات والتجمعات العربية، التي لايستطيع المهاجرون الغرباء الوصول إليها. ونسف بيوت الوطنيين العرب، واغتيالهم، وتفجير الباصات وخزانات الماء ومطاحن القمح العربية. ويسّروا بمعلوماتهم الهجوم على القرى والأحياء والمزارع العربية. لكن أبا قيس حاول أن يبرئ صاحبه اليهودي يوسف: لم يكن من "المستعربين". وهل أصابعك كلها سواء؟ ومع ذلك بقي الشك يأكل قلبه. ماأمر أن تأكل الخبز والملح مع صديق تأتمنه ، ثم تتبين أنه يتجسس عليك!

في آخر عطلة الربيع ساعد قيس أباه. موسم رعي الغنم عشب الربيع النضر، ولحم الحملان الطري، واللبن والشمندور! سافر أبو قيس إلى عكا، ولحقه قيس مع عمه ابراهيم ببقية قطيع الغنم من صفورية إلى سوق عكا. مشيا ست ساعات في البرية. وهاهي البروة أمامهما. قرية كبيرة على طرف سهل عكا، قرب طريقين أحدهما إلى عكا والآخر إلى حيفا. فيها كنيسة ومسجد ومدرستان وثلاث معاصر للزيتون واحدة منها آلية. قال ابراهيم: ماأطيب بطيخها! لو كنا في الصيف لكسرنا بطيخة هنا وارتوينا بها! توقفا في البروة وسقيا الغنم. تزاحم الغنم على الران، وجلس ابراهيم ويوسف على صخرة. طلب من قيس أن يغني فانطلق صوت قيس الشجي في البرية خلف الغنم. "اسقنيها بأبي أنت وأمي، لالتجلو الهم عني، أنت همي". أفدت ياقيس من الكوانات التي اشتراها أبوك من الشام، وحفظت أغاني أسمهان ولور دكاش. أفدت من الفونوغراف! يختلف ابراهيم عن أخيه. أبو قيس صاحب هوى، يحب اجتماع الرجال في ديوانه، كما يحب اجتماعات "البسط" في الشام! له في البلاد التي يسافر إليها نساء، وفي بلده نفسه نساء. لايجهل ذلك ابراهيم. ولايلام الرجل على ذلك، لولا أن أبا قيس يطلب من زوجته أحيانا أن تنادي حبيبته، ويخلو بها في بيته. قال ابراهيم لنفسه: سبب ذلك المال. لايستطيع الرجل في زمننا أن يشتري جواري فيتزوج امرأة ثانية، أو يتنقل بين النساء. المال يفتح البوابات! وقرر أن ينصح ابن أخيه فقال له: المال مفسدة الرجال! إياك أن يفسدك! رد قيس: لماذا ياعمي؟ به تشتري لمن تحبهم ماتشاء! فحصه ابراهيم بنظره: هل يفهم هذا الصبي مايقول؟ أم يكشف مسار حياته القادمة؟ قال له مازحا: من شابه أباه ماظلم! كان يحب قيسا وزاد من حبه له هذا اليوم وهما معا خلف القطيع في الفلاة. لكن ابراهيم لايستطيع أبدا أن يعيش كما يعيش أخوه، ويتمنى لقيس أن يكون مختلفا عنه وعن أخيه. ماالذي دفع ابراهيم إلى الغناء؟ المدى الذي جالت فيه عيناه، أم المدى الذي تجول فيه بقلبه؟ كان يحفظ أغاني الزجّال نوح ابراهيم الذي قاتل في ثورة 1936 وقتل في أواخرها في المعركة المشهورة التي كمن للإنكليز فيها في طريق يتلوى بين كوكب وتمرة. بدأ غناءه هادئا شجيا، ثم أصبحت الأغنية أمنية ثم أملا. لم يلجم الحزن العنفوان، ولم يحجب العنفوان الحزن. أصغى قيس لرجل يتخفى في بلاده، حاملا بارودة قديمة. رجل مظلوم ومعتدى عليه، لايستطيع أن يستسلم للفجر الرائق الذي يتسرب إليه وهو نائم على سطح بيته في الصيف، ولايستطيع أن يقطف التين الذي برّده الليل. لايستطيع أن يعشق بكل قلبه مطمئنا إلى أنه سيلقى حبيبته وتلقاه. ولايستطيع أن يحتضن امرأته غافيا هانئا حتى الفجر! ياربي لماذا هذه المصائب ولم نظلم أحدا؟ غنى ابراهيم قصيدة نوح ابراهيم عن جنازة حجازي ورفيقيه. وتذكر قيس عندئذ الرجل الذي رآه وهو في السادسة من العمر. خرج إلى الحاكورة، فتبين في العتمة تحت قوس من الصبار رجلا مقرفصا يستند إلى بارودة. تجمد قيس في مكانه، ولم يتحرك الرجل. ثم قال لقيس همسا: أريد خبزا وماء! جوعان وعطشان! ركض قيس إلى البيت، سكب صحنا من البرغل واللحم، وتناول أرغفة من الخبز، وباليد الأخرى حمل جرة الماء. وضعها قرب الرجل وقرفص ليتأمله عن قرب كأنه ينتظر أن يطلب منه شيئا آخر. لم يستدر عنه إلا وقت خمن أن الرجل الملثم يريد أن يبعد كوفيته عن وجهه ليأكل. استعاد قيس وهو يستمع إلى أغنيات عمه، رعشة قلبه يومذاك. وتلامح له فيها الرجل الذي صادفه قيس في الحاكورة. كان يلثم وجهه بكوفيته، لكن قيسا لمح الوداعة في بريق عينيه. وحفظ سره فحدث أباه فقط عنه. فوضع أبو قيس يده على كتفه. هل يبوح لابنه بأنه تبرع بثمن سلاح للثوار؟! قال لابنه: لابد أن هذا الرجل من الثوار. قمت بالواجب ياقيس، وليتك أعطيته زوادة! رد قيس: دخلت إلى البيت لأحضرها له وعندما خرجت لم أجده!

امتدت أناشيد نوح ابراهيم زمنا على التلال والفلاة. فهل كان أي منهما يتصور النار التي ستحرقها؟ وهل ضاعت الدماء والدموع هباء، وراحت صيغة النساء، حقوقهن، التي جمعناها لنشتري بالذهب سلاحا ندافع به عن بلادنا؟

وبكرة مرتي كيف راح تقضي نهارها

ويلها علي أو ويلها على صغارها

ياريتني خليت في ايدها سوارها

يوم دعتني الحرب تاإشتري سلاحها

باع عبد الله، صاحب أبي قيس وشريكه المسيحي الذي يسكن في الناصرة، القطيع الذي ساقه ابراهيم وقيس إلى عكا. بدا كل من عبد الله وأبو قيس راضيا بنجاحه. سأل أبو قيس صاحبه: ماذا تحب أن تأكل؟ تسألني عن ذلك ياأبا قيس، في عكا؟! سمكا طبعا!

صعدوا درجا إلى مطعم على سور عكا. جلس قيس ووجهه إلى البحر. تسمرت عيناه عليه. واستمتع أبوه بذهوله. وحاول ألا يتكلم منصرفا هو أيضا إلى البحر. ثم تنهد قيس والتفت عن البحر كأنه يريد أن يفلت من سحره. رأى امرأة تلبس ثوبا أخضر ذا أكمام قصيرة، مع رجل وأمامهما النادل يقترح عليهما طاولة تطل على البحر. استدارت المرأة فرأى قيس ثوبها "مشروطا" كأنما بمسمار، وجسمها الأبيض متفتحا هناك. جمدت عيناه. تبع أبو قيس نظرة ابنه ونهض فورا إلى رفيق المرأة وهمس في أذنه تماما. لن يستطيع قيس أبدا أن ينسى خضرة ثوب المرأة ولون تلك القناة الوردية الضيقة من جسمها. كأنها امتزجت برائحة العشب التي شمها في الطريق، بعبق الهواء النظيف في الفلاة، بأغنية أسمهان التي غناها لعمه ابراهيم. ستحضر تلك المرأة كلما ذكرت عكا أمامه. عندما وجه الضوء ذات يوم إلى بشرة صاحبته العاجية ليتقصى بريق المرمر، تساءل: أليس في لون امرأة عكا؟

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:03 AM
- 10 -



لم يستطع أبو قيس أن ينشغل بتجارته خلال الأحداث فيما بعد. تذكر الغداء في المطعم على سور عكا وزفر مقهورا. بدأت المناوشات في أنحاء فلسطين كلها. فقال: مرة أخرى انتفاضة 1936. رد أخوه ابراهيم الجالس في المضافة تلك الليلة: لا! أوسع من ذلك! هل كان ابراهيم يعرف أن قدر العرب، وقدر أخيه، سيحكمه حتى نهاية القرن الصراع مع الدولة التي ستنشأ؟ لأن الهجرة اليهودية المستمرة سرا وعلنا منذ بداية القرن، قد أنجزت قاعدة الدولة؟ سيفحص قيس بعد عقود من الزمن كلمات شكري العسلي في مجلس المبعوثين في بداية القرن ويهتف: ياللرائد! انتبه يومذاك إلى أن المستوطنين اليهود أسسوا في مستوطناتهم دولة ذات علم وطوابع ومؤسسات تربوية وعسكرية مستقلة عن الدولة العثمانية! ولابد أنه قتل في 6 أيار لأنه كشف الدونمة وقاوم الصهيونية واستشف أنها تمزق الدولة الشرقية!

في دمشق قال أبو ليلى الذي اشتغل في فلسطين يوم كانت من الدولة العثمانية، وتابع الحماسة التي كان يستقبل بها شكري العسلي في بيروت، واشترك في حرب الترعة، وتراجع مع المهزومين في الصحراء، وشاهد شنق شهداء أيار، وحضر المجاعة في لبنان، وصار يتوقف عند مراكز الحدود بين سوريا وفلسطين ولبنان بعد أن قسمت سايكس بيكو بلاد الشام، قال مقهورا: يعلنون الآن الدولة السرية التي كشف شكري العسلي بدايتها لأن الجنين اكتمل! أنجزت إنكلترا وعد بلفور وصك الانتداب وأعادت قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة! غدرت الدول الكبرى العرب بعد الحرب العالمية الاولى فاقتسموا بلادنا، وغدروا بنا بعد الحرب العالمية الثانية فغرسوا دولة غريبة في وسطنا! لم يقل أبو ليلى ماقالته ابنته فيما بعد: يريدون تعويض اليهود الاوربيين عن الاضطهاد في اوربا؟ فليعطوهم دولة عندهم! نحن ماذنبنا؟ لم نظلم اليهود العرب، عاشوا حتى في إسبانيا عند العرب أحرارا وحاكمين! لأن أبا ليلى وأبا قيس، وأهل أميرة في صفد وقفوا فقط عند الجوهر: يغرس الغرب دولة كالخنجر وسط البلاد العربية، ويؤسس مخفرا عندنا! لم يعرفوا وقتذاك المبررات التي ستستر بها إسرائيل زمنا طويلا الظلم الذي ستنزله ببلاد قيس وليلى. سيعرفها أبناؤهم الذين سيعاصرون بعد نصف قرن تقريبا محاكمة أو قتل من يرفض تلك المبررات. خرج اليهود من الحرب العالمية الثانية كضحايا وانتزعوا المراكز العليا باسم المقتولين في معسكرات الاعتقال! وسيوفر لهم ذلك طوال نصف قرن إرهابا يحرقون به من يعترض على تميزهم ويتهمه بالعنصرية، وسيجعلون الشعوب طوال ذلك الوقت كالمذنبة التي يجب أن تطلب منهم الغفران. ومن مراكزهم العليا سيدمرون المعسكر الاشتراكي بعد نصف قرن. ستظهر زمنا طويلا معسكرات الاعتقال فقط التي كشفها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية. قتلت فيها النازية شخصيات ثقافية وسياسية اوربية، وشغلت المعتقلين فيها في المعامل حتى الموت. كان اليهود الاوربيون بعض اولئك المعتقلين. لكن لن يذكر من الضحايا إلا اليهود. ولن يذكر أن المنظمة الصهيونية انتقت من تحررهم من المعسكرات ومن تتركهم لمصيرهم فيها. وأن مكتب فلسطين كان موجودا في برلين أيام معسكرات الاعتقال، والمسؤول فيه ليفي إشكول. وأن فون ماندل شتاين، رئيس قسم الشؤون اليهودية في المخابرات النازية، ساعد المنظمات الصهيونية في ترتيب معسكرات لتربية وتثقيف للشباب اليهود وتحضيرهم للعمل في كيبوتسات فلسطين. وأن كستنر التقى بايخمان المستعد لترحيل عشرات الآلاف من معسكرات الاعتقال في المجر إلى فلسطين، بحماية الشرطة الألمانية، شرط أن يضمن كستنر الهدوء والنظام في معسكرات الاعتقال في المجر. أنقذ كستنر ستمائة شخص انتقاهم مقابل أنه أكد للباقين أن نقلهم إلى ألمانيا للعمل في المصانع لن يمس شعرة فيهم. وسلم كستنر للألمان الجاسوسة اليهودية آنا سينتش التي هبطت بالمظلة ووصلت سالمة إلى بودابست. ويوم انتقل كستنر إلى فلسطين حكم بتأنيبه فقط ثم برئ، لكن مجهولين اغتالوه.

لن يعلن أن أيخمان الذي احتقر اليهود المندمجين بشعوبهم، وأعجب بالصهيونيين لأنهم مثاليون، اجتمع في سنة 1944 في المجر بالقائد الصهيوني براند، وعرض عليه أن ترسل دفعة جديدة من اليهود من معسكرات الاعتقال إلى فلسطين، لقاء عشرة آلاف سيارة شحن تهرب إلى خطوط الألمان في الجبهة الشرقية التي كانت تخلص اوربا من النازية! ووافق على ذلك وايزمن والوكالة اليهودية!

لم يعرف أبو قيس وأبو ليلى تلك التفاصيل. عرفوا فقط أن الدول الكبرى قررت غرس دولة غريبة في بلادهم. وذلك ظلم سيقاومونه! ولكن أين السلاح؟ يجب أن يطلبوه من الدول الكبرى التي سندت الاستيطان اليهودي وخلقت إسرائيل! فكيف؟! كيف؟! لم يتأملوا مشروع التقسيم كسياسيين حياديين ليقبلوا الممكن وينتظروا مايتمنون. بل استوقفهم الظلم في مشروع يقسم وطنهم ويهب حتى المدن العربية لليهود. لن يفحص كلمة ممثل الاتحاد السوفييتي إلا السياسيون والباحثون. يستحيل أن يفحص في هدوء صاحب بيت يقال له تنازل عن نصفه للزائر الغريب الذي لم يكن موجودا قبل ربع قرن! سيقرأ قيس بين الوثائق بعد عقود من الزمن وهو يفحصها ليعرف كيف فقد بلاده، كلمة غروميكو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 أيار 1947: "يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار المصالح المشروعة للشعب اليهودي والشعب العربي إذا أقيمت دولة ثنائية القومية عربية ويهودية. مثل هذه الدولة تمنح حقوقا متساوية لمواطنيها من اليهود والعرب وتضمن تعاون الشعبين على أساس المصالح المشتركة ولصالحهما معا. ومع ذلك فإذا تبين أن مثل هذا الحل لايمكن تحقيقه في الواقع العملي بسبب تدهور وسوء العلاقات اليهودية العربية فإن هناك بديلا آخر علينا أن ندرسه وهو تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين تتمتع كل منهما بحكم ذاتي إحداهما يهودية والأخرى عربية." سيقول قيس وقتذاك ماقاله العرب فيما بعد: ليتنا قبلنا بماخصنا به مشروع التقسيم! لكنه سيهتف حتى وقتذاك: ياللظلم! خصص مشروع التقسيم الذي اقترحته لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين في تشرين الثاني 1947 لعرب فلسطين وهم مليون و327 ألفا 43% من فلسطين فقط، وخصص لليهود وهم 608 آلاف 57% من فلسطين. فأي ظلم!! وسيردد حتى وقتذاك: ليس اليهود المهاجرون شعبا! ماذا يجمع البولوني والروسي والفرنسي والافريقي غير مشروع استثماري عنصري؟!

وصف ألفريد ليلنتال لقيس بعد عقود من الزمن كيف حدث التصويت على تقسيم فلسطين، ففسر له كيف فقد بلاده في هيئة دولية! روى له ماثبته في كتابه "ثمن إسرائيل": في 29 تشرين الثاني 1947 صوتت هيئة الأمم على تقسيم فلسطين بين دولتين عربية ويهودية وإدارة دولية في القدس، بأغلبية 33 صوتا ضد 13 صوتا. وامتنع عشر مندوبين عن التصويت. استمال الصهيونيون مندوبي هايتي وليبريا وسيام، فانقلبوا ضد العرب. أرغم مندوب هايتي بقرار حكومته فبكى. وأثر في ليبريا تجار المطاط وشركة فايرستون. استبدل مندوب سيام بعد تلفيق تهمة له. كيف رتب ذلك ياقيس؟ أقنع الصهيونيون بعض مندوبي الدول بأن يطلبوا تأجيل الاجتماع. وكان قد حدد يوم 26 تشرين الثاني للتصويت. فأجل. ولايعلم أحد حتى الآن كيف أجل. أجله مندوب البرازيل اوسوالد وارنها وكان يومئذ رئيس الهيئة. وكان اليوم التالي (27 تشرين الثاني) يوم عيد الشكر. عندما اجتمعت الهيئة يوم الجمعة في 28 تشرين الثاني طلب مسيو بارودي مندوب فرنسا تأجيل الاجتماع 24 ساعة. وعندما حل يوم التصويت (السبت 29 تشرين الثاني) كان اليهود قد استمالوا بعض الأعضاء فكسب المشروع أغلبية الثلثين. قال قيس لألفريد ليلنتال: قرأت أن فارس الخوري، ممثل سوريا وقتئذ، وضح أن أكثر الدول كانت تؤيد العرب لولا تدخل الولايات المتحدة التي راحت تؤثر على مندوبي الدول واحدا واحدا.. اضطر مندوب الفليبين إلى الهرب كيلا ينقض وعده لنا.. وبكى مندوب هايتي.. مستر تريجفي لي، السكرتير العام للأمم المتحدة، مسؤول إلى حد كبير عن النكبة التي نزلت بالشعب الفلسطيني لأنه جند الموظفين ليندسوا بين الأعضاء للتأثير عليهم.

احتفل اليهود بقرار التقسيم ورقصوا في الساحات، ووجم منه العرب. فماالعمل؟! أين السلاح الذي يدافعون به عن قراهم؟

كيف ألغت الحرب الحياة اليومية التي أطربهم فيها الشعر الذي يلقى في المضافة، وشغلتهم فيها حكاية عنتر وعبلة؟ أين السهرات في أيام القمر، والسعادة بلحم الخروف الطري وصحن البرغل الطيب؟ لم يتساءلوا هل نزل مطر يكفي الزيتون قبل قطافه! قل الفرح منذ نسوا نسيم المساء والشروق والغروب، وأصبحت حركات السياسيين محور الحياة. هكذا كانت سنة 1947 وسنة 1948.

لم يستمع الحاضرون في مضافة أبي قيس إلى حكاية عنتر وعبلة، بل استمعوا إلى غريب وصل إليها متعبا كالرسول القديم الذي ينقل أخبارا مهمة: اسمعوا! في 7/2/1948 اجتمع مجلس الجامعة العربية وفحص تقرير اللجنة العسكرية عن الوضع في فلسطين بعد قرار التقسيم، بينت اللجنة أن أهل فلسطين يبحثون عن السلاح في كل مكان. وبينت ضرورة تدخل الجيوش العربية لأن الهاغاناه جيش نظامي.

قال أبو قيس: سمعنا أن مجلس الجامعة العربية اجتمع في 17 تشرين الأول 1947 في عاليه بلبنان وأوصى بمساعدة شعب فلسطين وباحتياطات عسكرية على حدود فلسطين. لم يدع الحاج أمين لحضور الاجتماع فدخل القاعة في فندق طانيوس قادما من القاهرة فاستاء صالح جبر العراقي وطلب من رياض الصلح مندوب لبنان منعه فرفض باسم الضيافة. حاول المفتي أن يقنع العرب بتأليف حكومة عربية في فلسطين لكن العراق والأردن عارضتا اقتراحه. هكذا بدأ الخلاف بين العرب قبل أن يشتبكوا مع الصهيونيين!

قال الرسول الغريب: رغم ذلك، ولدت من اجتماع عاليه اللجنة العسكرية. ولاغبار على رئيسها اسماعيل صفوة باشا العراقي ولاعلى محمود الهندي السوري. فيها أيضا لبنان وفلسطين. قررت تجنيد المتطوعين فورا، بقيادة واحدة، ومساعدة أهل فلسطين بالأسلحة، خاصة في المناطق العربية المهددة. قدر اسماعيل صفوة باشا قبل قرار التقسيم بيومين أن لدى اليهود أكثر من خمسين ألف مقاتل، وأسلحة خفيفة وإمكانية استيراد أسلحة ثقيلة وطائرات. وليس لدى العرب في فلسطين مايكفي لرد خطر اليهود. لايمكن رد اليهود بالعصابات فقط ولابد من قوات نظامية مدربة ومسلحة تسليحا عصريا، مع الاستفادة من القوات الفلسطينية غير النظامية ومن العصابات. وبما أن الزمن في صالح العدو فمن المصلحة تقصير أمد الحرب وإنهاؤها بسرعة. لهذا اقترح تنظيم عرب فلسطين وتسليحهم واقترح مواضع للجيوش العربية. سافر رئيس اللجنة العسكرية إلى القاهرة واجتمع مع عبد الرحمن عزام وسلمه تقريرا يذكره فيه بتقاريره السابقة وبإهمال اللجنة السياسية مافي تلك التقارير!

قال أبو قيس: فليساعدونا! لكننا يجب أن نشتري السلاح من أي مكان! يقال في صحراء ليبيا أسلحة مطمورة من أيام الحرب العالمية! قديمة، ولكن ماالعمل؟ بلادنا وأرزاقنا!

قال أستاذ العربية: لاتفتحوا كتبكم! لدينا اليوم حديث آخر. عندما خيل إليه أن بعض الطلاب أغلق الكتب في ارتياح قال: ستشتاقون إليها! لاوقت لها في الأيام القادمة! واستدار إلى قيس: هل تستطيع ياقيس أن تكتب عن الأشواق الأخرى؟! قد تكون استمتعت بآخر عطلة من عطل الربيع الهادئة! كان وجهه جديا. وماذا غير الجد في هذه الأيام! قال: أعرف أنكم تنسون بعض ما نقوله في الصف. فلتنسوا قصائد المتنبي، وقصائد أبي العلاء المعري. لكن إياكم أن تنسوا الأرض التي تعلمتم فيها! اذكروا أن الإنكليز نفذوا وعد بلفور الذي وهبت به "حكومة جلالة ملكة بريطانيا" بلدنا وطنا قوميا لليهود الغرباء! احفظوا هذا النص من مقدمة صك الانتداب: "ولما كانت دول الحلفاء الكبرى قد وافقت على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التصريح الذي أصدرته في الأصل حكومة صاحبة الجلالة في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني سنة 1917 وأقرته الدول المذكورة لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين". احفظوا المادة الثانية من صك الانتداب: "الدولة المنتدبة مسؤولة عن جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي". بهذا النص أمنت حكومة الانتداب الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وانحازت إلى اليهود في الصدامات بيننا وبينهم، وحرمت علينا السلاح ويسرته لليهود. وبه قتلت شهداء انتفاضة 1936 وحولت إنكلترا القضية الفلسطينية إلى هيئة الأمم المتحدة في 2 نيسان 1947 فاجتمعت الهيئة العمومية في 28 نيسان وانتدبت لجنة درست بلدنا واقترحت مشروعين، الأول دولة اتحادية، والثاني دولتان عربية ويهودية. رجحت الثاني. ستقسّم بلادنا فهل نقبل ذلك؟!

وهنت الدروس كما قدر أستاذ المدرسة، وبدأت الاشتباكات في صفد. وجد قيس نفسه في لجنة من الشباب الذين يجردون بيوت صفد ويسجلون العائلات. ويكتبون ملاحظاتهم عن حالها وعدد أفرادها. من الناس من يعلن ضيقه فيقبل المال من جمعية المساعدة ويوقع الوصل. وتضع اللجنة أمام أبواب الآخرين المقدار المخصص لهم من التموين. عادة من العادات في بلاد الشام!

في 29 تشرين الثاني 1947 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين. وخصصت لليهود وهم أقلية 57% من فلسطين، الساحل وأكثر الأراضي والمدن التي لاتزال عربية! كان يلزم للقرار ثلث الأصوات وكانت أصوات هايتي وليبريا والفيليبين هي المرجحة. بعد عقود سيروي ألفريد ليلنتال لقيس كيف ضغط هارفي فايرستون، صاحب مزارع المطاط في ليبريا على حكومتها، وكيف وجه ترومان الموظفين الأمريكيين للضغط على المندوبين. ومع ذلك سينقل اليهود بالقوة يافا وعكا من المنطقة العربية في خريطة التقسيم إلى المنطقة اليهودية. ولن ينفذ الجزء الآخر من قرار التقسيم: دولة عربية فلسطينية! أي عربي لم يصرخ في تلك الأيام: ياللظلم! تجاوز قرار التقسيم وزن اليهود في الواقع، وخرق حقوق العرب التاريخية، وفرض دولة غريبة عن نسيج المنطقة!

اجتمع مجلس الجامعة العربية في 17 تشرين الأول 1947 في عاليه بلبنان وأوصى بجيش من المتطوعين العرب يدعم شعب فلسطين. من ضباط الجيش السوري المتطوعين كان إحسان كم ألماظ الذي وصل إلى صفد وكان قيس محظوظا لأنه عرفه ورآه.

كان قيس وقتذاك يتفوق في دروسه دون جهد. تعجبه المدرسة، وصفد، وأميرة الشقراء ذات العيون العسلية، يسعد بالزملاء الذين اصطفاهم. لكن قرار التقسيم قدّر له ألا يبقى في صفد الجبلية حتى تكتمل الدراسة وينضج الحب!

في نيسان كان الحي اليهودي يقطع طرقات صفد إلى قرى فلسطين ولبنان. يحكم اليهود الطريق إلى صفد بمستعمرات بيريا والجاعونة وعين زيتيم غرب قرية زيتون العربية. كان الإنكليز قد سلموا لليهود الثكنة البريطانية تيغرت على طريق الجاعونة، الموقع المحصن الذي يقطع الطريق على صفد. وسقطت الجاعونة فقطعت صفد عن محيطها العربي فلاسفر منها إلى طبرية والناصرة.. لاطريق إلى صفد إلا وادي الطواحين الذي لايسلكه إلا المشاة والبغال. يحاصر اليهود صفد العربية! وسيتصلون بالحي اليهودي فيها بعد سقوط عين الزيتون وبيريا. وسيحولون قواتهم إليها بعد سقوط حيفا ويافا. ومع ذلك طمأن العرب مطلّهم المرتفع، وقوات الشيشكلي في الصفصاف وميرون. يستطيع الشيشكلي أن يطوق عين زيتيم ويساعد صفد من خارجها! وقتذاك درب الضابط السوري المتطوع إحسان كم ألماظ أهل صفد ونظمهم للدفاع عنها.

في نيسان كثرت المناوشات اليومية بين العرب واليهود. أفاد العرب من قسوة الشتاء في صفد، وتسللوا تحت الضباب إلى أطراف الحي اليهودي وهاجموا خطوط دفاعه الأمامية. لكن اليهود أخذوا القلعة التي تشرف على صفد كلها. فنظم إحسان كم ألماظ استرداد القلعة. أتى إلى "المنزل". فرأى قيس أمامه الرجل الذي تهواه صفد. شابا طويلا أشقر، ومعه ضابط بريطاني قيل إنه تطوع ليقاتل مع العرب. فحص إحسان كم ألماظ "المنزل". غرفة قيس في البرج، مقابل القلعة تماما. قال له إحسان كم ألماظ: نحتاج غرفتك لاستعادة القلعة! لم يعرف قيس أن غرفته موقع ستراتيجي! جلا عنها مع رفيقه إلى غرفة أخرى. ونصب إحسان كم ألماظ رشاشا (برن) في البرج الذي يصعد إليه من غرفة قيس، واستخدمه لتغطية المجموعة التي استردت القلعة.

بعد استرداد القلعة قال أستاذ اللغة العربية للطلاب الغرباء: ستغلق المدرسة! في قراكم أيضا تهيأوا للدفاع عن الأرض! وأنت ياقيس، اكتب الشعر في جميع الأزمنة! هكذا سيرحل قيس مع الطلاب الغرباء عن صفد. وسيلتحق يسار مع أخيه يحيى الذي عاد من القدس بالشباب الذين يدربهم إحسان كم ألماظ على السلاح. وسيحرسان مع المجموعات المراكز المهمة والطرقات، بناية ساره، مركز البوليس، القلعة.

لاطريق للطلاب الغرباء إلى أهلهم إلا من وادي الطواحين! حمل قيس أغراضه إلى بيت زميله يسار، واستأجر مع بعض الطلاب بغلين حملا بقية الأمتعة. نزلوا من وادي الطواحين صباحا، وعند الظهر كان قيس يقف على الطريق العام الذي يمر منه الباص القادم من الرامة إلى المغار ثم الناصرة. وصل إلى الناصرة مساء. ومنها أخذ الباص اليومي إلى صفورية.

صفد محاصرة، لكنها قلعة الجليل! لايمكن أن تسقط! يجب أن تصمد فقط حتى دخول الجيوش العربية فلسطين في 15 أيار! حضر الشيشكلي وأثنى على التدريب، ورفّع إحسان كم ألماظ بنجمة.

انسحب الإنكليز من مركز البوليس فاحتله إحسان كم ألماظ مع الصفديين. في نيسان دخلت سرية من جيش الإنقاذ مع عبد الحميد السراج. ثم سرية مع هشام العظم. قدر إحسان كم ألماظ أن الوقت مناسب للهجوم على الحي اليهودي ليقطعه عن النجدات اليهودية. لكن ساري الفنيش كان قد وصل مع الشيشكلي وأصبح كحاكم عسكري فظ كرهه أهل صفد. منع ساري الفنيش كم ألماظ من الهجوم، ورفع المسدس عليه. عندئذ قال إحسان: على صفد السلام! وخرج منها ليقتل فيما بعد في سمخ. وستصل نجدات البالماخ إلى الحي اليهودي. وسيوجه اليهود قواتهم إلى صفد بعد سقوط حيفا في 24 نيسان.

هدأ أبو أميرة أسرته: نحن الأقوى في صفد. لليهود فيها حي صغير نحاصره نحن! هل أوهمته الأكثرية العربية في صفد بأن مدينته ستبقى عربية؟ قال له يحيى: صفد في التقسيم من حصة اليهود! رد في غضب: وهل اقترحنا نحن التقسيم؟! وهل قبلناه؟! مدّ رأسك من النافذة وقل لي من يوجد في صفد؟ هم أم نحن؟ فات ذلك الرجل الحكيم أن صفد نفسها محاصرة؟ أم كان يرد على نفسه؟

كانت الحرب في الأيام الاولى من أيار مناوشات بين الحي اليهودي المحصن وبين بقية صفد، انحسر فيها اليهود. لكن العرب لم يعرفوا أن الحي اليهودي كان يحفر أنفاقا ويحصن ليرتب "تحرير" المدينة من أكثريتها العربية. ولم يعرفوا أن البالماخ الذي سيكلف بقصف المدينة، فرقة عسكرية ذات خبرة في النسف والتخريب، ذات أسلحة حديثة، اشتركت مع القوات البريطانية في الحرب ضد حكومة فيشي في سوريا ولبنان. وكانت من أفضل قوات الهاغاناه. عندما سقطت حيفا حولت الهاغاناه قوتها إلى صفد لتحتلها قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين. نسف البالماخ جسور شرق المطلة، والجسر إلى عديسة، والجسر قرب سعسع وجسر الدان وجسر الحاصباني وجسر شيخ حسين. وهجم على قرية سعسع قرب عين الزيتون. سعسع قرية مكشوفة، بيوت متفرقة على منحدر، غير محصنة ولا محروسة، نسف البالماخ عشرين بيتا فيها وقتلت ماتيسر من أهلها. بعدها هجم اليهود في الليل على قرية عين الزيتون القريبة من صفد. وحمل الليل منها العويل.

وضعت أميرة كفيها على أذنيها وبكت: يقتلون الناس في عين الزيتون! من يستطيع أن يساعدهم؟! رفعت رأسها إلى السماء وبكت. عانقتها أمها: اسكتي! وكانت هي نفسها تحتاج من يواسيها! لاتزال السماء مظلمة، لم يطلع الفجر بعد! صاد اليهود أهلها في بيوتهم! قرب النافذة همس أبو أميرة لابنه: احتلال عين الزيتون مقدمة للهجوم على صفد!

احتل البالماخ عين الزيتون في أول أيار. قصفها بمدافع المورتر فانسحب المقاتلون منها. جمع اليهود شباب عين الزيتون، قيدوا الواحد إلى الآخر بالحبال. جمعوا النساء عند العين وهددوهن بالقتل إذا تحركن. فتشوا البيوت. التقطوا من بقي فيها. أخذوا الشباب وقتلوهم عند جبل كنعان بين صفد وعين الزيتون. بعد قتلهم أمر موشيه كيلمان بأن تفك قيودهم ليخفي أنهم قتلوا بأمر هادئ!

وصلت إلى صفد من عين الزيتون طول الليل أصوات الاستغاثة وعويل النساء. سمعت أميرة أصواتا تنادي: النجدة، النجدة..! اخترقت الاستغاثة وعويل النساء بيوت صفد. وضعت أميرة مخدة على أذنيها وبكت: يقتلون أمامنا ولانستطيع أن نساعدهم؟! هب يحيى: يجب أن ننزل إليهم! خرج من البيت وسبقه أخوه يسار. تجمع شباب صفد. لكن ساري الفنيش هدد من يخرج من صفد بالقتل. قال أبو أميرة: تسد المصفحات اليهودية طريق صفد! لن يستطيع شباب الجاعونة أيضا الوصول إلى عين الزيتون. ارتجفت أميرة فدفعتها أمها إلى المطبخ لكن أصوات الاستغاثة والعويل وصلت إلى هناك. أصوات بقر وماعز، وديوك، حيوانات وبشر. تتخللها انفجارات القنابل. بعد المجزرة في عين الزيتون أطلق اليهود النساء من مكانهن عند النبع: ابتعدن كيلا نقتلكن! مع ذلك حاول من بقي حيا أن يعود إلى القرية فنسف البالماخ البيوت في اليوم التالي. رأت أميرة ذلك وسمعته! ستبقى نصف قرن حجارة تلك البيوت بين شجر الزيتون والصبار! لن تنسى أميرة أبدا تلك الليلة، وسترتعش في نومها مقهورة طوال سنوات. لكن المذبحة ستدفن برومانسية. سيكتب فيما بعد الكاتب الإسرائيلي عاموس تسوريف من عين زيتيم: "تتهامس الظلال في أودية جبال الجليل، التي عاش فيها يوحنان من غوش حلاف وباقي الأبطال.. ويدخل في روع المرء كما لو أن هؤلاء الأبطال يرتفعون ويطفون في ضباب الغروب، وعندما تفيض السماء الأرجوانية بنور ضارب إلى الحمرة يبدو الأبطال متلفعين بأثوابهم الرائعة المشوبة بالحمرة، متقلدين سيوفا لامعة مطلية بذهب الغروب".. لم تسمع أميرة أساطير اولئك الأبطال بين أساطير بلادها. ولم تعرف في الليلة التي ارتجفت فيها من استغاثة عين الزيتون أن مسيح اليهود لن يظهر في عين الزيتون إلا إذا اجتمع يهود العالم في الأرض التي وعدهم بها الرب! كانت تظن أن اليهود الذين عاشوا في الحي اليهودي الصغير في صفد فلسطينيين، وأن صفد من بلاد الشام.

قال لها أبوها كأنه يأتمنها على مايخاف أن ينساه: في سنة 1929 بدأت العداوة بين العرب واليهود في صفد. مع أن الكبار في السن من اليهود التجأوا في تلك الأيام إلى بيوت العرب. خلال أحداث 1936 ساءت العلاقات بين العرب واليهود من جديد في صفد، لأن العمال العرب في حيفا اكتشفوا باخرة تهرب أسلحة لليهود مغطاة بطبقات من الرز والسكر. قبل أحداث 1929 كان اليهود يرسلون في عيد الغفران، للعائلات الصفدية، أطباقا فيها الفطير الرقيق! ويقصد اليهود سوق الخضار فيشترون من العرب حاجاتهم، ويقصد العرب مخازن اليهود ليشتروا قماشهم! احترق الحي اليهودي في سنة 1929. وتراكم القتلى العرب واليهود على الطرفين. يريد اليهود أن يصبحوا سادة البلاد وأكثريتها وحكامها، ويسندهم الإنكليز! هم الذين يفجرون البلاد!

دخل جد أميرة وقال إنه جمع أولاده وأحفاده وسينزل معهم إلى وادي الطواحين. قال: عندي نساء حوامل لايمكن أن أتركهم تحت القصف! رفض أبو أميرة أن ترافقهم أسرته. فودعت أميرة بنت خالتها عائشة: لاتطيلوا الغيبة! وركضت عائشة وراء جدها إلى الوادي. في الوادي طواحين على الماء، تطحن فيها العائلات الصفدية قمحها. امتلأ المكان الواسع بالفرشات. رأى جد أميرة في الصباح المكان مليئا بأهله وأقربائه، وصاحب الطاحون يقدم الفواكه والخبز والطعام لهؤلاء الضيوف. ياربي ماهذا الهم؟ كنا مستقرين في بيوتنا، تعبنا عمرا لنعيش آخر أيامنا في هدوء بين أولادنا وأحفادنا! وهانحن في هذا العمر نجرهم إلى هنا وهناك، ويجب أن نكون أقوياء لنحميهم! قال لبنته: أتعبنا الرجل. ثقيل عليه أن يطعم هذا العدد! نادت بنتها: " ياعائشة، اطلعي إلى صفد أنت وأختك، هاتوا لنا من هناك ماتستطيعون حمله من الطحين". خرجت الصبيتان صاعدتين وادي الطواحين. وصلتا إلى صفد. أسرعتا إلى جدتهما التي بقيت عند الرجال لتطبخ لهم. قالتا لها: هاتي مفتاح البيت! سألتهما الجدة: تريدان أن تأكلا؟ قالتا: لا! وكانتا جائعتين جدا. ركضتا إلى البيت، فوجدتا الدالية على الأرض من قصف الأمس. وجدار البيت مشقوقا يتسرب الضوء منه. عبأت عائشة الطحين في كيس وأسرعت خارجة. سمعت صياح أختها: انتظريني حتى أشرب! سألتها عائشة: أغلقت حنفية الماء؟ قالت:لا! قالت لها: ارجعي واغلقيها! ثم ركضتا إلى الجدة وأعادتا المفتاح إليها. سألتاها عن أميرة وأهلها. ردت: أميرة في البيت! يحيى ويسار مع الشباب! نزلتا من وادي الطواحين مسرعتين. قطعتا مسافة. فصادفتا رجلا على بغل صرخ فيهما: إلى أين يابنات؟ قالت عائشة: إلى أهلنا في وادي الطواحين! قال: تمشيان في الاتجاه المعاكس.. إلى حارة اليهود! دلهما إلى الطريق. أسرعتا. وصلتا وسلمتا الطحين إلى الأهل. لكن النساء لم يعجن الطحين. قال الجد: معنا ثلاث حوامل. فلنرحل إلى بنت جبيل! مشوا إلى بنت جبيل، واستأجروا بيتا فيها.

تساءلت عائشة: كم سنبقى هنا ياجدي؟ رد: العلم عند الله! تعالي معي! لاكهرباء في بنت جبيل. رافقته عائشة إلى دكان قرب مدخل البلد، كي يشتري لمبة كاز. كانت اللمبة بين يديه عندما رأى أخا عائشة ذا الخمسة عشر سنة، مبللا بالطين. كان طليعة من سكان مدينة كاملة مهاجرة. قال الشاب لجده باكيا: سقطت صفد! انفجرت عائشة باكية. وسقطت لمبة الكاز من يد جدها وانكسرت. وقفوا ينظرون إلى الجموع القادمة مبللة وموحلة من أمطار الليلة الماضية التي لم تعرف صفد مثلها. رأت عائشة امرأة في قدمها حذاء بكعب وفي قدمها الأخرى حذاء دون كعب. قالت لنفسها كأني أعرف هذه المرأة! كانت تتبين جدتها ولو في الملاءة. تعرفها من مشيتها وهيئتها. ارتجفت. من هذه؟! دارت من الجهة الأخرى لتقابلها وصاحت: جدتي! عبرها رجال يلفون رجلا عجوزا بحصير يحملونه على أكتافهم. مرت نساء تلف أطفالهن الرضع بحرامات. بكت امرأة تسأل الناس هل التقطوا طفلها. حامل في الشهر الأخير تركته للآخرين كي يحملوه فأين هم؟ وصلت نساء معفرات بوحل وادي الطواحين. وصل بغل عليه جريح عرفته: خالها! تدفق الناس القادمون من صفد. لاأحد منهم يصدق ماحدث! قالت عائشة لجدتها في غباء: ولدت عمتي بنتا! لكن كلماتها بقيت معلقة في الهواء. ثم وصلت جدتها لأبيها. في الطريق نشروا فوقها شرشفا ليحموها من المطر، لكنها أزاحته. تزحلقت في وادي الطواحين ووصلت في الحال التي وصل فيها الناس. في الطريق نفسها نزل علي رضا النحوي، ذلك الذي كان يستدعى إلى دمشق واستنبول ليستشار في المشاكل. تزحلق في الطريق وسقط، وسقطت إلى جانبه تماما امرأة فقيرة قالت له في أسى: حطّ الاوقية بجانب الاوقية، صارت الناس كلها سوية!

ستتذكر عائشة مع أميرة فيما بعد بيته في صفد، ممزقا مهجورا يوم نسفه الإنكليز بالقازانات. كان من الحجر فلم تؤثر فيه كثيرا قنابلهم. ستتذكران اليوم الذي رأتا فيه اليهود فوق مدرستهما في القلعة. من هناك أطل اليهود وفي أيديهم ديناميت لينسفوا المدرسة والطالبات فيها. صرخت الفتيات، وركضن في الطرقات.. وتقاطر الشباب فاحتلوا المدرسة وردوا اليهود عنها. ستتذكران دار الحاج عيسى المبنية على عقود مصفوفة الواحد منها إلى جانب الآخر، يحيط بها مدرجان من الحدائق الواسعة، فيها مائة منحلة. تمتلئ صفد بالزهور فتمون الأسر عسلها في بيوتها.

وقت القصف سمعت عائشة أهلها: خذ ياأبي ذهبي، خذ يازوجي الحلي! خذ ياأخي..! أخذوها، حفروا حفرة قرب شجرة الزيتون وطمروا الذهب هناك. ستسمع أميرة فيما بعد أمها وهي تروي لأختها أم عائشة: خبأت الشراشف الثمينة في أسفل الخزانة! فتقول لها أم عائشة: أغلق أبو عائشة ثلاث تنكات من العسل! ظننا أنها ستنتظرنا حتى عودتنا! أخذ اليهود أرضنا؟ أخذوا حتى مؤونتنا! تركنا شجرا، منها شجرة مطعمة بأنواع الثمار. شجرة للفرجة!

انسحب عسكر ساري الفنيش. سلم المدينة. فانسحب الناس وتدفقوا إلى وادي الطواحين، الطريق الوحيدة الباقية لصفد. لكن من نزل من الرجال رجع. رافق أبو عائشة قريباته إلى مجد الكروم وعاد. لديه بندقية دربه عليها إحسان كم ألماظ. صدق إحسان كم ألماظ وقت قال بعد اصطدامه بساري الفنيش: السلام على صفد! سلّمت صفد! أسند البندقية إلى صدره وفكر في الانتحار. ثم انتفض. تذكر إخوته وأهله والناس والبلاد. قال: قد ألزم مرة أخرى ونعود إلى صفد! ونزل من وادي الطواحين. ومنه صعد إلى ميرون.

قبيل شهر أيار انتهى البيت الجديد الذي بناه. فنزل فيه السوريون يوم وصلوا إلى صفد. قدم الناس لهم الفرشات وشكلت لجنة لاستضافتهم. قدم الناس لهم أطيب طعامهم. أتى السوريون متطوعين دمهم على أكفهم ليدافعوا عن صفد! فماأقل أن يستضافوا! كان حجر البيت الجديد ينقش يومذاك. سقطت الشظايا ورقشته. المهم أن السوريين النازلين فيه لم يصابوا! سقطت صفد قبل أن يسكن أبو عائشة في بيته الجديد! تساءلت عائشة في بنت جبيل: هل أراه؟ من احتله؟

قال الإسرائيليون فيما بعد إن اليهود احتلوا في 1 /5 بيريا وعين الزيتون ليصلوا إلى صفد. وصلوا إليها من الجبال. واحتل البالماخ مضارب البدو حتى الأردن. حصن الحي اليهودي في صفد. من أقبية صفد مدت شبكة سراديب تحت الأرض. أفتى الحاخامات بالعمل في التحصين يوم السبت. في 6/5 فشل هجوم اليهود على القلعة. وقصفت المدافع العربية المنصوبة في ميرون الحي اليهودي في صفد. أوصل اليهود إلى صفد مدافع دافيد ومدافع هاون وثلاثة مدافع مضادة للدروع حسمت مصير المعركة. في فجر 11/5 هاجم اليهود دفعة واحدة مبنى شرطة المدينة، والقلعة ومبنى شلفاه. احتلوا مبنى شلفاه بالمدافع. بعد ثلاث هجمات احتلت القلعة. كانت المعركة الطويلة في مبنى شرطة المدينة: حفر الخبراء فجوة في جدار المبنى وتسلل رجال البلماخ إلى الطابق الأول. قتل قائد العملية لكن المبنى احتل طابقا، طابقا. وتمركز العرب على السطح. وكان المطر ينهمر غزيرا.

عندما هاجم البالماخ قرى صفد ونفذ فيها مذابح وحرائق، ونشر الأخبار عن مذابحه ليرعب من بقي في قراه، ومنعت مستعمرة عين زيتيم نجدة صفد، خطط أديب الشيشكلي جر اليهود إلى معركة خارج صفد. وحاصر المستعمرات حولها بنصف قوس. ليت لديه قوات للهجوم على مستعمرة عين زيتيم! قرر الهجوم على الحي اليهودي من المدينة ومن خارجها. وضع سرية مشاة شرقي ميرون خلف الانحدار المطل على صفد. وسرية مصفحات إلى يسار سرية المشاة وعلى طرفي طريق عين زيتيم - صفد. وفصيلة مدفعية غرب الطريق العام المار شرقي ميرون. في 9 أيار تفقد الشيشكلي المواقع وراقب وضع صفد، واحتلت سريتا المشاة والمصفحات المواقع المعينة لها. كل شيء جاهز! ستبدأ المعركة المنتظرة!

طوال الأيام التي هجم فيها اليهود الذين رفدهم البالماخ، على جميع المواقع العربية في صفد، أنهكوا المدافعين عنها. ولامن يرفد المصاب والقتيل. يجب استبدال المدافعين كي يستريحوا! في عشية يوم المعركة الأخيرة وصلت سرية من المتطوعين. كانوا قد حقنوا بحقن ضد التيفوئيد وحرارة بعضهم مرتفعة. وزع عليهم السلاح في الطريق وهو لايزال في شحمه. وتبين قائدهم عز الدين التل أنهم لايميزون بين سلاح وآخر، ولايعرفون كيف يستعملونه. فطلب أن يرجأ إرسالهم إلى صفد حتى يتدربوا. قال له الشيشكلي: لاتقلق، لن تشتركوا في المعركة! وصل هؤلاء المتطوعون في الليل إلى صفد ليلة المعركة الأخيرة. وضعهم قائد الحامية في المراكز الأمامية وهم لايعرفون المنطقة التي يتحركون فيها.

في منتصف تلك الليلة، في 10 أيار، انفجرت قنبلة يدوية كانت إشارة الهجوم الكبير على المواقع العربية. فوجئ العرب براجمات ديفيد في تلك الليلة.. قنابل ذات صوت قوي جدا يوهم بخراب كبير. وكان الطقس في تلك الليلة عاصفا ماطرا. أضاءت القنابل صفد. رميت بنار مركزة جميع المواقع العربية وأهمها: القلعة وعمارة البوليس. كان المقاومون الذين أجلوا ليستريحوا مايزالون في الخنادق. لكن المتطوعين الذين وضعوا في الخطوط الأمامية انسحبوا قبل أن يرفدهم اولئك من الخنادق. سقطت القلعة وعجز الرديف عن استردادها. في عمارة البوليس كان السوريون يقاتلون شبرا، شبرا. وبقي الأحياء منهم على سطح عمارة البوليس بعد أن سقطت صفد. دافعوا عنها حتى الموت.

قطع سقوط المواقع العربية خطة الهجوم من خارج صفد! في الثانية والنصف جمع الشيشكلي قواده وأعلن في ألم إلغاء العملية. أصبحت المهمة تغطية نزوح أهل صفد عبر وادي الطواحين إلى المالكية ولبنان! ياللمشروع الواسع الذي أصبح مهمة مأساوية!

في أيار وصل خبر سقوط صفد فخرج قيس إلى المقابر وبقي حتى الليل جالسا على حافة قبر لايعرف اسم صاحبه. سأله أبوه قلقا: أين كنت؟ رد: شيّعت قطعة من قلبي! فقال أبوه: لن يكفينا القلب ياإبني إذا شيعنا قطعة منه مع كل بلد يسقط! لا، سقوط صفد زلزال! صفد المرتفعة، صفد جبل كنعان والجرمق تسقط؟! صفد التي يسكنها ألفان من اليهود فقط واثنا عشر ألفا من العرب! لذلك قال قيس لأبيه فيما بعد، عندما وصلوا إلى دمشق: كان الأسهل أن أبقى في صفد حتى تسقط، وأنتظركم في دمشق!

بعد أربعين سنة روت عائشة لبنت خالتها أميرة: عادت صديقتي بنت الشقيري من كندا إلى عكا سائحة، كندية الجنسية! مشت مع زميلتها الكندية تعرّفها بمدينتها. قالت لها بالإنكليزية: سكن أسعد قدورة في ذلك البيت! فردت المرأة اليهودية التي تسكنه: لا، أسعد الشقيري وليس أسعد قدورة! رجل كبير السن، جلس هنا وبكى. انتقل إلى هناك وبكى. وقف هناك وبكى! قالت الفلسطينية لليهودية: وبقيت أنت في البيت! قالت أميرة هل تعرفين أن أسعد قدروة، ابن بلدنا، وقع في سنة 1935 على فتوى مؤتمر علماء فلسطين تعلن أن "بائع الأرض لليهود في فلسطين، سواء كان ذلك مباشرة أو بالواسطة، وإن السمسار والمتوسط في البيع.. كل اولئك ينبغي ألا يصلى عليهم ولايدفنوا في مقابر المسلمين..؟"

وروت أميرة لبنت خالتها عائشة: بعد أربعين سنة عاد أخو زوجي من أمريكا إلى صفد، سائحا، جنسيته أمريكية! قصد بيته ليراه. انحنى وأخذ حجرا من حديقته، فخرج إليه اليهودي الذي يحتل البيت: تسرق حجارة من حديقتي؟ أمنعك أن تمسها! أخذوا البلاد كلها ولايسمحون لنا بأن نسترد حجرا منها!

كانت عائشة وأميرة في شقة في بناء مرتفع في دمشق. تطلان على مناظر بعيدة عما تتحدثان عنه. لكل منهما أولاد وأحفاد يتكلمون اللهجة الفلسطينية. يحفظون تفاصيل صفد وبيوتها، ويعرفون المكان الذي دفن فيه جدّهم الحلي الذهبية في الحديقة. قالت عائشة لأميرة قبل أن تنصرف: عاد قيس بعد أربعين سنة من الغربة! ارتعشت أميرة كأن نسيما منعشا مر على وجنتيها: أين هو؟ ردت عائشة: رجع إلى بيت أهله في إربد! سألتها أميرة: رأيته؟ ردت: لا، سمعت عنه! قالت عائشة: كانت القصيدة التي قالها فيك حلوة!

نامت عيون العاشقين جميعها إلا عيونك لم تنم وعيوني

تورد وجه أميرة. عرفت ذلك؟ وحفظت القصيدة أيضا؟ قالت عائشة: حكوا عن ذلك في المدرسة في صفد. قالت لنا المعلمة: لم تحفظوا قصيدة المتنبي التي طلبت منكم أن تحفظوها، لكنكم حفظتم قصيدة قيس في أميرة! رددت أميرة في طرب مكبوح: حقا، قالت المعلمة ذلك؟! وأخفيته عني طول هذه السنوات!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:03 AM
- 11 -


سجلت أميرة على دفتر المدرسة أحداث صفد. لمن؟ طبعا، لقيس الذي ستلتقي به عندما تنتهي الحرب ويعود إلى مدرسته في صفد! طبعا له! كيلا يفوته يوم غاب عنه! ولابد أن يعطيها هو دفترا فيه القصائد التي كتبها في غيابه عنها!

سجلت أميرة: قال الشيشكلي لأبي إنه بلغ الكولونيل الإنكليزي وطسن أنه سيهاجم صفد وعين زيتيم وبيريا. ثم اتفق معه أن يؤجل الهجوم حتى انسحاب الإنكليز. تغدينا في شرفة بيتنا ورق العنب الطري الذي حشته أمي وأكثرت من العصاعيص تحته. وتساءل أبي: هل الكولونيل وطسون غاضب من هجوم اليهود على القوات الإنكليزية، أم يحب العرب لذلك سلمهم مائة بندقية وخمسة آلاف طلقة قبل انسحابه. قالت له أمي: أنت قلت إن اليهود أوقفوا قطارا في حيفا وأجبروا الإنكليز أن ينقلوا لهم السلاح المحمّل فيه! أعطى الإنكليز لليهود مصفحات! لكن هذا الإنكليزي يعرف أن صفد لنا!

يخرج أخي يسار من البيت في الفجر، يعود أحيانا وقت الغداء، ولايرجع إلا في الليل. مشغول مع شباب صفد. نحن النساء نطبخ للمتطوعين.

انسحب الإنكليز في 16 نيسان فاحتل العرب مركز البوليس على جبل كنعان، ومركز بوليس المدينة، والقلعة، ودار فؤاد الخولي، وفندق صفد، وبيت شلوه، والمدرسة الصناعية اليهودية.

حاولت أن أخرج إلى السطح لأرى أين تجري المعركة التي يقود العرب فيها إحسان كم ألماظ. لكن أمي أرجعتني. قالت: اطبخي للرجال! وصلت من الشيشكلي سريتين مع الملازم عبد الحميد السراج وفصيلين مع الملازم هشام العظم. ووصلت سرية أردنية مع ساري الفنيش الذي عينه الشيشكلي قائدا لحامية صفد.

سهر أبي مع إحسان كم ألماظ وبعض الرجال. سمعت أبي يقول: لن يسمع ساري الفنيش أوامر الشيشكلي بل أوامر غلوب! تعيين الفنيش خطأ! يبدو أن إحسان كم ألماظ أفهم أبي أن صفد الآن في خطر لأن الفنيش سيسلمها! لكن أبي هدأه.

سقطت حيفا في 24 نيسان. حزنت البلد كلها على حيفا. بكت أمي. سمعت أبي لأول مرة يشتم الدنيا.

لم يلمس أبي صحن الأكل. قال: سقطت الجاعونة وفرعم والمنصورة وصارت صفد مطوقة من الشرق والجنوب. قال: الجاعونة على الطريق إلى صفد وإلى طبرية، تطل على الغور من جميع الجهات إلا الشرق. لذلك احتلوها في الثاني من أيار! لم يسمعه أحد غيري يهمس: قررت الجاعونة مصيرنا!

بدأت الحرب في صفد في 1 أيار. احتل اليهود عين الزيتون وبيريا بالبالماخ. وصلنا صراخ أهلها في الليل. بكيت من القهر. حاول أهل صفد نجدة عين الزيتون لكن ساري الفنيش منعهم. قال أبي: باحتلال القريتين فصل اليهود صفد عن الشمال والشمال الغربي ومنعوا عنا النجدات. كان مقهورا فنسيت حزني وعصرت له كأس ليمون. أعرف الجاعونة. بيوتها مبنية بالحجر، حولها زيتون وتين! راحت الجاعونة حقا؟؟

في 5 أيار وصلت لليهود نجدة في 35 سيارة كبيرة، وفي 6 أيار نجدة في 137 سيارة.

في 7 أيار زارنا الشيشكلي. لم يقبل غير قهوة. ثم ذهب مع الرجال. رجع أبي بعد أن رجع الشيشكلي إلى مقره في الصفصاف.

في 8 أيار هاجم اليهود الأحياء العربية في ثلاثة صفوف طويلة واستعملوا راجمات دافيد. دوى صوت مرعب فتخيلت أن السقف سقط علينا! قال أبي في تلك الليلة: لاتخافوا! راجمات دافيد صوت فقط، هدفها أن تثير الرعب! يريدوننا أن نترك البلد! عرفنا أنها كالمنجنيق يقذف 37 كلغ من المتفجرات إلى مسافات بعيدة. استعملها اليهود أول مرة في أبو كبير وحيفا والقدس. قالت له أمي: هل يعرف أهل البلد ماعرفته أنت؟!

روى أبي أن الملك عبد الله قال لزكي قدورة رئيس بلدية صفد، رح إلى القوتلي الذي دخل المعركة دون أن يكون مستعدا لها!! هل يقول له قدورة نعرف أنك تتصل بالوكالة اليهودية وأنها أوفدت غولدا مائير وقابلتك في عمان؟ قال أبي: خليها في القلب تجرح، ولابين الناس تفضح!

وقفت على السطح. صفد حلوة. أطللت من السطح على الوادي والجبل. ورأيت الدكان الذي كنا نلتقي أمامه. هل تظن أن البائع لايعرف أنك تحبني؟ لماذا إذن كان يتشاغل في البحث عما تطلبه؟ لم يلتفت أبدا عندما كنت أفتح ملاءتي لك! نزلت ولمست ملاءتي. أحببت لونها البرتقالي المخطط بالأسود. كأني شعرت بأثر نظرتك عليها! سألتني أمي: لماذا يبدو عليك الحزن؟ لن تسقط صفد! وقالت في غم: قبل ألف سنة كانت النساء تحارب مع الرجال. هنا يحبسوننا في البيت لنطبخ للمتطوعين. قلت أعزيها: هذا أيضا شغل!

رجع أبي غاضبا. قال: وصلت إلى صفد قوة التل، ليست مدربة ولاتعرف التضاريس، ومع ذلك وضعت في المراكز الأمامية. لعبة! أمضينا ليلة مخيفة! من كان يتصور أن نترك صفد؟!

انسحب ساري الفنيش من صفد دون إذن قائده الشيشكلي. بقي ليلة 9-10 أيار في عين التينة في وادي الطواحين. وعندما وصل إلى دمشق اعتقل بتهمة الخيانة، لكن الملك عبد الله توسط له. في صفد نزل مطر لاتذكر أميرة أنها رأت مثله. لاتستطيع أن ترى الطريق من النافذة! عندئذ قال أبوها: هيا! سترحلون الآن وتعودون عندما تهدأ البلد! فرحت أميرة. ففي الأيام الأخيرة تساءلت هل ستعيش حتى تجتمع بقيس؟ وأين هو الآن؟ هل يقصفون بلده أيضا؟ حملت دفترها وتركت صفد.

بنجدات البالماخ التي وصلت إلى اليهود هجموا على مواقع القوة الجديدة وأخذوها منها. لكن الآخرين قاوموا. تحت المطر الشديد قاتلوا من بيت إلى بيت ومن غرفة إلى غرفة. قاتلوا حتى بالسلاح الأبيض.

في 12 أيار سقطت السرايا القديمة، وحارة الجورة، وحارة الأكراد، بيد اليهود. في الصفصاف قال الشيشكلي: بدأ اليهود هجومهم الأخير على صفد في الساعة التاسعة والربع من ليلة 9-10 أيار 1948 وأخذوا القلعة، فانسحب منها أفراد السرية الجديدة. وانسحب بعدهم سكان المدينة. في الساعة الثالثة وصلت برقية من اميل جميعان تعلن أنه بقي هو وهشام العظم. فأمرناه بالانسحاب.

انسحب المقاتلون إلى ميرون. استوقفهم الشيشكلي. لخص لهم سبب الهزيمة: انسحاب الفنيش ، توزيع السرية الجديدة غير المدربة على المواقع المتقدمة، انسحاب أهل صفد، راجمات دافيد ذات الصوت المرعب، المطر.

منذ أول أيار نزل بعض أهل صفد إلى ميرون. ينتظرون الهدوء كي يعودوا إلى بيوتهم! ميرون على منحدر جبل الجرمق، تطل فوق واديها على تلال الجليل الأعلى، قربها طريق صفد عكا. هل يرسل أبو أميرة عائلته إلى هناك في انتطار انتهاء المعارك؟ لا، موقع ميرون الجميل خطر! عند الفجر أخرج أسرته من صفد: روحوا إلى بنت جبيل! قالت أم أميرة: سآخذ بعض الثياب. رد زوجها: لماذا؟ ستبقون أسبوعا، أسبوعين ثم تعودون إلى البيت! الحي اليهودي صغير جدا في صفد، فهل يعقل أن تصبح صفد كلها يهودية؟ هل يعقل أن ينتصر الباطل ويهزم أهل البلاد وتفشل الجيوش العربية؟ سنسترد الجاعونة وعين الزيتون! هل كان مؤمنا في تلك البرهة بما يقول؟ أم أراد أن تنجو أسرته فتخرج من صفد في سرعة؟

غطت أم أميرة بسرعة الأرائك بالشراشف. أقفلت الخزائن، تفقدت المؤونة، رتبت البيت لغياب قد يمتد شهرا لاأكثر. ساعدتها أميرة. ثم نزلتا مع الأولاد من وادي الطواحين. حملوا فقط الضروري من الثياب. في آخر الوادي طريق مزفت، ركبوا منه شاحنة فيها أكثر من خمسين شخصا اتجهت بهم إلى بنت جبيل في لبنان.

بعد ليلة المطر التي لم تعرف صفد مثلها، بعد القصف وانسحاب ساري الفنيش، ترك أهل صفد البلد. خطأهم القاتل! انسحبوا عند الفجر. مع ذلك هذا موقت! لم تبدأ الجيوش العربية بعد المعركة!

افتقدت أسرة أميرة أشياءها وقت احتاجتها. قال يسار سأعود! عدّوا مايلزمكم! كان الناس يعودون إلى بيوتهم فيتناولون منها مايحتاجونه. أوصته أمه بما يجب أن يجلبه من البيت. دلّته إلى أمكنة الأشياء بدقة. سألته هل حفظها؟ استعادته ماأوصته. ومشى يسار مع أصحابه الشباب. أعمارهم بين الرابعة عشرة وبين السادسة عشرة. تفرقوا قبل الوصول إلى صفد. بقي يسار مع فتى واحد. عيّنا وقت اللقاء ليعودا معا. صعدا من وادي الطواحين. أخذ يسار الطريق إلى الحي العربي، وأخذ صاحبه الطريق في اتجاه الحي اليهودي. المدينة فارغة صامتة. لم يحتل اليهود المنطقة العربية بعد. لم يصدقوا أنها مهجورة؟ ينتظرون أن تتفجر الألغام الممكنة؟ فتح يسار الباب بالمفتاح، تناول مايحتاجه، أغلق الباب بالمفتاح، ونزل من وادي الطواحين إلى عين التينة. انتظر صاحبه. انتظره. وجد هناك بعض الفتيان الذين قصدوا بيوتهم مثله ليأتوا بما يلزم العائلة. أطعمهم أهل عين التينة وسقوهم. لكن يسارا لايستطيع الانتظار بعد. عاد إلى بنت جبيل ماشيا، يركب في الطريق أحيانا الدابة أو الشاحنة التي تتوقف له. أما صاحبه فلم يعد أبدا.

لو بقيت في صفد الكلية الاسكتلندية التي تعلم بالانكليزية وتخرج منها كثير من كبار رجال العرب، لدرس فيها يحيى، أخو أميرة. كان مدير الكلية مستر سنبل نشيطا ومحبوبا حتى عرفت الكلية باسمه. لكن الكلية نقلت بعد الحرب العالمية إلى حيفا.

انتقل يحيى من صفد إلى الكلية العربية في القدس ليكمل فيها دراسته، وقت انتقل قيس إلى المدرسة الثانوية في صفد. فلم يعرفه قيس إلا على حافة العطل. يحيى أكبر من أخيه يسار. وقت أغلقت الكلية العربية في القدس، عاد يحيى إلى صفد. وأصبح منذ وصل وسط مجموعات الشباب التي يدربها الضابط السوري إحسان كم ألماظ.

كأهل مدينته، وقع في هوى إحسان! شاب سوري ترك المجد الممكن والحب الممكن في دمشق، وأتى ليدافع عن صفد. أشقر ورشيق، متحمس وذكي، مخلص ودمث، ودمه على كفه. يحاول أن يجعل من شباب صفد فرقة في جيش. إلى الأمام سر، إلى الوراء در. طبعا، يجب أن يتعلموا النظام والتنفيذ! لايكفي حب الوطن! الضرورة أن تملكوا المهارة في الدفاع عنه! يقابلنا جيش يهودي. يجب أن ننتقل من أسلوب فرق متطوعة إلى أسلوب جيش منظم! حقق ياإحسان حلمك في الفسحة الباقية بين المناوشات وبين المعركة الأخيرة! آه، لو يستطيع أن يمدّ الزمن!

عندما استعاد الرجال الذين نظمهم إحسان كم ألماظ قلعة صفد زغردت له النساء. تخاطفته البيوت وفتحت له وللسوريين الذين جاؤوا معه. مايزال بيت الحاج عيسى جديدا يرصف بالحجر. قدموه لإحسان. فنزل فيه مع السوريين. تصيب القذائف اليهودية البيت فيعاد نقش الحجارة المخربة بالإزميل! اندفع أهل صفد إلى إحسان. وثبّتهم إحسان في البلد!

بقي إحسان كم ألماظ في صفد عشرة أشهر تقريبا. رافقه يحيى في آخرها فقط. ساري الفنيش خرب كل شيء! منذ جاء مع سريته بدأ صدامه مع إحسان. احتل ساري الفنيش "المنزل"، نشر سريته فيه وفرش أسلحته. بدا كحاكم عام. لايتحمله يحيى! أتى ليخدم المدينة أم ليحكمها؟ لماذا عينه الشيشكلي قائدا لحامية صفد؟ فرض عليه؟ في قرار التقسيم صفد في القسم اليهودي. صفد عاصمة الجليل الأعلى، التي تبعد عن الحدود الشمالية 29 كم مترا فقط، صفد التي تحكم قلعتها الطريق بين دمشق وعكا، فيها حي واحد يهودي وبقية أحيائها عربية، تضم إلى القسم اليهودي من خريطة التقسيم؟! لليهود الغرباء الذين أتوا من البحر؟! أي ظلم! فليهب أصحاب قرار التقسيم بلادهم لليهود إذا أرادوا! لايملكون أن يهبوهم بلادنا! اهدأ يايحيى! أهدأ؟ أهل البلاد كلهم مثلي! العرب كلهم يفكرون كما أفكر! لكن يبدو أن بعض العرب سينفذ قرار التقسيم ويسلم صفد لليهود! اسكت يايحيى! أسكت؟ لماذا يمنع ساري الفنيش إذن إحسان كم ألماظ من الهجوم على المراكز اليهودية؟ في الوقت المناسب تماما، لاقبله ولابعده، يكون الهجوم! ينتظر ساري الفنيش أن تصل النجدات إلى اليهود!

في ذلك اليوم رفع ساري الفنيش مسدسه على إحسان كم ألماظ! وقال إحسان: "على صفد السلام!" وخرج من المدينة. يعرف إحسان تعلق أهل صفد به، وأثر انسحابه منها عليهم. لكن ساري الفنيش لم يترك له مخرجا. خلال إقامته في صفد استطلع إحسان المستعمرات الصهيونية. صادق الضباط الإنكليز. ركب معهم المصفحات وتسرب معهم حولها. كان مركز البلد. تفرج عليه الأطفال عندما "ضرب" له الضباط الإنكليز المارون به التحية! وعندما سألت فتاة: من هذا الأشقر الذي يحييه الإنكليز، التفتت إليها النساء وسألنها هل تعيش فوق الأرض أم تحتها!

نزل إحسان كم ألماظ إلى الصفصاف، مقر قيادة جيش الإنقاذ، غاضبا وحزينا. رآه أهل الصفصاف من مطلهم على التل محاطا بشباب صفد الذين يحاولون أن يستعيدوه. عرفوا ماكان بينه وبين ساري الفنيش فساروا معه عبر وادي الطواحين. انشغل أهل الصفصاف بتأمين البيوت للضيوف. ونزل إحسان في بيت قاسم، ومعه مرافقاه. في الليل سأله قاسم: ماالخبر؟ قاسم من رجال صفد الذين دربهم إحسان كم ألماظ. مدرس في المدرسة الثانوية التي تقع قرب المستشفى، على بعد كيلومتر تقريبا من "المنزل". روى إحسان لقاسم أنه اختلف مع ساري الفنيش قائد السرية الأردنية. منعني من الهجوم على المراكز اليهودية. هددني بالمسدس! منعني عمليا من البقاء في صفد! سيسلم صفد لليهود قبل 15 أيار! لينفذ مخطط التقسيم! لاأمل الآن إلا في الهجوم من خارج صفد. لذلك سأقترح على أديب الشيشكلي أن يجهزني بسريتين للهجوم على صفد من خارجها. سأستعين بدمشق. سأنزل إليها كأني في إجازة!

لايوجد بيت لم يدخل إليه إحسان في صفد! أقام بين الناس. ساري الفنيش أتى كحاكم عسكري. ألا يلاحظ المسؤولون العسكريون في جيش الإنقاذ هذه العلاقات بين المدينة والكتيبة التي وضعت للدفاع عنها؟ يلاحظونها ياإحسان، ولكن!..

رافق قاسم إحسان كم ألماظ إلى مقر الشيشكلي. قبو واسع سقفه عقد. الشيشكلي غارق في حديث مع شوكت شقير قائد القوات اللبنانية. ضرب إحسان بقدمه الأرض في تحية عسكرية. التفت إليه الشيشكلي ورحب به.

في الصفصاف، التي سماها الرومان صفصوفا، انتظر يحيى مع شباب صفد إحسان كم ألماظ ماشين بين المدرسة الابتدائية والمدرسة والنبع، متأملين أشجار الزيتون والفواكه. يأملون أن يحل الشيشكلي المشكلة كما يريد إحسان. لكن العقل ليس سيد الكون، وليس الخير سيده. تجري الدنيا في مسار لانريده، لانوافق عليه، كأنها مقدرة علينا. لا! كل مانراه صنعه الإنسان. لكننا لسنا نحن ذلك الإنسان. نحن الآخر الذي لاوزن له الآن، ولاكلمة له! كيف لانكون ذوي كلمة ياإحسان وهذه بلدنا ونحن نعرف مايفيدها ومايضرها؟ بلدكم لكنكم لاتملكونها إلا بمقدار. تملكها القوى الأخرى التي تستنجدون بها! العرب! ومن هم العرب اليوم؟ نحن وأنتم؟ أم قادة وملوك لايبالي بعضهم بفلسطين؟ آه، يقول ذلك إحسان كم ألماظ المطرود من صفد! يعزي يحيى الذي لم يهزم في معركة مع ساري الفنيش! سيرتب الشيشكلي الهجوم من خارج صفد! سيقصف المراكز اليهودية في التاسع وفي العاشر من أيار من خارج صفد! لكن ذلك سيكون متأخرا! سينفذ ساري الفنيش مااستشفه إحسان كم ألماظ!

وصلت سيارة شيفرو قديمة إلى الصفصاف. من؟ رجل يقول إنه صديق من أصدقاء إحسان كم ألماظ، يسأل عنه. يقول، وصل خبر إلى أمه في الشام: قتل إحسان! طمئنوه! لم يقتل! حي! نادوا إحسانا ليراه بعينيه! هاهو! عانقه إحسان. طمأنه: اذهب وسألحقك فيما بعد إلى الشام! سأنزل إلى دمشق في إجازة! وقف يحيى مع شباب صفد ينظر إليه. وشعر بأن شرخا في قلبه انفتح. كيف لم يخطر له حتى الآن أن إحسان كم ألماظ يمكن أن يقتل؟ لم يقتل بعد، لكنه سيقتل. مثله لايمكن إلا أن يقتل. في تلك البرهة تماما فهم يحيى أن صفد في خطر!

ماتزال مواقع العرب في صفد قوية. لهم مركز البوليس، "تيغرت" صفد، البناء ذو الموقع الستراتيجي على جبل كنعان شرقا خارج المدينة. و"المنزل" الذي كان لسكن الطلاب الغرباء واحتله ساري الفنيش وكتيبته. والسرايا الجديدة في وسط البلد بين الأحياء العربية وبين الحي اليهودي. والقلعة المرتفعة التي تتوسط البلد وتطل عليها كلها، وحولها أشجار الصنوبر وفيها بئر تكفي البلد كلها، وتحيط بها فنادق سياحية عربية ويهودية. في يد العرب الأبنية الستراتيجية في صفد: فندق رزق، بناية صالح عبد الغني، بناية فؤاد الخولي! من صفد تطل على بحيرة طبرية وترى الطريق إلى روش بينا! ولكن من يدافع عن هذه المواقع؟! من يقود المدينة؟ لدى العرب أقل مما لدى اليهود من الأسلحة. صفد مطوقة، لاطريق إليها إلا من وادي الطواحين. لكن أهلها ثابتون فيها. الإنسان حاسم في المعركة! فلماذا تسلم إلى ساري الفنيش ويخرج إحسان منها؟!

نزل يحيى مرات إلى الصفصاف بعد ذلك اليوم. الصفصاف مركز حربي وسياسي يعود إليه أهل صفد. كان علي رضا النحوي مرة متصرفا لمدينة حماة. عندما سمع أن أكرم الحوراني وصل إلى الصفصاف نزل مع آل النحوي ليسلموا عليه. نزلوا من الطريق الخطرة المتعرجة. سلّموا عليه ودعوه إلى صفد مع أصحابه. لم يكن يحيى منهم. لايؤهله عمره لذلك. لكنه الوحيد من أسرته الكبيرة الذي سيعيش في الصفصاف في أهم أيامها.

خسر اليهود معارك صفد طوال الأسبوعين الأخيرين. رد العرب هجومهم. لكن المعارك ظلت مناوشات حتى سقوط حيفا. في ليلة الحسم الأخيرة أظهر اليهود قوتهم كلها، ظهرت النجدات التي وصلت إليهم مسلحة ومجهزة بذخائرها. وصل البالماخ إلى صفد بعد سقوط حيفا. قاده يغال آلون ونفذ عملية يفتاح. لن يتركوا للعرب صفد التي تحكم الطرق بين الساحل والجليل الشمالي والجليل الشرقي! لكنهم لن يأخذوها بسهولة! سيدفعون ثمانمائة قتيل، خمس قواتهم تقريبا، ثمن احتلال صفد! سيقاتلهم المتطوعون السوريون في مركز البوليس من طابق إلى طابق ثم من غرفة إلى غرفة!

كان أهل صفد قد جمعوا ثمن أسلحة وكلفوا صبحي الخضرا بشرائها. عشية سقوط صفد وصل صبحي الخضرا إلى الصفصاف مع الأسلحة التي اشتراها! عشية سقوط صفد وصل مئتا شخص من القرى المجاورة إلى صفد! وصلت من لبنان سرية المتطوعين الذين لايعرفون استعمال السلاح ووزعهم ساري الفنيش في الليلة نفسها على المراكز الأمامية! عشية سقوط صفد نزل اثنان من اللجنة القومية في صفد ليطلبا من الشيشكلي أسلحة ونجدة! عشية سقوط صفد وصل إلى الصفصاف فؤاد الخولي مع أسلحة وأموال! عشية سقوط صفد وصل المفتي إلى صور، قادما مع أسلحة ليعلن الدولة العربية من صفد! أرسل رجاله من بنت جبيل إلى الصفصاف. في الصفصاف رأى رجال المفتي عند الفجر، ورأى فؤاد الخولي، النازحين من صفد. سقطت! صفد سقطت! ياناس، سـقـطـت!

أذهلت المفاجأة قرى قضاء صفد فنزحوا خلف أهلها. إلى لبنان! قفوا! من يوقف جموعا يطاردها سقوط المدن العربية، مذابح القرى، وأصوات المستغيثين؟! لايعرف هؤلاء الشبعانون مذاق التشرد. لايعرف أصحاب البيوت والبيادر والحقول طعم النوم في الخيام والوقوف في الصف في انتظار الخبز! لايعرف المكتفون أن فقد المدن والأرض يعني فقد المكان الطبقي والاجتماعي والاقتصادي! أصبح مجتمع متماسك منتج ميسور مجموعات من لاجئين! قفوا! لاتتركوا رزقكم! في صعوبة انتزع الشيشكلي بعض الأسلحة من المتطوعين الذين خرجوا من صفد. من لم يخرج من قريته طرده اليهود.

لكن اليهود لم يتقدموا خارج صفد. رجع أهل الصفصاف من بنت جبيل إليها وأنشأوا مع السوريين مراكز دفاعية جديدة. من بنت جبيل رحل أهل صفد فيما بعد إلى دمشق. ولكن أين الفتى يحيى؟ من رآه! تسألون عنه؟ هرب من أهله ورجع إلى الصفصاف! أنتم أهله؟ اتركوه مع الشباب يدافع عما بقي من البلاد!

لماذا رجع؟ ليشم هواء صفد من الصفصاف؟ الصفصاف في الشمال الغربي من صفد، على بعد كيلومترين من قرية الجشّ، في شمال جبل الجرمق. على خط انحدار المياه بين الأودية إلى سهل الحولة وإلى بحيرة طبريا. في وسط القرية جامع وبعض الدكاكين ومدرسة ابتدائية للبنين. سكان الصفصاف أقل من ألف شخص! فماذا يستهوي يحيى فيها؟ يستهويه أنها المركز الحربي، وستبقى كذلك من 15 أيار إلى تشرين الأول. سيبقى يحيى فيها مع المسلحين حتى يومها الأخير!

جرت الحياة في الصفصاف كماء النهر. كأن الحرب ليست على الباب. حصد الناس القمح وبدأوا بقطف الزيتون وعصره. رتب غسان جديد المراكز الدفاعية. غسان جديد قائد المنطقة بعد سقوط صفد. معه جودت الأتاسي. معهما ضباط بعثيون وضباط قوميون سوريون وآخرون. معهم متطوعون فلسطينيون من أهالي القرى التي سقطت. رتبت القيادة قوائم بأسماء المتطوعين المدافعين عن الصفصاف. دربتهم على الأسلحة ووزعتهم على المواقع. مواقع الدفاع محصنة في شرق البلد. زوجة غسان جديد معه، تعيش بين أهل القرية وترقص الدبكة في حفلاتهم. محبوبة مثل زوجها. بعد التدريب وبعد الشغل ينام أهل الصفصاف ملء عيونهم. يصطنعون ذلك؟ أم هي قوة من قرر ألا ينسحب؟ قوة من تلقى الضربة الكبرى ولم يعد يخاف شيئا؟ سقطت حيفا ويافا وعكا وصفد فأية مصيبة أكبر من ذلك؟ يدفع الغضب إلى الجرأة؟ ويدفع إليها التجمع الصلب الذي رعاه غسان جديد وجودت الأتاسي والسوريون. تزوج شابان وفي الصفصاف عرس! فليكن كمعركة كسبها المقاومون! دبكت زوجة غسان جديد مع المحتفلين بالعرس. لم تكن مقاتلة لكنها كانت تجلس إلى جانب النساء وهن يخبزن، تمشي معهن إلى البيدر، وتحمل جرة الماء. تثبّتهن!

أتى إلى الصفصاف الرجال المسلحون من القرى المجاورة. معهم أسلحتهم. سيكون منهم نصف القتلى في معركة الصفصاف الأخيرة. السوريون معهم. كلهم ينتظر المعركة! لايستطيعون الهجوم. لكنهم قرروا الدفاع عن أواخر المواقع الفلسطينية، عن البوابة إلى لبنان!

لم تكن ميرون قد سقطت لكن اليهود قرروا احتلال قرية الصفصاف وإغلاق المنطقة. في يوم 28 تشرين الأول في الساعة الرابعة والنصف صباحا قصفت طائرتان إسرائيليتان المواقع العربية من ترشيحا إلى الصفصاف. هاجمت فصيلتا مصفحات وسرية مجنزرات من شيفع الصفصاف. لكن اليهود لم يتقدموا مترا! استمات العرب في الدفاع عن الصفصاف. وقف اليهود عاجزين عند الجبهة الشرقية. استداروا وأتوا من الجنوب. فواجهتهم المقاومة نفسها. عندئذ أطفأوا أنوار آلياتهم وساروا غرب الطريق في السهل وأتوا من خلف المدافعين عن الصفصاف. وفي الوقت نفسه نزلت كتيبة من بيت جن في اتجاه الصفصاف. لم يبق للمقاتلين العرب وبقايا جيش الإنقاذ إلا الانسحاب إلى لبنان! هاأنت يايحيى شاهد من الشهود على سقوط قرية عربية! تفرج عليها جيدا! احفظها! سجل كل تفصيل من تفاصيلها! لأن اليهود سينسفونها ويشيدون في مكانها مستعمرة يسمونها صفصوفا!

سقطت قرية الصفصاف في الشهر العاشر. قاومت طول الليل. ردت وجبات من المهاجمين اليهود. في الصباح انسحب المسلحون منها إلى لبنان. وانسحب معهم من بقي من المنسحبين من ميرون التي هاجمتها قوات يفتاح في أواخر أيار لكنها لم تسقط إلا بعد هجوم الطائرات الإسرائيلية في 28 تشرين الأول ومقتل أكثر السرية العربية المدافعة عنها. بقي في القرية الأولاد والنساء والشيوخ، والقتلى السوريون والفلسطينيون. سقطت الصفصاف.

دخل اليهود إلى الصفصاف في الصباح. في ضوء النهار رأوا قتلاهم على الأرض أمام مراكز الدفاع عن القرية! جمعوا أهل القرية، انتقوا منهم الشباب ابتداء من سن الثانية عشرة من العمر. صفّوهم قرب جدار. تقدمت جندية معها ستن، ورشّتهم. مشت قرب القتلى وتفقدتهم. رشت من رأته يتحرك. ثم انتقي من أهل الصفصاف أولاد دون الثانية عشرة. قيدهم اليهود وأوقفوهم وسط الطريق. مرت مجنزة فوقهم. تصرخون ياأهل الصفصاف؟ تنوحون؟ ابكوا موتاكم! ثمن قتلانا!.. احبسوهم وامنعوا عنهم الطعام والماء! في الصفصاف نبع الماء في المغارة، عين ينزل إليها بدرج، يجر الماء منها بموتور إلى البلد. رمي القتلى في تلك المغارة. ثم حفر لهم قبر جماعي. خذوهم، ادفنوهم! عدّهم العجوز الذي دفنهم: سبعون قتيلا.

حبس اليهود من بقي حيا من سكان القرية في المكان الذي كان مركز القيادة السورية. لاطعام، ولاماء سوى ماء الزيتون المرّ! في اليوم الرابع فتح عليهم الباب مردخاي رئيس بلدية روشبينا. معه لهم سيارة محملة بالطعام. قال لهم: نحن جيرانكم! يجب أن نعيش معا في سلام.. ربما وصلت قواتنا في هذه اللحظة إلى الشام.. لم يبق لنا إلا التعايش معا. يمكنكم أن تخرجوا..

التعايش مع من؟ مع الغرباء الذين أتوا من بلاد بعيدة عن فلسطين؟ بعد عقود سيكتب الأمريكي اليهودي ليون اوريس عن الشباب الذين جندتهم الصهيونية ليحتلوا فلسطين، وسيجعل حرق القرى العربية ونسفها وهي نائمة كسعسع أو صاحية كالصفصاف، كمهمة إلهية تهيأ في طقوس المعسكرات بعد خروف مشوي وقهوة عربية وعزف قيثارة وعناق. ربما كانت المجندة التي رشّت من توهمته لازال حيا بين قتلى الصفصاف هي كيتي نفسها! ربما كان آري هو آمر المصفحة التي دعست أولاد الصفصاف، أو التي ستدعس سيارة مدنية في جنوب لبنان بعد عقود من الزمن! "ملأ آري بعد الإفطار في الكيبوتز، كيسه بالشراب والمأكولات. ثم حمل مدفعه الرشاش ومخازن الذخيرة. كان قد قرر أن عليه في لحظات الفجر الاولى أن يخترق الجبل قبل الآخرين والطقس مايزال باردا. كان الهواء لاذعا. أما كيتي فملأتها لهفة المغامرة. انحرفا عن الجبل واتجها إلى قرية دبورية العربية التي تقع في عكس اتجاه مستعمرة بيت ألونيم. ثم سارا في درب ضيق. وبعد دقائق قليلة استطاعا أن يتبينا على بعد كيلومترات كثيرة مدينة الناصرة التي تهجع بين التلال. كان الهواء مايزال باردا. لكنهما تقدما بسرعة إلى الأمام. كانت كيتي تدرك تماما أن مارأته حتى تلك البرهة مجرد خدعة بصرية لأن جبل طابور يرتفع أكثر من 600 مترا. يبدو أن اليوم سيكون طويلا، وأصبحت قرية دبورية أكثر صغرا كلما تقدما. وبدت كأنها شيء غير واقعي كلما توغلا في البعد عنها".

سيرسم اوريس معسكرا دنيويا وإلهيا! فالنظام الداخلي للخدمة في البالماخ يوجه النداء التالي: "أيها الشباب والشابات تجنبوا الخجل والحشمة. أيتها النساء اليهوديات الفلسطينيات ضاجعن من يحبكم، وإلى الأمام!" لذلك كانت "يوردانا وداوود متعانقين بقوة في حلم سعيد. في الرابعة فجرا قدمت لكل واحد حصته من الخروف المشوي مع كأس من القهوة العربية الحارة. وقد كرموا كيتي بأول صحن. وعندها هدأ تقريبا صخب الرقص والموسيقى، لكن بقي الكثيرون من المتعانقين مضطجعين. كان لحم الخروف المشوي رائعا. في هذه اللحظة كان يوهان يواصل العزف على الفلوت بلحن أغنية قديمة قدم الأرض، وفتاة من مواليد اليمن البعيدة تغني أحد مزامير داوود وكأن صوتها ينضح بالشجن والسر اليهودي الآسر. وفي ضوء النار التي تخبو طافت عينا كيتي بالتدريج على وجوه الحاضرين.

ساءلت نفسها: أي جيش هذا الذي لايلبس ملابس موحدة ولايحمل رتبا؟ أي جيش هو هذا الذي تقاتل فيه النساء بالبندقية والحربة إلى جانب الرجال؟ من هؤلاء أسود يهودا الشباب؟ تطلعت بطرف عينيها إلى آري بن كنعان وأصيبت بقشعريرة، تماما كما لو أن هذا الإدراك صعقة كهربائية اخترقتها. وقالت لنفسها: هذا الجيش ليس جيش الناس العاديين. هؤلاء الموجودون هنا هم المحاربون اليهود القدماء. ماأكثر مابينهم من دان وروبين ويودا وأفراييم، ماأكثر مابينهم من شمشون وديبورا ويوآب وشاؤول. هذا جيش إسرائيل. وليس هناك في الأرض من قوة تستطيع أن تقف في وجهه لأن قوة الله في حوزته!"

قال رئيس بلدية روشبينا لمن بقي في الصفصاف حيا: ربما وصلت قواتنا في هذه البرهة إلى الشام ، ولم يبق إلا أن نعيش معا! توسط لهم ليخرجوا أحياء! وخرجوا إلى بنت جبيل! سيبحث كل منهم عن ولده! تسللوا مرات من بنت جبيل إلى بيوتهم، ورآهم اليهود يأخذون بعض أغراضهم من الصفصاف ويرحلون. فلينزحوا! لتكن الأرض دون سكان! نفذ البالماخ بالقتل والظلم "مهمة إلهية"؟

فتح سقوط الصفصاف الطريق إلى الناقورة. أخذ اليهود الجليل العربي كله وسدوا الطريق إلى لبنان. كان الجليل الشرقي قد سقط في 15 أيار. ابحث الآن يايحيى عن أهلك! سيدلك إليهم من رآهم يعبرون بنت جبيل! الحقهم إلى دمشق!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:05 AM
- 12 -


نفذت إنكلترا خلال انتدابها على فلسطين وعد بلفور الذي اعتمدته دول الحلفاء في صك الانتداب: تجعل الدولة المنتدبة البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل خلق الوطن القومي اليهودي. اكتملت نواة دولة يهودية ذات مراكز مالية وعلمية وعسكرية. فحولت إنكلترا في 2 نيسان 1947 كدولة منتدبة، القضية الفلسطينية، إلى هيئة الأمم المتحدة. يسند اليهود أنهم من ضحايا النازية! وستظل من الأسرار التي يقتل أو يطارد كل من يكشفها، أن ليفي أشكول كان يدير مكتب فلسطين في برلين في أيام النازية! وأن فون ماندل شتاين، رئيس قسم الشؤون اليهودية في المخابرات النازية ساعد المنظمات الصهيونية في تنظيم معسكرات تربية وتثقيف للشباب اليهود تحضّرهم للعمل في فلسطين!

مع ذلك كان الضغط الأمريكي والإنكليزي أكثر من العطف على اليهود كضحايا، خلال بحث مسألة فلسطين في المؤسسة الدولية.

اجتمعت الهيئة العمومية في 28 نيسان وانتدبت لجنة تدرس مشكلة فلسطين. فرأت اللجنة مشروعين: الأول دولة اتحادية، والثاني دولتان عربية ويهودية. اختارت بالأكثرية الثاني. كيف يقبل العرب تقسيم بلادهم؟ ويتخلون عن مدنهم لدولة يهود غرباء العرب فيها أكثرية؟ عكا، حيفا، يافا، طبرية، صفد؟! في 29 تشرين الثاني 1947 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين. وخصصت لليهود الغرباء مع أنهم أقلية 57% من فلسطين، الساحل وأكثر الأراضي والمدن التي لاتزال عربية! كان يلزم للقرار ثلث الأصوات وكانت أصوات هايتي وليبريا والفيليبين هي المرجحة. ضغط هارفي فايرستون، صاحب مزارع المطاط في ليبريا على حكومتها، ووجه ترومان موظفيه الأمريكيين للضغط على المندوبين.

رغم ظلم قرار التقسيم، سينقل اليهود بالقوة يافا وعكا من المنطقة العربية في خريطة التقسيم إلى المنطقة اليهودية. ولن ينفذ الجزء الآخر من قرار التقسيم: دولة عربية فلسطينية! صاح حتى الأولاد العرب في مدارسهم: أي ظلم! سرق قرار التقسيم من العرب أراضيهم، وفرض دولة غريبة! ولكن هل يستطيعون أن يردوا ظلم الدول الكبرى؟!

اجتمع في فندق طانيوس في عاليه، مجلس جامعة الدول العربية. كانوا يمثلون بلادا استقل بعضها بعد الحرب العالمية الثانية، هشة لكنها تحمل خبرة مقاومة الاحتلال. وبعضها يرتبط بمعاهدات إنكليزية. تابعوا جميعا الاستيطان اليهودي في فلسطين خلال الانتداب الإنكليزي. ماجت بلادهم بالمظاهرات في كل سنة في ذكرى وعد بلفور. وصرخ فيها السياسيون وغير السياسيين إن غرس إسرائيل على حافة بلاد الشام، بين المشرق والمغرب، يقطع الوطن العربي إلى شطرين. يلبي حاجة بريطانيا إلى حماية قناة السويس والمشروع الصهيوني، لكنه للعرب جريمة لايمكن أن تسكت عليها الشعوب العربية. ستقاس وطنية السياسيين طوال نصف قرن بموقفهم من مسألة فلسطين، فلسطين التي رأى العرب بعيونهم كيف تنتزع منهم بالقوة. قال الناس: الدول العظمى متآمرة علينا! الأجانب! اجتمع رؤساء الوزراء العرب إذن ليبحثوا ماالعمل. وسيجتمعون طوال خمسين سنة قادمة لأن إسرائيل ستظل تهاجم البلاد العربية!

لكن المجتمعين الذين وحدهم خطر الدولة اليهودية، باعدت بينهم أوضاعهم المتباينة بين الاستقلال والمعاهدات الأجنبية، وطموحهم الشخصي. يستهوي الملك عبد الله مشروع سورية الكبرى الذي يخشاه القوتلي ويرفضه الشعب السوري لأنه يلحق سورية المستقلة بالعراق المربوط بمعاهدة إنكليزية. يرغب الملك بضم بقايا فلسطين إلى شرق الأردن. ويطمح المفتي أن يكون رئيس حكومة عموم فلسطين. لذلك سيتجدد التوجس بينه وبين القاوقجي الذي سيحارب بقوة مسلحة في بلد يفترض المفتي أنه رئيسه. سيخشى الملك المتطوعين المسلحين الذين سيعبرون بلاده. وسيتوجس القوتلي من اتفاق جيش الإنقاذ مع الملك ضده. وعندما ينتصر جيش الإنقاذ ستنتشر إشاعات عن طموحه إلى انقلاب عسكري وسيخشاه من يسنده. ماهذه القوة غير النظامية التي لاتلتزم بقرارات الهدنة وتعترض على نقص التموين والعتاد وتطلب أن تسلح كجيش نظامي ويفاوض قائدها الملك عبد الله ورئيس الجامعة العربية والملك فاروق ورؤساء الوزراء العرب؟! استنفدت مهمتها!

سافر القاوقجي في 19 تشرين الأول سنة 1947 مع عبد الرحمن عزام إلى دمشق واجتمع بالقوتلي ومردم وطه الهاشمي والفلسطينيين معين الماضي وعزة دروزة. قدر القاوقجي مايحتاجه من المتطوعين والأسلحة من كل بلد عربي. وعين معسكر لتدريب المتطوعين في قطنا. في 6 كانون الأول سنة 1947 بلغ اللواء اسماعيل صفوت والعميد طه الهاشمي، باسم جامعة الدول العربية، وباسم القوتلي، القاوقجي بأنه قائد المتطوعين. وألزموا الحاج أمين الحسيني بأن يقبل ذلك. أسس جيش الإنقاذ الذي يستطيع كقوة متطوعين أن يدافع عن القرى والمدن العربية قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين في 15 أيار يوم جلاء الإنكليز عن فلسطين! قائده العام اللواء اسماعيل صفوت مركزه قدسيا. في 8 كانون الأول 1947 تحرك فوج اليرموك بقيادة الرئيس أديب الشيشكلي من قطنا إلى بنت جبيل في لبنان، وغطاه هجوم العشائر على اليهود في الزوية والقنيطرة. وفي 29 كانون الثاني تحرك فوج حطين إلى فلسطين.

أغلق رجل من مئات الرجال الذين تطوعوا في جيش الإنقاذ الباب وتحدث طويلا مع زوجته. بدا ذلك الاجتماع بينهما لبنته ليلى الطالبة في المدرسة، ولأخيها معتصم طالب الطب، مختلفا عن "اجتماعات" أبيهما السابقة مع أمهما. كانت أمهما منور تصغر زوجها بهاء .لكنها تبدو حاكمة البيت. يبدو أن زوجها يدللها بذلك. ففي أول الشهر يضع راتبه في يدها. فيوجه كل طلب إليها. منها تأخذ ليلى ثمن دفاترها وكتبها. ومنها يتناول معتصم ثمن قسط الجامعة وثمن بطاقة السينما، ومنها يأخذ بهاء نفسه نفقته في المقهى.

يعرف الولدان العلاقة الخاصة بين أبيهما وأمهما التي تختلف عن العلاقات في بيوت الجيران حولهما. بين ليلى وبين أخيها عشر سنوات لم تنجب أمهما خلالها. ومع ذلك لم يتزوج أبوهما امرأة أخرى. قال لهما مرة في متعة إنها اشترت في صباها زوج جوارب بليرة ذهبية. كانت منور قد تجولت في بلاد الشام مع زوجها يوم كانت بلاد الشام في دولة واحدة. لكن زهوها بأنها مدللة ومحبوبة وقوية، كان منسوجا بحزن مكتوم ينفجر أحيانا. فاجأتها ليلى مرة أمام صندوق قديم من الجلد المغلف بالقماش، وهي باكية تغمر وجهها بقميص أبيض مطرز فيه بقع دماء. جفلت عندما فتحت ليلى عليها الباب. واضطرت أن تقول لها: قميص خالك! اخرجي! عادت ليلى إلى الصندوق وحدها وتفرجت على القميص المطرز ولمست بقع الدم. ألبست في خيالها الشاب الجميل الذي تراه في صورة معلقة على الحائط في إطار من الخشب القديم، قميصه الجميل. بدا وسيما وأنيقا. سألت ليلى أباها في ذلك المساء: كان خالي جميلا؟ كادت دموعه تنط. سألته: تحبه؟ رد: كما أحب أمك! وكان ذلك ذروة الحب! لماذا إذن يتفاديان الحديث عما يحبانه، ويظهران كأنهما يعيشان هذه الأيام فقط؟ فتضطر أن تجمع كالجاسوسة الصغيرة طيفا من هنا وطيفا من هناك؟ يوم حبست ليلى نفسها في الغرفة معلنة الإضراب عن الطعام لأن أمها منعتها من الذهاب وحدها إلى السينما في ذلك العمر، قال لها أبوها: أمك ليست مذنبة. ولكن لو كانت ذنوبها بحجم الجبال لغفرها أنها كانت توزع كل يوم ثمانية أرغفة على الجياع أيام السفر بر في بيروت. يوم كان الناس يبيعون بيوتهم ونساءهم بالخبز! وكان زملائي يكنزون الذهب والأراضي من بيع الخبز! باعت أمك حليها لتشتري مايلزمنا، كي توزع مجانا حصتي اليومية من الخبز!

أغلق بهاء ومنور عليهما الباب. ماذا يبحثان؟ أشار معتصم لليلى مبتسما أن تقترب من الباب لعلها تسمع حديثهما. فعبست: لاأتلصص على أحد! قال معتصم ساخرا: من طلب منك ذلك!

قالت منور لزوجها: لكن هذه الحرب لن تكون مثل حملة الترعة! ولست في ذلك العمر. هل تستطيع أن تتحملها؟ قال: لاأستطيع ألا أشترك فيها! لو بقي هنا لكان تعيسا ومذنبا. قال: أصحابي تطوعوا! سألته: إذن قد ترى أختي في عكا! رد: إذا قدر لي أن أكون قريبا من عكا. قالت في هدوء: سترد بعض دين فلسطين عليك! ابتسم! اشتغل في طبرية يوم كانت بلاد الشام دولة واحدة يخرج فيها من دمشق ويصل في اليوم نفسه إلى حيفا. عاش مع منور في بيت جميل على السور، يطل على بحيرة طبرية. رد: دينها لاأستطيع أن أفيه! أيقصد أنه أحبها في حيفا وتزوجها في طبرية؟

فتح الباب وخرجا. لم يقرأ ولداهما على وجهيهما فرحا ولاحزنا. جلسا على ديوان فوقه سجادة رقيقة طرية. قفزت ليلى وجلست قرب أبيها ومالت عليه بجسمها كله وعانقته. تقصد أن تظهر له أنها تحبه! كانت تمد نفسها من النافذة وتنتظر عودته. فإذا لمحته في أول الطريق ركضت لتلقاه. وكان يحمل لها كلما سافر إلى بيروت شيئا تحبه. قضبان قصب السكر، مربى الزهر، قبعة للشتاء، قفازين. ويأخذها إلى سوق علي باشا فتشم عبق الفواكه، وتستمتع بترتيبها الأنيق في صفين من الدكاكين، وتأكل تفاحة حمراء طيبة. وكان معتصم يدلل أمه ويبالغ في ذلك. فيرفع كفها إلى فمه ويقبلها. فتقول له ليلى: ألغيت تلك العادات منذ رحل العثمانيون! ستمر عقود من الزمن لتفهم أن القبلة على اليد ليست عبودية، فقد تغمر حتى القدم عندما يشف الحب!

قال أبو ليلى: اهتموا بأمكم في غيابي! تطوعت في جيش الإنقاذ الذي سيحارب في فلسطين. تجمع في فلسطين يهود من أنحاء العالم ليستوطنوها ويطردوا العرب منها. أهلها أهلنا. وهناك عشنا. هل أحب بيروت أكثر من حيفا؟ هل أحب دمشق أكثر من طبرية؟ لاأعتقد! لكن المسألة ليست فقط حبا وكرها. المسألة أن احتلال فلسطين سيكون دملا في قلب البلاد العربية. سنعاني منه حتى هنا في دمشق. لذلك تطوعت في جيش الإنقاذ الذي نظمته الجامعة العربية للمتطوعين. وقف معتصم: وأنا أيضا سأتطوع! دهش أبوه. لاتعرف الطرقات ولاالرمي. مع ذلك لو كنت متخرجا لكنت مفيدا كطبيب. ادرس وانجح! وماأكثر المعارك القادمة! جلس معتصم مجروحا. في هذا العمر يستطيع أن يقرر مصيره بنفسه! لكن هل يجرح أباه؟! أبدا! أبدا! قال أبو ليلى وهو يلف شعرها الناعم على أصابعه: هكذا كان جدك يلف شعر أمك الطويل على أصابعه. ثم نهض: لن أوقظكما في الفجر. سأقبلكما قبل أن تناما! سأعود كلما وجدت فرصة!

تقلبت ليلى زمنا في فراشها. وكذلك تقلب معتصم. لكنها غفت دون أن تشعر، ولم تصح عندما ركع أبوها قربها وتأملها وهي نائمة. ربط معتصم الساعة ولفها بمنشفة كيلا يبدو أنه قصد أن يستيقظ في الفجر. ودع أباه بعناق قوي وخرج معه إلى الطريق. مدت منور نفسها من النافذة. ومر في تلك البرهة رجل يسوق حمارا محملا بالقنب. لم توقد بعد الأفران! ولم تستطع أن تتابع زوجها في غبش الفجر. خرج بهاء من البيت مشرقا كما يخرج المؤمن بأنه ذاهب إلى عمل يملأ عمره. يوم ذهب إلى معركة الترعة كان ينفذ أمر أبيه. وكان يشعر بأنه يحارب حربا ليست حربه. لكنه الآن راجع إلى فلسطين التي أحبها، إلى القرى الخضراء التي عبرها، راجع إلى حياته الحلوة. ليدافع عن بلد مظلوم تكاتفت عليه الدول الكبرى ويهود العالم. وسيكون أمام اولئك. نعم، أمامهم! ماضاع حق خلفه مطالب! وهو أحد المطالبين بذلك الحق!

هل بكت منور في ذلك الفجر؟ مرة أخرى يخرج الأميرالاي اسماعيل إلى الحرب؟! لا، ذاك خرج إلى حرب اليمن التي لم يخترها ولم يوافق عليها وقرر أن يكون فيها مقتولا لاقاتلا! وهذه ليست الحرب العامة التي سيق فيها أخوها نوري إلى العراق ليحارب الإنكليز ففقد فيها! هذه حرب يخرج إليها زوجها راغبا! وهي أيضا راغبة في أن يدافع عن القرى والمدن التي عاشت فيها. سيرد بعد هذه السنوات الطويلة الظلم الذي سلب أباها قريته وبيته التي سرقها منه اليهود. بينها وبين اليهود الذين استوطنوا فلسطين ثأر! فعندما كبرت فهمت أنهم دمروا أسرتها وبددوها. وأنها كانت تفصيلا صغيرا من برنامجهم في أن يستعيدوا أرض الميعاد باسم ربهم القديم!

في غياب زوجها في فلسطين فكرت منور بالموت. لم تفكر به أبدا سابقا مع أنها رأت موت أبيها المحبوب. ثم أخيها المحبوب. وربما تمنت لو رأت موت أخيها المفقود أمامها، في حضن بلده لافي غربة عن البلد وغربة عن الحرب في العراق. لكن فتوتها وقوتها أبعدت الموت عن فكرها بعد كل موت رأته. خيل إليها أن الموت أخذ منها كل ضحاياه ولم يعد يجرؤ أن يدق بابها. لكنها في غياب زوجها فكرت: وإذا لم يعد؟ وخيل إليها أن ذلك حدث فلم تنم في تلك الليلة. قالت لتهدئ نفسها: يخرج كل إنسان من الحياة بطريقة خاصة. وقد يكون أفضلها الموت هناك! لكن ذلك لم يسعفها من الأرق. ماتزال ليلى تحتاجه. وهي؟ استعادته منذ رمت الطعام الذي طبخته في بحيرة طبرية للسمك. قالت له: لاأريد هذا الزواج! سأعود إلى بيت أهلي! فهم أنها فشلت في تحضير أول وجبة في حياتهما فتظاهر بالتعب وقال لها: سنبحث ذلك فيما بعد. ولن تنفذي إلا رغبتك. لكن لنأكل الآن لبنة وجبنا. لاأتحمل اليوم غيرها. ستكرر ليلى ذلك فيما بعد بشكل آخر. يوم يترك لها زوجها كومة من ورق السلق لتحشوه فيتمزق بين يديها. فتغضب وتترك له ورقة: لست ماهرة في التفصيل والخياطة! سيتغدى معها عند أمها منور ويتذكر الأيام التي كان فيها ضيفا دائما أيام الجمعة عند منور. وسيحرم على السلق الدخول إلى البيت!

كان بهاء أكبر من زوجته وعلى كل منهما أن يعبر كل تلك السنوات إلى الآخر. وكانت تشعر بأنها أقوى منه لأنها أصغر منه. ولأنه مفتون بها. ثم تبينت في بيروت أن النساء يهوينه وأنهن يدعونه إلى حفلات وسهرات. لكنها أبقته عاشقا يغار هو عليها لاهي عليه. انشغلت بابنها وبجاراتها. وماأحلى معشر أهل بيروت! وتجاهلت "بلورات" الصور السوداء التي وجدتها بين أمتعة التصوير التي استهوته. رأت فيها نساء عاريات الصدر، جميلات جدا. متى صورهن على تلك الزجاجات، وأين؟ لم تسأله أبدا. فاحترق بغمه. ويوم حمل ابنها إحدى تلك الصور التي وجدها في السقيفة بعد عقود من السنوات وسألها: ماهذا؟ قالت له في برود: كان أصحابنا يتركون أغراضهم عندنا عندما يرحلون كما تركنا أغراضنا عندهم عندما تنقلنا من مدينة إلى أخرى! بقي في ذاكرتها حبه فقط. لم يرفع صوته عليها في عمره. لم يحجب عنها زيارة رغبت بها. مع أنه كان يغار عليها حتى الألم. لمحته مرات يتبعها متخفيا. لمحته مرة في زاوية شارع بثوب شحاذ. ولم تذكر ذلك أبدا له. لكنها ابتسمت مرة وقالت له: رأيت اليوم مجنونا منبوش الشعر، يشبهك تماما! بعد تلك الملاحظة لم يتبعها متخفيا أبدا.

عاد من فلسطين بعد عشرين يوما. فوجئت واحمر وجهها. أتت حرب فلسطين كي تكشف حبها؟ قال لها: لدي يوم فقط. اليوم الثاني للطريق. تحدث عن شعوره بجمال بيته، وعن اكتشافه ليونة فراشه، واستمتع بنكهة الطعام. فتلفت ولداه إلى البيت الذي تعوداه ولحقا نظرته الجديدة. تصورت زوجته أنه سيغرق في النوم حتى الصباح التالي. لكنه بعد الاستحمام لم ينم. حاول أن يرفع ليلى كما كان يرفعها وهي صغيرة، مع أنها تكاد تكون في طوله. وعانق ابنه. تعشى معهم وانصرف لينام. لكن ولداه ناما والضوء مايزال مضاء في غرفته.

لم يصل إلى عكا! تنقل حيث طلبوا نجدات فإذا هو في محيط القدس. وفي كل زيارة من زياراته كانت منور تسمع تنقلاته. وكأنها تسير معه في ماسماه الناس حرب فلسطين. وتقرأ أوضاع الحرب من حماسته أو فتوره مع أنه كان حريصا على ملامحه. لكن الخيبة لاتخفى. ورأت أنه يكسب عمرا لم يكسبه أبدا من قبل في حياته العادية. الخطر يهدد العمر؟ الخطر يضيف إليه مسافات لاتقاس! حكى لها عن البرد الذي ارتجف فيه. عن الصداقة التي يستنبتها الخطر بين المجموعات. عن القهر كلما تدخل الإنكليز لأن اليهود يتراجعون. حكى لها عن الشجاعة التي تنسي الخوف وتوصل إلى النصر. لاتفهم المعارك التي خاضوها بمقاييس الحروب العادية التي تحسب العتاد والأسلحة. لأن تلك الحسابات لاتضيف الحب والحقد والجموح لاسترداد الأرض التي سرقها اليهود. قال لها: قوى كبرى ضدنا. أعطتهم دبابات وطائرات ومدافع ليس لدينا مثلها. ورسم لها صورة ملوك ورؤساء يخاف أحدهم الآخر، بعضهم يائس. فأحبت رياض الصلح لأنه أرسل للمتطوعين ذخائر وأسلحة ومابخل، وكرهت آخرين. وفي برهة قالت له وهو يحكي عن ترشيحا التي ضاعت واستردوها: أعرف اليهود. سيظلون يهاجمونها لأنهم سينفذون حدود دولتهم! كانت تضطرب كلما سقطت بلدة من البلاد التي يحكي عنها. تعرفها كلها. الناصرة؟ ياويلي! هناك تزوجت أختها زوجها الأول! وإلى هناك ذهب أخوها سعيد ليهرّب أخته من زوجها! بدا له أن الناصرة تسقط في تلك البرهة التي حكى لها عنها. مشت مع جميع القوات في الطرقات التي ذكرها. شهقت عندما ذكر طبرية، والقدس، ويافا، وترشيحا. اكتشف علاقتها بتلك القرى والمدن، التي ظن أنه يعرفها. كان لحيفا مكانها الخاص. ففي يوم سقوط حيفا لبست منور ثوبا أسود، ولم تأكل في ذلك اليوم لقمة، وغصت بالماء. خرجت من البيت واختفت حتى المساء.

فسر لها مرة لماذا يتوجس من مصير الحرب. قال: يخشى القوتلي أن ينفذ الملك عبد الله مشروع سورية الكبرى خلال حرب فلسطين. ويخشى الملك أن يكون السوريون قد اتفقوا مع السعوديين ولذلك طلب الملك سعود أن تحدد له منطقة في الأردن يدخل إليها. تصور أن السعوديين سيحتلون جنوب الأردن بينما تحتل سورية شماله. منذ البداية اتصل المفتي بالمتطوعين الفلسطينيين في معسكر قطنا وطلب منهم الفرار بأسلحتهم. وحول المفتي إليه بعض المساعدات التي خصصتها العراق والسعودية ومصر للمتطوعين. ويخشى الملك من حكومة يعلنها المفتي في فلسطين التي ينوي الملك أن يلحق بقاياها بالأردن.

رسمت منور في هواء غرفتها، على جدرانها، على طاولة طعامها، على بابها وثيابها، مسارات المتطوعين منذ بداياتها. وأوصلتهم على الجسور الموجودة والمقطوعة. عبرت معهم نهر الشريعة الذي تعرفه. يحتاجون الإذن لهم بالعبور؟ يحتاج الدفاع عن فلسطين إلى إذن؟!

نعم، يرتبط الملك بمعاهدة مع الإنكليز. ومع ذلك يجب أن تمر قواتنا في الأردن! جاء إلى دمشق في 30 كانون الثاني 1948 قائد الجيش الأردني اللواء عبد القادر الجندي. قال لدينا معاهدة مع الإنكليز. لذلك اتصلوا بنا لندبر دخولكم دون أن نغضب البريطانيين. نخبرهم مسبقا؟ من يضمن ألا ينقل الإنكليز الخبر لليهود؟ لذلك لم يخبرهم القاوقجي أن رتل المدفعية والإمدادات والمشاة تحرك في آذار 1948 من الضمير وقطنا إلا عندما وصل إلى درعا. اتصل من درعا باللواء عبد القادر الجندي فأخذه ليقابل الملك. قال له الملك إنه سيوحد سورية. سينقذ فلسطين ويضمها إلى شرق الأردن. وإنه يحتاج إلى مرفأ حيفا! وانتقد القوتلي لأنه ضد وحدة سورية. لذلك اتصل القاوقجي بالحرس الأردني على جسر اللنبي من وراء ظهر الملك وغلوب، فنصحوه أن يعبر الجسر في الثانية صباحا كقافلة أردنية. وعبره. قبل ذلك كان فوج المقدم صفا قد وصل إلى درعا في 21 كانون الثاني، ورفض الأردن عبوره. وبعد الاتصالات وافق شرط عبوره جسر دامية ليلا. مع ذلك احتجت بريطانيا وفكك البريطانيون جسر دامية. فانقطع التموين عن القوة التي عبرته.

تجاوزنا الأيام التي شوشنا فيها جماعة الحاج أمين. في 21 كانون الثاني 1948 طلب صفا من القاوقجي المفرزة الشركسية من قطنا لأن جماعات الحاج أمين تزعجه. فعبرت بالقوارب لأن نهر الأردن مرتفع وجسر دامية مفكك. وفي 27 كانون الثاني 1948 أعلمتنا الحكومة الأردنية بأنها لن تسمح إلا بمجموعات لاتثير الانتباه.

لكن هذا الوضع العام جانب فقط من الحرب. قال لها: أسلحتنا ألمانية وايطالية وفرنسية وإنكليزية. قد توجد ذخيرة لهذه ولاتوجد لتلك. نحارب دون ذخيرة لائقة في جبهة واسعة! لكنه لم يكن حزينا. كان يحارب. والنصر والهزيمة احتمالان متكافئان.

ظن أنه باح لزوجته بما في قلبه. لكنه انتقى التفاصيل التي حكاها لأولاده. فتحدث فقط عن المعارك بما فيها من نصر ومن هزيمة. وعن ضرورة التناسق بين الجبهة السياسية العربية وبين المقاتلين. بين القوات المتطوعة غير النظامية وبين الجيوش العربية. قال: لاتظنوا أن اليهود يستطيعون أن ينتصروا بآلاتهم فقط. بل بوحدة منظماتهم السياسية والعسكرية وبمساعدة العالم لهم. وقال لهم بتأن كأنه يترك وصية: يتدخل الجيش البريطاني دائما ليحمي اليهود كلما رآنا ننتصر عليهم. منع البريطانيون اتصال القرى العربية بحيفا وغيرها، فيسروا سقوطها. سهلوا نجدات اليهود. وحرسوا مستعمراتهم منا. عندما طاردناهم باتجاه زرعين - العفولة ظهرت الدبابات البريطانية وأوقفت الاشتباك فانسحب اليهود بحمايتهم. عندما اشتبك الشيشكلي مع اليهود في معركة جدين قرب ترشيحا ليشغلهم عن قوات صفوة، أنجد البريطانيون اليهود. كلما تضايق اليهود من قصفنا طلب البريطانيون وقف القصف لينقل اليهود جرحاهم وقتلاهم ويعيدوا ترتيب قواتهم ويطلبوا النجدة. تفرض الهدنة ليعيد اليهود ترتيب قواتهم ولتصلهم بواخر الأسلحة. تذكروا ذلك! لأن هذه الحرب ستكتب بشكل آخر. سيبالغ العرب بوضعهم الذي منع الانتصار فيها. وسيبالغ اليهود في انتصاراتهم ولن يذكروا هزائمهم. تذكري ياليلى، تذكر يامعتصم، أن أباكم هزمهم مرات وأرجعهم عن ترشيحا! واسترد منهم المالكية. واستعاد التلال التي احتلوها! سألته منور: تتحدث كأن الحرب انتهت وخسرناها! رد: لم تنته. ولن أقول خسرناها حتى يحدث ذلك. لكن تذكري أننا لن نخسرها لأننا لم نندفع فيها ولم ننتصر فيها. بل لأن سلاحا جديدا من الطائرات والدبابات وصل إلى اليهود. سلاحا موحدا لم نصادف مثله من قبل لديهم. ولأن العالم يفرض الهدنة وسيجعلها هدنة طويلة! ياليلى، يامعتصم، اكرهوا الإنكليز الذين صاغوا وعد بلفور ونفذوه! اكرهوا أمريكا التي تدافع عن سارقي فلسطين! لكن ميزوا دائما بين الشعوب وبين حكامها! أنت ياليلى أصغر من أخيك لذلك أقول لك: لاتصدقي أن فلسطين يهودية إذا كرروا ذلك ذات يوم! كانت في فلسطين مستوطنات عسكرية لكن المدن والقرى بقيت عربية حتى هجموا عليها في هذه الحرب وهجّروا أهلها. لجأ سكان القدس إلى بلاد فلسطين التي لم تسقط بعد!

كانت معركة القدس جرحا في قلبه. وخيل لزوجته وهي تضع كفها على صدره تلك الليلة أنها تلمس ذلك الجرح. وأرعشها نبض قلبه السريع. شعرت أن دير ياسين والقسطل ليست علامة فقط في الحرب بل ندبة في روحه. أفقدته الفرح بانتصارات بعدها فصار يرويها كحدث يجب أن تعرفه. ولاحظت تحت حماسته نزفا هادئا لايتوقف. توجه فوج من فوجين أرسلتهما القيادة العامة إلى القدس. أكدت توصية رياض الصلح وجميل مردم: يجب ألا تسقط القدس! مع أن يافا كانت تطلب النجدة.. لكن الهدنة قررت ليرتب اليهود قواتهم ويفكوا الحصار عنهم. بعد الهدنة هجموا فورا على التلال المحيطة بباب الواد. فأرسلنا إليها السرية اليمنية ومن بقي من الشراكسة، واستقدمت المدفعية. استعدنا المرتفعات والأحراش، صدنا مصفحات يهودية. ومنعنا سقوط القدس قبل دخول الجيوش العربية! حاول اليهود العودة فحمينا باب الواد بسرية من المتطوعين الأردنيين وبالمسلحين الفلسطينيين. هجم اليهود على اللطرون وأخرجناهم منها! خيل لمنور أنها ترى بريق النار على وجه زوجها المتوهج. كان منتصرا! لكنها استنتجت أن الهزائم ليست له فقط موقتة. بل موقتة أيضا لليهود الذين يملكون البحر والسفن التي تحمل لهم السلاح والمتطوعين! وكادت تقول له فيما بعد وهو يروي هزيمته: كنت أعرف أن الحالة ستصبح سيئة في القدس! قال: حاول اليهود أن يصلوا تل أبيب بالقدس باحتلال قرية القسطل. فوصلنا نجدة إلى القدس. لكن القسطل كانت قد سقطت قبيل وصولنا. استشهد عبد القادر الحسيني وتشتت المقاتلون الفلسطينيون. حاولنا استعادتها. أخرجنااليهود منها وأعدنا القوات الفلسطينية إليها. ولكن.. ولكن..

كان متطوعو جيش الإنقاذ ينفذون أمر القيادة بالانسحاب، لأن الجيوش العربية صارت مسؤولة عن الدفاع عن فلسطين، عندما طلب الأردنيون أن ينجدهم جيش الإنقاذ في القدس. وصلت برقيات تشبه نداء امرأة عربية إلى المعتصم: اليهود يقصفون الحرم. واأسفاه على المدينة المقدسة! فاستعاد القاوقجي المدفعية المنسحبة إلى نابلس، وفوج غسان جديد والمتطوعين الأردنيين والمسلحين الفلسطينيين. استخدم عفيف البزري مدفعيته، وتقدم المتطوعون إلى الشيخ جراح.

لاتحتاج منور إلى ترتيب التفاصيل. أمسكت بالنتيجة. قالت له كأنها تستعيد كلماته التي قالها وقت كان الانتصار والهزيمة متكافئين، وكان لديه أمل في التموين والأسلحة: لكنكم أثبتم أن السلاح ليس وحده القوة الفاصلة! فرد في ألم: وأثبتوا لنا أنه القوة الفاصلة! وقال كأنه يتذوق المرارة ليعذب نفسه: منعنا اليهود من القدس. لكننا نجدة لاتستطيع أن تبقى! انسحبنا فهجم اليهود على القسطل وذبحوا أهل دير ياسين! دير ياسين عقدت اتفاقا مع اليهود بعد انتشار الذعر وإجلاء العرب عن المدخل الغربي إلى القدس. لكن الهاغاناة وقت شنت الهجوم الكبير لتحرير الطريق إلى القدس قررت الهجوم على دير ياسين.

في زياراته كان بهاء يعود إلى القدس بأحاديثه. وستظل دير ياسين جرحا مفتوحا يستعيدها العرب ليبينوا وحشية الصهيونية. فهمت منور أن دير ياسين والقسطل صارت كالأوجاع المزمنة التي يحركها البرد والحر. "القسطل طريق القدس! استعادها عبد القادر الحسيني. لكنه قتل فصدم رفاقه وانسحبوا. فسقطت مرة ثانية في 9/4/1948 في الليلة نفسها سقطت دير ياسين! حاصروها في الليل وهجموا عليها في الفجر. دافعت عن نفسها. عندما قتل محمد الحاج عايش زغردت أمه حلوة زيدان، فنزل والده فقتل. نزلت حلوة زيدان وقتلت. ذبحوا بعض أهلها وأخذوا الباقين أسرى فطافوا بهم حفاة في شوارع القدس في موكب نصر وسط هتافات الجماهير اليهودية، ثم أعادوهم إلى القرية وقتلوهم. عدد الضحايا 245 شخصا. قتل اليهود أهل القرية". في تلك الزيارة قال لولديه: "ستقدم لكم صور المقاومين العرب مغطاة بكوفيات. وستقدم صور اليهود بملابس عسكرية مرتبة. فلاتظنوا أن المقاومين العرب حملوا بارودة جاهلين بفنون الحرب. عبد القادر الحسيني تخرج من الجامعة الأميركية، اشترك في ثورة 1936، لجأ إلى العراق، تخرج من الكلية العسكرية، واشترك في ثورة الكيلاني، ترك العراق إلى ايران مشيا، اعتقل في بغداد سنة 1944 وسجن ثم نفي".

وقت خرج بهاء من أحزانه المكتومة أمام أولاده، وأخفاها بوصية جديدة تؤكد وصاياه الماضية فقال لهم: اكرهوا الإنكليز لكن لاتخلطوا بين الحكومات وشعوبها، قالت له: بكرت على الوصايا! قد تجعلك الانتصارات تغير رأيك! رد في هدوء: سقطت أكثر المدن العربية، حيفا ويافا وعكا وصفد وطبرية! نحن الآن نقاتل في الجليل! نقاتل كيلا يسقط الجليل الخصب، ذو التلال والمرتفعات، المتصل بسورية ولبنان، المشرف على منبسطات فلسطين. ويقاتلنا اليهود كي يحتلوه كله! يبدو لي أننا في خطنا الأخير!

فهمت أساه. وبدت لها روحه مشروخة كروح أخيها سعيد يوم باح له رفيق أخيه نوري: كنت مع نوري في العراق. جرحنا معا. ثم رأيته مقتولا! منذ تلك البرهة لم يعد الأمل حلما يجدلون خيوطه العنكبوتية كأنها حبال المراسي! نهضت منور. ترفض هذه الهزيمة! قالت لزوجها: ليس التقدم من الخط الأخير إلى الخط الأول معجزة! قلت إن الأسلحة لاتحارب وحدها. التفت إليها: لكن الرجال لايحاربون دون أسلحة! أيحدثها عن برقية محمد صفا الغاضبة إلى المفتش العام ورئيسيّ الجمهورية اللبنانية والسورية.. "لاعتاد نستغرب تسليمكم أرواح الناس وأنتم وراء مكاتبكم.. تفضلوا وأرونا عبقريتكم.. البرقية باسم جنودي وباسم خمسين ألف فلسطيني في منطقتي..ألم تتعلموا من مأساة الناصرة؟ إذا لم تصل هذه البرقية إلى رئيسيّ الجمهورية نشرت مضمونها في الجرائد.."

في الحمّام وهو مستسلم للماء الدافئ المنهمر عليه، بدا له أنه بالغ في التعبير عن أساه أمام منور. قال لها عندما خرج: لاتفكري بكل ماقلته كأنه حقيقة مطلقة. سألته: هذا تأثير الماء عليك، أم تريد أن أطمئن عليك؟ ابتسم. لايمكن أن يراوغ أمام هذه المرأة أبدا. قال: هذا وذاك معا. لكن من يملك الحقيقة عن جبهة تتحرك كل يوم؟! في تلك الليلة غنى لها. قال: سهرنا سهرة رائعة في القمر. هل لاحظت أن قمر الشتاء أكبر من قمر الصيف؟ بيننا متطوعون فلسطينيون غنوا أغنياتهم. أعجبتني أغنية عن فلسطيني شنقه الإنكليز في انتفاضة 1936 وقد يكون نوح ابراهيم هو الذي أنشدها. لاتفهمي منها الحزن فقط. انتبهي فقط إلى جمالها ودفئها. خيل إلي أنها وهبتنا قوة إضافية في دفاعنا عن ترشيحا. اسمعي!

ياليل، خلي الأسير تايكمل نواحو

راح يفيق الفجر ويرفرف جناحو

تايتمرجح المشنوق في هبة رياحو

شمل الحبايب ضاع وتكسروا قداحو

***

ياليل وقّف تامضّي كل حسراتي

يمكن نسيت مين أنا ونسيت آهاتي

ياحيف كيف انقضت بايديك ساعاتي

***

لاتظن دمعي خوف، دمعي على وطاني

وعاكمشة زغاليل في البيت جوعاني

مين راح يطعمها بعدي

وإخواني قبلي شباب عل مشنقة راحو

***

وبكره مرتي كيف راح تقضي نهارها

ويلها علي أو ويلها على صغارها

ياريتني خليت في إيدها سوارها

يوم دعتني الحرب تاإشتري سلاحها

لم تسأله فكرت في؟ سألته: كرهت الإنكليز بعد الأغنية أكثر مما كرهتهم قبلها؟ نعم! بعدها بدا لي الأمريكي الذي يتصل بنا كعضو في لجنة مراقبة الهدنة عفريتا أسود! قالت: لكنه ليس إنكليزيا! رد: أصله من هناك! قالت: صحيح! خرب الإنكليز بيوتنا! فتحوا فلسطين للمستوطنين! قال: لكننا لانخلط بين الشعوب وبين حكامها! ذكّرته: وصيتك لأولادك! لكن، لو أني أرى ذلك الشعب الذي يقبل اولئك الحكام!

هل خافت عليه عندما ودعته في ذلك اليوم؟ أم كان غضبها أكبر من خوفها؟ لو كان الجيش يقبل نساء لتطوعت ولكانت مفيدة في بلد تعرفه. لكن النساء العربيات اللواتي حاربن في الماضي البعيد وكانت منهن عائشة التي ركبت الجمل وقادت آلاف الرجال، وكانت منهن أسماء التي قالت في ترفّع: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، وكانت منهن غزالة الخارجية، حبسن منذ زمن طويل في البيوت. نازك العابد، الجميلة الشقراء التي حاربت في ميسلون مع يوسف العظمة، نسيها الناس. ليست سامية المدرس التي لبست ثياب الجيش غير مثل للفرجة. والفتيات اللبنانيات والفلسطينيات، سناء محيدلي ولولا عبود ودلال المغربي، اللواتي سيفجرن أنفسهن في المحتلين، لازلن بعيدات!

كان بهاء يحارب في أرض محددة بينما كانت منور تضع في بيتها الحرب كلها! لذلك لاحظت ليلى أن أمها ضيعت نكهة الطعام الذي تطبخه. وأن غرفتها تبقى مضاءة حتى تغفو ليلى. شق معتصم بابها عندما استيقظ صدفة في الفجر، فبدا له أنها غفت منذ برهة. كانت تعيش وسط هزائم الحرب، ولم تكن انتصاراتها غير حقد المظلومين المكتوم الذي يتوعد بالعدالة ذات يوم بعيد. وفي تلك الأيام قطعت صلتها الأخيرة بالسماء.

كانت دمشق تغلي. وحديث الناس في البيوت عن مؤامرة الدول على العرب. لكن أكثر غضبهم على خيانة الحكام. كان الغضب أسهل من الإحاطة بالظروف المعقدة. قرر منذ ذلك الوقت أن تكون إسرائيل أقوى دولة في المنطقة. وستبتدع صيغ جديدة لسيادتها عليها.

غاب بهاء في الخط الذي سماه خط الدفاع الأخير. في أيار اصطدم الجيش اللبناني بقوات يهودية داخل الحدود اللبنانية. فطلبت لبنان قوات الإنقاذ. أرسل فوج حطين إلى بنت جبيل وفوج اليرموك إلى سمخ. في 29 أيار وصل بهاء إلى لبنان. أمامه المالكية التي سيقاتل ليستعيدها! تشرف المالكية على طريق عيترون - قدس. تحمي سهل الحولة الممتد بين الحدود السورية واللبنانية. لذلك أخرج اليهود الشيشكلي منها. " تبعد المالكية نصف كيلومتر عن الحدود اللبنانية. بقيت لبنانية حتى رسمت الحدود سنة 1923 فوضعت في فلسطين. مهمتنا أن نحمي أيضا الحدود اللبنانية! لذلك قال الجنرال شهاب للقاوقجي يوم وصلنا: هذه الليلة سأنام بالبيجاما!"

كان يخيل لأبي ليلى في كل اشتباك، أن الانتصار في فلسطين كلها معلق بتلك البرهة. نفض ألمه أمام زوجته وتركه عندها. وهو الآن يأمل أن يرجح الانتصار على الهزيمة. صب قلبه كله في معركة المالكية. قصف الجيش السوري تحصينات اليهود فيها. فرفع بهاء يده تحية للطيارين الذين لم يروه. قصفها آمر المدفعية عفيف البزري. وتقدم بهاء مع مجموعته. كانوا فوجا لبنانيا معه شوكت شقير، وفوج البادية، وسرية بدوية، وسرية درزية، لجموا النجدات اليهودية. واستعيدت المالكية! كان القتلى اليهود فيها إشارة إلى الانتصار العربي. هؤلاء القتلى هم الذين أخرجوا الشيشكلي منها وقتلوا كثيرا من العرب! لكن بهاء التفت عنهم. ربما كان قاتل أحدهم! لكن ذلك لايمتعه. اضطره هؤلاء القتلى إلى الحرب لأنهم استوطنوا بلاده! "تقدمنا إلى قدس ودخلناها. وأصبحت الحدود اللبنانية في أمان". قال بهاء لمنور: " قدس في سهل في طرف واد. فيها ينابيع وحمام ومسجد فيه نخلة. مبنية بالحجر. كانت لبنانية حتى جعلتها الحدود التي رسمت سنة 1923 من فلسطين". حكى فيما بعد لمنور عن حيلة اليهود لاحتلال المالكية. في ليلة 14 - 15 أيار سقطت المالكية وقدس. لكن العرب استعادوها. تسلل طابور يهودي مدرع إلى المنارة، كأنه قافلة تموين. عبر أرضا مكشوفة بين المنارة وطريق مرجعيون - المالكية دون أنوار. ظنت المالكية الطابور نجدة لبنانية. فوجئت وسقطت. لم تتوقف منور عند المكر: يوم وصلتهم الأسلحة تحت السكر والرز، ويوم وصلتهم معامل السلاح إلى بيروت كآلات صناعية وساعدهم الإنكليز في نقلها، كان ذلك مكرا! سيحتالون حتى يخطفوا فلسطين. أنتم لاتحتالون كي تستردّوها، لأنها بلادنا! لم يفهم بهاء عندما استعاد كلماتها هل قالت ذلك في سخرية أم في مرارة!

استوقفتها معركة المالكية وقدس. قالت: يتقاتلون على خط الحياة! على الموقع الأخير الذي يخرجون العرب منه. والموقع الأخير الذي يريد العرب أن يتقدموا منه. لاتعرف القريتين. لكن حدسها كان صحيحا. أخذ البالماخ المالكية من فرقة اليرموك الثانية في منتصف أيار واستعادها العرب في اليوم التالي. في 20 أيار اخترقت إسرائيل منطقة المالكية. وحاولت أن تحتلها. بعد أسبوعين تسلل كوماندوس يهودي إلى لبنان وتقدم إلى المالكية من الخلف كأنه النجدة المطلوبة، فعبر القرى اللبنانية في سلام وترحاب. التقى في طريقه بالنجدة اللبنانية وهاجمها. وصل إلى المالكية واحتلها في 29 أيار. في 7 حزيران استعادها اللبنانيون وبقيت معهم الصيف. في عملية حيرام احتلتها أربع فرق إسرائيلية. كانت محصنة من الشرق، لكن الإسرائيليين هاجموها من الجنوب وغطاهم الطيران، واحتلوها في تشرين الأول 1948. سقطت قدس مع المالكية. فصرخت منور: انتبهوا! يأتونكم من الشرق عندما تتوقعونهم من الغرب، ومن الجنوب عندما تتوقعونهم من الشمال! صرخت لتنبه من لن يسمعها، أم صرخت لأنها خمنت أن مصيرها كان هناك؟

قبل المالكية كانت في كل زيارة تعيد زوجها إلى حيفا. هل كانت حيفا وجع منور؟ كانت الناصرة وجع بهاء! كشف جرح روحه لمنور، وكانت مثله موجوعة. بقيا إلى مابعد منتصف الليل يتحدثان عن الناصرة.

طلب الإنكليز والأمريكيون من أمين الجامعة العربية عبد الرحمن عزام هدنة بين العرب واليهود. قال المتطوعون: لأن بواخر الأسلحة قادمة في البحر إلى اليهود! وأنجدوا لوبيا ومجد الكروم، وردوا الهجوم على الناصرة. كان اليهود يقطعون طريق الناصرة عند مستعمرة الشجرة. الشجرة لليهود طريق تافور طبريا. وللعرب طريق الناصرة المغار. إذا أخذها اليهود عزلوا الناصرة عن محيطها العربي.

أرسل بهاء مع مجموعة مشت إلى الرامة ومنطقة الناصرة. يجب إبعاد اليهود من التلال ليصبح الطريق إلى الناصرة مفتوحا! أتى وزير الدفاع اللبناني الأمير مجيد أرسلان نفسه ورأى ضرورة ذلك، وأمّن الذخيرة. مشى بهاء مع المتطوعين إلى الشجرة في 10 حزيران. سندتهم مدفعية عفيف البزري. كان الهجوم صعبا حتى علقت أقدامهم بالمرتفعات. فانسحب اليهود إلى داخل مستعمرة الشجرة، ووصل المتطوعون إلى الناصرة ودخلوها. مع ذلك لاتوجد حدود على الأرض بعد، ولاحدود بعد بين النصر والهزيمة! اشتبك اليهود بقوات الإنقاذ في قرية الشجرة وهاجموا شفا عمرو والبروة. دعم المتطوعون البروة وشفا عمرو. وكان الجيش السوري قد احتل مشمار هايردن. لكن اليهود هجموا على البروة في 11 حزيران 1948 بعد قصف جوي واحتلوها. استردها الإنقاذ. وعندئذ طلب وسطاء الهدنة الغاضبون إخلاءها. لم يلب طلبهم. هجم اليهود على قرية الشجرة والبروة والمالكية ورد هجومهم. عادوا فهجموا على البروة بمصفحات ومدافع ظهرت لأول مرة، واحتلوا البروة. وقت كاد الإنقاذ يستردها ظهرت بارجة في ميناء حيفا قصفتهم بمدافعها وردتهم. وفي تلك الأيام عرف المقاتلون أن الطائرات اليهودية قصفت القاهرة في منطقة قصر عابدين، وقصفت دمشق مرتين.

حمل رجل أتى من عند بهاء رسالة لمنور تطمئنها. لكن حديثه كان يناقض الرسالة. حدثها عن آخر مارآه. استمرت المعارك في البروة يومين كأنهما شهران. وحقق فيها مراقبو الهدنة. دخلها الإسرائيليون في صباح 11 حزيران، فلجأ أهلها إلى القرى المجاورة عشرة أيام ثم قرروا أن يعودوا ليحصدوا قمحهم. تجمع الرجال في المقدمة وخلفهم النساء، وفاجأوا بهجومهم اليهود فانسحبوا. حصد الفلاحون بقية القمح وبقوا في القرية حتى 24 حزيران. دخلت قوات الإنقاذ القرية وفي اليوم نفسه دخلها اليهود وأخرجوهم. تسلل أهل القرية فيما بعد وأخذوا بعض أغراضهم منها. قالت له منور: إذن سقطت! أطرق الرجل وزفر زفرة طويلة. كان قد شرب قهوته فنهض: يجب أن أعود إلى هناك بسرعة! كادت تقول له: وهل بقي لذلك وقت؟ شعرت بالحقيقة في روحها. ففي منتصف تموز أصبحت البروة التي تحدث عنها خلف الخطوط الإسرائيلية. ولن يبقى منها فيما بعد غير ثلاثة بيوت وضريحان ومدرسة وسط الصبار والشوك.

فهم المجتمعون في خيمة بهاء تلك الليلة أن الحرب ترسم آخر خطوطها. ظهرت في المعارك فوق تلال الشجرة مدفعية يهودية ثقيلة. يريد اليهود أن يقطعوا طريق الناصرة، ويطمئنوا على العفولة وطبريا! قصفت طائرات يهودية الناصرة. ظهرت طائرات يهودية فوق ترشيحا. دخل اليهود اللد والرملة. أنقذ العراقيون جنين لكن المنطقة بقيت بيد اليهود. ردد بهاء تلك الليلة: الجليل!

استعادت منور كل ماقاله وجربت أن تصنف المدن الساقطة والمدن التي لم تسقط بعد. وبدا لها أن تنقله ليس دليل قوة بل دليل ضعف. في آخر زيارة قال لها: كم كلفنا الجليل! قاتل فوج غسان جديد في جبهة صفد. هاجم عين زيتيم وصفد وقصفها. وحاول أن يسترد ماأخذه اليهود من الشجرة. كان أديب الشيشكلي يومذاك في الرامة مسؤولا عن تموين جبهة الشجرة. "ضقنا بمستعمرة الشجرة التي تهدد طريق الناصرة". اعتمدت المغامرة في الهجوم على مستعمرة الشجرة، بالبنادق والرشاشات وأربع مصفحات! "دخلنا مستعمرة الشجرة الخطرة وصار طريق العفولة مفتوحا. لكن لم يبق من السرية كلها وهي 129 إلا 16 فقط كنت منهم".

كانت في الناصرة قوة رئيسها أبو ابراهيم، تابعة للهيئة العربية العليا. وكان في صفورية، على بعد خمس كيلومترات شمال الناصرة، قوة محلية رئيسها أبو محمود الصفوري، تابعة للهيئة العربية العليا. وفي شفا عمرو فصيل من الإنقاذ. هل يصمدون للمصفحات والطائرات والمدفعية التي وصلت إلى اليهود خلال الهدنة؟

في 16/7/1948 صباحا طوق صفورية رتل من الدبابات على بعد كيلومتر من الناصرة. وفي الساعة التاسعة وصلت برقية من اسماعيل الصفوري تعلن: دخل اليهود بدباباتهم الثقيلة تشرتشل صفورية والمعركة حامية على أبواب الناصرة. تقدمت قوات يهودية من جهة طبريا إلى المغار.

لاتستطيع المصفحات أن ترد الدبابات! وحيث هجم اليهود بالمصفحات والدبابات لاتوجد غير بنادق عربية! دخل اليهود الناصرة! يجب إذن أن ينسحب المتطوعون من الشجرة قبل أن يطوقوا! "انسحبنا تحت القصف الجوي، مشيا!" سيرتبون خط الدفاع عن سهل البطوف شمال صفورية، وباتجاه شعب غرب مجد الكروم! خط يبعد عن صفورية 4 كيلومترات.

سيعرف من بقي حيا بعض الأسرار: بينما كان جيش الإنقاذ مشغولا بالشجرة وترشيحا نفذ اليهود عملية ديكل. احتلال قرى سفوح الجليل الغربي من الكابري إلى البروة إلى شفا عمرو. هاجم اليهود شفا عمرو ودخلوها بحيلة. في ليل 14-15 بينما كان القاوقجي مشغولا بالشجرة سارت الآليات اليهودية لاحتلال الناصرة. في مساء 15 تموز عبرت 15 كيلومترا داخل المنطقة العربية، مطفأة الأنوار، ووصلت إلى ضواحي صفورية وهاجمتها في الليلة نفسها. عرف عن عرب صفورية في الجليل كله أنهم محاربون أشداء، لكن القرية سقطت بالمفاجأة دون قتال تقريبا. وتقدمت الآليات لاحتلال الناصرة. أرسل قائد المدينة مصفحات. أصيب منها ست من تسع. سقطت الناصرة في الساعة 20,40 سقطت الناصرة! سقطت! بعد سقوطها انسحبت قوات القاوقجي من الشجرة. وسقطت دبورية ولوبيا، وفتح الطريق إلى طبريا.

كتب بهاء في مفكرته: "قبل أن نستريح هاجم اليهود بالدبابات والطائرات ميرون في جبهة صفد، ومجد الكروم، لينجزوا احتلال الجليل كله. في 23/7/1948 قاومتهم مجموعات صفا في معارك سخنين، شعب، وردتهم. ولاحظ صفا مما كسبه من الاشتباك أن السلاح اليهودي صار موحدا، مصنوعا في تشيكوسلوفاكيا. في 31/8/1948 هجم اليهود من مستعمرة المنارة على القرى اللبنانية. هجموا على قرية الحولة وميس الجبل ورددناهم. رد شقير الهجوم عن المنارة. ودافعنا مع أهل شعب عنها. وحاول اليهود التسرب إلى داخل لبنان من مستعمرة المنارة". في 7/9/1948 هاجم اليهود جبهة فوج غسان جديد في منطقة صفد. أرادوا مرتفعات عموقة على بعد كيلومتر من صفد، التي تشرف على سهل الحولة وطريق طبريا - صفد. ثم هجموا على ماروس في جبهة غسان جديد، التي تقابل موقع الجيش السوري في مشمار هايردن. واشتبكوا مع غسان جديد قرب عين التينة في ضواحي صفد. وفي الوقت نفسه تقدمت قوات يهودية إلى ترشيحا. بخط مائل في الحاشية كتب بهاء مافاته أن يسجله: يامنور لو تعرفين ماروس! على سفح الجليل الأعلى الشرقي. تطل على سهل الحولة. قربها نبع وحولها شجر الفواكه. ايغال ألون قائد البالماخ أرهقها بحرب نفسية. هاجمها مرات وأذيع على أهلها: انجوا بأنفسكم وإلا لن تجدوا الرحمة! لكنها لم تحتل إلا في نهاية تشرين الثاني.

في الصفحة التالية كتب: أتى حسني الزعيم قائد الجيش السوري ولمس بنفسه أهمية ماروس. ومع ذلك لم يصل إليها الدعم. وصلتنا برقية من غسان جديد: احتل اليهود ماروس وجبل المخبي والتلال فاسترجعنا ماروس. كان غسان يحتاج دعما ليسحب الاحتياطي إلى ميرون والصفصاف. في 11/10/1948 هاجم اليهود كفرمندة بالمصفحات وهاجموا عيلبون وردهم المتطوعون فانسحبوا باتجاه صفورية. وتحصنوا في المنطقة الحرام في قطاع ترشيحا.

اختلط على بهاء في الأسابيع الأخيرة مارواه لزوجته وماسجله في مفكرته ليرويه لها. كانت الأيام سريعة خاطفة، مع أن دقائقها أطول من دهر. بدت له منور في تلك الأسابيع مأوى يتخيله في فترات الهدوء في الليل. ألأنه شعر بأنه لن يعود أبدا؟ سجل في مفكرته: في 21 تشرين الأول رأينا طائرات يهودية تستطلع مواقعنا في منطقة المنارة. هجم اليهود بمدافع الهاون على قرية الحولة في لبنان. رددناهم. دمرنا مصفحات يهودية. زارنا مراقبو الهدنة، بلجيكي وأمريكي وفرنسي. طمأننا الأمريكي: لن يهاجمكم اليهود! فهمس الفرنسي: كل شيء محتمل! فهمنا أن الهجوم قريب! أمر القاوقجي بإبعادهم لأنه شك في أنهم، عدا الفرنسي، يتجسسون علينا. بدأت معارك المنارة.

في صفحات مفكرته قرأت منور فيما بعد أسابيعه الأخيرة. لم تر فقط المعارك التي أخبرها عنها، بل رأت روحه، وتصورت مالم يبح به لأنه حسب أن مفكرته قد تسقط في يد اليهود إذا بقي كالمقتولين اليهود الذين عبرهم في الشجرة. كم كان محتاجا لأن يبوح ويصرخ في تلك الأيام الأخيرة! لكنه خنق تلك العواطف كلها كأنها أسرار لايجوز أن تسقط إلا في يد محبة!

كتب في المفكرة: قصفت طائرات يهودية منطقة ترشيحا والمغار وميرون والصفصاف والجشّ ودير القاسي. قتلت من السكان أكثر مما قتلت من جنودنا. تدفقت القوات اليهودية من حيفا ونهاريا. وصل الفوج الثامن الذي أرسله حسني الزعيم بقيادة عدنان المالكي ودخل المعركة في جبهة المنارة. دارت معارك في الليل في ميرون والجشّ. دافع فوج غسان جديد عن الجشّ أمام قوات مجهزة بآليات تتفوق عليه. وصل الفوج التاسع الذي أرسله حسني الزعيم فرفد غسان جديد الذي يدافع عن الجشّ. في الحاشية كتب: ليتك تعرفين دير القاسي. أحببتها وهي معلقة على تل صخري في الجليل الأعلى. على بعد خمسة كيلومترات فقط من الحدود اللبنانية. أحببتها بحارتها الشرقية وحارتها الغربية، وأشجار التين والزيتون حولها. أحببت بحرتها الواسعة التي تجمع ماء المطر، وزاوية المتصوفة الشاذلية. هل يقدر لنا أن نزورها معا ذات يوم؟!! تتساءل يابهاء تساؤل العارف لأنك أكثرت من إشارات التعجب. ستسقط دير القاسي مع ترشيحا في 30 تشرين الأول في عملية حيرام لتصفية الجليل! انسحب المدافعون عن ترشيحا بطريق خلفي وعبروا دير القاسي إلى الرميش اللبنانية، على الطريق الذي تسميه الهاغاناه طريق القاوقجي. لو تعرف يابهاء أي ألم سينفجر في منور يوم تعرف أن المستوطنين سيسكنون "القرى المهجورة" في دير القاسي في أيار 1949.

احتل اليهود الجشّ كلها. المعارك في مجد الكروم وشعب وسخنين وعيلبون. يستعمل اليهود مدفعية الميدان. مدفعيتنا غطت المنسحبين من الجشّ. عطلنا مدفعية العدو في الصفصاف. وقصفنا اليهود في سعسع. نظمنا هجوما معاكسا على ترشيحا والجشّ بمساعدة المدفعية. تقدم رتل من المصفحات والدبابات اليهودية من نهاريا إلى ترشيحا ليستعيدها منا. احتل اليهود الجشّ مرة أخرى.

في ليل 29 وصباح 30 تراجعنا ونحن تقاتل. عند الظهر دخل اليهود ترشيحا. هذه ليست معركة بل مجزرة! خلال ذلك طوقنا لواء يهوديا وأخذنا علمه.

تأملت منور الدم على غلاف المفكرة الأبيض. شمّته. لم يجف بعد. خيل إليها أنه لن يجف أبدا. لاتوجد في صفحات المفكرة بقع دم. لكنه يقطر من كلماتها الأخيرة.

قصفت طائرات اليهود قواتنا في المالكية وقدس. أمرتنا القيادة اللبنانية بأن نترك المالكية وقدس وبليدة تجنبا للقتال على الحدود اللبنانية. سنتركها دون قتال! يامنور، سنعود إليها معا. تذكري ذلك! سنعود إليها! وعد!

سألت منور الرجل الذي سلمها مفكرة زوجها: أين؟ لم تتح له أن يطرق لأنها نظرت إلى عينيه. قال: ماأهمية أين؟ مشى في الجليل وأحبه كله! لنقل، في قدس! سألته: كيف؟ رد: بالقصف! عبر معركة الجليل كلها دون جرح. فلماذا يقتل على حافتها؟ كانت آخر أسطر في المفكرة:

حمت معركة الجليل الكبيرة غزة من السقوط وخففت عن الجيش المصري الحصار. كنا في برد الجبال والتلال دون ثياب تدفئنا. وكنا أحيانا دون تموين. وصلتنا ذخيرة فرنسية وقت كنا نحتاج ذخيرة ألمانية! حاربنا بما كسبناه من اليهود. لم تكن لدينا سيارات لنقل الجرحى. ولم تكن لدينا خيام كافية. تقديم خيمة لفوج غسان جديد حدث أعلن ببرقية عسكرية! لم تدفع رواتب الجنود منذ أشهر! قرار الجامعة: تخفيض جيش الإنقاذ، لتقليص الأعباء المالية!

كانت منور وحدها في البيت عندما طرق الباب. لماذا التهب قلبها؟ عندما رأت أمامها رجلا يملأ بابها فهمت فورا أنه يحمل لها نعي زوجها. لم تصرخ. امتقع وجهها وحدقت في الرجل دون كلمة. لم تقل له تفضل بل مشت فتبعها صامتا متهيبا. وجلس صامتا. أخرج المفكرة ومدها إليها فتناولتها. تركتها في كفها المفتوحة وحدقت في غلافها المدبوغ بالدم. سألته: كيف، وأين؟ واستمعت إليه جامدة الوجه، ثم تركته لتحضّر له القهوة. أكانت تحتاج أن تبتعد بنفسها برهة؟ وتتصور أنها تنشغل بالبن والسكر والماء؟ بقيت المفكرة في قبضتها. وعندما كان يشرب قهوته أو يتظاهر بأنه يشربها، قلّبت المفكرة بسرعة. وأراحه أنها لم تسأله: أين هو الآن؟ هل فهمت أنه كان يجب أن يدفن هناك؟ قالت له: يوم نستطيع أن نذهب إلى هناك ستدلّني؟ هز رأسه. لكنها همست لنفسها: إذا بقيت "هناك"!

حكى لها كأنه يقدم تقريرا عن وضعهم هناك، مكررا رسالة القاوقجي إلى الأمين العام للجامعة العربية: حاربنا على جبهة طولها 143 كيلومترا تتصل بها 11 طريقا رئيسية وسبع قواعد يهودية كبيرة، في أرض خصبة من أراضي الجليل، دون عتاد. انسحابنا إلى قرب الحدود اللبنانية أفقدنا الجليل كله وقدمه لليهود. قال لها: ووراء ظهرنا كانت مشكلة فرار المفتي من القاهرة إلى غزة ليعلن نفسه رئيس حكومة عموم فلسطين، وغضب الملك عبد الله من ذلك وتهديده بالانسحاب من القتال في فلسطين. باح لها أيضا أن مجموعته التي كان فيها زوجها وجدت في سيارة يهودية تحرسها مصفحتان بريطانيتان، هاجمتها المجموعة، وثائق مرسلة إلى الوكالة اليهودية والهاغاناه وبن غوريون، منها نسخة من تقرير اللواء اسماعيل صفوة إلى اللجنة العسكرية في الجامعة العربية عن حالة الجيوش العربية والوضع العسكري في فلسطين.

هل قصد أن يشغلها عن صدمتها بهموم أكبر منها؟ وأن يضع موتا فرديا، كان يمكن أن يكون موته هو، وسط كارثة كبرى؟ مع أنه شعر بأنها تتوقع مقتل زوجها! أم وجد إنسانا قويا يكشف له جرحه؟ وأكبر جروحه أن فلسطين سقطت وعليه أن يتفرج على ذلك من بيته! قالت كأنها تحدث نفسها: زمن سيء!

ودّعته في هدوء. وعندئذ أدركت أن حزنها الطويل لم يبدأ بعد. بلّغت بماحدث، لكنها لم تفهمه بعد. مع أنها شعرت بأنها عاشت من قبل كل ماحدث. دخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب. يجب أن تبكي قبل أن يعود ولداها. ضربت بقبضتها الحائط. لاتستطيع البكاء! لماذا تستعجلينه يامنور؟ الوقت متسع للبكاء في الليالي الطويلة. أضيف دم جديد ستتأملينه وتبكينه.

هل تكرر منور أمها فاطمة التي منعت البكاء في مأتم زوجها يوسف في حيفا؟ حقدت عليها منور يومذاك لأنها لم تبك زوجها! ولم تنحن حتى الأرض أمام الحزن على العزيز! الآن فقط تفهمها. بعد عقود من السنوات تفهمينها؟ لاتحتاج فاطمة أن تفهميها اليوم يامنور! لأنها منذ زمن طويل أغلقت حزنها وفرحها. ولن تسمعك إذا ناديتها! قبرها في طبرية التي قرر لها أن تكون من إسرائيل. لكن ابكي على فاطمة التي حرمت، رغم قوتها، أن تجاور محبوبها يوسف المدفون في حيفا! ولاتحلمي بزيارة أي منهما يامنور! صار بلدك أرضا عدوة! ربما كان زوجك يقاتل كي يبقي ممرا لك وله إليهما! لكن الذكرى والذاكرة كانت مواقع، واتفاقيات دولية.

سمع معتصم في صمت البيت هديرا أرعشه. لم يجد على الطاولة صحون الغداء. لمح أمه جالسة على طرف فراشها محدقة في الأرض، فاندفع إليها. وعندئذ لمح دفترا صغيرا مخضبا بالدم. صرخ: لا، لا! لاتقولي ذلك! نظرت إليه عينان دون بريق حيّ أكدتا له: بل، نعم! وقتذاك وصلت ليلى. لم يستطع أحد أن يمنعها من البكاء كما منعت منور ذات يوم. فانشغل بها معتصم. احتضنها بالقوة. وعندما لمس شعرها زاد صراخها فسحب يده. ثم غسل وجهها بالماء، وكاد يقول لها: ماأجملك وأنت باكية! ومسح بأصابعه أهدابها الطويلة المبتلة بالدموع. في ذلك اليوم خرجت منور ولم تعد حتى الليل. اختفت بقية اليوم كما اختفت يوم سقطت حيفا. تصورت منور أنها دفعت للموت حصتها كلها؟! لم تحسب أنها ستسدد له ضحايا أخرى!

خرجت ليلى في مظاهرات المدارس التي مشت إلى القصر الجمهوري بعد تقسيم فلسطين. وهتفت مع الطالبات: "نريد أعمالا لاأقوالا". اختيرت على عجل في الوفد الذي انتقي من المظاهرة الكبيرة ليقابل القوتلي. ولم تدر لم اختاروها. ألأنها شاطرة في المدرسة أم لأن الجمال ضرورة حتى في مثل تلك الوفود! تلفتت في حديقة القصر المزروعة بالصنوبر. أذلك هو القصر الذي باعه أخو خالد آغا من الغضب؟ استقبل القوتلي الوفد واقفا في صدر القاعة. وصفت ليلى ذلك اليوم لأمها من أوله إلى آخره.

معتصم هو الذي خرج في مظاهرات تشرين الثاني 1948 التي ماجت بها دمشق عندما اكتملت الهزيمة في فلسطين. كان الجيش السوري الذي اشترك كالجيوش العربية في الحرب، هو الجيش العربي الوحيد الذي احتل مستعمرة صهيونية هي مشمار هايردن، وبقي فيها. اشترك بضباطه المتطوعين في جيش الإنقاذ. وحارب في إخلاص. لكن بدا له أن العلة في السياسيين الذين لم يؤمّنوا للجيش مايدافع به. كان الناس أيضا غاضبين على حكومة مردم التي فشلت في تأمين السلاح. ورددوا أن باخرة السلاح التي اشترتها سوريا من فرنسا سيقت إلى إسرائيل. من ساقها؟ من باح بسرها؟ لم ينتبه العرب بعد إلى النفوذ الصهيوني في الغرب الذي يوصل إلى إسرائيل جميع الأسرار. ولم يعرفوا بعد أن السلاح الصهيوني انتقل في فرنسا سرا وأبحر منها إلى إسرائيل. خرج طلاب الجامعة في مظاهرات صاخبة في صدرها معتصم. لم يخطر للطلاب أن حكومة جميل مردم ستأمر بإطلاق أول رصاص يطلق بعد الاستقلال على السوريين!

أنهى ذلك الرصاص حكومة جميل مردم. وأنسى الناس مجده الماضي كله. لم يتذكر أحد أنه كان من جمعية الفتاة. وفي 30 آذار سينزل الجيش إلى الشوارع في أول انقلاب عسكري. لكن معتصما، ابن بهاء المقتول في فلسطين، لن يحلم بزمن جديد. لأنه قتل لأجل فلسطين في دمشق.

نقل الهلال الأحمر الجرحى إلى المستشفيات. بدا كأن الهواء نفسه منسوج من الغضب. ساعد الناس متطوعي الهلال الأحمر في حمل الجرحى، وتدفقوا إلى المستشفيات. فبدت الحكومة التي تملك النار هي المحاصرة بمدينة غاضبة. قيل إن الحكومة دفنت قتلى المظاهرة في الليل في مقبرة الدحداح! وقيل إن الطلاب الغاضبين حملوا توابيت الشهداء ومشوا إلى المقبرة، لكنهم في الطريق فتحوا التوابيت وتناولوا منها الحجارة وضربوا الشرطة. وقيل إن الشرطة لم تجسر على التدخل لأن الناس على الأرصفة شتموها. في المساء الذي أطلق فيه النار على الطلاب صادفت ليلى بنت الجيران بمريول أبيض ملطخ بالدم. توقفت بنت الجيران أمام ليلى، تأملتها، ثم عانقتها في قوة وابتعدت كالهاربة وخيل لليلى أنها لمحت دموعها.

في أول المساء طرق الباب زملاء معتصم، وطلبوا من ليلى وأمها أن ترافقاهما. في الطريق قالوا: معتصم مجروح، في المستشفى. أين الجرح؟ في صدره! لم تلتفت إليهم منور. في صدره؟ يعني قتل! يلعبون لعبة معروفة! قالوا لها قرب باب المستشفى: جرحه خطر! سمعتهم؟ لم تكن نفسها. كأنها امرأة أخرى تراقب حياة آخرين منهم منور وبنتها وابنها. كانت امرأة أخرى من أزمنة بعيدة، وكل ماتراه ماض يعرض أمامها لذلك لايحمل حزنا ولايثير قلقا.

ترددت برهة أمام الباب. هل تترك ليلى؟ لا! فلتره! دخلت. لماذا يرمون الشرشف على وجهه؟ كيلا يرى الأحياء الصفرة التي لايرى مثلها إلا في وجوه الموتى؟ كيلا يفجعون بالفرق بين الوجه الذي عرفوه والوجه الذي يرونه الآن؟ تفقدت الملامح التي تعرفها. لمست أنفه وشفتيه وجبهته. ثم كشفت قميصه. القلب! حيث سيصوب الإسرائيليون فيما بعد على الشباب الفلسطينيين تماما! القلب! لمست يده وأصابعه واحدا، واحدا. وفجأة استدارت، أمسكت بيد ليلى وخرجتا.

اكتشفت في تلك الليلة أن ابنة الجيران، المتطوعة في الهلال الأحمر، تحب معتصما. رأتها مقهورة، مفتتة. آلام الشباب حادة، صارخة، لكن الشباب مفتوح لسنوات حياة مديدة ستعمّرها عواطف متنوعة. سيأتي حب آخر، وأهواء أخرى! لكن لن يكون لمنور ابن آخر وزوج آخر!

فكرت منور في أيام المأتم أن هدف توهج الجنائز أن يفلت الحزين بكاءه وصراخه كله. وهدف الصمت الوقور في عصرية النساء وتمساية الرجال أن يقضم الحزين حزنه في هدوء. وأن حشد الجيران والأصحاب والأقرباء حتى الأربعين في يوم الوفاة من كل أسبوع، يقصد ألا يخلو الحزين إلى نفسه ليجلدها بالحزن. وتمردت على ذلك فحبست حزنها في قلبها وفكرت فيه في كل برهة. في الأسبوع الأول لم تنم. تجولت في البيت في العتمة. وضايقها أنها ليست حرة في حزنها لأنها الآن مسؤولة عن ليلى. كأنها محبوسة في زاوية لاتستطيع أن تتحرر منها! ثم لاحظت أنها بقيت هامدة أياما. تبع هدوءها هيجان من الغضب والقلق. وخطرت لها هواجس متنوعة: إذا مت الآن ماذا سيكون مصير ليلى؟ وهل ستندفع ليلى انتقاما لموت أخيها وأبيها، ويطلق عليها أيضا الرصاص ذات يوم؟ حاولت أن تسجل الأيام التي تعاني فيها من الهمود والأيام التي تعاني فيها من الهيجان، وقررت: روحي مريضة! ولاقت جيرانها بسخرية: يرون الجسم الصحيح ولايرون الروح المريضة! قررت أن تقصد صيدلية بعيدة لتستشير الصيدلي. ثم استبعدت ذلك. ستداوي نفسها! رأتها ليلى في تلك الأيام تشرب اليانسون، وحشيشة القطة. سألتها: كيف تتحملين رائحة حشيشة القطة؟ في تلك الليلة رأت ليلى حشيشة القطة في سطل القمامة. لكنها لم تر الكمد في وجه أمها التي قررت أن ليلى بعيدة بروحها عنها "كانت على كل حال قريبة من أبيها. معتصم هو الذي كان قريبا مني". سقطت منور في شعور بالوحدة لن يستطيع أحد أن يخترقه إليها. اقترب منها في تلك الأيام ابن عم معتصم. كان في عمره، عاقلا ورقيقا مثله. وكان يحبه. فقبلته وشمت فيه عبق ابنها. وعندما ستعبر شهور اضطرابها ستدعوه في كل يوم جمعة إلى الغداء، وستحفظ الأطعمة التي يحبها. وستلاحظ أنه يحبها كأنه يستعيض بها عن أمه الميتة. وستخفي عن نفسها أن ليلى تستهويه. عندما بدأت تعود إلى نظامها القديم في النوم في ساعات معينة، تذكرت كلمة كانت ترددها أمها: كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر، إلا الحزن. يبدأ كبيرا ثم يصغر! وقالت: ذلك خطأ في التعبير! يجب أن يقال إننا نخبئ حزننا في الخوابي كي يصبح معتقا! نشارك من يشربه معنا قبل أن يتخمر، لكننا نخزن خوابيه العتيقة لأنفسنا فقط‍ !

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:07 AM
- 13 -


بعد عودة قيس من صفد، ألح على أبيه: أريد أن تشتري لي "ستن"! يتسلح الشباب في صفد، ويلزمنا هنا أيضا سلاح! اشترى له أبوه "ستن" وقنابل يدوية أيضا! لكنه لم يجد تجمعا للشباب ينتظم فيه. لم يتخيل كيف سيكون الهجوم على بلده وكيف سيكون الدفاع عنها. هل تصور أنه يحميها بحقه فيها؟ بعد عقود من السنوات قرأ قيس شهادة شاب في منظمة الشباب في الهاغاناه، قتل في معارك أبو كبير في 1948، ففهم الجيش المنظم الذي احتل بلده. "بعد حلول الظلام توجهنا إلى مكان إجراء الطقس داخل غابة هيرتسل. إلى جانب قبر الحارسين الذي كان مغطى بالأعلام الزرقاء - البيضاء ومحاطا بالمشاعل، انتصبت وحدة حرس من ستة شبان، ثلاثة من كل جانب وبنادقهم في أيديهم.. وانتظمنا في مربع مواجه للقبر. وبعد أن جاءت القيادة وبعد شرح قصير تلي القسم ورددناه كلمة، كلمة.. أقسم أن أكون مخلصا للمنظمة .. حتى مماتي.. وأن أكون مستعدا لكل خدمة فعلية في أي وقت أدعى إلى ذلك. كانت تلك لحظة لن أنساها: الغابة الموحشة وفي مواجهك قمر باهت يظهر أحيانا وتحجبه الغيوم الداكنة أحيانا أخرى، وأمامك ستة شبان يختفون أحيانا وراء لهب المشاعل، وبنادقهم في أيديهم. ملأني المشهد ذو الروعة والجلال، في تلك اللحظة، بإحساس عظيم. في لحظة ترديد القسم، شعرت بأنني مفعم بالقوة والعزيمة، ومستعد لأداء كل مايطلب مني حتى آخر يوم في حياتي." تساءل قيس هل خطر لذلك الشاب أن المهمة التي اندفع إليها قد تكون نسف بيت شاب في مثل عمره اسمه قيس، قتل سكان قرى، وسحب بلاد من أهلها؟! كان ذلك الشاب مدربا ومستعدا لكل مايؤمر به!

قرر قيس أن يقصد شفا عمرو لأنه سمع أن الشباب هناك ينظمون مجموعة مسلحة. فقال لأبيه: سأمشي إلى شفا عمرو! غضب أبوه: ياقيس، بماذا وسوس لك الشيطان؟ تمشي إلى شفا عمرو اليوم، والبلاد تسقط واحدة بعد واحدة؟ افهم، يقصف اليهود بالمدافع شفا عمرو منذ نهاية الهدنة الاولى في 7 تموز حتى اليوم! لم يفسر قيس لأبيه أنه لذلك يقصد شفا عمرو! بل تحدث عن رغبة في السفر إلى القرى التي مر بها أو زارها مع أبيه، أو قصد فيها رفاقه في المدرسة. تساءل أبو قيس: يريد أن يودعها؟ أن يطمئن عليها؟ شفا عمرو جارة تلال الناصرة وجبل الكرمل وسهول عكا والبطوف ومرج ابن عامر تستحق الزيارة! فيها روافد نهر النعامين، ووادي الملك، أكبر روافد نهر المقطع. شفا عمرو بين عكا وحيفا والناصرة. تمتد أراضيها من الشرق حتى طريق صفورية والناصرة. وتتمطى حتى وادي الملك، ووادي الحلزون، وسهل البطوّف، والسهل الساحلي، ومرج ابن عامر! نعم، يستحق هذا البلد من الجليل الأعلى الزيارة! لتتخيل القائد الروماني أبيتيوس وهو يطارد من تلاله الغربية ثوار يوسيفوس في القرن الأول الميلادي. وترى على الخروبية صلاح الدين الأيوبي مواجه ريشار قلب الأسد. وتتذكر كلمة نابليون: لابد من احتلال شفا عمرو للتحكم في وسط فلسطين! تريد أن ترى شفا عمرو الهاجعة تحت قلعتها، وتمشي في أزقتها الكورسيكية! لكني أعرف أنك لاتقصدها لذلك! بل لأن أحد أصحابك همس في أذنك منذ أيام تعال مع سلاحك! تريد أن توهمني بأن حدسك كالشوق إليها؟! هنا أيضا يمكنك أن تدافع عن بلدك! ابق! لو غاب قيس عن أبيه في ذلك اليوم لسار إلى شفا عمرو. لكن أباه أبقاه قربه. وكان حدس كل منهما صحيحا فمصير شفا عمرو اتصل في اليوم التالي بمصير صفورية. في فجر 14 تموز دخل رتل طويل شفا عمرو من غربها، دبابات ومصفحات وسيارات تحمل جنودا. سبقه قصف بالمدافع ورش بالرصاص. وسقطت شفا عمرو!

في ليلة الخامس عشر من تموز كان القاوقجي قد وصل إلى صفورية لتنظيم الدفاع عنها. رآه قيس في صفورية في مضافة رئيس البلدية صالح السليم. فجأة دخل رجل لاهث إلى المضافة وقال: تتحرك دبابات يهودية من شفا عمرو في اتجاه صفورية! تعرفون أن المسافة بينهما كيلومترات فقط! خرج القاوقجي من المضافة وانصرف! هل يشعر الآن أيضا بأن القوات اليهودية نظامية لاتصدها إلا قوات نظامية مسلحة مثلها؟ هل يصرخ أين السلاح والرجال، ويردد ماقاله يوسف العظمة على بوابة ميسلون: أريد الزمن؟

في الساعة السابعة من صباح 16/7/1948 وصلت برقية إلى فوزي القاوقجي: مهم ومستعجل جدا من مساعد حطين إلى فوزي. صفورية مطوقة، على وشك السقوط، أنقذوا الموقف.

في الساعة الثامنة والنصف مساء قصفت طائرة يهودية صفورية. رمت أربع قنابل، قتلت الشيخ الأعمى عبد المجيد الذي درس في الأزهر، قتلته مع زوجته وأولاده، وهدمت بيته قرب الجامع الكبير. بعد القصف خرج الناس من بيوتهم إلى وادي النصارى. بقوا في حقول الزيتون الواسعة. وتركوا المقاتلين في صفورية ليدافعوا عنها. ظنوا أنهم سيعودون إلى بيوتهم في الصباح، فلم يتناولوا منها إلا مايحتاجون إليه ليلة.

قال قيس لأبيه: سأبقى مع المقاتلين. رد أبوه: لست منهم بعد! أمسكه بالقوة أعمامه، وجروه إلى وادي النصارى. وأخذوا منه "الستن". قبل أن يوصلوه إلى وادي النصارى أفلت منهم وعاد إلى صفورية. جرى وحده راجعا عكس اتجاه الناس السائرين إلى وادي النصارى، وهو يصرخ: ارجعوا، دافعوا عن قريتكم.. ارجعوا!

رجع قيس إلى بيته في السدر. قربه في المدرسة مركز قيادة المدافعين عن البلد. أطل، فلم يجد في المدرسة إلا محمد سعيد الشيخ ابراهيم السعدي. الشيخ مسؤول عن السلاح الموجود في المركز. رفع رأسه فرأى قيسا: ماذا جئت تعمل؟ أجابه قيس: أخذوني فتركتهم وعدت. قال له: يابنيّي الناس انهزمت فشو تعمل وحدك؟ رد قيس: أنا لم أنهزم! فجأة دخل شاب آخر في عمر قيس. هذا محمود أحد زملائه في مدرسة صفورية! كان إطلاق النار يسمع من جهات متنوعة. قال الشيخ: في غرب البلد خنادق، خذ ياقيس احمل هاتين القفتين من الرصاص للمدافعين فيها! وخذ يامحمود احمل رشاش برن! خرج الشابان. صوت رصاص. عتمة. لم يصادفا إنسانا في طريقهما. لاأحد! نادى أحدهما الرجال. صاح الآخر. لاأحد! ياللخيبة! ماالعمل؟ رجعا بعد ساعات إلى الشيخ السعدي وقالا له: لاأحد! وضع قيس قفة الرصاص على الأرض والتفت إلى محمود. أين اختفى؟ معه البرن! سيقاتل وحده؟ أين؟ استغرق بحث الشابين عن الرجال والخنادق ثلاث ساعات تقريبا. المدرسة المركز في خلة الوتد تطل على طريق المطلّة، على الدرب من المطلّة إلى القسطل. بدأ إطلاق النار كثيفا من طريق المطلّة. قال الشيخ: معناها دخلوا! إلحق أهلك ياقيس! الهجوم إذن من طريق المطلّة. من شفا عمر إلى الناصرة يتفرع طريق معبد إلى صفورية. قال قيس للشيخ السعدي: ياعمي مع من أقاتل؟! رد الشيخ: يابنيّي، قلت لك اطلع لعند أهلك. اسرع! سأله قيس: وأنت ياعمي؟ قال: عندي أمانة لاأتركها. الحق أهلك! تركه قيس ونزل إلى صفورية. من السدر عبر الحارة الغربية كلها كي يصل إلى وادي النصارى حيث الناس تحت الزيتون. بدأ الفجر وقيس يمشي إلى هناك. وصل. سأل الناس المتجمعين تحت الزيتون عائلة، عائلة: أين أبي؟ دلوه إلى أهله. جلس الناس في انتظار النهار وانتهاء المعارك للعودة إلى بيوتهم! وادي النصارى تحت القلعة. طلع الضوء! رفعوا رؤوسهم فرأوا اليهود في القلعة فوقهم. قاموا واتجهوا إلى الشمال.

في يوم 16/7/1948 في الساعة 9,30 صباحا وصلت برقية من اسماعيل الصفوري إلى فوزي القاوقجي: دخل اليهود صفورية.. على أبواب الناصرة.. أنقذوا..

حاول فوزي القاوقجي إقامة خط دفاع على محور يشرف على سهل البطوف شمال صفورية ليحفظ قلب الجليل. لكن الهاغاناه اخترقته في يوم 18/7 وأعلنت الهدنة الثانية في 18 تموز.

أول قرية وصلها أهل صفورية عرّابة البطّوف. ناموا في عرّابة تلك الليلة. أطعم أهل عرّابة الناس. بدأ بعض الناس يبيعون أسلحتهم ليشتروا مايحتاجون إليه.. مد عدس وكيس طحين. أكمل أكثر أهل صفورية طريقهم. الرامة ثم شعب. شعب بلد زميل قيس في المدرسة. بعد شعب، دير القاسي بلد زميل قيس الآخر في المدرسة، صبري الحمود. نزل مع أسرته ضيوفا عنده. دير القاسي على الحدود اللبنانية. مع قيس ستن ومع أبيه مسدس ومع عمه روسية تسمى أم فشكة، ومع عمه الآخر بارودة. قال لهم أبو صبري الحمود: لاتأخذوا السلاح معكم لأن العسكر اللبنانيين يصادرون من الفلسطينيين أسلحتهم. فتركوا السلاح عنده! في اليوم التالي ترك قيس وأهله دير القاسي إلى الرميش اللبنانية. ومنها انتقلوا إلى بنت جبيل. بقي الناس هناك تحت زيتون بنت جبيل. مايزالون يتوهمون أنهم سيعودون. يجلسون حلقات تحت الزيتون ويتناقلون الأخبار التي تأتيهم من فلسطين. عرفوا من تلك الأخبار أن اليهود دخلوا إلى صفورية ونسفوها بيتا، بيتا. أول بيت نسف بيت قيس في صفورية الجديدة في السدر.

وزعت بلدية بنت جبيل على الفلسطينيين يوميا خبزا وحلاوة وجبنا وزيتونا أسود. وقف قيس في الصف. في الصف أيضا محمد الموعد الغني، زعيم حمولة كبيرة، ضخم الجسم. أمامه وقف الشيخ حسن الذي كان خطيبا في الجامع. ينتظر كلاهما حصته من المعونة! كان الشيخ يدعو في خطبه خلال الاشتباكات بين اليهود والعرب: اللهم رمّل نساءهم، اللهم يتّم أطفالهم، اللهم اجعل أموالهم غنيمة للمسلمين! أمسك محمد الموعد برقبة الشيخ حسن وصرخ: كنت إذن تدعو الله علينا، كي ييتّم أولادنا ويرمّل نساءنا ويجعل أموالنا غنيمة لهم! في اليوم التالي وقف قيس في الصف أيضا ينتظر حصة أهله من الخبز والجبن والزيتون والحلاوة، فأعلن أن مايأخذونه هبة من المطران مبارك. كان المطران مبارك قد بقي في حيفا واتهم بالتعاون مع اليهود. محمد الموعد واقف أيضا في الصف! صرخ: يطعمنا الآن المطران مبارك؟! أين الحاج أمين الحسيني الذي كنا نقول فيه "سيف الدين الحاج أمين"؟! أيجب أن نقول الآن سيف الدين المطران مبارك؟!

في بنت جبيل أدرك الناس أنهم لن يعودوا خلال أيام إلى بيوتهم! لذلك تسللوا إليها ليأتوا بما يحتاجونه. خلال ذلك كان اليهود يصيدونهم. فقتل منهم في التسلل إلى بيوتهم أكثر مما قتل منهم في الدفاع عنها.

قرر أهل قيس السفر إلى سورية بانتظار الفرج. البقاء تحت زيتون بنت جبيل مستحيل! ذهبوا إلى رياق، وأخذوا القطار من رياق إلى الشام. وصلوا إلى دمشق مع مجموعة من أهل صفورية. وجدوا مخيما جاهزا لهم قرب التجهيز فنزلوا فيه أسبوعا. ثم استأجر أبو قيس وإخوته بيتا عربيا في المزة، فيه خمس غرف، نزلوا فيه.

راحت صفد، ولكن هل تروح البلاد كلها؟ هل تضيع أيضا صفورية؟ تذكر أبو قيس كلام صاحبه التاجر اليهودي الذي كان يشتري منه الغنم ويبيعه للجيش البريطاني: ياأبا قيس، بع كل شيء وارحل! صفورية ستكون لنا!

تجمع وفد من رجال العرب بينهم أبو قيس وقابلوا الملك عبد الله. شكوا؟ طلبوا؟ توجه العرب كلهم إلى قياداتهم وهم يعرفون أن القيادات لاتستطيع أن تخرج "الزير من البير". قال لهم الملك عبد الله: اخرجوا من بلدكم وستعودون إليه بعد أن يهدأ القتال! كلها أيام!

من نشر في تلك الأيام الدعوة إلى الخروج؟ اليهود الذين أذاعوا أخبار المذابح ونادوا: اهربوا! والعرب الذين قالوا يومذاك: الأرض ولاالعرض! عكس ماستقوله فاطمة البرناوي فيما بعد: لايوجد شرف شخصي في وطن مغتصب! والسياسيون العرب الذين همسوا: اخرجوا، كلها أسبوع أو أسبوعان.. ستدخل الجيوش العربية في 15 أيار وتحرر فلسطين من اليهود! وسترجعون إلى بيوتكم بعد التحرير. ومع ذلك رجع أهل القرى متسللين إليها وبقوا حتى طردوا منها. ولم ينس أحد من أهل فلسطين الذين تركوها مفتاح بيته! أقفلوا الأبواب جيدا وحملوا المفاتيح معهم!

كتب رابين قائد القوات التي احتلت اللد والرملة في مذكراته عن تهجير أهل اللد والرملة اللتين لاتوجد فيهما أية قوات مسلحة عربية. قال إن بن غوريون أمره ويغال ألون بطرد سكانهما الخمسين ألفا، فاستعمل الإرهاب. لذلك كانت العملية مأساوية واضطرت القيادة فيما بعد إلى دعاية تشرح فيها الأسباب التي "أجبرتنا على القيام بمثل هذا العمل القاسي الوحشي". لكن السلطة الإسرائيلية لم تسمح بنشر هذا المقطع من مذكرات رابين.

في المزة التقى أبو قيس بملحم الذي يزوده بدخان فلسطين. يهرّب ملحم الدخان من ترشيحا وشعب وشمال فلسطين المشهورة بتبغها إلى لبنان ودمشق. ويعيش بذلك من بقي في تلك القرى. ملحم من قرية جبّ جنين في البقاع. حكى له أبو قيس عن السلاح الذي تركه في دير القاسي في فلسطين. فقال له ملحم: آتيك به بأجر. عظيم! قال قيس لأبيه: لن يعطيه أبو صبري الحمود السلاح إذا لم يرافقه واحد منا! سأذهب معه! ألح قيس على أبيه حتى وافق: رافقه. لكن افهم أن الفوضى أخطر من الحرب!

ركب قيس وملحم الباص المسافر من الشام إلى بيروت. من بيروت أخذا باصا إلى جبّ جنين. بقي قيس في القرية عند ملحم أسبوعا حتى اكتملت مجموعة المهربين وجهزت المهربات. في النهار كان قيس يخرج إلى البساتين. هناك رأى فتاة على شجرة جوز ضخمة. رفع رأسه إليها. ابتسمت له. بين يديها شيء تأكله. جوز؟ قالت له: أرمي لك؟ ماذا ترمي له؟ تذكر شجرة التوت في كرم ابن عم أبيه وغزالة على الشجرة. سألته غزالة: أرمي لك التوت؟ فنشر ذراعيه. فضحكت. فهمت أنه يريد أن ترمي نفسها عليه. نادته: أنت اصعد! من يرى الآن، غزالة أم هذه الفتاة التي لايعرفها؟ أين أنت الآن ياغزالة؟

وقت اكتمل التحضير خرج قيس وملحم وأخواه وآخران من جبّ جنين ظهرا باتجاه فلسطين، مروا في المساء من الرميش على الحدود اللبنانية. عينهم على دير القاسي الفلسطينية. يفصل بين القريتين طريق معبد للسيارات. هناك تعلم قيس كلمة كروسّه. قال ملحم هامسا: لبنانيون.. بس تقطع الكروسّه.. سأله قيس: عمي ماهي الكروسّه؟ ظن قيس أن ملحم قال له: الطريق. وسيظل يحتفظ بذلك الخطأ في ذاكرته. ماالفرق على كل حال بين الطريق وبين العربة التي تقطعه؟ لامرور للمهربين إلا عندما يخلو الطريق من العربات والناس! احتموا بشجيرات شوكية وهم يراقبون الطريق. مرت دوريات، ومرت سيارات. خوفهم من الدوريات اللبنانية، فإسرائيل ليست لها بعد دوريات تجوب ذلك الطريق. لاتزال مشغولة بما احتلته من فلسطين! قطعوا الطريق مسرعين. وفي الساعة الثامنة مساء تقريبا وصلوا إلى دير القاسي. تركوا قيسا في بيت زميله صبري الحمود، وذهبوا ليبيعوا ويشتروا في شعب. "في عودتنا نأخذك معنا". بقي قيس أربعة أيام في دير القاسي. في اليوم الخامس مساء أتى ملحم وقال له: اليوم! فودع صبري الحمود، وتناول من أبيه الأسلحة: مسدس أبو نقطة حمراء، عيار 8 مم، حمله قيس. ستن حمله ملحم. بندقية حملها أخوه محمد، وبندقية حملها أخوه الثاني. طلعوا من شعب في الثامنة مساء تقريبا. للمهربين وقت دقيق يحسبون فيه زمن الوصول وزمن العبور وزمن الدوريات المحتملة! على الحدود الفلسطينية اللبنانية ربضوا يراقبون الطريق من الجهتين. كانوا في منخفض يمكن أن يلاحظوا منه أية سيارة. عبروا الطريق الفاصل ركضا. ودخلوا لبنان. بعد مئة متر تقريبا دوى صوت: قف! ودوت عدة طلقات. فركض كل منهم في اتجاه. ركض قيس خمسين مترا إلى الوراء. عائدا إلى فلسطين؟! لايشعر أنها لم تعد بلده؟ ركض في اتجاه فلسطين! ثم قبع وانطوى على نفسه جالسا قرب بلاّنة. في السماء قمر ضعيف أقرب إلى الهلال، لكن الرؤية ممكنة. سحب المسدس من جيبه وجهزه. تقتل من ياقيس؟ لا! لم يفكر إلا في الهرب! مرت عشر دقائق كعشر ساعات.. ثم، هاهو دركي يمر قرب قيس تماما. يكاد يدعس قدمه! حبس قيس نفسه. خيل إليه أن صوت تنفسه يمكن أن يسمع. غطته البلاّنة. مر الدركي اللبناني! أف! سمعه قيس بعد فترة يقول لزملائه: ركضوا إلى الأمام! الكلاب! هربوا! تركوا المهربات والبغلين! بقي قيس مكانه حتى ابتعدوا مئتي متر تقريبا. عندئذ وقف وركض باتجاه فلسطين. أطلقوا النار. ركض، لم يتوقف. وجد نفسه في كرم تين. كان متعبا وجائعا. أفطر تينا! وفي ضوء الفجر شعر بأنه في فلسطين. لم يعرف ماحدث له إلا بعد أن وصل إلى دير القاسي. قال له صبري الحمود في لهفة: تعال! وقال أبوه: عرفنا أن "الإخبارية" راحت إلى الرميش عن المهربين وهم مايزالون هنا يشترون مهرباتهم. انتظروهم وحضروا لهم مصيدة! عرفوا الوقت المتوقع لوصولكم. لم يبق في جسم قيس مكان مكشوف دون جروح. جرحته البلاّنة التي لطي قربها! قال له أبو صبري الحمود: تريد أن تعود إلى أهلك الآن؟ جروحك تفضحك. ستبقى حتى تشفى جروح وجهك على الأقل! البيت بيتك وأنت مثل صبري!

وقت شفيت جروح قيس رافق أهل الضيعة إلى الرميش في النهار. ماتزال بعض القرى في فلسطين غير محتلة، والناس يشترون حاجاتهم من لبنان فيذهبون من دير القاسي إلى الرميش. ذهب قيس مع الناس إلى الرميش، ومنها قصد بيروت. ومن ساحة البرج ركب باصا إلى جبّ جنين.

عندما رآه ملحم ومحمد هتفا: حي؟ راحت البغال ومااشتروه من مواد، ونجا السلاح لأنه على أكتاف الرجال. قال له ملحم: لم أعد بعد إلى الشام. ماذا أقول لأبيك؟ كان ملحم يبعث يوميا إلى المخفر من يشم الأخبار: "حدا انمسك، حدا انقتل؟" لم يأته خبر يقين. قال: اختفى الصبي! ولم يجرؤ على السفر إلى الشام. فرح ملحم ومحمد: رغم الخسارة، أنت حي! بقي قيس أربعة أيام في جب جنين. في الساعة الثالثة بعد الظهر، بعد الغداء قال له ملحم: هيا! وحمّله السلاح. خرج المهربون من جبّ جنين التي تطل على البقاع، ومشوا، مشوا.. عندما طلعت الشمس كان سجن المزة خلفهم. عبروا حتى المزة الحدود السرية للمهربين، الذين لاتوقفهم بعد الحدود بين بلاد الشام!

أعطى أبو قيس ملحم أجره، وتعويضا عما خسره. وكتب قيس في سجل حياته: هذه أول مرة رجعت فيها إلى فلسطين!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:08 AM
- 14 -


عجت دمشق بالفلسطينيين. انتقل من حمل بعض ماله معه إلى بيوت استأجرها. ودبر المتعلمون عملا. تحتاج سورية إلى مدرسين. كانت تطلبهم من مصر، وهاهم الفلسطينيون، متعلمون ومختصون بالتدريس. سيعاملون كالسوري. وسيساعد الهلال الأحمر وأغنياء دمشق الفلسطينيين الذين خرجوا بملابسهم فقط. صار العرب أصحاب البيوت والمدن والأراضي والأعمال لاجئين يحتاجون مساعدة. تصل إليهم مساعدات غذائية، ولكن لن تأتي أبدا مساعدة عالمية تفرض عودتهم إلى بيوتهم التي خطفتها منهم إسرائيل!

وصلت أميرة مع أسرتها من بيروت إلى دمشق. كانت أسرة محظوظة فلم تنزل في المدارس والجوامع، بل تنقلت بين بيوت لم تعجبها ثم استأجرت بيتا في شارع بغداد. يخترق الشارع البساتين حتى القصاع، تعبره عربات الخيل بالمتنزهين في الليالي المقمرة. في أوله بساتين كانت تسمى "وراء الدور"، خصّ بها خالد آغا أولاد زوجته الثانية رابية خانم فبعثروها بالقمار كما بعثر أولاد عبد الرحمن باشا اليوسف أراضي أبيهم وبيوته. تمتد البساتين حتى قاسيون وسوقساروجا والقصاع، مسيجة بالبيلسان والزيزفون والورد الجوري، مزروعة بالخضار وأشجار الفواكه. على جانب شارع بغداد أبنية متفرقة من الحجر من ثلاثة طوابق. استأجر أحدها أبو أميرة وأهله. إلى جانبه بيت ديبو أحد رجال الثورة السورية. ومقابله بيت بهاء، ابن خالد آغا. في الأمسيات يعبر ديبو الشارع إلى بيت بهاء ليلعبا "دق" طاولة زهر. بينهما مباراة أخرى في زراعة الزهور. يوم وصلت أسرة أميرة كانت حديقة بهاء مزروعة بالمارغريت، فيها أقفاص عصافير الكنار معلقة على شجرة فراسكين، والسمك الأحمر يسبح في البحرة، والبط في الساقية التي تمر غزيرة وسط الحديقة. في تلك الجنة جلس بهاء مع ديبو قبل أن يتطوع في حرب فلسطين، وضحكا من زوجة ديبو: خرجت إلى الشرفة و"غسّلت" المؤذن الذي مر داعيا أصحاب البيوت القليلة إلى صلاة الفجر. صرخت، تلحقنا إلى طرف البلد؟! من قال لك إن الصلاة خير من النوم! روى ديبو لصاحبه أن زوجته الأولى كانت عكس هذه تماما. فسرقت منها بنتها في الباخرة وهي راجعة من استنبول! كانت تلك آخر قطرة في الكأس! أم تسرق منها ابنتها وهي في باخرة تستطيع أن تنبشها وتفتش كل من ينزل منها؟! لكن هل كنت أتصور أنني سأقع في النقيض؟ لامأخذ على هذه المرأة إلا المنصب! يناسبها أن تكون حاكما عاما لازوجة في بيت! بعد تلك الجلسة غاب بهاء في حرب فلسطين، ولم تفتح طاولة الزهر. وصارت ليلى هي التي تطعم السمك والبط، ومعتصم هو الذي يسقي الحديقة كابحا ضيقه بالممرات التي نثر فيها أبوه البحص.

بيت أميرة في شرق دمشق وبيت قيس في غربها. لكن ماأسهل أن يعرف قيس مكان أميرة وإخوتها! يتناقل الفلسطينيون العناوين فكل منهم يبحث عن الآخر! التقى الأصدقاء قيس ويسار ويحيى، وتحدثوا ساعات، عابرين المدينة مشيا من بساتين شارع بغداد إلى بيوت ومخازن شارع العابد إلى بساتين الربوة والمزة. واستمتعوا بطريق الربوة الظليل، وسحر صداقة الفتيان. تتنظر أميرة زيارة قيس واقفة في الشرفة. تطل من الطابق الثالث على البساتين المزروعة بالأرضي شوكي. وتراه من بعد على الرصيف العريض. يرفع نظرته إلى الطابق الثالث مستطلعا منذ يقترب من بيتها. يراها واقفة في الشرفة، فيبتسم لها، ويتبادل معها من بعد الإشارات. يبطئ في مشيته قدر مايستطيع، ويتمنى أن يبقى ثابتا على الرصيف العريض. ثم يدخل إلى البناء الأبيض، فتدخل أميرة منتظرة أن يدق الباب لتفتحه له كأنها لاتعرف من الطارق. هل تنقل له كفها المسترخية في كفه فرحها بزيارته؟ هل تنقل لها نظرة عينيه شوقه إليها؟ يترك أحيانا في كفها ورقة مطوية عدة طيات، فتسرع إلى غرفتها وتقرأ قصيدته. لاشيء غير ذلك! لاكلمة عزيزتي ولاكلمة حبيبتي! تقرأها مرات وتحاول أن تستخرج منها أكثر مما تعني. ينصرف قيس إلى أخيها حتى تدخل حاملة لهما القهوة. قال لها: تلبس نساء المزة الملاءة الصفدية. ماأحلى اللون البرتقالي! كأن الدنيا دائما في الربيع! يذكّرها بأنها كانت تكشف له ملاءتها أمام الدكان في صفد؟ ابتسمت: لكني هنا لاألبس العباءة الصفدية. أخرج كما تراني! هل أميرة حب قيس الأول! لعله شعر بالحب أول مرة يوم أحبها! ولعل أول قصائده كانت لها!

عندما تحمل أميرة له ولأخيها القهوة تبقى قليلا معهما. يتشاغل عنهما يسار قليلا. فيحمّل كل منهما نظرته قدر مايستطيع من الوجد. يرفّ القلب الفتي، وتمر السعادة كالبرق متوهجة ومسرعة. ثم يأتي يحيى وأصدقاؤه أبناء صفد، فتعود أميرة إلى الشرفة. وتتابع قيسا وهو بينهم يمشي نحو المدينة.

نزلت ليلى خمس درجات إلى الساقية وأطعمت البط. واستمتعت بتزاحمه قربها. ماأرشق سباحته وماأقبح مشيته! يجب أن يعرف الإنسان المكان المناسب له كي يسبح كالبط ولايمشي مثله! فكيف ستعرف ليلى مكانها في هذه الحياة الواسعة؟ أطعمت العصافير ثم جلست قرب المارغريت. مقابلها أميرة. نظرت كل منهما إلى الأخرى وابتسمتا. جارة جديدة؟ قطفت ليلى زهرة مارغريت ومدتها نحو أميرة. نعم سآتي! بعد دقائق عبرت أميرة الشارع إلى ليلى، فأطعمت ليلى البط مرة أخرى مع أميرة، ووقفت معها قرب أقفاص الكنار، ثم قطفت لها باقة من زهر المارغريت. ماأخف الصبا! ماأسهل التعارف والصداقة والزيارات والحديث فيه! من يسبق الآخر، هي أم أميرة؟! أميرة أكبر منها؟ لابأس! كل منهما معجبة بالأخرى! ليلى مسحورة بضوء الرضا في وجه أميرة. وأميرة معجبة بما سيعجب قيس في ليلى. تجمعهما العوالم التي تفصلهما. حياتان إحداهما في صفد والأخرى في دمشق. في إحداهما شابة تلتف بعباءة صفدية، وفي الأخرى فتاة تلبس الجوارب القصيرة! هل قالت لها ليلى في اعتداد أم في أسى: أبي من المتطوعين، كان حول صفد، وقتل في الجليل! وصفت لها أميرة وقتذاك المدينة والقرى التي تحيط بصفد، وحكت لها عن الليلة الأخيرة فيها. فرصفت ليلى الصور التي رسمتها بحديث أميرة إلى جانب الصور التي رسمتها من حديث أبيها. لكنها لن تستطيع أبدا أن ترى تلك البلاد.

تستمتع ليلى بنقر حوافر عربات الخيل التي تنقل المتنزهين في شارع بغداد! تحب الرطوبة التي تهب من البساتين في الصيف. تصعد إلى السطح لتطل على الأشجار والنهر وتتابع أسراب الحمام التي تدور في السماء، ويخيل إليها من السعادة أن للقمر عبقا كعبق زهر الليمون. يوم صرخت زوجة ديبو غاضبة على المؤذن كانت ليلى تستمتع بصوته الحلو الذي تسرب بين الصحو والنوم. لكن كم هي حزينة اليوم! صعدت إلى السطح كي تبكي في حرية. عرفت أن إحسان كم ألماظ قتل في سمخ. قتل الشاب الوسيم الذي تناولها من أمها وحملها على ذراعيه من محطة الترام في البارلمان إلى البيت! قال لأمها يومذاك: ياخالتي لاتقلقي علي! لن نضيع الوقت في انتظار سيارة أو عربة. لو عرفت أن ليلى مريضة لدبرت سيارة انتظرتنا أمام الطبيب! مازح ليلى طول الطريق: مريضة وخداك كالوردتين؟! تتمارضين لتذكرينا بقصيدة ليلى المريضة في العراق! ليلى استمتعي بالسماء والشجر! ياخالتي، مدي يدك إلى جيبي، فيه قطعة شوكولا ضعيها في فم ليلى! ألذلك استمتعت ليلى بمرضها يومذاك؟ مع أن الطبيب قال لأمها، انتبهي! التهاب قصبات، قد يصبح ذات الجنب!

أخفت ليلى حزنها عن أميرة. كما أخفت أميرة حبها عن ليلى. تسعدهما الصداقة الجديدة. يسعدهما اختلاف لهجة إحداهما عن لهجة الأخرى والفرق في العمر بينهما. لماذا لم تبح لها أميرة بحب قيس؟ ماالفائدة؟ ذلك الحب مثل ربيع قصير فقد مروجه!

قال أبو قيس: ليست العودة إلى فلسطين مسألة أيام كما وعد الأمير عبد الله وفدنا! لم تعد فلسطين بدخول الجيوش العربية إليها، كما توهم العرب! احتلها اليهود قبيل دخول الجيوش العربية. وجهزوا أنفسهم لاستقبال تلك الجيوش. وحاربوها مجزأة، مرة هذه ومرة تلك! وهرع العالم كي يفرض الهدنة على العرب كلما لمح هزيمة اليهود! لن تعود فلسطين قريبا! قرر أبو قيس أن يلحق علاقاته التجارية التي نسجها منذ السنوات الثلاثين في شرق الأردن. سيفتح مخزنا للتجارة بالقمح والحبوب في إربد. وسيكون قريبا من نسيم بلاده. قال: كان اليهود مشتتين في البلاد؟ لسنا نحن الذين فرقناهم، لكنهم قدّروا علينا أن نكون مشتتين في الأرض! ودّع ياقيس أصحابك الذين درست معهم في صفورية وفي صفد ثم رحلت معهم إلى دمشق!

في أواخر أيلول 1949 ودع أبو قيس إخوته، وودع قيس أصدقاءه وأميرة. لن يراها أبدا! ستتزوج أميرة فيما بعد ممن يستطيع أن يتزوج. وستقول ليلى لنفسها وهي تبكي على إحسان كم ألماظ على السطح: تغري الدنيا بما هو أوسع من الحب!

بعد عقود من السنوات التقت أميرة بليلى في حي لاتوجد فيه بساتين. كانت ليلى قد فقدت زوجها في آخر الحروب بين العرب وإسرائيل. ولم يكن لها منه أولاد. وكانت أميرة قد اشتغلت مع زوجها في الخليج، وتفرق أولادها في البلاد التي قبلت أن يدرسوا أو يشتغلوا فيها. دفعت كل منهما بطريقتها ثمن فلسطين. لم يكن عندهما وقت للحديث. لكن نسيم البساتين القديمة هب عليهما. تجولت أميرة مرة أخرى في صفد كأنها في تلك البرهة تركتها. وتخيلت ليلى البلاد التي بقي فيها أبوها.

في إربد، استأجر أبو قيس دكانا بدأ فيها تجارة بالحبوب. واستأجر شقة في بيت عربي مفتوح على باحة. يشترك بالباحة جيران آخرون. كان ذلك البيت معبرا إلى بيت آخر سيستقر فيه. لكن قيسا وجد في ذلك المعبر حبا رائعا. كان قد بدأ يصبح هاوي كتب، كأنه يبحث فيها عن جوهر الحياة، ويطلب الجواب على لماذا وكيف! قطع عليه قراءة كتاب في يده صوت نجيبة بنت الجيران. رفع رأسه ورآها في الباحة أمام الطابون تخبز الخبز. كانت جالسة على كرسي منخفض متباعدة الساقين، ترقّ العجين وتدوّره وتضعه على الطراحة المستديرة، ثم تلصقه على جدار الفرن وهي تغني: يابو الحلق، ياعود ريحاني، يبلاك بصربة عرب، والكل عزباني، وتكون ليلة عتمة، والسرج مطفية!

استمع قيس ذاهلا إليها. ياللشعر الجميل! وياللأمنية! انتبه وقتذاك فقط إلى الفتاة. كانت حلوة! ظل يستمع إليها حتى سكتت وتكوم الخبز الساخن قربها. فعبر الباحة إليها: يانجيبة، مارأيك في واحد بدلا من "صربة" عرب؟ جفلت. كان وجهها متوهجا من حرارة الجمر. تناول قيس قطعة من رغيف ساخن! ومن هناك بدأ بينه وبينها حب رقيق. صارا يلتقيان بين سنابل القمح على بعد خطوات من البيت. ذات يوم علا صراخها. رأى قيس أخاها يضربها، وهي تصرخ: أحبه! أحبه! هب قيس نحو الصوت، وأمسك بيد أخيها. التفت إليه أخوها وقال: سافلة! ففهم قيس أن الشتيمة له!

انتقل أبو قيس بأسرته إلى بيت آخر. وصار يصعب على قيس أن يقصد نجيبة! ذهبت مرات إلى الحقل فلم تجده، وذهب مرات إلى الحقل فلم يجدها. كانت نجيبة أنعم من الحرير، وأطرى من الخسّ. ثم شغلت المدرسة قيسا، وشغلته فتاة أخرى، محطة أخرى في بحثه القلق عن محور حياته.

يوم عاد إلى لبنان بعد عقود من الزمن سأل عن غزالة التي كان يلتقي بها في الكرم ويراها من شرفته قادمة من العين ويسمعها أغنية أسمهان. عرف أنها في مخيم النهر البارد. فتساءل هل يزورها؟ ليعرف هل بقيت تلك القطعة من العمر كما تركها؟ خشي من اللقاء. ويوم رجع إلى بلده استبعد البحث عن نجيبة، كي يستبقي نجيبة القديمة التي كان يلقاها في حقول القمح. هي التي طلبت أن تراه فأرسلت زوجها إليه. زارها فرأى امرأة حلوة مرحة سمينة. نادت أولادها وقالت لهم أمام زوجها: هذا هو الرجل الذي أحببته لكن الله حرمني منه! قال زوجها مداعبا: لانعرف يانجيبة، هل ذلك من حظي أم من رضا الله عليه؟

تذكر قيس قصة قرأها مرة. أولاد يلتمون بعضهم على بعض وهم يسمعون أباهم يضرب أمهم في الغرفة الأخرى. يدينها بحبها القديم ويحاكمها عليه. يتحلقون حولها عندما يبتعد أبوهم ويسألونها من ذلك الرجل الذي أحبته؟ تقول: فان لودفيغ.. ويكملون هم في فرح: بيتهوفن! كان الرجل الشرقي، زوج نجيبة أكثر حضارة من زوج تلك المرأة. ولعله أيضا أكثر رحابة من قيس الذي ماكان ليتحمل رجلا أحبته زوجته قبله!

سيسرح قيس فيما بعد في ذكرياته. لماذا سيتمنى أن يعرف مصير من عبر حياته! ليطمئن عليه؟ أم ليسوق الصور إلى آخرها ويضعها في مكانها الملائم منه؟ ليرتب سنوات عمره في رفوفها ودروجها، ويتركها منظمة مثل خزانة ملابسه؟

يوم أحب نجيبة لم يكن قد اعتمد مقاييس ليلى معيارا يقرّب منه النساء أو يبعدهن عنه. فيحسب المسافة بين رسغ القدم وبين الركبة، واستدارة الوجه، وينتقي بمقياسها.

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:09 AM
- 15 -


في تشرين الثاني سنة 1949 مر قيس بدكان أبيه. من أرى؟! شاكر سليمان من دبورية، وحمد الصبيح من قبيلة الصبيح في سفح جبل طابور! زيارة؟ بل تجارة ياقيس! شاكر، من دبورية المحتلة. يتسلل العرب، يشترون من إربد الطحين والرز والسكر، يحمّلونهاعلى البغال ويهرّبونها إلى بلادهم المحتلة. ماتزال الدوريات اليهودية التي تحرس الحدود قليلة. لم يخنق الإسرائيليون بعد الحدود!

من أين ستسيرون ياشاكر؟ لماذا تسألني ياقيس؟ لأرافقك! واجب الأهل! لاتمزح ياقيس! ستكون مع شاكر قافلة من أحد عشر شخصا تنطلق في المساء من قرب "بيت راس"، تمر قرب "أم قيس"، تنزل في اتجاه الغور، وتعبر المخاضة على الشريعة جنوبي الباقورة. لنمش معا قليلا! مشى قيس مع شاكر. قال له: خذني معك! معي؟! ياشاكر، أريد أن أرى صفورية! لاآخذك معي دون إذن أبيك! بل سـتأخذني معك ياشاكر! ماذا سيقول أبوك؟ سأدعي أني لحقتك رغما عنك! وهو الواقع تقريبا! كان قيس قد سمع أن لأبيه دينا في الناصرة عند شريكه عبد الله فقال لنفسه في طريقي سأساعد أبي فأستعيد له الدين!

التقى قيس بالقافلة في "بيت راس" في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر. مشى مع الرجال. انزلقوا قرب "أم قيس" نازلين إلى الباقورة في الغور. اتجهوا إلى مخاضة الشريعة. هنا قبيلة الغزاوية. تحرس المخاضة وتأخذ من المهربين خوّة! هل يتجاوزونها دون أن تنتبه إليهم؟ مشى قيس مع شاكر وحمد. كان المهربون يمشون مجموعات صغيرة كيلا يلتقطوا معا. يتقدمهم اثنان. قرب المخاضة سمعوا صيحة: قف! لامفر إذن من قبيلة الغزاوية! أخذ الرجل حصته وترك قافلة المهربين تتابع طريقها. لكن من هذا معها؟! قف ياقيس، قف! هم يهرّبون التموين، وأنت إلى أين؟ هل يعرف أبوك إلى أين تمشي؟ قال قيس: أمشي إلى صفورية! قال الرجل: تعال ياقيس، نم عندنا وفي الصباح نوصلك إلى أبيك! رد قيس: لاياعمي، سأذهب إلى صفورية! إذن، انتبه! والله معك!

قطعت القافلة المخاضة. طريقهم: سولم إلى جانب مرهافيا، أندور، جبل طابور حيث عرب الصبيح، دبورية بلدة شاكر، الناصرة، الرينة، صفورية التي كانت من قضاء الناصرة! مازال اثنان يتقدمان المجموعة. بدأ الليل! أية عتمة واسعة في الفلاة! تحاول عينا قيس أن تخترقا الظلام. يحاول أن يقرأ في العتمة خطوط الأشياء الخارجية. يلتقط حفيف الأوراق ويسبره. الريح أم حركة إنسان؟ همس لشاكر: هناك على الصخرة رجل! نظر شاكر إلى حيث أشار قيس. لم يتبين أحدا. ولاحركة. رغم المسافة بين المجموعة والأخرى تشعر كل منها بحركة الأخرى. توقفوا كلهم. لاأحد! أنت ياقيس جديد في اختراق الليل لذلك تنوهم في النسمة خطرا وتتوجس منه! سيتكرر مع قيس الأمر نفسه! سيلمح في الحياة أخطارا تخفيها العتمة وسيخبر من حوله عنها، لكنهم لن يصدّقوه حتى تقع! بعد خطوات دوت صيحة: قف! وقع الرجلان اللذان يتقدمان القافلة! كنت على حق ياقيس! ليتني كنت مخطئا ياشاكر! حقا، كان ذلك شبح رجل يقف على صخرة قرب قرية كوكب العربية المهجورة التي تحيط بها صخور ومنحدرات.

وقع رجلان من القافلة، وحادت البقية عن مسارها بعيدا عنهما. سيأخذ "قاطع الطريق" من المهربين حصته من التموين! بعد فترة من المشي دوت مرة أخرى: قف! هنا قرية سيرين العربية المهجورة! سقط الرجلان اللذان يتقدمان بقية القافلة! قال شاكر: قطاع الطرق العرب فلاحون هجّروا من قراهم ولم يتركوا فلسطين إلى البلاد العربية! يأخذون جزءا مما يحمله المهربون يعيشون به. لكن اليهود لايصرخون "قف"، بل يطلقون الرصاص! التفت قيس إلى شاكر وسقطت قطعة من قلبه. هل شعر بأن جميع المهربين الذين رافقهم سيقتلون فيما بعد برصاص الإسرائيليين؟ هل بدأ هنا حدسه الذي يصور له كاليقين ماسيحدث؟ سأل قيس شاكرا: من سيتقدمنا الآن؟ قال شاكر: الآن لاأحد! اتجهت القافلة إلى قبيلة الصبيح في جبل طابور. ودّعه هناك شاكر: ابق مع حمد! سألقاك اليوم!

في الرابعة صباحا وصل قيس مع حمد الصبيح إلى مضارب الصبيح في سفح طابور. تلفت قيس. "تبحث ياقيس في الهواء عن أثر معارك الصبيح؟ في كانون الثاني 1948 قبل الفجر اصدمت قبيلة الصبيح باليهود. سندتهم نجدات من المستعمرات والعفولة. فقصف اليهود قبيلة الصبيح بمدافع المرتر. كان المطر غزيرا فعبر اليهود الوحل بالتراكتورات. ساعد أبناء الشجرة قبيلة الصبيح فردت اليهود. وتوسط الصليب الأحمر كي ينقل اليهود قتلاهم. لكن البلاد سقطت بعد ذلك. وصارت علاقتنا ببلاد الشام كأنها تهريب!"

انتقل مع حمد قبل الظهر إلى دبورية التي تبعد ثلاثة كيلومترات تقريبا. والتقى بشاكر هناك. في دبورية استقبل أهل شاكر قيسا في ترحاب. كيف أبوك؟ وأهلك؟ وإخوتك؟ كيف تعيشون؟ أبو شاكر صديق أبي قيس. بلاد واحدة، ومصالح واحدة! ناموا الآن، استريحوا من تعب الطريق! الصباح رباح!

بقي قيس أربعة أيام في دبورية. استراح من الطريق، استعاد الناس. وبعد؟ ياشاكر، يجب أن أذهب إلى الناصرة! ماذا في بالك ياقيس؟ دين لأبي أريد أن أحصّله! في الغد اذهب مع قافلة الطحّانة ياقيس، في القافلة أخي محمد أبو صالح. ينجزون الطحن في الناصرة في يوم واحد! اذهب معهم وعد معهم في آخر النهار!

مشى قيس مع قافلة الطحّانة الثلاثة الكيلومترات بين دبورية والناصرة. عند مدخل الناصرة اتفق مع محمد أبو صالح على اللقاء به بعد الطحن في المكان نفسه وقت عودة القافلة إلى دبورية. مشى قيس إلى دكان شريك أبيه عبد الله. بين عبد الله المسيحي وبين أبي قيس ودّ وصداقة. مرحبا ياعمي! مئة مرحبا! كيف وصلت إلينا ياإبني؟ وصلت مع المهربين، ياعمي! تريد الناس أن تأكل، ياإبني! ياعمي جئت لأسترد دين أبي، ستمائة جنيه! أبوك طلب منك ذلك ياولدي؟ سكت قيس. أين الورقة التي تحملها منه لي؟ أرسلك هذه المسافة الطويلة لتأخذ هذا المبلغ الكبير، ولم يحملك ورقة؟! اسمع ياولدي! سأعطيك عشرين جنيها كي تعود إلى أهلك. وقل لأبيك أن يرسل لي ورقة مع أي شخص يختاره. دينه جاهز عندي!

آه، فشل قيس! ضاع منه تفصيل صغير! وستضيع منه في حياته تفاصيل أخرى صغيرة، رغم انتباهه الدقيق إلى التفاصيل!

في مدخل الناصرة التقى بقافلة الطحّانة وعاد معها إلى دبورية. فشلت مهمته في الناصرة! بقيت زيارة بيته في صفورية! سأل: متى تعود القافلة إلى إربد؟ لن تكون القافلة جاهزة قبل ثمانية أيام ياقيس! قال أبو شاكر لقيس: أبوك صاحبي وأنت عندي مثل شاكر! ستبقى ضيفنا حتى عودة القافلة!

في الرابعة صباحا في ذلك اليوم هزّه أخو شاكر: قيس، قم! القرية مطوقة! سيجمع اليهود أهل القرية في البيادر ليفتشوا البيوت بحثا عن المتسللين! تعال إلى البئر! تبعه قيس. البئر تحت المزراب، تجمع فيها مياه المطر. ضيقة في فوهتها، عريضة في أسفلها. أنزل أخو شاكر السلم إلى البئر فاستند طرفه إلى الجزء العريض من البئر. لايمكن أن يرى من الفوهة الضيقة! دلى قيسا بالحبل إلى السلم. نزل قيس إلى البئر فغاص في مائها حتى وسطه مستندا إلى الحائط الذي لايرى من الفوهة. وقف ساكنا زمنا طويلا. ثم سمع أصواتا، وشعر بأشخاص يطلّون من البئر ويتوقفون هناك. ثم ابتعدوا وعاد السكون. ظل قيس ساكنا في مكانه حتى الساعة الثامنة والنصف صباحا. وقتئذ أتى أهل شاكر وأخرجوه. أشعلوا نارا أجلسوه قربها ولفوه بالحرامات. وبدأ يرتجف. قالوا له: التقط الإسرائيليون بعض المتسللين العرب! كل عربي دون بطاقة متسلل! المتسللون أهل البلاد! ياحيف على الزمان!

قال قيس: ياعمي، أريد أن أرى صفورية! ياإبني، ينقصك وجع القلب؟! يجب أن أراها ياعمي! بيننا وبينها رمية حجر! إذن انزل إلى الرينة! في الرينة يعيش من بقي من أهل صفورية في البلاد. منهم الشيخ صالح سليم المحمد رئيس بلدية صفورية. ياعمي، هذا صديق أبي. سأنزل عنده! نزل قيس إلى الرينة ضيفا على الشيخ صالح سليم المحمد. ابن الشيخ صالح زميل قيس في المدرسة، في صفورية وفي صفد. رحب به صالح سليم المحمد. أهلا ياابني! كيف رجعت؟ مع المهربين! ياعمي أريد أن أنزل إلى صفورية لأرى بيتنا! تأمله الرجل. أتيت من هناك كي ترى بيتك؟ من ينكر الحنين على شاب في عمر قيس!

استمتع صالح سليم المحمد بمجد حياته. عاش في قرية غنية، انتخب رئيسا للمجلس المحلي في صفورية عدة دورات، حتى سنة 1948. أشرف مع أعضاء المجلس البلدي المنتخبين على الثقافة والمياه والضرائب والمدارس والبناء والتموين. قدم باسم المجلس مساعدات للدير والراهبات في صفورية مكافأة على خدمات عيادة الدير الطبية المجانية. في سنة 1946 قدم للدير خمسين جنيها وكمية من زيت الزيتون.

لكن صالح سليم المحمد حسم قرار حياته. لن يترك البلاد! سيظل يحوم حول قريته. وفي سبيل ذلك هيأ نفسه كي يتحمل المرّ. فهل يفوته مادفع بقيس إلى قريته؟ فلير قيس بيته المنسوف! يعرف صالح سليم مصير صفورية. لم يخربها قصف الطائرات الذي قتل امرأة مع أولادها وهدم بيتها. خرب صفورية النسف الذي تناولها بيتا بيتا ليمحوها من وجه الأرض. لايعرف صالح ذنب صفورية التاريخي. سيعرف ذلك قيس.

قال صالح سليم المحمد لقيس: اسمع، يطلب اليهود قطّافين يقطفون لهم زيتون صفورية. انزل مع القطّافين! لكن انتبه! يشرف العسكر الإسرائيليون على القطّافين! هل خبأ صالح سليم نقطة ضوء في قلبه وهو يحنو على قيس، حتى وهو يعرف أنه سيصل إلى صداقة بن غوريون فيما بعد ويصبح مرات نائبا في الكنيست عن حزب العمل؟

نزل قيس مع محمد إبن رئيس البلدية، ومع أهل صفورية ليقطف معهم زيتونهم الذي أصبح للإسرائيليين. عبر معهم مرج الذهب في صفورية، ثم دخل إلى صفورية المنسوفة. على عمود بازلتي قديم بجانب العين في وسط صفورية جلس عسكري إسرائيلي مع زميل قيس في المدرسة! هذا محمد عبد المجيد! مايزال العمود القديم مكانه قرب النبع! مايزال بناء عين صفورية الذي أنشأته البلدية مكانه في وسط البلد قرب الشارع الرئيسي الذي يعبر القرية على "رأس البيادر"! مايزال الماء يجري إليه من القسطل! ماتزال الحنفيات التي يستقي منها أهل صفورية موجودة، قربها مستودع ضخم ومكان تشرب منه المواشي والخيل! ولكن أين أهل القرية؟ أين النساء الراجعات من العين؟ أين الجالسون في استرخاء على المصيطبة؟ نهض محمد عبد المجيد عندما لمح قيسا وتقدم منه في لهفة. قبّله: أنت هنا؟! تناول قيس منه التحية والقبلة. ابتسم له؟ هل يستطيع قيس أن يرد الابتسامة؟! ودّعه ومشى في طريقه. يجب أن يخفي قهره! يجب أن يظهر فرحه برفيق المدرسة! ولايستطيع قيس هذا أو ذاك! وفي حياته كلها سيكون مقتله انفجار عواطفه في ملامحه! ياربي! كل مايشير إلى معرفة سابقة رعتها هذه القرية ومدرستها وحقولها وشجرها يمكن أن يكون خطرا على قيس الآن! مشى مع "قطّافي الزيتون" أصحاب أراضي صفورية التي لم تعد لهم ولم يعودوا سكانها! قال له محمد بن صالح سليم المحمد: انتبه! زميلك هذا يعمل مع الاسرائيليين!

أكمل "القطّافون" طريقهم إلى كروم الزيتون الواسعة في وادي النصارى. هناك القطاف. انتشر أهل صفورية في الحقول التي يجب أن يقطفوا زيتونها. وانتشر حولهم الجنود لكن هؤلاء لم يكونوا كثرة. ترى هل سيحمي محمد عبد المجيد ذكرى زمالة المدرسة؟ أم سيشي بقيس فيلتقط الإسرائيليون متسللا؟! هل في قلب من خان أهل بلده شيء من القهر يدفعه إلى التستر على زميله؟ قال قيس لمحمد بن صالح: سأتسلل لأرى بيتي! سألقاكم في طريق العودة! ياقيس، انتبه! ينتهي القطاف في الساعة الرابعة! سنعبر في العودة مرج الذهب! إذن أنتظركم في مرج الذهب!

تسلل قيس في اتجاه السدر جنوب بيته. الطريق أسفل بيته. رفع عينيه فرأى كومة من الأنقاض، لمح على قمتها كلبا. نعم، الكلب الذي رباه منذ كان جروا صغيرا! في النظرة الاولى لم ير إلا رأس الكلب. لابد أن الكلب أيضا لم ير إلا قمة رأس قيس. من منهما ركض إلى الآخر؟ همهم الكلب، نبح، بكى، فرح، هز ذيله من طرف إلى طرف. هس! ولاصرخة! الفضاء، الفلاة، الهواء، الحاكورة، الشجر الباقي، الزيتونة التي ربطني أبي إليها ذات يوم، ركام البيت، أرض حرام! هس! ولاهمسة! لكننا سنبقى معا! سيحمل كلبه من صفورية إلى إربد! سيعبر به أرضا محتلة إلى أرض لم تحتل! سينقله من بيت الأمس المنسوف إلى بيت اليوم! هل كنت تحرس الأنقاض؟ هل شعرت بأني سأعود؟ اهدأ، اهدأ! سنبقى معا! ستكون الدليل إلى أني وصلت حقا إلى صفورية، إلى أني زرت بلدتي المسروقة، المهجورة، المنسوفة! لا، بل سيبحث عن دليل آخر! بدأ ينقب بأصابعه تحت الأنقاض. أزاح الحجارة والتراب. وجد قطعة من المرآة الجميلة التي حملها أبوه من استنبول وقت كان يعيش في صفورية ويتاجر بالغنم. وهذه قطعة أخرى! دسّ قطعتي المرآة في جيبه. حمل كلبه ومشى إلى مكان اللقاء بأهل صفورية الذين أصبحوا قطّافي زيتون في أراضيهم عند الإسرائيليين! من قريته، من بيته، من بساتين أبيه، من البيت المرفوع على عقود، المطل على طريق العين، من الشرفة التي كان يطلق فيها صوت أسمهان "اسقنيها بأبي أنت وأمي" فتلتفت إليه غزالة الراجعة من العين مع الصبايا.. من حياته كلها في صفورية يحمل هذه القطعة الممزقة من مرآة كانت كبيرة وجميلة!

التقى بأهل صفورية في مرج الذهب، وعاد معهم إلى الرينة. لكن إياك أن تبقى في الرينة ياقيس! لاتنم فيها! الرينة ملتقى الطريق بين طبريا والناصرة. فيها مخفر شرطة. يؤهلها موقعها لجولات دوريات اليهود. لاتبق فيها! تعشى قيس في الرينة، وفي الساعة الثامنة مساء ودّع الشيخ صالح. احتضنه الشيخ صالح. يعلم الله ياإبني إن كنا سنلتقي! سلم على أبيك وقل له عسى الله يجمع الشمل!

في دبورية تأمل أبو شاكر وجه قيس، ونظر إلى الكلب. حضّروا الشاي لقيس! ياابني، يكبر الهمّ إذا فكرت فيه! أنت شاب والعمر أمامك، فماذا نقول نحن؟ قد تتحرر البلاد في حياتك، لكن هل نرى ذلك نحن؟ تسأل عن القافلة؟ اشتقت إلى أهلك؟ أنت ضيفنا في دبورية حتى عودة القافلة إلى إربد. باع المهربون الطحين والرز والسكر للعرب، واشتروا بدلا منها السلاح. بالطحين يباع الآن السلاح الذي اشتراه أهل فلسطين بالذهب! يحمل المهربون خارج البلاد السلاح الذي أدخله أهل فلسطين بشق النفس وبالمغامرة بالحياة! أغلقت البوابات! إذا أتى التحرير ذات يوم فلن يكون إلا من خارج البلاد! هل يأتي؟ متى؟ متى؟ هل ضاعت البلاد؟ هل يضيع الحق في هذه الدنيا علنا، هكذا؟! تفو أيتها الدنيا! تفـــــــو!

أصبحت القافلة جاهزة! لكن المطر ينزل كأنه ينسكب من القرب. لابأس! ذلك أكثر أمنا للمهربين! المطر طقس لايلائم الدوريات! ودّع قيس أهل شاكر، ودّع دبورية. هل سيلتقي بهم مرة أخرى؟ أين؟ هل يستطيعون أن يكونوا كلهم مهربين كي يصادفهم في دكان أبيه؟ وهل يصلون دائما أحياء؟ نحن أهل البلاد الذين ننقل التموين بين عرب وعرب أصبحنا مهربين! نحن أهل البلاد أصبحنا متسللين! نحن العرب الذين شلّحنا اليهود أرزاقنا أصبحنا مشلحين وقطاع طرق نقتات مما نصادره من إخوتنا العرب المهربين! مع ذلك احبس ياقيس القهر!

مشى قيس مع القافلة. كان فيها رجال جدد وبعض الذين صادهم قطاع الطرق في طريق الذهاب! الترتيب نفسه: في المقدمة اثنان، ثم مجموعات من ثلاثة أشخاص. وقيس يسير مع شاكر. مطر وظلمة ووحل، وصوت الريح! همس شاكر: قفوا! فهجعت المجموعة ساكنة. سكن أيضا كلب قيس! صوت لاسلكي! الدورية قريبة إذن. ظلوا ساكنين حتى ابتعد الصوت.

وصلت القافلة أخيرا إلى المخاضة على الشريعة. لكن المخاضة ليست للعبور! تيار الماء جارف هادر. يتدفق المطر في النهر! ولكن لامجال للانتظار أو الرجوع! قال شاكر لقيس تمسك بذيل الفرس بكل قوتك! التفت قيس إلى الكلب: أنت، اسبح! وقف الكلب على الضفة مترددا! ناداه قيس: تعال! هز الكلب ذنبه وبقي في مكانه. ثم تقدم خطوة وتراجع! لامجال للتردد! لامجال! عبر الرجال والدواب المخاضة بصعوبة. ووقفوا مبللين على الضفة الأخرى. قال قيس لشاكر: يجب أن نعود لنأتي بالكلب! نعود؟! مجنون! اسمع ياقيس! ماصدقنا أننا عبرنا المخاضة. لانستطيع العودة! نظر قيس إلى الكلب، ثم بدأ يبتعد مع الرجال. هاجر قيس مرة أخرى، وبقي الكلب على ضفة الوطن! هل خاف كلب قيس النهر أم خاف الغربة؟

ترك قيس المهربين في القبيبات عند الباقورة. أخذ باص الشونة إربد. لماذا ردد بينه وبين نفسه طول الطريق: "عذب الجمّال قلبي حين نادى بالرحيل"؟ من أين التقط هذه الكلمات؟ وصل إلى إربد بعد 17 يوما من الغياب. فتحت أمه الباب.. وزغردت. فعرف الجيران أن المفقود عاد. كان الرجل الذي رآه عند المخاضة قد أخبر أباه بأنه قطع الشريعة إلى الأرض المحتلة. فبلغ أبوه القوات العراقية في المنطقة ورجاها أن تعرف مصيره. تعرف مصيره؟ يعود الناس إلى قراهم. يقتلون على مشارفها. يقتلون قبل أن يروها. في أحسن الأحوال يعتقلون في السجون. فهل نستطيع أن نعرف مصير اولئك كلهم! آه، صحيح، لايعرفون مصير القرى نفسها!

أخرج قيس قطع المرآة من جيبه وقدمها لأبيه: من بيتنا في صفورية! أطرق الأب. هل يحتفل بابنه الشجاع؟ هل يحتفي بابنه الذي يخترق المستحيل؟ هل يفرح بذكرى من بيته المنسوف؟ بشهادة على دمار ماأنشأه قشة، قشة؟ بحريق عمر لن يعود؟

في القافلة التالية عاد شاكر. لماذا تبدو مرتبكا ياشاكر؟ اقعد! استرح واشرب هذا الشاي! لم يعاتبه أبو قيس. فالرحلة كشفت له وجها جامحا وصلبا في ابنه. وأعادت له المشهد الأخير من صفورية. والصورة الأخيرة من بيته وأصحابه وبلاده. قال لشاكر: ألا تريد أن ترى قيسا؟ بلى ياعمي! بلى! روى شاكر أن الكلب عاد إلى دبورية.. لم يعد إلى صفورية ياعمي، بل عاد إلى دبورية! ولكن ياعمي.. لاتقل لقيس.. لاتخبره. أتى اليهود قرب الفجر، وطوقوا دبورية. نبح وهجم عليهم.. ظل ينبح عليهم حتى أطلقوا عليه الرصاص!

بقي قيس مضطربا أسبوعا. لن يخرجه من بحرانه غير المرأة! ناداه أبوه: خذ ياقيس! انزل إلى عمان وابق فيها يوما، يومين! يكافئه أم يعزيه أم يقول له صرت شابا والبلد صغيرة عليك؟ نزل قيس مع رفيقه فائز إلى عمان. ومنذ خرج من البلد امتد المدى واستعاد قيس جموحه. معه صديقه المحبوب. فائز ابن عشيرة كبيرة، مثل قيس على شاطئ الشباب. الحلم لهما معا أكثر سعة من الواقع المرئي. الحلم هو المستقبل المفتوح والمغلق! هو الغيب الذي يظنان أنه لايجسر أن يعاندهما، ويتمردان لأنهما لم يمسكا بعد مفتاحه. تجرفهما معا الأشواق فيمشيان كالمتنزهين مساء على طريق "الكمب"، يتحدثان أحيانا عن النساء، وأحيانا يعودان إلى كارثة فلسطين الموجودة على مرمى حجر ومسافة قرن! لم يتزوج فائز بعد ابنة عمه هندا ويهواها ويقتلها. ومازال قيس متنقلا بين هوى وآخر. نزلا إلى عمان ليجلسا في مقهى لايعرفهما فيه أحد، ليقصدا نساء لايعرفنهما، ليشعرا بأنهما شابين ناضجين حرّين. مع أن المال الذي سينفقانه مال أبويهما.

هل بدأ قيس منذ ذلك اليوم يؤمن بحدسه؟ ستزيده المصادفات ايمانا ببصيرته وبأن مايراه في نومه أو يتصوره، يقع! جلسا في مقهى السمرا في عمان. تحدث قيس خليّ البال مع صديقه فائز. رمضان والوقت وقت الإفطار. سمعا طلقة المدفع وأذّن المؤذن. فجأة بدأ قيس يبكي في مرارة. ذهل صديقه. لماذا؟ تسألني عما لاأعرفه أنا نفسي؟! حدث أمر لايدري بعد ماهو. بكى قيس حتى ارتوى من البكاء. ناوله فائز منديله ليجفف دموعه، ونهض: فلنمش ياقيس في الشوارع التي فرغت من الناس! البلد لنا! لن نفسد مشروع هذه الليلة!

في الصباح ركبا السيارة وعادا إلى البلد. قرب بيته صادف ساعي البريد: هذه البرقية لوالدك. أخذها قيس منه وناولها لأبيه. فتحها أبوه. من عمك ابراهيم في دمشق. "احضر حالا. توفي أبونا"! قال أبو قيس: قم! أخذا تاكسي ونزلا إلى دمشق. في الطريق بكى أبو قيس في حرقة حتى وصلا إلى الشيخ مسكين. عندما هدأ قال له قيس: "سيدي" مات البارحة وقت أذان المغرب! سأله أبوه: كيف عرفت؟ فهز كتفيه. وصلا إلى دمشق فوجدا الجنازة حاضرة. ودع أبو قيس أباه. وسارت الجنازة إلى مقبرة المزّة. في البيت سأل أبو قيس أخاه ابراهيم: متى مات أبي؟ رد: جهزنا الإفطار وجلسنا على الحصير ننتظر الأذان. قال لي أبي هات مخدة لأضع رأسي عليها. قدمت له فخذي. وضع رأسه عليه. عندما قال المؤذن الله أكبر شهق أبي ومات. وقت خلا قيس بأبيه في الليل روى له كيف بكى في مقهى السمرا في عمان في البرهة التي مات فيها جده.

سجلت لقيس مغامرته وعودته حيا من فلسطين، إعجابا بين أصحاب أهله وزملائه، انتشر في بلدته. جلس في المقهى كالرجال وقصده رجال أرادوا أن يصف لهم مارآه. لعله مر بقريتهم، لعله التقى بأهلهم أو أقربائهم! وكأن فيه بركاناً هاج بعد رحلته مع المتسللين. لم يعد يخاف شيئا! لكن القلق والشوق والأسى تهده فيفتح الباب في الليل ويخرج إلى الحاكورة ليدخن. يصحو أبوه ويتظاهر بأنه لم ينتبه إليه. صار يهدئ أشواقه بكتابة الشعر. وكأنما نضجت فجأة الخواطر التي كان يسجلها على قصاصات من الورق، وعلى الهوامش البيضاء في المجلات، فأصبحت قصائد يسكبها في جموح ثم يعود إليها ليضبطها وينقلها إلى دفتر ويثبت في نهايتها تاريخ اليوم الذي أنجزت فيه. لم يستنتج أن الشعراء والسياسيين الذين ينشد التلاميذ كلماتهم قد أكملوا صفحتهم التاريخية وأصبحوا بخلودهم تراثا وحنينا ومستندات مستمرة. وأن الحياة تطلب الجديد الذي يتصل بهم وهو يختلف عنهم. لكنه بحدسه تبين أن قدره ومسؤوليته أن يصوغ كلمات زمنه، يفاجأ بها الناس ثم يتبينون أنها كلماتهم.

أعجب المستمعين إلى قصائده الشوق المدثر بالأسى، والعنفوان الجامح، والأمل الذي يشف في نهاياتها مرة عن عناد ومرة عن رومانسية رقيقة. كان قد أنهى السنة الأخيرة من المدرسة، والمدرسة وجه البلد، ومعلموها مثقفوه، ولها مجلة ينشر فيها كتاب العاصمة المعروفون مؤلفاتهم. ومع ذلك اعترف لقيس بأنه تجاوز ماأهّلته له المدرسة، وأنه أكثر نضجا من عمره. بل قيل: في قيس نسمة من عمر الخيام! سمع قيس ذلك فبحث عن الخيام، وجده فخيل إليه أنه وجد كنزا. بدأ ولعه بالخيام. وتمنى أن يقرأه بلغته!

في البلد الصغير العيون على الجوهرة المكتشفة! اتصل المتصرف بأبي قيس: أرسله لنا! فبحثوا عنه ووجدوه مستلقيا في حقل يتأمل السماء، وبين أصابعه زهرة من شقائق النعمان! قال له المتصرف: ستلقي قصيدة أمام الملك! لم يرتجف قيس فالملك كان في ذلك الزمان يجلس بين الناس، ويلتقي حتى بالطلاب المشاغبين ويؤنبهم كأنهم أولاده.

وصل الملك وجلس بين أهل البلد. قدمت المناسف وقدم قيس كي يقرأ قصيدته الطويلة. استمع إليه الملك: بارك الله، بارك الله! كان يزهو بمعرفته دقائق اللغة العربية والشعر. فسأل وزير المعارف الشيخ محمد أمين الشنقيطي: ماذا تقول ياشنقيطي في القصيدة؟ فيها أغلاط؟ رد الشنقيطي: لم ألاحظ فيها غلطا في النحو، لكن فيها كلمات غير عربية مثل زغرد. التفت الملك إلى قيس: أنت، ماذا تقول؟ رد قيس: زغرد كلمة من أصل عربي. سأل الملك: ماذا تقول ياشنقيطي؟ رد: ليس صحيحا.. قاطعه الملك: والله هذا الصغير على حق وأنت مخطئ ياشنقيطي! أدار قيس ظهره للملك لينسحب فركض المتصرف ليعلّمه كيف يتراجع في حضرة ملك. اعترض الملك: اتركه، اتركه! واعطوه طقم باركر، وخمسة عشر دينارا!

بعد يومين من رحيل الملك وصل خبر من المتصرف: طلب القصر قيسا. يجب أن يحضر فورا! القصر؟! منذ البوابة رحبوا به. منتظر! ثم استقبله شاب وسيم: انتظر هنا! قدمت له قهوة. قدمت القهوة، ثم قدمت القهوة.

- لايستطيع جلالته أن يقابلك اليوم!

- هو الذي حدد الموعد!

رجع قيس إلى بلده فرحا بعودته إليها! في اليوم التالي أرسل المتصرف خبرا آخر: القصر يسأل لماذا لم يلب قيس دعوة الأمس، عين لقيس موعدا غدا! استمع قيس إلى المتصرف. وقال: لن أذهب! عاد إلى الحقل واستلقى على الأرض ووجهه إلى السماء! لم تكن عادته أن يتأمل زرقة السماء بل نجوم الليل، لكن ذلك كان هواه في ذلك الإسبوع!

هل أكدت تلك التجارب المرفوضة لقيس أنه مكلف بمهمة لايدري بعد ماهي؟ لاسكون في روحه كالسكون في روح زملائه! كأنه ورث حزنا عميقا من زمن قديم كان يعيش فيه قبل هذا الزمان! هل خمن أنه يجب أن يدفع الثمن، فالتميز ليس للفخر فقط، بل للعذاب!

طلبه المتصرف. صار قيس وهو بعد فتى، من المهمين في البلد؟! سيزور الملك الجديد البلد! نريد قيسا في الاستقبال! كان الملك الجديد ذا مزاج غريب. ربما لذلك أيضا كان محبوبا. يبدو أنه يحب الشعر.. جلس مستمعا إلى قيس. ثم ركب حصانا أبيض وخرج الأولاد خلفه يهللون.. ذهب ليزور النّور! كان ملكا متمردا. سجل الناس أنه نزل إلى الشعب، لكنه لايمكن أن يكون ملكا.

قال المتصرف لقيس: إذا رغبت يمكنك أن تكون من موظفي القصر! قيس يتحمل الحياة في قصر؟ وهل يتحمل قصر مزاجه الهائج؟ لايستطيع قلبه المتلاطم أن ينبض بانتظام! لن يتبين ثمن ذلك إلا في قمة العمر، وقت يأوي زملاؤه إلى حياة مستوية، وتصور قمة العمر للإنسان أن الركود استقرار وأمن، فيعتد بما لديه من مال وبيوت وأولاد مطيعين، ويبدو صخب الحياة ترفا ضيع العمر، وتكون الأيام الجميلة الماضية قد تسربت من الأصابع ولايستطيع الإنسان أن يكرر الجنون. عندما سيفتح زملاؤه صفحات حياتهم لن تكون فيها إلا كلمات قليلة. وسيضيع هو بين الألوان. لكن زملاءه العاديين سيتناولون وجباتهم في أوانها، وسيأوون إلى الفراش في وقت معين، سيستقبلون أولادهم ويستمعون إلى لغو أحفادهم، ويتوهمون أن تلك الدعة جني سنوات العمر. وسيبقى هو جوّالا في الليل والنهار بين مروجه البعيدة، وبين مروجه الممنوعة.

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:09 AM
- 16 -


جلس قيس أمام مكتبة صقر على كرسي منخفض من القش، واستعرض مع صاحب المكتبة بنات المدرسة اللواتي تدفقن إلى الطريق. ميز منهن شابة أعجبته. قال لصاحبه: هي! أتعرفها؟ رد صاحبه مداعبا: اسمها شهرزاد! لكنك لن تكون شهريار لأنها غنية، أبوها طبيب سوري ترك دمشق يوم خرج منها فيصل سنة 1920.

كان قيس يومذاك على التخوم. يشعر بقوة تصور له أنه قادر أن يفتت الصخر. ويجرفه شوق عاجز إلى كل شيء. يرسل قصائده إلى الإذاعة فتقرأ منها، وينشرها في الجرائد. ومع ذلك يشعر بأنه على التخوم. لايجد بعد عملا يمسك بحياته.

صار ينهض من كرسيه ويتبع شهرزاد، يعبر الطرقات خلفها ثم يتسرب إلى درب بيتها، ويتركها أمام بوابة حديقة واسعة. قدم له صاحب المكتبة المعلومات التي تجعلها أسطورة بعيدة عن قيس: عمها طبيب الأمير! لكنه في بداية هواه لم ينتبه إلى إشارة تلك المعلومات إلى حب يائس. لم يتساءل هل تنتظر فتاة مثلها فتى مثله حتى يصبح شخصا ذا مكان؟!

مشت شهرزاد أمامه حتى بيتها. عند الباب التفتت وقالت له: ماذا تريد؟ لم يخف عليه أنها قالت ذلك دون لوم. يعجبها؟ رد: أريد أن أراك! قالت: في حديقتنا مساء اليوم. ياللخبر العظيم! لايعرف كيف وصل المساء! دفع الدقائق كأنه يدفع الدجاج إلى القنّ ليحبسها فيه. تسلل إلى حديقتها وأتت إليه، فاندفع وعانقها. ولاحظ أن أختها تحرسهما من النافذة. صارت حديقتها مكان اللقاء. حديقة كثيفة الأشجار. وزادت من إهمالهما الخطر براءة الشباب.

اقترحت شهرزاد عليه: "اقطع" تذاكر للسينما! قطع تذاكر له ولزميله ولأختها. في العتمة لمسها، وصديقه يجلس مواربا ليحميه وأختها تجلس مواربة لتحميها. بعد ذلك اللقاء أرسل قيس إلى الإذاعة، قصيدة يتغزل فيها بشهرزاد. أذيعت قصيدة "الشاعر الشاب" مرات! ونشرت في الجريدة مع مقدمة طويلة عن سيمفونية كورساكوف "شهرزاد". وسجل الكاتب أن قصيدة قيس ليست أدنى من تلك السيمفونية، لأنها استمدت ألوانها من بلاد شهرزاد وحضارتها العظيمة. وختم مقاله: لدينا جميع الإشارات إلى مولد شاعر لن يقل عن شاعر البادية القديم، مجنون ليلى!

في ذلك اليوم همس قيس لشهرزاد: افتحي الراديو في الساعة العاشرة! فجمعت صديقاتها حول الراديو. وجلس قيس في المقهى بين أصحابه يستمع إلى الراديو الموضوع على رف مرتفع. استمعت شهرزاد ورفيقاتها إلى قصيدته التي تفنن المذيع في قراءتها. كرر أحد المقاطع مرتين! محظوظة ياشهرزاد! فلنستعره منها يابنات ليقول قصيدة فينا! نهضن وقبّلنها. هنّأنها. محظوظة! كم من الناس استمع إلى القصيدة اليوم! سيتساءلون من شهرزاد التي يهواها الشاعر الشاب!

عندما التقى قيس بها كانت كلماته ماتزال تخفق في روحها. فانهمرت عليه لينة، ناعمة. وخيل لقيس أنه يتسرب من جلدها. لكنه لم يتبين ثقتها بأن ماقاله لايمكن إلا أن يقال فيها، وأنها تتوقع أن يحبها آخرون أيضا لأنها جميلة وغنية. أتت له قصيدة شهرزاد برسائل من معجبات أرسلنها مع أولاد إلى المكتبة التي يجلس فيها. طمعن في أن يحبهن كما أحبها، أم طمحن أن يلهمنه كلمات كالتي ألهمته إياها شهرزاد؟ تحب المرأة أن تكون ملهمة؟! لايدري قيس حتى اليوم سبب السحر الذي يجذب إليه النساء كلما شعرن بأنه مغرم بإحداهن!

اندفع قيس في حب شهرزاد كطالب يمتحن ويجب أن ينجح. كبطل ذي سمعة رائعة يجب أن يحافظ عليها. كمغامر راغب في كشف مجهول جديد. ولم تكن هي في عمر الزواج لتتفادى مغامرة لن تثمر. ولم يفكر قيس الذي جرفه الهوى بما يباعد بينهما.

هل سبب انتحاره أنه فكر في الفرق بين فتاة من أسرة مستقرة غنية وبين فتى لاجئ ضيع احتلال فلسطين أراضيه؟ حبه اليائس؟ وهل كان قيس يتصور حقا أن هذا الحب سيمسك بيده إلى حياة رتيبة هادئة مع زوجة؟ يأبى عليه كبرياؤه أن يضع بالزواج حدودا لحياته! لن تقفل عليه حياته امرأة! كان على التخوم. أنهى المدرسة ولم يجد عملا. تبين موهبته وفهم رغم حفاوة من حوله بها أن طريق النضج طويل. كان قلقه يشويه، والسور المغلق حوله يضغط عليه، والمسافة واسعة بين طموح لاحدود له إلى مجهول لايدركه بعد، وبين واقع كالخاتم الضيق! تموج فيه قوى عاصفة يلمسها الذين يقدمون قصائده، وتضيق بالمسارب الممكنة لها في الواقع! والفضاء الممتد حوله فراغ لاأمل فيه ولامخرج منه. نسي الحدس الذي صور له يوم حاول الانتحار قرب شجرة الزيتون أنه يجب أن يعيش كي يحمل أمرا لايعرفه بعد!

أقفل قيس الباب بالمفتاح، وجزّ شريانه فتدفق الدم وجرى من الباب. مر أبوه صدفة فرأى خيطا من الدم. صرخ: قيس! ناداه: افتح! لم يجبه. قرر الموت! ياللمجنون! قرر الموت لأنه يحب الحياة! كسر أبوه الباب، وحمله إلى طبيب البلد، أبي شهرزاد. ضمده وأنقذه. لكن الشرطة سجلت ذلك في سجلات يمكن أن تواجه بها قيسا ذات يوم. فتعاقبه على الجريمة الوحيدة التي يعاقب عليها إذا لم تنفذ!

قال أبو قيس لصاحبه شكري: ليس السبب أنه يحب شهرزاد! المسألة أنه يجب أن يشتغل أو أن يسافر إلى الشام أو بيروت ليتعلم! ياشكري ساعده! رد شكري: سأعطيه رسالة إلى المكرّم! الرجل مقتدر، ذو نفوذ، سيجد له وظيفة. فشلت ثورة 1936 لكن بعض الذين شاركوا فيها أصبحوا أبطالا بعيدا عن الثورة التي صدّرتهم!

وصل قيس إلى عمان ظهرا. فتحت له الباب شابة جميلة. فقال بينه وبين نفسه: ماأكثر الجمال في هذه البلاد! وتساءل لماذا تكون الفتيات على هذا المقدار من الحسن وينطفئن بعد زمن من الزواج؟ لكنه لم يشعر بالأسى الذي تشعر به النساء عندما يصحون برهة فيتذكرن أن أجسامهن لم تكن مترهلة، وأرواحهن لم تكن كقماش غسل كثيرا في مياه مالحة. قالت له الشابة بصوت عذب: المكرّم غائب، لن يأتي حتى المساء.

لو كان لديه ذلك الوقت بعد سنوات لتنقل بين بيوت أصحابه. لكن لم تكن لديه وقتذاك العلاقات التي توسعها السياسة والعمل. جلس في المقهى حتى المساء وعاد إلى بيت المكرّم، وهو يعرف أن وقت اللقاء به سيكون مقتضبا لأن قيسا لن يجد إذا تأخر سيارة تعيده إلى بلده.

استقبلته مرة أخرى الصبية الحلوة، وأجلسته في الصالون. ودخل المكرّم. تترك حتى الثورات الفاشلة أثرها على قامات الرجال! وتترك السلطة أثرها الأكبر! المكرّم، عضو الاتحاد والترقي، الذي رافق حملة الترعة داعية وواعظا، ثم أخذ مكان أسعد الشقيري، ثم التحق بالملك فيصل وصار رئيس النادي العربي في دمشق، وجمع التبرعات من الهند لإصلاح الصخرة المشرفة، وتظاهر في يافا ضد الإنكليز وسجن ستة أشهر، الخطيب القدير! هاهو نفسه بهيبته أمام قيس!.

تأمل المكرّم قيسا من باب الغرفة، تناول الرسالة وقرأها، ثم مد التهذيب دون أن يسحب السطوة. لكن قيسا لمح عواطف أخرى توقد عينيه وهما يشربان القهوة. برقت فيهما أشواق رمت السطوة بعيدا عنه فخفض نظره إلى الأرض كي يخفيها، وكأنه غير راض عليها. قال لقيس: سأسعى لنجد لك عملا! ونادى بنت أخيه: ياصبا! هرعت صبا فظهرت القسوة التي يعامل بها أهل بيته. قال: هاتي فواكه وحلويات! نهض قيس: أشكرك. يجب أن أسرع لأجد سيارة تنقلني إلى بلدي! قال المكرّم: لن تجد سيارة الآن. ستنام عندنا، البيت واسع وفي الصباح اخرج على بركة الله!

مايزال قيس غضا، لايستطيع رغم عنفوانه أن يفرض قراره وينفض عنه التهيب من السطوة. نهض مرة أخرى: سأجد فندقا! رده المكرّم: ترفض ضيافتنا؟ ياصبا، افرشي له في الصالون! انحنى قيس أمام الثقة التي تراكمت على المكرّم الذي اشترك في الثورة الكبرى وجنى مهابته منها ومن مركزه اليوم.

بعد العشاء غفا قيس كما يغفو الإنسان في بيت غريب. عين نائمة وعين صاحية. فراش غريب، مكان الباب والاتجاهات غريبة.. المقاييس كلها غريبة. لابأس، نم! لايتقلب الشباب طويلا! هكذا غفت العينان. وفجأة شعر بيد تلمسه. منام؟ لا! انتفض. المكرّم، الشيخ الجليل، راكع قرب فراشه. انتفض: ابتعد! أين سطوة المكرّم وهو يتوسل إليه: أرجوك! عصف قيس، وكشف له البرق والوهج ظهر الصورة، مسوّدتها، العواطف التي تذل حتى ذا السطوة. لم يكن قيس سياسيا لكنه قال لنفسه: لم يسقط المكرّم سياسيا فقط! راح زمانه. وربما كان مقتل انتفاضة 1936 أن قيادتها متنافرة ومتنوعة. ولكن لاحق لرجال الانتفاضة في أن يسقطوا هكذا! ربما انتبه بحدسه إلى المكانة التي تأسر الرموز بمقدار علوّها، وتفرض عليها الاستقامة حتى التصوف. لكنه انشغل فقط باكتشافه عالما متآكلا يختبئ بالأساطير. هذا هو الرجل الذي اشترك في الانتفاضة الكبرى؟ كان قيس شابا غضا. لايعرف بعد أن تلك الأخطاء ترصد في الرجال، ويمرّغون بها، ويجرّون بها إلى الخيانة أو إلى الانتحار. يعيش في عالم لم تنشر فيه بعد قضايا التجسس الكبرى والفضائح التي تواكبها. في عالمه لاتزال الأسرار والفضائح تغطى بالوقار! قال بصدق الشباب وجموحه: يجب أن يقتلع هذا المجتمع من جذوره لينبت آخر مختلف عنه! دون ذلك لن نستعيد بلادنا المحتلة! لمس نتيجة صحيحة لكنه بالغ فيها، بجهل العمر الغض وجهل الفتى البعيد عن السياسة. وأوغل في استنتاجه كلما أوغل المكرّم في انهياره أمامه. قال له المكرّم: أعطيك مقابل ذلك بنت أخي! ألم تعجبك؟ لايوجد إغراء يمكن أن يستبقي قيسا. فالغثيان والقرف والغضب، دفعته كي يخرج إلى الهواء النظيف. قرف قيس من الشذوذ الذي سيكون حقا طبيعيا في اوربا بعد عقود من الزمن. لكنه لم يفكر بالنساء اللواتي قبلن اغتصابهن كي يخلصن أزواجهن أو أبناءهن، أو كي يدفعن ثمن عمل يدفع عنهن الجوع. ولم يفكر بصبا التي يمكن أن يقدمها عمها.

لبس ثيابه مستعجلا، فتح الباب وخرج إلى الليل. مشى مسرعا حتى ابتعد. في السفح جلس على حافة سياج حتى طلع الفجر. وصل إلى بلده كما يصل الضائع في البحر إلى البر. وصل إلى البيت قبل أن يخرج أبوه إلى دكانه: يابا، تعال! لكن ليس هنا! مشيا إلى البستان وهناك روى له مافوجئ به. أخرج من جيبه رسالة المكرّم إلى المتصرف ومزقها. فحص أبو قيس هيجان ابنه، وهاج هو أيضا، لكنه استمع إليه في هدوء حتى غسل روحه. قال: لايطلب الثمن من الفتيات الجميلات فقط، بل من الشاب الوسيم أيضا! خذ هذه الشهادة فقط ياقيس وانس المكرّم! لاتتحدى السلطة فقط الرجال. يتحداهم أيضا العمر! لم يصمد المكرّم لاأمام السلطة ولاأمام العمر! لم تسقط ثورة 1936 لأن ملوك العرب ورؤساءهم تدخلوا فنفذوا طلب بريطانيا. بل لأن في قيادة الثورة أشخاص مثل هذا المكرّم!

مزق قيس رسالة المكرّم وقدم طلبا لوظيفة معلم وانتظر الجواب. لايريد أن يكون موظفا، ولايستطيع أن يكون تاجرا، ولايملك أن يكون مزارعا. كان البهائيون يبحثون عن مدرس لمدرستهم في العدسية. ووسطوا لذلك المشرف على التعليم. وكان بين يديه طلب قيس.

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:11 AM
- 17 -


قال مدير التربية لقيس: هذا مختار العدسية، يطلب معلما لمدرسة الذكور. هل تقبل العدسية؟ الشروط؟ خمسة عشر دينارا، وبيت، والطعام! شروط ممتازة، وحظ عظيم، فأهل العدسية بهائيون يقدّرون العلم! وافق قيس على شروط المختار البهائي. وأصبح في سنة 1950 معلما في العدسية.

الطريق إلى العدسية ترابي معبد. إلى يمينه شرقا جبال يخيم فيها البدو الذين يعمل بعضهم عمالا زراعيين في العدسية. وإلى يساره غربا، تنحدر الأرض نحو الغور والعدسية. في أول القرية غابة صغيرة من أشجار الكينا، تجري بينها قناة ماء تخيم حولها مجموعة العاملين في مصلحة المياه. بيكوفسكي روسي أبيض كان ضابطا في الجيش القيصري، هرب بعد ثورة اكتوبر، ويشار الشركسي، ورياض ذو الصوت الرخيم ومحمد المهجر من يافا. تمتد الدرب بعد المخيم المظلل بشجر الكينا إلى الغرب، تعبر بيت هوية، أخت سكرتير شوقي أفندي زعيم البهائيين. بيتها كبيوت العدسية، من الحجر الأسود، وسط أرض مزروعة بالحمضيات، في الواجهة مدخل البيت، إلى جانبه مدخل السيارة. في شمال المخيم درب يوازي الدرب الذي يعبر بيت هوية، يوصل إلى مزرعة واسعة ذات بوابة جميلة من الحديد المزخرف وسط سور من الحجر يعلوه سياج من الحديد بزخرفة شرقية. مزرعة أسرة بهية وغولروخ، فيها وسط بيارة الحمضيات بيت من الحجر الأسود أمام بوابته نخلتان. على مرمى النظر منه مدرسة الذكور، بناء من طابقين، بينه وبين مزرعة بهية وغولروخ بيت من الحجر الأسود، فيه غرفة المعلم. إلى الجهة المقابلة من المخيم، يسارا، بيارات حمضيات في وسطها مدرسة البنات. في الطابق الأول منها قاعة واسعة للدراسة، وغرفة المعلمة لور. وتحت الدرج الداخلي غرفة السنترال. في الطابق الثاني المحفل البهائي. في البيوت الأربعين أو الخمسين في العدسية، كلها، تلفونات.

وجد قيس في غرفته طاولة ملأى بصحون الطعام. ماذا أفعل بكل هذا؟! قال للمختار: شكرا، ذلك كثير! ومشى معه إلى سيدة العدسية.

استقبلته هوية أخت سكرتير شوقي أفندي رأس البهائيين في شرفة مدخل بيتها. قالت له: مني تطلب مايلزمك! خمّن أنه أمام حاكمة العدسية. فهمس لنفسه: لكنها لن تحكمني! قالت له: ستكون دائما ضيفي على الغداء! وافهمت المختار أن أسر العدسية تستطيع أن تدعوه فقط إلى العشاء في دورها.

بدت العدسية لقيس جمهورية مستقلة. مستعمرة زراعية، يسوّق الرجال منها الفواكه بسياراتهم. لكل عائلة فيها مزرعة، تراكتور وسيارة وتلفون، والطرقات بين المزارع مزفتة. فيها أربعون أو خمسون أسرة فقط، ومع ذلك فيها مدرستان واحدة للذكور وواحدة للفتيات. يجتمع أهلها كلهم في احتفالات أسبوعية في قاعة مدرسة البنات، يلتقون بشخصيات، يستمعون إلى محاضرات. هناك عرف قيس أول مرة عجاج نويهض، مدير الإذاعة، الذي دعي إلى المحفل البهائي في العدسية. قرأ قصيدة قيس وطلبها منه كي يذيعها.

استمتع قيس براتبه الكبير. كدّس الكتب في غرفته. أفاده أنه حفظ القرآن واستهواه الشعر العربي، وبدأ يفتتن بالخيام. يفتتن؟ بل بدا متيما به! هل ذلك صدفة كالصدف التي صاغت حياته فيما بعد، فكان يفاجأ مرة بفتاة مقابله تضع في عنقها برج محبوبته، أو يلتقي بامرأة يحزر قبل أن يكلمها أنها تحمل اسمها! استهواه الخيام قبل انتقاله إلى العدسية بأشهر، كأنه كان يستشف أنه مقبل على من سيعلمه لغة الخيام بين زهر الليمون وشجر البرتقال في العدسية.

بهرته هوية بسطوتها. وعندما جرّها إلى الثقافة ليصغّرها نافسته بالكتب التي قرأتها، وقابلته برؤية كاملة إلى الدنيا. هل اندفع إليها من الغيرة منها أم ليثبت أنها لاتحكمه؟ أم استهوته حقا بقوتها؟ صار يتغدى معها من الطعام الذي تحضره خادمتها الغورية. بعد الغداء دعت بنتها لتعزف له على البيانو. استمع إلى العزف وعيناه على هوية. لم تكن جميلة، لكن ضوءها كان يغمر الغرفة. التفتت إليه وقرأت شوقه إليها. هو أيضا يستهويها لكنها تنتظر أن يرجوها! ورجاها: اطلبي من بنتك أن تخرج!..

في تلك الليلة عاد إليها، ومشى في الطريق الذي دلّته إليه. عبر الحديقة بين أشجار البرتقال، وصعد على درج من الحجر إلى شرفة غرفتها. شعر بيديها مغروستين في ظهره. وسحره أنها تقبض عليه في نشوتها. وألف الطريق إليها.

أحبته هوية؟ كانت أكبر منه بعشر سنوات. أعطته كتب البهائيين التي يمكن أن يقرأها. حدثته وهما جالسان في الشرفة عن وحدة الخالق والمخلوق. فسحب ذلك إلى الصوفية، ووصف لها أنه يشعر بوحدته مع أشجار الكينا والليمون، بل يشعر عندما يعود من مخيم أصحابه في مصلحة المياه بأنه الكون. قالت: هذا شعر! ماأقصده ياقيس غير ذلك. لكنك مؤهل للوصول إليه! الكون مفتوح، لايغلق بنبي أخير. تجلى الإله في البهاء ويتجلى في آخرين بعده. لم تقفل النبوة!

أدهشته الجرأة التي تخالف بها مايؤمن به الناس. لكنه كان وقتذاك في أيام فحص الأسس ومناقشتها. تعجبه القيمة التي يضعها البهائيون للعلم، والمساواة بين المرأة والرجل، تعليم المرأة، وحدة الخالق والمخلوق. ولكن ياهوية لاتعجبني وحدة الأديان. لاشيء يجمعني بالتلمود! "شعب الله المختار" ينفي تلك الوحدة. لايستوقفني حجّكم إلى البهجة في عكا. لكن لماذا جعلتم القدس قبلتكم؟ ولماذا يرى عباس أفندي أن خلاص البشر لن يكون إلا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد؟ معنى ذلك.. أغلقت هوية فمه بكفها. اسكت! أشار لها إلى أنه سيقول شيئا آخر، فأطلقته. قال: إذا كان شوقي أفندي كالله فكيف رسب في الجامعة الأمريكية؟ لماذا لم يساعده الله؟ قالت هوية في ثقة: رسوبه دليل إلى أن الله لايساعد حتى شوقي أفندي إذا لم يعمل! بهرته هوية المفكرة. وربما أغراه بها في تلك الليلة أنه لايستطيع أن يهزم ايمانها.

كانت الليلة مقمرة، وعبق زهر الليمون يغمر غرفتها. ترك قيس قمر آخر الليل على فراشها وخرج. كان زوجها قد ذهب ليسوّق الفواكه في عمان. عاد متأخرا. وجدها نائمة فلمسها. قالت له مغمضة العينين: قيس، عدت؟ وعندئذ صحت فوجدت زوجها جامدا ينظر إليها. سألها قيس: وبعد؟ ردت: لاقبل ولابعد! لكن قيسا لاحظ الضغينة في عيني الزوج منذ ذلك اليوم. فاعتمد ذلك كي يجعل زياراته متباعدة.

بالأمان الذي شعر به، وبالوقت الممتد في فسحة خضراء، وبالحوار مع البهائيين، اندفع يفكر في الكون. تحتاج الظواهر البراقة والكامدة محورا ينظمها! تحتاج مطلا عليها! وكانت البهائية التي تعرف إليها في العدسية منظومة أفكار، ومنظومة رجال ونساء. مجموعة مشدودة برابطة حميمة، زرعت هذه الجنة. فاخضرت فيها الأشجار وعبق فيها زهر الليمون. بقيت جنة العدسية جنة البهائيين حتى قبيل حرب حزيران 1967 بستة أشهر وقت اتفقوا على الهجرة.

في المساء يجلس قيس بين مجموعة العاملين في مصلحة المياه، تحت أشجار الكينا قرب قناة الماء. يتناولون الزجاجات التي وضعوها في القناة لتبرد ويصبون له النبيذ. فتتندى أصابعه بالكأس. الشراب ممكن هنا في الليل، وهؤلاء ليسوا بهائيين! يستمع قيس، إلى الضابط الروسي الأبيض بيكوفسكي. يواجه منظومة فكرية متماسكة. ليست لديه معلومات مضادة. لكن الهجوم على "البلشفية" يستفزه. يتفرج قيس على لوبا حبيبة الضابط الروسية. الضابط في الستين تقريبا، وهي فتية، شقراء، تحب الخيل، تركب فرس حبيبها وتتجول به طول النهار والضابط ينتظرها. تختفي زمنا ثم تعود إليه أياما. فيتأمل قيس عالما غريبا من الفراق واللقاء. ويتساءل أيكون الحب أحيانا كالأبوة، ويسعده أن تكون المرأة كالوردة التي تعلق على الصدر؟ يسكت الضابط الروسي ويبدأ رياض بالغناء. "سجى الليل حتى هاج بي الشوق". والليل دائما هادئ ساج هناك! ينتشي قيس من الخمر والقمر والغناء، فيلحق مدى يهرب منه، ويتقلب بين الفرح والأسى. يترك في منتصف الليل بيكوفسكي ورياض ومحمدا المهجّر من يافا، ويمشي إلى بيته في درب صغير بين شجرات الكينا وبين بستان بهية وغولروخ.

صادف قيس غولروخ واقفة أمام مدخل بستانها، محاطة بزخرفة البوابة، وبزهر الجهنمية الحمراء. من أية أسطورة حطت تلك الشقراء وسط الربيع؟ التفت إليها سعيدا بلقيته. وانشغل بسعادته حتى أنه لم يلمح ابتسامتها له. تعرفه، أستاذ المدرسة! لكنه لايعرفها! في اللقاء الأسبوعي وجدها مع أختها. فرح كما يفرح شاب وجد زملاء في عمره. واحدة شعرها حالك، وعيناها سوداوان سوادا عميقا. والأخرى بيضاء شقراء. خرج معهما من قاعة مدرسة البنات ومشوا متأنين في الطريق الضيق حتى معسكر مصلحة المياه. تحدثوا كأن كلا منهم يعرف الآخر حتى أن أحدهم نسي أن يقدم للآخر اسمه. هاهو بيتهما! بعد أيام دعته أسرتهما إلى العشاء، ورأى طول المساء بريق شعر غولروخ الأشقر تحت الثريا الكبيرة. صار يختار إلى بيته الطريق الذي يمر بمزرعتهما. هل كانتا تنتظرانه قرب البوابة؟ دعتاه إلى البستان، وجلسوا تحت شجرة برتقال. صار بعد السهرة قرب قناة الماء، يعبر الحاجز إلى بستانهما ويتقدم بين أشجار البرتقال من بوابة البيت الداخلية. يتجاوز النخلتين ويرمي حصاة على نافذة الغرفة التي تنام فيها الأختان. فترفعان قضبان الحديد التي فكّتاها، وتقفزان منها إلى بستان البرتقال. لولاه لما استمتعن بالليل. فالليل للفتيات نوم أو سهر وسط مجموعة. هاهن يذقن سحر الليل مع شاب في عمرهما. أنشدوا تحت شجر البرتقال شعر الخيام بالعربية والفارسية، وتأملوا القمر، وثرثروا، استمتعوا بسعادة لاتسمى. عم تحدثوا؟ يتذكر فقط أن كلا منهم حكى عما يشعر به في تلك الليلة، ونشر روحه صافية كثيرة العواطف دون أحداث كبرى في الحياة. وأنهم ضحكوا وكان سعيدا كأنه يركض في مرج. وانساق قيس وراء عيني بهية وشقرة غولروخ.

من روى كل ذلك لهوية؟ من تبين أنه اختار غولروخ؟ قالت له: إذا سمعت أن العاهرة غولروخ تقابلك سأكسر رجلها وأعيدها إلى ايران! هاهي إذن هوية حاكمة العدسية! وهو إذن سجينها! في حياته كلها لم يكبح غضبه، لكنه كبحه يومذاك كي يحمي غولروخ. رد: لاتسعى إلي، أنا الذي أقصدها! قالت: لاتدافع عنها! ليست عذراء! لسنا راضين أيضا عن أخيها! يقامر ويشرب الخمر في الشونة!

روى قيس لغولروخ حديث هوية. فارتجفت من الخوف: تستطيع أن تعيدنا إلى ايران! سألها: والقصة الأخرى؟ أحبها ثري من أثرياء العدسية وعدها بالزواج. لم يف بوعده. أسرتها أفقر سكان العدسية وهو من أغناها. لكن كيف تعرف هوية تلك التفاصيل؟!

خيل لقيس في البداية أنه يحب بهية، الحنطية، ذات العينين الكبيرتين السوداوين. لكنه تبين أنه يحب غولروخ. بررت انصرافه إليها معرفتها الخيام، ودروس الفارسية! بدأ يقرأ عمر الخيام بلغته معها. وبالخيام اكتمل زمن العدسية. ترنم مع غولروخ بالرباعيات التي سيقرأها فيما بعد بترجمة فيتزجيرالد إلى الإنكليزية. تعلم الفارسية، كما تعلم بعدها اللغات الأخرى، من النساء! صدق من قال، اللغة تحت عباءة المرأة! تعرف المرأة دقائقها، تفاصيلها، خفاياها ونكهتها. فتعلّم الشاب كما تعلم الطفل. لاتهب المرأة الحياة فقط! تهب النطق، الوعي، رموز الأشياء، أسماءها وصفاتها، جوهرها! تفتح كف الولد والرجل وتضع فيها الخيط ليطلق طائرته ويرتفع بها!.

صارت غولروخ تخرج إليه وتحرسهما بهية. هل توجد شجرة ليمون لم يجلس تحتها في القمر وفي العتمة، والزهر يعبق في الجو، والهواء نفسه يفوح! آه ياشجر البرتقال! هل كنت ترش عطرك على امرأة معينة أم على جنس النساء المقدس، آلهة البشر القديمة، وكل من عاش من النساء ومن لم يأت بعد منهن؟!

ربما أخذته غولروخ لأنها بيضاء شقراء. فهل كان ذلك حبا؟ أم كان دهشة التعرف إلى المرأة، افتتانا يجمع شعر الخيام وعبق البيارات وأفراح الحياة المستترة، ويحاول أن يمتد منها إلى المستحيل ويستشف المجهول الممكن؟ قالت له غولروخ والقمر يفوح بشذى الزهر: اذهب إلى محفل عمان لتصبح بهائيا كي نتزوج! يصبح بهائيا؟ تحدثا مرة أخرى عن البهائية. قيس معجب بمكانة التعليم عند البهائيين. معجب بنشاطهم وتضامنهم. لكنه مايزال يبحث في فكرهم. أوصلت له غولروخ كتبهم لكنها لم تعطه قرآنهم. كان الحوار عن البهائية مخلوطا بالحب. أراد قيس أن يسألها عن شوقي أفندي فوضعت كفها على فمه. سألها: لماذا؟ قالت: سيسمعك! سألها: يسمعني؟ كيف؟ قالت: يعرف كل شيء، ويسمع كل شيء! قال لها: إذا كان يسمعني فهو يعرف إذن أننا معا الآن؟ يعرف أني أحبك؟ هس! لاتكفر! أكفر؟ بمن؟ بدأت البهائية تنزلق عن كتفيه قبل أن يرتدي رداءها. لكن ظلت أمام عينيه المستوطنة الصغيرة الخضراء التي أنجزها البهائيون.

نزل المطر في ذلك اليوم. فجرّته غولروخ إلى الإسطبل. تحسسا في الظلمة قناة التبن التي يأكل منها البقر. واختلط التبن بجسميهما. دامت تلك السعادة حتى سمعت خطوات أخيها عائدا من الشونة. صادف المطر فساق البقرات إلى الإسطبل. وضعت غولروخ كفها على فم قيس! لا، لم يشعر بهما! أدخل أخوها البقر في الظلمة، أغلق الباب وخرج. وعنذئذ انفجر توترهما ضحكا. ضحكا، ضحكا. قد يخطر لبقرة أن تأكل التبن من القناة! فهل تعضهما؟ افترقا تلك الليلة في صعوبة. فهسهسة التبن وصوت المطر ورباعيات الخيام اختلطت بسعادتهما. نظفت غولروخ نفسها من التبن تحت شجرة برتقال ثم نقرت الزجاج لأختها فرفعت لها قضبان النافذة. وتمهل قيس في طريقه إلى غرفته. يعرف أن الرجل الهرم الذي يسكن معه في البناء نفسه سيفتح الباب منذ يسمع خطوته على الدرج، وسينظر إليه نظرة تقول إنه يعرف مغامرته. كان ذلك الرجل دون عمل، ينفق عليه المجمع البهائي. عاد قيس ببعض القش على شعره وقميصه، جمعها كما يجمع زهر البرية وصفّها على طاولته.

بعد تلك الليلة قالت له غولروخ: يبدو أني حامل! لم يكن في كلماتها أسى. لايزال الشباب في أوله، والمدى أمام العينين! هل كانت تخمّن أنها ستهاجر وستصبح محامية مشهورة في نيويورك؟! رتبت هي موعدا مع طبيب في إربد وأخبرت قيسا. طبعا، لن يرافقها إلى الطبيب! سيلتقي بها بعد الإجهاض. التقى بها في ظاهر البلد. مشيا وذراعه في ذراعها. ثم ذهبا إلى مصور صورهما معا. هبت الخمسينيات على كل شيء، فتّحت العلاقات بين الشباب والشابات. لم يستطع التزمت أن يلجم العشاق، أو يغلق المساقي والمقاهي. كانت تلك سنوات الحلم للأفراد وللشعوب! فشلت المظاهرات أحيانا، طوقت أحيانا، لكن روح الزمن خفقت في الشوارع والمدن والبيوت وفي علاقات الشباب.

بعد خروج قيس من العدسية زار مرات غولروخ. انتظره سائق التاكسي في الشونة حتى الساعة الثانية في الليل. لكن هوية هي التي استطاعت أن تتبعه إلى بلده، وتستعيده أحيانا. كانت الأقوى والأغنى! فمن أحب منهما؟ لعله أحب جميع النساء اللواتي عرفهن. استبقى من كل منهن ذكرى جميلة. كان محظوظا بالنساء، كما تنبأت له الغجرية على شاطئ بحيرة طبرية! وكان الفراق في حياته قدرا، كاللقاء. ينهي العلاقة، لكنه لايطوي الذكرى. لم يقل كالرجال: لماذا سلمتني نفسها؟ قال: أحبتني! لم يقل: أريد أن آخذ منها! قال: أريد أن أعطيها! وكان يستمتع وهو يعطي السعادة لنسائه ويفتتن بذلك. فتميز عن رجال الشرق الذين يدينون المرأة التي يأخذونها. ويتصورون أنهم قنصوها. لكنه مثلهم قرر بينه وبين نفسه أنه يجب أن يكون أول رجل وآخر رجل تعرفه المرأة التي سيتزوجها.

قبل حرب 1967 بستة أشهر تقريبا، قرر البهائيون الهجرة من العدسية باعوا أملاكهم وهاجر بعضهم إلى أمريكا. هاجرت غولروخ إلى نيويورك. خلال الحرب ركز القصف على بيوت العدسية المبنية من الحجر الأسود. فلم يبق من بيت بهية وغولروخ سوى مدخل البيت الداخلي وإلى جانبه النخلتان وسط بستان الحمضيات، والمدخل الخارجي وقطعتان من السور على جانبيه، حيث رأى قيس غولروخ أول مرة. بقي سليما بيت هوية، ومدرسة الذكور ومدرسة البنات وبعض البيوت الأخرى. بقي من البيت الذي سكن فيه قيس جدار. وبساتين الحمضيات.

يأتي البهائيون اليوم من محفلهم الكبير في حيفا ليزورا العدسية. من أمريكا يأتي بعض من عاشوا في العدسية. لكن غولروخ لم تأت أبدا. يملك العدسية الآن بيت واكد بحق الشفعة. يستقبلون الزوار في البناء الذي كان مدرسة للبنات ومحفلا بهائيا. ويروون لهم مصائر سكانها القدماء. رووا لقيس: توفيت بهية، سيدة العدسية، وتزوج زوجها امرأة أخرى، ودرست بنتاها الموسيقى في ايطاليا وبقيتا هناك. أصبحت غولروخ محامية مشهورة وغنية. وهاجرت لور إلى أمريكا.

وصل قيس بعد أربعين سنة، كالزوار إلى العدسية. كان الربيع يفرش الجبال بخضرة رقيقة مرقشة بأزهار "زر الذهب" الصفراء. أثار فيه جمال الجبال طول الطريق بهجة تختلط بالدهشة. في هذه الأمكنة مسارات حياته! انحدرت السيارة في طرقات جديدة. هاهو الآن في منطقة حدودية! قف! جوازات السفر! فتش الجنود صندوق السيارة. ثم: سر! في مدخل العدسية مخفر آخر، فالعدسية تلاصق الأرض المحتلة. سأله المخفر: إلى أين؟ واستبقى عنده جواز سفره ضمانة لعودته! يقول أراغون: لايوجد حب سعيد! لكن هذا الحب المخلوط بالحزن غير ذلك!

تفرج على العدسية، وهتف: ياللجمال! هذه هي القرية الحلم! البيوت من حجر البلد الأسود. تحت أشجار الكينا الباسقة على حافة الطريق ظل كثيف ومجرى نهر جف. مدى من أشجار الحمضيات! مدى من الهدوء والنضرة! حياة بعيدة عن حضارة الإسمنت. هاجعة عند الحدود بين مخفرين. في المخفر الأول جوازك رهينة، وبعد المخفر الثاني يمنع العبور: الأرض المحتلة!

خيل لقيس أن ليلى معه، يكشف لها صباه كي تكون قريبة منه يتحادثان كزميلين، يبحث معها عن بيوت محبوباته القديمات وأصحابه. ويضع على كفها تلك القطعة من عمره. فرحه بأن قرية بقيت كما كانت في زمن يتبدل وينزلق فيه كل شيء، وتعاد فيه حتى صياغة الخرائط! ياللنظافة والجمال! ياللحضارة! جلس على جذوع الكينا الضخمة وأصغى لتغريد شحرور. وعندما ابتعد الشحرور نهض ليتجول. لم يتبدل الصالون الواسع في مدرسة البنات. تسرب الضوء الواهن من نوافذه الطويلة، ودثرته الرطوبة. كم يناسب هذا النمط من البناء بيئته. تتقدم بيت هوية ذا الحجر الأسود الدرجات نفسها! غطى العشب بوابة مزرعة غولروخ وبانت منه قطعة حديد مزخرف. لكن مدخل بيتها وسط البستان يجذب النظر: مدخل من الحجر إلى جانبه نخلتان باسقتان، مدخل إلى لاشيء! كأن البيت تبدد في الهواء! بقيت الإشارة والذكرى وسط أشجار الحمضيات! من سياج بيت بهية قطف قيس غصن جهنمية حمراء سيجففها ليقدمها لليلى يوم يلتقيان. وستقول له شكرا ياقيس! سأحتفظ بهذه الأزهار من بيت حبيبة قديمة، من قرية سنوات الشباب!

قال قيس لأصحابه في ذلك المساء: نتهم أحيانا بأن ذكرياتنا عزيزة علينا لذلك تصور لنا البلاد أجمل مما كانت حقيقة! لا! كانت الدنيا نظيفة وخضراء أكثر مما هي اليوم. في ذلك الزمان كانت الرغبة بالعلم والجدة جارفة، دون أن تقتلع التراث الجميل. كان الناس أكثر رحابة وتسامحا، وأقل تزمتا. كان الوقت للحب والغناء وتذوق الحياة. من يسهر اليوم في القمر تحت شجر الكينا ويغني "سجى الليل"؟

لور، المعلمة في مدرسة البنات في العدسية، في عمر قيس. بيضاء، شقراء، رائقة، ناعمة. غرفتها في الطابق الأول خلف القاعة الواسعة، تحت المحفل البهائي. تحيط بالمدرسة أشجار البرتقال والليمون واليوسف أفندي. في منتصف المسافة تقريبا بينها وبين مدرسة الذكور في الجهة الشمالية أشجار الكينا الباسقة حيث تخيم مصلحة المياه حول النهر. في غرفة لور فونوغراف و"كوانات". تستطيع لور براتبها السخي من البهائيين في العدسية أن تساعد أهلها، وتشتري أسطوانات، وأن تحلم. هل يساعدها قيس على الحلم؟ رأته أول مرة ماشيا تحت أشجار الكينا الباسقة. في المرة الثانية رأت تلك القامة الرشيقة أمامها عند باب المدرسة. شعرت أنه قاس قامتها بقامته. فاحمر وجهها وخفضت عينيها، وهمست لنفسها: احمني يارب من الحب! تعرف أن هوية تهواه! من يمنع نفسه عن حبه؟! شاب في العشرين، لاتسنده عشيرة أو غنى، لكنه يخفق معتدا بنفسه، وينشد الشعر.

صادفته مرة أخرى أمام مدرستها. صادفته؟ دعاها لتمشي معه. ارتعشت لكنها قالت لنفسها: نمشي في الضوء! ثم زارها بعد الدروس وتفرج على فونوغرافها وكواناتها، وأسمعته بيتهوفن. مشت مرة في الدرب مبتعدة بين أشجار الليمون والبرتقال، واجفة القلب. شعرت بأنها ستصادفه. وصادفته. مشيا معا والعتمة تهبط. كان فرحا بلقائها؟ كان متوهجا. حكى لها عن زمن الحضارة العظيم، تقمص شعراء الماضي فكأنه عمر بن أبي ربيعة، وقيس ليلى، والأحنف. حكى لها عن سلاّمة المظلومة التي لم ينسب إليها القسّ رغم مافعلت بناسك متعبد! التفتت إليه. أحقا يستطيع أن يعيش حياتهم؟ أنشد أبياتهم المؤثرة، ولحقهم في مصائرهم. كاد يبكيها على عمر بن أبي ربيعة. فصرخت: نفوه لأنه تغزل بامرأة؟! قال لها: انتبهي! مع ذلك كان زمنه زمن الشعراء العشاق، كان الحب علنيا، وفي المدينة كانت مجالس الغناء!

مدت لور كفيها فلفحتهما النار التي تجعله عاشقا طائرا. قالت له وهما يمشيان بين أشجار البرتقال: لم أكن أحب عمر بن أبي ربيعة لأنه تنقل بين النساء! مست قلبه رقتها وحلمها بالحب، فأنشد لها شعر الأحنف:

نام من أهدى لي الأرقا مستريحا زادني قلقا

كان لي قلب أعيش به فاصطلى بالحب فاحترقا

أنا لم أرزق مودتكم إنما للعبد مارزقا

هل يضع القصيدة على كفها كي ترددها إذا أرقت؟ سألته بينها وبين نفسها: أنت ياقيس، من منهم؟ عمر بن أبي ربيع الهائم في النساء؟ أم قيس ليلى الذي مات من الهوى؟ أم الأحنف الذي لم يعشق إلا حبيبة واحدة؟ هل سمع همسها؟ استدار إليها وأنشد:

إن المحبين قوم بين أعينهم وسم من الحب لايخفى على أحد

أجابها؟! عاشق، فمن المعشوقة؟ قرب شجرة برتقال خيل إليها أنه عانقها. أغمضت عينيها وفاح الزهر. قال: يفوح زهر البرتقال في الليالي المقمرة أكثر مما يفوح في الليالي المعتمة! خمنت أنه يسهر في الليالي المقمرة مع أخريات. رفعت رأسها نحو القمر، وهمست لنفسها: يكفي أننا الآن معا، وفي الدنيا زهر البرتقال وهذا القمر! وفي ألم ناعم تورد في قلبها حب رائق يغفر لقيس أن يعشق غولروخ تحت شجرة برتقال. ونسيت هوية. تبحثين يالور عن مبرر للذل؟ لو عانقها لاستكانت بين ذراعيه وأصغت لحركة ذراعيه على ظهرها ولحرارة شفتيه على وجهها. ولشدته إلى صدرها، ولمست بكفها ظهره لتشعر بجسمه كله! ولتساءل: تودعه؟! ولأبعدها عنه برهة وتأملها مشفقا. سيراها غدا وبعد غد! أين المهرب منه؟! نظرت إليه صامتة. لايفهم أنها تقص هذه البرهة عن كل ماقبلها ومابعدها! شغله بريق القمر على بشرتها فقال لنفسه: فيها شيء ليس فيهن! وقالت لنفسها: يرحل المحب أحيانا ياقيس، يودع حبيبه وهو بين يديه! أمس جلست قرب النافذة، تنوس بين متعة الاستسلام لحبه، وبين الأسى لأنها ليست إلا واحدة ممن يعرف. وعندئذ مر الشحرور الذي يمر كل يوم. استمعت إليه. وقالت لنفسها: لايغرد الشحرور إلا حرا! هذه السماء الرحبة فضاء قيس!

هل ماتزال لور قريبة من المراهقة؟ رفعت رأسها إلى القمر. هذه اللحظة المدهشة عابرة فلتمسك بها! أليس غريبا أنها لن تفكر في أن الحياة ومض، عندما ستصبح زوجة رجل أعمال غني في أمريكا، والحياة تقترب من مغربها، وتفكر في ذلك الآن؟

في غرفة لور، صار قيس يسمع موسيقاها، ويقرأ لها شعرا. هل انتبه يومذاك إلى أوجه الإنسان المتنوعة، الشفافة والجامحة، وهو يستمتع بصداقة صافية في غرفة لور، وبحب متوهج في بستان غولروخ؟ فيعود رائقا وهو يستمع إلى خطواته على الطريق بين مدرسة البنات وبين مخيم العاملين في مصلحة المياه، ويعود مرتويا سعيدا من بستان غولروخ. تساءل قيس: للور أيضا وجه آخر يشبه هوية؟! تستمتع بسطوة حلاوتها! يحمل لها رجال العدسية صناديق الفواكه من مزارعهم، ويدعونها إلى بيوتهم، ويسألها الذاهبون منهم إلى عمان أو إربد، ماذا تريدين من هناك؟ واستعاد كلمات هوية: تريد لور أن تسحر رجال البهائيين!

بعد الاحتفال الذي حضره عجاج نويهض وأنشد فيه قيس شعرا، عاد قيس مع لور إلى غرفتها. وجلسا إلى أمها التي تزورها. استمعوا إلى الكوانات صامتين. شعرت لور بإعجاب أمها بقيس، كأنها تلمس بأصابعها المخمل. وفهمت أن قيسا سيبقى زمنا وسط أسرتها كبركة ماء وسط بيت شامي.

خرج قيس من غرفة لور نشوان بذلك اليوم. به شوق لأن يعيش قرنا من الزمان، ومستعد أن يموت في تلك البرهة نفسها. كان صاحيا كأن الليل في أوله. لكنه تساءل: هل يسكره عبق زهر البرتقال؟ عبر السكون إلى صوت رياض يغني "سجى الليل" وانسكبت على خديه دموع. مسحها وهو يقترب من مخيم مصلحة المياه. جلس مع الساهرين. تناولوا من الماء زجاجة نبيذ يبردونها وسكبوا له قدحا. شرب، ورافق المغني بصوته الرخيم، وتأخر المغني عنه حينا ليبقى فقط صوت قيس تحت أشجار الكينا يتسرب في الليل كشعاع القمر. على بعد خطوتين كانت غولروخ ساهرة في غرفتها تنتظر أن يرمي على النافذة حجرا صغيرا، لتنزل من النافذة إليه!

في الطريق إلى غرفته مر قيس ببستان الفتاتين. كان القمر في السماء وعلى أشجار البرتقال والسياج والنخلتين قرب مدخل البيت. بدت زخارف حديد السياج واضحة في ضوء القمر. لكنه عبر البستان، ومشى وظهره إلى القمر. ثم التفت، وعاد. عبر السياج والبستان. وقف في ظل شجرة برتقال ورمى حجرا على النافذة فارتفعت. كيف يستطيع أن يميز بين حبه النساء وبين حبه نفسه، والحياة، وهذه القرية، وهذه الدنيا؟ آه لايستطيع! ليس حبه المرأة إلا تجلي هذا الحب المترامي الأطراف! لو توجد امرأة تستطيع أن تجمع له النساء والدنيا!

كان الاحتفال الذي أقيم في ذلك اليوم في العدسية براقا. حضره عجاج نويهض مدير الإذاعة، الحنطي، المهيب، المقرب من الأمير. في القاعة الواسعة في مدرسة البنات، أمام غرفة لور، وقف قيس وألقى قصيدة. فنهض عجاج نويهض إليه بقامته الضخمة وعانقه: اكتب للإذاعة كل أسبوع! عدني بذلك! أخذه من يده وكانت لور جالسة بين المجموعة. في جريدة ذلك اليوم نشرت قصيدة قيس وفي أعلاها إهداء: إلى لور! تناول عجاج نويهض الجريدة وقرأ بيتا من قصيدة قيس:

أنا النسر المحلق لست أرضى بتحليق على غير الأعالي

وقال: لايمكن أن تقال هذه القصيدة إلا في هذا المكان الجميل، ولايمكن أن تكون إلا لهذه الآنسة الجميلة! فاحمر وجه لور، واصفر وجه هوية. في تلك البرهة حسمت هوية قرارها؟

قرأت أم لور قصيدة قيس جالسة إلى طاولة بنتها. يالهذا الشاب الرائع! يالقوامه الممشوق، ورشاقة إلقائه، واعتداده بنفسه! فرح بشبابه، بجماله، بشعره، بأنه محبوب، بأنه محب! كالطفل المدلل، يعرف أنه معشوق! وبدا لها أنه المثل الذي يتعلق به الإنسان، والحقيقة التي تجسد الرجل للنساء. وبعين امرأة في الخمسين رأت كرمه بنفسه، بقلبه وعواطفه، وبماله! وكادت تقول له: لاتستنفد روحك وشبابك! لكنها انبهرت بأنه يسكب نفسه على البرهة التي يعيش فيها، غير مبال بما بعدها!

تعيش أم لور في بيت صغير في إربد: غرفة نوم وصالة ومطبخ وحمام، لها ولبنتيها وابنيها. كانت مثل بنتها لور، شقراء بيضاء، لكنها ممتلئة. فهل قيس هو الذي مد نظرتها لتطال سعة كالعدسية؟ فكتبت مقالة عن التفاؤل للمجلة التي تصدرها المدرسة الثانوية في إربد: "ابتعد عن التكلف والتلفيق واتبع البساطة والراحة تجد كل اللذة في الحياة". هل كانت تعبّر دون بوح عن حبها قيسا وبنتها لور والعدسية وتلك الأمسية هناك؟ أم عن شفافية أمّ مثقفة وفقيرة؟

زارت هوية مدرسة البنات وأنّبت لور: لست ناجحة في التدريس! انتقمت من تلك الأمسية مع عجاج نويهض؟ قال قيس لهوية في ذلك المساء: فكري في أسرتها! تعيش على راتبها! لكن هوية أصرت: هذه آخر سنوات لور في العدسية! لكن لور التي تحب الشعر والموسيقى تستطيع الحزن ولاتستطيع الحقد. قرب النافذة كتبت مقالة عن العدسية لمجلة إربد الثانوية: "بقعة من الأرض غناء بأشجارها ومياهها. وحي من الخيال يصدح به الشعر والفن. من الوحدة الأليمة التي تصقل النفس وتهذبها. جو من الهدوء والسكون العميق يثير المشاعر الدفينة ويزيل مرارة العيش، تلك هي العدسية.. إن في علو أشجارها لعظمة الحياة والكون. يؤثر ويأخذ بلبك تناسق مزروعاتها وأزهارها اليافعة. يؤنسك خرير مياهها المتدفقة بين نهرين عظيمين يضمان تلك القرية هما اليرموك والأردن.

إن في نظافة مبانيها وحقولها الخضراء المديدة مايجعلك تكبر أهلها ويدفعك لتقتبس أسلوبهم. بيوتهم مبنية على أحدث طراز ومفروشاتها منسقة بترتيب وأناقة. تنال من اللطف والكرم والعناية منهم ماينسيك الحسد والأنانية اللتين تطغيان على البشرية بأكملها.. إن في كثرة مواشيهم مايوفر عليهم شراء الألبان واللحوم من الخارج. وتتوفر لديهم جميع اللوازم التي يحتاجها الإنسان في كل حين من علاج وسيارة وهاتف ومذياع في كل بيت. وقلما تجد أحدهم يلجأ إلى ملذات الحياة التافهة من مسكر أو ميسر أو لهو وغيره".

خبأت قيسا يالور؟ لم تذكريه! لكنه هناك قرب أشجار البرتقال! يمشي نحيلا ممشوقا تحت أشجار الكينا الباسقة كما رأيته أول مرة! وهو هناك قرب الفونوغراف في غرفتك يستمع معك إلى بيتهوفن. "جلست أستمع لبعض المتنوعات من القطع الموسيقية، وكان الجو هادئا حالما، فحلقت في سماء خيالي واستسلمت لخواطري ونزعات عقلي الباطن، الذي قادني دون أن أدري في رحلة طويلة ملذة، مارجعت منها إلا شاردة اللب متوترة الأعصاب، إلى عالم الحقيقة المرة. وجدتني في كوخ صغير وسط غابة من غابات ألمانيا، رأسي مخبأ بين يدي وإذا بي أسمع صوتا شجيا خلفي.." قالت لقيس: أحب بيتهوفن! أحلم بأنه يحدثني! لاتعرف أن بنتيّ هوية هما اللتان ستدرسان الموسيقى في ايطاليا وستحادثان بيتهوفن! للور الفقيرة الكوانات والحلم!

في إربد أصبح قيس ابن الأسرة. عرف أخت لور الصغيرة سوسن، وأخاها وليم. سوسن، شعر فاحم طويل، بياض صاف، عينان سوداوان. وليم يجلس في حضن قيس. تمد سوسن رأسها من السرير وتضعه على حضنه فيسيل شعرها على ركبتيه. تتأوه من الحمى. ويهبّ قيس إلى صديقه الطبيب. تنظر أم لور إليه. لايلام أولادها! كيف تميز في حبهم له بين التعلق بالمثل وبين العشق؟! زارته لور في بيته، وجلست مع أهله. وفي اللحظة التي كانت فيها موجودة لم ير قيس سواها. قال له أبوه بعد انصرافها: الحقني إلى المخزن! هناك سأله: ستتزوجها؟ رد قيس دهشا: لا، يابا! لماذا تسألني؟ أبوه الذي فهمه منذ طفولته وعرضه أمام أصدقائه فخورا به: احك قصة أبي زيد الهلالي! اقرأ سورة مريم! غن سجى الليل! انشد الشعر.. أبوه الذي فهم انتحاره، لايفهمه الآن! لايفهم أن المرأة الموجودة أمام قيس الآن هي التي تستهويه، لكنها ليست معشوقته! قيس مبهور فقط بأجمل المخلوقات وأكملها: المرأة! يتمنى أن يعرف جوهرها الموزع بين النساء!

كان قيس تحت سماء دمشق عندما رحلت أسرة لور إلى الولايات المتحدة. هل كانت الحياة في البلد ضيقة إلى ذلك الحد يالور؟ هل قلت مايقول الإنسان أحيانا: لم يبق شيء، وطويت الذكرى في حقائبك وأدرت ظهرك؟ وهل خمنت أن قيسا سيعود بعد نصف قرن إلى العدسية ويمشي خطواته نفسها إلى غرفتك، ويبحث عن عبق البرتقال، ويستعيد صوتك ولون شعرك وموسيقى كواناتك؟ ثم يعبر الطريق إلى أشجار الكينا الباسقة حيث رأيته أول مرة، ويمر ببيت هوية، ويتوقف عند مابقي من بيت بهية وغولروخ بعد القصف الإسرائيلي؟ وذات مساء سيجد المجلة التي كانت تنشرها ثانوية إربد ويقرأ مقالتك عن العدسية؟

لم يفقد قيس هوية فقط. فقد أيضا لور وأسرتها. رحلت إلى أمريكا. كما رحلت غولروخ إلى أمريكا فيما بعد. هل كانت العزيزات على قيس من "الأدمغة" التي امتصتها الولايات المتحدة، عدوته! فكان كمن يوزع ثماره على أعدائه وهو يبشر بمشروعه المناقض!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:11 AM
- 18 -


لاتنجد البهائية العرب من نكبة فلسطين! لاتقنع قيسا ولاترويه! يبدأ من نكبة فلسطين. جرح من عاصرها، ومقياس من عاش نتائجها. لم ينفد بعد المال الذي كسبه من العدسية! حمل من مكتبة صقر رزمة من الكتب الدينية والتاريخية، والكتب المترجمة، والقصص، والشعر. يبحث عن رؤية يقابل بها البهائية؟ يبحث عما يروي روحه العطشى إلى محور عظيم يعيش به! أمتعه الطبري. أمسك بمحاور الخلاف بين الاتجاهات القديمة. وأذهلته رحابة الحوار بين الرسول محمد وبين النساء والرجال. رفع رأسه عن الكتاب وقال: قدرتنا على فهم النص تتناسب مع ثقافتنا! لذلك يجهل كثير من المتدينين جوهر الدين! يخاطب الإسلام العقل! أبطل عمر الحدّ في سنة القحط لأنه فهم روح النص! عاد قيس إلى القرآن مدققا، وترنم بسورة مريم، وسيظل دائما يتذوقها في متعة. وأدهشه حتى غنى عصور الانحطاط في الحضارة العربية! وقرر: كان الانحطاط سياسيا لكن صناع الثقافة والحضارة وصلوا إلى قممهم!

دكان الحلاق كمكتبة صقر، من أماكن اللقاء بين الشباب. لكن قيسا تبين فيما بعد، عندما حاور الحلاق أن الآخرين سبقوه إليه. فجعلوه يراقب من يرتاد دكانه! ياللمسافة إذن بين الفضاء الذي يتجول فيه قيس وبين هذا الواقع الصغير! ولكن هل يلغي مكان اللقاء؟ بقي يعبر الطريق نفسه إلى الحلاق. يمر بدكان النابلسي، فيدعوه: تفضل ياابني! يجلس قليلا على الكرسي أمام الدكان، يتحدث عما يقرأه، ويشرب كأسا من اللبن. كان النابلسي جميل الطلعة، نظيفا، يبيع الألبان. عرض على قيس ماقاله له ابن أخيه، فرد قيس ووضح وفسر، فقال النابلسي: فهمت أنت، ياابني، الجوهر الذي لم يفهمه ابن أخي!

قرأ قيس حتى الفجر. ورأى نفسه في نومه في مغارة بابها كالقوس، وهو قاعد في الصدر. دخل رجلان وسيمان سأله أحدهما: ألم تعرفني؟ أنا محمد بن عبد الله، وهذا صديقي أبو بكر الصديق. أفاق قيس مرتعشا من الرهبة. في النهار استوقفه النابلسي. فروى قيس له منامه. جمد الرجل. رجاه: ارو لي الحلم مرة أخرى! رواه. فوضع الرجل يده على كتف قيس وقبّله: يابنيّي، يستطيع الشيطان أن يتقمص من الشخصيات ماشاء إلا شخصية محمد. جاءك حقا سيدنا محمد في المنام! سيرى مثيل تلك الأحلام كثير من الشباب بعد قيس. وسيقول لهم من حولهم الكلمات نفسها. فروح الباحث عن اليقين تنشغل به في النوم والصحو.

انتشر حلم قيس، وصار النابلسي يسقي قيسا كلما مر به كأسا من اللبن، ويسأله هل رأيت حلما جديدا؟ لكن قيسا انصرف إلى بقية الكتب التي اشتراها. فقرأ عن المعتزلة، وقرأ كتب غوته ونيتشه المترجمة. وبدأ يكتب قصيدة عن الايمان والشك قرأها لأصحابه في دكان الحلاق. كم كان الناس قادرين على حفظ الشعر!

في الليلة التي أنهى فيها قصيدته رأى في الحلم أنه مع صديقه صبري الحمود في غرفته في "المنزل" في صفد. من النافذة التي تطل على وادي الطواحين، بدت لهما جموع من الناس تملأ الطريق والسفح في القرب وفي البعد. نزلا راكضين. سأل: ماهذا؟ فقيل له: لاتعرف ماالخبر؟ مات جبريل اليوم! ورأى أشخاصا يحملون شرشفا أبيض، إلى مغارة تشبه المغارة التي رآها في منامه الأول. استيقظ مرتعشا. في النهار روى للنابلسي منامه. فأبعد الرجل كرسيه عنه: أعوذ بالله! يابنيّي مات الايمان في قلبك! في يسر ترمي حكمك علي؟ في ذلك المساء تحدث قيس في النادي الثقافي عن سعة العصور الاولى من الحضارة العربية، وفحص الظواهر بمعيار العقل، وبين أن الجهل هو سبب التقصير في فهم الحلاج وفي قتله. وتلا بعض مقاطع من كتاب الشيخ خالد محمد خالد.

استمع الأستاذ عزيز إلى قيس من مكانه في الصف الأول في النادي الثقافي. وبدا له أنه الوحيد من الحاضرين الذي يتابع تأرجح قيس بين اليقين والشك، ويفهم تنقيبه في الكتب. يبحث هذا الشاب عن قضية حياته! فهل يستطيع أن يوقفه في نقطة لاشك بعدها ولابحث؟ كيف يستطيع أن يكسبه؟ سيسلك إلى ذلك المباح وغير المباح!

بعد المحاضرة، أضيف الحلم إلى قصيدة قيس التي أنشدها في دكان الحلاق. فصاغت مجموعة من الرجال عريضة قدمتها للمتصرف تتهم فيها قيسا بأنه يدّعي النبوة. سأله المتصرف: تدعي النبوة؟! رد قيس: لم يخطر على بالي حتى أن أكون قائد حزب! قال المتصرف: لاتتواضع! قبلت أن تكون نائب رئيس النادي الثقافي! نريد القصيدة! القصيدة؟ لم تنشر بعد! لو كنا أصدقاء لقرأتها لك!

غير قيس طريقه إلى دكان الحلاق، فصار يمشي على الطرف الآخر من الطريق. يلمحه النابلسي ويقول: خسرناه! أودى به المعتزلة! وبقي قيس يقرأ الشعر في النادي الثقافي. ويستمع إليه الأستاذ عزيز! هل يتنافسان على الشباب الذين يحضرون الندوة الأسبوعية؟

صفق الأستاذ عزيز لقيس وطلب منه قصيدته "الحرية الحمراء". لم يستوح قيس أمير الشعراء إلا في العنوان! أخذها من قيس ونشرها في مجلته. قيس مشروع كبير للأستاذ عزيز الذي يشكل حزبا جديدا يريده أن يكون قوميا ودينيا يجمع الشباب. قيس متفتح، قارئ، متوقد، متبحر، يحفظ شعر القدماء. تستوقف الأستاذ صفتان فيه: نشاط لاينفد، وموهبة في تقريب من يعرفه! تكسب الحركة إذا جذب إليها قيسا! لكن في قيس دودة البحث! يسعى إلى فهم الأفكار الأخرى! صادق البهائيين، ويصادق اليوم القوميين السوريين ومجموعة من الفلسطينيين والأردنيين تسمى نفسها أنصار السلام! أوحى الأستاذ بالعريضة التي رفعت إلى المتصرف لأنها قد توصله إلى قيس. لكن طريقه المباشر إليه يجب أن يكون الحوار! يعرف الأستاذ زملاء قيس وزملاء أخيه في المدرسة. يشغله الصراع على الشباب بين الماركسيين والإخوان المسلمين والقوميين السوريين والقوميين العرب والبعثيين. الشباب قوة إذا اهتدى! يتفادى عزيز في حواره الوعظ. يقول: أسلوب لايناسب شباب هذه الأيام المسحورين بشعارات الأحزاب. يلاحظ الشباب غنى الفاسدين وفقر الموهوبين ويرغبون في كسر ذلك الواقع، فليقدم لهم الحل! يحتاج الشباب المثل، فليقل لهم هاهي، مستمدة من التراث الوطني! يحتاج الشباب التجمع فليقل لهم هاهو، رابطة الشباب القومي المتدين! يدرك عزيز أن مالديه من الفصاحة والمعلومات أكثر مما لدى محاوريه. فإذا وجد محاوره مستندا إلى منظومة فكرية أخرى جره إلى باب مغلق: النص!

جلس الأستاذ عزيز وسط حلقة من الشباب. قال: شبابنا اليوم حائر لايستبين الطريق، شاك لاتسعفه روح اليقين، متطلع لاتواتيه وسائل الطموح... وللشباب عذره في ذلك فقد نشأ في جو موبوء. فهم الدين على وجه معكوس، وعرفه طقوسا تتلى ورسوما تتعبد. وفهم القومية كرداء فضفاض. وأحاط به مجتمع منحل، رجاله منغمسون في ماديتهم، ملوثون في أفكارهم، طبقة مستبدة تتحكم في طبقات، واقتصاديات متدهورة، وأراض مهملة لاتتعاون فئات الأمة على استغلالها، ومعاملات بنيت على الغش والخداع، وإغفال عناصر الرقي، وتنكب عن طريق المجد السوي، فأورثته كل ذلك الشك القاتل ومن ثم ألحت عليه عوامل اليأس من المحيط الخامل والأمة الغافلة.

ولو نظر الشباب إلى مابين يديه من مقومات المجد لانسربت الطمأنينة إلى جوانبه.. ولن يستطيع أن يطمح إلى مجد أو يرقى إلى عز إلا إذا آمن واعتمد على قادته.. فأزيلوا ياشباب عن القلوب ظلمة الشك في مقدرتكم وهيئوا أنفسكم لتحققوا وعد الله "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض". وإن نكصتم وجبنتم عن رفع مشعل النور فاسمعوا نذير السماء!

في النادي الثقافي قال قيس للأستاذ عزيز: لاتتقدم اوربا علينا وتقتحم بلادنا واقتصادنا لأنها مؤمنة بديننا أو بدينها. انقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء يحسم بالصراع! أرضنا دون مشاريع الري ومدننا دون مصانع كبرى لأننا بلاد اقتسمها الغرب. ردّ هذا القدر عنا يحسم بالصراع! ولذلك توجد أحزاب ومنظمات تتبنى منظومات فكرية وتضع برامج. هذا الواقع هو الذي تموهه ياأستاذنا! وصفت بعض مانعرفه في الواقع الفاسد، لكنك لم تبين الحل!

تأمل عزيز قيسا. هذا الشاب انتصار أو هزيمة لنا في هذا البلد! قال: لاوقت للحوار هنا! سأتصل بك! طلب اللقاء بقيس بعيدا عن النادي والمستمعين. والتقيا في بيت يزيد. هما الآن قطبان في مدينة! عزيز قوة بين مريدين يسحرهم ببلاغته ولغته ومشروعه. وقيس يجر شباب النادي بقصيدته ومسوّدة مشروعه! سيجري حتى الكهول فيما بعد إلى المظاهرة التي يخطب فيها ليستمعوا إليه! لأنه سيصوغ مايستهويهم، وسيبهرهم برشاقته وجرأته! سيصفه الآباء لأبنائهم بعد عقود من السنوات، وهم يحكون كيف كانوا يركضون إلى أي تجمع يدعو إليه. وسيقول أحد أصدقائه بعد أربعة عقود لرجلين من زواره عندما يدخل قيس: أتعرفون من هذا؟ قيس! فينهضان: أنت؟! كنا نتبعك مسحورين، مع أن ذلك كان يعني الضرب أو السجن! كيف سيكون اللقاء بين القطبين؟ عزيز قومي، فقيه، مطلع على التيارات الفكرية، عارف بمشاريع الأحزاب، قارئ دؤوب. وقيس يحفظ القرآن والحديث، ويعجب بالمعتزلة وبالحلاج والمتصوفين. سيقول الفلاحون لمن يردهم عنه: يعرف القرآن أكثر منكم ومنا! وسيقول زملاؤه مازحين: يعرف التاريخ العربي أكثر من المستشرقين!

في الغرفة المغلقة بينهما فقط يزيد، الطالب الشاب، زميل أخي قيس في المدرسة، أحد مريدي الأستاذ. الحوار صريح لاتقيده الضرورات التي تمنع قيسا عن موضوع، أو تمنع اعتراف عزيز باجتهادات السياسيين والمفكرين وبسحر المسرات الدنيوية. يريد عزيز أن يكسب قيسا! لو استطاع لملك داعية إلى حزبه الجديد! لذلك اندفع في مناقشة لايمكن أن يجري مثلها خارج الغرفة. لاعزيز يريد أن تسمعه جماعته، ولاقيس يريد أن يسمعه أصحابه. أحدهما مقابل الآخر، ويزيد بين قمتين. قال عزيز أخيرا: ياابني، كن معي على الأقل لتربح الجنة! ياأستاذي، يمنع ديننا الحنيف أن يمثل الله عبد من عباده! وكيف تعرف أنها لك والعمر مايزال ممتدا للخطأ والصواب؟ لن يستسلم عزيز مع أن الحوار كان يبعد كلا منهما عن الآخر.

عصفت الريح خارج غرفة يزيد. سلخ المطر النافذة. كان الليل قد تجاوز منتصفه. وعوت كلاب بعيدة. نهض عزيز: لم يقنع أحد منا الآخر هذه المرة. لكننا سنلتقي مرة أخرى إذا وافقت. أعترف بأنك مطلع على مايهمني! أتمنى أن أكسبك إلى طريقي! رد قيس: سنلتقي. لكن لاتبحر في الأحلام ياأستاذي!

فتح عزيز الباب فتدفقت الريح ولمع البرق. استعد قيس للخروج بعد عزيز. قال له يزيد: ستذهب في هذه العاصفة؟ فلتبق الليلة هنا! قيس ويزيد في عمر واحد تقريبا، من جيل واحد، أبناء مدينة صغيرة واحدة. لم يتكلم يزيد خلال حوار عزيز وقيس. لكن صوته يلعلع بين الشباب، فيقولون: حامل أختام عزيز! إذا قلنا اللبن أبيض قال أسود!

يمكنك أن تبقى! فكر قيس برهة. وومض البرق في الغرفة. لاتوجد في البلدة طرقات مزفتة. يعود قيس من زياراته عادة محملا بالوحل. ففي أي وحل سيغوص الليلة إذا خرج من بيت يزيد؟! وإذا بقي؟

أضاء الغرفة برق خاطف. وفي البرهة نفسها ومض برق آخر. قال ليزيد: سأبقى! ابتهج يزيد؟

في الغرفة نافذة، كراس، وسرير واحد. لبس يزيد بيجامته، واستلقى في طرف سريره. وخلع قيس قميصه. ومض البرق مرة أخرى في الغرفة. اقترب قيس من يزيد، لمسه، فابتسم يزيد له.

في الكتب القديمة: تروى حكاية رجل أخذ من السبايا "جارية" بعد المعركة. قبل أن يطأها استعيدت منه. في المعركة الثانية لم يترك "الجارية" التي سباها للغد. وطئها خوف أن تستعاد منه! كان الوطء يرسخ الانتصار؟ انتصار من يرسخ في هذه الليلة العاصفة؟ لماذا لايوجد شريكان بل آخذ ومأخوذ؟ يفتل شاربه من يطأ، ويداعب من يختار صبيه! دخل البارودي إلى جمع من الناس بينهم صبي جميل. استحلاه فقبّل الجميع واحدا واحدا حتى وصل إلى الصبي. نفر الصبي منه فقال البارودي: تحملت لأجلك كل هؤلاء البشعين! فضحك الحاضرون. يزور البارودي في حارة قولي في سوقساروجا، رفيقا الذي يعزف على العود، فيضحك أهل الحارة: يستحليه! يترقرق الشعر العربي في الغلمان. تسحر أبا نواس فتاة تحمل الخمر في زي صبي. لكن ذلك بعيد عن الصراع السياسي! ذلك بعيد عن العسكري الأسود الذي وطئ في السجن بعض الإخوان المسلمين. فمشت في دمشق مظاهرة جامعية أدانت تعذيبهم في سجون مصر! في هذه الليلة العاصفة سجل قيس انتصارا على منافسه بالمعايير السائدة في بلده. "كسر عين" خصمه! انتصرت ياقيس؟! لماذا لم تعلن انتصارك إذا كنت تزهو به؟

تأوه يزيد كالفتيات تحت البرق ودقات المطر في الليلة العاصفة. سأله قيس: لازلت مؤمنا بالأستاذ عزيز يايزيد؟ رد يزيد: نعم! ياقيس، هل تعجبك أختي؟ رد قيس: من لاتعجبه! جمالها حديث البلد! قال يزيد: تزوجها إذن! زلزلت روح قيس: تريدني لأختك كي أبقى معك؟! أم معكم؟ منذ هذه الليلة لن يرفع يزيد عينيه إذا صادف قيسا! لكن رسائله ستصل إلى قيس في برهة حاسمة في ظروف أخرى!

بقي ماجرى بين قيس ويزيد سرا. لكن قيسا لم يتساءل: هل كانت تلك الليلة مشروعه فقط أم مشروع يزيد والأستاذ؟ ولم يتساءل أيضا هل يجوز أن يكون الصراع بين المتنافسين دون معايير الفروسية؟

في سأل قيس أباه: مارأيك في يزيد؟ رد أبوه: شاب متبحر في العلم، رغم وقاحته. يمتعه أن يضيّق الايمان كلما وسّعته. اعترف قيس لأبيه فقط بماحدث بينه وبين يزيد. ذهل أبوه ثم أشعل سيجارة: حدث ذلك؟! نعم يابا! ولاأفخر به! تاه أبو قيس بين "زلة" ابنه، وبين فجيعته بيزيد. سأله قيس: غضبت علي؟ بعد زمن أجابه: ليحمك الله من مثلها! كانت عادة يزيد أن يتلو آراءه في مضافة أهله كأنها أحكام قاطعة لاتحتمل المناقشة. وكان تطاوله على الكبار يغضب أبا قيس. انتهى ذلك الزمن يايزيد! قال له أبو قيس وهو ينظر في عينيه: اسمع، قلت لك ذلك غلط! فهمت؟ ذهل يزيد من قسوة أبي قيس عليه. ثم فهمه، فخفض عينيه. رجع أبو قيس إلى بيته مستمتعا بخلاص المضافة من غطرسة يزيد. في برهة انتصاره، فقط، قال لنفسه: أحسنت ياقيس!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:13 AM
- 19 -



مشروع الأستاذ عزيز صغير على قيس الذي يلوب كالشباب منذ نكبة فلسطين متسائلا لماذا ضاعت من العرب أراضيهم وهم كثرة؟ لماذا وقف العالم ضدهم؟ لماذا.. ولماذا .. ولماذا؟ كيف يؤسس مجتمع جديد وقيادات جديدة؟ استعادة مجد العرب؟ كيف؟ لايكفي استيحاء الماضي! بالماضي نقاوم إسرائيل التي تزرع مستوطناتها بآلات حديثة وتبني مدنا معاصرة وتستخدم بنوكا اوربية؟ سيبقى قيس مفتونا بالشعر العربي القديم وشذى القرآن. لكن كيف يفسر كارثة معاصرة بعقل معاصر؟ وبأية معاصرة يقابلها؟ ماالعمل؟

هل يوحي كل زمن بأجوبة كما يوحي بأسئلة؟ هب نسيم من سوريا! وهب من مصر. بيّنت أول مذكرة للقيادة المشتركة أهمية الأردن وصعوبة الجبهة السورية وبعد المصرية. يجب أن تنضم الأردن للقيادة المشتركة. كيف؟ وهل يمكن ألا تهب على الأردن ريح الخمسينيات، وهو استمرار حوران، جنوب سوريا، ونصف عائلاته في الشمال ونصفها في الجنوب؟

في مقهى في عمان عرفه رفيقه فائز بمجموعة من الفلسطينيين. بحث مثل بحثك ياقيس هز عصبة العمل الوطني في فلسطين. نحن مجموعة صغيرة تقاوم استكمال هزيمة العرب بالقواعد العسكرية. نكتب نشرات ونوزعها. ممنوعة طبعا! نقاوم القواعد والأحلاف العسكرية التي يقترحها من خلق إسرائيل! بدأ مشروع سوريا الكبرى من هنا ليفقد سوريا استقلالها! سقط مشروع الهلال الخصيب الذي رعته العراق. والآن يجب أن يسقط حلف بغداد! خلال هذا الصراع يتغير الناس والمجتمع والقيادات. لاقيمة للفرد وحيدا ياقيس، البركة في الجماعة! هل كانت تلك المجموعة تحتاج فردا مثل قيس، ماهرا في خطاب الناس، يجمع حوله جمهور النادي الثقافي في بلده، وأصدقاء من أحزاب واتجاهات متنوعة!

لم يعد العالم مغلقا في صراع لاأفق له. بل أصبح للصراع ناظم تتحرك به المجتمعات من شكل إلى شكل. الإنسان هو صاحب هذا الكون وهو الذي يجب أن يقرر مصير مجتمعه. لكن الإنسان فردا لايبدل الوضع الراهن. تبدله الحركة الواعية التي تقودها الطليعة إلى مجتمع متقدم، فيه حريات سياسية واجتماعية وفكرية، والثقافة فيه حق الناس! هذا مايريده قيس! وجد الجوهر الذي يبحث عنه! هل كان ذلك كله ساذجا وبسيطا؟ لماذا يجب أن تسلك الحقائق الطرق المعقدة؟! سيعرف فيما بعد أكثر مما عرفه الذين حدثوه عن خفايا الأحلاف وعن الحرية والقومية والاشتراكية وتطور المجتمعات البشرية. لكنه اكتفى بالجوهر! وجد قضية يرتمي فيها بروحه كلها. سلم قيس مصيره للخمسينيات المجيدة والدامية. وخيل إليه أن بلده سيتبدل قريبا في حياته نفسها. وبدا له أنه هو نفسه أصبح جديدا، مختلفا. لكنه لن يعرف إلا فيما بعد أن المجتمع الذي رفضه أسس جزءا من روحه وطباعه.

تدفق قيس متحمسا. يريد أن يشرك من حوله باكتشافاته؟ قال في محاضرته: لن يرد الحق إنجيل ولامصحف، جرنا للبؤس الغرب الذي شيد على أشلاء موتانا دويلة السلب. ولن نرده إلا بمقاومتنا قواعده العسكرية! صفق له الجالسون والواقفون. جروه أو جرهم إلى مظاهرة كبيرة تضامنت مع المصريين الذين تظاهروا ضد المعاهدة البريطانية.

يقصدون المعاهدة البريطانية في مصر أم يقصدون المعاهدة البريطانية هنا؟! في اليوم التالي فتشت الشرطة بيت قيس. فوجدت نشرات ضد القواعد العسكرية، وكتاب أندريه جيد "مات الله". مات الله؟ أنت ياقيس إذن أكثر مما نعرف! أنت عضو في حزب سري!

لكن لايوجد "حزب الشعب الديمقراطي" بعد! توجد مجموعات "الديمقراطية" من فلسطينيين لجؤوا بعد سنة 1948، وأردنيين درسوا في الجامعة الأمريكية في بيروت وفي الجامعة السورية في دمشق لمّتهم مقاومة الأحلاف. لايعرفهم قيس، لكنهم سيرتبون الدفاع عنه!

حوكم قيس بعد ثلاثة أشهر مرت عليه في السجن. رئيس المحكمة بهجت التلهوني، الذي صار فيما بعد رئيس وزراء وعضوا في مجلس الأعيان. محاميا الدفاع شفيق رشيد، الذي أصبح فيما بعد وزير عدل ثم سكرتيرا عاما للمحامين العرب. وصلاح الدين ، الفلسطيني. بين يدي القاضي المستمسكات التي ضبطتها الشرطة عند قيس.

قال المحاميان المدافعان عن قيس: أولا، لايمكن أن يكون موكلنا عضوا في حزب الشعب الديمقراطي لأن هذا الحزب غير موجود! ثانيا، كتاب "مات الله"، المستمسك ضد موكلنا، كتبه أندريه جيد ليبيّن فيه أن مثله الأعلى، الاشتراكية، مات. الكتاب إذن ليس كتابا دينيا، وليس دليلا ضد موكلنا، بل معه. يالحرج المحكمة! كان قيس قد أنهى ثلاثة أشهر في السجن. فحكمت عليه المحكمة بالسجن ثلاثة أشهر. نقل من المحكمة إلى السجن مباشرة، سلموه أشياءه وأطلقوه. لكن الشرطة ليست المحكمة! أفلت منها اليوم لكنه لن يفلت غدا! يهددونه؟ لايبالي بهم! وجد محور حياته، ولتعصف العواصف! ولن تكون المرأة، المخلوق الجميل، غير عنصر فقط يواكب هاجسه الكبير، الوطن، حتى يمتنع عليه!

استقبل قيس المهنئين بخروجه من السجن. احتفى به غرباء لايعرفهم. وتفرج عليه شباب كما يتفرجون على بطل. عبق في بيت قيس انتصار بدا كأنه انتصار على حلف بغداد نفسه. تحدث رجل حديثا هادئا عن حركة التحرر الوطني التي تحرك آسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية، وتتوهج في الآرض العربية. قال في نشوة: لكل زمن سمة. وسمة الخمسينيات أنها للأستاذ عزيز مجموعة مريدين، ومشروع حزب، لكنها لنا ولقيس فضاء! اكتشفت الشرطة علاقة شيخ الجامع في قرية قرب إربد بالشيوعيين، وقيل بالبعثيين، فربطت رقبته بلفته وجرته في الشوارع. مع ذلك وقف المختار وقال للشيخ البديل الذي شتم البعثيين والشيوعيين في صلاة الجمعة: اسمع! نصف هذه الضيعة شيوعي ونصفها بعثي، فالزم حدّك! وعندما تحدث الشيخ عن الملائكة التي تنقل الأخبار وقف رجل من المصلين وقال له: تجعل الملائكة كالمخبرين؟! عيب، ياشيخ! سمى السياسيون هذه الأيام زمن نهضة حركة التحرر الوطني! يجب أن يسموها سنوات البريق!

وقت كنت في السجن ياقيس، لم يكن لدى مصطفى الذي أرسل إلى الإتحاد السوفييتي سنة 1917 برقية باسم "الحراثين"، بطاريات راديو. فاخترق الطريق الموحل ودق الباب على جاره: نمت؟ لا! خير؟ يجب أن أسمع الراديو! أضاء جاره الفانوس وجلسا يبحثان عن المحطات. هاهي! استمع الزائر إلى الأخبار. بعد الأخبار نهض لينصرف. سأله صاحب البيت دهشا: أذاعوا ماأتيت لأجله؟ نعم! لاتزال الأحلاف العسكرية معروضة لكنها لم تنتصر! ظنه أتى في الليلة العاصفة ليسمع خبرا عن نجاح ابنه في الشهادة! نسي أن الرعيان يحملون في هذه السنوات الخمسينيات الترانزيستور ليسمعوا الأخبار.

روى رجل آخر أن ابن عم مخلص، الذي فصله عرفان من عصبة التحرر، وسيقتل في السجن فيما بعد، ضابط الشرطة، صادفه في الطريق: اعطني نشرة جماعتك ضد القواعد العسكرية! فرد: تجرؤ؟! قال له الضابط: الله يسامحك! مقبولة منك! خذ هذا الدينار مساعدة لهم! فرد في كبرياء: آخذ منك مساعدة!! وعندئذ روى قيس أن أحد رجال الشرطة الذين فتشوا بيته طلب أخته للزواج "كي يكون لأولاده خال شجاع"!

عند الباب همس الرجل الذي أتى بوفد المهنئين: كن حذرا! نريدك خارج السجن لاداخله! البطولة أيضا أن تحمي نفسك منه! لكنه كلفه بتنظيم مظاهرة يمكن أن توصله إلى السجن. فهمس قيس مرحا: توصل الدروب كلها اليوم إلى هناك!

كشف قيس موهبة منظم ماهر ودقيق. فكانت المظاهرات تتجمع هادرة وتذوب كالملح عندما تتفرق. لكن قيسا وسط حماسته لم يستطع أن يجمع الرحمة إلى الحزم! كلف شابا بأن يبدأ الهتاف في المظاهرة التي ستتجمع وقت خروج المصلين من المسجد ضد القواعد العسكرية. لاحظ الشاب أن الشرطة سبقت المتظاهرين فقدر أن سر المظاهرة أفشي. لم يهتف فلم تتجمع المظاهرة. قال له قيس: هذا جبن! بكى الشاب، وهاجر من البلد.

كانت هوية يومذاك قد أتت من العدسية واستأجرت بيتا تمضي فيه الصيف بعيدا عن حر الغور. تركت بيتها وسلطانها وأتت إليه؟ نام تحت ناموسيتها. ومع ذلك تبينت مسافات أخرى بينهما ليست البعد بين بلدتين. عاد إليها متأخرا. لماذا؟ كان يجمع التواقيع على عريضة ضد القواعد العسكرية والقنابل الذرية! جفلت هوية: هذا كلام شيوعيين! ماعلاقتنا بالقنابل الذرية والقواعد العسكرية؟ هذه شعارات مستوردة! قال لها: كلامك كلام أميركان! أكدت له: الاشتراكية هي الخطر الأكبر علينا، لاالاستعمار! رد: لاأرى غير القواعد العسكرية والمعاهدة البريطانية هنا! رجته: اترك السياسة ياقيس! رد: ليت السياسة تتركنا! هي في كل شيء. كلامك نفسه سياسة! البهائية سياسة! موقف! لم تكمل هوية الحوار معه. ستنتظر يوما آخر.

طلب منها أن توقظه باكرا كي يجد سيارة توصله إلى عمان ليراقب المظاهرة التي لن تنطلق لأن الشاب لم يعطها الإشارة بهتافه. أيقظته. حضرت له الفطور. سألته: أخذت ماوضعته لك تحت المخدة؟ ماذا وضعت له؟ رسالة حب؟ وجد ثلاثين دينارا. فرفع ذراعه وصفعها وخرج. تشتريه؟ رأى مرة أخرى حاكمة العدسية ولم ير المحبة.

في المساء رجع إلى بيته. فوجدها جالسة مع أبيه. كيف اهتدت إلى بيته؟ بعد القهوة انصرفت. وتبين قيس أنها تركت له هدية: ثيابا. قال له أبوه: بهائية! احذرها! لم يتساءل قيس: ماالفرق بين ثلاثين دينارا وبين هدية أغلى منها؟ ولماذا يقبل منها جسمها وروحها ويرفض مالها؟

حسب قيس عودته إليها اعتذارا. ولم يذكر أحدهما الصفعة. قالت له: أنت الآن دون عمل. قدم طلبا للمحفل البهائي لتأخذ حقك. من يعلّم البهائيين له حق الوارث! تحدثه امرأة عن حاجته؟ يرفض ذلك! فهم كل منهما أنه سيترك الآخر. كانا ينتظران فقط سببا خارجا عنهما كأنهما يغاران على حرمة الذكرى. عادت هوية إلى العدسية. وفهم قيس أن زمن العدسية انتهى. فهل يستطيع ألا يودعه؟

نزل إلى الشونة موجوع القلب. اتفق مع سائق تاكسي انتظره في المقهى ومشى إلى العدسية. ليست العدسية بحاكمتها! بل بالمسكينة فيها! عبر الدرب كأنه ذاهب إلى غرفته القديمة. ثم دخل مزرعة غولروخ. رآها من تحت شجرة البرتقال تسند رأسها إلى زجاج النافذة كأنها تبحث عن شيء في العتمة خارجها. هبّ قلبه. تتوقعينني ياوردة؟ وقف يستمتع بها وهي في إطار النافذة، نجمة مضاءة في عتمة البستان. ظل واقفا حتى استدارت لتبتعد فركض إليها. رمى حجرا صغيرا على النافذة، ورآها تسرع في لهفة إليها. فتحتها وتلفتت فخطر له أن يصفّر لها. ثم خرج من الظلام حذرا. لم تتكلم، عانقته صامتة، شدته إليها، وضعت رأسها بين كتفه ورأسه وسكنت زمنا. أنت؟ كم كان اللقاء مبهرا! لكنه لايمكن أن يستمر!

بقيت هوية في العدسية، وعبرت أسرة لور معه بعض سنواته الحاسمة. ليست المسافة فقط، ياهوية، مايقرر الفراق واللقاء! للعدسية في قلبي أشواق! لكن البهائية ابتعدت والعدسية صارت بعيدة!

تابعت أسرة لور قيسا في المحاكمة. استمعت إلى اكتشافاته. وقرأت النشرات التي حملها لها. استهوتها العدالة التي يتحدث عنها كما كان يستهويها الشعر؟ لاتستطيع لور أن تندفع إلى هناك! ستكون من مريديه الصامتين! سالم، أخوها، هو الذي كاد ينجرف بقيس! وكان ذلك في عمان.

اشتغل قيس في دائرة الأراضي في جبل اللويبدة في عمان. وانتقلت لور لتشتغل في عمان. فجمعتهما المصادفة مرة أخرى. بيت لور في طريقه! غرفتان وسط بستان، بينهما شجر وأحواض زهور وفي نهاية البستان حمام. يلمح لور أو أمها أو إخوتها. ينادونه: تفضل! هناك التقى أول مرة بسالم الذي نزل من قطعته ليزور أهله.

تنقل قيس وسالم بين نادي التعاون الذي يلتقي فيه الشيوعيون وبين المنتدى العربي الذي يجتمع فيه البعثيون والقوميون العرب. ثم فضلا المنتدى العربي لأنهما يستطيعان هناك أن يشربا كأسا من البيرة. تعليمات حزب الشعب الديمقراطي، ومنظمة مناهضة القواعد العسكرية، صارمة: لاتقربوا الجيش! أول أسئلتهم: هل لك أقرباء في الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل أنت منتسب للجيش؟ لماذا خطر لقيس إذن أن يحدّث سالماً عن القواعد العسكرية والمعاهدة البريطانية؟ طبعا، يجب أن يحدثه عنها! في الأيام التالية قصده شباب قالوا له: حكى لنا سالم عنك، اعطنا النشرات التي أخذ مثلها منك!

صحا قيس؟ لعل اعتقاله أنقذه من خطر أكبر! مر في طريقه في جبل اللويبدة ببيت لور. تفضل! رد: سأعود! لديه موعد مع خليل الذي سيحمل له منشورات. أتى خليل على دراجة، سلمه حزمة المنشورات وانصرف. على بعد خمسة أمتار رأى الشرطة تنتظره في أسفل الدرج. سلّمه خليل إذن ودليل إدانته في يديه! صرخ قيس: ياناس، خليل جاسوووس، خليل جاسووووس! سمع المارون قيسا، وسمعته لور. سيصل الخبر لمن يجب أن يصل إليه! لكن قيسا لم يعرف أنه حمى نفسه! لم تقدمه الشرطة للمحاكمة، كي تستر خليلا. فنقل دون محاكمة إلى معتقل الجفر. اصرخ ياقيس في الصحراء كما تشاء! أسس هناك مع أصحابك جمهورية، واكتب لها دستورا أيضا! تسخرون؟ ستكون تلك الجمهورية على مدّ العين، وسيكون لها دستور!

بعد الطريق الطويل في سيارة قفزت وترنحت في ليل بارد، احتفل قيس بوصوله سالما إلى معتقل الجفر. وبدا له هدوء الصحراء مخمليا بعد هدير السيارة طول الليل. أليس الممتع أن يرحب المعتقلون بالضيف الجديد؟ قال لمن عانقه: كأنكم تمنيتم حضوري وانتظرتموه! من قال شر البلية مايضحك؟ افتتح ياقيس الأشهر التي ستعيشها هنا، وقصّ الشريط الحرير! وماأكثر ماستقصّ في بلادك الأشرطة الحريرية فيما بعد! رأى قاووشين، واحدا للمحكومين وآخر للمعتقلين، بينهما شريط يتحادثون من خلاله. رأى في أقدام المحكومين سلاسل. فتساءل: في أي عصر نحن؟ رد عليه طبيب معتقل: تكتشف بلدك؟ اكتشفه، لكن لاتبالغ! في اليوم الأول يبدو كل شيء صعبا وغريبا! احتفل بأنك دون سلاسل، مع المعتقلين! صدم قيسا هدوء الطبيب أمير تصور أن ربط إنسان بالسلاسل يجب أن يثير تمردا، إضرابا، عصيانا! قال له الطبيب: لكل تعبير حسابات سياسية دقيقة، كيلا تفشل أو تفجع! تأمله قيس فابتسم الطبيب: ذات يوم كنت مندفعا مثلك. ثم تعلمت الحكمة! سأله قيس: كم عمرك؟ عمره ثلاثون سنة، متخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت. وكم هو وسيم! قال: وصلت ياقيس عشية الاحتفال! غدا يوم الجمعة. يسمح للمحكومين بأن يتغدوا عند المعتقلين. ويمتد احتفال الغداء من الصباح حتى الساعة الرابعة تقريبا. يقرأ المحكومون والمعتقلون ماترجموه أو كتبوه من مقالات وخواطر وشعر وقصة! صدقوا إذن! جمهورية في الصحراء!

انظر! هذا هو عرفان! الرجل الأسطورة أمام قيس! سمع قيس تفاصيل حياته! فهل تستطيع المثل أن تعيش حياة شخصية؟ لاحق لها في حياة عادية! يعرف قيس أن عرفان ولد في بلودان في سورية، ورجع إلى الناصرة سنة 1922 درس حتى الصف الرابع فقط، وترك المدرسة فاشتغل عاملا في صناعة الأحذية. اشترك في انتفاضة البراق 1929 وفي انتفاضة 1936 نفي وحكم بالإقامة الجبرية في الخليل. سجن في سجن عكا. بعد السجن بقي في الإقامة الجبرية في الناصرة. هرب إلى الثوار في الخليل. وقاد الانتفاضة المسلحة في سنة 1939 في منطقة القدس والخليل خلفا لعبد القادر الحسيني الذي جرح. من اشتباكاته مع الإنكليز في كسار وعرطوف وأم الروس كسب شعبيته. جرح ووصل مشيا إلى بغداد. دخل الكلية العسكرية وتخرج منها بعد أشهر. واشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني. بعد فشل الثورة انتقل إلى ايران. رفضته ايران فنقلته السلطة العراقية إلى كردستان، ثم اعتقلته. بعد العفو العام في أواخر 1943 رجع إلى فلسطين وفرضت عليه الإقامة الجبرية.

أتعرف ماالفرق بيننا وبين اوربا ياقيس؟ تعتد اوربا برموزها. وقت يصل الفرد فيها إلى مستوى الرمز تمدّه في الولاء العام وتجعله تراثا وطنيا لتعتد به أمام الهوية الأخرى! نحن، قد نستطيع ذلك عندما نقلّب تراثا قديما. فنعترف للغزالي ولابن رشد بالمكان التاريخي. لكننا في الصراع المعاصر نحبس الخصم الفكري في سجن حقيقي أو معنوي. لانعي أن الوطن يغتني برموزه المتنوعة!

أعد الغداء احتفالا بعيد ميلاد عرفان. كتب قيس متحمسا، مسرعا، متدفقا قصيدة له. ألقاها بصوته الذي يصبح عذبا شجيا وقت يلقي الشعر. كان المعتقلون والمحكومون ملتفين بالحرامات من البرد. فهبّ عليهم دفء من شعر قيس ومن صوته. وقف عرفان، رفع يديه المقيدتين بالسلاسل وعانقه. رفّ قلب قيس. تأثر الحاضرون. دمعت عيون بعضهم. لاشيء يمنع هؤلاء المرتجفين من الصقيع، المحرومين من دفء البيوت، من فوران العواطف وحرارة الايمان! ستمر السنوات والمحكومون يرددون كل يوم لايمكن أن تبقى الدنيا كما هي الآن! فأي حلم مبهر يرون! أية ألوان؟

أصبح قيس نجم المعتقل! زاده حنان رفاقه توهجا. استمتع بالحب وسيظل طول حياته عطشان إليه. ياللشاعر! توقده المحبة، وتطير به! في لقاء المعتقلين والمحكومين التالي أنشد قيس قصيدة طفح فيها حبه على فلسطين حتى الشفقة، فقبل في شهامة أن يبقي فيها، يوم يستعيدها، بعض الغرباء الذين يحبونها، شرط أن يعترفوا بالدولة الفلسطينية الديمقراطية! يحلم؟! ياقيس لم تتبين بعد مشروعهم! لو كان مشروعا صغيرا لما طردوا شعبك! وسيظلون يلاحقونه!

نهض عرفان، عانقه وقال: هذه قصيدة تنضح بالأممية! أطرب قيسا أن يعانقه قائد ويمدحه! أطربه أن يصبح مركز الحب! الاتفاق مع المجموعة مريح ياقيس، والخلاف معها يشقي. لكن الصراع مع الضمير هو التعاسة. لن تهنأ زمنا طويلا بالرضا وستضحي به!

وجد قيس في المعتقل مجتمعا منظما. سيدين له كثير منهم بكشف مالم ينتبه إليه في روحه من خير وشر، وبتقويم طباعه، وبدفء الصداقة في المرض والبرد. تمثل المعتقلين مجموعة تتصل بالحرس، توزع مجموعة الأعمال من طبخ وتنظيف، وتكتب مجموعة دفاتر الثقافة التي يتداولها المعتقلون. قرأ قيس في أحدها مقالة عرفان: "تاريخ الحركة الوطنية في فلسطين". جفل؟ همس: خطأ! شتيرن والأرغون ساهمتا في طرد الاستعمار الإنكليزي من فلسطين؟! لا! خرج الإنكليز من فلسطين لأنهم استكملوا تنفيذ الوطن الصهيوني الذي تعهدوا به في صك الانتداب! قتلت العصابات الصهيونية المتطرفة من العرب أكثر مما قتلت من الإنكليز! حاربت الإنكليز لتخرجهم من فلسطين؟ كان مشروعها الأول أن تخرجني من بلادي! هل يعلن هو الشاب رأيه أمام رجال يكبرونه في العمر وفي التجربة؟ هل الوقت مناسب لذلك؟ مال إلى جاره الطبيب أمير وأشار بإصبعه إلى المقالة: يمكن أن يفهم منها أن الصهيونية حركة تحرير! رد الطبيب: تعبر مقالته عن اجتهاده الخاص! قصة اليساريين الصهيونيين قصة طويلة. بان أنهم كانوا صهيونيين ونكلوا برفاقهم العرب. حوسب بعضهم وأعدم. اقرأ فيما بعد عن بورغر! فهم اولئك اليساريون اليهود الجبهة الشعبية بأنها تعني دعم المعتدلين، وايزمان وبن غوريون، ضد المتطرفين، جابوتنسكي والأرغون! وأكدوا في عنصرية أن العرب غير مؤهلين للقيادة والتنظيم. كانت الحلقة محكمة فالمسؤولون في الاتحاد السوفييتي عن منطقتنا كانوا صهيونيين، مدير جامعة الشرق للكادحين، ومسؤول الصلة بين الجامعة والكومنترن، والذين أعطوا الشهادات بالعرب الفلسطينيين. اعتقل اولئك مع جوزيف برغر في حملة التطهير في الاتحاد السوفييتي. ولتتذكر كلمتي ياقيس: سيدفع ستالين طول عمره ثمن هذا التطهير الذي أبعد به الصهيونيين عن قدر بلاده وعن صلتها ببلادنا! ادرس تلك التناقضات المتلاطمة بعين باحث واسع لتكون استنتاجاتك واسعة. قدّر وزن الوقائع وقدّر أيضا وزن الأوهام! امسك السمة العامة لتحكم حكما صحيحا، كيلا تجنح بالتفصيل الذي لايعبر عن الجوهر. ياقيس، أعترف لك بأن قصيدتك الماضية لم تعجبني! كنت مجروفا بعاطفة خيالية! لاتستطيع أن تمارس قتل أعدائك الذين سرقوا بلدك، لأنك متحضر ورحيم. لكن خيارهم: أنت أو هم! ذكرتني قصيدتك بموضوعات إخوتنا في فلسطين. دعوا إلى دولة عربية حرة تحمى فيها حقوق الأقلية اليهودية. ذلك صحيح نظريا. لكن في الواقع كان اليهود "اليساريون" أولا قلة لاوزن لها، وكانوا ثانيا يرفضون تحديد الهجرة الصهيونية أو منعها، وثالثا يرفضون أن يكونوا أقلية في دولة عربية! تمييز عصبة التحرر بين الصهيونية وبين يهود البلاد صحيح نظريا. لكن الصهيونية كانت تجرف أكثرية اليهود في فلسطين. استند يهود صفد إلى ثقة العرب فيهم واشتروا باسمهم بعض الأراضي للمؤسسة الصهيونية! وضح عرفان سنة 1946 أن كسب الجماهير اليهودية في فلسطين وإبعادها عن الصهيونية ممكن، وأن هذا النضال يجب أن يكون هدفا استراتيجيا للحركة الوطنية العربية. فهل هذه الموضوعة واقعية؟ كانت المنظمة الصهيونية العالمية تبتلع اليهود وتنظّمهم وهي التي تؤمن لهم العمل والسكن. تشهد أحداث مصفاة حيفا على هذه الشبكة من التناقضات. قررت مصير حيفا نفسها المؤسسة العسكرية اليهودية لامجموعة تنادي بدولة فيها حقوق متساوية للعرب واليهود. ولذلك انتبه إلى تحفظ غروميكو في الجمعية العامة وقت قال "إذا" استحالت دولة واحدة.. فدولتان. رأى كديبلوماسي مشكلة لاتحل. مصفاة حيفا مثل على امتناع واحات التفاهم بين العرب واليهود في زمن تحكمه الصهيونية. كان عدد العمال العرب في المصفاة 1700 عامل، ثلاثون في المئة منهم أعضاء في عصبة التحرر الوطني، وعدد العمال اليهود 270 عاملا، نصفهم أعضاء في الهستدروت. وكان الإداريون 190 يهوديا و110 عربيا و60 إنكليزيا. بعد قرار التقسيم انفجرت الصدامات بين العرب واليهود. وكان من أولها مذبحة مصفاة حيفا. رمت عصابة الإرغون في 30 كانون الأول 1947 قنابل من سيارة مسرعة على العمال العرب الذين ينتظرون عملا يوميا أمام باب المصفاة. فقتلت ستة عمال وجرحت 42 عاملا. فانعكس ذلك فورا في صدام بين العمال العرب والعمال اليهود داخل المصفاة، وقتل أربعون عاملا يهوديا. أدانت الوكالة اليهودية هجوم الإرغون لكنها وجهت الهاغاناه إلى الهجوم على بلد الشيخ، حيث ضريح القسام، فقتلت ستين شخصا من عمال المصفاة ونسائهم وأطفالهم ونسفت عشرات البيوت. مع أن لجنة التحقيق بينت أن هجوم الإرغون عند باب المصفاة سبب الصدام في المصفاة، وبينت أن كثيرا من العمال العرب حمى العمال اليهود. عندما أعلنت دولة إسرائيل في أيار أخذ المهاجرون اليهود الاوربيون مكان العمال العرب في المصفاة وأخذوا بيوتهم ووطنهم! فهل كانت نداءات سحب الجماهير اليهودية من نفوذ الصهيونية موضوعة واقعية؟! لتكن تلك مهمة اليهود الذين تتاجر بهم الصهيونية وتفصلهم عن الشعوب التي يعيشون بينها! لكن لاتظن ياقيس أن المخطئين أو الواهمين فقط يدفعون الثمن! رتّب مؤتمر أريحا سنة 1948 لتعلن الشخصيات الفلسطينية المجتمعة فيه رغبتها في الانضمام إلى شرق الأردن فتطوى حكومة عموم فلسطين التي قررها مؤتمر غزة. عارضت عصبة التحرر الوطني قرار مؤتمر أريحا، فاعتقل بعض أعضائها. جرتهم قوات البادية مربوطين بالحبال خلف الخيل من نابلس إلى عمان، فمات في الطريق من العطش روحي زيد الكيلاني وجروه مقتولا، ووضع الباقون الأحياء في الجفر. لكن لماذا نذكر الأحزان فقط! سأروي لك مايضحكك. في تلك الأيام كسبت "حكومة عموم فلسطين" أحمد حلمي باشا، المقرب من الملك عبد الله. فلجأ إلى القاهرة. فأرسل إليه الملك برقية كتب فيها: ماعهدناك ياأحمد كبش نطاح! فرد أحمد باشا ببرقية قال فيها: ماعهدناك إلا نعجة لقاح! ضحك قيس والطبيب أمير. ضحكا أكثر مما تستحق البرقيتان. فهل كانا يردان عنهما صورة الرجال الذين جروا بالحبال خلف الخيول في حرّ تموز؟

وضع الطبيب كفه على كتف قيس: إذا انقلبت الدنيا ذات يوم فألغي الاتحاد السوفييتي سيرى أعداؤه انتصاراته خطايا، لكن أحدا لن يعترف بأن قرار تقسيم فلسطين ظلم، أريد به أن يفتتح اجتياح المستوطنين الغرباء القرى والمدن العربية. ولن يقال إن الاعتراف بإسرائيل، فورا بعد إعلان نفسها دولة، خطأ حقوقي لأنه يشترط الاعتراف بدولة فلسطينية قررها قرار التقسيم لكنه لم يتضمن ولم يرغب أن تنشأ! مع ذلك لاتبحث ذلك هنا، الآن! واسمع نصيحتي لك كإبن: رموزنا ياقيس من تراب بلدنا. نتمنى أن نراها صافية، كأنها غير بشرية. وربما يوجد اولئك الناس المنزهون كالملائكة. لكن ليست مهمتنا فقط أن نكون، في مستوانا، رموزا فنضبط غضبنا، ونقمع أشواقنا، ونزن كلماتنا وخطواتنا. مهمتنا أيضا أن نحرس رموزنا الكبرى بحكمتنا. فلا نبالغ عندما نزن أخطاءها. تذكر أن الحركة الوطنية لاتعتمد رموزا مصنوعة في الغيب تحميها قدسيتها. بل تصنع رموزها بالحياة. ويوم تدمر هذه الرموز ويبدد الايمان بها سيعود الإنسان إلى زمن وحشي، وستنطلق شروره، وستصبح المجموعة البشرية دون معايير ومثل! وستكون تلك الحرب على الإنسان أبشع الحروب!

جلس قيس بعد حديث الطبيب صامتا. إقامته في الجفر، محاكمته، سجنه، خطاباته تجعله هو أيضا رمزا؟! فهل يستطيع أن يحمل ذلك الثقل؟ فيقيس عواطفه، ويكبح نزواته، ويزن كلماته، ويلجم حبه وكرهه؟ عاد إلى الطبيب. وقال له: لاأستطيع أن أكون رمزا! ضحك الطبيب: وأنا أيضا! لاتقرر الرموز لنفسها ذلك. يقرر لها الزمان! لك ياقيس مزاج شاعر، وسيقسمك إلى شطرين الحرية التي تحتاجها والالتزام بأن تسوس نفسك كرمز! لكن أليست للحرية التي نحتاجها وللتمرد على الركود معايير؟ المهم ياقيس أن يكون لنا وجه واحد لاوجهين! وأن نضع أنفسنا بين الناس لافوقهم. ففي المتمردين والثوريين والسياسيين ضبع يأكل روحهم إذا توهموا أن خدماتهم تفرض لهم على الناس ضريبة، وأن تضحيتهم تلزم مريديهم بأن يخدموهم. لاتظن أن السياسيين الحاكمين فقط يتصورون أنهم متميزون عن الناس! السياسيون غير الحاكمين قد يتوهمون ذلك أيضا! وهم أيضا قد ينحازون إلى أولادهم وأحفادهم ويقدمونهم على أولاد شعبهم.

لم تمنع صداقة الطبيب وحب المعتقلين والمحكومين عن قيس التدرن الرئوي. نزف دما. تساءل مازحا: هل كان العرب يرسلون أطفالهم إلى الصحراء ليتنفسوا الهواء النظيف؟ والصقيع؟! اقتطع له المعتقلون أحسن طعامهم ليغذوه. ولكن حتى قيس يرفع رأسه إلى السماء ويرمي مصيره على القدر! لم يترك التدخين إلا يوم نزف أول مرة. من حظه أن حكومة توفيق أبو الهدى سقطت وأن فوزي الملقي، كلف برئاسة الوزارة. اختار الملقي شفيق رشيد وزير عدل. فأعلن رشيد عفوا عاما عن المعتقلين. وخرج قيس من الجفر مع المعتقلين. حاملا مرض الرئتين، ونفورا من عرفان دفنه في قلبه سيكون أساس خلاف طويل بينهما فيما بعد، ولن ينفذ نصائح الطبيب!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:14 AM
- 20 -

بعد أسبوع من استقبالات المهنئين بعودة المعتقلين من الجفر، اشتغل قيس كاتبا في دائرة الأشغال في إربد. مكتبه في غرفة ساري الفنيش. في غرفة واحدة مع الفنيش المتهم بتسليم صفد لليهود؟ لاترفع صوتك! هذه وظيفة لابيت! ابتكرت لساري وظيفة لزيادة دخله! ثمن المدينة الجبلية الجميلة وظيفة تملأها من الصباح إلى الظهر كؤوس الشاي والتدخين والكلام؟ راقبه قيسا وهو يتساءل عن الحدود الفاصلة بين الخيانة وبين تنفيذ الأوامر. لايتحمل قلبه الشاب أن يكون هذا المكان الصغير والراتب الصغير ثمن مدينة صفد، ثمن مدرسته و"المنزل"، وبيت أميرة، ودروب نزهته مع أصحابه! في البداية لم يسلّم قيس عليه. ثم تعود أن يتأمله. ثم بدأ يحاول أن يفهم الرجل الذي يكرهه. قال له ذات يوم: أنت سلّمت صفد! رفع الفنيش رأسه ونظر إلى عيني قيس. يتهمه؟ بل ينقل مايقوله الناس من دمشق إلى عمان! رد: ياحبيبي، أنا سلّمتها؟ من أنا كي أسلّم مدينة؟ جاءتني أوامر: انسحب، فانسحبت. هكذا راحت صفد! وقف قيس: لكن الأوامر التي أتتك لم تكن من المسؤول عن الأوامر! هل يقول الفنيش، أتت ممن أعلى منه! سكت. يجر أمثال الفنيش مستمعيهم بعيدا عن البقع السوداء في حياتهم، ليظهروا أن فيهم جوانب أخرى جذابة وحيّة. يأملون أن يبدلوا حكم الناس عليهم؟! بدا الفنيش ظريفا وهو يحكي لقيس: في العشرينيات كان عندنا ضابط إنكليزي، مسؤول عن المخابرات، اسمه سومرست. وقتها طلب الإنكليز من الأمير عبد الله قواعد أو اتفاقية توجس منها الأمير فتلكأ في الرد عليهم. أوعزوا لأحد رجالهم من منطقة الكورة من مشايخ الشريّدة كي يثور على الأمير. قالوا له: من هذا! جاء إلى شرق الأردن على جمل! ثر عليه وخذ مكانه! "ساوي" ثورة في الكورة!

عمل الرجل تمردا في الكورة. فهم الأمير المراد منه وصفّى الجو بينه وبين الإنكليز. فانتهى التمرد. لكن الشيخ أتى قبل نهاية ثورته إلى الضابط سومرست وقال له: ثورة وعملنا، قل لي ياسيدي ياصورم سيد، كم نجمة أعلق؟ رد عليه سومرست: علق قدر ماتشاء! لم يستطع قيس إلا أن يضحك. هل أراد ساري الفنيش أن يصور له كيف ينفذ الموظفون الأوامر؟ قيل له، هو أيضا، انسحب من صفد فانسحب! مطلوب أن تسقط صفد قبل الخامس عشر من أيار!

انتهت أيام دوام قيس في وظيفته الهادئة، بمظاهرات عاصفة. بين سنة 1953 وسنة 1955 هل مر شهر دون مظاهرة؟ انقطعت مفاوضات الجلاء عن القنال بين إنكلترا وبين مصر في أيار 1953 وسحبت إنكلترا رعاياها المدنيين من مصر. فردت مصر على التهديد بغارات فدائية في منطقة القنال. نظم الجيش والمخابرات العمل الفدائي فسدده لكنه أفقده صيغته الشعبية. وكانت قيادات الأحزاب في السجون، والوضع يشبه ماسيتكرر فيما بعد. فالأحزاب الوطنية ستسند الحكم نظريا، لكنها لن تكون قادرة على مده بقوتها لأنها مراقبة أو مسجونة. وصل دالاس في تلك الأيام المتوترة في أيار 1953 إلى القاهرة واقترح حلفا عسكريا "يحمي مصر من الشيوعية والاتحاد السوفييتي". الدفاع المشترك؟! البلاد العربية كلها ضد أمريكا التي خلقت إسرائيل ودعمتها! دالاس وسيط بين مصر وإنكلترا، وجلاء إنكلترا مقابل حلف مع أمريكا وإنكلترا؟ قال له عبد الناصر: يبعد الاتحاد السوفييتي عنا خمسة آلاف ميل. ليست بيننا وبينه مشاكل أبدا. لم يحتل أرضنا ولم يهاجمنا وليست له قاعدة في مصر، بينما لاتزال بريطانيا تحتل القنال! في 20 كانون الثاني 1954 أطلق الإنكليز الرصاص على جنود مصريين فاشتدت المقاومة المصرية المسلحة، ونزلت المظاهرات إلى الشوارع في مدن سوريا والأردن تعلن التضامن مع مصر. سجن قيس، وقال الفنيش لمن جلس إلى طاولته: سكة قيس لاتوصل إلى السلامة!

لم تصل إلى جماهير البلاد العربية تفاصيل الصراع بين المنظمات وبين قيادة الثورة في مصر. وسط الصدام الكبير بالغرب، وصلت تصريحات عبد الناصر: "الجلاء عن القنال أو القتال حتى الموت!".. "على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل!" فرفعت في المظاهرات أمام القادة العرب الهادئين تمرد جمال عبد الناصر على الغرب. وستظل الشوارع العربية تردد تمرده مختارة حتى سنة 1959. وستتصل مصائر أجيال بمسار عبد الناصر وقراره السياسي.

صدحت الخمسينيات! احتشد فيها الأمل والأحلام. شباب في أول العمر تصوروا أنهم يحكمون القدر! "إذا الشعب أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"! وسددوا ثمنها من الأفراح والأحزان. في اتفاقية جلاء الإنكليز عن القنال حق الإنكليز في العودة إذا هوجمت تركيا، لكن فيها أن القنال جزء من مصر. وستغطي محاولة اغتيال عبد الناصر الخيبة بالشرط في المعاهدة.

قال قيس لأصحابه في السجن: أخرج الإنكليز من القناة في سنة 1954. وفي سوريا سقط الشيشكلي، وكانت الانتخابات سنة 1954 تصويتا ضد الأحلاف. نجحت كتلة نيابية وطنية يدعمها الضباط الوطنيون. واجتمع مؤتمر للشخصيات السياسية الوطنية العربية في بيروت. وقع نوري السعيد ومندريس في 24 شباط 1955 حلف بغداد، وانضمت إليه إنكلترا. لكن ريح الخمسينيات تهب على العرب. ياللسنة المجيدة! رفضت الحكومة السورية الأحلاف، وعقدت اتفاق القيادة العسكرية المشتركة مع مصر والسعودية. اشترت أول صفقة من الأسلحة التشيكية سنة 1954 والصفقة الثانية من الاتحاد السوفييتي سنة 1955. ووصل أول سلاح سوفييتي لمصر في أيلول 1955. حشدت تركيا والعراق حشودا عسكرية على حدود سوريا في 21 آذار ووجهتا مذكرتين استفزازيتين تدعيان قلقهما من الخطر الشيوعي. قدمت الولايات المتحدة مذكرة وقحة لسوريا. فأعلن الاتحاد السوفييتي في 23 آذار أنه يؤيد سوريا وسيساعدها في حماية استقلالها. وفي نيسان 1955 جمع مؤتمر باندونغ رؤساء الدول الآسيوية الإفريقية وأعلن رفض الأحلاف العسكرية، والحياد الايجابي، والمبادئ الخمسة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

كان قيس واقفا وهو يتحدث كخطيب. ابتسم أحد المسجونين المستمعين إليه. ابتسم لأن قيسا توهج في خطابه كأنه تحت سماء واسعة، كأنه حر! وغمره شعور قيس بالحرية والقوة. وعندما انغمر بوهج قيس لم يعد هو أيضا ينتبه إلى جدران السجن القاتمة. لذلك رفع يده كيلا يقاطع أحد قيسا. لكن رجلا قال: ردت إسرائيل بغارة على المخافر السورية وقتلت 41 عسكريا سوريا، وبغارة على غزة! تناول قيس الحديث فورا: أغارت إسرائيل؟ ملأت الجماهير الشوارع: تفضلوا! سنصيدكم إذا نزلتم من الجو، وسنخرج إليكم إذا أتيم من البر! عقدت سوريا اتفاقية تجارية مع الصين، واتفاقية مع ألمانيا الديمقراطية. وشيعت دمشق شهداء العدوان الإسرائيلي. يتجمع العرب في هبّة التحرر. عقد من 31 آذار إلى 1 نيسان التلاقي الوطني الشعبي للبلدان العربية في دمشق، فكان "تظاهرة عربية كبرى ضد الأحلاف". حضرته شخصيات دينية وسياسية ونواب وصحفيون وأنصار سلام. كشف بيان التلاقي الشعبي أن هدف التدخل الاستعماري "ترتيب صلح بين الدول العربية وإسرائيل لإدخال إسرائيل في كتلة عسكرية تشمل منطقة الشرق الأوسط. الاتفاق الإنكليزي العراقي الأخير صك عبودية يحلل استعمال مطارات العراق .. نؤكد مطالب إخواننا اللاجئين العرب في استعادة حقوقهم السليبة في فلسطين والعودة إلى ديارهم ونحيي التضامن ضد حلف تركيا العراق".

هل يمكن ألا تهب على الأردن ريح الخمسينيات، وهو جنوب سوريا واستمرار حوران، نصف عائلاته في الشمال ونصفها في الجنوب؟ بينت أول مذكرة للقيادة المشتركة أهمية الأردن. يجب أن تنضم الأردن للقيادة المشتركة! قال قيس: سنخرج من السجن خلال أيام! وخرج المعتقلون من السجن حقا بعد أيام.

انشغلت الأحزاب بالانتخابات في الأردن في تشرين الأول 1954. لكن الجبهة بين الوطنيين لن تنضج إلا بعد أن يذوقوا الدم. مع ذلك تجمعت جبهة من الشخصيات الوطنية، برنامجها تعريب الجيش وإلغاء المعاهدة، وإطلاق الحريات.. وقائمة مرشحين. فلتلغ المعاهدة البريطانية مع الأردن! لم ننس دور غلوب في حرب فلسطين! يسّرت الاجتماعات الانتخابية للمرشحين الوطنيين أن يشعروا بقوتهم، وبخوف السلطة منهم، وضغطها على الناس كيلا ينتخبوهم، وبغفلة القوى التي لاتعي ضرورة الجبهة الوطنية لرد حلف بغداد. قال قيس في أحد الاجتماعات: جرت الانتخابات لأنها طلب الزمن!

لكنها لم تكن صوته! لذلك عاد الناس إلى الشوارع! في مظاهرات القدس، حاولت الطالبة رجاء أبو عماشة أن تنزل العلم الإنكليزي فقتلها الإنكليز بالرصاص. فنشرت صورتها في الصفحة الاولى في الجرائد السورية، وتصدرت صورها المظاهرات في سوريا وفي الأردن. خطب قيس في مظاهرة كبيرة. صفق الناس له، ومنعوا الشرطة أن تقطع خطبته. لكنها وصلت إليه، ضربته وضربت المتظاهرين. بين المتظاهرين شابة مستديرة الوجه، بيضاء، لم تشترك في المظاهرة لأنها فقط تقاوم حلف بغداد، ولأنها فقط تكره الإنكليز الذين يحكمون جيش بلدها، ولأنها فقط متحمسة كالطالبات بعد مقتل رجاء أبو عماشة، حالمة بأن تكون مثلها، بل أيضا لأنها مسحورة بقيس. وهاهي ترى الشرطة تضربه والدم يسيل من وجهه ورأسه! هتفت: عاش قيس، ولتسقط الحكومة! هل تحتاج الشرطة إلى آذان كي تسمع الهتاف الفظيع؟ اعتقلتها كما اعتقلت قيسا. لم تنتبه إليهم. انتبهت إلى نظرته الضاحكة لها تحت الدم الذي غطى وجهه.

أخوها وزير. ذهبت أمها إليه: ياإبني، أخرج أختك من السجن! تطلب وساطته ليخرجها من السجن؟ "أخرجها؟ تسب الحكومة وأنا أخوها وزير فيها، وأخرجها؟ فلتنتظر في السجن ريثما يستلم قيس الوزارة ويخرجها من السجن!"

هل كان قيس يخمن أنه سيلتقي بجورية بعد غربته الطويلة، وستجلس أمامه واضعة ساقا فوق أخرى كما تجلس بنت عائلة كبيرة، مزينة بماض ثمين وهيبة عشيرة؟ لاتزال عزباء. مرت الأيام الجميلة. لاتوجد أية أيام أخرى يمكن أن تمحوها! في دفتر حياتها أنها هتفت وسط مجموعة كبيرة باسم حبيبها. هل يحدث مثل ذلك كثيرا؟ بقي ذلك الهتاف كالوردة التي رمتها لحب انقطع، ولامجال لأن يعود، ولامجال لأن يستبدل بأصغر منه. فلتملأ الحياة أمور أخرى كبيرة وصغيرة، لكنها ليست الحب.. أبدا ليست الحب! هل يفهم ذلك قيس الجالس أمامها، مكللا بشعره الأبيض، مشغولا بهواجسه؟! أهذا حقا قيس الذي أحبته، وقاست به الرجال، ووهبته عمرها؟

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:15 AM
- 21 -


في تلك الأيام من أيار 1955 ملأ الربيع الحقول بشقائق النعمان. فبدت في البستان حول بيت قيس مرجا أحمر. وقيل سنة خير. أتت بين الأمطار الغزيرة أيام صاحية يحلو فيها الاسترخاء في الشمس على عشب البرية. في أحد تلك الأيام التقط الضابط ابراهيم خريشان قيسا من المظاهرة التي خطب فيها ضد حلف بغداد، وهتفت فيها جورية: عاش قيس ولتسقط الحكومة! ضربه في مركز قيادة المنطقة على رأسه بقضيب من الحديد. فنفر الدم على وجهه ورقبته. كم سيتكرر هذا المشهد: رجل ذو سطوة، حوله رجاله وأدواته، وأمامه رجل مقيد؟! قال قيس: ياللشهامة! جمع كل مافي فمه وبصق في وجه قائد الشرطة. ذلك مايستطيعه! ضربوه بعد البصقة. ونقل مدمى إلى غرفة المرضى المنعزلة. لكن الخبر انتشر في البلد: كسر قيس هيبة قائد الشرطة! وسيزيد ذلك ممن سيخرجون خلف قيس في المظاهرات. ففي الخمسينيات لم يكن البطل من يكنز المال ويملك سيارات وأرصدة، بل من لايبخل على الوطن بروحه.

رمي قيس في غرفة المرضى الصغيرة. بقي فيها حتى وصل الدهان والنجار اللذان كلفا بتجديدها. لم تكن في ذلك السجن القديم زنزانات منفردة تستوعب النزلاء. ولم تكن مؤسسة السجانين بعد قد فصلت عن البنية التي تعيش فيها. فنقل أبو صالح، مدير السجن، قيسا إلى قاووش المسجونين.

أهلا بالضيف! محكوم؟ رد قيس: موقوف. وأنتم؟ كان ماهرا في القرب من الناس. يبدأ من السؤال عن العمل وينتهي بالسؤال عن المرأة. فيقيم بسرعة صداقة مؤسسة على معرفة حميمة. وخلال ذلك يحكي عن الناس الذين عرفهم، ويتنقل بين الواقع وبين حكايا التاريخ. بعد ساعة من الزمان أصبح مركز الجالسين. المسجونون العشرة فلاحون فقراء. لم يحكم عليهم بعد. لكن الحكم إذا صدر سيكون ثقيلا. جريمتهم؟ لايعترفون بجريمة! هم من الغور، تسللوا إلى الأرض المحتلة قربهم وأخذوا بقرا وغنما. بلادهم، مواشيهم، سرقها محتلون غرباء! حقا، ليسوا هم أصحابها شخصيا. لكنهم يستعيدون ماتيسر مما سرق منهم! سرقت إسرائيل بلادنا كلها! كثير إذا استعدنا بعض بقرنا؟ يعرفون أن الأحكام صارمة. لماذا غامروا إذن؟ يعرفون أيضا أن الأحكام تخفف إذا رشوا رئيس المخابرات، طاهر. قال قيس: لن تدفعوا رشوة! لكن تمسكوا بشهادتكم! نتمسك بها! دون خوف؟ نعم!

وقت مر أبو صالح بقيس في جولة المساء قال له قيس: أريد أن أقابل قائد المنطقة! المعايطة؟ نعم! يثق أبو صالح بقيس. شاب يعرف مايريد! تصور قائد المنطقة أن قيسا سيبوح بأمر خطر. سيتراجع؟ مستحيل، وليست هذه الأيام للتراجع! لكن لو حدث ذلك سيسجل له النصر! قال لأبي صالح: هاته!

نقل قيس مقيدا إلى المعايطة الذي وقع اتفاقيات الهدنة وجرف السيل فيما بعد بيته فقال الناس: انتقم الله منه! سأل قيسا: نعم؟!

صاغ قيس كلمته كأنه في محكمة: تدعون أنكم تدافعون عن القانون والعدل! لكنكم تسمحون بالرشوة. وممن الرشوة؟ من فقراء. تتهمونهم بالسرقة لكنكم تشاركونهم فيها. تأخذون حصتكم مما تدعون أنهم سرقوه! ذات سنة أبطل عمر بن الخطاب الحدّ، سامح الفقراء وأدان بسرقتهم الأغنياء! سأله قائد المنطقة: ماذا تقصد بخطابك؟ قال: يطلب رئيس المخابرات من اولئك الفقراء رشوة ليخفف عنهم الحكم. لدي عشرة شهود على ذلك!

ينتشر الخبر في بلد صغير. ضجة! ثم لجنة تحقيق! لن يذهب هؤلاء المنسيون كشربة الماء! قال أهل البلد، يجد قيس مشروعا حتى في السجن! وقال قائد المنطقة: سبب المتاعب أن أبا صالح وضع قيسا بين المسجونين! أنت ياأبا صالح مسؤول! سيدي، غرفة المرضى دون باب! اخلقوا أبوابا من تحت الأرض! ضعوا عليها عشرة أبواب! تذكر أبو صالح ست بدور خلف السبعة البحور. وشعر بأنه يحب قيسا. قال الحاكم العام: ألغوا التصليح حتى يخرج قيس!

في المساء همس أبو صالح لقيس: قامت الدنيا هنا وفي البلد! قال قيس: لاتقعد إذا لم تقم! فخرج أبو صالح من السجن في طريقه إلى البيت وهو يردد بينه وبين نفسه: لاتقعد إذا لم تقم!

في الطريق بين البيت وبين السجن يمر أبو صالح بدكان أبي قيس. يشتري منه قمحه وعدسه وطحينه. وفي الأيام التي يسجن فيها قيس يتناول من أبي قيس وجبة الغداء ووجبة العشاء فيوصلها ساخنة لقيس في السجن. في جولة المساء، وقف أبو صالح قرب القضبان: قلت لأبيك أرى قيسا أكثر مما تراه! يكاد يكون مقيما عندنا في هذه الأيام! رد قيس: واجب، ياعمي، واجب! قال أبو صالح: تريد أن تسقط غلوب ياقيس؟ رد قيس في ثقة: سيسقط! قال أبو صالح: قد تنزل الملائكة عن عروشها، لكن غلوب لن ينزل من عرشه! ناول أبو صالح قيسا باكيت سيجارات وسأله هامسا: تشتهي شيئا؟ فقال له قيس: كأسا من العرق! انصرف أبو صالح وهو يكتم ضحكته.

أسس قيس فيما بعد مع الفلاحين الذين التقى بهم في السجن نقابة العمال الزراعيين في الغور. يعود إلى العدسية بطريقة أخرى؟ لكنه لم يحزر أنهم سيحملون من رتب اغتياله ويرمونه في البركة!

بعد أسبوعين من سجن قيس، قال المعايطة: هاتوه! السجن بجانب قيادة المنطقة، ومع ذلك قيدوه، ومشى خلفه عسكري وأمامه عسكري. أدخلوه على المعايطة. قال للعسكريين: فكا قيده واخرجا! وبقي وحده معه. قدم له سيجارة. ثم طلب له قهوة: هل أوحت لك هذه الأيام بقصيدة جديدة؟ كان الملك عبد الله معجبا بشعر عرار رغم مافيه، وأنا معجب بشعرك رغم مافيه! رد قيس: تحط ملائكة الشعر في البلاد الرائقة. عندنا تحط شياطين الشعر! السجن أنسب مكان لها؟ استرخت ملامح المعايطة: تضيع ياقيس عمرك وموهبتك لأجل من يبيعك! نادى: هاتوا رؤوفا! وأنت ياقيس اشرب قهوتك!

دخل رؤوف. نظر إليه قيس. طبعا، يعرفه! سأله المعايطة: هذا هو الذي نظم الاجتماع في كرم ابن عمك؟ نظر رؤوف بسرعة إلى قيس: نعم، سيدي! سأله: هل تعرفه؟ نظر إليه نظرة سريعة أخرى: أعرفه، سيدي! قال المعايطة: انظر إليه جيدا! هل تعرفه؟ رد رؤوف: طبعا أعرفه، سيدي! سأله: واثق؟ رد: طبعا، سيدي! سأله: الاجتماع الذي نظمه قيس كان قبل البارحة؟ رد: نعم سيدي! قال المعايطة في هدوء: اخرج ياحقير! قيس عندنا في السجن منذ أسبوعين!

خرج رؤوف. والتفت المعايطة إلى قيس: هذا هو الشعب الذي تدافع عنه! تريد فنجانا آخر من القهوة؟ رد قيس: شكرا على القهوة! لكن هذا من تختارونه من الشعب! نادى المعايطة العسكري. وضع القيد في يدي قيس، وأعيد إلى السجن!

سأله أبو صالح وهو يتسلمه في السجن: خير؟ رد قيس: لاشيء! شربت فنجانين من القهوة في مكتب المعايطة! قال أبو صالح: سأرسل لك فنجانا ثالثا! ابتسم قيس لنفسه وهو يعود إلى زنزانته. الشعب؟ كيف يستطيع أن يفهم المعايطة، الرجعي، أن الشعب ليس هؤلاء الأجراء؟ شعب قيس جموع ذات مشروع، تدافع عنه رغم الشرطة والضرب والسجن والنفي والتسريح. تحلم بالعدل وحرية البلاد! الشعب ليس هؤلاء. الشعب هذه الدنيا.. قبائل الماوماو.. الجزائر التي بدأت ثورتها المسلحة.

جلس قيس بين الفلاحين المعتقلين وأنشد لهم شعر مفيد زكريا في أحمد زبانه الذي نفذ فيه حكم الإعدام في سجن بربروس:

قام يختال كالمسيح وئيدا يتهادى نشوان يتلو النشيدا

شامخا أنفه جلالا وتيها رافعا رأسه يناجي الخلودا

اشنقوني فلست أخشى حبالا واصلبوني فلست أخشى حديدا

واقض ياموت في ماأنت قاض أنا راض إن عاش شعبي سعيدا

قال لهم: ذلك هو الشعب! واستعاد كتاب يوليوس فوتشيك "تحت أعواد المشنقة". أخرجه الغستابو وداروا به في المدينة: انظر، الناس يتحابون ويعيشون غير مبالين بك! لابد أن كثيرا من المسجونين الذين يمكن أن يهز تراجعهم الضمير العام، أخرجوا في مثل تلك النزهات الليلية السرية ليروا شعبهم المنصرف عنهم! لكن اولئك المعتقلين كانوا يرون شعبا آخر، ويوسّعون سجونهم الضيقة بنشيد وشعر. ماأعجب أن يكون هؤلاء الواقعيون رومانسيين؟! اولئك هم رجال الأحلام! في السجن ستنشد جميلة بو باشا التي عذبت أكثر من جميلة بو حيرد، أشعار مالك حداد! وسترى شعبا استقوت به. وإن خرجت من السجن فيما بعد محطمة وستظل تتناول المهدئات طول حياتها!

قال لهم قيس: سيبقى الصراع على الشعب الذي نستقوي به زمنا طويلا! فهل خمن أن "العدو" سيكتشف دروبا متنوعة معاصرة إليه. ليسقط المثل والمشروع التي يرفعها، ويسوقه في برامج ومثل أخرى! هذا الشعب الذي يتدفق في مشروع وطني الآن، يمكن أن ينكفئ في بيته، ويمكن أن يصبح غوغاء. قال قيس للفلاحين المعتقلين معه: صراعنا على الشعب، على القوة التي قد ينظمها مشروع عاقل فتجعل الدنيا جميلة وعادلة، وقد تجرفها أهواء تبددها لتخدم الظالمين! ولم يكن الشعب في زمن قيس مربوطا إلى التلفزيون، ولم يكن مسحورا بأحلام الأغنياء، ولم يكن فسد بالرشوة وسحق بالجوع والعمل، ولم يبدد شجاعته بعد الخوف واليأس، ولم يجتحه الشك في المثل ويفجع بسقوط السياسيين!

انتبه قيس في ذلك اليوم إلى الصراع على الناس. لكنه لم ينتبه إلى ماسيقدّره بعد أربعين سنة: للرجال خصوصيتهم أكانوا رجعيين أم تقدميين. لذلك لايعرّفون فقط بصفتهم الفكرية. شغله التفكير في يوليوس فوتشيك بعد عودته من مكتب المعايطة وردد: الصراع على الشعب! لكنه لم ينتبه إلى الشهامة في المعايطة وفي أبي صالح وفي القضاة الذين صادفهم في عمان قبل أن يعتقل.

بعد أربعين سنة تذكر المظاهرة النسائية التي نظمت في عمان ونزل قيس إلى مكان تجمعها. فرأى النساء ورأى الشرطة السرية أيضا. اقترب منه رجل أمن ووقف أمامه. قال: مومسات عمان يتظاهرن! ذهل قيس. ماهذا؟ رأى فجأة سهام، وسعاد، وعائدة... مومسات عمان! أتت الشرطة واعتقلت المتظاهرات، واعتقلت المومسات أيضا. كشف قيس لأصحابه فورا ماعرفه: أنزلوا المومسات إلى المظاهرة! في يوم المحاكمة قابل قيس وأصحابه قاضي الصلح. فهز القاضي رأسه: هذا الأسلوب في الصراع غير مقبول! وحكم بإطلاق سراح النساء!

بعد زمن طويل تذكر قيس ذلك القاضي، وتذكر رئيس الشرطة الذي ترك على طاولته رزمة نشرات سلمها جاسوسه. أبقاها كما طواها قيس، ليحذره! وتذكر المعايطة، وقال: شهامة! لم يفكر قيس فيهم يومذاك. مع أنهم كانوا من عناصر الصراع على الشعب! لو يستطيع أن يعود إلى ذلك العمر، إلى تلك الأمكنة، ليقول الكلمات التي لم يقلها!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:17 AM
- 22 -


ضرب قيس في مركز قيادة الموقع، لكنه لم يضرب كالرجل الذي رموه قربه ليراه! صدق أصحابه الذين تعرف إليهم في مقهى في عمان يوم حدثوه عن الفرد والمجموعة! كان الرجل الذي رموه وحيدا دون مجموعة، لذلك لايحاسب أحد بدمه! أوجع قيسا أن يسكت الرجل على جروحه. طريق الوعي طويلة ياقيس! وربما طريق الكرامة! وليس الشارع المتوهج الذي تراه هو الموجود فقط! يوجد هذا الجانب أيضا في الشعب!

هل كانت وظيفة الرجل المدمى أن يهز روح قيس! ربما ضرب فقط كي يفتت روحه! تناولوه بعد يومين ولم يستطع أبو صالح مدير السجن أن يفصّل في المعلومات عن الرجل. قال لقيس: لو تحدث لعرفنا على الأقل من لهجته من أية ديار هو!

وقت بقي قيس وحده شعر بالأسى. في هذه البرهة يعدم في ايران الدكتور يازدي، كما أعدم فاطمي ومئات الضباط. وقيس مقصوص الجناح. أي ظلم يجتاح العالم! أي شر! عصف اضطراب بروح قيس حتى اكتملت قصيدته. عندئذ اجتاحه اضطراب آخر، هياج من الفرح والانتصار. سيتحدى الموت والظلم! نحن هنا! وأحاطت به الصورة التي رسمها الفنانون وكتبها الكتاب طوال عصور: حامل الراية على الأرض دام وآخر يتناولها منه! وقصيدة ناظم حكمت التي أصبحت نشيد جيل الخمسينيات: إذا أنا لم أحترق وأنت لم تحترق فمن يضيء الدنيا؟ وقصيدته عن شجرة الزيتون التي يجب أن تغرسها ولو كنت في السبعين من العمر! طار قيس بانتصاره في التعبير الذي ساس به اضطرابه وأساه وهزيمته. لم يغطس بعد في الشك بما أنجزه، ولم يشعر بعد فيه بأنه كتب كلمات عادية، وأنه إنما صاغ كلمات الصحف. ماسيقوله لنفسه فيما بعد وهو يفحص قصيدته قبل أن يصوغها صياغة أخرى.

يوم خرج من السجن تناول منه سليم، القومي السوري، القصيدة وغناها. كان صوته رخيما وعزفه على العود شجيا. بين المجموعة التي استمعت إلى الأغنية كانت إلهام، أخت سليم. دمعت عيناها وأدهش قيسا رأسها المرفوع في كبرياء رغم الندى في عينيها. لم تجرب أن تخفي دمعها، ولم تحجب العواطف عن ملامحها. سحرته بتلك الصراحة. شغلته إلهام في تلك الأيام السريعة. أحبها ولم تخف عنه أنها أحبته. ولم تكن الطرقات الطويلة إلى الحب ضرورة بينهما. فكل منهما يعرف أنهما إذا التقيا اليوم قد لايلتقيان غدا.

نظرت إلهام إليه. في السهرات ماأحلى حديثه، ماأحلى ابتسامته التي تميل إلى جانب الفم! يروي الحكايا والنكات، وينشد شعر القدماء فيظهر رونقه وكماله! قالت لنفسها لايدهشني أن يحبه حتى الرجال، فلماذا لاتحبه الفتيات؟! لم تصبح الثروة بعد حلم الفتيات. فالحياة رخيصة وهنيّة، والعلم نور، والسياسة تخلب لب الشباب! نعم، تحبه مع أنها تعرف أن حبهما لن يدوم. حبهما كزهر البرية نضر قصير العمر. بين قيس وبين أخيها القومي السوري مناقشات. يقول قيس لسليم: أنت وطني ياسليم، في روحك إرث أبيك المقاتل في الثورة العربية، لكن قيادتك ستوصلك إلى جهنم! ويرد سليم: أنت ياقيس وطني، شجاع، تحديت الشرطة وأنت مقيد، وتحملت الضرب بقضيب من الحديد على رأسك، لكني لن أفهم أبدا كيف تقبل تقسيم فلسطين! يقول قيس: تحدثنا عن الموضوع نفسه مرات عند الخياط! أقبل التقسيم؟ أقبل أن تقتطع ذراعي أم قلبي أم رئتي؟ لكن ماأشد خوفي أن يصبح طموحنا التقسيم الذي رفضناه! يختلفان على الموقف من الاتحاد السوفييتي. يقول سليم: قوة عظمى مثل أمريكا! فيرد قيس: قوة عظمى تختلف بنظامها الاجتماعي عن أمريكا، بيننا وبينها علاقات قديمة، لذلك هي صديقة للعرب. يذكره سليم باليهود الروس والبولونيين والتشيك والمجريين الذين حاربوا العرب واستوطنوا فلسطين بالقوة. يقول له: مصيبتنا جاءت من هناك! فيرد قيس عليه: بيض! هربوا من نظام بلادهم الاشتراكية! لكن ليست لدى قيس بعد معلومات دقيقة عن الصهيونيين الروس الذين زيّفوا الاشتراكية، وعن اليهود المجريين الذين صفّوا غير اليهود في الحزب الاشتراكي المجري. يجهل ماسيعرفه فيما بعد وسيرعشه فيه أن الصهيونية حاربت الاشتراكية من داخلها. واقتصت باسمها من الشعوب في وحشية أكثر من وحشية النازية. في سنة 1919 كان 22 عضوا من 24 عضوا في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي المجري يهودا، لذلك سماه الناس حزب اليهود. وصفي فيه غير اليهود بتهمة الخيانة. تسلق اليهود القمم وجر أحدهم الآخر إليها. وكان لهم مشروعهم الخاص. في العشرينيات في روسيا كان برونشتاين (تروتسكي) رئيس المفوضية العسكرية في الجيش والأسطول، ومساعدوه الذين عينهم في المراكز المفتاحية يهود: غيرشفيلد رئيس المجلس الحربي الموسكوفي، شتينغراد المفوض الحربي لمنطقة موسكو، غوبيلمان المفوض الحربي للمنطقة نفسها، غيتس المسؤول العسكري عن منطقة بيتروغراد، روم المفوض القضائي العسكري للجيش الثاني عشر، روزمانوفيتش مفوض الاستنطاق العسكري لمنطقة موسكو، غليزر مفوض حرس الحدود، ليختنغر مفوض مجلس جيش القفقاس، غلوزمان المفوض الحربي لفرقة سكاريا. والمفوضون السياسيون ميتشيك للجيش الثاني عشر، ليفنسون لفرقة الجيش الرابع، دزينيس لمنطقة فيتيبسك العسكرية، سبيرو لجبهة رومانيا، فيشمان المفوض فوق العادة لجيش الشرق، بوزرن لمجلس جيش الجبهة الغربية. والقادة: غيكير للجيش الأحمر في ياروسلاف، ماتسيتيس للجبهة الغربية، على حدود تشيكوسلوفاكيا، سلوزين ومساعده زيلبرمان لجبهة كورسك، زاك قائد دفاع القرم. أطلق هؤلاء اليهود النار على العزل وقتلوا الضباط الروس بينما كان الأبطال الشعبيون مثل تشابايف، كوتوفسكي، فرونزه، يحملون النصر للجيش الأحمر ويرتقون جرائم الصهيونية. كان 80% من قادة الجيش الأحمر وقتذاك ضباطا سابقين في الجيش القيصري. أعدموا كلهم تقريبا في سنة 1927 بعد أن ابتعد الخطر وزالت الحاجة إليهم. كان الحوار قصيرا جدا مع "الغرباء عن الطبقة" مع أن برونشتاين والمفوضين الذين عينهم غرباء جدا عن البروليتاريا! لم يتخلص برونشتاين من ضباط الثورة فقط بل من محبوب منطقة الدون ميرنوف أيضا. وهكذا وصلت السنوات الثلاثون والقادة الذين قاتلوا لأجل الشعب، والضباط الأكفاء قد أبيدوا. وأخذ مكانهم الصهيونيون، ياكير المسؤول عن إبادة الهيئات العليا الكازاكية، توخاتشيفسكي الذي سحق انتفاضة البحارة في غرونشتات، اوبوروفيتش المعروف بحقده على الروس، كورك مساعد القوات العسكرية في اوكرايينا والقرم وقائد جبهة كردستان، ثم منطقة لينينغراد العسكرية، ثم المسؤول عن منطقة موسكو العسكرية، ثم عن أكاديمية فرونزه. غامارنيك مسؤول القيادة السياسية لجيش العمال والفلاحين الأحمر، زميل تروتسكي، الذي أعاد اللجنة الوطنية السوفيتية ضد معاداة السامية، وأصبح مسؤول اللجنة الوطنية للدفاع وكان مساعدوه: أزول، بولين، روستيت، بلومنتال، ريزين، برلين، رسكين، رايخمن، بولتمان، غرنبرغ، كانتسنيلسون. وضع غامارنيك في المراكز المفتاحية يهودا فأصبح مسؤولي الإدارة السياسية: أرونشتام لجيش الشرق الأقصى، أميلين لمنطقة اوكراينا الحربية، غينتز لطيران ماخلف القفقاس، فيلتنر لطيران الفولغا، ربينوفيتش لأسطول البلطيق، ميزيس لمنطقة الفولغا العسكرية، شيفريس لمنطقة شمال القفقاس العسكرية.. وغيرهم مثل غيرشين والمارشال غلوخير الذي لم يقصر في إبادة "أعداء البروليتاريا". قرر اولئك الصهيونيون الحياة والموت في القطاعات التي حكموها قادة عسكريين ومسؤولين سياسيين. وقتلوا ملايين الناس في الإرهاب. ودمروا كادرات الثورة المخلصة. نفذ تروتسكي، سفيردلوف، ياكير، توخاتشيف، غامارنيك، ايبشتاين، في السنوات العشرين مذابح وحشية. لكن تروتسكي سيبدو كثوري كبير متمرد في الغرب زمنا طويلا. وسيدان بالإرهاب ستالين الذي أزاح قبضة اليهود عن قمم الجيش والسياسة. وسيقتله الأطباء اليهود بالسم. وسيغير من بقي منهم أسماءهم ليتسللوا من المساواة إلى القمم مرة أخرى ويحكموها بالبنوك اليهودية. لكن حتى الضحايا لن تتبين ذلك إلا متأخرة!

تنتهي المناقشات بين قيس وسليم عادة بنزهة في الطريق الذي تمشي فيه الصبايا والشباب مساء بين الحقول حتى "الكامب". أو بجلسة يغني فيها سليم أشعار قيس. عرف سليم بإحداها فصارت تطلب منه في السهرات: غن لنا "ياصاحب السجن"!

كان بيت سليم وإلهام بيتا قديما، باحة حولها غرف، ثم ممر يوصل إلى زقاق. استندت إلهام إلى الجدار وانحنى قيس عليها. ملأت في تلك البرهة عينيه. وفجأة تجمدت ملامحها وارتخت ذراعها. فالتفت قيس إلى حيث وقفت نظرتها. رأى في نهاية الزقاق أخاها سليما. أرخى قيس ساعديه وانزلقت إلهام إلى البيت. وقف قيس جامدا في انتظار سليم. تقدم سليم، طويلا، فارعا، ممشوقا، قويا. هل سيضربه؟ وصل سليم إليه، وقال له: ياقيس، هل يمكن أن نتحدث؟ طبعا! تعال إذن نمشي قليلا! مشى قيس معه وهو يتوقع لطمة منه. لكن وجه سليم هادئ، ساهم. ابتعدا عن الحارة. هناك سأله سليم: هل تحب أختي؟ رد قيس: نعم! قال سليم: لي طلب واحد فقط. احترم عذريتها! رد قيس: وعد! هل فهم قيس كم يحبه سليم؟ هل قدّر سعة روحه؟

كان صوت سليم حلوا، رخيما. كان صوتا فريدا. وكان عزفه على العود مطربا. لحّن قصائد قيس وغناها فانتشرت بلحنه وصوته. فهل غاب عنه أن إحدى تلك القصائد لأخته ولو موّه قيس فيها اسمها؟ غنى سليم قصيدة قيس عن السجين الذي رمي قرب قيس داميا. وصارت تلك القصيدة أغنية في البلد. صاحب هذه القصيدة يحب أخته! ولايستطيع الزواج منها لأن بلاده تشرده. فهل يبخل عليه بحبيبته؟

في ذلك المساء نفسه جلس قيس إلى سليم، واستمع إليه وهو يعزف على العود ويغني لأصحابه قصيدة قيس. اسمعوا ناظم حكمت العربي!

هذه ليست كلماته بل مدى ينشره سليم، بحبه وبامتنانه لأن قيسا كتبها! اعتذر لسليم بعينيه وخرج. وفي العتمة بكى.

بعد مقتل رياض الصلح غاب سليم عن قيس زمنا. وعندما التقيا عاتبه قيس كأنه هو القاتل. ودافع قيس عن القاتل كأنه هو. لاتوصل الاغتيالات إلا إلى بركة من الدم! رد سليم: يجب أن يدفع الصلح ثمن إعدام أنطون سعادة! دفعه حسني الزعيم الذي فاوض إسرائيل سرا وسلّم سعادة، ويجب أن يدفعه الصلح! لايقاوم الخطأ بخطأ ياسليم! ألم يبتعد جيلنا عن ثأر العشائر إلى حوار أصحاب العقيدة والرأي؟ رد سليم: هل تحاور أنت غلوب باشا أم تقاومه؟ المسألة ياقيس أن كلا منا رتب صداقاته وعداواته في نسق معين. نسقك ياسليم خسارة لك قبل أن يكون خسارة لغيرك. لاتتحمل هذه البلاد الدم! قبيل مقتل المالكي فترت للقاءات بينهما. ولم يكن لدى قيس وقت ليتساءل أيمكن أن تكون تلك السهرات الممتعة انتهت وأصبحت من ماض لن يستعاد. ولم يتنبأ بأنهما سيكونان أكثر قربا بعد عقود من الزمن!

عندما رجع قيس إلى بلده بعد عقود من السنوات أتاه رسول من إلهام: أريد أن أراك! يراها؟ يخشى على الصورة القديمة، على الشباب! يخشى أن يراها سمينة، أو كهلة، أو بيضاء الشعر! وأنت ياقيس، ألم تتغير؟ ألن تقول لك ليلى إذا رأتك: لو صادفتك في الشارع لما عرفتك! لكن إلهام ستستعيد بعد ربع ساعة عينيك، وملامح وجهك، وقامتك. وأنت ياقيس ستستعيد ملامحها!

تذكر قيس سليما، تذوق خطواتهما في ذلك اليوم وهما يبتعدان عن الحارة معا. لمس عبق تلك السنوات وقاس البعد بين تلك البلدة التي استبقى فيها أخ حبيب أخته وصدّق وعده، وبين هذه المدينة التي يعيش فيها الآن. تبع دروب سليم، وتأمل القوة المتدفقة التي تطلب مسارات تملأها. حاول سليم اغتيال إحدى الشخصيات. نفذ تفجيرا عشية حرب حزيران. عبر دروب الخطأ والصواب إلى فلسطين! أين أنت اليوم ياسليم؟ هل تجلس مثلي مستعيدا تفاصيل سنواتنا المجيدة؟ متقاعدا تجري الحياة بعيدا عما حلم به وصاغ له مشاريع واسعة؟

في سجل في الشرطة بقيت قصيدة قيس محفوظة كعمل جميل مؤثر لكنه خطر. لكن صوت سليم الذي غناها تبدد. أغلق قيس نوافذه. تصدح أغنيات أخرى لايريد أن يسمعها!

اغتيل الضابط عدنان المالكي في دمشق في 22 نيسان 1955، في الملعب البلدي. خلال مباراة كرة القدم سدد رقيب في الشرطة العسكرية مسدسه إليه من ظهره، فتله وانتحر. قرأ قيس الجرائد السورية واستمع كأبناء بلده إلى راديو دمشق وقال: عقاب على صفقة السلاح التشيكية والروسية للجيش السوري! وانتقام من مكانة سوريا في مؤتمر باندونغ. نفذ الاغتيال حلف بغداد! يراد هز سورية من داخلها لأن الضغط عليها فشل من خارجها!

اتهم جورج عبد المسيح بتخطيط اغتيال المالكي. كان يتابع تنفيذ الاغتيال، وينتظر الخبر! بدا ذلك لمن خارج سوريا مؤامرة عليها. وقع قيس برقيات من بلده "تستنكر المؤامرة وتتضامن مع الجيش السوري الوطني".

فهل تستطيع الصداقة أن تقاوم هذا الاصطدام الدامي؟ قبله كان قيس يناقش أصحابه القوميين السوريين فيقول: مشروع الهلال الخصيب ليس وحدة عربية، بل ربط بلد مستقل ببلد مقيد بمعاهدة إنكليزية! وأين البلاد العربية الأخرى في مشروع الوحدة؟ مع ذلك بقيت المناقشات بينهم كلاما حتى اتهم القوميون السوريون بقتل عدنان المالكي. أراد الضباط القوميون السوريون في الجيش أن يتخلصوا منه؟ من العقل الذي رتب جريمة كبيرة؟ ليس ذلك صراعا شخصيا! المالكي اتجاه وطني، محور يجمع عليه الجيش. قتله هجوم على سورية! أنت مادخلك ياقيس؟ مادخلني؟! ماتزال بلاد الشام واحدة! إربد تتمة حوران. إذا انهارت سوريا صرنا دون ظهر! نسيتم أن عرار درس في مكتب عنبر، وأن رجال الثورة العربية من دمشق؟ تدافعون عن قتل المالكي؟ لا، لم يدافعوا جميعا عن قتل المالكي! قال الخياط لقيس: القتل مؤامرة على حزبنا! أخفى جورج عبد المسيح عن بقية الأمناء مخطط الاغتيال! حارب القوميون السوريون الصهيونية في فلسطين فكيف يوافقون على قتل المالكي الذي حارب معهم هناك؟

مسؤول القوميين السوريين حامد حسين حلال، من بلد قيس، صفورية. وبينهما صحبة. أبواهما أيضا صديقان من أيام صفورية. يعرف قيس أن حامد حسين حلال يحبه. يقصده مع شباب آخرين قوميين سوريين، يقرأون عليه أشعارهم ليسمعوا رأيه فيها. فيجلس في صدر القاعة ويتحدث عن الفن. وتبدو القاعة كمضافة للشباب تجمعهم في جلسات سياسية وفنية! ثم يغنون مع سليم قصيدته.

عائلة حلال كلها من القوميين السوريين. مع ذلك أحدث قيس فيها خرقا. فصار أخو حامد الأوسط من أعداء حلف بغداد. نقل منشورات إلى العراق فاعتقل على الحدود وسجن في بغداد. فاتهمت عائلة حامد قيسا: أنت السبب!

مع ذلك ظل الخصام كلاما دون أحقاد حتى اغتيال المالكي. عندئذ أخرج الطرفان جميع الأسلحة ومنها السلاح الذي استعمله خصومهما "المتخلفين": الأخلاق. ألم يحارب قيس بتهمة الإلحاد؟ ألم تدسّ العاهرات في مظاهرة النساء ضد القواعد العسكرية وتنشر الصحف: اعتقال عاهرات عمان! ستظل تلك أسلحة القتال إلى زمن طويل، وستستعمل حتى عندما تنشطر الأحزاب وتتخاصم الزمر ويصبح الرفاق القدماء أعداء. الأخلاق حلبة الصراع! غرف قيس من ذلك الماعون! جلس مع أصحابه وصاغ برقية نشرها بين الناس كأن كاتبها حامد حسين حلال أرسلها إلى زوجته بعد غياب أسبوعين. البرقية أربعة عشر حرفا كلها ح ح ح.. شيفرة سرية معناها: حبيبتي حلا. حاحضر حالا. حمّي حمّام. حضّري حمام. حبوس حضرتكم. حبيبك حامد حسين حلال.

انتشرت البرقية في البلد. وأضحكت الناس. لا يستطيع حامد حسين حلال أن يجلس في مقهى دون أن يكبح الحاضرون ابتساماتهم. عاتب قيسا غاضبا: هكذا؟! صرت تحارب بالسيوف القديمة؟ سأله قيس: بذمتك، أليست حلوة؟ هز رأسه: برأس أبي، حلوة! سأله قيس: إذن أكلت الحمام واغتسلت في الحمّام؟ لكن أصحاب حامد لم ينبهروا بتلك النكتة. هذه إهانة لمسؤول في حزب. القصد منها الإساءة السياسية! وسيعاقبونه عليها يوم يتمادى في ذنوبه!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:17 AM
- 23 -



زار عبد الحكيم عامر، قائد القوات السورية المصرية المشتركة، الأردن، وتفقد المراكز الأمامية فيه. فاستوقف رجل في الطريق قيسا وسأله: زيارة عامر مقدمة لاشتراك الأردن في تلك القوات؟ رد قيس في ثقة: وهل يخرج الأردن على روح الزمان والمكان؟ بعد أيام وصل فجأة إلى عمان تمبلر، رئيس أركان حرب القوات البريطانية. لكن حكومة سعيد المفتي رفضت التوقيع على حلف بغداد، واستبقاء المعاهدة البريطانية الأردنية دون تعديل، فاستقالت. بحث ذلك الرجل المجهول عن قيس. رآه قيس فقال له قبل أن يعرف سؤاله: جاءت حكومة المجالي لتوقع على الحلف، لكنها لن تجسر! لن يخرج بلدنا على روح الزمان!

في 17 كانون الأول 1955 هبت المظاهرات في القدس وعمان وإربد. تحتج على زيارة تمبلر وتهتف: يسقط حلف بغداد! قابلتها حكومة المجالي بالنار. سقط قتلى وجرحى. حل الملك البارلمان. وأعلنت الأحكام العرفية، واعتقلت شخصيات سياسية ومنظمو الإضرابات. نزلت مظاهرات كبرى في دمشق وحلب تضامنا مع الأردن. "استنكر مجلس النواب السوري الضغط الاستعماري على الأردن"، وبين أنه يعني تطويق سوريا بحلف بغداد. وكتبت جريدة الإزفستيا عن "انتفاضة الأردن" وتحدث عنها راديو موسكو.

استقال المجالي بعد الاصطدامات الدامية. فتساءلت الجرائد السورية: "تراجع الاستعمار"؟ وأجابت: لجم الاتحاد الوطني في الأردن اندفاع الحكومة إلى حلف بغداد. لكن هذه جولة اولى فقط. فمازال الوطنيون مطاردين. "لم تخمد انتفاضة الأردن الباسلة". تنقلت الأخبار في المضافات والمقاهي ووصلت بين المدن. تعرفون؟ رفع ممثلو الأحزاب والشخصيات في الأردن مذكرة إلى الملك، ترفض حلف بغداد وتطلب وزارة وطنية. وأضرب المحامون والأطباء. ورفض كثير من ضباط الجيش إطلاق النار على المتظاهرين. وأحرق العلم الأمريكي خلال تشييع الشهداء. تتصور الحكومات أن الشعب يتلقى ماتقدمه له حكوماته، منصرفا إلى شؤون بيته، فإذا به غير ذلك "هي في واد، وهو في واد!"

وصلت سنة 1956 والشوارع ملتهبة والمنظمات والأحزاب مستنفرة رغم الأحكام العرفية. تسندها برقيات التضامن والمظاهرات السورية. في صدر الصحف السورية: "عاش تضامن سوريا والشعوب العربية مع الأردن في معركته ضد حلف بغداد! "

بعد سقوط حكومة المجالي، شكلت حكومة ابراهيم هاشم. لكنها منعت اجتماع الهيئات الشعبية، فعادت المظاهرات في 6 كانون الثاني تطلب حكومة وطنية، وانتخابات حرة، وتنظيف الجيش من الإنكليز. انضم بعض جنود المدرعات إلى المظاهرات التي ملأت المدن. طاردتها قوات البادية وقتل بعض المتظاهرين، واعتقل آخرون. هجم المتظاهرون على مراكز النقطة الرابعة الأمريكية وأحرقوها، وهاجموا المفوضيات الأمريكية والإنكليزية والتركية. وفي القدس أنزل المتظاهرون العلم الأمريكي وأحرقوه. أعلن غلوب حالة الطوارئ. شكل سمير الرفاعي حكومة وتعهد بألا يرتبط بأي حلف. تراجع المستعمرون ثانية؟ لايزال الوطنيون مطاردين! لجأ أربعمائة طالب أردني إلى سوريا. نظم الطلاب في دمشق مظاهرات تضامنا مع الأردن. وأضربت نقابة المحامين في دمشق تضامنا مع الأردن.

تناقل الرجال في المضافات أن مصر وسوريا والسعودية أبلغت الأردن بمذكرة رسمية أنها مستعدة لتعويضه عن المساعدة الإنكليزية التي تقيده بالمعاهدة مع إنكلترا. قالوا: لكن حكومة الرفاعي تائهة بين ضغط الشارع وضغط غلوب. أجمع البارلمان خلال البيان الوزاري على رفض الأحلاف، لكن الرفاعي ماطل في قبول المساعدة العربية. حجته أنه سيشاور نوري السعيد ولبنان. وسخروا من الرفاعي: يقال إنه يقبل المساعدة العربية، إلى جانب المساعدة البريطانية! كأنه يجهل أن هدف المساعدة العربية تحرير الأردن من المعاهدة الإنكليزية! خلال هذا لايزال "غلوب يحتل" المدن. "احتل غلوب" الرمثا. واعتقل في إربد تسعة أشخاص. لكن روح الزمن تهز الأردن والضفة الغربية. قدمت لجان التوجيه الوطني في نابلس مذكرة إلى الملك تعلن رفض حلف بغداد، وتطلب الحريات وتحرير المعتقلين، وتلح: يجب أن يقبل الأردن الأموال العربية لاالأجنبية! تظاهرت الطالبات في نابلس. وخطب قدري طوقان في مظاهرات نابلس. وأعلنت الكتلة الدستورية في البارلمان أنها ضد حلف بغداد. يقال، قتل الكولونيل باتريك في الزرقاء! هل الخبر صحيح؟

تحدث الخطيب في مظاهرة الطلاب في دمشق عن جرائم غلوب وباتريك مدير المباحث الإنكليزي: رميت قنابل على المتظاهرين في المفرق. ضرب الضابط المتوحش ابراهيم كريشان طالبا بقضيب من الحديد على رأسه. دخل ثلاثون شرطيا إلى بيت فواز الروسان، عضو محكمة التمييز العليا، بحثا عن أخيه فائز الروسان. فقال لهم إذا كنتم تروعون أولادي وزوجتي وأنا عضو محكمة فماذا تفعلون بالمواطنين العاديين؟! قال الخطيب إن المعتقلين يرسلون إلى السجن الصحراوي الذي يسمى الجفر. وقرأ فقرات من البيانات التي وزعت باسم "جبهة النضال العربي" وباسم "الشباب الواعي". وفي تلك المظاهرة انتخب وفد ليستقبل الطلاب الأردنيين الذين وصلوا إلى درعا. وفي يوم النضال العالمي ضد الاستعمار حيى اتحاد الطلاب ذكرى الطلاب الشهداء الثلاثة الذين قتلوا في المظاهرات في الأردن، رجاء حسن، عبد الله محمود تايه، اسماعيل الخطيب.

في المهرجان الشعبي في حمص تضامنا مع الأردن، وفي اجتماع نساء حمص تضامنا مع الأردن، وفي الاجتماع في نقابات العمال تضامنا مع الأردن، تحدث الخطباء عن مقاومة الشعب الأردني الشقيق. لكن الاجتماع الكبير في سينما بلقيس في دمشق لدعم الأردن أصغى إلى الدكتور عبد الرحمن شقير الذي نجا من الاعتقال. وانتهى ببيان يطلب تطهير الجيش من الإنكليز.

من سينتصر؟ الشعب! مع أن دائرة المطبوعات الأردنية كذّبت أن مباحثات الرفاعي في دمشق وبيروت تناولت الخلاص من غلوب والضباط البريطانيين، لأن ذلك مسألة داخلية! ومع أن الرفاعي سافر إلى بغداد! "أطاح" الشعب الأردني بالمجالي فهل يعجزه أن يطيح بغيره؟ قال الخطباء: تضامننا يقوي الاتجاه ضد الأحلاف في الوزارة والبارلمان الأردني. لاتيأسوا! "إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر".. الشعب الأردني يريد الحياة!

قال قيس: لم تقترح الأحلاف كي تهدئ المنطقة بل كي تشعلها وتحرقها! كي تضم إسرائيل إلينا كعضو شرعي، كأن الاتحاد السوفييتي البعيد عنا هو خصمنا لاإسرائيل وأمريكا عدوتنا! لذلك أغارت في 28 شباط 1955 على غزة. ولذلك اغتيل عدنان المالكي في 22 نيسان 1955 بعد صفقات السلاح مع تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي. ولذلك ردت إسرائيل على القيادة العربية المشتركة فاعتدت على المخافر السورية حول طبرية في 12 كانون الأول 1955. لايريد الاستعمار لنا أن نعيش حياة هادئة سوية، لايريد لنا أن نفكر ونحلم وندرس ونشتغل وننعم بثرواتنا الوطنية. لكننا نرد: نحن مع سورية أمام الضغط التركي الأمريكي عليها. ونرفض إلغاء محور الصراع بيننا وبين إسرائيل وأمريكا واختراع محور آخر وهمي! نرفض حلف بغداد! ذاب قيس بعد كلمته كأنه ملح. احتضنه أصحابه وأخفوه. يبحثون عنك ياقيس! انتبه!

يوم قيل لقيس إن ضابطين من ضباط عبد الناصر وصلا إلى الأردن بإسمين مستعارين لينظما مجموعات العمل ضد إسرائيل من الضفة الغربية وغزة، قال: أهلا! لكن الجو المتفجر لاينتظر ضابطين كي يعبئوه! حلف بغداد يكاد يفرض علينا بالقوة، وأين فلسطين وقتذاك! انفجرت طرود مفخخة في الملحق العسكري المصري في عمان وفي ضابط مخابرات غزة، وقتل الاثنان في يوم واحد. وعادت التفاصيل إلى مجالها في الاصطدام الواسع.

يوم وصل تمبلر في كانون الأول 1955 بدا أن الأردن سينضم إلى الحلف. فتقدم قيس المظاهرات ضد حلف بغداد، وخطب فيها، مزج الشعر بالنثر فزاد من حماستها وغضبها. كأنه يملك عصا قادة الجوقات السحرية! وكان أمامها يعي قدرته على خطابها! من مكانه المشرف عليها فهم مرة أخرى كيف يمكن أن تكون الجموع روحا واحدة، قوة مجردة من الخوف، عاقلة ومندفعة. تصبح الحياة المفردة شرعية باتصالها بالمجموعة فقط، مع أن شعور الفرد بها في تلك البرهة مرهف أكثر مما كان قبلها ودونها. كان التناقض بين الرغبة المضطرمة بالحياة الذي يبدو هدف التجمع، وبين الاستخفاف بالموت، يستوقفه بعد كل مظاهرة خطرة. لكنه يومذاك رآه عندما دوى الرصاص ورأى الجرحى. لم يكن قيس والصف الأول من المظاهرة مستهدفين فقط، بل كانت الكتلة كلها. قرار غلوب إذن أن يخمد بالموت وبالخسائر الهبّة العامة! أخمدها؟ يستطيع قيس وأصحابه أن يضبطوا أول المظاهرة لكنهم لايستطيعون أن يسوسوا آخرها واستمرارها وردّها عندما يتدخل الطرف الآخر في وحشية. هاجم متظاهرون غاضبون النقطة الرابعة وأحرقوا السيارات. أطلقت الشرطة النار عليهم فقتل رجل. وفي الرمثا احتل المتظاهرون مراكز الحكومة وأعلنوا جمهورية. فقررت الشرطة أن قيسا أول المسؤولين عن ذلك الشغب.

عندما أعلنت الأحكام العرفية ومنع التجول، اختبأ قيس في بيت شيخ الجبل. دخل ضابط المخابرات طاهر مسمار مع جنوده إلى مضافة العشيرة، سلم وقصد أبا قيس: أين ابنك؟ لاأعرف! علمي علمك! إما أن تأتي به حيا أو نأتيك به ميتا! التفت طاهر إلى شيخ الجبل: ياأبا نعيم، عندنا معلومات تقول إن قيسا دخل هذه الدار! رد شيخ الجبل في سخرية: الدار أمامك، ياطاهر بك! فتشها! أي تحدّ! يفتش بيت زعيم العشيرة المهيب، رئيس مجلس النواب سابقا؟! قال: ولو ياأبا نعيم! كلمتك كافية!

في مخبئه قرأ قيس بيان سعيد الغزي في المجلس النيابي السوري. قرأه مرات واستمتع به. قال: سياسي هادئ، صرح بموقف جريء دون أن يخرق الأصول. يعترف بواقع فيه دول وحكومات عربية، ويذكر بواقع روحي هو غير ذلك! ولد قيس بعد سايكس بيكو. ومع ذلك شعر في تلك البرهة بأنه من جنوب سوريا. وخفقت في قلبه دمشق. قرأ: "الأردن جزء من الوطن العربي، كما أنه في الوقت نفسه جزء من الوطن السوري. نريد له الخير والعزة والاستقلال التام.. الأردن مرتبط بدستور ومجلس وحكومة وأوضاع شرعية لتلك المنظمات.. نحن لانتدخل في أموره الداخلية. لكن واجبنا القومي أن نقدم إلى الأردن الشقيق المساعدة والمعونة، التي تمكنه في ظل حكم نيابي شرعي صحيح، من أن يتخلص من القيود التي تحد سلطاته الشرعية. وقد تشاورت هذه الحكومة مع الحكومتين الشقيقتين مصر والسعودية في أمر تقديم المساعدة المالية للأردن وبعد المشاورات التي بدأت بعد الحوادث الاولى في الأردن وانتهت اليوم، قدمت الحكومات الثلاث مذكرة رسمية إلى الأردن جاء فيها أن الحكومات الثلاث ترغب في أن تتشاور مع الحكومة الأردنية في الطريقة التي تقدم بها الدول العربية المساعدة والمعونة للأردن.. أما المساعدات الأخوية التي علينا أن نقدمها نحو أبنائنا وإخواننا من أبناء الأردن الشقيق الذين جاؤونا مستغيثين، فقد فتحنا لهم أبواب بلدنا وحدودنا، وقدمنا وسنقدم لهم كل المساعدات التي يفرضها علينا واجب الإخاء". شعر قيس بحرقة في عينيه. فاستدار صاحب البيت كيلا يحرجه وهو يلاحظ ندى الدمع. قال له وهو يقلب الجريدة: صحيح، ياقيس! سورية سندنا! نحن هنا استمرار حوران!

بقي قيس في بيت شيخ الجبل يومين وليلتين. وصلته رسالة: يجب أن ترحل إلى سوريا فورا!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif
النهاية
http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

sanaa
18 Nov 2005, 05:19 AM
- 24 -


في تلك الليلة قال شيخ الجبل لقيس: لو كان الأمر لنا لما تركناك تخرج في مثل هذا المطر! لكن سلامتك عزيزة علينا! الله معك! حظك أن هذه السنة كريمة بمطرها وصحوها!

لبس قيس ملابس عربية فوق ثيابه، وخرج في الصباح الباكر مع رشيد، أخي صاحب البيت. مشى خلفه كأنه شغيل يسوق له زوج بقر. مشيا تحت مطر غزير إلى آخر بيت في إربد. في كرم واسع في المنطقة الشمالية من البلد بيت ابراهيم، ابن عم رشيد. وصلا إليه في السابعة صباحا. بقي قيس في ذلك البيت حتى جاءه موسى الجبل في الثامنة مساء ورافقه إلى قرية كفر جايز. خرج مع موسى والمطر يتدفق. المسافة بينهما وبين كفر جايز عشرة كيلومترات فقط لكن الوحل إلى الركبة. وصلا في العاشرة إلى بيت أحمد، زوج بنت موسى. أحمد أبيض الوجه، أبيض اللحية والشعر، في السبعين من العمر. زوجته في الرابعة والعشرين من العمر.

بيت أحمد في باحة واسعة فيها بقر وغنم وماعز. خارج الباحة الدكان. أوقد أحمد النار: جففوا ثيابكم! جلسوا قرب النار. وأحضرت زوجته العشاء: لبنة وجبنا وزيتونا وبيضا. يجب أن يعود موسى في الليلة نفسها! احتياط للسلامة! بقي قيس وأحمد وزوجته وطفلته الصغيرة. قال أحمد لقيس: نم أنت هنا، وسأنام أنا في الدكان. فوجئ قيس. ينام في غرفة واحدة مع زوجة الرجل الشابة؟ قال: ياعمي، سأنام في الدكان، ولتنم أنت هنا في مكانك! ابتسم أحمد في سخرية: ياقيس، يقال إنك ذكي وفتح وشاطر. والله لاأنت ذكي ولافتح ولاشاطر! سأله قيس: لماذا ياعمي؟ قال: إذا شمّوا رائحة وجاؤوا يفتشون عنك فوجدوني في الدكان لن يخطر لهم أني وضعت غريبا عند امرأتي الشابة! قال له قيس: لكنهم اتهموني ياعمي، بأني دون دين ولاأعرف الله، فكيف تتركني عند زوجتك؟ أجابه أحمد: والله، فيك دين أكثر ممن يقول ذلك عنك!

بكى قيس في تلك الليلة. لاعلاقة لهذا الرجل المسن بأي حزب، بأية منظمة، بأي ناد. ومع ذلك يؤويه في غرفة زوجته الشابة! ماأقل مايعمله لشعب فيه هذا الرجل! هل تستطيع ياقيس أن تحمل الثقة بك طول العمر؟! هل تستطيع أن تحفظها يوم تفكك المجموعات ويهشم الناس حتى الصداقات، ويبدو الفرد وحيدا، حرا حتى في الانتحار؟

بدت حماية قيس مقاومة يتعاون فيها الأصحاب والسياسيون والعشيرة وتتجمع فيها الصداقة والتنظيم والحماسة للزمان. وصل جابر في مساء اليوم الثاني ليأخذه إلى سما. ناما ليلة فيها وخرجا في اليوم التالي إلى منطقة في الشريعة يفترض أن تكون سهلة العبور. مع السلامة ياقيس!

بقي قيس وحده أمام النهر الذي قطعه ذات يوم إلى بلده. كان حدودا بين السلامة والخطر؟ بين الواقع والحلم؟ بين الوجع والانتظار؟ تدفق النهر بماء الأمطار الغزيرة التي امتدت من الشتاء إلى الربيع. نعم، هذه السنة غنية بالمطر والصحو! بحث قيس عن معبر. فغاصت قدمه وشعر بتيار الماء الجارف. لن يجد هنا معبرا! تلفت فرأى من بعيد بيت شعر. اتجه إليه. في العتمة يبدو الضوء قريبا لكنك تمشي طويلا قبل أن تصل إليه. ومشى قيس يجر ملابسه العربية.

يامرحبا بالضيف! نادى الرجل زوجته: شتوة! فأحضرت طعاما. كان ذلك قبل مطلع الفجر. سأله الرجل: منهزم؟ لامجال للكذب. قال: نعم! قال البدوي: وماعرفت تقطع؟ رد قيس: صح! بعد الطعام قال لقيس: قم! وأوصله إلى منطقة يصل فيها الماء إلى خصره. خلع قيس الملابس العربية وأعطاها للبدوي، وقال له: اسمي قيس!

لم يعد البدوي إلى شتوة. رحل إلى إربد. بحث عن أبي قيس وسلمه ثيابه العربية: اطمئن، قطع قيس الشريعة!

قطع قيس الشريعة! مقابله مزيريب. هاهو في الأراضي السورية! وصل إلى مرتفع والفجر قد طلع. رأى رجلا فسأله: أين أقرب مخفر؟ أشار الرجل: هناك! تبع قيس إشارته: أنا قيس!.. أوصلوه بالسيارة إلى درعا واتصلوا بالشام.

بقي قيس أسبوعين ضيفا في بيت كان أبناؤه ينزلون إلى إربد، فيزورون بقية أسرتهم ويحضرون اجتماعات النادي الثقافي. إربد أقرب إليهم من دمشق. استضاف ذلك البيت أيضا يوسف الهرمي، الذي احتل مع المتظاهرين مركز الحدود والجمرك في الرمثا، وأعلن "جمهورية"! وهرب مع مجموعته إلى درعا عندما أعلنت الأحكام العرفية. قال له قيس: جمهورية، دفعة واحدة يايوسف؟ هل كان قيس يتصور أن بلادا ومناطق ومقاطعات صغيرة في العالم لاتستطيع أن تؤمن حتى طعامها اليومي ستعلن الانفصال بعد نصف قرن من الزمان، وقت تتجمع الدول الكبرى في وحدات إقليمية؟!

وصل من دمشق نمر، الطالب في الجامعة السورية، يحمل لقيس مئة وخمسين ليرة سورية. ورافقه في منتصف كانون الثاني 1956 إلى دمشق.

دمشق في الخمسينيات مدينة صغيرة، أكثرها أحياء عربية ذات حارات. تمتد منها أحياء حديثة قليلة، بيوتها من طابقين أو ثلاثة، شوارعها مزروعة بالأشجار. فيها بناء واحد من ست طوابق هو "كسم وقباني" قرب البارلمان. وآخر في ارتفاعه تقريبا هو فندق فيكتوريا الذي لم تنزل فيه فيكتوريا لكن نزل فيه سلطان باشا الأطرش، ومصطفى كمال وشخصيات أخرى من الزوار. تبدأ غوطتها في الغرب عند التكية السليمانية، ومن الشعلان والروضة والسبكي. وفي الشرق عند الباب الشرقي. وتمتد من شارع بغداد حتى حي الصالحية على الجبل. مدينة جميلة، نظيفة، ومضيافة. مطاعمها رخيصة، يرتادها المثقفون والطلاب. والملاهي فيها ليست عزيزة على الموظفين. فيها بارات على شاطئ بردى وفي البارلمان والقصاع بقيت منذ أيام الاحتلال الفرنسي. ومقاه صيفية للعائلات في شارع بغداد والقصاع. أجر البيت فيها بسيط. والفواكه فيها كثيرة يتصدرها المشمش البلدي. يعرض فيها تفاح لبنان الملفوف بالورق الملون والمشمش الهندي في سوق علي باشا قرب المرجة. وتجوبها عربات باعة اللوز الأخضر المزينة بزهر المشمش والدراق في الربيع، وعربات عليها حلّة كبيرة فيها الشوندر في الشتاء وعرانيس الذرة في الخريف. يتوقف فيها الناس إذا مر السوداني الأسود النحيف الذي يحمل على ظهره علبة يبيع منها "فستق العبيد" الساخن في قمع من الورق. يخرج أهلها إلى الغوطة أو إلى الربوة في أيام الجمعة. وتمشي بناتها في طريق الصالحية مزهوات بشعرهن الجميل وقاماتهن الشابة وملابسهن الملونة، ويتجول الباحثون عن خطيبة هناك. وهناك غرفة الشاي التي يلتقي فيها الطلاب والموظفون في جلسات هادئة. دمشق صغيرة سكانها ثلاثمائة وخمسون ألفا. نظيفة وهادئة. أرصفتها عريضة مرصوفة. وحاراتها مشطوفة. في الأمسيات الحارة ترش سيارة الشوارع بالماء لترطبها. ماأحلى المشي في دمشق! ماأحلاه في أيام الشتاء الدافئة المشمسة، وفي الليل! سيستمتع قيس بليلها وهو عائد من مطعم سقراط إلى غرفته في الحبوبي! وسيصغي إلى حفيف القنب الذي تحمله الحمير إلى الأفران عند الفجر!

يوم وصل قيس إلى دمشق لفحته روح المدينة. وخيل إليه أنه يشعر بحرارة وهجها. كانت دمشق مركز مقاومة الأحلاف، مركز الحرية. مزهوة ببارلمان منتخب وحكومة وطنية وجيش يسوسه ضباط وطنيون حاربوا في فلسطين. مزهوة بأنها كسرت الحصار باتفاقيات اقتصادية مع المعسكر الاشتراكي، وبصفقات أسلحة تشيكية وروسية. كأن القهر الذي شربته في حرب فلسطين طوي! فأصبحت مدينة تتحدى دولا عظمى، وتستطيع أن تدافع عن نفسها! وسيبقى دائما وزنها وأثرها أكبر من مقياسها. وستجد دائما بذكائها التقليدي أحلافها الصحيحة. ليست وحدها الآن! معها المعسكر الاشتراكي ومجموعة عدم الانحياز والعواطف العربية! قال بولغانين في مؤتمر الدول الاوربية في فرصوفيا في أيار 1955 إن الاتحاد السوفييتي "لايمكن أن يقف مكتوف الأيدي" أمام الضغط على سوريا ومصر والبلاد العربية لإرغامها على الانضمام إلى الكتل العسكرية. وسيتكرر كثيرا هذا التعبير. وسيفهم منه السوريون الاستعداد للدفاع عنهم بالقوة! وسيقولون مازحين: نحن والاتحاد السوفييتي أقوى من أمريكا!

في دمشق، الجامعة مركز سياسي. للطلاب تجمع فيه ممثلون عن البعثيين والشيوعيين والإخوان المسلمين. تبدأ منها المظاهرات والعرائض والمذكرات إلى المجلس النيابي أو الحكومة أو الهيئات الدولية. يقرر ممثلو البعثيين والشيوعيين والإخوان المسلمين، مجتمعين، تلك النشاطات. تخرج المظاهرات من حديقة الجامعة الرئيسية، تمشي في طريق الجامعة، تنحدر بين أشجار الكينا، تعبر المتحف، وتصعد الطريق المرصوف بالحجر الأسود إلى البارلمان بين حديقة المنشية الجميلة وكازينو دمشق الدولي المظلل بأشجار كينا ضخمة، أو تمشي أولا إلى المرجة، ساحة الشهداء. يهتف المسؤولون الحزبيون ويردد هتافاتهم الطلاب. وأحيانا تصدح أغنية "ياظلام السجن خيم، إننا نهوى الظلام، ليس بعد الظلم إلا فجر يوم يتسامى".. نشيد يسمعه الطلاب الجدد فيتذكرون المتقدمين عليهم الذين سجنوا في أيام الشيشكلي، ويشعرون بأنهم مبتدئون لأنهم لم يمتحنوا بالسجن. لكن ذلك لايمنعهم من أن يتصوروا أنهم يسقطون حكومة أو يسندون حكومة، ويكشفون المشاريع الاستعمارية، ويمنعون القواعد العسكرية. بفضلهم لاتجسر حكومة على عقد اتفاقات تسمح بقواعد عسكرية! بفضلهم لاأهمية لأكثرية البارلمان المحافظة! هم والجيش يسندون النواب الاشتراكيين في البارلمان والنائب الشيوعي الوحيد! هم امتداد التجمع الذي يسمى جبهة وطنية! عندما تصل المظاهرة إلى البارلمان يقفز المسؤولون الحزبيون إلى السور ويلقون كلماتهم، ثم تتفرق المظاهرة ويشعر الطلاب بأنهم أنجزوا عملا كبيرا. هل يعرفون أن ذلك الاعتداد هو سبب الفرح الذي شمه قيس في الجو عندما دخل إلى الجامعة أول مرة؟! ليس الصبا فقط سبب الفورة التي رآها! بل هواء سورية!

في الأيام العادية يتجمع الطلاب بعد المحاضرات في الحديقة أو النادي. يسمعون إذاعة نادي الجامعة تنادي أو تنقل أو تداعب وتطلق أغنيات فيروز في الحديقة. يستمتعون بمناقشات الندوة الثقافية التي تنظم لقاءات ومهرجانات أدبية وفكرية. خلال زيارة قيس الجامعة أول مرة، عرض في كلية التربية فيلم عن جامعة موسكو قدمه كامل عياد. وقرر ممثلو الطلاب مظاهرة بدأت من الجامعة ووصلت إلى المجلس النيابي. خطبوا، وخرج إليهم النواب. انبهر قيس بتلك الحركة، فلم يشعر بالوقت الطويل الذي يثقل على اللاجئين السياسيين.

أبناء بلده في الجامعة شاب تخرج من كلية الطب يتدرب في المستشفى الوطني، وطلاب في كلية الحقوق، وطلاب في كليات الصيدلة وطب الأسنان. قدموه لأصحابهم السوريين وللعراقيين اللاجئين من حكومة نوري السعيد. وكان قيس يستمتع بتجمعات الرجال ومناقشاتهم التي تستمر حتى الفجر، فأصبح بسرعة وسط مجموعة.

قال للاجئين السياسيين العراقيين وللطلاب السوريين والأردنيين الذين جلس معهم في نادي الجامعة: سيطرد غلوب كي ينفتح حل ما. ستأخذ أمريكا مكان إنكلترا في المنطقة. وقد نفيد من عصر الانتقال فنصفّي النفوذ الإنكليزي! ثم جنح إلى الشعر، ووصف الشخصيات التي صادفها في السجن.

ملك بحديثه ونكتته تلك المجموعة من الطلاب فاستقبلوه في الجامعة يوميا. وانتظروا معه يوم الخلاص. داعبوه كلما رأوه: لم يسقط بعد غلوب؟ وسألوه أين سيستضيفهم في جمهوريته. وداعبهم أيضا فتجول في مدن العراق التي سيدعونه إليها! وفي مدن فلسطين التي سيزورها معهم! شرب معهم الكاكاو الذي تقدمه الندوة الجامعية، وأكل صحن "ميزو سبانخ مع الرز" من يد نجاح في مطعم الجامعة. وتجول خلال ذلك معهم في الحديقة. تأمل وجوه الطالبات النضرة البيضاء، وقاماتهن الرشيقة، وملابسهن الملونة الأنيقة. تنفس في عمق وقال: الشاميات! فداعبه ابراهيم السوري: أتين من أنحاء سوريا! تلك الشقراء الجميلة من اللاذقية! وتلك السمراء الرشيقة من حلب!

هل جمعت اولئك الشباب منظومة فكرية واحدة، أو مشروع عام فقط؟ لا، بينهم صداقة، حب، لهفة. كأن أحدهم مستعد أن يفتدي الآخر بروحه! ماسبب ذلك التوهج الذي يوهمهم بأنهم يصنعون القدر؟ الفرح باكتشاف الأخوة في منظومة فكرية مشتركة؟ سعة المشروع، ومدى الحلم؟ وهل يملكون غير المشروع والحلم وهم بعد دون أسرة ودون بيت ودون عمل؟ تذكر قيس تلك العلاقات الصافية الحميمة فيما بعد، عندما انقسمت الأحزاب في بلاد الشام، وتباعدت منظمات كل بلد عن الأخرى. في تلك الأيام نزل قيس عند السوريين كأنهم ملزمون به، ووجد العراقيين في وضعه نفسه! كأن بلاد الشام لاتزال موجودة، والأنظمة المحبوسة بالقواعد العسكرية في الأردن والعراق موقتة! سيسمي قيس فيما بعد جيله "جيل الخمسينيات"، وسيوسع تلك المجموعة حتى تسع منافسيه أيضا.

تحدث قيس في حرارة عن إعجابه بالجامعة. فرد عليه نمر، كأنه صاحب الجامعة: كل من ينزل في دمشق يزورها! يقصدها حتى السوريون الذين يبحثون عن زوجة! انظر، ذاك الضابط حام حول تلك الفتاة شهرا ثم خطبها. وذاك الشاب تخرج من الجامعة وخطب هذه الشابة السمراء النحيلة. عرض لوحة عنها في معرض اللوحات الجامعية. قال لي: حلمي الذي كنت أبحث عنه! روى نمر لقيس قصص حب أخرى ودلّه إلى أصحابها. هذه نعمت، قامة سويدية، لكن بشرة وجهها غير صافية. قومية سورية معتدة بنفسها لكنها دون نشاط سياسي. تنتقي أصدقاءها. اختارت حتى الآن اثنين رسبا في امتحانها. لديها الآن هذا الشاب الوسيم الغني. استقرت عليه ويبدو أنهما سيسافران إلى إنكلترا أو أمريكا! سأله قيس: وأنت يانمر؟ رد: ليس لدي شابة أحبها! سأتزوج من عشيرتي عندما أعود إلى البلاد! هنا، أذهب إلى بيت سري في الشعلان، فيه نساء جميلات!

في تلك البرهة عبرت الحديقة شابة بثوب أزرق مخضر، ووقفت عند مجموعة من فتيات وشباب. هبّ قلب قيس وشعر بأن وجهه احمر. انسل وجع رقيق عذب من قمة رأسه إلى قدميه وهو ينظر إليها. وكأنه عاد إلى اليوم الذي رأى فيه أول مرة الزرقة والخضرة في زخارف قبة الصخرة في القدس، فغمرته الرهبة والانبهار وشد على كف أبيه ذاهلا. قال لصاحبه: فلنقعد! واجتاحه خوف من أن تفلت الفتاة من عينيه. تبع خفقان شعرها، لحق فرحها، وجهها الصبوح، بشرتها المتوهجة. أحب قامتها وكتفيها. وردد لنفسه: نعم، كتفيها! ثم التقط فيها كبرياء استفزه. قال لنفسه: كأنها تملك الدنيا! وفي البرهة نفسها أكد لنفسه في هدوء: هذه الشابة قدري! قرر أن مااستشفه أصبح حقيقة وليس عليه إلا أن يتبعها لينفّذها. سأل صديقه: من هذه؟ لايحتاج صديقه إلى السؤال من تقصد. لاحظ أن قيسا ثبت عينيه عليها. قال له مبتسما: ليلى! سأله قيس: لاتمزح! من هي؟ رد نمر مرحا: ليلى! لم تسأل ياقيس إلا عن ليلى؟! ياللمصادفة! قيس وليلى مرة أخرى؟! كاد قيس يضحك. هرب من بلده متخفيا، عبر الليل والنهر والخطر كي يلتقي بليلى؟! دمشق أم ليلى أم هما معا هذا الصبا؟ قال نمر: ليلى صديقتنا! طالبة في كلية الصيدلة. لكنها لاتتجول في حديقة كلية العلوم. تقول، تلك الحديقة للعشاق! تفضل حديقتنا! لماذا اجتاح الفرح قيسا؟ لأن ليلى ليست عاشقة وإلا لفضلت الحديقة الأخرى! مع ذلك، ماأهمية أن تكون عاشقة؟ سينتزعها من أي رجل لأنها هواه المقدر له في أبراج السماء! هل بين ايمانه بحدسه وبين ايمانه بالغيب حدود؟!

أضيف إلى الجامعة رونق خاص لم يخف على صديق قيس! أمتعه أن يرى قيسا باحثا عن ليلى. فإذا صادفها ثبت في مكانه إذا كانت واقفة مع أصحابها، وجرّ صديقه ليدورا حول الحديقة إذا دارت ليلى مع أصحابها حولها. بدت ليلى لقيس دائما مشغولة بأمر لايعرفه أحد. كأنها تظهر، وقت يراها، في طريقها بين مكانين أو عملين. لذلك بدت له مستحيلة. لايمكن أن يمسك بها. وسيظل هذا الشعور يلازمه. قال له صديقه: وقعت ياقيس؟ كانت كلمة "وقع" تستعمل بين الأصدقاء للتعبير عن الغرق في الحب. لم يجبه قيس. قال نمر مبتسما: بلّغوني أنك ستلقي اليوم قصيدة في الاجتماع ضد حلف بغداد. سأكون هناك.. وأعتقد أن ليلى ستكون أيضا هناك. تريد أن أعرفك عليها؟ ستكون ليلى هناك؟ وستسمعه؟ أيمكن أن يقترب من ليلى، ويكون كهؤلاء الذين تتحادث معهم الآن في بساطة كأنها تعرفهم منذ ولدت؟! يجب أن تحتفل الدنيا بأول مرة تجمعهما! هز رأسه وقال لنمر: لا! فليترك للصدفة لقاء اليوم! يؤمن بأنه سيعرف ليلى، وسيمسك بكفها ويضعها على قلبه ويقول لها: اسمعي رجفته! ويقول: تريدين أن أنتزعه لأضعه على كفك؟ لو أتت اليوم فسيلقي شعره كما لم يلقه من قبل. وسيكون ذلك لها. مع أن قصيدته ستكون عن حلف بغداد.

في أرض دار بيت عربي في الميدان بحث قيس عن ليلى بين الحاضرين منذ دخل. ورآها بثوبها الأزرق المخضر نفسه، على كتفيها إشارب مطبوع برسم من رسوم بيكاسو. رأى بشرتها الشفافة، وخفق قلبه مع حركة شعرها. عم كانت تتحدث؟ هنا أيضا، كانت كأنها تملك الدنيا. فهل سيكون له مكان عند هذه السعيدة التي يبدو أنها لاتحتاج أحدا؟ ومع أنها بدت منصرفة إلى ماحولها بكل قلبها، قال لنفسه: ليست هنا، كأنها تفكر في مكان آخر، ويوم آخر! وشعر بالغيرة منها وعليها. ومرة أخرى انسل وجع عذب من قلبه إلى جسمه كله. لم يجسر أن يقول لنفسه أحبها. لكنه قال: قدري، وسأمسك به! قد يترك دمشق فجأة، قد يبتعد أو تبتعد، لكنه لابد أن يلتقي ذات يوم بها لقاء لن يفترقا بعده! لم يخب حدسه أبدا. فهل يخيب في أكثر الأمور قربا من روحه؟!

في الاجتماع استمعت ليلى إلى شعر قيس. أعجبتها رشاقته ونحوله. وقالت لنفسها: صوته، صوته! في صوته نغمة لاشبيه لها. أسى؟ سحر؟ قبلت قصيدته لأنها صحيحة سياسيا. لكنها لم تصفق بعد كل مقطع منها كما صفق من حولها. انصرفت خلال ذلك إلى النظر إلى وجه قيس وقامته وقوس الليوان فوقه، وشجرة النارنج إلى يمينه. رفعت رأسها إلى السماء مبهورة بزرقتها النيلية على حدود الليل. لكل ذلك جمال خاص على ايقاع صوته. نظرت إليه عندما أضيئت الأنوار كأنها لاترى سواه. وعندما انتهى بدت كأنها نسيته.

بقي قيس حتى سفره من دمشق كالطلاب المداومين في الجامعة. يتأمل ليلى من بعد، ويقترب أحيانا فيسمع صوتها الذي يقفز قفزا، يسمع ضحكتا السريعة، ويعجبه العنفوان في كلامها. صار يستهويه أن يمشي خلفها عندما تخرج من الجامعة. ينحدر وراءها مع النهر ويعبر معها التكية ثم يصعد الطريق قرب أشجار الكينا إلى التجهيز، وهو يتأمل ظهرها وساقيها وكعبها وحذاءها، رفيف ثوبها وشعرها، عبورها الشارع كأنها فيه وحدها. قال، سريعة كالمهرة، وحفظ رسم ساقيها وسيجعله مقياسه. حفظ ثيابها وفهم أنها تحب اللون الأزرق الأخضر والأبيض. فسأل صاحبه: أيمكن أن تكون عاشت في القدس؟ دهش نمر: في القدس؟ أظن أنها لم تسكن إلا في دمشق! ردد قيس: عاصمة بلاد الشام، حلم جنوب سوريا! واستعاد انبهار أبيه بالشام، وماترويه نساء بلده عن الزوجات الشاميات ساحرات الرجال. لكنه في زمن آخر! وليلى شامية أخرى!

في الثاني من آذار سمع قيس من الراديو: طرد غلوب. في الثالث من آذار 1956 نزل إلى ساحة المرجة، وركب السيارة مع المسافرين راجعا إلى بلده. عبر سهول حوران، ثم عبر درعا. لاتؤاخذوني ياأصحاب البيت الذي استضافني، لاأستطيع التوقف! ولم يكونوا في انتظاره! سبقوه إلى أهلهم في الرمثا وإربد وعمان والزرقاء ليحتفوا معهم بطرد غلوب. وفي دمشق لم يتوقع أصحابه أن يودعهم.

على الحدود حشد من الناس. ينتظرون الغائبين! كيف عرفتم أننا قادمون؟ حدس العشيرة التي تراقب أولادها من النوافذ، وتتابع أهواءهم وتزعجهم بذلك! انعقدت الدبكات وحاول الراقصون أن يطلقوا بها فرحهم. الدبكات التي ستعقد فيما بعد لتؤدي واجبا، أو لتنافق، أو لتخفي العواطف الحقيقية يوم تصبح الأفراح مقدّرة بمواسم، ويفقد حتى الحزن مذاقه، وتصبح الأعياد دون بهجة، وينكفئ الناس من الشوارع إلى البيوت، ويفسد مجتمع القرية والمدينة! وسيكره قيس عندئذ الدبكات كلما رأى صورتها في الجرائد.

على الحدود التقى بالعائدين من دمشق. ورأى المواكب التي رافقتهم حتى مدنهم وقراهم. مرة أخرى الجموع التي يحدد لها المشروع فقط أن تجري في الخير أو في الشر، ويجعلها المشروع فقط غوغاء أو جمهورا. شعر بالنشوة وهو يستمع إلى أهازيجها. لكنه عندما عاد إلى السيارة التي تنقله إلى بلده، ترددت في روحه قصيدة الرحبانيين التي كان يسمعها بصوت فيروز من إذاعة الجامعة، وهو يمشي خلف ليلى: وقوفا وقوفا، أيها المشردون وقوفا وقوفا. ترى هل تسمعون، ديارنا من يفتديها، من غيرنا يموت فيها؟ في الأمطار راجعون، في الإعصار راجعون، في الصباح، في الرياح، في السهول، في البطاح راجعون.. تمنى قيس في تلك البرهة أن يغني، وتذكر أنه لم يغن منذ زمن بعيد! ولكن أية عودة تريد ياقيس أن تغني؟ بأية عودة تحلم؟ صار الرجوع إلى البلد الذي هجّروك إليه أمنية؟ كأنك سامحتهم بفلسطين! ردد: أبدا! أبدا! لكن الهزيمة والنصر تبعدنا أو تقربنا منها!

بقي بيته أسبوعا مفتوحا للمهنئين. منذ ألف ليلة وليلة مايزال الأسبوع يؤرخ للفرح والحزن! وقبلها بآلاف السنين! لكن الاحتفال الطويل لايناسب الزمن! لا، ياقيس! نسيت أن التهنئة كالتعزية تعبير سياسي؟!

مع المهنئين أتى أبو صالح مدير السجن. أهلا ياأبا صالح، أهلا! قدم له قيس سيجارات. لاأدخن! يجب أن تدخن كي أفيك الدين! بقي أبو صالح حتى انصرف آخر الزوار في تلك الليلة. في فمه كلام. نعم ياعمي أبا صالح؟ اسمع ياقيس! قلت لك في السجن إن الملائكة قد تنزل من عروشها لكن غلوب لن ينزل، فأجبتني بل سينزل! وقد نزل. فكيف عرفت؟ دهش قيس. هل يتصور أبو صالح أن قيسا ذو صلة بمن يرسم قدر الممالك والبلاد؟ نظر إليه. نعم، ينتظر أبو صالح أن يبوح له قيس بسرّ! ياعمي، يزاح الشخص عندما يصبح عبئا على زمن. غلوب ماعاد مقبولا في البلد. مع أنه يخاطب العشائر بلغتها ولايفوّت عرسا أو وفاة أو مولد طفل، ويقدم فيها كلها الواجب. الخمسينيات تهز بلدنا كما تهز آسيا كلها. بدأ بعد الحرب العالمية الثانية زمن جديد، وصراع جديد. غلوب يوقف بلدنا في زمن مضى. سأله أبو صالح: وكيف عرفت كل ذلك؟ لم يكن الناس يومذاك يسمعون المحطات التلفزيونية ويتابعون الحوار بين المتنافسين فيعرفون ماتعرفه "الطليعة" وقد يسبقونها في الاستنتاج!

غاب قيس عن بلده زمنا قصيرا. ومع ذلك نظر إليه أبوه بعد انصراف الزوار كأنه يفحصه. فالتفت قيس إليه بملء وجهه. قال أبوه: فيك شيء لم يكن وقت سافرت إلى الشام! ردد قيس: شيء جديد؟ يابا، اختفيت أول مرة في عمري، لبست ملابس ليست ملابسي، قطعت القرى في الليل وغصت في الوحل والمطر. أكلت على سفرة غريبة، ونمت في فراش غرباء. وترى أني يجب أن أكون كما كنت؟ ابتسم أبوه. وصمت قيس. سأله: مازالت بنات الشام جميلات؟ فهم قيس مايقصده. قال: ذهبت إلى بيت في الشعلان فيه نساء جميلات! هذا مايريد أبوه أن يعرفه؟ سأله: ياقيس يلزمك مال؟ خذ! يفرحه أن يكون لديه ابن شاب يسعى إلى النساء! لكن لماذا لم يخطر له أنه "وقع" في الحب؟ نعم، هناك شيء جديد يخفيه! حب لن يفارقه طول عمره!

كان يعرف أن ليلى لن تكون حيث بحث عنها قبيل سفره. لكنه مر تحت شجر الكينا، وعبر المتحف والتكية، وصعد في الطريق إلى التجهيز. واستمع إلى خطواته على الحجارة السوداء هناك، واستسلم لأسى رقيق وممتع. وقف على المرتفع الذي يطل على بردى أمام التجهيز، وبدا له أنه قال لليلى أو للمدينة: إلى اللقاء! كيف؟ متى؟ لايعرف، لكنه واثق من اللقاء! هل كانت ليلى حلما يتمنى كل إنسان أن يستبقيه نضرا ويحتفظ به؟ هل كشف له هواه أن القضايا العامة لاتملأ وحدها الروح، وأنها إذا لم تتصل بعواطف يصبح حاملها آلة دون قلب؟ بقي في دمشق زمنا قصيرا لكن لهفة مجموعة الشباب الذين صادقهم بينت له أن المنظومات الفكرية والمشروع هي علاقات إنسانية. وعاد فرحا بها. وبدت له ليلى روح ماأحبه في دمشق، صبا وعنفوان وكبرياء مدينة وزمن ومجموعة. هل كانت تدري ذلك، أم كانت تجري في فضائها الحرّ مسددة إلى أفقها؟

سيضع قيس فيما بعد صورتها في جيبه، وهو يعبر منظمات ممزقة، وبلادا تهيء انهيارها، ويغطس منتقما من نفسه ومنها ومن الواقع الذي ترنح، وسيتخيل أنه يحمي نفسه من كل ذلك بالحلم بها. سيعانق فتيات متنوعات وصورة ليلى في جيب صدره بينه وبينهن، وسيخيل إليه أنها تحميه من الزلل. هل يحتاج حتى أكثر المعاصرين معاصرة، وأكثر المتمردين تمردا، إلى تميمة تقيه الشرّ وعين الحسود وغدر الزمن؟ ويكون كالطفل الذي لفّت أمه "الحجاب" المثلث في غلاف من القماش الأبيض، وأضافت إليه خرزة زرقاء وعلقته على صدره؟ هل كانت ليلى بثوبها الأزرق المخضرّ تميمته التي تدفع سواد النهار؟ إذا لم تكن ليلى حلما ومدينة ومشروعا، مثلا لايمكن أن يفجع به، نجما لايمكن أن يخبو، صديقا لايمكن أن يغدره، فلماذا ستظل بألوانها طوال العمر الذي سيعبره، دافئة رغم الثلج، وجميلة رغم كل من عرفهن من الجميلات؟ ربما كانت ليلى زمنا، سنوات مجيدة وجميلة في بلاده، الجزء الذي يعتز به من عمره! لذلك يجب أن يلقاها ذات يوم! لابد أن يلقاها ذات يوم!

http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif
النهاية
http://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gifhttp://www.syrianstory.com/glitter.gif

الشدادي
18 Nov 2005, 11:53 AM
سناء مشكوره على جهدك هي بالفعل كاتبه رائعه اعجبتني قصصها الجميله

وسأعود لكمل قراءة البقيه

المستحيلة
18 Nov 2005, 12:41 PM
الشكر قليل لجهودك سناء....
ولكن لاا عرف لماذا لا يحظين الاديبات العربيات والمثقفات بشكل عام
على التلميع الذي يحظى به الرجل !!!

sanaa
26 Nov 2005, 07:07 AM
الشدادي

أشكر تواجدك

وأسعدني ان نالت القصص استحسانك

دمت بكل الخير

sanaa
26 Nov 2005, 07:09 AM
المستحيلة

لا شكر أختي على واجب

أشكر مرورك العطر

وأنا أرى أن الأديبات اللواتي يتركن بصماتهن في الثقافة العربية ينلن ما يستحقنه

وسوف نحاول قدر المستطاع تسليط الضوء عليهن

دمت بخير