المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الـتأليف بين طـبقات اللــيل - أسعد الجبوري


كديميس
08 Mar 2006, 08:08 PM
- أنت تعمل على تخريب اللغة، عندما لا ترى فيها سوى شجر الرماد.‏

- ولكن أخبرني، كيف أصبح الخوف نباتاً في الأعماق. أليس هو الآخر الذي فرض علينا تفوقه على أرض تلك البلاد؟‏

لم ير الماوردي غير حزمة من الأشعة، وهي تنشق عن مرآة الغرفة، لتصطدم بوجهه وتحوله إلى قطعة من السيراميك.‏

- طيب. ليكن وجهك هكذا على الدوام. على الأقل ، فإنه لا يصاب بتلك الارتعاشة المُفزعة، حينما تعبر فوقه الأشباح.‏

- والانتظار.. أليس هو أولى ممرات الإهانة، حتى لو كان روائياً؟‏

قلت ذلك لنفسي وأنا أدخل الليل.‏



كانت السنوات الطويلة التي مضت عليك في الهاهنا والهاهناك، قطيع غيوم تهرول في حقول المجهول. لكن القطرات التي تنزل من أثدائها، لم تكن إلا هذا الحبر الذي تغوص في طوفانه حياتك الثانية. فالأرض التي لديك، ليست كما تكون الأراضي. والوطن الذي تبقى فيك، ليس غير مجموعة من الذكريات.‏



- هل سقطت في الوهم؟‏



- نعم. أوليس هو الغصن الذي خرج من جسد الواقع، ليصبح أطول الأيام في تاريخنا؟‏



- بئس هذه الثرثرة.‏



- و لكنها أصبحت برأس عالِ، و بقدمين أسرع مما لدى العدائين في الماراثون السياسي.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:08 PM
(1)‏



كانت العاصمة.. تفوح برائحة الموت. و كأن حرارة عظمى تمزق جثثاً لا حصر لها. فالنهار واقف كقطار طويل مُعطل. وعيون البشر دبقة، يساقط الماء من فوق وتحت جفونها بكثافة الصمغ. فيما المقاهي أشبه بالمقابر، تستقبل رواداً تكاد أن تكون أشكال قاماتهم من قالب واحد. عيون نصف مغمضة. شوارب غير منتظمة أشبه بخيوط البلاستيك. رقاب منتفخة كالقرب الجلدية التي يصنع الفلاحون فيها الزبدة. وبطون محشوة بالقطن منعاً لخروج مثل تلك الأصوات التي يعاقب عليها القانون الاجتماعي. وأفواه مفتوحة تنطلق منها الغازات والأدخنة والهمهات. أما الجدران، فقد كانت مليئة بصور الحاكم ونائبه، صورهم فقط.‏

كان يدرك منذ طفولته أنه وُلِد في نهر ما على أرض العُلجُوم. لم يعتره الشعور بالاستقرار. فكان مزيجاً من الأحلام التي تطير به خارج حدود مساحة القفص، أو ما كان هو يسميه بالمتر المربع الواحد. فلقد تحرر من التصحر مبكراً. لأنه يريد العالم، لا على صورة النسيج الدخاني الذي يتحكّم بالمخلوقات. بل عالم صنيع من الفنتازيا على غرار الكون الشعري للمخيلة. فكان، كلما قرأ كتاباً، قذف به إلى النهر. و كأنه بذلك يُعيد تكوين حبر جديد، أو يغسل الكتاب من محتوياته قدر الإمكان. فلبس لدى الماوردي ما يستحق التقديس، لا تلك الأفكار التي بدأت تنهار على ضفافه كأشجار الصفصاف، ولا البطولة التي يتقلدها المؤلفون السياسيون، و هم يتحدثون عن الطفولة الأيديولوجية وأقواس النصر ومخازن الأحزاب وعلب حفظ ثقافات الشعوب السردين.‏

لقد أخذته روحه بالبحث عن تلك الفراديس الغائمة طويلاً. يبني ويهدم. يخطط ويمزق. يطير ويسقط. أشبه بمن يطير فوق الأرض، ويحس بأنه يخوض في مغطس من الحمى. فيما كان الإرهاب الرسمي يتمدّد مثل قضبان الحديد تحت حرارة الشرق. وكأن الدمار هو السحر الوحيد الذي رافق بدايات الماوردي في أرض العلجوم. فهل هو عصر تلف الدماغ في البنيان البشري؟‏

أنه السؤال. و الماوردي لا يحبّ الأسئلة، أو الأمطار السوداء كما يحلو له أن يطلق تلك التسمية عليها.‏

هكذا كان يعتقد طوال سنوات عمره. فهو يفسّر العالم بالطاولة المستديرة التي يقابل شخوصها بعضهم لبعض، دون سواتر وأحجبة و خنادق وكواليس من أجل التفاوض وتقسيم المخلوق البشري إلى حصص ومقاطعات. وحتى هذه اللحظة، لم يأسف الماوردي على شيء يذكر. لا على المدرسة التي غادرها قبل أن يتعلم منها تقليم أظافره بشكل سليم. ولا على الطفولة التي سرقتها كتب المكتبة العامة مبكراً. ولا على الخدمة العسكرية، التي أنهى فيها الفترة الإلزامية لمدة 18 شهراً بارداً في الجيش. ففي ذلك الزمن، لم تكن هناك حروب ولا من يحزنون. لأن الحكم كان منهمكاً بحرب الاغتيالات السياسية وتصفيات الخصوم، تلك التي أغرقت البلاد بطوفانها الدموي منذ بداية السبعينات.‏

لقد كان النسيان أفضل للرأس من هطول الأفكار كالمطارق. لأنه نعمة. كما تعلّم الماوردي ذلك من أغنية سمعها عن مطربة عربية، كانت تغني في مطعم لمدينة تقع فيما وراء البحار.‏

"هذا أوان الذبول الاتنولوجي في العقل بعد خريف الأيديولوجيات."‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:09 PM
جملة جميلة كان يرددها الماوردي قبل دخوله عالم السرير، لا لشيء، إنما ليقنع عيونه بالاستسلام للنوم الحضاري. فجسده كاملاً، لم يعد مستعداً لبلوغ هذه القناعة منذ سنوات طويلة. وهو إن أقنع العينين لغواية النوم وهيأت أقفالها للإغلاق، رفض الدماغ هذه الفرصة التي يرى فيها اعتداءً عليه، لأنها تجعل منه أشبه بالموظف الذي يحال على التقاعد، وهو لا يريد ذلك أبداً. لذلك لا بد من التحايل:‏

"اشرب يا ماوردي حتى يغرق الدماغ بمحلول الحرير الأبيض تماماً، فيسقط في جبّ النوم."‏

أصبح الماوردي يدرك جيداً، أن تموجات الحياة في الليل، أقرب إليه من النهار.‏

"الليل زخرفة، فيما النهار مأهول بالرخام الثقيل الذي يشبه الجثث."‏

ومن هنا كان يميل للعزلة في مكان ما من الليل. مكان لا ثقب فيه للخوف من تأليف شخوص أقوياء، لا يشبهون تماثيل الشمع اليومية التي تتحرك، وتذوب تحت حرارة الشمس بسهولة.‏

"على المرء أن لا يصنع شمسه من تلك المصابيح المنارة في الشوارع، أو تلك التي تقف خلف زجاج النوافذ. بل أن يبتكر لنفسه حزمة ضوء من المعرفة، على الأقل لإنارة الذات أثناء عبور المضائق الحرجة أو المُهلكة. آه. ما أتفه كلام الفلسفة هذه الأيام. أن تصنع شمساً أو بطيخاً أحمر من المعرفة وتنير الآخرين وذاتك.. أليس هذا وهماً؟"‏

إن الصمت الذي تخندق في أعماق الماوردي طوال السنوات الطويلة، كاد أن يأكله و يبتلع عظامه، فقد أصبح وكأنه كاتب نصوصه المنتخب على أرض التِيه. فقد اعتاد أن يقول في نفسه:‏

"شهرة الصمت ولا شهرة البوح. والمشي في قاعة صامتة، أفضل من الشلل على قمة تتنازعها الريح، وقد تلقي بها إلى صناديق النفايات في أية لحظة."‏

"أتبقى صامتاً يا ماوردي.. وقد اجتازت التماسيح ممرّ الرقبة، وامتدت اعناقها إلى نفق الأحشاء"‏

ظل الماوردي صامتاً كعادته. جبل لا تهزّه الريح. لكنه كان يضحك. وهو يرسم في نفسه صورة من صور أبطال الإغريق.‏

لم يكن للحقد من ثياب يرتديها. فالذين عاشوا زمنه، يعرفون نزعته الأرستقراطية في الصداقة والحبّ والكتابة. فقد ألحقَ الجنونَ باللغة الداخلية، لتصبح شبكة موسيقية بين الحواس. وتنكر للسياسي لصالح الفني اللامتناهي. فالفن هو النبيل المقدس على الأرض. وهو النهر الذي يمد لسانه بجرأة إلى البحار العالية.‏

لذلك.. وقبل أن يقتنع الماوردي بالخروج من بلاد العُلجوُم والتوجه نحو حدود الشمال. كان يعتقد بأن الكتابة مقياس الأمن الذاتي والسلامة السياسية. لا مقياساً للإبداع والعملقة. فأن تكون كاتباً أو شاعراً مشهوراً هناك ، يتعين عليك دخول السجن في بلدك، لأتفه الأسباب. أو قبول الموت في أية لحظة تختارها لك الحكومة. فمن يكتب في بلاد العُلجوُم، ليس الكاتب أو الشاعر، بل السلطة. بعقلها الأمني. لذلك، الفرار من القفص الذهني والجسدي معاً، آمر لا بدّ منه.‏

"أرض العُلجُوم.. تحرج الأنبياء بمظالمها. فكيف الحال بالنسبة لواحد مثلك.؟"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:10 PM
ليس من خيار.. إلا أن تذوب كفص الملح. فأنت لم تخلق من أجل زنزانة. ولا السباحة الحرّة في أحواض الأسيد المخصصة لمن يراد تنظيفهم من على أرض العُلجُوم. فالحكومة تريد إنتاج جيل من العبيد، لذلك لا بد من القسوة. لأنها القانون. فالمرء لا يعتبر عبداً دون سوط، كما يبدو!‏

تذكّر الماوردي رجلاً كان يعرفه. رجلاً وديعاً تسيطر عليه نزعة الأبهة و الفخامة. وجلّ طموحه، يقوم على فكرة شراء مقهى من مقاهي المدينة، فقط من أجل أن يعلّق صورة كبيرة له على جدار صدر المقهى. وعندما نال مراده، وافتتح المقهى، لم تمكّنه الحكومة من تعليق صورته الشخصية في المكان الذي كان يحلم به. فذلك ممنوع!‏

الأمر الذي دفعه لإحراق المقهى وصورته ذات يوم، ليقفل عائداً للعمل في الريف. لأن المدينة لم تحقّق له ما كان يرغب به.‏

"يلعن أبو المدينة الفاضلة و السلطة الفاضلة و الصور الفاضلة."‏

أتتذكر المشهد يا ماوردي، وأنت في مثل اللحظات العصيبة؟‏

لا. انسى المقهى والصورة، ولا تغرق داخل حوض الذكريات أكثر فأكثر. فلن تنفعك الآن تلك المتعة. ألا تحس بأن الخوف يملأ الجسد بدلاً من الدم. فكن حذراً. ولا تدع ذكرياتك تسرح بك في غابة الشوك. فأنت لو وقعت في الحفرة الكبيرة، سيمزقون حتى أفكارك و خيالك.‏

هل تنسى الشاعر الحصيري في موقف الإفلاس، يوم قرر الانتحار لعدم قدرته على تأمين سكرة الليل.. فنزل إلى ضفة النهر بهدف التخلص من الحياة، ومُنع عن فعل ذلك، لأنهم طلبوا منه أن يرمي بنفسه من على الجسر، لا أن ينتحر وفقاً لما خطط لذلك هو بنفسه! وهل تنسى ما قاله الحصيري لناصحيه آنذاك:‏

"اللعنة على بلد فقدنا فيه حتى حرية الانتحار؟!"‏

إذاً.. لا بدّ من اجتياز الحدود يا ماوردي. دع هذي البلاد لمن هم أقوى منك. وأترك نفسك للكتابة. فالبلد ستتفسخ تحت عنف طوفان الإرهاب والحروب. جرّب حظك في مكان آخر من هذه الأرض. فأرض البلد الذي ولدت عليها، كأنها رهينة لغضب الآلهة، وربما ستبقى هكذا لوقت طويل قادم. اذهب وراقب البلد من بعيد. فالذين اجتازوا الحدود، ليسوا رهائن الخوف وحده. بل لأنهم لا يرغبون الاستسلام للموت المبتذل، بعد ما أصبح الإعدام أقل عقوبة في بلد العُلجُوم!‏

لن تحميك قوانين وشرائع مسلّة حمورابي يا ماوردي. فالحضارة الممتدة إلى آلاف السنين، كأنها ريش عصفور تمزّقه الكلاشنكوفات التي بات يستخدمها المسؤولون في الصيد. فلا تجعل من نفسك مسخاً. ويكفيك أن تكون حياً، فيما لو استطعت اجتياز الحدود.‏

وفيما لو وقعت في قبضة الأمن، فستدرك كيف تكون الحضارة! الزنزانة الانفرادية التي تحشر فيها مع الحشرات. وماكينات عصر الرأس. والحزام الكهربائي الذي سيرسل فيك ملايين الاهتزازات التي تقذف حياتك بعدها كالبصقة على البلاط. هذا الفصل الأول، وسيتم قبل دفعك للاعتراف. وما لا تعرفه عن السجون الأخرى، أفضل مما لو عرفت.‏

كان رأس الماوردي يعمل كخلاط الفواكه. وفجأة وجد نفسه في حانة قرب جسر كان على نهر يطل منه القصر الرهيب. احتسى كأساً صغيرة من العرق الزحلاوي، وتوجه نحو محطة القطار: إلى آخر مدينة في الشمال. إنها المغامرة الأولى وربما الأخيرة يا ماوردي.‏

"لا ضمان لحياة ما في العُلجُوم!!"‏

قالها الماوردي وقلبه كمنفضة أعقاب السجائر. جمر ودخان ورماد. فيما عيناه مليئتان بدمع متجمد. إنه لا يريد لدموعه أن تفضحه أمام المسافرين، على الرغم من الليل وخفوت المصابيح في القطار الذي كان يتلوى كالأفعى في بلعومه طيلة الرحلة.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:11 PM
إلا أن الساعات الأخيرة من الظلام تكاد تبلغ نهايتها. والماوردي لم ينم.‏

فقد وضع عقرباً تحت جفنيه لئلا يفعل ذلك. فيما العجلات تهرس جسده من أخمص القدم إلى الرأس.‏

- ها، قد تحولت إلى سندويشة مقانق لا تشبع طفلاً يا ماوردي.‏

- ولكن. ماذا يضع الباعة مع المقانق لكي تكون لذيذة بهذا القدر؟‏

- الكاجب.‏

- أه، و لكن من أين لي هذا الكاجب الآن؟‏

مع وصول القطار إلى المحطة، شعر الماوردي بأن رأسه يختض بالكاجب. حتى أنه تحسسه بيده، خشية أن يكون الأمر كذلك فعلاً. لفّ جسده بالمعطف الثقيل الذي ليس لديه من متاع سواه، مستعداً للقفز من القطار في لحظة التوقف الأولى. إلا أن يداً أمسكت بكتفه الأيمن من الخلف.‏

"ها قد قذفت حياتك يا ماوردي كالبصقة على البلاط."‏

قالها وقد تحولت قامته إلى جذع شجرة فاحم و ملتهب، وكأن صاعقة ضربتها تواً.‏

- هل لك أن تمسك طفلي لأُنزل الحقيبة من على الرّف.. رجاءً؟‏

- أنا أمسك؟ لا أستطيع.‏

قالها الماوردي، وقذف بجسده إلى خارج باب القطار كالخرقة. كان يمشي ويتصبب عرقاً على الرغم من برودة الطقس، مردداً كلمات تلك المرأة:‏

"هل لك أن تمسك طفلي لأُنزل الحقيبة؟"‏

"ما علاقتي بالطفل والحقيبة والكلام الفارغ. يلعن أبو الطفل وأمه و الحقيبة."‏

"ثمّ لمَ تحمل حقيبة وهي في رحلة داخل البلد؟ نحن نسافر إلى الخارج ولا نحمل معنا حقائب!"‏

"هل تزوجت بنت العاهرة، لتنجب طفلاً يجعلني فحماً في مثل اللعنة التي أنا فيها؟"‏

"اللعنة.. هي ضاجعت ابن الكلب لمدة تسعة أشهر. وأنا سأحمل لها طفلها لتُنزل هي الحقيبة."‏

"بل. ماذا لو كانت تلك المرأة تحمل حقيبتين مثلاً؟ ربما سمتني زوجاً لها قائلة: إمسك ابنك يا رجّال!!"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:11 PM
نحن أكثر البلدان إنتاجاً للأحلام، و أقلها استهلاكاً. فكائن ما بين النهرين مخلوق حالم. عقله مُركّب على هيئة خزائن الثياب. و لكن لتعليق الأحلام وطويها وترتيبها ومنع الغبار من الوصول إليها.‏

‏ لكن تلك الخزانة، سرعان ما تتفلش من كثرة ما تراكم فيها من ثياب. نتيجة للتناسل و قلة المساحة وطول الانتظار. ونسل السلالة التاريخية من الأحلام، لم يحقّق نصراً. فسقطت أرضاً كثمار متعفنة.‏

كنت تعتقد بوجود أحلام لا يطالها الصدأ أو الموت. لكنك الآن، ترى بأن العصفور الذي لا يطير، سيتعفن في عشّه، مثله مثل الهواء، عندما يصبح راكداً لا يثير إلا الاختناق.‏

كانت البناية الشاهقة مغطاة بالثلوج. وربما هي الوحيدة التي كانت مُعلقة بالأفق آنذاك. ولم يكن ليظهر منها غير تلك المصابيح المهشمة التي تقذف ذلك الشخص المار تحتها بالصراخ الجاف.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:12 PM
(2)‏

كان صباح المدينة التي وصلها الماوردي صباحاً متجهماً كوجه شخص خارج لتوه من مسلخ لذبح الحيوانات. فالشتاء يمشي على قفاه في الشوارع. والبرودة مؤثرة لأنها تبثّ الهواء في الرئة على هيئة نشارة من الألمنيوم. فيما الناس كتل متحركة، لا يمكن الكشف عن هوياتها من كثرة الأغطية التي تلتف فيها الوجوه و الأجساد.‏

"أين أنتَ الآن أيها المُهرّب الدولي؟"‏

قالها الماوردي وهو يحث الخطى نحو ذلك الزقاق التي أخذت هندستها شكل الأمعاء الدقيقة من المدينة.‏

- حتماً. سيكون غارقاً في تخته الوثير، وهو ينحت في بقرته السمينة قبل الخروج للعمل!‏

- كلا. فعادة المهربين ليست هكذا. إنهم ينامون خارج بيوتهم من أجل الطوارىء.‏

- إخرس يا ماوردي. فأنتَ لا تفقه شيئاً. فقد يكون عنوان المهرب خطأً. أو قد يكون انتقل إلى منزل جديد. أو قد يكون مطارداً من قبل مفارز الاستخبارات. لكثرة ما هرب من بشر إلى خارج الحدود. أو قد تكون زوجته قد قتلته للاستئثار بأمواله.‏

"اللعنة على حظك يا ماوردي". قالها وهو يضغط بإصبعه على زر الجرس.‏

بعد لحظات.. انشق الباب عن فتاة في العشرين من العمر وهي ترتدي قميص نوم أحمر أو خمرياً. المهم أنه بلون الكاجب، سرعان ما سحبته من يده قبل أي سؤال، وأدخلته غرفة الضيوف، الأمر الذي أربك الماوردي وأعاده إلى حالة الكاجب التي داهمته البارحة في القطار.‏

فتزوبع قلبه من هذا التصرف الفجائي الذي لم يحسب له حساباً.‏

"أهو بيت المُهرّب حقاً؟ أهي ابنته؟ أخته؟ أم من؟ وأين هو بعد انقضاء ساعة من الانتظار وحيداً في غرفة الضيوف؟"‏

- أهلاً. حيته الفتاة و قدمت له القهوة مع ابتسامة لا غبار عليها. قد يتأخر زوجي بالوصول إلى البيت بعض الشيء، و لكن لا تقلق فكل شيء سيكون على ما يرام. اعتبر نفسك في بيتك. خذ حريتك في التصرف بكل شيء.‏

- و لكن يا سيدتي..‏

- لا تكمل الحديث. فنحن نعرف عنك كل شيء، فالشخص الذي سلّمكَ عنوان بيتنا، لم يبخل علينا بالمعلومات. اسمع. أنتَ تخدم بلدك بالهروب من الفاشية. و نحن نخدم بلدنا بتهريبكم منها. هذه نظريتنا التي نروج لها: نُفرغ البلد من الحطب. بعد ذلك لتُشعل الديكتاتورية النار في ثيابها.‏

- هذه نظرية فاخرة...‏

- أرجوك. الكلام لا يناسب وضعك النفسي الآن. قم معي لأدلك إلى الحمام، فالدوش الساخن قد يروض مخاوفك، ويجعل منك رجلاً صالحاً. هيا!‏

دخل الماوردي الحمام. وعندما استلقى في البانيو الأزرق وأدار مفتاح الدوش، شعر بتدفق وثقل المياه على رأسه وكأنها نفط خام. حاول أن يصرخ لكي يزيح الجبال التي تستقر على صدره، لكنه عجز عن تحريك قطعة الصابون من مكانها.‏

- ما الذي يحدث بربّ السماء؟‏

قالها الماوردي قبل أن يسقطه النوم في البانيو، بفعل حبة المنوم التي وضعت له في القهوة، كأسلوب للقضاء على الخوف والتوتر العصبي العالي الذي كان يسيطر على كيانه! بعدها.. لينقل إلى السرير الخاص بلا حراك.

كديميس
08 Mar 2006, 08:13 PM
عند حلول الساعة الثامنة مساءً، دخلت سيدة المنزل غرفة نومها. أنارت الضوء متوجهة نحو السرير الخرافي الكبير الذي يحتل مساحة كبيرة من المكان، وربما أقل بقليل من المساحة التي يحتلها العطر في الغرفة الملوكية.‏

"إنه النائم، وقد حلّت عليه اليقظة لتناول العشاء مع الضيوف في الصالة المخصصة لمثل هذه الأغراض؟"‏

استفاق الماوردي بمجرد انتشار الضوء في الغرفة. فوجد جسده النحيل بين أغطية حريرية و شراشف و مخدات، تبرق كلها بلون البحر. أما جسده، فقد وضع في دشداشة بيضاء فضفاضة، وبلا ثياب داخلية.‏

"اللعنة عليك يا ماوردي. من جاء بك من الحمام إلى هذه الجنة؟"‏

"ومن وضع جسدك العاري داخل هذا الكيس الحريري الأبيض؟"‏

تدفقت الأسئلة كما الدماء الساخنة إلى جمجمته. إلا أن سيدة المنزل، سرعان ما انتزعته من السرير. فمشطت له شعره أمام المرايا التي تتلألأ عليها صورة السرير من جميع الاتجاهات.‏

بعدها فتحت إحدى الخزائن المحفورة في الجدار، لتتناول منه وشاحاً أحمر اللون، وضعته على عنقه في شكل ربطة. وبعد الانتهاء من مراسيم الهندسة.. دخلت سيدة المنزل قاعة الطعام، وهي تمسك بالماوردي من يده على طريقة الكونتيسات، فنهضت نسوة خمس من مقاعدهن لتحيته.‏

كانت الصالة حارة. النساء بفساتين من الموسلين الأسود الذي تتطاير من خلاله الأنوثة المفزعة. والمقاعد من الكراسي المشغولة بالمخمل المائل إلى اللون البنفسجي. أما الجدران الأربعة، فقد غطتها الستائر السميكة من كل مكان، عدا الجهة التي يقع فيها موقد التدفئة الحطبي الذي يستقر فوقه تمثال من العاج الأسود لتمساح ضخم.‏

"أين أنت يا ماوردي؟ وما الذي يحدث لك من خرافات في هذا المنزل؟"‏

"أنتَ في الفردوس يا ماوردي. فلمَ تصف بلاد العُلجُوم بالجحيم؟"‏

"هذه النساء يكذبنك. وهذه المائدة تكذبك. وهذا البطر والفنتازيا لا تجعل منك كذاباً وحسب، بل أفاقاً. ولماذا تحاول الفرار من النعيم الذي أمامك؟ هل سيكون المنفى أعظم مما أنت وفيه يا أبن...؟"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:14 PM
جلس الماوردي إلى الطاولة في الصدارة. كان كرسيه مختلفاً عن بقية المقاعد. من خشب الزان المزخرف بالصدف. له يدان، وقد تم تنجيده بجلد نمر. فيما جلست سيدة المنزل إلى يساره، وهي ترتدي فستاناً حريرياً أبيض، نهايته السفلى مكشكشة. فيما كانت نهود النساء تتلألأ كمصابيح الفنارات خلف الثياب. أما شفاههن، فشلالات من عصير الكرز.‏

"ماذا ستأكل أولاً يا ماوردي: البط المحشو أم النساء المحشوات بالأنوثة الطاغية والرغبات التي تفوح من بقاع أجسادهن كالياسمين؟"‏

أحس الماوردي بأن دماغه يكاد يسقط أمامه على الطاولة ككتلة من نار. ودون شعور منه، امتدت يده لتلتقط قنينة من العرق الزحلاوي. فتحها و كرع منها الربع مباشرة. أحست النساء بأن شيئاً ما حطم وقار الجلسة. وقد جلب ذلك لهن بعض الرواق و البهجة. كأس من العرق يكسر عفة الصمت. فما الذي يكسره لتر منه؟ قال ذلك في نفسه، وهو يستعرض مقاطعات الجمال التي أمامه.‏

و بدأت كؤوس الخمر دورتها الأولى على الجميع. هذه أفضل طريقة.‏

"وبالخمر.. نستطيع أن نحافظ على قطع غيار العقل، قبل أن يتم استهلاكها بأفكار الجملة مبكراً."‏

"ولكنه مضر بالصحة يا ماوردي."‏

" ومن قال بأننا عبارة مثبته في قاموس صحة بلاد العلجوم أصلاً!!"‏

قال ذلك الماوردي لإثارة ردود أفعال النساء. لأنه كان يحاول أن يشق بثرثرته غلاف العالم الذي هو فيه الآن فمع تدفق العرق والأغاني والحرارة التي يرسلها الموقد إلى داخله مضافاً إلى ما في روحه من فواجع وأحزان. جعلت منه أشبه بسمكة في أكواريوم مليء بالشامبو. وها هو يريد القفز لالتقاط هواء العالم الآن. شعر بالاختناق. فنهض نحو الموقد محاولاً إبعاد رزمة من الحطب عن النار. فقامت سيدة المنزل في أثره لتراه يفعل ذلك و عيناه مشبعتان بالدموع.‏

- أهو الحطب أم النار؟ قالت سيدة المنزل وهي تحدق في عينيه مشجعة. أجابها الماوردي‏

- فقط من أجل إبعاد الحطب لتخفّ الحرارة قليلاً.‏

- لكن النار ستنطفئ.‏

- وسنفقد الحرارة.. أليس كذلك؟ قال الماوردي.‏

- كلاهما لكليهما. ردت السيدة، وهي تدفع برزمة الحطب إلى داخل الموقد.‏

عاد الماوردي إلى مكانه وأشعل غليونه ذائباًً في صوت أغنية فلكلورية كانت تنبعث من جهاز التسجيل. كان يشعر بأن الأغاني الجميلة تتحول في بعض الأوقات إلى ما يشبه المحاريث التي تستعمل لقلب التربة. وها هي تفعل فيه ذلك في أراضيه تماماً.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:14 PM
"لا مفرّ من المحاريث والعجلات والكاجب. هل يحتاج الهروب من الموت لكل هذا الذي يحصل لك يا ماوردي؟ ثم إلى أين ستفرّ والمُهرّبٌ غائب عن بيته حتى هذه الساعة التي قاربت منتصف الليل؟ فهل هرب هو الآخر؟ قالها لنفسه وهو يبتسم. وأضاف:‏

أين عواطفك إزاء النسوة. والتي كانت أشبه بالزلازل؟ أنتَ الذي دخلت تاريخهن على يد تلك الخيّاطة الجميلة. فعلّمتكَ الجنس، يوم لم تكن قد بلغت الثالثة عشر من العمر؟ هل مات كل شيء في قلبك، وصرت لا تبحث إلا عن الملاجئ والأقبية ودروب الهروب؟ لا تقل ليس هذا هو الوقت المناسب. فيوم للهرس تحت عجلات الأمن. و يوم آخر للإنهراس في حبّ النساء يا ماوردي."‏

قطعت سيدة المنزل على الماوردي أفكاره التي ذهبت به بعيداً. عندما دعته لأن ينزع الوشاح عن رقبته ويلقيه لنار الموقد. وعندما حاول الاعتراض على مثل هذا الأمر، قالت له السيدات:‏

"إنها تقاليد المنزل التي لا مناص منها.!"‏

وفهم الماوردي فيما بعد اللغز. فالوشاح يقدم هنا كقربان للنار. أما هو فسيقدم كقربان لنيران أخرى.. ربما لسيدة المنزل!‏

"أجل.. إنها النار. فلا تكن في ضيق من أمرك. فاترك الحبل على الغارب يا ماوردي، وليحدث ما يحدث. اعتبر نفسك ميتاً في حادثة سقوط طائرة في المحيط الأطلسي. أو شهيداً في الحرب العالمية الثانية أو فيتنام. قل إن أمي قد أجهضتني وأنا في الشهر الأول. قل إن نمراً كهذا الذي تجلس على جلده المسلوخ، قد طبخ لحمك بين أسنانه وأنتَ في رحلة سفاري في تنزانيا أو موزمبيق. اعتبر أن سور الصين قد وقع على رأسك وهرسه كرأس الباذنجان. قل عن موتكَ أي شيء، وخلّصني يا ماوردي. فلن يكتب أحد سيرتك الذاتية. فمثلما نُفقت أرواح الآخرين، ستلفظ أنفاسك أنتَ ولو كنت في الأبراج المشيّدة."‏

نهضت النسوة الخمس من مقاعدهن باتجاه الماوردي. أربعة منهن حملنه وهو على كرسيه كالإمبراطور. فيما حملت الخامسة صينية من الفضة عليها مقص ومنديل أبيض. وتوجه الموكب نحو مكان مجاور لغرفة النوم.‏

إنها "غرفة النزهة"، كما قالت ذلك سيدة المنزل، وهي ترحب بالضيف الماوردي الذي ظل متسمراً على كرسيه كالتمثال.‏

أخرجت إحدى السيدات علبة معدنية صغيرة من جارور كان يقع في زاوية الغرفة، ثم قامت بنزع الغطاء عنها، ثم دلقت بمحتوياته على ثوب الماوردي قائلة له بصوت فيه شيء من التهدج:‏

"هذا حبر الكتابة. ونحن نريد حبرك؟"‏

خيم الذهول على وجه الماوردي. "ما هذا الجنون الذي يحدث؟"‏

إلا أن سيدة المنزل، تناولت المقص من الصينية الفضية، وشرعت بقص الثوب الأبيض للضيف. من الأسفل إلى أعلى الزِيْق. وعندما تم ذلك، سارعت النساء إلى خلعه نهائياً.. لتظهر بعد ذلك جميع أراضي الماوردي عارية، كما لو أنها صحارى يبتلعها الصمت و الخوف.‏

"حان وقت الأجل يا ماوردي. فسوف تُقطع إرباً إربا كالثور في هذه المؤامرة الدنيئة، كما قٌطعت رقاب الكثير من الأمراء في قصور الكونتيسات. ألسن هنّ من طراز تلك النسوة ومن فصيلتهن؟!"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:15 PM
كلا.فلا بدّ من أن تحتفظ برباطة جأشك. فهذه الطقوس، ليست أكثر من صور تتذكرها لأبطال من تلك القرون."‏

"ما عليك الاستسلام للنساء. فهن المكائد بعينها. فقد يقطعن جسمك عضواً تلو الأخر. وعندما ستستفسر عن معنى ذلك، سيجبن: من أجل تسهيل عملية تهريبه عبر الحدود.!"‏

"طيب. المهم أن تصل إلى هناك، فقد تجد من يجمع لك جسدك مرة أخرى."‏

"كل شيء يهون يا ماوردي. المهم أن تعبر الحدود.‏

"و ما أدراك.. فقد تقع في حبك واحدة من نساء بلدان ما وراء الحدود.. فما الذي ستفعله آنذاك؟"‏

"بسيطة. قل لها بأنك من المنتمين إلى جمعيات الحب العذري."‏

"لماذا كثرة التفكير يا ماوردي. فقد تصبح هناك نجماً من النجوم التي تفتخر بها لجان الدفاع عن حقوق الإنسان وما شابهها. وتكون بذلك قد نلت الفرق."‏

-أنهض يا ماوردي. قالت سيدة المنزل.‏

-أنهض ولمَ لا. أجاب الماوردي وهو يحس بتحول ساقيه إلى قصب جاف.‏

-بماذا تشعر يا ماوردي الآن. هل أنت خائف؟ اقتربت منه امرأة وهي تضع أصابعها في شعره.‏

- الماوردي لا يخاف حتى وإن تحول جسده إلى لحم مفروم.‏

- ولمَ الفرم والقطع يا ماوردي. نحن لا نريد أن نفعل شيئاً من هذا القبيل.‏

قالت له سيدة المنزل وهي تبتسم تلك الابتسامة التي لا غبار عليها. فنحن رهائنك. فلا تفكر بعكس ذلك.‏

- وما هذا الذي يحدث لي هنا بحق السماء؟ قال ذلك الماوردي بصوت مختنق، والدموع تتقافز من عينيه ككرات البلياردو.‏

- لا شيء يا ماوردي، إنها الفرجة فقط فأنت في مدينة العسكر العريقة. كل الرجال في واجب الخدمة. وهم بخلاء علينا يا ماوردي إلى حدود أنهم لا ينامون مع نساءهم إلا في المناسبات ولا يأكلون إلا من القصعة. فقل ماذا تفعل نساء مثلنّا، وهنّ في مثل هذا الوضع من الشباب والجمال؟‏

سمع الماوردي ذلك من سيدة المنزل، وكأنها سفينة تجهش بالبكاء. وبدأ يستعيد شجاعته بالتدريج.‏

" أهنّ يخدعنني بإسناد دور البطولة لي في هذا المنزل اللعين؟ أم ما سمعت من كلام، هو هراء بهراء، وسيكون القادم أعظم؟"‏

" ولكن.. هذه السيدة متألمة حقاً. امرأة تلتهم النيران جسدها وأنفاسها وثيابها. حتى أن نحيباً خافتاً ينبعث من خلاياها ياللهول .‏

تقدمت النسوة الأخريات خطوات من الماوردي، فشكّلن دائرة حوله، هو نقطة قطرها.‏

" يا ربّ.. حتماً سيأتي الرجل المُهرّب ويقتلني شر قتلة"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:18 PM
" كلا. فربما يكون هو متعلقاً بعشيقته، ويحاول التخلص من زوجته وزمرتها. آنذاك سأقنعه بضرورة تهريب النساء معي. سأعده بالكثير من الدولارات، عندما أصل إلى هناك. فالدولارات في العالم الخارجي كأشجار اليوكالبتوس. سألتقط الكثير من أوراقها. وحتماً.. سيقتنع الرجل و يقوم بشحننا سوية في سيارات تهريب الأغنام و الأسلحة و صناديق الشاي والسكائر الأجنبية. بعدها سأخبر أمي بأنني سأتزوج من إحداهن.‏

أجل. سأكتب لها ذلك في رسالة ستصلها وعلى غلافها طابع أجنبي عليه صورة أرنب أو سمكة. سوف توافق أمي على طلبي حتماً. بعد أن تطوف على بيوت الجيران لمناكدة بعض بناتهم اللاتي أعرفهن. أجل ستقول أمي لهن، بأن ابنها أصبح يحكي بالأجنبي. وقد أصبح زوجاً لامرأة من الكريستال. ولن أنسى أن أخبرها أيضاً، عن كتبي التي صدرت في الخارج، و كيف لاقت الكثير من الرواج، وأن ابنها أصبح شهيراً أكثر من رامبو وعادل إمام".‏

- ماذا قررت يا ماوردي؟ سألت السيدة.‏

- أن نواصل الشرب يا نساء السماء. رد الماوردي بسرعة البرق، وهو يلتهب جنوناً.‏

خلعت النسوة فساتينهن، بعد أن سرت النيران في رؤوس الشموع الوردية التي كانت تقوم على الطاولة المستديرة، فتحولت غرفة النزهة إلى مكان يحلم بدخوله القياصرة. وعندما أخذت النسوة مواضعهن، كل واحدة على مقعد مكسو بالفراء، كانت السيدة، هي الوحيدة التي حافظت على بقاء نهديها كشلالين في غلافيهما، دون أن تترك الفرصة لعينيّ كي تبصرا مساقط أمواجهما التي بدأ طغيانها ينتشر في داخلي.‏

" ألمْ أقل لك يا ماوردي أن في الجمال قوة تدميرية لا تتحملها أعصابك؟ وأنك، مثلما سال منك اللعاب تشوقاً ولهفة على البنات في الماضي، سيُسيل دمكَ وروحكَ ودماغكَ الآن. ست نساء وأنتَ. كأنهن أيام أسبوع لا ينفصل أحدها عن الآخر، حتى وإن أشعلت الحرائق في التاريخ."‏

- يبدو أنك قد أُشبعت نوماً يا ماوردي. فانهض. لقد قاربت الساعة الثالثة بعد الظهر. همست سيدة المنزل، في أذنه وهي تراقب عينيه نصف المفتوحتين بين أغطية السرير البحرية.‏

- ما الذي جرى بربّ السماء؟ سألها الماوردي، وكأنه يوجه ذلك السؤال إلى المرايا التي تنعكس فيها صورته ممزوجة مع الجسد العاري لسيدة المنزل التي تمددت إلى جانبه خارج الأغطية.‏

- إنها الساعة الثالثة حقاً. وفي هذا المنزل. منْ أعادني إلى هنا، أنا الذي اجتزت الحدود الدولية ليلة الأمس؟ صرخ الماوردي وهو يعود إلى سابق حالته النفسية من اليوم الفائت.‏

- لم تجتز الحدود الدولية بعد. أنتَ اجتزت حدودنا يا ماوردي فقط. قالتها السيدة وهي تحاول الإبقاء على الماوردي في التخت، لتعيد الطمأنينة إلى قلبه الخابط.‏

- لا عليك. أريد الخروج من هنا فوراً. سأعبر الحدود بنفسي، ودون عون زوجك الغائب اللامبالي.‏

- اهدأ يا ماوردي. فستكون خارج الحدود بعد أيام. هذا آخر ما عندي لأقوله. فقد نحتاج بعض الوقت لإنجاح الترتيبات اللازمة لترحيلك من هنا.‏

أسمعته سيدة المنزل ذلك وهي تغادر السرير نحو خزانة الملابس.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:18 PM
يا للمصير الأسود الذي ينتظرك يا ماوردي. ها أنت معزول عن العالم الخارجي بين حيطان المنزل. في حين يبحث عنك الجميع: الرجال القساة والمارة والشرطة وباعة الجرائد والمجلات والأصدقاء في مقاهي الشرب والثقافة وبائع السكائر والمكوجي ونادل المطعم وموزع البريد وصديقتك السمراء التي ما تزال تحلم بوضع يديها كالسوار حول عنقك. بل وربما يسأل عنك حتى أصدقاؤك من الموتى أو المعتقلين في تلك الأقبية السحيقة.‏

أجل يا ماوردي.. الجميع يسأل عنك في الخارج. بينما أنت وبين نساء لا تعرف عنهن شيئأً. ولا كيف سيفعلن بك في هذه الإقامة التي لم تخترها. هل هنّ معذبات حقاً يا ماوردي؟ وما علاقتك أنت بهنّ؟ هل سيدفع بك زوجها المُهرب إلى خارج الحدود، أم أنكَ ستقع في قبضته متلبساً بمخدع الخيانة الزوجية، فيذهب رأسك بساطوره العملاق الطويل، لتتحول إلى نفاية في نهاية الأمر؟‏

نهض الماوردي من السرير. ارتدى منامة وخرج من غرفة النوم. كان الصمت يضرب المنزل. فلم يكن من أحد هناك سوى سيدة المنزل التي جلست إلى جانب جهاز التلفون، وكأنها تنتظر خبراً مفجعاً تتوقعه. وما أن رأت السيدةُ الماوردي، حتى رسمت له ابتسامة جافة على شفتيها لم يستغرب. فتقدم منها وكشكش شعرها بأصابعه. أمسكت له يده النحيلة المرتجفة، لتضع في أحد أصابعه خاتماً وهي تقول: "إنه للذكرى."‏

ومضيفة: "كانت قصائدك رائعة الليلة الماضية. وقد حركت فينا الزلازل يا ماوردي".‏

وأثناء ما كانت هي تحرك جهاز التسجيل لتبعث أغنية لفيروز. يرن فجأة جرس الهاتف ويقطع الأغنية. تتناول السماعة وتتحدث بخفوت. فيما راح الماوردي يقرأ ما قد يطرأ على وجه السيدة من تفاصيل.‏

أعادت السيدةُ السماعة إلى مكانها. وتطلعت إلى وجه الماوردي، وسرعان ما أجهشت بالبكاء.‏

" يا إلهي. لقد بصقت حياتك يا ماوردي. فيبدو أن الأخبار سيئة. أين ستفر من هذا المكان الملعون ومن هذه المرأة اللعينة التي رمت بلحمك للضباع. كم قرأت من الكتب التي تحدثت عن مؤامرات النساء. وها أنتَ في الطريق إلى دائرة الأمن. أي فرع؟ الله أعلم."‏

فهناك يا ماوردي ستعترف بكل شيء. حتى أحذيتك ستعترف. ولو لم تفعل ذلك، فستُعصر حتى ينفر الدم من جلدها. ثيابك هذه، ستتحول ورقاً للاعتراف. ستقول لهم أنني أمي لا أجيد القراءة والكتابة. عندها سيقولون لك: طيب! سنعلمك ذلك بسرعة بواسطة الأستاذ التيار الكهربائي عبر دماغك. وآنذاك يا ماوردي ستتقن كل اللغات بسرعة البرق. فالمهم أن تعترف. وتكتب حتى ولو بالخط المسماري. فالحكومة تعرف كل شيء عنك: كم خطوة قطعت قدماك منذ ولادتك وحتى الآن. وكم قصيدة من قصائد الضد في رأسك. وكم قميصاً ارتديت. ومع من نمت من البنات. ألمْ تدخن أنتَ سكائر"سومر" طيب. الحكومة ستعرف ذلك من لون القطران الذي يغلف أسنانك. فأنتَ من حاول اغتيال الريس ونائبه. وأنتَ من تحرّش بزوجة مدير المخابرات وأنت وأنت وأنت... أجل ستعترف بكل هذا وأكثر يا ماوردي. فأنتَ عميل كبير لدولة أجنبية. وأنت من يطبع ويوزع منشورات المعارضة. وأنت من يدبّر حوادث العنف و التفجيرات. وأنت من اغتال فلان وعلان. وأنت من يدير شبكة تزوير الجوازات والوثائق الرسمية. بل , أنت أيضاً من يهرّب الناس عبر الحدود يا ماوردي. تقبض بالعملة الصعبة وتساهم بدفع نفقات مصاريف الأحزاب والمنظمات المعادية. ثم، ما المانع الذي يحول دون اعترافك بكل الجرائم التي سيلصقونها بك يا ماوردي؟ فربما سيصدقونك. فتخرج معافى كما دخلت. بل و يطلبون منك العذر والسماح عن هذا الخطأ. آنذاك، يحقّ لك توبيخهم. بل لطم وجوههم بالصفعات إذا ما رغبت. ولكن هل سيتسنى لك ذلك يا ماوردي؟ وهل ثمة من دخل تلك السجون، وخرج معافى؟ سيطحنونك كالسجق بالفلفل الهندي الأحمر. إلى أن يصرخ كل عضو داخل الكيس قائلاً: أنا سأعترف أولاً.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:19 PM
هل تتذكر كيس الخيش الذي سيضعون فيه جسدك مع مجموعة من القطط البريّة المتوحشة.. ويقومون بركلها بواسطة أحذيتهم السمية وسياطهم البلاستيكية الغليظة؟‏

أجل يا ماوردي.. سيضعون أمام فمك سطلاً واسعاً وعميقاً، كي تتقيأ فيه جنسك البشري وثقافتك وأحذيتك ودماغك أخيرأً. كل تلك المتقيئات، ستطفو أمامك في السطل. وقبل أن تنتهي من الاعتراف يا ماوردي، يجيئون بحبيبتك. أمك، أختك، ينزعون عنها الثياب ثم ... أمام عينيك حتى ينتفخ رحمها بألف طفل في الليلة الواحدة . أما إذا رغب القضاة الذين يجلسون أمامك في العتمة، دون أن ترى وجه أحد منهم. فلن يدعونك تتقيأ دماغك بسرعة. فسيطلبون من أحد جلاديهم بإجراء اللازم. هل تعرف جيداً يا ماوردي ماذا يعني"إجراء اللازم" هناك؟‏

سيفتحون شقاً في صدرك . يضعون فيه بعض الحشرات تحت الجلد، ثم يعيدون خياطة الجرح. فما ستفعل آنذاك ..ويداك وقدماك مربوطة بحلقات الحديد في الجدار ؟كيف تريد الحرية يا ماوردي .بسعر المكنسة أم بسعر الثوم؟‏

- ستغادرنا الليلة ياماوردي .جملة غامضة قالتها له السيدة وهي تعانقه وتنتحب .‏

- إلى حفلة السلخ يا أبنة ....؟لم تدع الماوردي يكمل .فاستطردت:‏

- كلا ياماوردي .بل لاجتياز الحدود.‏

مادت أرض الصالون تحت قدمي الماوردي ،وهو يتصببّ عرقاً. وفجأة حمل سيدة المنزل بين ذراعيه وكاد يطير بها كالنسر العملاق. فهذه المرأة رائعة وطيبة .لم تكن كما كان يظن بها من دقائق. إمرأة لا تريد له شراً. وسوف لن تقوم بتمكين الحكومة من جعله نفاية. كان الماوردي يشعر بتطاير النيران من جسده.‏

" ربما هي الصاعقة التي سوف تأكلني نهائياً قبل الرحيل."‏

هكذا كان يردد الماوردي في نفسه. وهو يهتزّ ويغوص في موجة من الزبدّ على أريكة الصالون . وكأن سيدة المنزل بفمها، تحاول سحبّ روحه من تلك الأعماق السحيقة. كان يفعل ويتذكر ويقول مردداً‏

الغبيّات كل ما تعلمنه من الفنون الجميلة رسم ونحت الصور والتماثيل العارية.‏

- هل ستتذكرني يا ماوردي هناك؟ أم ستبلغ بك الحماقة إلى حد وصفي بالمرأة العاهرة التي قضيت معها يوماً كامل الجنون، بين الرعب والحب؟ امرأة لم تكن تعرفها أبداً تؤويك في منزلها بعيداً عن عيون الرجال القساة، تحبك ليوم ونصف، ثم تقول لك وداعاً بعد ذلك!‏

ارتطمت كلمات السيدة في رأس الماوردي ارتطام الموج على حافة صخرية لخليج ضيق. فقد كانت تحمل بين طياتها كل ما كان يشغل باله، بعدما وجد نفسه أسيراًً في مثل هذا الوضع الغرائبي القريب من عالم الفنتازيا الدراماتيكية. فلا وقت للأسئلة هنا، كما يعتقد الماوردي، لأنها قد تفسد كل شيء في المكان الذي هو فيه. وربما لن ترضخ السيدة للكشف عن العالم السري للمنزل. فيما لو كان الماوردي، حاول التنقيب عن الحقائق. فالبيوت أسرار. ولن تقوض السيدة ولا كذلك النسوة الأخريات اللعبة التي تجري هنا. فمثلما دخلت بصمت يا ماوردي.. اخرج بصمت. فليس هذا المنزل هو ما تهتم به. ولو كان الشيطان هو الذي سيحملك على ظهره لاجتياز الحدود، فستركب ظهره لترحل. قل ذلك وكل شيء إذا رغبت. وليحل الخرس على كل قامتك الآن. اخرس. فأنت ما تزال تحتضن المرأة كالسور. ولم يأت المهرب أو الشيطان لنقل جسدك إلى الحدود. أنت هنا رفات يا ماوردي. وتحلّ عليك الشفقة، مثلما يفعل الناس الطيبون ذلك مع القطط الصغيرة المشردة تحت المطر.‏

فاجأ الماوردي نهوض السيدة من بين يديه لترتدي ثيابها.‏

- بالمناسبة.. هل تريد شراباً بارداً أم تتناول شيئاً من الطعام. ملتفتة إلى الماوردي.‏

- كلا أفضل القهوة. هل تسمحين لي بإعدادها؟‏

- و لكن لم تتناول الطعام منذ البارحة؟‏

- لا أستطيع الآن. شكرأً.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:20 PM
وفيما كانت السيدة تعد القهوة في المطبخ، سمع الماوردي جرس الباب يدق. فسقط قلبه من الهلع. لكن السيدة أشارت له بإصبعها نحو غرفة النزهة، ليختبىء بها. وفعل ذلك فوراً. ومن خلا ل شقوق ستائر النافذة المطلة على الصالون، راح الماوردي يسترق النظر لمعرفة من القادم. هل اكتشفوا المخبأ و جاءوا للقبض عليك؟ للحظات كان هذا الاعتقاد ما يساوره. وعندما فتحت السيدة الباب، سرعان ما دخل شخص بملابس عسكرية، شاب لم يتجاوز من العمر عشرين عاماً، كما خمّن ذلك الماوردي. طفرَ قلب الماوردي إلى فمه.. وكاد يلفظه مع أنفاسه لولا أنه رأى السيدة تعانق الشخص وترحب به بلطف. فبدأت المخاوف تهدأ. بل تهبط مثل عداد سرعة السيارة عند التوقف. ولكن ربما يكون الشخص هو زوجها المُهرّب.. وإلا لما سمحت لنفسها أن تجلس أمامه وهي في هذا الثوب الشفاف الذي تتلألأ منه مفاتنها؟!‏

" غيّر شكوكك أيها الماوردي القذر. أنظر.. إنه يشرب معها فنجان قهوتك بدلاً منك يا ماوردي. أنظر.. إنها تنشغل عنه لتقرأ في الصحف التي جلبها إليها معه. حتماً السيدة مثقفة وشغوفة بالأخبار السياسية و الاقتصادية. وإلا لم تتركه وشأنه.. يفترس جسدها بنظراته، ثم يرتجف مثل تلك الارتجافة اللعينة. اسمع يا ماوردي: هذا المنزل غريب.‏

" طيب. عد بعد ساعة من الآن. وسأكون جاهزة!"‏

قبّلت السيدة الشاب وهي تودعه عند الباب الخارجي. لتدخل بعدها على الماوردي الذي كان غارقاً في مغطس من العرق الساخن.‏

" هل هي الغيرَة يا ماوردي؟ قالت له ذلك وهي تشده للجلوس فوق الأغطية المبعثرة على أرض الغرفة."‏

" إنه غلام زوجي في الثكنة. أليس وسيماً؟" وبدأت السيدة تضحك، وهي تداعب شفتي الماوردي بحزمة من شعرها الذي تمسكه بيدها."‏

" إنه مخلص لي. ويجن في حبي. تصور أنه ورث هذا المنزل عن والده، ليتركه لي ولصديقاتي في أوقات النزهة السرية التي نمارس فيها طقوسنا للترويح عن النفس. أنا أتركه يفعل ذلك دائماً. ولو كنت قد منحته جسدي، لكانت الأمور قد وصلت إلى نهايتها معه؟!!"‏

وماذا يفعل هذا الشاب؟‏

" إنه مرافق زوجي. يتجسس لي عليه. ويترصد لي أخباره طيلة أيام الأسبوع الذي يكون خلالها في المعسكر، عدا أيام العطل الرسمية طبعاً، والتي كثيراً ما يضمها الزوج إلى قائمة العمل.. فيعتذر عن الحضور إلى البيت. علماً بأن زوجي هو مدير المخابرات في المنطقة!"‏

وأضافت السيدة قائلة:‏

" اسمع. بعد ساعة سنكون معه في سيارة جيب تحمل رقماً عسكرياً. أنا سأعود إلى بيتي الواقع على الطريق، وأنت تغادر المدينة يا ماوردي لاجتياز الحدود. أقصد لمفارقتي."‏

قالتها وكأنها ستفقد آخر رجل على سطح الأرض.‏

يرن الجرس و يدخل الشاب الوسيم. فتقول له السيدة:‏

" هذا هو الشخص الذي حدثتك عنه. لقد وصل إلى هنا تواً. أريد الاعتناء به والحفاظ على حياته بأي ثمن. خذ هذه وثائقه فقد تحتاجها على الطريق."‏

تحدثت السيدة مع الشاب العسكري بلهجة حازمة. لنستقل نحن الثلاثة الجيب. ثم لتنطلق السيارة وهي تبتلع الطريق. و قبل الخروج من المدينة، وقف العسكري بسيارته، فودعت السيدة الماوردي بكلمات قليلة. لتدخل باب منزلها بعد ذلك و تختفي. ومن ثم لتنطلق الجيب من جديد بالصعود نحو الطرقات العالية بين الجبال.‏

أخذ الماوردي يتصفح جوانب الطريق على الرغم من صعوبة الرؤية في وقت مبكر من فبراير. لم تكن رؤية الأشياء بوضوح ممكنة، إلا أنه كان يشعر بمرارة تكاد أن تجعل من فمه باباً خشبياً. هل تكون هي آخر الساعات أيها الوطن. آه. ما أقسى أن أودعك , أنا مثل طير عل خطوط هواء تلتهب بينها النيران. أي تاريخ سنكتب عنك فيما وراء الحدود؟‏

بعد مضي ساعة، بدأ الزلزال ينخر في معدته.. إلا أن الماوردي كان يقول لا بأس. فمرض القرحة ليس أشد هلاكاً من الفراق الذي بدأت حرارته بالارتفاع قبل اجتياز الحدود.‏

تناول سائق الجيب كيساً من النايلون من حقيبة كانت خلف المقعد. وقال للماوردي:‏

" تفضل، إنه مخصص لك من السيدة. طعام سفر."‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:21 PM
انفرجت أسارير الماوردي، حينما سمع ذلك من السائق. فتقاسما السندويشات بنهم سوية. فيما كانت السيارة تلتهم الطريق كحجرة ضخمة وسط الظلام. غنِّ يا ماوردي تلك الأغنية التي كثيراً ما أحببتها. حاول أن تكسر هذا الصمت وتنزع نفسك من الوحشة والأفكار المضنية التي تحفر رأسك.‏

كلا. لن أفعل ذلك الآن. قال ذلك الماوردي وهو ينظر إلى ساعته.‏

- كم بقي لك.. لنبلغ الحدود يا صديقي؟ سأله الماوردي.‏

- سنحتاج إلى ساعتين على أبعد تقدير. بعدها سيكون الأمر بخير.‏

- هل ثمة عقبات أمامنا؟‏

- نقطة تفتيش واحدة عسكرية على الطريق. أجابه السائق، مناولاً إياه مغلفاً ورقياً.‏

تناول الماوردي ذلك وفض المغلف على ضوء عداد السرعة الخافت. هذه هي أوراقك الثبوتية إذن؟ وهكذا يكون اسمك يا ماوردي الآن؟ كل شيء جديد: اسمك الشخصي والعائلي, تاريخ الميلاد, المهنة, مكان الولادة, السكن, فقط صورتك يا ماوردي، لم تتغير. أليس هذا هو ما ترغب به يا أحمق؟!‏

أن تنجو بنفسك وتترك الآخرين في أتون الجحيم؟ لن يتحقق لك هذا الشرف يا ماوردي. فأنت الآن على الطريق. تسبق الريح للقاء مصيرك الذي سينتهي في نقطة التفتيش القادمة. فصورك ستكون منشورة لدى كل المفارز والنقاط. واسمك على رأس القائمة. أجل اسمك في أول القائمة لأنه سهل وحروفه تشكّل أجمل مارش موسيقي يحبه الجنود:‏

" ماوردي.. ماوردي.. ماوردي."‏

بعد دقائق من العاصفة التي أكلت الماوردي وبصقت عظامه في الوديان السفلى. توقفت السيارة عند نقطة التفتيش العسكرية. كان يتفحص وجوه حراس نقطة التفتيش بنصف عين، وكأنه يتنفس غبار الأرض.‏

" الماوردي ليس هنا. الماوردي مات منذ قرون. الماوردي الذي تبحثون عنه سلّمته امرأة للسلطات، وقد اعترف بكل الجرائم القذرة التي ألصقت به. لذلك فالماوردي المتهم بالخيانة العظمى. لا مكان له داخل سيارة الجيب العسكرية المحترمة التي تقف أمامكم يا حراس البوابة الشمالية لبلد العلجوم." هكذا حدث الماوردي نفسه.‏

" خذوا يا أولاد الكلاب. إنها سكائر أجنبية لم تذوقوا طعمها من قبل!"‏

رمى السائق بعلب السكائر إليهم، وهم يبتسمون إليه. وانطلق بالسيارة مخلفاً وراءه حاجز مفرزة المخابرات العسكرية.‏

" إنهم عناصر لطفاء. ومن الأصدقاء الذي أقضي معهم خدمتي العسكرية عند سيدي ضابط الأمن".‏

لم يكن الماوردي مصدقاً لما سمعه من السائق الذي معه.‏

" لماذا لم تقل لي ذلك أيها الشاب؟"‏

سأله الماوردي، وهو يغلي من الحنق. فقد فكر بقذف جثة السائق من النافذة نحو الوديان السحيقة.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:21 PM
- لو كنت أعلم بكل هذا العز الذي تتمتع به، لما تخثر دمي خوفاً من مفرزة الأمن!‏

- إنها أوامر سيدتي!‏

- أوامر!! سأله الماوردي.‏

- لم يحدث شيء. فبعد نصف ساعة تقريباً، سنصل إلى هناك. وأكون بذلك قد بلغت رضى مولاتي. ثم لمَ أنت خائف يا سيد؟ هل حدث لك مكروه. أنا لا أعرف شيئاً عنكَ. بل ولا حتى اسمك. لقد أمرتني سيدتي أن آتي بك إلى هنا فقط. وهذا كل ما أفعله كما ترى. هل ثمة خطأ ارتكبته كما تعتقد؟‏

- كلا. إنس الموضوع. فما تقلقني هي السرعة بين الجبال. هكذا تلعثم الماوردي مضطرباً، وفكر بأن لا يطلع السائق على أية تفاصيل، عندما بلغه أنه لا يعرف شيئاً. ربما!‏

- هل تود سماع شيء من الراديو، أو أغنية من آلة التسجيل؟ سأله السائق دون أن ينظر إليه.‏

- ردّ الماوردي بالنفي.‏

أية أغان و أية رغبات لديك لسماع ذلك، وأنت تحت مدحلة الذعر. ربما بعد الحدود.، ستستمع إلى كل ما هو تافه من الحكي والغناء و الثرثرات. و ستقول بالطبع كل ما كان يقوله المغتربون في رسائلهم الموجهة إلى الأهل والأصدقاء:‏

" لقد أصبحنا نحب حتى طنين الذباب في الخارج. فالحنين في بلاد الغربة، ربما يبرر كل تفاهة نقترفها!!"‏

- وأنتَ. موجهاً كلامه إلى السائق: هل تحبّ الأغاني، أو سبق لك وأن مارست الغناء؟‏

قالها الماوردي لتقطيع الوقت. "شخصان لا يعرفان بعضهما بعضاً. ماذا تكون الأسئلة؟"‏

- ليس الغناء وحده، بل وهواية جمع الطوابع أيضأً. أجاب السائق مبتهجاً!‏

إذن. هذا الولد يحب السفر إلى الخارج. أليس كل من يمارس هواية جمع الطوابع، بنظرك يا ماوردي، لا بدّ وأن يكون من الحالمين بلفّ العالم. إذن يا ماوردي.. فربما ستعثر على هذا الغلام ذات يوم، وهو يتسكع في مدينة من مدن الخارج. كعازف قيثار على الرصيف أو كمدمن خمر أو مخدرات.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:22 PM
- ولديك رغبة بالسفر نحو الخارج.. أليس كذلك؟‏

- ليس قبل أن أنهي خدمتي العسكرية. فكل الجنود والضباط والمراتب لديها نفس الرغبة. نحن نتحدث عن ذلك يومياً في الثكنة. إلا أن الإفصاح عن موضوعات السفر للخارج ممنوع. لكن، ربما ستحقق كل شيْ لاحقاً. فرغبات الناس هي حقائق المستقبل.‏

قالها السائق وهو ينعطف بالجيب نحو شارع فرعي يتناثر على ضفتيه القليل من البيوت التي كأنها مشيّدة من الصخر، مشيراً بإصبعه: "هذا هو المكان." فهبطنا من السيارة ودخلنا. حانة صغيرة. يتوزع مقاعدها حوالي عشرين شخصاً. سحب السائق لي كرسياً من الخشب وقال: "تفضل. سأنادي العم."‏

من هؤلاء يا ماوردي؟ حانةٌ وفي آخر الدنيا! ربما هم الذين يصححون مسار الحياة، ليعيدوا الأرواح الهاربة إلى نصابها الطبيعي والفني. ولكن الليل هنا، يسيل كمادة الغراء الأسود. وكأن الأرض التي عليها أقدامنا، ضربها زلزال ليخلف كل هذا الصمت في أثره. لا. فلتكن حذراً يا ماوردي. فربما ستأخذ الخمرة بعقول هؤلاء، فيتشاجرون ويطلقون النار من مسدساتهم وأسلحتهم الأخرى، فتضيع عليك فرصة الهرب.‏

تقول تأخذ عقولهم الخمرة يا ماوردي؟‏

كلا. فكلامك سخيف وضحل. فلو شرب الواحد من هؤلاء شلالاً من الخمرة، لما تحرك دماغه بوصة واحدة عن مكانها. فكأنهم يملأون رؤوسهم بشيء غير الأدمغة: بالصخر أو الهواء مثلاً.‏

" أهكذا أنت مقتنع يا ماوردي؟ ليكن لك ما تشاء. ولكن اعتبر بأن شجاعتك المفاجئة للسخرية من هؤلاء، والتي نزلت عليك الآن وأنت في هذا المكان المعزول عن العالم، هي دمية ضخمة لا تستطيع تقديم العون إليك في حانة أشبه بحانات شيكاغو. وأنتَ ليس إلا كآهة في زجاجة مقفلة."‏

- أهلاً بك. هل تفضل العرق أم البيرة؟ الدجاج المشوي على الفحم أم لحم الخروف؟‏

قال الرجلُ ذلك للماوردي قبل أن يسحب كرسيه ويجلس إلى الطاولة في جواره.‏

- هل من الضروري ذلك؟‏

- طبعاً. فأنتَ ضيفنا الآن. ولا بد من بعض الطعام قبل أن نرحل.‏

- ليكن العرق ولحم الخروف. العرق لإعادة تدفق الدم من جديد إلى الجسد، واللحم من أجل كبح تدفق العرق إلى الدماغ بسرعة. أليست هذه هي المعادلة، كي لا يتقوض الجسد بسرعة البرق؟‏

قالها الماوردي لإضفاء الطرافة على الحديث مع هذا الرجل الذي لا يبدو أنه بلا فائدة.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:22 PM
لم تطل الاستراحة طويلاً.. إلا وكان الجميع في سيارة اللاندروفر. مسلح إلى جانب السائق. واثنان في مؤخرة السيارة. وشخص ملثم و الماوردي في الوسط. وانطلقت اللاندروفر بالاتجاه المرسوم لها. كانت الجبال مظلمة على الرغم من كثافة الثلوج التي كانت تغطيها. مظلمة مثل قلب الماوردي الذي يغلي الدم في عروقه تحدياً للجليد الذي يغطي كل مساحة الجسد. ولم تمض ساعتان من الصمت المطبق الذي كان يغلفنا جميعاً، حتى بدأت السيارة تغرز عجلاتها في وحول الطريق.. كأن تلك العجلات وقد عجزت عن الإفلات من إحدى الحفر، الأمر الذي اضطرنا للنزول منها في محاولة لدفعها خارج المطب. ففشلنا. بعد ذلك قمنا بخلع سترنا السميكة ووضعها تحت الدواليب من أجل عزلها عن الطين، علّ السيارة تتمكن من الخروج، وحصل ذلك بالفعل. فواصلنا الانطلاق مجدداً ونحن تحت تأثير البرد الذي كان يدق مساميره في الحواس.‏

توقفت السيارة على تل يطل على نهر غاضب التدفق. وهناك أخبرنا المرافقون بالنزول. ففعلنا ذلك. بعدها توجهوا بنا نحو ضفة النهر، لنستقل تلك الدواليب المطاطية للتركتورات.. وقطعنا مياه النهر السريعة وأجسادنا كأنها من شرائح الصفيح. فبرد فبراير يقص العظام ويعفن العقل.‏

كل شيء انتهى يا ماوردي. فها أنتَ وقد عبرت الحدود. كل شيء انتهى يا ماوردي. وها أنتَ تحت الأغطية وأمامك المواقد النفطية وجفونك من ريش ينطبق بعضه على بعضه لتخمد في النوم. فاحلم أيها الهارب كيفما اتفق. فالصباح الذي بدأ يشق الفضاء بأنفاسه، سوف لن يركلك لتنهض من أجل الاعتراف بشيء. ولهذا جهز نفسك لموهبة المنفى الجديد!‏

لم يقو دماغ الماوردي بعد، على استعادة توهجه. بل لم يخطر بباله حتى أن يحلم بشيء محدد. فالنوم سرق كل مدخرات الخوف الكامن في علبة الرأس. ولم يبقى هناك سوى فكرة واحدة: أن ينام لقرن من الزمن. وفي النهاية التي لا بد منها، سينهض الماوردي لرؤية مدن غير تلك التي كانت. وناس غير أولئك الذين كانوا . وعملة ليست كتلك التي كانت تتداولها الناس في الماضي . ليس هذا هو الذي يفكر بابتكاره لنفسه. بل هي الصورة التي وجدها تتجسده وهو خارج الحدود للمرة الأولى في حياته. فقد خرج دون أن يرث شيئاً غير الخراب. فالماوردي لم يرث شيئاً عن جدّه الذي بدّد ثروة العائلة بالزواج من النساء: ذلك الإقطاعي الذي باع أراضي البساتين، من أجل ارضائهن، فكوّن جيشاً من الأطفال، كي يكون الماوردي واحداً من أحفاده خارج الحدود!‏

هذه هي المحطة الأولى فالصفحات فارغة و عليك أن تملأها بالطريقة التي تراها مناسبة. أن ترسم ديكوراً أو تكتب أو تصمت. فلا شيء سيسبب لك الدوار على هذه الأرض الجديدة. أو هكذا.. دع العقل يتمتع بهكذا فلسفة في الخارج القادم إليه تواً من ذلك الأسر الذي كان محروساً بالموت. تذكّر أنك أشبه بنيزك نصف محترق سقط من كوكب آخر. وأن ما ترجوه الآن، ليس غير رغبة أن تعيد بناء نفسك بالحرية الملونة كطيارات الطفولة. وبالثقافة والطبيعة والغرائز والجمال والآفاق من جديد. وهو ما يمكن أن يعيد لذاتك الأنسنة، ولو بالتدريج. فكأن كل من يولد على أرض العلجوم، يصبح شهيداً وهو في القماط!‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:23 PM
العراقي- مثلما منقسم هو على نفسه، ترى عمره مُقسماً إلى أجزاء تاريخية، تمتد على طول جغرافية الزمن. فزمن الطفولة والدراسة باهت ودون حوافز. وزمن السياسة والفن قلق مليء بالقسوة. وزمن السجون والمنافي، تسكنه احتمالات العدم المفاجىء. وزمن الراحة والاستقرار، أمر مشكوك بتحققه حتى في القبر. فهناك الكثير من البشر، لم يحصلوا على قبر أو شاهدة قبر، لكون السلطة لا تريد معلماً لهم. لذلك تحاول الحكومات استهلاك العمر، سواء بالحرب المفتوحة أم بالحروب قصيرة المدى. وكذلك تفعل الأحزاب السياسية، وإن بطرق أخرى، ما دام كل حزب يحتاج إلى قائمة طويلة من الشهداء. فالحزب الذي تنقصه صور وأسماء لقتلى، يُعدّ حزباً ناقصاً!‏

ما من عراقي فاز بعمر مستقل، فالحياة التي نعيش داخل عواصفها، ليست حياة، بقدر ما هي زريبة يحكمها المافيويون الجدد. وبأن المصير الذي ما زلنا ننتمي إليه، هو مصير لا يرضي أقل الحشرات تفاهة وشجاعة في عالمنا.‏

- أنتَ من أحفاد الإرث التراجيدي. ومتطرف أيضاً.‏

- كلا. أنا من سلالة المنشار!‏

أغمض عينيه طويلاً ليسبح في فراغ التاريخ. نادى على المُواطَنة- فلم يرى لها أثراً في الأفاق.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:24 PM
(3)‏

بعد زمن من مكوثه في تلك المدينة التي أحبها بجنون، وجد الماوردي نفسه في المطار. شجرة سرو ضربتها الشيخوخة مبكراً. فشعر وهو يتجه نحو قاعة المغادرة، بأن قدميه تخونانه. هل تعطل المشي فيهما، أما لأن جذورهما استعصت، فلا تريد لتلك الشجرة أن تحلق بعيداً، أو أن تنمو في غير الأرض التي تشبع برائحتها؟‏

"إلى أوربا يا رجل.. فهو المنفى الأقل كلفة من حروب الضباع"‏

الطائرة أمامك ياماوردي. إنها تجثم على صدرك في مثل هذا الوقت من الليل. فمثلما جاء بك ليل وأنتَ تحت جناحيه، سيأخذك الليلُ من هنا على جناحيه، لتختفي مرة أخرى عن مدينة جميلة ما تزال تنمو في خلاياك كشجرة الكرز. وعن بشر بهم من الروعة ما لا يمكن لزلزال أن يمحوهم من هذه الذاكرة، على الرغم من تكاثر المعاول التي بدأت تنقب في أراضيها، ربما بهدف تحطيم الكنوز القديمة، ولأنك كالعربة المجنحة ياماوردي، فكثيراً ما كنت تسبق أفكارك وخيالاتك العجلات التي تسير فوقها على طبقات الأرض.‏

وإذا كان المنفى القادم صعباً يا ماوردي، فلأنه قطعة تراب أكثر من ذكريات وتراث. ولا بأس من قبول عنصر الخداع هذا، فربما سيغري أفكارك بالتقدم خطوة نحو الخيال. فعالم اليوم في نسيج اليأس، ننفذ إليه وكأننا حقائق. فيما نحن أشبه بدلافين وضعت سوية داخل اكواريوم مليء بأسماك القرش. والجميع فيه جزء من السيرك، ولأجل الفرجة الدراماتيكية فقط.‏

قبل أن تقلع الطائرة البولونية، تحدث مدير الخطوط موجهاً كلامه للماوردي: اجعل من شخصيتك شخصية بلهاء. قل لهم لو سألوك في المطار الأخير: كوبنهاكن. إن واحداً لا تعرف اسمه، هو الذي أركبني الطائرة، وبأنك لا تعرف اسم الخطوط التي أوصلتك إلى مطار امستردام. وبأنك لا تعرف القراءة والكتابة. ولا تعرف كم دفعت بالضبط من أجل التذاكر. هذا أفضل لك!!‏

يا للهول! يبدو أنك أصبحت أميّاً ومغفلاً يا ماوردي. ولم تعرف كم من الدولارات دفعت ثمناً لبطاقات السفر. بل ويريد منك مدير الخطوط هذا، إن تتمثل الغباء بصورة فظيعة! ولم لا؟ أوليست هذه ضريبة المنفى الأولى، لتصل ولتستقر هناك؟ فأنت لم تستقل الطائرة كسفير مندوب لدولة. وأنت لم تذهب كرجل أعمال أو بائع ذهب أو عقيق أو بترول إلى بلاد الفرنجة. فأنت مُهرب مثل كل البضائع الممنوعة، وليس غير. ستصل إلى هناك، لتضع الآخرين تحت الأمر الواقع. فأن تقبل لاجئاً في أوروبا، فذلك ليس لأن الفرنجة عالم ملئ بالدوافع الإنسانية، بل لأنهم لا يسمحون لأحد ما بالتفريط بسمعة بلدهم الديمقراطية وعدم احترامها لحقوق الإنسان. ويكفي هذا يا ماوردي. فالذي. لا بلد له، أشبه بالنعال على باب المسجد، يستطيع كل عابر سبيل إحتذاءه في الوقت المناسب.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:24 PM
في مطار وارسو.. رأيت مدير مكتب الشركة الناقلة معنا هناك. ويبدو أنه بعدما أنهى التفاوض مع شرطة المطار: هذه حصتكم وهذه حصتنا وتلك حصة الشركة، عدنا للطائرة من جديد لنحلق في السماء الملبدة بالغيوم. لا تخف يا ماوردي. فأنت لست أهلاً لأن تدفع بجسدك من السماء نحو الأرض أو إلى أعماق البحار. فمازالت لديك فسحة من التاريخ لتملؤها بنفسك. ولكن لا تقبل كل شئ من التاريخ أو تبرر كلية الماضي كما يفعل البعض. هل صحيح يا ماوردي: أن الذين بنوا التاريخ كانوا جميعاً من سكنة المنافي في العالم القديم والمتحضر؟‏

لا تعرف ذلك أنتَ. بل ومن أين لك أن تعرف وأنتَ ستهبط بعد قليل في مطار امستردام، كي يدققوا في جواز سفرك المزور، من أجل الحصول على ختم جديد يضاف لبقية الأختام الأخرى التي كادت تخنق أوراق الجواز بأحبارها؟! هل ستنفذ بجلدك، فتستقل طائرة الـ Sas دون أن ترتاب بك الشرطة والعمالُ والكاميرات ومسؤولو الترانزيت؟‏

ماذا سيقولون عنك وهم يفتشون الحقيبة اليدوية، فلا يعثرون إلى على كتب وأشرطة كاسيت أكثر مما تحمل من ملابس؟ هل سيصدقون بأنك ذاهب لنيل إجازة الدكتوراه؟ شرق أوسطي وذاهب كالسائح إلى بلاد الدانمارك؟ إن لم تفلح في ذلك ياماوردي.‏

فسوف يرمونك على ظهر أول بغل، أول باص، أول طائرة، أول قطار، أول سفينة لشحنك إلى بلادك، بعد أن يرفقوك بملف يتضمن التهم الموجهة إليك، وفي مقدمتها: التزوير ودخول البلد بصورة غير شرعية، وإلى ما وراء ذلك من تهم جاهزة.. فتكون بذلك قد بلعت رمال كبريات صحارى العالم.‏

عندما اجتاز الماوردي مكتب تدقيق الجوازات، وحصل على الأختام اللازمة من قبل تلك المرأة الهولندية الجميلة مع التذاكر، شعرَ كما لو أنه اجتاز مثلث برمودا الذي سبق وأن سمع وقرأ عن الأهوال التي تقع فيه. لم يجلس في الصالة للانتظار، بل توجه فوراً إلى البوابة التي تؤدي للطائرة. وقبل الصعود إلى هنا، قام بتمزيق جواز السفر المزور، فرمى قسماً من أوراقه في صندوق للقمامة في مطار امستردام، فيما قام برمي القسم المتبقي في تواليت الطائرة بعد إقلاعها بربع ساعة، وعاد إلى مقعده ليحتسي البيرة الدانماركية.‏

إنها"بيرتنا الوطنية الفاخرة"‏

هكذا علَق الماوردي و هو يتذوق طعم الجعة الدانماركية للمرة الأولى، وكأنه دانماركي ابن دانماركي ومن سلالة اسكندنافية تضرب جذورها في قدم تاريخ الفايكنغ. ليس مهماً ما إذا كان مذاق البيرة طيباً أم غير ذلك. بل المهم أن تساعد على الاسترخاء بسرعة البرق.‏

هنا تذكر الماوردي عرق الزحلاوي والعصرية والريان وشارع ا لنواس واللاتيرنا والعجلوني والبطريق. وكيف كان الأصدقاء يدلقون محلول الحرير ذاك في دواخلهم، ليتحول فيما بعد إلى كتل صخرية من النزاعات، التي كثيراً ما كانت تنهي الجلسات بالمعارك والهزائم والترهات السياسية والثقافية والفكرية.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:25 PM
- فكر أولاً بديمقراطية الخمر أيها المتعاطي؟‏

- إنه لغة داخل اللغة.. أليس هو كذلك؟‏

- بل هو نص يخلق شخوصه الميتافيزقيين، ويطلقهم أحياءً ليرثوا الأرض التي نحن عليها.‏

- ولكن.. هذا من اغراءاتك الشعرية.‏

- كلا. إنه مسرح وصفي. لا يختار ممثلاً تافهاً ليروي لمستمع أتفه منه.‏

- إنك تقول ذلك وكأنك روح الخمر.‏

- وماذا تقول لمن يعتبر القلق لا قيمة له كنافذة فلسفية، وليس مادة صالحة لهدم الفلسفة؟‏

- أنا أبني ذاتي تحت المطر. فهل لك أن تدلني على معناي بهذا الصدد؟‏

- قد تموت من البرد قبل أن تبلغ ذلك المعنى، ولذلك لا تكلف نفسك عناء تلك المشقة.‏

هبطت الطائرة على أرض الدانمارك. ولم يحدث أن سقطنا في بحر الشمال. ولم يحدث أن خطفوا الطائرة بنا إلى مكان ما من العالم. بل ولم يقمع النوم عيون الكابتن، ليطوح جثمان الطائرة منفجرة كالذبابة في أعالي السماء. إنها كوبنهاغن التي لم تتنسم رائحتها بعد. فانزل يا ماوردي كآخر الركاب وتقدم ببسالة الفرسان نحو الشرطي الواقف هناك، وقل له: أنا الماوردي الذي لم يكن له من الأوطان وطن. ولم يكن له من الحرية غير التابوت. ولم يكن له من الأموال إلا القصائد والحقول التي تنهب كل مساحة الدماغ.‏

ولم يكن له من الشوارع غير هذا الحذاء الذي تمرّن كثيراً على تسلّق الجبال وبلوغ الوديان السحيقة والهرولة بين الأنقاض والأطلال والمشي على الإسفلت السائل كدموع العذراوات، وعلى الرمال الملتهبة كرئات الأفعى.‏

أجل قل ذلك للشرطي الذي هناك. وأضف: بأن الحكومة قطعت لك رأسك. وجعلت منك الأحزابُ شوربة عدس. والمهربون نخالة حنطة. وها أنتَ بينهم فتافيت جمر، تكاد لا تتحملها أقوى الأفران ولا أعتى المواقد، بما في ذلك جهنم.‏

قل لهم أنني متهم بقتل الريس. أجل ضربته بقنبلة لم تبقِ منه أثراً على الأرض. قل أي شيء. فإنهم سيصدقون كل شيء، حتى وإن أقنعتهم بأن تمساحاً يسد منافذ بلعومك. أليس هذا ما قاله البعض لك؟!!‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:25 PM
عندما قاد الشرطي الماوردي إلى الغرفة المخصصة للتحقيقات في المطار، وجد نفسه ملتصقاً على مقعد طويل لمدة تجاوزت في زمنها الساعة. بعد ذلك نُودي على الماوردي كي يدخل الغرفة لاستجوابه بواسطة المترجم. آنذاك، قال الماوردي قصة الرحلة من الباب وحتى المحراب، ودون أن ينكر ذكر توصية الرجل المتعفن الذي قبض منه ألوف الدولارات ليرسله على متن تلك الخطوط البولونية التي امتص القائمون عليها دم ودمع وروح وأموال الكثير من البشر، ممن يحاولون الطيران فوق أحزانهم. وكان المحقق يستمع بشيء من الذهول إلى مثل النيران التي تخرج من فم الماوردي. فلم يعتد من الآخرين سماع الأشياء بمسمياتها، كما أراد مدير الشركة من الماوردي، أن يفعل ذلك بكل صفاقة وغباء داعر، ربما لم يعهده أحدٌ من قبل.‏

كانت السماء تبعث إلى الأرض مطراً في مثل هذا اليوم الرابع عشر من تموز عام 1989.. في الوقت الذي تنهب فيه السيارة الطريق. إلى أين؟ لا يعرف ذلك الماوردي. إلا أن الصباح سرعان ما استيقظ ليكشف له أنه في معسكر كبير البنايات وتحيط به أسوار: "الساندهوم". المعسكر المكان لتجميع اللاجئين القادمين إلى دولة جلالة الملكة مارغريتا ملكة الدانمارك.‏

"وماذا في ذلك أيها الماوردي القادم من الشرق إلى هذا القطب؟ تناول فطورك، ودع الشرطة وموظفي الصليب الأحمر تعمل ما تراه لك مناسباً. فأنتَ اللاجىء، وليسوا هم. لا تمتنع أو تبدي اعتراضاً على شيء. لا على الأسئلة ولا على التحقيقات. ولا على طريقة إغراق أصابعك ووجهك وقدميك بالحبر لتصوير البصمات!!‏

لا تمانع. ففي وطنك يتم تشريح جثتك وأنت حي، ولا يعترض أحد على ذلك! وحينما كنت تريد الحصول على هوية شخصية أو جواز للسفر، كانت حكومتك تقوم بتصويرك بالوجه والمقلوب عشرين مرة، وأنت كالدابة، لا ترفع عقيرتك بالاحتجاج أو الامتعاض أو الغضب. إذن.. اسكت يا ماوردي هنا، حتى وإن رغبوا بصناعة فيلم منك الآن.. ما الضرر من ذلك يا ماوردي إذا كنت عاقلاً ومن غير فئة الذين يتسترون على بصمات أصابعهم خشية وقوعهم في المطبات."‏

بعد التصوير وأخذ البصمات للأصابع و التحقيقات، زُود الماوردي بهوية الصليب الأحمر.. وهذا يعني علامة طيبة ونجاح هائل. أي أن من يحصل عليها، كأنه نال شهادة الاستقلال من حكومة بلاده القديمة!‏

وبعد ذلك جاء اثنان من الصليب الأحمر ليخرج وإياهم إلى غرفة السكن في الطابق العلوي من المبنى المعسكر.‏

"نم الآن إلى ما لا نهاية!"‏

قالها الماوردي وهو يلقي بجثته تحت الأغطية. ويضيع داخل النوم.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:26 PM
"كم من القرون وأنت تملك هذا الصندوق الخرافي للنوم يا ماوردي؟ كل من يأتي الآن، ويسأل عنك، أو يطرق الباب، فبإمكانك ألا ترد عليه بكلمة واحدة. فأنت في خزينة من حديد. والمفتاح تحت وسادتك يا ماوردي. ثم أنت لست هنا. ولست هنا حقاً. ماذا كنت تريد من هذا العالم غير الوسادة. وها هو رأسك يرفرف عليها وكأنه علم لجمهورية نالت استقلالها تواً. ينام ويحلم ويفكر و يقول. كل نصوص الفلسفة والفكر والأدب تبنى على تلك الوسادة، وفي الليل بالضبط. فالبشري، هو من ينحاز لليل أولاً. إنها متعة، أن تكون وحيداً لتعمل وسط العزلة التي لا يشاركك فيها أحد من الدخلاء. بعد ذلك لتختلط الأشياء تباعاً، ولا فرق لذلك يا ماوردي.. الوسادة هي الوجه الآخر للرأس. بل هي الأرض التي تضيء الأفكار والأحلام والذكريات."‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:26 PM
أحياناً تأخذني الصفنة طويلاً وأنا أتطلع في وجه البطل الفار من النص. وكأنه حقل من حشيش الكيف. فتصاب أجهزتي الدقيقة بالبلادة. وأحياناً اسقط بين الجمل الطويلة كالجنازة، تفضحني أميتي في النحو والصرف، فأرفع وأنصب وأجر وفقاً لحركات المزاج، غير مُفرّق بين الظاد الحكومية و الضاد الشعبية. كما ينطبق الوضع ذاته على همزة إ أو أن، وكذلك على الألف الفستان والألف التنورة. وهذه الخربطة كما قيل لي، لا تتعلق بفيروس دبّ في الشرائح الإلكترونية للعقل، بقدر ما هي مراحل لخريف نفسي، يمرّ بالكلمات، فتعاني منه اللغة ذاتها. لكنني لم أخذ هذا التفسير على محمل الجد، لأن موقف الصفنة في الكثير من الأحايين، لا يأتي بالشرف الرفيع للذهن، إلا قبل ساعات من وقوع الزلزال.‏

تطلّع الماوردي إلى الغروب، وأخذ معه لغته وهبط إلى المدينة.‏

"الكلمات ساحل صخري طويل... تهبط عليه رؤوسنا بارتطام. والروح خيط ينقطع، عندما يصبح الوطن مشرّداً فوق أرضه"‏

‏ - ماذا أقول لك؟‏

- قل أغلق غرفة النسيان، وهات الكلام من رنينه.‏

‏ كلا. ثمة من يعجن الرمل بالدم في الداخل يا ماوردي.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:27 PM
(4)‏

نهض الماوردي.. وما زال وجهه يحمل بعض ما تبقى من طبقات النوم التي لم تفارقه بعد. وكأنها الكلس الرطب. تطلع عبر النافذة فرأى مزيجاً بشرياً متنوعاً باختلافاته. هنود وعرب وأفارقة وصينيون وفيتناميون وأوروبيون وأمريكيون لاتينيون و باكستانيون وإيرانيون وأتراك. كأنه يعرف ذلك من خلال قراءة الوجوه بالفراسة. كل وجه يحمل جغرافية البلد الذي ينتمي إليه.‏

ها أنتَ يا ماوردي بين بشر من كل القارات. قالها وهو يتأمل المباني المنتشرة في هذا المكان القديم الذي كانت تبنى فيه السفن. والكبير في مساحته التي تضم بشر المنافي هؤلاء. كانت الساعة تقارب التاسعة مساءً.. لكن الشمس لم تزل ترمي بخيوطها على شرشف الأفق، وكأنها لا تريد مغادرة هذا المكان، كي لا يشعر الغرباء بالوحشة والنفي والعزلة عن تلك الأوطان التي قذفت بهم إلى المجهول.‏

"قد تكون ساعتي هي التي أخطأت التوقيت!"‏

قالها الماوردي وهو في الطريق إلى غرفة المرشد المسؤول عن المعسكر، والذي بدأ يرافقه بهدف التعرف على المطعم وغرفة الطبابة والملاعب وقاعة الاجتماعات والمرافق الخاصة بغسيل الثياب والدراسة والرياضة. إلا أن مسؤول الصليب الأحمر، طمأنه على صحة توقيت ساعته تماماً. فالشمس لا تغرب أيام الصيف في بلاد الاسكندناف، إلا في ساعات متأخرة جداً، قد تبلغ منتصف الليل. وهذا ما راح يصدقه الماوردي بالتدريج، على الرغم من أنه كان يقوم بتكذيبه داخل نفسه أثناء مطالعاته للكتب المدرسية في الماضي.‏

- ماذا بعد.. وبلاد جلالة الملكة هنا، تمنحنا وقتاً إضافياً من الشمس التي فقدناها هناك؟‏

- ولكن حرارة الشمس التي كانت لدينا هناك، أقوى من هذه الهاهنا.‏

- ها أنت تبدو متحزباً وعنصرياً لشمس الشرق يا ماوردي؟‏

- كلا. ولكن النظام الكوني هو من يقرر ذلك. فنحن في بلداننا ضحية مزدوجة للمناخ والسلطات التي تكاد تجفف الدم في الأوردة والشرايين. بعد أن فقدت أحلامنا كل إيقاع.‏

- لكنك الآن مع أحلامك يا ماوردي. وكل هؤلاء الذين أمامك ومن حولك هم من ضحايا القمع والإرهاب والدكتاتوريات والحروب القذرة. الجميع هارب من الجحيم. السياسيون الذين تطاردهم حكوماتهم. الكتاب والمثقفون الذين لم يستنشقوا هواء الحرية. المعارضون للحروب والدماء والعنف. الفقراء الذين جعلت الأنظمة من جلودهم الأحذية والسياط. كل هؤلاء معك يا ماوردي. قضيتك وقضيتهم واحدة. ونضالك ونضالهم مشترك. هؤلاء سيصنعون التاريخ الديمقراطي الجديد في بلدانهم مستقبلاً.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:27 PM
لم تكن ليالي الصيف في الساندهولم مملة. فالعتمة شفافة إلى حد عدم الشعور بغياب النهار. والبشر في مثل هذا الصيف التموزي، يفترشون عشب الحدائق ومقاعدها، أو يمارسون ركوب الدراجات واللعب بالورق والشطرنج وطاولة النرد ومختلف الألعاب الرياضية. هذا إلى جانب الصالة التي توفر للمشاهدين متعة رؤية ما يبثه التلفزيون من برامج ومسلسلات وأفلام. أما بعد تناول وجبة الغداء، فترى الأغلبية من سكان المعسكر وهم ينزحون إلى مدينة مجاورة للتبضع أو النزهة وقضاء بعض الوقت في الأسواق و التمتع برؤية النساء الشقراوات. إنها العادة اليومية التي يمارسها الجميع بلا استثناء. فالمواطن الأجنبي هنا، يتمتع بكل وقته. داخل وخارج المعسكر. وقبل حصوله على إذن الإقامة المؤقتة حتى.لم تمض عشرة أيام على وجود الماوردي في المعسكر، حتى بدأت عيناه تلتقط الصور المصغرة، لتقوم بتخزينها في الذاكرة. ربما للذكرى على سبيل المثال.. وبدأ العالم الجديد بالتفتح في الرأس شيئاً فشيئاً.‏

"لا يمكن أن تنمو خارج هذا الأصيص المزدحم بالأزهار السوداء والملونة يا ماوردي."‏

"بأية طريقة يمكن قياس انتماء المخلوقات البشرية إلى بعضها البعض؟"‏

كانت كاميرا العين تزداد نشاطاً، وتفتحاً واقتحاماً للمشاهد في معسكر الساندهولم. كل شيء يكبر، وكأنه يملك قراراً بعدم الانكماش. أحزان الناس. تفاهات بعضهم. جنون آخرين. مخالفات زمر الوقاحة والاعتداء وتجاوز القوانين والتمرد عليها. أجل ففي كل يوم يزداد تراكم الصور في الذهن. أحداث متفرقة. معارك هامشية هنا وهناك. تحطيم الأثاث الموجود في القاعات والغرف. تهريب الأطعمة والمواد الغذائية إلى خارج الأسوار. المشاكسات مع موظفي وموظفات الصليب الأحمر ورجال البوليس. الضرب و الاعتداءات الشخصية.. وإلى ما هنالك من الصور المختلفة التي تحدث على مدار ساعات اليوم الواحد.‏

- ما علاقتك يا ماوردي بكل هذا الذي يغرز عينيك. أم أنك ضجرت من أحوال المعسكر بهذه السرعة؟‏

- عفواً. أتخاطبني؟‏

- إذا لم يكن لديك مانع من أن نكون صديقين هنا. أي في هذه الصحراء!؟‏

- كلا. ليس من مانع يحول دون ذلك. أنا الماوردي.‏

- وأنا فاتح الرملاوي؟‏

- أهلاً. فرصة طيبة.‏

- حصل لنا الشرف في هذه المعرفة.‏

- سمعتك تصف هذا المكان بالصحراء يا رملاوي. فماذا وراء ذلك؟‏

- وماذا في ذلك. فنحن ننتقل من صحراء إلى أخرى. وعالمنا ضيق كقوقعة الحلزون!‏

- ألست سعيداً هنا؟ على هذه الأرض الجديدة أقصد؟‏

- وهل يمكنك تقسيم السعادة يا ماوردي؟ فنحن كلما خرجنا من بئر، سرعان ما وقعنا في آخر. أي في الأعمق من الأول. حتى تكاد رئاتنا تتمزق من الاختناقات. انظر. ماذا ترى أمامك. حولك. في داخلك. فوقك. إنها الغيوم وليس غير. وغداً ستكتشف كل عفونة بنفسك.‏

- أعتقد إنها فرصة ذهبية لتقيؤ الطعام.‏

ألقى الماوردي بالملعقة في الصحن الذي أمامه،، وغادر مطعم المعسكر الذي كان يضج ويعج باللاجئين، وخرج من المكان وهو يثرثر في نفسه متسائلاً عن هذه اللعنة التي تعرف عليها قبل لحظات في المطعم.‏

"هل ستعود إلى نقطة الصفر من جديد يا ماوردي؟ أنتَ الذي هربت بجلدك من منغصات الحياة، لتضع نفسك وجهاً لوجه مع منغصات العالم الجديد. كلا. فالرملاوي يكذب أنه يحاول تشويه الصورة في حياتك مرة أخرى. ولكن حذار أن تستسلم لمثل هكذا قذارات‏

فيما كان الماوردي يفكر بالرجل وأفكاره التي تسببت بتسميم وجبة الطعام في داخله، وجد نفسه فجأة في المبنى المخصص لغسل الملابس. فرأى البعض يغسل الثياب والأغطية، فيما رأى البعض يضع أيضاً، الأحذية في الغسالات ويدير أقراص التشغيل. وفجأة... أفرغ ما كان في معدته من محتويات. بعدها توجه إلى الغرفة المخصصة له، ليقذف بجسده على السرير، كالدابة التي أجل ذبحها لليوم التالي.‏

"اللعنة عليك يا رملاوي. كيف تريد تشويه المناضلين؟"‏

قالها الماوردي.. وهو يحس بأن معدته قد بدأت بالاستقرار في مكانها الطبيعي. تناول قرصاً من العدة التي تقوم بتجهيز النوم له، و راح في الرحلة السباتية التي تعود عليها لقمع الدماغ في الساعات الصعبة.‏

كانت الساعة التاسعة مساءً.. البشر في الخارج يمارسون مهن الليل. شرب القهوة والشاي أو البيرة في الحدائق وعند منافذ القواطع. أو اللعب بالورق ومشاهدة التلفاز. في حين كان المراهقون يطاردون الفتيات على الدراجات من مكان إلى آخر، بهدف الحصول على تحية أو غمزة أو قبلة خاطفة لا تؤدي إلى معارك الشرف بين هذه العائلة أو تلك.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:28 PM
(5)‏



في صباح اليوم التالي.. انتبه الرملاوي إلى غياب صديقه الجديد. فهو لم يأت إلى المطعم. ولم ير له أثراً في الأمكنة الأخرى. لذلك قرر التوجه نحو غرفته، ليطرق بابها بأصابعه. لكن الماوردي لم يزل في سباته. وعندما اشتد الطرق على الباب، نهض الماوردي ليفتح، فإذا به وجهاً لوجه مع الرملاوي.‏

- أهذا أنتَ من جديد؟ قال الماوردي متذمراً بعض الشيء.‏

- نعم. خفت أن تموت جوعاً وأنتَ في هذا القفص، فلا يحس بوجودك أحد. لذلك جئتك ببعض الطعام الخفيف.‏

- تفضل. هل تشرب الشاي أم القهوة؟‏

- أفضل أن تتناول طعامك ونخرج إلى الحديقة. هناك نجلس.‏

أخذ الماوردي دوشاً سريعاً. بعدها تناول شيئاً من الطعام. وغادر والرملاوي الغرفة قاطعين الممر الداخلي الطويل الذي يفضي إلى الفناء العام للمعسكر. لم يجلسا كما كانا قد قررا. فالمصطبة القريبة من الممر الأول كانت مشغولة. فقررا السير مشواراً إلى ملعب كرة القدم. وهناك تعرف الماوردي على الدكتور الوراق، وهو أستاذ في القانون الدولي، كان قد تخرج من دولة أوروبية شرقية. وبعد دقائق معدودة.. ينتقل الماوردي مع الصديقين الجديدين إلى مصطبة قريبة من ملاعب الأطفال.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:29 PM
- كنت سمعت أنكَ أصبحت هنا منذ يومين؟ قال الوراق موجهاً كلامه للماوردي.‏

- وأرجو أن لا يطول بنا المقام هنا. أجاب الماوردي.‏

-كل ذلك يتوقف ما قلته في التحقيق الأول الذي تم تسجيله في المطار يا ماوردي. رد الرملاوي‏

-قلت الحقائق البسيطة. أجاب الماوردي مبتسماً‏

- ولكن الحقائق لا تكفي. لا بد من الكذب والافتراء والتضخيم، كي ينجو المرء بنفسه من مطبات رفض اللجوء. عقّب الرملاوي على ذلك.‏

- لم أكن مضطراً لذلك. فقد قلت ما حصل لي فعلاً، وفقط. وقدمت لهم بعض الوثائق بخصوص ذلك. ألا يكفي الأمر كما تعتقد؟ سأل الماوردي موجهاً كلامه للدكتور الوراق.‏

- الأوراق مخلوطة هنا يا سيد ماوردي. ومن الصعوبة بمكان تصديق ما يحدث. يأتي شخص مثلاً، ويعترف للبوليس ورجال الصليب الأحمر بأنه شخصية سياسية ملاحقة ومضطهدة من قبل النظام الذي يحكم بلاده. في حين يكون الشخص نفسه هارباً من الخدمة العسكرية، وليس غير! أو أن شخصاً آخر يدّعي بأن حكومة بلده تريد تنفيذ حكم الإعدام بحقه، وهو مجرم في قضية جنائية لا علاقة لها بالسياسة لا من قريب أو بعيد!! وعندما يأتي شخص سياسي حقيقي. أو كاتب معروف ويدّعي بأنه تعرض لاضطهاد وملاحقة وسجن.. لا يلقى الاهتمام المطلوب. فتصبح قضيته واحدة مع قضية ذاك المجرم أو ذاك الهارب من الخدمة العسكرية!! إنها الحثالة التي باتت تفسد كل شيء. قالها الوراق وهو يطلق من صدره تنهيدة ثقيلة.‏

- قد يكون هناك بعض التحامل على هؤلاء. أي ثمة من يحاول التشويه ولصق الاتهامات بالغرباء والأجانب. ربما هي حملة افتراءات فقط. رد الماوردي مستغرباً وهو يمط شفتيه.‏

- انظر إلى ذاك الشخص.. الوراق مكلماً الماوردي وهو يشير إلى شخص كان يقطع الحديقة المقابلة. إنه يدّعي بالانتماء إلى أخطر تنظيم عسكري في الشرق الأوسط. لكنه فضل اللجوء إلى للدانمارك على البقاء هناك، وتنفيذ المهمات الإرهابية كما يسميها هو الآن. لكن البعض هنا، يعرف تاريخ هذا الشخص ومهنته الحقيقية ومن أين. فقد كان عاملاً في كراج لتفكيك السيارات وبيع قطع الغيار.‏

- ولكن لماذا يمارس المرء الافتراءات. هل عندما يكون ضعيفاً. أم هو المرض؟ سأل الماوردي.‏

- بل التعويض عن الهزائم والضعف. ربما هو الأقرب. أجاب الوراق.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:29 PM
- عندما يدخل امرؤ منا إلى هذا المكان عل قدمين اثنين، فإنه لا يرغب بالخروج منه إل وهو جثة أو ما يشابهها في أحسن الأحوال. فقد دفع واحدنا الكثير ليصل إلى هنا، ولذلك فمن الصعب تصديق مثل هذه المساواة في الحقوق، ما بين السياسي والمجرم والسافل والهارب والجائع والمثقف والأمي. لا كبير هنا، بل ولا أهمية لأن تكون صادقاً أو كذاباً أو بارعاً في الدجل. الجميع يبحث عن الإقامة. والإقامة وليس غير. أليس كذلك يا ماوردي؟؟ سأل الرملاوي.‏

-كلا. لا بدّ من التمييز. وإلا تقع الكارثة وتحل اللعنة. هذا ليس دعوة للتمييز العنصري، حتى الطبيعة لها قوانينها التي تميز ما بين الفصول الأربعة. رد الماوردي.‏

- لا مكان هنا للمبدعين. الناس تتحول شيئاً فشيئاً إلى أشبه بالدواب. يأكل وينام ولا يفكر بما عدا ذلك. المبدعون هم على الدوام في الجحيم. قال الوراق وهو يهز رأسه.‏

- حتى وإن أخذوا بالعامل التمييزي بين السياسي ونقيضه. بين الأديب والأمي.. سيكون أنتَ قد انتهيت في مثل هذا الطوفان العجائبي. المهم أن تباشر بالاستعداد لذلك منذ الآن يا ماوردي!‏

- ها أنتما تقفلان الآفاق في وجهي. بل وتردمان عيوني بالحجر ردماً. ضحك الماوردي وهو ينظر في وجهي الوراق و الرملاوي.‏

- أننهض.. لقد حان وقت الأحلام؟‏

نهض الماوردي والوراق والرملاوي باتجاه قاعات النوم، وهم يجرون أرجلهم، وكأنها مثقلة بالحديد. بعد ذلك بدقائق اختفى الثلاثة: كل في سريره.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:29 PM
(6)‏



في ملاجىء النوم.. يدخل الواحد منا في نفسه، لمواجهة الحقائق وجهاً لوجه. ولا يحتاج المرء للمناقشة والجدال. إن الغربة تجلو الشخص هنا، فإما أن يزداد تألقاً في وحدته، أو تصيبه حمى التوحش، فيعيش تحت ظلالها. والحياة المعاشة التي لدى الغرباء، ما تزال حتى الآن، أشبه بشجرة متخفية الثمار داخل كل جسد مظلم. البحث عنها صعب. والتقاط ثمارها يكاد يشكل معجزة.‏

لقد بلغت الحروب العسكرية والحروب المفتوحة ضد الديمقراطيات في العالم الثالث أوجها. فالدماء لم تجف على السواتر وفي الخنادق المنتشرة على طول الحدود والأجساد. ورائحة الجثث ما تزال تتطاير فوق الأنوف، على الرغم من اختفاء الدبابات والسكون الذي يغلف الآفاق. لأن الأنظمة تفبرك الحروب على جبهاتها الداخلية الآن. حيث لابد من تطهير الأجساد البشرية من الأرواح الشريرة: الحريات الديمقراطية. فالإنسان المطلوب إنتاجه، قطعة معدن في شعب من الروبوتات. لا إحساس له بالأوبئة التي تخلفها الآلة الحربية. ولا مشاعر تربطه بمن يحيط به إلا مشاعر الكراهية والاحتقار. إن هذا الإنتاج المغذى بالدماء الزرقاء، لا يكرس إلا نزعة الانتحار بالهجرة نحو المجهول. كل سيساق إلى المسلخ دون خيار منه. كأن الهروب هو الملاذ الذي يليق بمخلوقات العالم الثالث. وليس غير!‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:30 PM
أليست هي فلسفة الحكومات الخلاقة هناك؟‏

لم يستطع الماوردي الدخول في ممرات النوم، لا الضيقة منها ولا الواسعة. جلس أمام النافذة كشحاذ على عتبة الأفق.‏

« ماذا يمكنك فعله بعد الآن؟ ها أنتَ من جديد في عنق الزجاجة مع بشر من كل الجنسيات. تنتظر اليوم الذي يظهر فيه اسمك على لوحة الإعلانات، وهو يرفرف كالعلم الوطني: مبروك ياماوردي. فقد نلت الإقامة!!»‏

كلا... لا تأتي الأشياء بشكل مبكر، كما كان يعتقد الماوردي. فقد يأتي العكس، ويقذف بجثمانك إلى الخارج. فما سمعته اليوم يحير الدماغ. ربما هو افتراء. ولكن دعك من هذا وذاك، وتأمل في السماء التي فوق رأسك. كم من الكواكب والمجرات والنجوم والعوالم هناك؟ ربما يكون فيها بشر أو مخلوقات لهم نفس مشاكلك. لست وحيداً أنتَ كطالب للجوء في هذا الكون. من الممكن أن تقذف هواجسك وتخمد في التخت يا ماوردي.‏

وفيما النوم يتقدم نحو سريره كالنهر، يستيقظ فجأة على صوت مدو لتحطم البللور. يقف خلف النافذة لمتابعة الأصوات، فيرى شاباً يحمل جذع شجرة، ويقوم بتحطيم زجاج قاعات السكن، وهو هائج كالثور في الحلبة. كان الجميع يتطلع إلى ما كان يقوم به ذلك الشاب من النوافذ. ولم يأت أحد من الشرطة لمنع ما يحدث. فقد أنجز الشاب عمله وغادر المكان.‏

« غداً... ستتحطم عظامك يا هذا. سيلقون بجسدك في السجن حتى تتعفن أو تدفع ثمن ما حطمت... لابدّ من العقاب.»‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:30 PM
قال الماوردي تلك الكلمات محدثاً نفسه.‏

أنها ليست المرة الأولى التي ينفذ فيها العطواني مثل هذا الواجب الخطر والشاق. فقد تعود القيام بذلك بين فترة وأخرى. وكل ذلك بهدف الضغط للحصول على الإقامة. فقد سبق وأن رفض طلب الشاب مرتين. فغادر الدنمارك ليقدم طلب اللجوء في السويد وألمانيا، وحصل على رفض مماثل! وها هو الآن هنا، ليقوم بالمحاولة الأخيرة.‏

هكذا عرف الماوردي هذه المعلومات عن هذه الشخصية في اليوم التالي لبطل معارك الزجاج الشهير في الساندهولم! وكالعادة، فلا يطاله عقاب من أحد.. لأن القانون يحول دون ذلك على كل من هو في مثل وضعه؟!‏

« هل كنت تفعل هذا في بلدك؟ لو كنت فعلت ذلك، لكانت عظامك الآن كالنشارة في أقذر المزابل وأنتنها. بل، تكفيك خيزرانة شرطي واحد للمرور أو النجدة أو الأمن، ليجعل من جلدك حذاء، تقرأ فيه كل القوانين المطبوعة وغير المطبوعة. بل يؤلفون لك القانون المناسب بلحظة خاطفة! ليت شجاعتك كانت هناك يا عطواني!!»‏

ردد الماوردي هذه الكلمات وهو يشعل غليونه ليخلف طبقة كثيفة من الدخان فوق رأسه، كأنها غيمة حملت ما في داخله من تقزز واحتقار.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:30 PM
كانت الليلة الماضية هي الكابوس الذي فجر المياه السوداء في أول طبقات الرأس. بعدها توالت الأحداث لتشكل خرائط جديدة لحياة البشر في المعسكر. وبدأ الذهن باستقبال الصور التي يخلفها نهار وليل اللاجئين على هذه البقعة من الأرض. وكان كل ذلك يبعث على زيادة حرارة الجسد. وعلى فتح ملف التشاؤم، ربما من باب الاحتياط. فالمرء، لابدّ أن يفعل ذلك في حساباته لمواجهة المستقبل على أقل اعتبار. وكثيراً ما يصبح اليأس عاملاً من العوامل التي تفرغ النفس من شحناتها العالية. أي من الفورات الكبرى التي تريد من عالم اليوم بحيرة كاملة الصفاء، وبعيدة عن العواصف وتسربات الأقنية الملوثة. حتى الدمع لم يعد كامل النقاء في يومنا الراهن، بعد أن أتلفته النيران الداخلية وجعلت من ينابيعه أبخرة ليس غير.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:31 PM
كيف تفرّ من نومك هارباً، ويبقى السرير في الغرفة التي تحتلكَ؟ نومي طيرٌ وهروبي خط هواء. أليس هذا ما ستتحفني بقوله؟‏

أجل. أعرف بأنك أعمى على خارطة. الريح في فمك ساخنة. وماء الذكريات فيضان على أوراقك. جسدك كلمات على مشرحة الأسى المُذل.‏

« عندما لم أجد في المكان مكاناً، حاولت الخلاص من ذلك النهار، فتركته يتأمل شخوصه على رصيف المحطة، وهرعت بمعية تلك الكائنات التي كانت تحملني على ظهورها نحو الحقول.»‏

-عندما يصبح الدماغ خندقاً، هل لكي تتحرر من شبح المنازلات؟‏

-ما تزال هويتك غائمة أيها الوغد.‏

‏ -مثلها مثل البلاد استعملت العين كراساً لألعابها النارية في الحواس.‏

-لا تقل شيئاً بخصوص العقل يا ماوردي. فالمنفى يُهندس العين وأعشاشها المختارة.‏

« عندما تجر الزمن من ذيله الطويل، لا يكون الغناء هباءً بين تلك الأشجار التي تمد أعناقها إلى خارج المخيلة.»‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:31 PM
(7)‏

عندما ظهر اسم الماوردي بعد أقل من شهر من وجوده في المعسكر مع قائمة الأسماء التي نالت الموافقة بالإقامة المؤقتة في الدانمارك، وتحت بند اللجوء الإنساني وليس السياسي، لم يعر للمسألة شأناً كبيرأً. ولم يفكر بالاستئناف لإعادة النظر في القرار. بل كل ما فعله هو ارتداء الثياب الرياضية والقيام بهرولة على الممرات الملاصقة لأسوار الساندهولم. كأنه كان بذلك لا يريد أن يعطي الفرصة لنفسه بالتفكير في شيء محدد. هل كان الماوردي يسابق خروجه من شيخوخة هذا المكان بالهرولة نحو مكان لا يعرفه؟‏

ربما. فالأمكنة والشخوص والأشياء، صارت تشيخ عنده بسرعة كبيرة. لا احتمال لشيء أكثر مما يلزم!‏

كيف يحدث ذلك ولماذا؟ لا يعرف الماوردي ذلك بذاته. ربما لا يرغب بالاستغراق التأملي طويلاً. ولا بالغوص في الأعماق، مثلما كان يفعل ذلك في السابق. خشية أن تتخبط ذراعاه في تلك الأمواج السحيقة، فتتفتح الآلام النائمة هناك.‏

بعد الظهيرة، كانت غرفة الماوردي تغص بالزوار لتقدمة التهاني بمناسبة نيله حق الإقامة. لم يعرف أغلبهم، عدا الوراق والرملاوي وبعض من صادف وأن اجتمع معهم إلى طاولة الأكل في المطعم. وهذا تقليد يكاد أن يكون عادة في المعسكر. وهو في الوقت نفسه محاولة للإطلاع وسماع ما كان قد أفاد به طالب اللجوء لدوائر البوليس. فكل واحد من هؤلاء يحاول أن يقاطع معلوماته مع تلك التي أفاد بها الشخص الذي حصل على إذن الموافقة، كي يرى أين بات موضع قدمه.‏

- إذن لجوء إنساني يا ماوردي؟ سأل الدكتور الوراق مضيفاً باستغراب: "والكلاب السائبة وسقط المتاع تنال حق اللجوء السياسي!!"‏

- المهم مغادرة هذا المكان البائس. هنيئاً لك الرحيل من هنا يا صديقنا الماوردي.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:31 PM
قال ذلك الرملاوي وفي نفسه مرارة الحزن. فقد مرت على الرجل سنة كاملة وهو على لائحة الانتظار. ولم يحدث شيء! كان هو يفسر ذلك بأن البعض قد كتب فيه لدائرة البوليس بعض التقارير القذرة التي تلصق به تهمة الإرهاب والتعامل مع تنظيمات ثورية خطرة. فيما يرجع البعض الآخر سبب عدم منحه حق اللجوء، لكونه تقدم بوثائق مزورة لا تكشف عن هويته الأصلية. أما هو شخصياً، فكان يعتقد"بأن العالم. كل العالم ضدي. وهذه هي ميزتي الوحيدة التي ليست لديكم!"‏

لم يكن الماوردي ليملك الرغبة في الحوار. فقد كان يوزع ابتساماته كالبليد على الأشخاص الذين حوله. وعندما ملّ من الحكي والتخبيص في المناقشات التي بدأت تأخذ المنحى التناحري، قرر التدخل موجهاً كلامه للجميع:‏

لقد سقطت هنا أشبه بفتافيت مطحونة من نيزك محترق. لا هوية لدي إلا الجلد المدبوغ. ولا عمل لي غير الكتابة والحلم. ولا أمل عندي سوى العدل، لأنه القانون الذي يتحكم حتى بمسيرة الدورة الدموية. فعندما أحببت، كانت ترافقني صورة جارتنا الخيَاطة، تلك التي اغتصبتني وأنا ابن الثانية عشر. لم أكن بطلاً.. لا في الحرب ولا في السلم. ولم يمر رأسي كالنسر تحت أقواس النصر. لم أكن إقطاعياً أو مالكاً لعقار أو مرسيدس. لم أقتل ريس الجمهورية. ولم أعتدِ بالقنابل لتفجير المباني الحكومية- وإن كنت أرغب بنسف دوائر المخابرات منها- أو التبول على جدران مقراتها على أقل اعتبار. وليس في ذهني سلطة أو رغبة باستلام منصب سلطوي، كما تفعل الذئاب والأفاعي هناك. ولم أترك دماغي تهلكة لتفاهة. دخلت المدارس وهربت من فوق الأسيجة. وبنيت صداقات جميلة لم تدم بفعل عدم دوام الحبّ. وخدمت في الجيش وأحسست بالشوك السياسي والطائفي والحزبي وهو ينمو كالكتل الصلبة في البلعوم. وتمردت في الكتابة، ولم أجد من أتوكأ عليه حتى نفسي التي تهرب من كثرة الظلم والمشقة والخوف والرعب. ليس لديّ من الأرض حتى مساحة القبر. ومن النص غير مساحة الجنون. لقد تهدمت بالتدريج ولم أبلغ سن الرشد، كما هي البلاد القادم منها الآن، قرون مضت عليها، وهي تتهدم تحت سقف الدستور المؤقت والقوانين العرفية. كيف يخرج جرذ من ثقب صندوق القمامة.. ليحكم بلداً كانت فيه أول مسلة للقوانين في العالم، وأول جامعة في التاريخ، وأهم احتياطي نفطي معاصر؟‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:32 PM
لن أنزف نفسي في استعراض كهذا، ولكن من البساطة القول أن العقل يكاد أن يغرق بمثل الأمطار السوداء التي تهطل فوقه ليل نهار، أو على مدار الأعوام الطويلة من عدم الألفة وعدم الحبّ وعدم الاستقرار وعدم الأمن الذاتي. إن أي غراب في العالم، يرفض أن يعيش على هكذا شجرة مُدَمرة. لذلك أقول أن الإنسان لا يمكن أن يكسب الاحترام لنفسه إلا داخل وطنه. فكيف بنا الحال الآن، ونحن لا نكاد نملك من الوطن حتى ذكرياتنا فيه!!‏

هل يستطيع الغريب هنا، صناعة الوطن البديل في المنفى؟ أم سنهشم العوالم الجديدة وكل الأشياء، انتقاماً لأوضاعنا السيئة القديمة هناك؟"كأنك يا ماوردي تخطب في حشود بشرية على امتداد النظر".‏

- لو لم تحصل على الإقامة.. لما قلت هذا يا ماوردي. سيقول لك شخص.‏

- نعم. لو كان حظك مثل حظوظنا، ولو كنت تجرعت مرارة الانتظار طوال الشهور الماضية، لكنت قد وضعت في فمك حجراً ولم تنطق بكلمة من هذه المواعظ التافهة. سيقول لك شخص ثان.‏

- الذي يده داخل النار، غير الذي يده في الماء يا ماوردي. سيقول لك شخص ثالث.‏

- إنك تكشف عن أميّتك يا ماوردي. ولو كنت غير ذلك، لكنت نطقت بشيء يخدمنا. ويعجّل بخروجنا من هذا المستنقع اللزج الذي يكاد يأكل منا عقولنا ويتركنا كالعجزة. سيقول لك رابع.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:32 PM
عندما فرغ الماوردي من قول ما كان يريد قوله، انسحب الجميع من الغرفة بما في ذلك الوراق والرملاوي. كان كل فرد يشعر وكأنه وضع يده فجأة على قنبلة لم تنفجر. هكذا كان الإحساس العام.‏

- أجل. صرخ الوراق وهو يلفظ من أعماقه تلك الحمم"نحن كلاب سائبة لدول مرتبطة!"‏

وضع الرملاوي يده على كتف الوراق، وقاده نحو مقعد منزو في الحديقة، كمن يحاول تخفيف غليان بركان يستعد لدثر المعسكر والمدن التي تحيط به.‏

- هل حرضك الماوردي على ممارسة المازوخية ضد نفسك؟ الرملاوي للوراق.‏

- وماذا في النفس غير الأطلال. وأنتَ ترى! ردّ الوراق ووجهه يتفرز دماً ورملاً وكدراً.‏

- ولكنها اللعبة.. فلقد دخلت الأنظمة في عظامنا، وها هي تتسلل إلى معسكرات اللاجئين، هنا في القطب. ولمَ لا. فقد يكون بالإمكان أن ينتهي الماوردي وسواه في المشرحة فيما لو تقرر حكوماتنا ذلك."ضربة سكين في الجهة اليسرى وينتهي الفيلم." خاصة وأن لأنظمتنا رجالاً هنا، ما يزالون يتمتعون بمهماتهم للتجسس على كل تحركات اللاجئين الذين يأتون من بلاده!‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:33 PM
- لتذهب أنتَ وأفكارك للجحيم. قالها الوراق."من أين لك هذه الترهات والثرثرة؟"‏

- إلى هنا. الحكومات تتخندق في حلوقنا أيضاً، وتبعث بالمخبرين لتقديم طلبات اللجوء مع ما يلزم، وتحت الشعار ذاته الذي يقدمه الهارب الحقيقي من بلده: الحرية والديمقراطية والأمن الشخصي!!‏

- لا تذهب بعيداً يا صديقي الرملاوي. ردّ الوراق مضيفاً: مثل هذه الأمور لا تحدث لدى الدول الكبرى فقط.‏

- بالعكس.. فحكومات بلداننا تدفع أكثر من نصف ميزانية الدولة على الأمن. هنيئاً لك على معلوماتك التي لا تطعم عصفوراً. قذف الرملاوي تلك الكلمات بتهكم حاد، وهو ينظر في وجه الوراق.‏

- أكنتَ تعمل معهم؟ سأله الوراق متهكماً.‏

- معهم. من تقصد بذلك. الحكومة أم الحزب الحاكم أم المخابرات أم المعارضة؟ ردّ الرملاوي.‏

- إذا كانت الغاية من وراء ذلك التخلص من الخصوم؟ لماذا لا يفعلون ذلك؟‏

- كلا. هناك توزيع في المهمات وحسب التسلسل. فالحكومة تحاول التخلص من أفراد قد لا يرى منهم الحزب الحاكم فيهم خطراً يهدده. لأن للحزب خيارات أخرى للتصفيات. وهذا الأمر ينطبق على أجهزة الأمن التي ترى أهدافها بعين أخرى، غير تلك التي تظهر على الشاشة العامة للجميع.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:33 PM
- إذن.. فالدول التي لدينا مصانع لتعليب الجثث؟! رد عليه الوراق منقبضاً وهو يفرك براحتيه.‏

- ليس هذا المقصود بالضبط، وإنما لتعليب نفسها، دفاعاً عن البقاء والاستمرارية في السلطة التي تملك.‏

نهض الوراق من على المقعد بتثاقل، وكأنه يريد أن يظهر لصديقه الرملاوي عدم اهتمامه بمثل الصفاقات التي تحدّث بها.‏

"ها أنتَ بتَ تخيفني يا رملاوي. وهذه علامة سيئة قد تقص رأس الصداقة التي بينك وبيني."‏

قبل أن تنطق بكلمات إضافية يا وراق، سأدلك بعد قليل على النتانة البشرية التي تنشر الوباء خلسة في هذا المكان. إنه وحيد الحبال.‏

- ليس في ذهني مشاريع لمعرفة هؤلاء، ولا أملك الدافع لمرافقتهم كذلك.‏

- أنتَ شخص غريب الأطوار للتشهير بالآخرين يا رملاوي.. أليس كذلك؟.‏

- بالتأكيد. ولكن ليس من حقك الطعن في سجلي الشخصي إذا ما قلت لك بأن وحيد الحبال وسواه، هم من الأجهزة المخابراتية التي تعمل هنا تحت جناح طلبات اللجوء السياسي، هرباً من الإرهاب والقمع والموت وقلة الهواء، كما هو مسجل في إفاداتهم الطويلة لدى دوائر الشرطة في هذه البلاد.‏

وداعاً يا ساندهولم..‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:34 PM
قالها الماوردي وهو يغادر المعسكر في تلك السيارة التي أقلته تحت نظرات الذين كانوا في وداعه عند البوابة المركزية.‏

" سنلتقي ذات يوم"‏

قال ذلك الماوردي وهو يحس بنيران تلتهم عيونه من غزارة الدموع.‏

" أهكذا تبدأ من حيث لم ينته عذاب الآخرين؟"‏

بدأت السيارة زحفها البطيء. بعدها راحت تلتهم الطرق الزراعية الرائعة، بمثل تلك السرعة التي تريد تغيير مجرى الزمن. بدت البيوت بسقوفها القرميدية تغوص في العين. كل شيء يمحو ما كان قبله. وعلى الذاكرة وحدها برمجة صور هذا العالم التي تتدفق إلى شاشاتها الغامضة في الداخل. ولكن.. ألا يأتي اليوم الذي يتعطل فيه جهاز تلك الذاكرة، فلا يعود بإمكانها تذكر نفسها حتى؟‏

" ليس من داع للغرق في سلة الرماد مبكراً".‏

إنها المدينة يا ماوردي: يسمونها بـ"الشمس الحمراء"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:34 PM
عندما دخل الماوردي البيت الجديد"فيلا" من الفيلات التي تقع في إحدى الضواحي التي يقطنها البرجوازيون من أهل البلد، والتي تقع على بعد أمتار من البحر، يرافقه مسؤول من مديرية شؤون اللاجئين أحس بالغبطة، خاصة وهناك من كان يشاركه هذا المكان الذي يعتبر كمحطة مؤقتة تسبق الاجراءات الخاصة بتنظيم حياة اللاجئين، قبل الانتقال بهم إلى المساكن الخاصة بهم والتي عادة ما تكون مستقلة.‏

خرج الماوردي ليقتعد كرسياً في الحديقة. وهناك تملّكه شعور بالنعاس وهو يراقب أشجار التفاح والكرز والزهور المنتشرة في أماكن متفرقة من الحديقة الواسعة."قيلولة فقط"‏

هكذا قال الماوردي في نفسه وسقط في النّوم على الكرسي الذي كان يجلس عليه. إلا أن القيلولة لم تدم طويلاً، فقد أحس الماوردي بالبرد الذي أخذ يتسلل إلى داخله. لذلك غادر الحديقة متجهاً إلى الداخل، أي للجلوس في الصالون بهدف مشاهدة التلفاز، ولم تتوفر له مثل تلك الرغبة. فقد كان الأطفال الستة بمعية الأم، وهم يحتلون جميع ما في ذلك الصالون من مقاعد وصوفات. هذا بالإضافة إلى الفوضى والصراخ والبكاء الذي كان يمزق أحشاء صالون الجلوس المخصص للجميع هنا. ولكن هذه العائلة، كما يبدو، لا تريد أن تمنح القادم الجديد الفرصة بالتمتع في شيء داخل هذا المنزل.‏

" هذا القادم الجديد لا فرصة لديه ليحتل ولو كرسياً داخل المنزل." هكذا فسّر الماوردي الوضع، ميمماً وجهه صوب غرفته، ليستخدم الراديو الصغير الذي يمتلكه:"تعالي يا إذاعات العرب.. لنسمع هدير الولاة والقادة والمطربين".‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:35 PM
- من غبار الريح إلى غبار التاريخ. النار واحدة. والأرض واحدة.‏

- لكن الكتابة عن الشرق، تفضي دائماً إلى الكتابة عن الغرب الذي نحن فيه. فكل عبارة عن بلاد الشمس، لهل ظلالها هنا.‏

- وسحر أوروبا الذي أخذك فيه الهوس طويلاً؟‏

- نفاية. نحن هنا مستعمرات جديدة على أراضيها.‏

- إذن. ضع في نفسك فلتراً. فهم يحاولون إعادة إنتاجنا سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً.‏

- ديمقراطياتهم تبني في عالمنا العربي الديكتاتوريات. وتؤسلحها حتى العظم.‏

" مياه الفرنجة السوداء التي تتشكل كمجموعة من الطوفانات في الأعماق، ومنذ زمن بعيد، ها أنت بين أمواجها."‏

سحبت يدي من بحر الشمال. قلت لن يكون هذا البحر خاتماً. ولن يكون جسدي محبرة لنص آخر.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:35 PM
(8)‏

كانت البداية الأولى لمسيرة الماوردي: مدرسة اللغة. وهي تجمع كبير للاجئين من مختلف بلدان العالم. وتقع في مركز أكبر التجمعات التجارية في المدينة. حيث كان يقضي الدارسون معظم وقتهم بالتجوال بين محال الملابس والأحذية والفواكه والخضار وفروع البنوك والبريد، أكثر من الوقت المخصص لتعلم اللغة. عندما تفحص الماوردي السوق الكبير للمرة الأولى من الطابق العلوي لمبنى المدرسة، شعر بدوار يهزه. لم يعرف لماذا رافقه ذلك الإحساس، هل كان بسبب وهن جسدي أم للصورة التي احتشدت بعينيه من كثرة أعداد الغرباء التي تزحف في المكان منذ ساعات الصباح الأولى.‏

" هذا هو مقعدك في هذه الحضانة أو المدرسة الابتدائية يا ماوردي إذن! فاجلس أيها الطفل الأمي وتعلم اللغة منذ نعومة أظفارك التي أنت في عمرها الآن. فكل لغة، ولا بد وأن تحتاج شيئاَ منها."‏

" أنا أحتاجها؟ اللعنة على أحسن لغة. أنا راجع إلى بلادي في الغد القريب، ولست راغباً بتعلم شيء. لا اللغات ولا العمل في التجارة ولا حلاقة وتصفيف الشعر ولا تهريب السجائر ولا الإحتيال على البنوك ولا التخطيط للمشاريع الوهمية ولا اللعب بالضرائب ولا مناصرة الذين يمشون فوق ظهر القانون."‏

"كلا. لا لغة تعلو على تلك اللغة. لغة الداخل التي لا يشاركني فيها إلا نفسي والأذكياء."‏

"أجل أنا الماوردي العائد في الغد إلى بلاده. قد يسقط الديكتاتور وتصبح الطريق مبلطة بالحرير إلى هناك. فهذه البلاد جميلة لأهلها وثقيلة عليك."‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:36 PM
قطع الماوردي سلسلة أفكاره الجبلية الوعرة، ودخل الصف. كانت المعلمة الدانماركية تقف إلى جانب السبورة. امرأة نحيلة طويلة القامة ذات شعر ذهبي طويل مع نظارة تشع خلالها عينان زرقاوان. وكانت ترتدي تنورة مهلهلة طويلة فوقها كنزة من الصوف تبعث الارتياح ببساطتها.‏

جلس الماوردي بين المتعلمين الذين أنهوا أكثر من شهرين من الدراسة قبل التحاقه. وراح يتطلع إلى وجوه الرجال والنساء في الصف، وكأنه يقوم بعمل إخراج سينمائي للجميع. وجوه مختلفة. لا يعرف ماذا يكمن خلف جدرانها. مثلما لا يعرف الآخرون ماذا وراء وجه الماوردي. إنه صراع الوجوه الصامت الذي لا ينهيه حتى الكلام في بعض الأحيان. فكل وجه لا توضحه ولا تبرره ملامحه.‏

نهض الماوردي بعد انتهاء الحصة الأولى متجهاً نحو البوفيه المخصصة لتناول الشاي والقهوة والمشروبات الغازية. وقبل دخوله هناك، أمسكت بذراعه يد، ساحبة إياه نحو المخرج الرئيسي للمبنى.‏

- تعال سنشرب القهوة بالمجان في "البلكا"‏

قال ذلك فريد النواف وهو يعرف الماوردي بنفسه. بعدما أخذا مكانيهما على مصطبة خشبية للاستراحة عند باب مبنى المدرسة.‏

- تعال سنشرب القهوة بالمجان في"البلكا"‏

قال ذلك فريد النواف وهو يعرّف الماوردي بنفسه. بعدما أخذا مكانيهما على مصطبة خشبية للاستراحة عند باب المدرسة.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:36 PM
- أهلاً بزميل الدراسة. هز الماوردي رأسه مجيباً.‏

- ليس في الدراسة وحسب، سنكون زملاء في العمل إذا شئت!‏

- العمل، وهل بدأت تفكر بالعمل قبل إتقان اللغة يا فريد؟‏

- العمل هنا لا يحتاج إلى لغة. قال فريد وهو يتكلم بثقة مطلقة(العقل وما يخطط. هذا هو عملنا الآن في هذه البلاد).‏

قال الماوردي مازحاً: (وهل تعمل في مجال الطاقة الذرية؟).‏

- قد تضحك عليّ إذا قلت لك إن البلاد لا تسمح لك هنا بالعمل حتى لو كنت حاملاً لشهادة من شهادات الدكتوراه. ولذلك على المرء أن لا يقع ضحية لمضيعة الوقت في تعلم اللغة أو بالانخراط في الكورسات التي تفتح من أجل اللاجئين. أكثر من سبع سنوات ونحن في هذه الدوامة. ربما ستدرك فيما بعد. فعودك ما زال طرياً في هذه البلاد. اسألني أنا؟‏

- هل هذا خلاصة ما توصلت إليه هنا؟‏

يتوقف الاثنان عن الحديث بعدما اقترب منهما شاب في العشرينات.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:37 PM
" تبدو مغتبطاً هذا النهار يا ولد. هل نقشت معك؟". سأل النواف الشاب وهو يتوقع منه سماع خبر ما.‏

- أجل يا معلم. لقد ضبط الفيلم!‏

- مبروك عليك يا ولد. رد النواف والابتسامة تغمر وجهه. بعدها سحب الشاب من ذراعه ملتفتاً نحو الماوردي: هذا سوران أفندي. مد الشاب يده كما يفعل أبطال كمال الأجسام أثناء المصافحة.‏

- هل الأستاذ جديد في المدرسة يا معلم؟ سأل سوران النواف.‏

- جديد في كل شيء. رد النواف ملتفتاً صوب الماوردي، ليردف قائلاً‏

- أليس كذلك يا أستاذ؟‏

- على المرء أن يكون جديداً على الدوام. فنكهة ذلك أفضل له من أن يكون عتيقاً. قال الماوردي ضاحكاً وهو يعلّق على كلمات النواف.‏

- أجل. رد النواف. ولكن ليس كأن يكون المرء مغفلاً، لا يعرف رأسه من قدميه. حتى القانون لا يحمي المغفلين‏

-بالطبع لا. ولكن أي قانون وأي فغفلين في عالم اليوم؟ سأل الماوردي وهو ينهض.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:37 PM
- دعنا من كل هذا الآن يا أستاذ، ولندخل لاحتساء القهوة هناك. قال النواف وهو يشير إلى البوابة الرئيسية لـ "البلكا".‏

- لكن الوقت ضايقنا الآن.. أليس كذلك؟ سأل الماوردي النواف وهو يقصد نفاد وقت الاستراحة المخصصة للمتعلمين.‏

- لا تهتم بوقت الدراسة. لن تقوم المعلمة بتأنيب أحد. قال النواف وهو يمسك بالماوردي وسوران من ذراعيهما، ليضيع الثلاثة بين زحام الناس في المجمع التجاري الضخم.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:38 PM
(9)‏

تجمعت جميع أصوات وكلمات النواف وسوران في قاع الماوردي في الليل. حيث راح يحلل ويلعب بألفاظ ومقولات وأفكار الحديث الذي سمعه في الصباح. وظل يدخن الغليون وهو في الفراش. ويحتسي البيرة وعيناه ملتصقتان في السقف. لم يكن يرغب بالنوم. وفجأة قفز من السرير وهو يغرق بضحك يكاد أن يكون هستيرياً.‏

" أي عالم أنتَ فيه الآن يا ماوردي".‏

فتح باب خزانة الثياب، ثم ارتدى ملابسه وتناول المعطف الشتوي من على الشماعة الرابضة كشاهدة القبر في زاوية الغرفة، وغادر المنزل دون أن يقفل باب المنزل.‏

" إلى المدينة يا ماوردي. حياة الليل التي لم تذقها منذ قرون يا أبله. إنها بين يديك، وتريد أن تجهل ذلك عمداً، كما كنت تفعل ذلك في مدنك القديمة. لماذا كنتَ تفعل ذلك أيها الغبي؟ فلو كنت غارقاً هناك في حياة الليل، لما واجهت المصير الذي قذف بجثتك إلى هنا. بالعكس. لو كنت قد اخترت الليل، لكانت الحكومات قد دفعت لك مصاريف أتعابك. ولكنك دلقت نفسك بالسياسة والثقافة والديمقراطية وحقوق الإنسان. وكنت تعرف جيداً، أن لا مزاج لك ولا صحة بدنية لتحمل كوارث حياة النهار القاسية والمدمرة للأعصاب؟"‏

عندما وصل الماوردي إلى المحطة، لم يكن هناك سوى امرأة تحتمي وكلبها تحت المظلة. فالبرد كان شديداً. وتشكل الجليد بدأ بزحفه على سطح الأرض. فيما أضواء المحطة الموحشة، وكأنها تلفظ آخر أنفاسها تحت أقدام ظلام الثلج!!‏

قذف الماوردي جسده في القطار الذاهب إلى كوبنهاغن. لم يكن في العربة التي جلس فيها الماوردي سوى ثلاثة أشخاص. اثنان من السكارى الذين شربوا محيطاً من الخمر. وثالث نائم، وكأنه في سريره الخاص.‏

وفيما كانت العجلات تشكل لحنها في الليل، أخرج الماوردي دفتراً صغيراً من جيبه، وراح يتفحص عناوين وأرقام التلفونات المسجلة فيه.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:38 PM
" هو.. الدكتور الوراق."‏

عند وصول القطار إلى العاصمة، توجه الماوردي إلى كابينة الهاتف وراح يدير قرص الأرقام. بعد ذلك بدقائق، غادر المحطة وهو يطرق بكعب حذائه بلاط الشارع من الناحية الشمالية من المحطة الرئيسية أشبه بالطاووس المنتشي. كانت شوارع العاصمة في مثل الساعة الحادية عشر من الليل الشتوي، شبه فارغة، لأن الناس تحتمي في مثل هذا الوقت، إما في المنازل أو في الحانات أو في الديسكوات. والماوردي يريد أن يقلد هؤلاء في شيء. فثمة أصوات تناديه من داخله، لأن يخرج من جلده القديم ولو قليلاً، ليكتشف ما لم يكن تحت مرمى عدسته. فكثيراً ما كان الماوردي يحدث الناس عن أوروبا قبل أن يرى بلداً واحداً من بلدانها. وعندما يُحشر في سؤال دقيق عن مكان على وجه الدقة، كان يعترف بأنه عرف أوروبا من خلال المؤلفين الغربيين الذين ساهموا بإيصال وتوزيع أوروبا إلى الشرق عن طريق الكتب والمطبوعات والفنون التشكيلية والسينما. ويا ما أحب الماوردي الكثير من تلك الممثلات ذوات النهود والسيقان والعيون التي تمطر عطراً في فراش الخيال.‏

" أنتما معاً"‏

هتف الماوردي بغبطة وهو يرى الدكتور الوراق وفاتح الرملاوي بانتظاره على باب الحانة.‏

"وأخيراً التقينا يا ماوردي تحت أضواء ليل كوبنهاغن". صرخ الوراق وهو يعانق الماوردي بعنف. فيما كان الرملاوي ينتظر دوره بالمصافحة متلهفاً.‏

- لندخل الحانة قبل أن تنكمش أجسادنا من البرد. قال الوراق.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:39 PM
فرد الدكتور الماوردي:"تنكمش أجسادنا، لاضير. ولكن الخوف من انكماش العقل يا صديقي".‏

"أدخلا ولنخلص من كلام الفلاسفة العاطلين عن العمل". قاطعهما الرملاوي وهو يدفع بالاثنين إلى الداخل.‏

كانت الحانة تتفس ضوء الشموع. وقد انتشر الرجال والنساء لاحتلال الطاولات القريبة من خط البوفيه البيضوي. لقد فقد المكان الهدوء دون رجعة. فيما الأرواح كقامات من زجاج يتبخر منها الكحول. أو هكذا تعطيك الأشكال الإنسانية هذا الانطباع. إن روح الثمالة هنا، يمكن أن ترى بوضوح. ولابد من تلمس جمالها لدى البعض أيضاً. فالمرأة التي تجلس كظل لليل حزين أمام رجل استهلك كل أحلامه الطويلة العريضة، تؤدي عملاً خلاقاً لا يمكن إيجاد تفسير له، كما يحدث ذلك بالنسبة لبقية الأعمال. كذلك الرجل المنطفىء، فهو يحاول بناء سور عالٍ لعزلة قد تكون جميلة. فالخمر في البدء، يعيد اختراع النفس. وعندما يكون الاختراع سيئاً وتقليدياً، يتحطم البنيان الوجودي بسرعة. فتفصل الحياة عن المخلوق، ويذهب كل منهما في طريقه.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:39 PM
"ماذا تفضل أن تشرب يا أستاذ؟" سأل الرملاوي وكأنه يوقظ الماوردي من سبات كان قد أخذه.‏

- "أوزو. إنه المشروب الذي استنبت الفلسفة في اثينا". رد الماوردي ضاحكاً.‏

- وماذا عنك يا دكتور؟ موجهاً كلامه للوراق.‏

- نبيذ أحمر. خمر الحكمة والإنعاش البطيء. أليس كذلك يا ماوردي؟‏

- أما أنا فإلى البيرة، كي أتبول الفلسفة والحكمة معاً.‏

قال الرملاوي هذي الكلمات وهو يتوجه نحو صاحبة البار لإحضار المشروبات.‏

"أليس الرملاوي بالرجل الظريف" سأل الوراق الماوردي وهو يقهقه بسبب الكلمات التي أطلقها الماوردي تعليقاً على ما سمعه من الوراق للماوردي.‏

- فعلاً حساس وظريف. لم أكن أتوقع وجوده معك الآن. كانت رؤيته اليوم مفاجأة بالنسبة لي. ولكن متى حصل على الإقامة؟‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:40 PM
- لم يحصل عليها بعد. إنه هجر"الساندهولم" ويقيم معي في الغرفة، يذهب إلى هناك فقط يوم واحد في الأسبوع من أجل تسجيل الحضور وقراءة لائحة أسماء الذين يمنحون الإقامات.‏

-"مؤسف" قال الماوردي وغيمة حزن شفافة بدت على عينيه. وأضاف:"إنه شخصية تؤهل نفسها لكل الأدوار الصعبة. هذا ما أعتقده أنا. ألا تشاطرني الرأي؟"‏

- بالتأكيد. فالرجل مناضل سياسي كابد الكثير من المشاق لدى الأنظمة العربية. ومثقف مفتوح الآفاق. حريته في دمه، ودمه في حريته. ما معنى أن يفقد المرء وطنه للأبد؟!‏

- ها قد جاءت الخمور مترنحة قبل أن تشربنا. الماوردي هاتفاً ومحيياً الرملاوي.‏

جلس الثلاثة وهم يتبادلون الأنخاب. فليس ثمة انتصار لهم إلا على الليل. ولكن لليأس كأساً خاص بين البعض. وفي الكثير من الأحايين يمكن شرب نخب الخيبة أيضاً،. وها نحن الثلاثة ننتصر للا شيء. فهل يمكن أن يتحول اللا شيء إلى انتصار نشربه؟ وعلى من؟!! أهو على الداخل اليباب أم على الخارج المتفحم؟‏

"ما من واضح واضح. وما من غامض غامض في عالمنا الذي مسرحه صموئيل بيكت على نحو رائع. فنحن أيضاً بانتظار"غودوت" وقد يأتي ولا يأتي.‏

-هل اندمجت بالمجتمع الجديد يا ماوردي؟ سأله الوراق وهو يلف الكأس بين راحتي يديه.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:40 PM
-بنسبة 95%. ولم يبق إلا اجتياز عنق الزجاجة!‏

- لم أكن أتوقع أن يثير السؤال فيك كل هذا القدر من السخرية يا ماوردي. ولكني..‏

- يقاطعه الماوردي"الإندماج ليس قراراً إدارياً. والذين يفكرون بهذه الطريقة، يكونون كمن يضع كمين الاتهام أمام الأجنبي، على عدم قدرته على الانسجام مع مياه أكواريوم المجتمع الجديد. ما أقصده بالضبط، أن للاندماج شروطاً وظروفاً لا بد من توفرها. وفي حال انعدامها، تكون الفكرة عبثاً."‏

يتناول كأسه ويرفعها للدكتور الوراق. بعدها يضيف:‏

"أليس كذلك يا رملاوي؟" وهو يتطلع صوبه.‏

- "بالضبط". يرد الرملاوي مضيفاً:‏

- ولكن ما قيمة أن تعيش في عالم لم يكن من تخطيطك. أو لم تشارك في التخطيط لشيْ فيه؟ ألست تبحث عن"ضمانات؟". موجهاً الكلام للماوردي. لا شيء من هذا هنا. فنحن شبه مخلوقات بشرية من عوالم مختلفة أو موبوءة، كما ينظر إلينا الكثيرون.‏

-"ومنهم من ينظر إلينا كنفاية!!" الوراق معقباً.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:40 PM
- هذه نظرة ضيقة. فدول عالم اليوم لا تحتمل الأقفال القديمة. العالم مسرح مفتوح الآن. و الحدود تكاد أن تكون كأضلاع الجسد المحطومة ويأكلها الانهيار بالتتابع. فيما الناس وقد أصبحت كقوافل الغجر، ينتقلون من مكان إلى آخر دون الشعور بعقدة الخوف أو الذنب. إنهم يقتحمون كل البوابات التي كانت محرمة في قديم الزمان. لذلك فالتخطيط للاندماج يجب أن لا يكون حكراً على العقل الدانماركي أو الفرنسي أو الألماني.. بل لأن مشاركة الأجانب ضرورية لتلافي العقد الصعبة وتجاوز المطبات."رد الماوردي.‏

-إنهم وإن اخذوا بهذا الاقتراح، يأتونك بأحد من طواقم المترجمين ليقوم بتنفيذ هذه المهمة العلمية الشاقة!!‏

يضحك الوراق مستهزئاً.‏

- "هذه كارثة يحترق فيها الأخضر واليابس معاً. يتحول فيها شعار الاندماج إلى عملية تذويب".‏

يعلق الرملاوي مؤيداً كلام الدكتور الوراق.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:41 PM
- عملية التذويب لا تخدم الطرفين.- يعلق الماوردي مضيفاً- فالمجتمع الأم في الدانمارك وسواه من البلدان، ومهما يكن غنياً ثقافياً وحضارياً، لا تخدمه فكرة الانغلاق والانعزالية وتذويب شخصية الغير، لتأخذ نفس ملامحه. فالشعوب التي لا تأخذ من بعضها البعض، تبقى شعوباً ثانوية تأخذ طريقها إلى الزوال البطيء. لأن الحضارات الإنسانية تمازج وتلاقح وتفاعل. ولا أعتقد بأن الدانماركي، يكون سعيداً إزاء ما يفعله البعض من الأجانب، بأن تهميش الشخصية والتخلي عن الهوية القومية، سيمنحهم فرصة ذهبية سريعة ورقعة أوسع للتحرك في البلاد. فالذي يرمي بهويته الأم في عرض البحر، يكون سهلاً عليه رمي الهوية الجديدة في قاع أول صندوق للنفايات يصافه في طريقه.‏

-"وهذا ليس تعصباً على الإطلاق" يعلق الرملاوي. فيما ينهض الماوردي مردداً مقطع أغنية قديمة لأم كلثوم وهو في الطريق نحو البوفيه، لحمل مؤنة جديدة من الحطب في الكؤوس. أليست تلك النيران هي الوحيدة التي نتدفأ عليها في ليل كوبنهاغن الأبيض الذي أهلكته شيخوخة الثلج؟‏

ليحرس الرب رأسك يا ماوردي. بحطبه ونيرانه ورماده، وعلى مدار الفصول. فلم تبق من أمنية أخرى بعد هذا الخراب المتألق، والسلام.‏

-هل اندمجتما مع الطاولات الأخرى"يخاطب الماوردي صديقيه، وهو يشير إلى الطاولات التي ينبت عليها الرواد".‏

-"لا أحد يتطلع في وجوهنا يا رجل. والذي يفعل ذلك، فهو ينظر إليك وكأنك محتل." يرد الوراق بشيء من الامتعاض. أنظر إلى ذلك الشاب لقد بصق على الأرض مرتين أثناء ذهابي لجلب الشراب.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:43 PM
-"هذا أيضاً يقمع رغبة التواصل والانفتاح. فهناك الكثير لا يعبّرون عن مشاعرهم الداخلية إلا أثناء السكر." يعلق الرملاوي وهو يأخذ رأسه بين يديه وكأنه ضرب بصاعقة.‏

-"ها نحن نندمج بالمنغصات." اسمعني يا وراق ويا رملاوي، لقد أساء الكثير منا. وهم سيقضون بمثل ارتكاباتهم القذرة وحماقاتهم ضد القانون على حياة الأجانب دون استثناء. سيتم تشويه كل ما هو جميل، أو ما تبقى من الجمال. لن يطول الوقت حتى يتحول الجميع إلى رؤوس نتنة من البصل، لا يطيق أحد رائحتها الكريهة .‏

- كان يمكن للقانون أن يحسم كل هذه المهازل والجنايات.. ولكن!"يمط الرملاوي شفتيه"‏

- يشرح الوراق"ولكن القانون مطاط في هذي البلاد، أهذا ما تقصد؟" ويضيف: أجل. فالكثير منا يستغل مرونة القوانين وغياب العقاب الصارم الذي يحد من ظاهرة السرقة أو عمليات النصب و الاحتيال بشكل حازم.‏

-بالضبط. فالحرية والديمقراطية والقانون الفضفاض، هو الذي يدفع بالنفايات نحو ارتكاب المخالفات ضد القانون والمجتمع. وكم كنت أتمنى أن يفعل هؤلاء مثل هذا الذي يرتكبونه في بلدانهم. لكانت رقابهم داخل الأنشوطة في نهاية المطاف. إن الحرية الزائدة لناس لم يروا غير السوط في حياتهم، تصبح عبئاً وكارثة على المجتمع. وكذلك الديمقراطية، فهي لا تصلح حتى كعلاج لمرضى القمع، ممن اعتادوا على عدم التخلي عنه. وإن شعروا بضرورة التخلي، وسرعان ما تحولوا إلى الضفة الأخرى: أي من المقموع إلى القامع. تحدث الماوردي.‏

- سأل الوراق: " ألا ننتهي من هذا النكد؟"‏

-أجاب الرملاوي "ألست أنت من فتح الباب لريح الكوارث لتجلس بيننا "؟‏

-ربما من الأفضل إذاً أن نغادر المكان. فالوقت يكاد أن يستنزف الليل كلياً. قال الماوردي‏

-رد الرملاوي: وإلى أين يا أستاذ؟‏

-قال الوراق: إلى الشوارع. رحلة البرد والثلج والكآبة.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:44 PM
-كلا. عليَّ أن آخذ باص الفجر، فبراكين معدتي الحقيرة بدأت تتفجر تقرحاً. رد الماوردي وهو يعصر معدته بيديه بعد ارتداء المعطف.‏

-إذن سنوصل الماوردي إلى هناك، ثم نتابع نحو العش.‏

-الرملاوي موضحاً للماوردي: الوراق يسمي غرفته الحقيرة بالعش. يقهقه. ثم يخرج الثلاثة من الحانة، وكل يلف جسده معطف صوفي سميك.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:44 PM
(10)‏

لم يستطع الماوردي أخذ فصل قصير من النوم في باص الليل الأخير. فقد كانت القرحة تزلزل كامل قامته. بينما ملامح آخر الليل كانت في نهاية الشوط. كان يتطلع عبر نافذة الباص عمداً. على الرغم من تعذر الرؤية في مثل هذا الوقت. لم يتواصل مع أية أفكار. فقد كانت استجابته لذلك مقطوعة بسبب تلك الآلام التي اعتاد ابتلاعها منذ سنوات. وكم تمنى أن يرمي بتلك المعدة إلى فم ذئب لم يذق الطعام منذ قرن. ولكنه لم يستطع أن يفعل ذلك بسبب جبنه. أوفي أكثر الأحول. ربما لأنه إطلاقاً، لم يجد مثل ذلك الذئب بعد.‏

"تبرير جميل؟!"‏

عندما نزل الماوردي من الباص، واتجه نحو المنزل، لمحت عيناه أربعة من الأشباح الأقزام وهم يقطعون الشارع باتجاهه.‏

"ما هذا بحق السماء؟ أأنا سكران إلى هذا الحد أم إن العيون لم تعد بعد إلى العمل!"‏

سأل الماوردي نفسه وهو يحتاط للأمر. وعندما لم تبق بينه وبين الأقزام الشبحية إلاّ بضع أقدام، سرعان ما سمع من يحييه: "هاي ماوردي!"‏

أصاب الذهول الماوردي، فأخرج يده اليمنى من جيب المعطف وراح يحك رأسه وكأنه يحاول إخراج قنفذ من دماغه، عل ذلك يساعده على تنظيف نفسه من الخربطة المفاجئة التي حدثت له، تفسير لائق للمشهد الذي يراه وسط الظلام الشفاف. وفجأة صاح بهم الماوردي:"قفوا!". بعدها اقترب منهم وراح يتطلع فيهم عن كثب.‏

- ما الذي أخرجكم من البيت في مثل هذه الساعة يا أولاد؟ سأل الماوردي أبناء جارته الأجنبية.‏

- "نحن في طريقنا إلى المدرسة." أجابت الطفلة الكبيرة. وأضافت: أليست الساعة تقارب السابعة الآن؟‏

-كلا. إنها الخامسة يا أولاد. ومن ألبسكم أكياس الزبالة السوداء هذه؟ سأل الماوردي وهو يحتضن أصغرهم.‏

- إنها ماما.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:45 PM
- سال الماوردي الأخت الكبيرة بدهشة وحنق:"هل فعلت ذلك أمك حقاً. ولماذا؟"‏

-نعم.هي التي فعلت ذلك، كي نقول للمعلمة بأن ليس لدينا ثياب للشتاء. كي تدفع لنا البلدية ثمن ذلك!‏

-وإذا لم تفعل البلدية ذلك؟‏

-سوف لن نذهب للمدرسة بعد ذلك!!‏

اصطحب الماوردي الأطفال إلى بيتهم القريب من منزله. رن الجرس وأعادهم إلى الأم، بعد أن سألها إن كانت تملك في البيت ساعة لتحديد ومعاينة الوقت أم لا. وسلمها ساعته اليدوية بعد سماعه الجواب بالنفي، وأقفل عائداً باتجاه بيته.‏

"يا للعنة. لقد طارت السكرة من الرأس. يا لقذارة بنت العاهرة. تستخدم الأطفال للشحاذة!"‏

هكذا كان رأس الماوردي يغلي بالغثيان من جراء هذه الطريقة الرخيصة للابتزاز. وكان على وشك الدخول إلى الفراش. لكنه لم يحس بالقدرة على ذلك، فتوجه إلى المطبخ من أجل إعداد فنجان من القهوة. أحضرها، وقام بإشعال غليونه وتناول القهوة ممدداً قدميه على الطاولة.‏

وبدأت أفلام الأجانب عرضها في الذاكرة بسرعة البرق. ولم يستطع الماوردي إيقاف الفضائح التي انهالت عليه دفعة واحدة. لمَ إيقاف هذه العروض، إذا كانت مجال فخر مرتكبيها في عالم يسمى اليوم بعالم"الشطاره."؟ هل يستطيع الماوردي أن يمنع واحداً من هؤلاء عن التفاخر بواقعة فعلها، ولا يخجل من ارتكابها والتحدث عنها كعمل بطولي؟‏

تذكر الماوردي ذلك اليوم الذي رأى فيه شخصاً تتجمهر حوله شلة من الأجانب في إحدى المقاهي، وهو يقص عليهم بطولته عن الكيفية التي استطاع بواسطتها لطش 170 ألف كرونه في ليلة واحدة، عندما ذهب للمقامرة بلعبة الروليت في فندق الـ"sas" مغطياً شراء الفيشات بشيكات مصرفية من دون رصيد.‏

وتذكر الإفريقي الذي كوّن شركةً وهمية للاستيراد والتصدير بواسطة زوجته الدانماركية المخدوعة، ليطير بعدها هارباً من عش الزوجة والبلاد بأكثر من مليونين من الكرونات. وللمثال هناك شخوص كثيرة يعرفها الماوردي وسواه. إما الظريف في عمليات النصب والاحتيال، فهي في صورة ذلك الشخص الذي زور شهادة وفاة لشخصه، وجاء ليقبض بوليصة التأمين على حياته من إحدى الشركات بنفسه!!‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:45 PM
قذف الماوردي بللور النافذة بفنجان القهوة، واستلقى على أغطية السرير، وكأنه يحاول منع تدفق شريط المشاهد القذرة في ذاكرته.‏

"وما أدراك أن تصبح واحداً من هؤلاء يا ماوردي؟"‏

ضحك. عندما حاول أن يخلع الحذاء من قدمه اليسرى ولم يستطع. فسقط في النوم دون أن يحقق حتى هذه الرغبة: أن ينام دون ثقل الهموم والأحذية!‏

تذكر الماوردي أنه نائم الآن. قال:‏

"سأسحب اللحاف ببطء من تحت جسدي دون أن أثير لديه الشك بأنني لم أنم حتى هذا الوقت. لست أنتَ الوحيد الذي يفعل ذلك. فهناك الكثيرون الذين يخشون من ضباط النوم في الليل أو أثناء القيلولة. ولكنك يا ماوردي ما تزال تفكر بكيف تنام حتى وأنتَ نائم. ماذا أصابك؟ هل أنت من سلالة المخلوقات الزجاجية التي تكشف عن كل ما في داخلها دفعة واحدة؟ أم أنت من نسل أولئك الذين يوزعون نعاسهم على النصوص، ويقفلون عائدين إلى ذواتهم بثياب الأحلام التي لم يصبها التلوث والتلف بعد؟؟ حتى لو لم تكن كذلك، أقنع نفسك بهذا الدور المسرحي. فلا شيء صعب في هذا. وليس من قانون يعاقبك فيما لو قمت بعمل شيء من هذا القبيل."‏

"كلا. نم أيها الوغد. وأحلم وأنت نائم. لا تنهض على الرغم من وجود النهار الذي يأكل الأرض بحوافره السميكة. اعترف للمرة الأخيرة بأنك بريء من النهار ومشتقاته المؤلمة والكئيبة. وبأن كل ممتلكاتك هي من صنع الليل الذي لم تر فيه شخصاً له أنف أشبه بعود الثقاب، وعينان أشبه بالفطر. أنتَ نائم الآن، فلماذا تحاول تعكير مزاج الحواس الأخرى؟"‏

"بعد ساعات تستفيق، ويكون بإمكانك عدم ترتيب الأغطية أو كي الثياب ولا تنظيم الأفكار من جديد. كذلك، فسوف لا تبذل جهداً لارتداء الحذاء، لأنه ما يزال في قدميك منذ الليلة الماضية. وكل هذا توفير لك في الحياة المعاصرة.. يا ماوردي!!"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:46 PM
-أين ذهبوا؟‏

-من؟‏

-أولئك الذين في ذهنك. هل ستعمل معهم؟‏

-لقد ذهبوا إلى بيوتهم لإستفراغ الإفرازات البطولية.‏

-وأنت؟‏

-من الصعب عليّ تكهن ما يحدث بعد إنجاز مرحلة النوم المكلف بها الآن.‏

-أيعني أنك لم تأخذ قسطاً من النوم، لتبتعد بنا عن هذا التحقيق؟‏

-لن تروا شيئاً. فالنعاس مثل بحيرات تنصت لقراءة الأحلام

كديميس
08 Mar 2006, 08:46 PM
‏ أيها البطل الروائي الفاسد.‏

تسأل عن نفسك وتنام، فيخرج عليك الديناصور في الحلم، ليقتات عظامك وما تبقى من تلك الروح القديمة.‏

حيث الفراغ المُفترس والحنين المهووس وقتلى الذكريات.‏

" كأن لا مكان لك في الجغرافية." تسأل.‏

" كأن لا معنى لك في التاريخ" تجيب المخالب.‏

-ألمْ ترَ الطمي يملأ العين؟‏

-كنت أسمي ذلك اغتراباً. فالعين قماش العقل.‏

-وعندما يتسخ..؟‏

-يرتطم الظلام في العين كصخرة عملاقة سوداء.‏

-إن لك غطرسة المُبدع.‏

-وهي أشبه بالجرم المُخل بالشرف أمام السلطة العربية. أليس كذلك؟‏

في تلك اللحظة، أحس بالشارع يميد تحت قدميه أشبه بسجادة تكاد تخلع العاصفة مساميرها. وكان يهرول دون تعثر، على الرغم من أن الليل اكتسح المدينة كالصحراء.‏

"المنفى هو آخر الكنوز" تلك هي العبارة اليومية التي يتنفسها، وهو في ممرات النوم الضيقة.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:47 PM
(11)‏

أخذ الماوردي مقعده في الباص كعادته اليومية. نفس المقعد ذاته. قبل الأخير إلى جانب الشباك. فقد ألفه طيلة عامين وأصبح وكأنه ملكاً شخصياً له في هذا الباص، مع بقية الأشخاص الذين بات الماوردي يعرفهم جميعاً، ويعلم أين يهبط كل منهم وفي أي موقف. وبكل تأكيد، مثلما ركاب هذا الخط أيضاً.. ممن باتوا يعرفون الماوردي، وأحياناً يهمسون له بكلمة:"هاي" تعبيراً ودلالة على حسن موقفهم منه. لكن حظ الماوردي هذه الجمعة كان على غير العادة. فهو لم يتلق كلمة"هاي" وحدها، وإنما:"كيف الحال أيضاً."!‏

كان الباص قد تحرك تواً من المحطة. ومعه تحركت شفاه الفتاة التي أخذت مكانها إلى جانبه في المقعد، فاتحة الكلام بالحديث عن الطقس. أهو الربيع الذي حركها؟ أم أن الكلام للاستهلاك العام؟ البشر في الدانمارك ملك الطقس. وهو ما يدفعنا لقبول هذه اللغة في المقدمة، وقبل أي شيء آخر في حياة هذه البلاد. فقسوة مكياج السماء الرمادي والثلج، هما ما يأكلان الروح ويسعيان لتدمير المزاج ونشر الكآبة في الأعماق السحيقة للكائن البشري.‏

-اسمي"مورغ نلسن" وأنا أسكن قريباً من منزلك.‏

"وأنا الماوردي". أجابها مضيفاً:‏

"الربيع هنا خرقة لا تستطيع مسح أو امتصاص ما يخلفه الشتاء في بلادكم. والصيف هو الآخر، كثيراً ما يعجز عن تجفيفها. لأنه صيف خجول في الغالب." هكذا أجابها الماوردي متمنياً أن ترى الدانمارك صيفاً حقيقياً.‏

"وهذا ما نحلم به". قالت له الفتاة وهي تدعوه لتناول القهوة في منزلها. لكن الماوردي أصر على أن تفعل هي ذلك وتتناول القهوة عنده. فابتسمت قائلة:‏

"إذا كان إصرارك هذا سيسعدك، فلا مانع من ذلك." وهبط الاثنان من الحافلة في الموقف القريب من الشارع الذي يقطنان فيه. كانت الزهور تسحر العين على امتداد الطريق، فيما كانت الأشجار تمتص أشعة هذا اليوم المشمس بنهم.‏

دخلا المنزل.. فألقى الماوردي بحقيبته اليدوية على السرير، فيما وضع كيس البضائع في ركن من الممر. مرحباً بمورغ وهو يشير إلى الصوفا الزرقاء المركونة في صدارة الغرفة، لتجلس. فيما بدت غرفة الماوردي في أحسن حال من الفوضى. الكتب والمجلات وأشرطة التسجيل والسراويل والقمصان المبعثرة على السرير والمقاعد:"أرجو المعذرة من الفوضى". قالها الماوردي وهو يلم الأشياء في محاولة لترتيب الغرفة.‏

"لا عليك. هذا هو نظام العزاب". ألست وحيداً هنا؟ سألته مورغ وهي تلصق نظرها على صورة لفتاة كانت تأخذ مكانها على الجدار.‏

-نعم. سأذهب لإعداد القهوة الآن.‏

-هل تريد مساعدة؟‏

-شكراً. لطف منك أن أسمع هذا أيتها الضيفة.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:48 PM
أرجعت مورغ رأسها إلى الوراء ومدت يديها على ظهر الصوفا، وراحت تدقق في محتويات الغرفة متفحصة الصور المعلقة والفازات والتماثيل الصغيرة والأواني الخزفية التي تحمل بعض الرسوم. فيما بدأت الشمس تنعكس بأشعتها على لوح البللور للنافذة التي تطل على الحديقة.‏

عاد الماوردي وهو يحمل صينية عليها إبريق القهوة وثلاثة فناجين مع السكر والقشطة. فبادرته مورغ بالقول:‏

-ثلاثة فناجين!‏

-قد يأتي ضيف آخر. فلا نكلف نفسنا عناء السفر إلى المطبخ. الماوردي ضاحكاً. وهي تشاركه الضحك أيضاً.‏

-قل لي. أليست تلك اللوحة لسلفادور دالي؟‏

-نعم. هي كذلك. هل سبق وأن تعرفت إلى أعماله؟‏

-أجل. لقد سبق أن رأيت له الكثير من أعماله الحقيقية هنا. عندما عرضت في أحد متاحف الدانمارك. شيء ساحر. قالت له ذلك بإعجاب ودهشة.‏

-على الرغم من إن عالمنا سوريالي في تفاصيله الدقيقة، إلا أنه ليس بروعة عالم دالي السوريالي. عالمنا تحكمه الرداءة والقبح، فيما تحكم عالمه المخيلة الجمالية.‏

-وهل تشعر بأن قباحات تغلف عالمنا؟ تشرب رشفة من القهوة.‏

-عالمنا ليس قبيحاً بالتأكيد، ولكنهم يعملون على مسخه.‏

-ومن هؤلاء..؟‏

-بالتأكيد ليسوا الملائكة. يضحك وهو يحاول إشعال الغليون.‏

-من أين أنت يا ماوردي؟ عذراً لهذا السؤال... يقاطعها الماوردي كمن يحاول التوكيد على ضرورة التوضيح، كمفتاح للحوار.‏

-من الشرق."يقولها وهو يشعر بنفسه كطاووس".‏

-وهل يعني هذا بأنك مسلم؟‏

-نعم. ولكن ليس من الضروري أن يكون الشرقي مسلماً. فالشرق مهبط كل ديانات الأرض. اليهودية والمسيحية والإسلامية وإلى ما هنالك من الديانات البوذية وغيرها. هل تعرفين شيئاً عن الإسلام غير ما هو مشاع عنه في الغرب: عدم تناول لحم الخنزير والخمور وارتداء الحجاب وتعدد الزوجات، والإرهاب مؤخراً؟!‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:48 PM
يسأل الماوردي، وهو يفيض شوقاً للاستماع إلى جواب هذا الطائر الجديد"مورغ".‏

-إنك تحاول القفز إلى الجوهر فوراً. تبتسم بشيء من الإعجاب على صراحة الماوردي. وتقول:‏

-قد أكون مع الخيارات الشخصية الخاصة بالأكل والشراب والعبادة والملبس. ولكن إذا كان ذلك قد حدث في القدم، فلماذا التواصل معه راهناً؟‏

-المسلم لدينا بقدر ما يؤمن. والإيمان لدينا درجات. ولكنني أحس بأن كل فرد له الحق بأن يبني علاقته مع الرب بطريقته الخاصة. لدينا متصوفة وعلمانيون وملحدون أيضاً. لذلك فعادات البشر، كالامتناع عن تناول لحم الخنزير أو عدم شرب الخمور أو ارتداء الحجاب، ليست هي من جوهر الإسلام من شيء. فالكثير منا يأكل لحم الخنزير ويشرب الخمر ولا يرتدي أغطية الرأس.‏

-هل تأكل أنت لحم الخنزير؟‏

-أنا لا أتناول إلا لحوم الحيوانات الذكية. الطيور مثلاً."لماذا هذا الكذب يا ماوردي. ألم تأكل لحم الخنزير مرات عديدة، وتشرب الخمور بكل أنواعها أيها الوغد؟".‏

-إنها إجابة ذكية للهروب من القفص.‏

-ليس هروباً هذا الذي تسميه. وإذا لم تعجبك هذه الإجابة، فلنقل بأننا لا نأكل الخنزير رأفة بهذا الحيوان الذي قد لا يستحق أن يتحول إلى نفاية في المصارين. هل تقنعك هذه الإجابة؟‏

الماوردي يضحك مضيفاً:‏

-لماذا تريدون منا أن نأكل الخنزير وكأنكم تعلنون الحرب ضد هذا الحيوان. إذا كانت لديكم فكرة للانتقام، فعليكم أخذ الثأر من الخراف، لأن السيد المسيح ولد في حظيرة للأغنام، وساهم بتربيتها ورعيها دون الخنزير. لذلك يجب أن نتحدث عن العادة لدى كل شعب من الشعوب. فنحن لو أكلنا لحوم الأبقار في الهند، لكنا بنظر الهندوس ليس أكثر من جزارين وقتلة. فأولئك ليس بوسعهم رؤيتنا ونحن نقوم بتحويل آلهتهم إلى"بوف" أو بفتيك وشرائح للقلي. وأضاف‏

-كذلك الأمر بالنسبة للأوروبي الذي يهتم بالكلاب. هل تسعده رؤية أكلة لحوم الكلاب في شرق آسيا الأقصى؟‏

-أنتَ تجد تبريراً لكل شيء. وتتفه قيمة الموضوعات التي ربما هي في ذهنك بقيمة الصفر. أسألك عن الحجاب وأغطية الرأس؟‏

-إنه موديل أو موضة. لماذا لا تعتبرونه كذلك؟ ألا تؤمنون بالحرية الشخصية؟ ثم ليست كل مسلمة تفعل ذلك. هناك الملايين من النساء لا يستخدمن هذا الغطاء على الرغم من أنه قد يقي الشعر من التقصف والغبار والتأثيرات الجانبية لحرارة الشمس.‏

تغرق مورغ بالضحك وهي تستمع لوجهات نظر الماوردي. وتسأله:"والتعددية في الزواج؟".‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:49 PM
-من كثرة حبنا للنساء يا مورغ0يضحك- وكذلك من أجل زيادة وتحسين النسل. ولمنع حدوث الزنى أو البغاء أيضاً. أقول لك لقد كان يحدث ذلك سابقاً، أي قبل بلوغ المدينة عالمنا. وقبل أن تنال المرأة بعض حقوقها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية في أكثر من مكان.‏

أسألك يا مورغ:‏

-كم امرأة يتزوج الرجل في بلادكم؟ أولم يضرب رقماً قياسياً في تعدد الزوجات، ولكن مع بعض الاختلافات الطفيفة-يتزوج دون أوراق. وينجب دون أوراق. ويطلق أو ينفصل دون أوراق. أو يعيش الزواج ضمن أوراق. أليس هذا صحيحاً؟‏

-أجل. وهو ما لم يكن يحدث قبل خمسين سنة أو أكثر في بلادنا. فقد كان مجتمعاً فلاحياً محافظاً له تقاليده.‏

-والآن؟ أليس محزناً هذا التفليش المنظم للعائلة: الطلاق والانفصال والزواج والحب الذي يأتي ويختفي بسرعة البرق؟ مع الأسف، إن ذلك سيترك تعقيدات كبيرة على مستقبل الأجيال هنا. هل تعرفين كيف يحب الشرقي لدينا؟ كان المرء يخوض معارك طاحنة من أجل الحصول على المرأة التي يحب. أقصد"معارك القبائل". الحب كما أعتقد يستحق مثل هذه التضحيات. فيما هنا، يستطيع المرء الحصول على امرأة بواسطة التلفون!!‏

يمتقع وجه مورغ حنقاً من شيء ما قد تكون تذكرته هي الآن، فيأخذها الصمت, إلا أن الماوردي يحاول تغيير مجرى الحديث نحو ضفة أخرى. فيرجوها بقوله:‏

"دعينا من أجدادي وأجدادك الآن. ماذا تعملين هذه الأيام؟".‏

تسحب نفساً عميقاً من سيكارتها وترد دون الشعور برغبة"موظفة في المكتبة".‏

-عمل جميل. أليس كذلك؟ ولكن حذار من العمل تحت رفوف الكتب العالية، كي لا يحدث لك ما حدث للجاحظ.‏

-ومن الجاحظ. وماذا حدث له؟‏

-من كبار كتّاب الأدب العرب في العصر العباسي. وقعت عليه رفوف مكتبته، فقتلته الكتب‏

-وهل تتمنى أن يحدث لي ما حدث لكاتبكم؟ ضاحكة.‏

-كلا. ولكنني تذكرت تلك الواقعة فقط. فقد تقتلنا القراءة اليوم وليس وزن الكتب.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:50 PM
تنهض مورغ لتشكر الماوردي على القهوة والحديث، وتهم بالذهاب بعد أن تتناول حقيبتها اليدوية مذكرة إياه بأنه سيكون ضيفها في المرة القادمة. فيشكرها الماوردي على أن يقوم بتحديد الموعد فيما بعد. وقبل أن تضع قدميها خارج باب المنزل، تطلعت مورغ بوجه الماوردي قائلة له:‏

-ألا تعتقد بأن مقتل الجاحظ كان بفعل عمل إرهابي؟‏

أخذت الدهشة الماوردي قليلاً وهو يحدق بعينيها اللامعتين وأجابها:‏

-ليست عيناك جميلتان وحسب، وإنما تشعان بالذكاء. سنناقش موضوع الإرهاب في المرة القادمة.‏

-هل من مانع يحول دون تسجيل رقم هاتفك؟ سألت مورغ.‏

-كلا. تفضلي. يناولها ورقة كتب عليها ذلك. فيما هي تناوله كارتاً أبيض عليه رقم الهاتف والعنوان.‏

تقترب منه مورغ وتقبله أثناء توديعها له قائلة:‏

"لا تنس ذلك يا ماوردي. المرة القادمة عندي."‏

"لا. أبداً.." فيبتسم وهو يصافحها مودعاً.‏

عاد الماوردي إلى الداخل وأقفل الباب. ثم سرعان ما سحبته قدماه إلى المرآة المعلقة في الحائط، حيث راح يتطلع في وجهه وهو يتحسس مكان القبلة التي طبعتها مورغ على خده الأيسر. بعدها أشعل غليونه واستلقى على الصوفا..‏

"هل كان عليك أن تدخل في هذا النقاش معها يا ماوردي. النساء لا يحبذن الفلسفة والسياسة والكلام الفارغ الذي أدليت بدلوك فيه. كان يمكن أن تتحدث عن الربيع والصيف القادم والسباحة والأزياء وأنواع النبيذ وربما الحب." هكذا حدث الماوردي نفسه، وكأنه يقوم بحملة تأديبية لتأنيب الذات على ما فعل.‏

"ومن يقول لك أنها من صنف النساء اللواتي يفضلن الكلام عن الأشياء التافهة؟"‏

أجاب نفسه وكأنه متأكد من سوية فكر المرأة وقوى عقلها الثقافية.‏

"ربما طارت من عش الصداقة التي تطمح فيها يا ماوردي" ردّ بشيء من الانكسار. إلا أنه سرعان ما ردّ على ذلك قائلاً:‏

"وليكن ذلك. فليذهبن إلى الجحيم. لكن لن يطول الانتظار، فالنساء مثل الطيور تحلق وتحط على الدوام. فهن لا يخالفن قانون الجاذبية. ونحن على الأرض يا ماوردي، لا على كوكب آخر".‏

-"لا تجازف يا ماوردي!!"‏

-"بمَ. بالخنزير أم بالزوجات الأربع أم بالخمور التي لم تعد تحتسي منها غير النبيذ الرخيص؟!!".‏

-"كلا أيها الغبي. بسعة التفكير أمام النساء."‏

-"وهل اخترعت صواعق تفجير جديدة."‏

-"كلا. ولكن تفجير النساء يتم بطرق ما زلت تجهلها أيها الأبله."‏

-"بعد كل تلك النساء، وما زلت أعمى!!"‏

-"أجل. كل شيء يبدأ من النساء. ألم تقرأ ما قاله البيرتو مورافيا من أن الجنس هو محرك العالم."‏

-اللعنة.. نم أيها الشيطان الخرافي. فتكاد أن تختفي الظلال الأخيرة من قنينة النبيذ.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:50 PM
(12)‏

عندما وصل الماوردي إلى قاعة الاحتفال متأخراً، لم ير أحداً من الأصدقاء خارجاً. إلا أن الوراق :كان بانتظاره في الداخل. فقد حجز هو والرملاوي طاولة وسط القاعة الكبيرة، حيث الخطابات تفوح أكثر من رائحة الأطعمة والمشروبات ودخان السكائر والضجيج العالي للثرثرات.‏

وما أن دخل الماوردي القاعة، حتى لمح قامة الوراق، فنهض مسرعاً ليصطحبه إلى الطاولة. وهناك تعانق والرملاوي، ثم صافحه ثلاثة أشخاص كانوا يجلسون إلى الطاولة.‏

جلس الماوردي وهو يتأمل ناس الجالية على تلك الأضواء الباهتة. فهمس الوراق في أذنه قائلاً:‏

"فاتتك الخطابات. أم أنك قصدت التأخر عمداً؟"‏

"كلا. ولكن روح الاستعداد للحفل لم تكتمل إلا في اللحظات الأخيرة." ردّ الماوردي وهو يوجه كلامه إلى الرملاوي: أليس كذلك يا صديقي؟‏

-وماذا تراني. أأنا في نفسك يا رجل؟ قال الرملاوي.‏

-كلام الأستاذ سليم. فأنت تقرأ الأشياء الغامضة يا سيد رملاوي. أجاب أحد الثلاثة مازحاً.‏

-رد الرملاوي عليه معلقاً: وهل أنا الذي كشف عن برامجك في تهريبك للسيارات إلى خارج الحدود؟ قالها الرملاوي وهو يصطنع الدعابة.‏

-كلا. أجابه الشخص مضيفاً: ولكن السوق مليئة بالخبثاء الذين يفعلون ذلك بقصد. كي يقطعوا رزقنا!‏

فأنا أعرف شخصاً نذلاً، كان قد أخبر السلطات عن أكثر من مشروع تهريب.‏

-وما الفائدة من ذلك؟ سأل الماوردي المغفّل.‏

-وهل تريد منا أن نقدم لك تقريراً عن ذلك.لا قالها أحدهم ساخراً".‏

-كلا. الأمر ليس مهماً بالنسبة لي. عدا جانب المغامرة فقط. قال الماوردي.‏

-بكلمات مختصرة. نحن نذهب بالسيارات إلى خارج الحدود، والأخوان يقبضون آلاف الكرونات من شركات التأمين. أفهمت يا أستاذ؟؟‏

-"إنه عمل شاق" أجاب أحد الثلاثة مفسراً ومعقباً.‏

-لكن ألا تخشون من القانون؟ سأل الماوردي وهو يشعر بالغثيان.‏

-القانون!! إنه مثل الفندق نستطيع الدخول إليه بواسطة بطاقة رسمية واحدة. وعندما نكون داخله، نتمكن من إدخال الأشخاص الذين نريد إلى الغرف الأخرى. قال الثالث متفاخرأً.‏

-إنها فلسفة طيبة للنصب والاحتيال. يعلق الوراق.‏

-كلا يا دكتور. ليس هذا احتيالاً. بل شطارة وتجارة. يرد أحد الثلاثة على الوراق.‏

-إن شطارتكم تكاد تخرب البلد. فأنتم تقبضون، فيما يدفع الآخرون ثمن جناياتكم. ولو كانت القوانين حارة حرارة الحديد لما فعلتم ذلك ببرودة أعصاب. الرملاوي موجهاً الكلام للجميع.‏

-لا تتعب نفسك بالتفكير يا أستاذ. فسيأتي الوقت الذي نكون فيه أقوى من القانون!‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:51 PM
وقبل أن ينتهي من كلامه، تعالت أصوات شجار بين طاولتين وبدأت معركة بقناني المشروبات. فقد سخن وطيس الروح العدوانية بين سبعة أو ثمانية أشخاص كانوا قبل قليل يتبادلون الأنخاب فيما بينهم.‏

"إنهم يحاولون حسم الحوار فيما بينهم. فلم يجدوا غير هذه الطريقة الفضلى!" علق الوراق وهو يشير بإصبعه إلى الماوردي والرملاوي بالنهوض لمغادرة القاعة التي اختلط الحابل والنابل فيها. لم يكف أحد عن الصراخ وإلقاء الشتائم والبذاءات. كما أن حدّة تطاير القناني هي الأخرى لم تخف. عدا عن ذلك فقد بدأت الدماء تسيل من وجوه البعض في مثل هذه السهرة الاحتفالية. كل ذلك حدث بسبب السياسة.‏

"إنهم يناقشون الأمور على طريقة البهائم؟" الماوردي في نفسه ممتعضاً.‏

"هذه هي الديمقراطية الفاخرة التي تعلموها من هذه البلاد". قال الماوردي ساخراً، وهو يغادر القاعة بمعية الوراق والرملاوي.‏

"النزعة الديكتاتورية إرثنا الوحيد. وتريدنا أن نتخلى عنها ببساطة!!" علق الوراق ساخراً.‏

" لا نريد الافتراض بإمكانية تشربنا بالديمقراطية دفعة واحدة. ولكن لماذا لا نتعلم شيئاً من ذلك في هذه البلاد؟" يعلق الرملاوي بأسف.‏

رد الماوردي:"الكتب لا تعلم أحداً الديمقراطية. فالناس هنا يتشربونها بالرضاعة منذ الصغر."‏

"هذا صحيح. وتلزم كلاً منا عملية جراحية لاستئصال الورم العدواني في الدماغ" الوراق معقباً.‏

"بل الأرخص كلفة والأسرع تنفيذاً، أن تضع كل شخص من هذا الطراز، في الكيس الأسود الخاص بالزبالة، وتربطه بإحكام لتقذف به في بحر الشمال. فلا حاجة للمجتمعات المتحضرة بنفايات كهذه". يقولها الرملاوي وهو يكز على أسنانه من القرف.‏

"ومن يدفع ثمن الأكياس يا عم؟" يسأل الوراق ضاحكاً.‏

"البلديات." يرد الرملاوي مضيفاً: "أو تستقطع التكلفة من أرصدة هؤلاء في البنوك، على الرغم أنهم لا يضعون في البنوك كل ما يدخرون. فالتحويلات إلى الخارج جارية على قدم وساق."‏

"في هذا شيء من التهويل". الماوردي مخاطباً الرملاوي.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:51 PM
يرد الأخير بثقة وتحد"لو أملك تفويضاً رسمياً، لكنت وضعت قائمة طويلة عريضة باستثمارات وعقارات هؤلاء النصابين وغيرهم في الخارج."‏

"قد يحق لكل فرد تأمين المستقبل له ولأطفاله في بلده. ما المانع من ذلك؟" يسأل الماوردي.‏

"المانع. أن لا يتحول الأجنبي إلى شحاذ على أبواب البلديات ومديرية شؤون اللاجئين. المانع أن لا يحتال على البنوك وشركات التأمين. أتعرف كم حادثة سطو وحريق للمحلات والمطاعم التي يملكها الأجانب هنا؟ إنها بالمئات سنوياً. ولا تتم هذه العمليات بفعل الغير، بل أغلبهم يضرم النار في ما يملك من محل أو سيارة أو بيت، بعد تفريغه من محتوياته الثمينة، ليطالب بعدها شركة التأمين المسجل فيها بالتعويضات. الأمر الذي دفع بشركات التأمين إلى رفض التعويضات التي قد يستحقها البعض ممن قد يحدث لهم سطو أو حريق أو حادث جدي غير مزيف!".‏

"وهل سنقص كل مصائبنا في الشارع. لقد تعبت قدماي من المشي." سألهم الماوردي مضيفاً:‏

"هل نختار لنا حانة، لنسهر ليلتنا فيها؟"‏

"لنجرب الديسكو يا شباب. فهي المرة الأولى التي سيدخل فيها الرملاوي هذا المكان الذي قيل فيه الكثير والكثير." يدعو الرملاوي ويكمل:‏

"ما رأي الأستاذ الماوردي في هذه الفكرة؟".‏

الماوردي:"لا مانع من ذلك إذا كانت هذه رغبتك. فليكن.."‏

"هل تعرف مكاناً محدداً؟" يستطرد الماوردي وهو يخاطب الوراق.‏

-"اجل. دعوني أستعمل الهاتف قليلاً."‏

يدخل الكابينة ويدير القرص، فيما الماوردي والرملاوي ينتظران على الرصيف القريب. بعد دقائق، ينتهي الوراق من الهاتف، وينطلق الثلاثة وسط الليل بظلمته الشفافة. فالبلد في أوائل حزيران وهي مقبلة على الصيف على الرغم من البرودة الخفيفة في المساء‏

"سنلتقي بصديقتي مارينا على باب الديسكو." قال الوراق مبتسماً.‏

"وهل هي دانماركية يا دكتور؟" الماوردي سائلاً.‏

"أجل. وهل لديك اعتراض؟" يضحك الوراق بصوت عالٍ محاولاً إثارة الماوردي.‏

"أعوذ بالله يا رجل. أجلستموني مع عصابة تهريب السيارات في الحفلة المشؤومة، ولم أعترض. فكيف لي أن أفعل ذلك مع صديقتك!" قالها الماوردي، وكأنه يوجه لهما اللوم على فكرة الانضمام إلى الأشخاص الثلاثة في القاعة.‏

قال الوراق"بإمكانك سؤال الرملاوي" مشيراً له بإصبعه.‏

ردّ الرملاوي"أتريد حقاً أن تعرف كيف تمت معرفتي بهم؟" موجهاً الكلام للماوردي.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:52 PM
"لا أقصد. ولكن.." قبل أن تكمل يا ماوردي إليك الحكاية:‏

"قبل عامين تعرضت إلى اعتداء من قبل أربعة من الشباب العنصريين فيما كنت بانتظار الباص في أحد المواقف في مدينة"هلسنغور". كان الوقت ليلاً. ولم اكن آنذاك متقناً للغة، ولم أضع في الحسبان بأنني سأقع في يوم ما بمثل ذلك الموقف الصعب. فقد أمطرني الأربعة ضرباً بشكل مفاجىء. وكاد أحدهم أن يغرس سكيناً في عنقي. آنذاك حضر الثلاثة، وكأنهم سقطوا على المكان من السماء، هكذا فجأة. لم يكن ثمة أحد ينتظر الباص في مثل الوقت من تلك الليلة. وعندما اقترب الثلاثة وقد رأوا الدماء تسيل من وجهي، بدأوا معركتهم مع العنصريين فوراً، وقبل أن يعرفوا هويتي أو من أنا حتى. بعدها لاذ الأربعة بالفرار مختفين في أحد الشوارع الفرعية. فيما نقلني الثلاثة إلى المستشفى لإجراء العلاج، وعدم التقدم لدائرة البوليس بشكوى، لأنها ستسجل ضد مجهولين كالعادة!‏

بعد التداوي في المستشفى، لم يدعني الثلاثة وحيداً، بل أصروا على أن أكون ضيفهم حتى اليوم التالي. وفي تلك الليلة، عرفت الكثير عن"كدعنة أولئك الذين ولدوا في خنادق الحروب النظامية منها والأهلية. لتتوزعهم خنادق المنافي فيما بعد".‏

وأضاف الرملاوي مخاطباً الماوردي:‏

"هكذا تمت المعرفة يا أستاذ!!". ولولا هؤلاء، ربما كنت الآن طعاماً سخيفاً لأسماك بحر الشمال.‏

أطل الثلاثة على مكان الديسكو، ورأى الوراق مارينا واقفة بالانتظار، حيث وصلت قبل ثوان. كانت ترتدي تنورة رمادية طويلة مع جاكيت من القطن الأزرق، وكانت تحمل حقيبة من القماش. أخذها الوراق بحضنه ليقبلا بعضهما البعض، وبعد أن انتهيا من المراسيم الغرامية الواجب إتباعها مع بنات البلد بروتوكولياً، قدمها إلى الماوردي والوراق للتعارف.‏

"يبدو الاستعداد للرقص واضحاً لدى الجميع" قالت مارينا ذلك لمداعبة الثلاثة.‏

"بل عليك القول بأننا نقتحم هذا المكان من باب التعويض عن سهرة ضائعة ليس إلا."‏

ردّ عليها الماوردي في محاولة منه لتنفيس الحماس.‏

" سنكون في الديسكو أشبه بالجنرالات المحالين على التقاعد. لا واجب لديهم سوى المراقبة وإعادة شريط الذكريات القديمة." علق الرملاوي وهو يدفع الماوردي لاقتحام الباب. مضيفاً:‏

"لا تشعر بالخجل. فالشيخوخة لم تنل من براغينا بعد."‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:52 PM
لم يكن صخب الموسيقا ولا الغناء ليتوافق مع مزاج الماوردي منذ اللحظات الأولى. إلا أنه كان مضطراً للمسايرة وإن على مضض. فقد كان طقس الديسكو حاراً. والرائحة خليطاً من عدة روائح. أما الوجوه فهي تتوزع ما بين جنسيات مختلفة: دانماركيون وعرب وهنود وأفارقة وصينيون وأوروبيون، ومن أعمار تتراوح بين 16-25 سنة على الغالب، ومن كلا الجنسين. جلس الماوردي والرملاوي إلى طاولة كانت في الركن. فيما اصطحب الوراق صديقته للرقص؟‏

"هل راق لك الجو؟" سال الماوردي الرملاوي وكأنه يلومه على اقتراحه.‏

"لم تستكمل الصورة بعد يا صديقي. وعلينا التمتع بحركات الراقصين قبل أن نقوم إلى حلبة الرقص يا سيدي الماوردي!"‏

"الرقص. هل جننت يا رجل؟! ومع من سنرقص يا ترى؟ أنا وأنت؟" يرد الماوردي عليه وهو يتفحص فتاة رائعة الجمال.‏

"لتكن جاهزاً نفسياً. فبعد فليل سنختار فتاتين للرقص." يرفع كأسه للوراق الذي يراقص صاحبته. ثم يلتفت إلى الماوردي قائلاً:‏

"هل تخجل من الرقص يا أستاذ؟" بعد ساعات ستضرب الخمور الرؤوس، ولن يتمكن أحد من معرفة أحد في الديسكو من هول الثمالة. وبذلك نستطيع الرقص مع من نريد.‏

رد الماوردي:"هذا ما لا أستطيع فعله. إنها تسمى نذالة في علوم اللغة."‏

" الجميع يفعل ذلك هنا." يرد الرملاوي كمن يثأر من تفكير الماوردي.‏

"ولكنني لا أفعل ذلك." يقولها وهو يخلع سترته ليعلقها على كتف المقعد الذي يجلس عليه.‏

"أنت حر يا سيد. أن تفعل ذلك أو لا تفعله. أما أنا فسأرقص رقصة زوربا." أتتذكر الفيلم؟‏

يعود الوراق وصديقته إليهما بعد رحلة الرقص الشاقة وهما متشابكا الأيدي. كان الوراق ومارينا يتصببان عرقاً. ناولهما الرملاوي مناديل الورق قائلاً للوراق:‏

"عندما تشبع من الرقص. أشر لنا بذلك لنخرج من هذا المكان"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:53 PM
"ولماذا. هل حدث شيء؟" الوراق مستفسراً من الرملاوي.‏

وفيما الاثنان يتبادلان الكلام، وإذا بشاب سكران يقترب من الوراق ليصرخ بوجهه:‏

"الخنازير السوداء لا تصلح للرقص مع شقراوات الدانمارك!"‏

حاول الدكتور الوراق تهدئته مخاطباً إياه بأعصاب باردة، إلا أن الشاب يزداد صخباً ولفظاً للشتائم البذيئة.‏

"حتى النساء، تستولون عليهن يا حقراء." فيرد الوراق بهدوء:‏

"من كثرة تفريطكم بهنّ.. أو من انقطاع الحرارة. أليس كذلك؟".‏

إلا أن الوضع لم يستقر عند هذا الحد. فقد كانت نزعات البعض تميل للمعركة. وعندما سخنت جبهة القتال، نهضت مارينا لتقوم بتأنيب الشاب الثمل بكلمات قاسية، ساحبة إياه إلى الخارج. فينهض الوراق والرملاوي والماوردي في أثرها، لاستيضاح الأمور. لكن الصورة تزداد تعقيداً بظهور مجموعة من الأشخاص لمساندة وضع الشاب السكران.‏

"بالأمس أخذ زنجي مني صديقتي" قالها شاب وهو يحرض الجميع للمنازلة.‏

"ربما لأنك لم تقم بالواجب " علق واحد من الشباب ساخراً.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:53 PM
هدأ الوضع قليلاً بعد أن تنفس الجميع. فخرج الماوردي والوراق ومارينا والرملاوي إلى الشارع. وبعد أن ابتعد الأربعة عن المكان، قام الرملاوي بأداء بعض الحركات الراقصة في عرض الشارع على طريقة زوربا.‏

" قلت لكم، لن تضيع مني فرصة الرقص الليلة، حتى وإن يكنالرقص مع الذئاب!‏

قال ذلك الرملاوي في محاولة للتخفيف من وطأة الصدمة التي تعرض لها الوراق في الديسكو.‏

"هل تشاركينني هذه الرقصة الوحشية يا مارينا؟" سألها الرملاوي دون توقف.‏

فتقترب مارينا منه، وتحاول تقليد حركاته وهي تغرق بالضحك.‏

"لن ندع أحداً يسلبنا ما نود الاحتفاظ به. فالعالم صغير والروح ضيقة" قال الرملاوي.‏

فرد الماوردي:‏

"وكل منا ملون بدمه الخاص. أليس كذلك يا وراق؟"‏

ينط الاثنان الماوردي والوراق للمشاركة في حلبة الرملاوي ومارينا وسط الشارع.‏

"سنقبر أقدامنا حتى الفجر في هذا المكان. فكل من سيمر بهذه القطعة من الأرض ذات يوم من تاريخ التشرد، سيشم رائحة رقصنا. وربما سيتحول المكان إلى ديسكو. ليس الآن، بعد ألف عام أقصد!!".‏

هكذا قال الماوردي وهو يتوسد الأرض مع الأربعة، ليلتقطوا أنفاسهم من التعب.‏

"لا تتنفسوا كثيراً، لئلا يقول العنصريون بأن الأجانب يستهلكون الكثير من الأوكسجين، وأن زفيرهم هو السبب في توسع ثقب أو بحيرة الأوزون في السماء!!" يعلق الماوردي ساخراً.‏

مع ظهور خيوط الفجر الأولى على العاصمة، راحت أسراب من النوارس، تشق السكون. بأصواتها. فينهض الأربعة وقد بدت ملامح السهر تطبع وجوههم، متفرقين في اتجاهات مختلفة

كديميس
08 Mar 2006, 08:54 PM
(13)‏

اليوم أول سبت من حزيران. ويكاد يكون الافتتاحية الحقيقية لصيف هذا العام. فالطقس مشمس بشكل يثير الرغبة بالتوجه إلى الشاطىء. فدرجة الحرارة كما عرفها الماوردي من نشرة التلفزيون في حدود 26 درجة. وهي درجة تعطي المرء الحق بالتفكير في البحر. أجل. فتطهير الأجسام من الصدأ، أمر لا بد منه في حال توفر الشمس. وإلا فسيطال التعفن كل شيء.‏

"سنذهب إلى البحر" قال ذلك الماوردي وهو يقر بالنيابة عن صديقته"مورغ". وبصوت عال هتف:‏

"إذن. إلى أعالي البحار والنساء والشموس يا ماوردي." وأمسك سماعة الهاتف متصلاً‏

-هاي مورغ.‏

-هل أكملت إفطارك.‏

-لدي فكرة. ما رأيك بالذهاب إلى البحر اليوم. أهي فكرة معقولة؟‏

-جيد. هذا ما كنت قد قررته بالإنابة عنك. إلى اللقاء بعد ساعتين. هاي.‏

دخل الماوردي بعد إجراء الاتصال الحمام لحلاقة ذقنه. وقد فعل ذلك وهو يردد أغنية للفنانة فيروز‏

"شايف البحر شو كبير، أد البحر بحبك".‏

أجل. فقد كان المزاج رائقاً، ليس بسبب الطقس وحده، بل بسبب الحبّ. فقد كان يحس بأمواج الشاطىء وكأنها بدأت تتحرك في داخله. بل ذهبت به فكرة أن يقطع بمورغ بحر الشمال. إلا أنه سرعان ما كان يقمع تحليقاته، فيخفض جناحيه للهبوط البطيء على الأرض. ولكن، قد تكون الأرض هي الحلم فيما لو قذفت من على سطحها الشوائب والنفايات.‏

حمل الماوردي حقيبته اليدوية، مرتدياً الشورت الأزرق والقميص الأبيض، وغادر المنزل لملاقاة صديقته للمرة الرابعة. يضغط على الجرس، فتخرج مورغ لتأخذه بين ذراعيها وتطبع قبلة على خده.‏

"يجب أن أنتزع هذه الخدود من الوجه في المرة القادمة. سأحول كل ما في وجهي إلى مجموعة من الأفواه. آنذاك.. فأينما سوف تقبلني، يقع فمها في أحد من تلك الأفواه، فلا تذهب القبلة هباء".‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:54 PM
هكذا قص الماوردي على نفسه هذا الاختراع بلمح البرق.‏

"أهلاً مورغ" وانطلق الاثنان سيراً على الأقدام، وهما يشقان الشوارع الفرعية للفيلات الصيفية باتجاه الشاطىء الذي لم يكن يبعد عن مكان إقامتيهما غير أقل من كيلومتر واحد.‏

يضعان الحقيبتين على الرمل، ويجلسان متأملين أمواج الشاطىء الزاحفة بهدوء. أصبحت الحرارة في مثل هذا الوقت أكثر ارتفاعاً. الرمال هي التي تقول ذلك وليس الماوردي. وأصبح البحر مفتوحاً ومهيئاً لاستقبال جسد مورغ. القلب يقول ذلك وليس الماوردي.‏

"هل تعرفين أن درجة الحرارة في بعض بلداننا، قد تصل إلى الخمسين درجة يا آنسة؟!" يقول لها الماوردي ذلك، وكأنه يحاول تحريضها نفسياً على الشعور بالـ"كريل" فرن الشواء.‏

-لقد وصلت حرارة طقسكم إلى جسدي يا ماوردي. فنهضت لتخلع التنورة الصيفية الصفراء المعرقة بالأخضر والكحلي، بعدها لتخلع الكنزة القطنية البيضاء، لتظهر عن عنقودين من الكريستال المشبع باللون الذي تخلفه الشمس في الثواني الأخيرة قبل دخولها الكهف السماوي. ولتعلن عن ساقين من السرو الموشى بحرير منقوع بورق شقائق النعمان الفاتحة اللون.‏

"لا تكمل يا ماوردي. فقد تلفظ أنفاسك قبل سرد التفاصيل".‏

"هيا" وسحبته من يده، دون أن تشعر بأن الماوردي مصاب في هذه اللحظات بزلزال درجة7 من مقياس المرحوم"ريختر". وأنه سيلقى حتفه، ليس في بحر الشمال، بل وإن كان ذلك تحت الدوش أيضاً! فمقاومة الجمال هنا، خدعة صفيقة.‏

عندما اخترق الماوردي ومورغ ممسكة بيده، غابة أجساد الفتيات اللاتي كنّ مستلقيات أو لاعبات بالكرات المائية أو جالسات على رمال الشاطىء وهنّ يحتسين الكولا أو البيرة. تمنى لو تحول البحر إلى بساط يستطيع سحبه إلى وسط المدينة، على غرار ما فعله الرسام سلفادور دالي في لوحة له.‏

غير أنه سرعان ما استبدلها بفكرة أن تقوم مورغ برفعه عالياً، وتطوح بجسده إلى أبعد نقطة في هذا البحر الشمالي.‏

أغرقت المياه الماوردي إلى النصف ليستفيق إلى نفسه أكثر، ولتتقطع أفكاره إلى فتافيت يمكن أن تطعم آلاف الأسماك. كانت صديقته لا تزال تمسك بيده، ولا يعرف لماذا. هل هو الخوف عليه من الغرق في البحر الساكن، أم الغرق في محيط جسدها المشتعل عصفاً وزوبعةً؟‏

ربما قرأت مورغ ما في عيون الماوردي. ولذلك فضلت أن تمسك يده بيدها وتدخل الماء لإطفاء حرائقه. لكن الماوردي يحاول ادخار ما يراه من جمال للقصائد. فأجمل النساء لأجمل القصائد. والعكس يخضع لهذا الاعتبار أيضاً.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:55 PM
"حتى هنا.. الشعر والقصائد!!" قال الماوردي لنفسه وهو يستلقي إلى جانب مورغ على الرمال التي بدأت الحرارة تشع فيها.‏

-هل كانت المياه باردة. سألته صديقته.‏

-أبداً. لقد قمت بواجبك على خير وجه.‏

-ماذا تقصد يا ماوردي؟ سألته مورغ باستغراب.‏

-أقصد بأنكِ أفرغت الكثير من الشحنات الحرارية من جسدك في الماء. والماء ناقل للحرارة مثله مثل الجسد.‏

-ضحكت مورغ مغطية وجهها بيديها، ثم لتنظر في وجه الماوردي قائلة:‏

"هل أنا جميلة يا ماوردي ويعجبك جسدي؟" وتغرز أصابعها في شعره بشيء من العنف.‏

"أنتِ المختصر المفيد للجمال يا مورغ؟" يجيبها وهو يمط بالكلمات. فتمسك رأسها بين يديها وتقبله في فمه قبلة طويلة، ربما كان ينتظرها منذ قرون.‏

"أهكذا تقبل الملائكة الشياطين على الخط الفاصل ما بين الجنة والنار؟"‏

خرجت هذه الجملة من فم الماوردي مع رائحة القبلة التي هي خليط من رائحة النار في قشر البرتقال مع شيء من رائحة الذهب أثناء الصهر. ظل هذا الإحساس التذويبي بالرائحة مستمراً طوال الدقائق أثناء رحلة العودة إلى المدينة. الأذرع متشابكة. والخطوات تخرج من الأقدام وكأنها إسفنج يتنفس على الطريق. فيما ظل فمها وفمه مطبقين، كأنهما نسيا كل اللغات، أو لأنهما لا يريدان التفريط بتلك الرائحة.‏

"ترى الليلة.. هل ثمة شحنة أخرى من تلك الرائحة؟" قال الماوردي.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:55 PM
فرد عليه غرابه الداخلي:‏

"لن يكون شيئاً من ذاك القبيل. فلا تبتهج كثيراً.."‏

"اخرس أيها النذل يا نذير الهلاك والشؤم. فنحن على مقربة من منزل مورغ."‏

قال له الماوردي وهو يكبح جماح الغراب الداخلي.‏

فرد الغراب:"ستقول لك وداعاً يا ماوردي. سأراك في الأسبوع القادم. أو ربما بعد العودة من عطلة الصيف الذي ستتمتع به في أسبانيا أو المغرب أو اليونان أو ماليزيا."‏

وقفت مورغ ونظرت في عيون الماوردي وهما على الباب.‏

"الآن يا ماوردي... وداعاً. وتصمت قليلاً قبل أن تضيف: بعد ساعة سأكون بانتظارك هنا. سنتناول العشاء معاً. هل من مانع لديك يحول دون ذلك؟"‏

سألته وأضافت قبل أن تستمع إلى رده"إذن الساعة العاشرة.هاي" وأدارت المفتاح في قفل الباب ودخلت. فيما سار الماوردي صامتاً إلى منزله.‏

"ها قد نلت منك أيها الغراب النذل!"‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:56 PM
(14)‏

قبل الساعة العاشرة، كان الماوردي قد أكمل كل شيء. مرتدياً البدلة السوداء والقميص الأبيض المزين بالكرافيته الحمراء التي تقاطع لونها الورود العبثية. كذلك قام بلف قنينة من العرق اليوناني بالورق السلوفان الملون مع إضافة شريط الزينة. وقبل التوجه بثوان قليلة، وضع شيئاً من الـ"boss" وهو العطر المفضل لديه، ثم خرج إلى الشارع كالطاووس، وهو يلتمس الطريق إلى اجتماع القمة في بيت صديقته.‏

كانت مورغ وكأنها تنتظره على الباب، فما أن ضغط الماوردي على زر الجرس، حتى فتح له الملاك الباب مرحبة به وهي تشيد بأناقته. فقبلها الماوردي بشكل خاطف مناولاً إياها زجاجة الشراب. فشكرته وهي تقوده من ذراعه إلى غرفة الضيوف.‏

هناك. جلس الاثنان، فيما كانت الموسيقا الهادئة تبث روحها في كل زاوية من المكان الذي راحت الشموع البنفسجية تطبعهُ بالضوء الذي يأكل نفسه بنفسه بكامل السماحة والانسجام. إنه إيقاع لغة النيران التي تصوغ الدفء والحريق معاً.‏

-كيف كان النهار على الشاطىء اليوم؟ سألته مورغ وهي تحدق في عينيه.‏

-النهار. أم أنتِ!‏

-لنقل معاً؟!‏

-ليس من عادتي أن أمتدح النهار. فما يغريني هو الليل الذي ندخل ثيابه دون أن يتضايق منا، بل دون أن يحسسنا بوجوده كرقيب على ما نفعل ونحلم.‏

-وأنا يا ماوردي. أين تضعني. في الليل أم في النهار؟‏

-10% منك للنهار. وما يتبقى فهو من أملاك الليل. كل جسد جميل، عبارة لا تنتمي إلا إلى لغة أعالي الليالي. وأنتِ كذلك يا مورغ."يرفع لها كأسه"‏

-ترفع كأسها وتحتسي آخر قطراته، ثم تردف قائلة:‏

-أنتَ تشدني بغرائبيتك يا ماوردي!‏

-وأنتِ تشدينني إلى قاع الجنة بإبداعك. يسكب لها النبيذ في الكأس، ثم يمرر أصابع يديه بين شعرها. ويضيف بحماس:‏

-هذا النبيذ الذي تحتسينه، هو حبر الكتابة في الليل. هل تعرفين ذلك؟‏

-وأي نوع من الكتابة يا ماوردي؟ تجيبه ضاحكة.‏

يضحك الماوردي هو الآخر. ويرد:"كتابة الجسد!"‏

-والعقل؟‏

-العقل آخر انطباعات الليل.‏

تنهض مورغ من مقعدها والكأس بين أصابعها كشمعة في نهاية عمرها. تقف خلف الماوردي مطوقة رأسه بذراعها الأيسر. بعدها تسحبه برقة من ذراعه وتقول متنهدة كالسحابة‏

"سنجرب الكتابة بحبر الليل!!".‏

يترك الاثنان كأسيهما على الطاولة، فتختار مورغ الجلوس في حضن الماوردي، ممسكة رأسه بين يديها وملتقطة شفته السفلى التي تهتكت ذوباناً بفعل حوار الجنون الحراري، بحيث لم يعد الماوردي يدري إن كان قد بقي شيء منها، أم لا.‏

عندما حمل الماوردي مورغ نحو الصوفا القريبة، لم يكن على جسدها غير وريقة واحدة, فيما أصبح جاكيته وربطة العنق والقميص من مخلفات الماضي. ربما مماسح للأرض. وغاب الاثنان بعضهما في البعض، ربما بعد ساعتين أو سنتين... بعدها ليطلا من جديد على الطاولة التي تكاد شموعها تلفظ أنفاسها الأخيرة. فقامت مورغ بإشعال شمعتين جديدتين، بعدها لتمد يدها نحو القنينة التي جلبها الماوردي معه. فتنتزع عنها الختم.‏

كديميس
08 Mar 2006, 08:56 PM
"أو..أوزو" قالتها بدهشة.‏

فسألها الماوردي إن كانت قد جربته في السابق. فردت بإيجاب.‏

"إنه لذيذ ومدهش" وأخذت تسكب منه في كأسين جديدين.‏

"هل تريد إضافة شيء من الماء معه" سألت الماوردي ليرد:‏

"أجل. شكراً" وارتفع الكأسان عالياً.‏

كانت الموسيقا في تلك اللحظات، قد أخذت منحى تحريضيّاً للرقص. وكذلك ثوب مورغ الأسود الشفاف الذي تكاد تساقط منه كل حقول الشهوات: الجبال والينابيع والسهول والأعشاب السوداء النابتة على سطح مثلث برمودا.‏

ينهض الماوردي لينادي:‏

"هل تسمحين بهذه الرقصة أيتها الكونتيسة الجميلة؟". يقول لها ذلك وهو يمد إليها يده منحنياً على طريقة النبلاء. فتغرق مورغ بالضحك المشوب بعطر الثمالة الخفيفة وهي تنهض مرددة:‏

"أجل أيها الفارس الأسمر. الرقص حتى الفناء".‏

ويرقص الاثنان على أنغام الفلكلور الشعبي الدانماركي. بعدها يتناول الاثنان كأسيهما ويخرجان إلى فناء الحديقة وهما يتهاديان. يحمل الماوردي مورغ ويضعها على مقعد الأرجوحة، ثم يبدأ بدفعها إلى الأمام، بعد ذلك يقف أمامها متأملاً تساقط الخمرة من الكأس الذي في يدها. فيما كان ثوبها مستسلماً للهواء. وفجأة تخطر على بال الماوردي فكرة إيقاف مقعد الأرجوحة. ويفعل ذلك لينتزع الكأس من يدها، ويقذف به نحو الأشجار في الحديقة. بعد ذلك ليجلس القرفصاء، آخذاً مورغ من صدرها إلى فمه. فتأخذ الأرجوحة بالاهتزاز وكأنها تحاول الطيران نحو السموات البعيدة.‏

"إنها براكينك الخامدة يا مورغ. دعيها تستفيق وتمسح جسدك لتذروه كالشذرات".‏

"لم يمسسك ذلك الذي أحببته طويلاً، ولم يهز فيك أرضاً. بل كاد أن يقتلك بشذوذه اللعين"‏

"لا تتذكري شيئاً الآن. طيري فقط. فأنتِ خلقتِ من أجل الطيران وحده".‏

لم يسمع الماوردي من كلمات مورغ إلا رنينها الخفي. فحملها على ظهره إلى الداخل، وأجلسها على الأريكة في الصالون وهو يقبلها. فطلبت منه أن يعد لها كأساً من الأوزو مع قطعة من الثلج. ففعل الماوردي ذلك. وأدار أسطوانة من الموسيقا الهادئة، ثم جلس إلى جانبها ليكشكش في شعرها. فقبلت له يده وأخذت تجهش بالبكاء، وهي تقص له حكاية حبها و"جاك هنسن" ذلك الشاب الجميل والرائع.. والذي كان شاذاً... و....‏

قام الماوردي بمسح دموعها، ثم سرقها من الحديث ليضع رأسها في حضنه ويلعب بشفتيها مداعباً لتغيير مسار القصة. بعدها رفعت رأسها كالقطة. وسألت الماوردي إن كانت قد سببت له الضيق من جراء قص الحكاية. إلا أن الماوردي لم يرد بالكلمات، بل قبلها من فمها وهو يشدها إلى صدره بحنان يكاد أن يعلن عن نفسه بصوت عالٍ.‏

"عليك نسيان ذلك يا عزيزتي". يهمس في أذنها هذه الكلمات، وهو ينظر في عينيها.‏

فترد مورغ:"سيحدث ذلك فيما لو وقفت إلى جانبي."‏

"أتمنى أن أفعل ذلك. ويمكنك الاعتماد عليّ" ويضربها بيده على فخذها كما لو أنه يؤكد. بعدها يتطلع الاثنان إلى الشموع التي تكاد تخفت. فتسأله مورغ إن كان لديه الرغبة بتناول كأس من العرق. فيكون رده بالإيجاب. فتنهض لتدخل الحمام مطولاً، فيخشى الماوردي أن يكون تأخرها بسبب حادث ما جراء السكر ربما، فيلج الحمام متقصياً أثرها، إلا أنه يرى جسدها وهو يفيض شعاعاً تحت مياه البانيو الذي طفح سطحه بالشامبو. فيضحك‏

"لم أكن أعلم أنكِ تستحمين. كنت قلقاً عليك." فسحبته بيديها بملابسه معها في البانيو.‏


يتبع

كديميس
08 Mar 2006, 11:39 PM
(15)‏

عندما وصل الماوردي إلى مقهى المحطة الرئيسية للسكك الحديدية في كوبنهاغن، كان الوراق يحتسي القهوة وحيداً بانتظاره هناك. ولم تمض دقائق حتى بدأ الحوار يشتد حرارة على الطاولة المجاورة لطاولتهما. فراحا يستمعان إلى الأشخاص الثلاثة الذين كانوا منشغلين بمناقشة أوضاعهم!!‏

الأول للثاني: كيف تسير أمور البضاعة في"المحطة"؟‏

الثاني للأول: كالعادة. ولكن تصريفها بات عملاً بطيئاً.‏

الثالث للأول: حركة السوق في الصيف هي السبب. فنادراً ما تكون هناك طلبات على الملابس الشتوية الثقيلة.‏

الثاني للثالث: والكاميرات والساعات والفيديوات-الكهربائيات بشكل عام-؟‏

الثاني للثالث: هذا يتوقف على قدرة الناس الشرائية. ولو قمنا بتخفيض الأسعار، لكنا لم نواجه مشكلات في البيع.‏

الأول لهما: سنفعل ذلك لنتخلص من البضاعة المتكدسة.‏

الثاني للثالث: سأترك خبراً لأحدهم، كي يعرج على"المحطة" ويستلم الستر الجلدية بربع السعر.‏

الأول للثالث: لا تنس أن تخبره بحاجتنا لكومبيوتر، فهناك زبون على لائحة الانتظار!‏

الثالث للأول: سأدفعه ليتمكن من ذلك بأقصى سرعة.‏

الثالث لهما: اللعنة على ابن السافل بهنام. لطش ساعتين ثمينتين وباعهما بسعر البصل.‏

الأول لثالث: صار يعمل لحسابه فقط!‏

الثالث للثاني: سنوقع به إذا ما رفض التعاون معنا. وسنكتب لابن العاهرة نهاية وخيمة. أقسم لهم أنور البوم ذلك وقال:‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:40 PM
"هيا إلى المحطة. نعمل جرداً نهائياً للبضاعة ونقوم بتوزيعها على المنافذ" ينهض الثلاثة وهم يخرجون من المقهى بثيابهم الفاخرة الأنيقة، وكأنهم من أعرق السلالات البرجوازية في أوروبا. فيما ينهض رابع من سوق الأشباح يدعى بـ"خورشيد الهبش"، ليدير محرك سيارته البيضاء من نوع"الفورد". مقتفياً أثر السيارة الحمراء من نوع"bmw" التي استقلها الثلاثة. لم يتوقع الهبش سهولة في عملية كشف موقع المكان الذي يستعمل كمستودع سري للبضاعة المسروقة وغير القانونية في ما يسمى بـ"المحطة". فلهؤلاء أساليبهم وخدعهم لضمان وتوفير الحماية ضد المخاطر التي تتهددهم. لذلك سرعان ما توقفت السيارة الحمراء في شارع فرعي في المدينة، لينزل منها أحدهم، فيستقل سيارة"مازدا" زرقاء، ثم لينطلق بها في غير اتجاه السيارة"bmw" التي راحت تنهب الطريق نهباً، لتتوقف بعد ذلك عند أحد الكيوسكات من أجل شراء قنينة من الكوكاكولا.‏

"أولاد العاهرة. يحاولون التضليل!!" قالها خورشيد الهبش في نفسه، وكأنه متأكد من أنهم يعرفون أن ثمة من يترصدهم. فتناول التلفون النقال من جانبه وراح يتحدث مع أحدهم لطلب المساعدة، بهدف تكثيف المتابعة.‏

بعد وصول الشخصين الضخمين للانضمام إلى الهبش، وهما يستقلان سيارة سوداء من نوع"بيجو" ويبدو إنهما من الأفارقة، تحدث الهبش معهما، فانتقلا إلى نقطة أخرى من الشارع الفرعي، فيما تتحرك الـ"bmw" لتشق طريقها نحو المحطة بحذر. وهناك تتوقف ليخرج منها شخص متجهاً نحو البناية، فيما ينتظر الثاني في السيارة.‏

كان الهبش يراقب الموقف عن بعد. فيما ترجل الشخصان الأفريقيان بعد أن أوقفا سيارتهما بعيداً، ليقتربا من باب سيارة الـ"bmw" ثم ينقضا على الشخص الذي كان في داخلها، فيأمرانه بالترجل من السيارة تحت تهديد المسدس الذي وضع في ظهره، ثم يدخلانه إلى البناية للاستهداء إلى"المحطة". فيفعل ذلك الشخص مرغماً بعد أن يكون قد تلقى المزيد من اللكمات في معدته. يقتحم الهبش والأفريقيان باب الشقة وهم يمسكون بالرهينة-الدليل الذي سلمهم المفتاح، فيصبح الثلاثة وجهاً لوجه مع رجال المحطة."لا نريد استخدام الأسلحة. بل نحاول التفاهم على الشغل!" قال ذلك الهبش وهو يضع فوهة المسدس في صدر أنور البوم.‏

فرد البوم قائلاً: "وهل يتضمن الشغل يا هبش، حقنا بمشاركتكم البودرا والحشيش؟؟!".‏

يلقي الهبش بالمسدس عل الطاولة، بعد أن يكون قد ترك مسك قميص البوم من صدره، معلقاً‏

"كل شيء يخضع للتفاهم. بشرط!"‏

"وما هو هذا الشرط يا هبش؟" يسأله أنور البوم وهو يفرك يديه بعضهما بالبعض.‏

فيرد الهبش:"الأمانة!!".‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:40 PM
يطرق أنور البوم برأسه طويلاً، فيما يبقى الآخرون متأهبين وهم بانتظار ما تتمخض عنه إجابته على ما كان قد طرحه الهبش.‏

"لا يصح الاتفاق تحت تهديد السلاح الآن. فنحن لو فعلنا ذلك. لأصبحنا كالفئران، وفي غير الموقع الذي نريده في السوق."‏

رد أنور البوم متأثراً بموقفه الضعيف.‏

"عندما نعمل معاً، لن يُشعرك أحدٌ بالضعف. فذلك في غير صالحنا!"‏

ردّ عليه الهبش وهو يربت على كتفيه مضيفاً:‏

"اتفقنا يا رجل؟"‏

فيجيبه البوم مبتسماً: سنتحدث عن ذلك فيما بعد‏

ثم يأمر أحد رجاله بقوله " أحضر البيرة من الثلاجة لضيافة الغزاة". مصطنعاً ضحكة عالية مفرقعة.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:41 PM
لم ينقطع الألم عن مرافقة كل الولادات. ولم يتراجع الندب الجلجامشي عن مستوياته القديمة، بل ما زال داخل ثمارنا ودموعنا وحبنا وقلقنا. به نفتح ومنه نختم حياتنا، هذه القطعة الترابية التي خصصت لإنشاء ودفن الذكريات.‏

"يسقط المنطقُ في وصف ما لا يوصف راهناً"‏

السياسي بعضلاته المتوحشة، هو الغلاف الذي يحيطك. هكذا كنت تصف المشهد يا ماوردي. وكنت تقول: لقد تم استبدال الفانوس السحري بفانوس الحكومة. وصار جدار اليأس أعلى من جدار الحكمة في بابل. فالزمن هناك هو ألم نادر. ولا صوت إلا المحو. ففي شارع الدولة نُقتل كالبهائم. ويخاف واحدنا أن يسحب جثة الآخر من الطريق علناً. أو أن يدفنها علناً. أو أن يبكيها علناً. ولا أن يسمي موتها علناً. ولا أن يشير إلى القاتل علناً. لأن المسموح به فقط، أن ندفع ثمن الرصاصة التي قتلت. وثمن القبر الذي يأخذ حيزاً من أرض الحكومة التي تملكنا جميعاً.‏

-هل لك أن تفتح في العين نافذة جديدة للبكاء؟‏

-لك كغائب أم ماذا؟‏

-من أجل أن نبكي عزلتنا كوحيدين على الأرض.‏

كل أنهار الدم الطويلة تجمدت فجأة كالشمع في الجسد. وكان عليّ الخروج من كابوس الذكريات الذي أغرقني بصوته كجرس الكاتدرائية الضخم. إلا أنني قلت لنفسي: ما زال الوقت مبكراً على الكتابة. ثم كيف تدخل النص، وأنت أشبه بالجنازة المحمولة على رقاب موتى؟ كيف تحاول بناء نص؟ وأنت منهك ومهدّم؟ بل هل لك القدرة على معاشرة الكتابة، وبينك وبينها قطب من الجليد؟‏

كيف تحاول الانتصاب والارتفاع، وأنت ضحية مباشرة لحروف تجرّ أمة كاملة نحو الأبراج السفلى؟ ألا تزال تعتقد نفسك منتصباً وقائماً ومرتفعاً في بلدان كلها زحف وتكسير وتهميش وشطب؟‏

نظرت إلى الماوردي. فنظر إلى ساعته وهو يفك وثاقها من معصمه، ليرمي بها إلى البحر.‏

"الزمن..!"‏

ثم نهضنا.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:42 PM
16)‏

منذ الشهور الأولى.. حاول الماوردي أن يحقق معنى لوجوده من خلال العمل. فالحياة هنا، ليست تأملاً في حيطان المنزل. ولا هي بالنافذة التي يتطلع المرء من خلالها إلى الثلج والضباب والمطر ورماد السماء الذي يجعل بشر هذي البلاد أشبه بعرائس الجليد، يتحكم في مشاعرهم وأمزجتهم الطقس والكحول والرغبات الطارئة للانفلات من قبضة الوتائر الروتينية.‏

لم يكن ذلك إحساساً، بل هو الهاجس اليقيني الذي يسكن أعماق الماوردي، لغير الأهداف التي يعلنها الآخرون تحت مظلة تأمين المستقبل، بقدر ما هي رغبة للانخراط في خليج الحياة التي تأخذ معناها من التدفق والفيضان. فالمستقبل، كلمة لا تصلح للاستعمال في ذهن الماوردي. وقليلاً ما يفكر الماوردي بالمستقبل، فهو عنده أشبه بكرة الثلج، كلما تدحرجت من علو شاهق، كلما كبر حجم هيكلها، بعدها ينتهي كل شيء إلى فتافيت، بمجرد ارتطامها في أول حاجز عند المنخفض. والزمن الذي يُؤمن تذويبنا على هذه الشاكلة القاتلة، لن يستطيع تأمين مستقبل ضحاياه من البشر وسواهم.‏

فكر الماوردي بمشروع واحد لا غير. ويوم قام بتنفيذه عملياً ليقطع الشك باليقين للخروج من مستنقع صندوق المساعدات الاجتماعية إلى الضفة الأخرى، لم يلق لمشروعه دعماً. فقد سبقه إلى ذلك النصابون والدجالون، ممن يخططون ويقبضون الأموال ثمناً لإحتيالاتهم من المشاريع الوهمية التي سرعان ما تتهشم على الأرض كقطعة رقيقة من الزجاج.‏

كان يقول له البعض"وحده المحتال والخنوع من يستطيع الوصول إلى خزينة الدعم الحكومي..!!"‏

أو"كن تافهاً، لتُمنح الكثير من الجوائز والامتيازات والأوسمة!!". أو"إن الأنبياء على أرض الدانمارك، ستظل أوضاعهم كاسدة في سوق العمل.!" بعد أن تكونت كانتونات اقتصادية ومافيات ثقافية فاسدة، تقدم الكثير من المشاريع بأسماء الأجانب، لتتقاسم معهم الغنائم!!‏

كان جلّ ما يخشاه الماوردي أن تتحول الأرض إلى خان للدواب وسقط المتاع من الطارئين على كل ما هو جوهري في السياسة والأدب والعلم والاقتصاد والحضارة.‏

لاجئون.. لابأس. ولكن ليس لأن يدمر العشرات منا حيوات الألوف، هذا ما ندافع عنه ضد مرتكبي الجرائم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ضد الذي يحاول نهش اللحم والعظم تحت ذريعة بناء المستقبل خارج الحدود. وضد الأمي الذي يرتدي زي الثقافة والأدب، فينصب نفسه كقائد للحوار ما بين الثقافة الإفرنجية والعربية، وكل مخزونه الثقافي وعمره الأدبي، لا يتعدى حدود"إبداع" الحشرات التي تضع بيوضها في أقذر الأمكنة إتساخاً. ذلك أن الحوار بين ثقافتي الغرب والشرق، لا يتحمل ثقلها كاتب فقير يكتب على طريقة ما يكتبه الأطفال في حفاضات"البامبرز". ولا يتحمل وزرها ترجمان من فئة أولئك الذين ربما لا يعرفون من اللغات سوى المفردات الخاصة بتنمية المصالح الشخصية والمشاعر التجارية. لأنها الكلمات التي تتوهج في مقدمة اللغة في عقولهم. فكل هؤلاء ومن يقف خلف مجلاتهم ومطبوعاتهم، إنما يلعبون دور المبشرين لثقافة تافهة غير طبيعية، ولا ارتباط لها بالأصول الأم.‏

"ولماذا يأخذك الحزن يا ماوردي. أنتَ الآخر لست وصياً على الثقافة أو حارس بيت مال الدولة."‏

"ليس هذا هو السؤال. وليست تكون هكذا الإجابة!".‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:43 PM
هذا ما كان يتردد في رأس الماوردي. فهو يدرك أن المراكب الورقية التي لم تستطع مياه المستنقعات الآسنة إغراقها، ستبتلعها أول موجة في البحر، لتلفظها نحو عالم الطحالب. لكنها المرارة والقسوة. المرارة من شيوع وانتشار الجراد. والقسوة التي تأكل الذات الصامتة، وهي ترى مسرح الأفاعي التي تسمم العين بمشاهدها.‏

لقد حصل الكثيرون على حق اللجوء في البلاد، جراء تعاطف الحكومة مع ما جاء في إفاداتهم المسجلة، كونهم أفادوا لدوائرها بتعرضهم للاعتقال والإرهاب في بلدانهم. وهم من الملاحقين سياسياً، ومن المحكوم عليهم في بلادهم. إلا أن الصورة الحقيقية سرعان ما تتوضح، بعد أن ينال هذا الشخص أو ذاك حق الإقامة في هذه البلاد. فيقوم بأعمال تتنافى مع كل ما كان قد أفاد به للبوليس الدانماركي وسواه. فترى هؤلاء ينسفون كل اعترافاتهم التي حصلوا بموجبها عل حق اللجوء السياسي أو الإنساني، ليعلنوا عن مناصرتهم للنظام الفاشي الذي سبق وأن أدانوا ممارساته الديكتاتورية في اعترافاتهم الأولى لدى دوائر البوليس الدانماركي والصليب الأحمر!!‏

"هل تتمنى لو قامت الدوائر المختصة في هذي البلاد بمراجعة ملفات هؤلاء، وإعادة قراءتها؟".‏

"الدستور هنا.. يكفل حرية التعبير".‏

"الحرية.. أم الكذب! ولمن؟ لعناصر المخابرات الدولية والجواسيس الذين يهددون ويطاردون اللاجئين السياسيين الهاربين من أكواريوم القذارة!!".‏

"البلد بلد ديمقراطي.."‏

"الديمقراطية.. لمن؟ للذين باتوا يمثلون بها كما يمثل الجزارون بجثث الحيوانات؟".‏

"لقد أفقدتك الديكتاتورية نصف عقلك يا ماوردي، هناك. وستفقد النصف الآخر بفعل ما تراه من الديمقراطية في هذا البلد؟!".‏

"سيكون الخراب في الذروة. فالماكينة التي تتآكل براغيها الواحد تلو الآخر، لن يصمد هيكلها الكبير والضخم طويلاً. ستسقط هي، ونحن تحت ركام قطع غيارها المحطومة."‏

"سيسمونك عنصرياً، أو نصيراً لها يا ماوردي. هكذا سيقول الفاسدون و اللصوص عنك!".‏

"ليكن ذلك. إذا كان الهدف والموقف، من أجل الحيلولة دون تدمير الآخرين من الناس الطيبين. فمثلما كان هؤلاء عبئاً عل الشرق، هم الآن عبء على الغرب. وعلينا أن لا نغضب من مواجهة الذات. ليس عاراً أن يعيش ويتعلم المرء على أية بقعة من الكون، فالعالم تزاوج حضارات. وليس مجالاً لنقل الأمراض والشوائب فقط".‏

أغلق الماوردي الكتاب، قاذفاً إياه على الطاولة، ليصطدم بقنينة النبيذ ويلقي بها على الأرض. فيما ظل هو يتطلع إلى تدفق الخمر من القنينة، دون أن يقوم بأية حركة لإيقاف تدفق النبيذ من القنينة.‏

"دعه ينزف حتى الرمق الأخير" قال تلك الكلمات ثم توجه نحو السرير وألقى بقامته في حاوية النوم.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:43 PM
(17)‏



كان الصباح مكفهراً في هذا اليوم الأعمى. فالسماء منتفخة بأكوام من تلال العجين التي أغلقت كل المنافذ أمام شمس الصيف، وثمة زخات من المطر الخفيف، تأتي بين الحين والآخر، وكأنها بروفة لأمطار ستخسف الأرض حتى الابتلاع. لكن شيئاً من هذا لم يحدث حتى الساعة العاشرة، عندما رن الهاتف رنين أجراس الكنائس، كما سُمع ذلك في المطبخ الذي كان يعد فيه الماوردي قهوة الصباح. أو لنقل هكذا تخيل هو الصوت.‏

رفع السماعة للرد.إلا أن الصوت الذي سمعه الماوردي لم يكن غير صوت بكاء لم يجد له تفسيراً. فأحس بتحطم جدران رأسه، وكأن زلزالاً قد ضربه حدّ الهلاك. حاول أن يمسك أعصابه ويهدأ. لكن الدكتور الوراق لم يعط له الفرصة. فصرخ كالثور الذي يتلقى الطعنة القاتلة:‏

"من سمح له أن ينتحر!!"‏

وسرعان ما تطير السماعة من يده في الهواء. لم يدرك الدكتور الوراق بخطأ في الطريقة التي أوصل فيها نبأ انتحار الرملاوي. فقد كان هو الآخر منهاراً من وقع الصدمة التي أرسلها الرملاوي لهما جراء فعلته الجنونية الجريئة هذه.‏

يحاول الماوردي تجميع قواه بالنهوض، مستعيناً بيد الكرسي. فيشعر بأن عينيه قد صارتا كبحيرتين حمراوين من شدة ضغط الدم الذي راح يغلي في جميع ممرات جسمه.‏

"لقد فعلتها أيها الحقير. ماذا سيقال عنك؟ عجزت عن مواصلة السباحة في هذا التلاطم الكوني الهائل؟ أم إنك فضلت هزيمة نفسك بنفسك؟ بل، وماذا سيستنتج الأجانب من هذا الفعل. ألا يقولون إنك قررت ذلك بفعل فشلك بالحصول على حق اللجوء السياسي أو الإنساني على أرض هذي البلاد؟؟"‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:44 PM
عكرت الدموع صفو زجاج نظارة الماوردي، وهو يتطلع عبر النافذة بذهول.‏

"إنها كارثة. أن يتقبل الموتُ أوراق لجوئك إليه، أسرع مما تفعله الحكومات المتحضرة بمنحك كهفاً في هذا القطب؟!!".‏

لفظ الماوردي هذه الجمل، وكأنه يهذي هذيان شجرة ضربتها عاصفة للتو. بعدها حاول لملمة نفسه من التبعثر، وغادر المنزل بوجوم ثقيل يكاد يفيض من على وجهه.‏

"لم يقل لنا يوماً عن مشروع كهذا!"‏

"لأنه يريد أن يفعل ذلك، لا ليتحدث عنه".‏

"كنت أدرك بأن الرجل سيفلت منا سريعاً.. ولكن ليس ليخدعنا بمثل هذه السهولة."‏

"السهولة. أنة يقطع شرايينه من كل حدب وصوب، وبعيداً بين حقول الزهر الأصفر!!"‏

"ألم تفعل ذلك شقائق النعمان، لتطرز تلك الحقول بلونها وقاماتها الرهيفة؟"‏

لفظ القطار البضائع البشرية على رصيف المحطة، ومنها جثة الماوردي الذي سرعان ما توجه نحو موقف الباص، ليستقله إلى المستشفى. حيث كان الدكتور الوراق وصديقته بالانتظار. وما أن لمح الماوردي الوراق حتى تعانق الاثنان وهما ينتحبان نحيب الثكالى، فيما راحت صديقة الوراق تغطي وجهها بيديها وتنتحب هي الأخرى بخفوت. وبعد مضي دقائق، اقتربت مارينا لتضم بساعديها الاثنين معاً. ثم يدخل الثلاثة إلى بهو المستشفى ليجدوا بعض الأصدقاء بانتظارهم في البوفيه. يتبادل الجميع التعازي ثم يأخذون مقاعدهم بصمت ثقيل."ما أصعب هذه اللحظات أيها الربّ؟ أن تنتظر لتودع صديقاً أو عزيزاً ذلك الوداع الأبدي الأخير. أن تمشي في جنازته. وأن تقوم بدفنه بيديك!!"‏

عندما حضر المسؤول عن تسليم الموتى في المستشفى بعد ثلاثة ساعات من الانتظار، عرفنا أن الأمور في نهايتها.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:44 PM
فقد تم نقل الرملاوي في صندوق من الخشب الأبنوس. تعلوه باقات من الورود.‏

"أجل. لم ينقصك يا رملاوي غير أن نقوم بلف جثمانك براية البلد، ونعزف لك النشيد الوطني! ولكن ذلك، ربما لا يليق بأحد كان أو يكون في مثل وضعك. فالوطن الذي شردك، علمه أسود إلى يوم القيامة. والنشيد الوطني وقد أصبح لحن الرقصة الأخيرة للموت الذي ننتشر على حبل غسيله، أحياءً أو موتى. ثم أن الذين تلف توابيتهم بالأعلام، هم من الجنرالات والقادة والشهداء.. وأنت لا بالجنرال ولا بالقائد ولا بالشهيد. كل ما كنته أنك تحب الحرية لك وللناس وللوطن الذي صادروه من الجميع، وبقي متسكعاً على الخريطة وفي الإذاعة وعلى العملة فقط."‏

وفجأة يشق الماوردي طريقه نحو السيارة السوداء التي تحمل في داخلها نعش الرملاوي، فيفتح الباب الخلفي صارخاً:‏

"فعلتها أيها الوقح.. نمت مستريحاً لتفقدنا الراحة للأبد؟ أهذي هي نهاية العالم يا رملاوي؟"‏

تقدم منه الوراق وبعض المشيعين ليحلوا قبضة باب السيارة الخلفي من يد الماوردي، ويدخلونه إلى إحدى السيارات. بعدها ينطلق الموكب: سيارة دفن الموتى. وثلاثة من السيارات التي يستقلها المشيعون من الأصدقاء.‏

عند الوصول إلى المقبرة، كان الوقت غروباً، ولا يوحي مشهد السماء إلا بالرعب على الرغم من أن الضوء في مثل أيام الصيف يمتد إلى ساعات متأخرة من الليل. إلا أن السماء في هذا اليوم الأغبر والأعمى، يبدو أنها لم تهضم سحب العجين التي كانت متراكمة منذ ساعات الفجر.‏

"ربما تقاسمه السماء آلامه؟"‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:44 PM
قالها الماوردي، فيما الرملاوي يرقد داخل نعشه الذي ترك مسجّى إلى جانب الحفرة بانتظار انقضاء الـ 24 ساعة، حسب ما ورد في وصيته:‏

"أطلب من الأصدقاء عدم وضعي في براد الموتى أولاً. وثانياً، أن تتركوني مسجّى في النعش لمدة يوم كامل قبل نزولي إلى المقر الأخير من الأرض. إنها آخر أمنية. أرجو منكم تنفيذها.."‏

كانت ساعات الإنتظار والترقب لتمرير الوقت تنفيذاً لوصية الرملاوي الغريبة، تثير الفزع والأسئلة في النفس. فالحزن الثقيل الذي ضرب الوراق في أعماقه، قد دفعه للتفكير بالقفز إلى داخل الحفرة. هكذا قرأ الماوردي وجهه في تلك الثواني.‏

لكن، وما دام الرملاوي لم ينزل بعد إلى هناك، فمن الصعب على الوراق فعل ذلك، نتيجة للإحساس الجلجامشي أو الشرقي عموماً لدى فقدان الآخر.‏

في تلك اللحظات، تقدم الماوردي وهو يحس وقد تحولت قامته إلى شجرة حمى لتأبين الصديق الرملاوي. فقال بصوت متهدج:‏

"وداعاً يا صديقنا الجميل. ها قد خطفت نفسك منا بسرعة، دون أن تسمح لأحد أن يشاركك قرارك. في رحيلك راحة لك وعذاب لنا. ولكن جل ما أخشاه أن لا تجد مكاناً للجوء في تلك السموات أيضاً. فقل للرب أن يرسل للأرض جيوشاً من الأنبياء الجدد. وأن يحث الزلازل على العمل تحت أقدام الطغاة، ولو مرة كل قرن. قل للرب الذي في الأعالي: لقد أصبح اللجوء للسماء أسهل منه لأي بلد هنا. وإن الأرض التي خلقتها في سبعة أيام، ملأتها الديكتاتوريات باللاجئين في يوم واحد. فلا مواطن يولد ويعيش ويموت على أرض واحدة. فالذي يولد في هذا الوطن، ينتقل للعيش مشرداً في سواه، ومن ثم ليهلك في وطن ثالث.‏

أجل. قل للربّ: أن يحبس النفط. فقد قتلتنا رائحة لحوم أصابعنا المحترقة بنيرانه منذ اكتشافه وحتى اللحظة. وأن يحول الذهب والفضة والماس والمرجان إلى بصاق يسيل في أيدي حكامنا. وقل للربّ أيضاً، أن الديانات القديمة لم تعد تصلح للإستعمال في شيء بعدما استبدلها القائمون على الأرض باليورانيوم وغرف التعذيب. ولا تنس أن تقول له، أنني انتحرت، قبل أن تصله تقارير المخبرين بالفاكس. فقد تتفادى يا رملاوي، حكماً جديداً بالتعذيب هناك.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:45 PM
قل للربّ يا رملاوي..-وأنت تملك الشجاعة الآن أكثر من أي وقت مضى- أن يرسل شمساً لبلدان الاسكندناف، غير هذه الشمس التي لا تسخن عين ديك. فقد تكاد أفكارنا ومشاعرنا أن تصدأ. وثيابنا ووجوهنا أن تتجلد. كما تذكر يا صديقنا، بأن ذوبان الجسد في الأرض، أفضل حالاً من التعفن عليها."‏

تلك الكلمات.. هي آخر باقات الزهور التي نشرها الماوردي على قبر صديقه. ثم أخرج من جيبه كتاباً صغيراً، وألقى به على القبر. "هذا لروحك يا فاتح الرملاوي. فقد يطرد الشعرُ عنك الوحدة في آخر الليل."‏

بعدها اختفى المشيعون من المقبرة، ليظل الرملاوي والدفان وسائق سيارة الدفن ساهرين بانتظار مرور الوقت المحدد في التوصية.‏

سأل الوراق الدفان والسائق إن كانا يحتاجان إلى شيء ما من الطعام، ليجلبه لهما، فرد الاثنان بأنهما قد أحضرا معهما في السيارة كل شيء، وطلبا من الماوردي والوراق مشاركتهما في تناول السندويش والبيرة.‏

"هل لكما رغبة بطعام أو شراب وأنا ملقى في التابوت أيها الأوغاد؟" أجل. هذا ما سيقوله الرملاوي عنك وعن الوراق. لكن الضجر وثقل الوقت قتلا مثل هذا التفكير السيء. فجلس الأربعة يكرعون البيرة ويلتهمون السندويشات بنهم.‏

-هل يقربك الميت؟ سأل الدفان الماوردي‏

-أجل. إنه صديقي.‏

-الأصدقاء عندنا لا يملكون الرغبة بالسهر على توابيت بعضهم. بل إن الأبناء لا يكلفون أنفسهم"مشقة" إلقاء وردة على جثث آبائهم.‏

-ربما لأنهم لا يريدون إلقاء ثقل ما، لإزعاج أرواحهم الطيبة! قال له الوراق بلغة التهكم.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:46 PM
ضحك الجميع. فقام الدفان بالضغط على مفتاح الراديو، لتنبعث منه موسيقا صاخبة.‏

"تعالوا نحول المقبرة إلى ديسكو. فربما ينهض بعض الموتى للرقص معنا الليلة. أقصد، ممن استراحوا كثيراً. أو على الأقل لنرقص من أجل روح صديقكم؟!!"‏

عندما نطق الدفان الدانماركي بتلك الكلمات، شعر الماوردي بتلك الحكمة القديمة:"يوم لك. ويوم عليك." فالعفوية التي يتمتع بها الدفان هذا، دفعته إلى قول ذلك بالبداهة الأولى. صحيح أنه لم يقرأ للإمام علي بن أبي طالب شيئاً.. ولكنه يشعر بأن كل ساعة لها ما يناسبها. وها هو يرقص في المكان الذي سيبتلع جسده في الغد، دون خوف أو رهبة. بل، ليس هو وحده من يرقص، فهناك الوراق والماوردي وسائق عربة دفن الموتى.‏

عند الرابعة فجراً.. سيطر النعاس على الماوردي والسائق والدفان. فقد أغلق النوم عيونهم بصخور ثقيلة. فيما بقي الوراق متلاطماً بين الأمواج. يغفو قليلاً، ويستفيق. كأنه كان يكابر في مقاومته للنعاس، ربما لإثيات صداقته للرملاوي من باب التطرف على سبيل المثال. خاصة وأن الرملاوي في يومه الأخير.‏

"لا يصح أن ننام في وقت واحد. لا بدّ من حارس لنا في الليل. وها أنتَ لا تستطيع فعل ذلك الآن يا رملاوي. اترك هذه المهمة لي. وتصبح على خير يا صديقي!!"‏

هكذا سقط الوراق هو الآخر في النوم، بل راح يحلم. بل ويقوم بعمل المونتاج للغة أحلامه أيضاً!‏

عندما نشرت الشمس شيئاً من أنفاسها على الأفق. كانت الساعة قد بلغت التاسعة صباحاً. حيث استفاق الماوردي ليرى المفاجأة الكارثة: نعش الرملاوي مفتوحاً!!؟‏

"بحق السماء.. كيف يسمح الموظف المسؤول لنفسه، القيام بدفن جثمان الرملاوي أثناء نومي؟"‏

فهرع إلى القبر لإستطلاع الأمر. إلا أنه لم ير شيئاً في داخله. فقد كان هو الآخر فارغاً. فأطلق صرخة عالية سحبت الجميع من مضاجعهم.‏

-"ما الأمر؟"‏

-"أين الرملاوي يا ناس؟"‏

فوقف الجميع بذهول يشوبه الرعب. لم يستطع أحد تصديق ما حدث.‏

"ستفصل من وظيفتك أيها الدفان المتعفن" هكذا شعر الوراق بالمسؤول عن عملية الدفن، وكأنه يقول لنفسه ذلك، حينما أخرج التلفون الخلوي من جيبه وراح يضغط على الأرقام ليحدث المسؤولين عما جرى.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:46 PM
قال الماوردي لهم:‏

عندما كنت ساقطاً في النوم.. رأيت الرملاوي خارجاً عليّ من نعشه وهو يبتسم ابتسامة المنتصرين. رفع لي يده وحياني دون كلمات محددة. وبعد ذلك بدقائق، كأني سمعت صوتاً يقول: لقد حان وقت الطيران يا ماوردي. فقد أصبحت أنا فوق. فيما لا تزال أنت في جحيمك السفلي. أنظر. فقد تقمصت هيئة الطير الذي فوق رأسك الآن!‏

بعد أن أنهى الماوردي روايته.. رفع الأربعة رؤوسهم، وهم يحلقون في سرب من الطيور كان في الأعالي. إلا أنهم لم يعرفوا، ما إذا كان الرملاوي واحداً منهم، أم هو في سرب آخر مضى؟؟!‏

لم تمض نصف ساعة، حتى كانت سيارة البوليس في الموقع، من أجل معاينة ما حدث. فقامت الشرطة باستجواب الماوردي والوراق والدفان وسائق عربة الدفن.. استمعوا لإفادات الجميع، وهم في حيرة من الأمر. فسأل الوراق شرطياً، عما إذا كانت بعض الحيوانات المتوحشة تعيش في المنطقة، أم لا. فنفى الشرطي ذلك بحزم.‏

فأخذ الماوردي رأسه بين يديه.. ليمنع عنه الإنفجار:‏

ها نحن في مأزق جديد. بل في ورطة عجائبية ستجعل منا مهزلة بين الناس. من سيصدق بأننا فقدناك للمرة الثانية، وبهذه الطريقة. أن يطير بيننا ميت من نعشه في لحظات من الغفلة والنعاس؟! بل. لإننا لو قلنا ذلك، فسيعمل على تكفيرنا البعض من العباد، سيقول عنا هؤلاء: بأننا جعلنا من ميتة هذا المخلوق القادم من جنوب تلك البلاد، حالة ترتقي لتلك التي تم بها صعود السيد المسيح. أو لمثل ما حدث للإمام المهدي المنتظر في غيبته الكبرى.‏

أجل. سيرجمنا كل هؤلاء بكلمات أشد ثقلاً من الصخر. لكن.. لماذا لا نقول بأن أحداً ما استطاع سرقة وإخفاء الجثة في مكان بعيد؟ أو أن حيواناً مفترساً لطش الرملاوي، ليتمتع بلحمه؟‏

ما أدرى الشرطة بما تخفيه هذه المقبرة المرمية تحت أهداب هذه الغابة الكثيفة المترامية الأطراف؟ هل لدى دوائر البوليس سجلات بأسماء جميع المفترسين والمفترسات التي في هذه البلاد؟‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:47 PM
كان يا ما كان.. في قديم العصر والأوان. كان للسلطان بقرة وحيدة في البلاد تُحلب. وذات يوم جف ضرعها فجأة، ولم تعد تلقي الحليب في السطل. داخ السلطان من الكارثة لأسبوع. ولم يعد يحتمل الأمر، فقام باستدعاء كبار مستشاريه إلى القصر، لينظر في المحنة التي هو وبقرته فيها.. خاصة وأن العلماء من مختصين في شؤون البيطرة والحكمة والمحبة والزراعة والسياسة والمعادن والسيكولوجيا، قد فشلوا بالتوصل إلى علاج للخروج من تلك الدوامة-المؤامرة التي تجلب النحس والفأل السيء، حسبما كان السلطان يعتقد، هو وحاشيته العلمانية.‏

وجاء الاقتراح: أن يستدعي للقصر شعراء البلد، فيشدوا التعاويذ الشعرية في حضرة البقرة، عسى أن تخرج الأخيرة من عنق الزجاج، ويتم لها الشفاء مما يلمّ بها.‏

في اليوم التالي.. وضعت البقرة على كرسي ضخم كبير في صدر بهو شامخ. خلفها أعلام ورايات ترفرررررف. فيما وقف حولها الشعراء، وكل يحمل"مايك" في يده، منشدين التعاويذ والأناشيد والأغاني الحماسية الثاقبة، بمصاحبة فرق الدبكة والنفخ والنحاس.‏

دام الحال هكذا على مدار أسبوع من الزمن الإحتفالي، دون أن يعود الحليب إلى رشده، وتتحسن صحة البقرة. فتسلل الحزن إلى قلب السلطان، وخُشي عليه من مفاجأة قد توقف أو تعطل المضخة التي يعمل قلبه أصلاً بموجبها.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:47 PM
فأمر بنزع البقرة من كرسيها ووضعها داخل ضريح من زجاج. وأبقى الشعراء في أماكنهم، وهم يكتبون وينشدون ويجترون ما يسقط من خراطيمهم.‏

وماتت البقرة. فطلب السلطان نساء البلاد، أن يحضرن إلى قصره يومياً، ويحلبنَ أثداءهن أمامه لوضع الحليب.‏

حاول الماوردي مسح تلك البقعة الحمراء التي ظهرت على ورق الكتاب أمامه فجأة، لكنه فشل بذلك."أي نبع هذا الذي تفجر على الصفحات؟"‏

نهرَ الماوردي نفسه بشتيمة راقية. وغادر الكتاب دون أن يأخذ منه نظراته.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:48 PM
(18)‏

وافق الثلاثة على قبول دعوة مورغ للذهاب للريف، وزيارة عائلتها. وهي فرصو لإنقاذ الوراق من الصدمة التي خلّفها انتحار الرملاوي في أعماقه بعد مضي أكثر من شهرين، كما رأى ذلك الماوردي ومارينا. فالريف في نهايات الصيف، قد ينعش أو يريح الذهن ويطرد من الذاكرة الصدأ على حد تعبير مورغ.‏

"الراحة. إنها فتاة طيبة، لا تعرف شيئاً عن أحزان الشرق المستعصية. فقد لا يعتقد البعض هنا، بأن الشرقي يصاب بالحزن أو الرعب عن طريق العدوى. كالإصابة بالأنفلونزا في بدايات الشتاء تماماً. وبأننا ندفن آلامنا بعيداً، كما تفعل السلاحف ببيوضها. كأنها لعنة وسقطت على رؤوسنا إلى الأبد."‏

كان الماوردي يشير بذلك إلى كلمات صديقته التي يقف وإياها على رصيف البوابة الخلفية لمحطة القطار الرئيسية في كوبنهاغن، بإنتظار الوراق وصديقته من أجل الرحلة الاستجمامية.‏

"وكذلك تستطيع أن توفر لأصدقاؤك فرص الراحة والاستجمام وأنت في قبرك يا رملاوي!" كأن الماوردي كان يلوم نفسه على قبول الدعوة لزيارة الريف ونسيان ما حدث. فالأحزان العميقة، لا يتم قشطها بمثل ما تفكر فيه فتاة دانماركية مثل مورغ.‏

وفيما هما ينتظران قدوم الوراق وصديقته، مرّ الهبش بسيارته المرسيدس الجديدة ومعه بعض مرافقيه. فهزّ الماوري رأسه. ربما من سخرية القدر الذي جعل العاصمة تختنق بمثل هذه النفايات المتحركة في كل مكان.‏

"وما أدراك. فربما يعجبهم هذا الطراز من المخلوقات؟!".‏

وبطريقة هي خليط من القسوة والفجاجة، أمسك الماوردي مورغ من يدها وصرخ بامتعاض:‏

"أتعجبكم رائحة هذه المزبلة الأنيقة التي تركب المرسيدس البيضاء تلك؟".‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:49 PM
لم تعرف مورغ هدف الماوردي بالضبط، إلا أنها أدركت من أن شيئاً ما قد شقّ شبكية عينيه. وعندما عرفت شيئاً من قصص الهبش، سرعان ما سألته مبتسمة:‏

"هل أنت غاضب حقاً من هذا الرجل؟ إذا ما فعلت ذلك، سأتهمك بالعنصرية!"‏

ثم ارتفعت ضحكتها عالياً، ويبدو أن الرسالة الذكية قد وصلت إلى ص.ب ذهن الماوردي بسرعة. فبادرها بالإعتذار عن غلاظته وقلة تهذيبه.‏

جلس الأربعة قبالة بعضهم في القطار. وبدأ الوراق واهن الجسم حزيناً. إنه لم يتخلص من آثار الصدمة التي رماه في قعرها الرملاوي. هكذا كان الماوردي يشعر. بل إنه متيقن من الحالة المأساوية التي فتح أبوابها علينا الرملاوي، ورحل. كأن هذا ما كان ينقصنا!‏

اسمع يا وراق. قال الماوردي وهو يطلب من الجميع الإصغاء إليه:‏

ذات يوم.. هبت عاصفة قوية. وفيما كان رجل ما يقطع الغابة باتجاه منزله، سرعان ما شعر بشيء يقع على المظلة التي كان يقي بها رأسه من المطر. إلا أنه اكتشف بأن ما سقط على المظلة ليس سوى عش لغراب. فقذف به إلى الأرض وبشيء من النرفزة، سحق تلك البيوض التي كانت فيه. ثم انطلق ماضياً.‏

آنذاك.. رأى الغراب-ويبدو أنه صاحب العش- ما فعله الرجل. فقام بملاحقته، حتى استدل على منزله. وبمرور الوقت يكتشف الرجل أن أذرق الغربان بدأت بالتكاثر والانتشار في حديقة البيت وأمام باب المنزل. الأمر الذي اضطره للقيام بأعباء إضافية من العمل، تهدف للتخلص من كميات السلح الذي تخلفه الغربان في مختلف الأمكنة، وعلى حبال الغسيل التي امتنع عن تعليق الملابس عليها كذلك.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:49 PM
وعندما تأكدت الغربان بأن ما تفعله بالمنزل لا يعتبر بمثابة انتقام جدي منه، قررت ملاحقته أيان ذهب، وإغراق رأسه بالذرق. ففعلت ذلك بكل ما لديها من نشاط وسلح. وهكذا بدأت المعركة: كلما خرج الرجل من منزله، سرعان ما هاجمته الغربان بإلقاء الذرق على رأسه. وحينما يقوم باستخدام المظلة، سرعان ما يتراكم السلح على سطحها، فتتحطم من الثقل، وهي تسيل بالذرق التي تبعث تلك الروائح المقززة من كل جوانبها. بحيث أصبح الرجل مثار تندر واستغراب الناس وتعليقاتهم الساخرة، بل والخبر الأول في حكايات الصحافة الذي يسبق الأخبار السياسية في نشرات الراديو والتلفزيون. حتى أن مخرجاً سينمائياً حاول إقناع الرجل المطارد، بفكرة انتاج فيلم على غرار فيلم"الطيور" الذي صنعه المخرج هيتشكوك.‏

إلا انه رفض العرض، وقرر الإنتقال إلى مدينة أخرى. فركب القطار ذات فجر لتنفيذ الفكرة للخروج مما حل به. ولكنه، سرعان ما شاهد من نافذة القطار، أسراب الغربان المحلقة وهي تطير ناعقة فوق المقطورة التي يستقلها. وما أن وضع أقدامه في محطة المدينة الجديدة، حتى هاجمته الغربان، وهي تلقي بالذرق فوق رأسه من كل صوب، وكأنه تلك الدريئة التي يتدرب الجنود عليها بالذخيرة الحية.‏

"أية رائحة لجسدك يا ابن الـ.... لتُطبع في حواس الغربان، وبأكثر مما تفعله تلك الروائح في أنوف كلاب البوليس؟؟"‏

لم تنته الأزمة بشرف ولا دونه.. فأقفل الرجل عائداً إلى منزله الأول، مقرراً تقديم طلب إلى البنك بهدف الحصول على قرض لشراء سيارة.‏

"يمكن أن يكون ذلك حلاً من اللعنة التي تلاحقك. بعدها، لتذهب الغربان وبيوضها إلى الجحيم!".‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:50 PM
ركب الرجل السيارة الجديدة متوجهاً إلى عمله في اليوم الأول من تحقيق حلم نيل هذه الآلة الواقية. إلا أنه رأى أسراباً من الغربان تحلق فوق السيارة، ومن ثم لتبدأ بمهماتها. وأين؟ على البللور الأمامي. فحاول المناورة بالتسلل إلى الطرق الفرعية، إلا أن الملاحقات لم تكف. فضغط على دواسة البنزين باتجاه الطريق الزراعي، إلا أن ماسحتي الزجاجة الأمامية سرعان ما تتوقفان بفعل سماكة وكثافة الذرق التي أمطرت السيارة. فحاول إخراج يده من النافذة الجانبية ليقوم بمسح السلح مستعيناً بقطعة من القماش، غير أن السيارة سرعان ما تنحرف عن الطريق، وتستقر في هاوية، شعر بها، وكأنها معدّة له منذ أن تقدم بطلب القرض للبنك!"‏

تطلع الثلاثة إلى الماوردي، وكأن الطيور على رؤوسهم من الذهول الذي بثته القصة التي اخترعها لتسليتهم. إلا أنه قطع صمتهم الحزين ذلك، وتطلع إلى وجه الوراق الذي نبت الحزن عليه، قائلاً‏

"أوليس هذا ما تفعله بك غربان الرملاوي يا عزيزي؟" موجهاً الكلام للوراق.‏

فأطرق الوراق رأسه مستسلماً لصحة ما أورده صديقه الخبيث الماوردي، مع ابتسامة تكاد أن تكشف عن خيوطها بشق الأنفس. فيما الحمامتان الدانماركيتان"مارينا ومورغ" تدققان في ملامح هذين الرجلين الشرقيين، وكأنهما تسبران أغوار كثبانين من الرمال المتحركة.‏

نظر الماوردي إليهما وغرق في تلك السحابة المعتمة:‏

"كيف أوقعت الحمامتان بنفسيهما داخل الشركين المعقدين. كلا. أي شركين؟ قل كتلتين من الصخور الغرانيتية التي تتطلب من الجيلوجيين الكثير من الوقت، لتحديد مكوناتها. نعم. أوليس حزن الشرق مثل تلك الصخور التي تراكمت من القهر والتعذيب والنفي والسجن والدم والحروب على امتداد أكثر من خمسة آلاف عام؟ خمسة آلاف عام نعتبرها حضارة وتفرداً؟!!"‏

كان القطار أشبه بسهم ناري قذفه عملاق من عمالقة روما القديمة، ليشق حقولاً أجمل من تلك التي رسمها الفنان فان كوخ في لوحاته.‏

المستحيلة
08 Mar 2006, 11:50 PM
الله يسلمك كديميس .. نفصل النت ونقرا برواقه ..
ياهلا بابو محمد ..

كديميس
08 Mar 2006, 11:50 PM
"فان كوخ والرملاوي! ما القاسم المشترك بينهما؟ لا تفكر. فكل له مرارته الخاصة. وكل منهما ترك ظلالاً من الكآبة على القلب. الكآبة التي تتحول إلى أفاعٍ من الأسئلة تلبط في الأعماق. أو إذا ما ضاقت بها مساحة الروح، سرعان ما تخرج من البلعوم مخلفة وراءها الجثة. والأسئلة!؟".‏

ثمة رغبات كانت تحلق فوق رؤوس الأربعة أشبه بتلك الصحون الطائرة التي يتحدث عنها البعض، ولم ير أثرها الملايين من البشر. فقد كانت حركة القطار، ربما هي التي تسبب مثل ذلك الشعور.‏

فجأة. يمسك الوراق صديقته من يدها، وكأنه يلتقط حبلاً ما للنجاة. ممن؟ هو الآخر لا يعرف. فقد فعل ذلك دون شعور منه، وهذا ما دفع مارينا بأن تأخذ رأسه بين ذراعيها وتشده إلى صدرها‏

"تريد له أن يتنسم رائحة صدرها، بدلاً من الدخان الذي بات يتشكل في المقطورة على شكل دوائر وطبقات. ربما تعرف هذه المرأة كيف تعيد الرجال إلى مراحلهم الأولى. فرائحة صدور النساء كرائحة الدموع، كفيلة بإعادة الأعصاب البشرية وسواها إلى الدارة الطبيعية. فتلك الرائحة تغسل البشر من متاعبهم."‏

"اللعنة على فلسفتك يا ماوردي. كف عن التحديق عبر النافذة. انتبه إلى البنت التي ابتليت بك وبأفكارك وجنونك. فأنتَ لست بالذاهب إلى المدرسة لتقديم الامتحان. لا تتطلع إلى تلك الطيور البعيدة. فلن تكون واحداً منها مهما تقمصت الدور. لا تمني نفسك بأن تعود مثلها إلى الموطن الأصلي بعد الهجرة. فالمهاجر الجديد، لا عودة له للمسلخ مرة أخرى. مثله مثل الخروف الذي تسنح له فرصة للهروب من سكين الذبح. يا أيوب!‏

وحتى لو سمح الزمن وحدث لك شيء من ذاك القبيل، فتسقط وأنت تسعل دمك عند مفترق أول الحدود. فبنادق الصيد تترصد كل شيء هناك. كلا. أية بنادق صيد! لقد تطورنا يا عم. فصار صيد العصافير والسمان في عالمنا الثالث. بواسطة الكلاشنكوف والـb7. وربما الأسلحة الثقيلة حتى!!"‏

عندما هدأت سرعة القطار. وزمجرت عجلاته، وهي تعض حديد السكة. نزل الأربعة كي يستقلوا سيارة كانت بانتظارهم في المحطة. إنه والد مورغ الذي رحب بالجميع، وراح ينهب الطريق الريفي على الرغم من نظاراته السميكة التي تحجب اللون الحقيقي لعينيه.‏

"هل معرفة لون عينيه مهم إلى ذلك الحد؟ أجل. ولكن قد يكون لونيهما مثل لون عيون مورغ. بالتأكيد."‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:51 PM
فتطلع الماوردي إلى عينيها متفحصاً. فسألته إن كان يشغل رأسه بشيء. فأجابت نفسها:‏

"بالتأكيد. حتى لو لم يكن من شيء، فلا بد من إيجاده بأسرع الطرق!"‏

"يا للربّ. سنتعلم الكثير!"‏

قالتها مورغ وهي تهم بمغادرة السيارة التي توقفت عند باب البيت الريفي الذي تحيط به أشجار التفاح واليوكالبتوس والكرز والجوز. حيث تلقفتها أمها معانقة، بعدها لترحب بالضيوف وهي تقودهم للداخل.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:52 PM
(19)‏

لم تكف السيدة غريس والدة مورغ، ولليوم الثالث عن الحديث حول مميزات العيش في الريف. وكيف أنها تجيد صناعة الخمر الأحمر والتطريز على القماش. وكان الماوردي والوراق يهزان براسيهما، كما تفعل الكلاب بذيولها، للتوكيد والموافقة على صحة ما تقوله السيدة الأنيقة. "يا للعنة.."‏

قال الماوردي ذلك، عندما كررت والدة مورغ على مسامع ضيفيها موضوع صناعة النبيذ الذي تعده بنفسها. سألها الوراق برغبة كاذبة إن كان بالإمكان إحتساء كأس عاجل منه للتعمق في تذوق طعمه من جديد. كافضل طريقة لمنع السيدة من الاسترسال. فردت بتهذيب وخفر:‏

"الآن. لا يمكن أن نقدم لكم شيئاً، لئلا نفسد عليكم السهرة. بعد قليل، سيكون كل شيء جاهزاً." ومضت تبحث عن ابنتها كي تساعدها بنقل الطعام إلى طاولة السفرة.‏

"هذا الصفاء، هو جزء من الصحة في الريف." قالت مارينا وهي تنظر في وجه الوراق.‏

"بالتأكيد. وهو ما يبعث على الراحة والأمان على الرغم من أحداث ومزاجية الطقس" أجابها.‏

"ما رأيك يا ماوردي؟" فتحرك الأخير في مقعده وهو يتابع مورغ بنظراته قائلاً:‏

"أعتقد بأن الطقس في الريف الدانماركي، يغذي سكانه بغير ما يتغذى عليه الآخرون في المدن. فقد تتدخل الأمطار هنا، لتغسل كل شيء: الأرض. النفس. الروح. القلب. الدماغ. أي أنها تجري أشبه بعملية تطهير شامل على حد سواء. فالمناخ في كل بلد، يؤسس نظامه الخاص، اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً. ومتى ما تزعزع ذلك النظام في بعض حلقاته، صار انتحاراً وعزلة ومرضاًَ."‏

هكذا يبدأ الحديث في بداية كل ليلة، ليصل بعدها إلى ذرى لا يعرف مداها الجميع." "الزعزعة.. هذا ما بات يحدث عندنا بالضبط." علقت مورغ، وكأن في نفسها الشيء الكثير من الأسى، تعقيباً على ما قاله الماوردي.‏

عـــلاوي
08 Mar 2006, 11:52 PM
مشكوور اخوي كديميس على موضوعك مجرد تسجل حظور ولي عودهـ لقراه موضوعك كاملا

.... يعطيك العافيه ...

كديميس
08 Mar 2006, 11:52 PM
"أهلاً بشموعنا الإضافية."‏

رفع الأب أريك كأسه ليشرب نخبهم. فيما بدا الإرتياح واضحاً على الجميع، وهم يتحلّقون حول طاولة المائدة‏

"كيف طعم النبيذ يا وراق؟" سألته مورغ .. مضيفةً‏

"حتماً ستقول إنه جيد وفاخر. هذا إذا كانت لديك خبرة طيبة بتذوق أنواع النبيذ!"‏

تطلع الوراق إليها بحنو زائد مجيباً:‏

"إنه رائع. ثم يكفي أنه بالمجان!"‏

قالها، وهو يحاول صنع شيء من الدعابة. ولكن.. سرعان ما جاء الرد قاسياً من السيدة:‏

"كلا. الأشياء المجانية عادة ما تكون رديئة أو فاسدة أو سيئة. ونبيذي ليس من تلك الأشياء التي تقدم بالمجان."‏

أحس الوراق وكأنه تلقى لطمة."هل ندفع الثمن بعد ذلك؟"‏

فحاول الرد والاعتذار وتفسير ما قاله، إلا أنه خشي الوقوع في مطب قد يعكر صفو البروتوكول في هذا البيت.‏

أحست مورغ بالحرج الذي بدا واضحاً على الدكتور الوراق، فحاولت أن تتولى التوضيح.‏

"قصد أمي.. أن سعادة ابنتها له ثمن. وهذا ما يدفعه الماوردي."‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:53 PM
تمسح بيدها على شعره وكأنها تفعل ذلك مع قط.‏

"أليس كذلك يا عزيزي؟" تسأل الماوردي وهي تضحك.‏

رد الماوردي وهو يرفع كأسه عالياً:‏

"ولكن نبيذك ليس بأفضل من طعم ابنتك يا سيدة غريس."‏

تضحك السيدة سعيدة من هذا المديح الرائع وتعلّق:‏

"ولكن مورغ مُخمرة أكثر من النبيذ بمائة عام."‏

في تلك الأثناء، كان أريك يتفحص الماوردي من خلف نظارته السميكة. يقرأ تفاصيله وحركاته بجميع حذافيرها، وكأنه جنرال يتفحص بندقيةً لجندي يخوض حرباً.‏

"ولم لا.. ألست أنت الماوردي الذي غزوت محتلاً ابنته التي تعسكر في عقلها وجسدها؟ أريك معه حق."‏

فجأة ودون سابق إنذار، انفجر الماوردي بالضحك.‏

مما أثار شقاً في السكون الكلاسيكي للمنزل، ومُحدثاً دهشة وذهولاً لدى الجميع، وهو ما دفعهم لترك ما بيديهم من شوكات وسكاكين وكاسات، فراحت عيونهم تنغرز كالأوتاد بعينيه. فهؤلاء يطلبون تفسيراً لهذا الذي فعله الماوردي. لم يقل أحدهم لماذا ضحكت. بل كان كل واحد منهم بانتظار تفسير لتلك الضحكة المدوية.‏

فقال لهم:"أترغبون حقاً.. لماذا أخذني الضحك على حين غرّة؟"‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:54 PM
لم يجبه أحد. فقال مستطرداً:‏

"لقد أخذتني فكرة فانتازية وقحة طارئة. وهي مشكلة في غاية الحرج والتعقيد: ماذا لو صار العضو الذكري بطول صولجان العم أريك. أين سيكون موضعه؟!"‏

أخذ الجميع ينظرون بوجوه بعضهم البعض من جرأة الماوردي ووقاحته. لكن الوقت لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما انفجرت والدة مورغ بالضحك، لتعقبها العاصفة من جميع الأفواه، عدا أريك الذي راح يبحلق في صولجانه بإمعان، وكأنه يترقب ما إذا كان ذلك سيحدث حقاً، أم لا. بعدها تطلع صوب الماوردي وقال:‏

"لم يتزلزل هذا البيت بكلمات وقحة منذ بنائه. نحن محافظون على تلك الأسس، ولن نتقبل الطارىء!"‏

كانت فكرة الماوردي تقوم على ضرورة كسر الجمود الذي كان يغلف السهرة. فمنذ ثلاثة أيام، كان الجميع كما لو أنهم في مأتم. وعقدة الماوردي، تكمن في عدم الرضوخ لعالم الأتكيت. الذي يعتبره أمراً غير ملزم هنا. ثم إنه يحبس الهواء في الرئتين، فيمكن للمرء أن يموت حتى دون أن يودع العالم بعطسة صغيرة. والمحافظة على التقاليد أيضاً، لا تقوم على حرمان الآخرين من الرغبات الصغيرة. وهذا ما كانت السيدة أم مورغ بحاجة إليه تماماً، كما أدرك الماوردي بالضبط.‏

وعلاوة على هذا وذاك، فقد كانت هندسة الرحلة إلى الريف، تقوم على أساس التقليل من حركة الرمال في الأعماق. فإذا لم يكن بالوسع التخلص من بعضها، فلا داع للرحلة أصلاً. كما ليس بالضرورة أن نحكم على كل عصفور يمد رقبته إلى خارج القفص، بجناية الهروب من واجب تسلية القناصة، ممن تسعدهم رؤية السجون الصغيرة. أو لنقل الذين يتدربون على تشييدها ورؤية العصافير البشرية داخلها في المستقبل.‏

واضاف الأب أريك"الوقاحة.. قد تجلب الشر لنا!"‏

فأجابه الماوردي:"وهل ينطبق ذلك على الخيال والتخيل؟"‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:54 PM
فعلق أريك وهو يحاول التخلص من الشرك:‏

"نحن نتحدث عن اللغة يا أستاذ ماوردي."‏

"ولكن اللغة-أية لغة- سرعان ما تموت دون خيال. فالمخيلة إبداع." رد الماوردي وهو يبتسم.‏

فرد أريك عليه: "لا ضرورة للشرح والتفصيل فالمطلوب منا أن لا نفقد توازننا الأخلاقي."‏

فقال الماوردي: "إذا كانت النكتة وقاحة وخرقاً للقانون الاجتماعي، فما بالك بالشذوذ الجنسي والأيدز وبجرائم الأباء الذين يضاجعون بناتهم. والأبناء الذين يمارسون الجنس مع أمهاتهم؟ هل النكتة أخطر من هذا الطوفان الذي يكاد أن يغرق البلد؟"‏

هنا، أخذ أريك رأسه بين يديه كمثل شخص أحس بدوي في دماغه. ولكنه أخفض يديه وقال:‏

"أنامعك. وهذا مايؤذيني جداً. نحن لسنا في المدينة الفاضلة. كل ماتناولته في حديثك ليس سراً. فالتلفزيون يعرض ذلك. والصحافة والراديو والندوات والمؤتمرات تناقش مايحدث. وربما نعجز عن إيقاف هذه التجاوزات الأخلاقية في فترة زمنية قليلة. ولكن ماذا سنفعل أمام مثل هذه المعاصي. فذلك هو السؤال."‏

يقاطعه الماوردي: "الجرائم. لاالمعاصي كما أجزم."‏

يدخل الوراق على الخط قائلاً:‏

"إعادة الإعتبار إلى سلطة العائلة. ولاأقصد السلطة الديكتاتورية بالطبع. فالحرية التي تلد الوباء، لالزوم لها."‏

"وهل تعتقد بقدرتنا على إعادة البلد إلى النقاء القديم؟" أريك يسأل الوراق.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:55 PM
فيجيبه الأخير بعينين مفتوحتين:‏

"لاتبحثوا عن النقاء اللاهوتي في بداية البحث عن الحل، بل العمل على سد ثقوب السفينة قبل أن تصل القاع بما تحمل!"‏

كانت مورغ بين الفينة والأخرى تتطلع بمارينا، كأنها تقول لها: "انظري إلى الاثنين وهما في حماستهما المجانية!!"‏

أجزم. إنها كانت تقول لها ذلك. أو قد تكون تفكر بأن ليس من المهم فتح بوابات الجحيم على مصراعيها. فيما كانت مارينا ترد عليها: "صحيح.. ثم ما سبب إهتمام الماوردي والوراق بما يحدث هنا؟ أليس هو بلدنا ونحن أحرار بتقرير مصيره، وبالطريقة التي نراها مناسبة، سواء بالأيدز أو بجهنم!! أم خوفهما من أن نهلك؟"‏

هكذا.. كان الماوردي يقرأ البخار الذي يتطاير من من عيون الفتاتين. كمثل ذلك البخار الصاعد من قطعة قماش تحت مكواة ملتهبة. ولكن لا بد من إيقاف الحماس الشرقي الدائم. فنحن، ولأتفه الأسباب نؤلف نظرية. ونضع لها الهوامش في الحاشية. أية حاشية تكون أمامنا، حاشية التخت. حاشية الحذاء. حاشية الرصيف. حاشية الهواء!‏

فعندما يغرق الرأس بالأسئلة، نشعر بأن طوفاناً ما، قد بدأ الزحف بين أقدامنا. فنحن نشم ذلك قبل الجميع، تماماً مثلما تطلق بعض الحيوانات أصواتها، معلنة عن مواعيد حدوث الزلزال.‏

تناول الماوردي كأسه ونهض متوجهاً نحو كرسي الأب"أريك". فقبله من رأسه وكأنه يعتذر عن شيء ما قد حدث. الضحكة الأولى مثلاً. قصة الصولجان. أو الحديث عن الأخلاق والطوفان القادم. أجل، ربما عن كل الأشياء مجتمعة.‏

كان يفكر بعدم جرّ حمار النكد وإدخاله للسهرة. وهو ما دفع أريك للابتسام له، والقيام بطبع قبلة على خده. فسأله الماوردي إن كان لديه مانع يحول دون الإستماع إلى شيء من الموسيقى. فرد أريك بالنفي. الأمر الذي دفع السيدة والدة مورغ بإحضار بعض أشرطة التسجيل. فأثنى الماوردي على مبادرتها وطلب منها إختيار ما ترغب أن يكون مناسباً للسهرة.‏

ففكرت قليلاً، ثم دست أحد الأشرطة في فم الجهاز، لتنبعث منه تلك الموسيقى الراقصة.‏

تجاوزت الساعة الثانية فجراً.. وقد أصر الماوردي أن يختم السهرة برقصة مع الأب أريك الذي بدا عليه بعض التعب من الشرب والسهر ربما. فهذا هو اليوم الأول الذي يخالف فيه قواعد النوم والشراب والحركة والحديث منذ أكثر من ثلاثين عاماً، قضاها بالتزاماته الصارمة التي يطلق عليها بـ"سجن الحكمة".‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:56 PM
(20)‏

عندما استفاق الأب"أريك" ظهر اليوم التالي، وجد نفسه مرمياً على الصوفا في صالة الاستقبال! بعد السهر الطويل. والخمر الكثير. والرقص، ها أنت يا أريك، تستطيع أن تضيف لقائمة المحظورات مخالفتين جديدتين: النوم خارج السرير. وعدم النهوض مبكراً.‏

"اللعنة على الماوردي! من أين سقط هذا الرجل علينا، ليهشم أسس بيتك الذي شيدته طيلة أكثر من ربع قرن. بل ويجعلك مذاباً في الفوضى كفص الملح في ثلاث ليالي! لقد فقدت الهيبة أيضاً، فأصبحت تنام كـ"البتلز" على الأرصفة. أجل. أليست الصوفا رصيف المتشردين في عالم التسكع كما كنت تقول ذلك في السابق؟"‏

كان أريك قد ردد هذه الكلمات، وهو يحاول الهرب إلى غرفة النوم من هذه الفضيحة، كي لا يراه أحد فيلحق به"العار"! وعندما فعل ذلك وأصبح داخل غرفة النوم، لم يجد زوجته هناك. فأزاح ستارة الشباك المطل على الحديقة بحثاً عنها، إلا أنه رأى امرأة أخرى. كانت ترتدي فستاناً من الموسلين الأحمر، مناسباً ومكياج وجهها، أجل. إنها غريس. جالسة على كرسي، فيما استعملت الآخر لتضع ساقيها العاريين عليه.‏

"من. ألست غريس بحق السماء؟!!"‏

أطلق تلك الكلمات وهو يهرول نحوها ككرة من النار عبر المدخل الخلفي للبيت. وعندما وقف أمامها متأملاً. قال بخفوت وكأنه يتفتت:‏

"أنت!" وسحبها نحو صدره فمدت له فمها للتقبيل.‏

يا للوقاحة !هنا في الحديقة. وفي وضح النهار؟"‏

لقد إمتنع أريك عن فعل ذلك، فراح يتلفت برأسه. إلا أن غريس، سرعان ما سحبته إلى حضنها وأجلسته على فخذيها قائلة:‏

"لا أحد. لقد ذهب الجميع نحو الحقول."‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:56 PM
فأحس أريك بنار تلتهم أطرافه.‏

"خمسون سنة من العمر أيتها النار. كنت أحسب أنك خمدت". وتلمست غريس الرغبة بيديها. فحاول أريك النهوض وسحبها باتجاه المدخل الخلفي. لكن غريس رفضت مصاحبته إلى غرفة النوم قائلة:‏

"هنا يا أريك!".‏

"لا بد أن الجنون هرس عقلها!" فتردد كثيراً من هذه المبالغة الجنوبية. وقال بصوت مليء بالرجاء:‏

"الطقس قد يضر بصحتي في العراء يا غريس؟".‏

فنهرته أن يكف عن التوسل إليها قائلة بشيء من الإحتجاج:‏

"قرابة الربع قرن ونحن نفعل ذلك في السرير اللعين. حتى باتت ضلوعنا شبيهة بأخشابه. وصار الجنس لدينا كمن يفعل في كومة من الطين."‏

"يا للرب.. من أين لها هذه الشجاعة. بل البلاغة؟"‏

ولم تتزحزح غريس قيد أنملة."هنا. يعني هنا يا أريك. وفي الهواء الطلق بالضبط!"‏

تطلع أريك إلى ما حوله بحيرة وإرتباك... وكأنه كان يفتش عن مفتاح الضوء، ليقطع الكهرباء عن الكون، فيسقط النهار كالجثة المتفحمة. ولكن لا مناص. لأن الفيضان يكاد أن يخنق أنفاسه. فكان الاستسلام لغريس تحت الأشجار العالية.‏

"كلا. هذا ليس استسلاماً يا أريك. فأنت لم ترفع راية بيضاء، كما يفعل ذلك المقاتلون أثناء هزائم الجيوش في أوقات الحروب والمعارك. ولكن! ولكن ماذا يا أريك؟! أن يعتبروا: "كلسونك" الملقى على البلاط، تعويضاً أو بديلاً يغني عن راية الاستسلام في مثل هذه المعركة المفاجئة السريعة!!"‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:57 PM
كان أول سؤال وجهه أريك للعائدين من حقول الصيد، إن كانوا قد ظفروا بغنيمة تستحق الحديث أم لا؟‏

فأجابته مورغ على الفور: "أربعة طيور لعشاء فاخر".‏

إلا أن الماوردي لم يترك أريك ليتقبل الإجابة بهدوء وحسب، بل قال له:‏

"وأنتَ أيها الأب الرائع، ماذا غنمت أثناء غيابنا؟ أرنب أم غزال؟"‏

فضحك أريك للتقليل من خبث الماوردي سائلاً:‏

"أأنتم من كان في حقول الصيد.. أم أنا؟!"‏

فرد الماوردي عليه بسرعة وكأنه يستعجل أمراً:‏

"صحيح نحن من كان يطلق النيران هناك.. ولكن الدخان كان يخرج من هنا!" وأشار إلى البيت.‏

لم تكد مورغ تسمع ذلك. حتى انفجرت ضاحكة وهي تترصد ثياب والدتها والمكياج الذي على وجهها. فيما راحت مارينا ومعها الوراق يكركران، وهما ينتظران ما سوف يرد به الأب أريك على تصريحات الماوردي الخبيثة.‏

إلا أن نهوض السيدة غريس من مكانها، كان بمثابة إعلان خجول لتفادي ما سوف تسفرعنه المناظرة بين الماوردي وزوجها. فقالت مبررة انسحابها:‏

"ساقوم بهلس ريش الطيور"‏

"كلا يا مدام. أنت فعلت ذلك مع البعل. أما نحن، فكل سيهلس ريش طيره بيده!"‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:58 PM
يا للهول.. لقد فجرها الماوردي، وخرج إلى فناء الحديقة بكل ما يملك من برودة أعصاب، مخلفاً وراءه عاصفة تهز البيت بالضحك، حتى أن أريك نفسه، أحس وكأن أمر مضاجعته لزوجته غريس في الهواء الطلق، قد وصلت إلى أنف الماوردي. فنهض نحو المطبخ مسرعاً لتناول كأس من الماء، تخلصاً من الغصة التي إنتابته من جراء الضحك المفاجىء.‏

بينما السيدة غريس التي بدت أقل من عمرها بعشرين سنة، فقد لحقت بزوجها متبخترة كالصبايا اللاتي كنا نطاردهن في الشرق أيام زمان، حتى تختفي آثارهن من طريق المدرسة إلى ما وراء ستائر الشناشيل الخشبية، التي كثيراً ما كنا نسهر أمامها، متذرعين بالمطالعة تحت أعمدة النور المنتصبة في الشوارع.‏

"يا لروعة الدانماركي عندما تتفتح الروح فيه. يصبح مثل نبع يفيض على الطريق."‏

قالها الماوردي في نفسه، وهو يشعر بتلك العفوية التي تملأ أريك وزوجته. وبتلك الطيبة التي تفوح منهما دون تصنع أو نفاق. ويبدو أن الدانماركي، كلما تقدم بالعمر، كلما ازداد تألقاً وصدقاً وصفاءً مع نفسه والآخرين. لا مكان للأحقاد في قلوب هؤلاء. ربما لأن الدانماركيون آخر أنبياء أوروبا حتى الآن. ومن الصعب أن تجد كرسياً للتآمر في رأس أحدهم. على الأقل هؤلاء الذين أمامك. لأن دماغ الإنسان هنا، ليس بالزائدة الدودية التي لدى الآخرين.‏

أما الخوف الذي لدى بعضهم، فليس إلا من انتاج أفعال الآخرين فقط. فـ"الآخرون هم الجحيم" كما قال سارتر ذات يوم.‏

والآخر ليس عبئاً على الدوام، بل يمكن النظر إليه كمصدر من مصادر الإلهام والمتعة والتواصل مع ثقافات وحضارات الشعوب. فالتمتع بنظرية إحكام السيطرة على الأقفال، ليست حلاً. وكل من يغلق الباب ويعتصم في الداخل، يتحول إلى جثة لا تحتمل رائحتها جدران البيت ذاته. خاصة وأن عالم اليوم، غير متحمس للقفل اطلاقاً. وكل من يأخذه هاجس العزلة، سيجد نفسه خارج التاريخ. وعندما يموت التاريخ أو يستشهد في معركة الفراغ، فإن أحداً لا يمشي في جنازته.‏

كديميس
08 Mar 2006, 11:59 PM
هل انتهيت من سينمائيات الفلاش باك يا ماوردي؟"‏

"كيف الطقس في الداخل يا مورغ؟" سألها بمكر وهو يحاول معرفة ما حدث.‏

فأجابته وهي تمط شفتيها مع شيء من الإستغراب:‏

"أبداً. لم يحدث شيء. غير أن أبي قبّل أمي من شفتيها أمامنا! وهي المرة الأولى التي تحدث بمثل هذا الشكل العلني."‏

"أتعرفين يا مورغ؟ نحن نزج بنسائنا في المطابخ، ونمارس كل المعاصي خارج البيت! ترى لمَ نفعل كل ذلك؟ هل من تفسير لحالتنا هذه؟"‏

"ومن تظنني. فرويد؟" أجابته وهي تمسك بيديه لئلا يعود مجدداً للطيران. ثم أضافت:‏

"إذا كنت تعتقد بأن الأخلاق الازدواجية مرضاً، فهو التفسير."‏

فنظر الماوردي إلى بعض الخدوش التي على ركبتيها متسائلاً عما حدث لها. فضحكت بشيء من الخفر وهي تجر له أذنه، ربما لتذكّره بما صنعاه في الحقل عند الظهيرة. فكز على أسنانه كالمتوحش، وراح يطاردها بين أشجار الحديقة.‏

"ما الذي تفعله بنفسك يا ماوردي؟" قالت له مورغ، فيما كان هو يضغط على جسدها المستند إلى جذع شجرة التفاح.‏

"من أجل الطفولة التي غادرتنا مبكراً." صاح‏

"ولكن الذي تفعله مع مورغ، لا علاقة له بملاعب الصغار!" ردت.‏

"نحن نتوتر يا مورغ، بمجرد ملامسة افتقاداتنا. الطفولة. المرأة. الحرية. الحكي. الحلم. النوم. ألسنا من بؤر التوتر في العالم كما يقال عنا؟؟" ضحك الاثنان وهما ينظران للجميع، وقد تحلقوا حول المائدة التي أعدت في فناء حديقة المنزل هذه المرة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:01 AM
حيث جلست السيدة غريس في القميص الخمري والتنورة النبيذية"يبدو أنها لا تخمّر النبيذ وحسب، بل ربما ثيابها أيضاً؟" لتهتف بالضيوف: "نخبكم"‏

فرفعنا الكؤوس كما ترفع السيوف إلى الأعلى.‏

"أليست الكؤوس سيوف الليل يا ماوردي؟"‏

سأل نفسه وهو يتطلع إلى الوراق الذي بدا على وجهه الإشراق هذا المساء. على الرغم من صعوبة وصفه. فالرجال ليسوا أكثر من جذوع لا تصلح لصناعة الموبيليا، بقدر ما هي مناسبة للمواقد في الليالي التي يغلق الثلج فيها القصبات الهوائية. وسوف لا يذكرهم التاريخ بعيداً عن هذا الوصف. فهم للإشتعال فقط. سواء كان ذلك في المواقد، أو التخوت، أو المعارك. أو النصوص الشعرية أو تلك التي تنتمي لعالم الفلسفة المّرة.‏

أما صديقته مارينا، فكانت على يساره أشبه بالفاز المليء بالزهور: الشعر الأحمر. الحاجبان الذهبيان. الخدود الحمراء، وكأن مارينا خارجة للتو من الرحم. والفم الذي زهق البنفسج روحه على شفتيه. والعنق المرمر الذي يعيد الذاكرة-ليست كل ذاكرة طبعاً- إلى عصر مايكل انجلو. أما بقية مارينا، فهي خطوط حمراء... لا يمكن الحكي عنها.‏

كان على أريك-أتكيتياً- أن يرفع كأسه ليشرب نخب الضيوف، كما جرت العادة. إلا أنه لم يفعل ذلك. هذا ما لاحظه الماوردي، حينما بدأت زوجته غريس هي التي تقوم بمثل هذه المهمة بدلاً عنه.‏

"هل دبّ الزعل في رأس الرجل الطيب مني، ونحن في الليلة الأخيرة من الرحلة؟"‏

سأل الماوردي نفسه، وهو يتآكل حيرة. إلا أنه سرعان ما أقنع هذا الذي يتسول الإجابة في داخله، بضرورة عدم الإلحاح عليه كثيراً، خاصة وأنها السهرة الأخيرة.‏

وفيما الماوردي يطيب مشاعر نفسه بنفسه. تحرك الوراق واقفاً، ليشرب نخب الجميع، ثم ليعلن عن قرار مفاجىء بزواجه من مارينا.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:01 AM
"يا للهول. أحقاً ما تقوله يا وراق؟" ويلتفت الماوردي إلى مارينا لمعرفة رد فعلها.‏

"أجل. لقد قررنا ذلك. وهذا أول ما سنفعله بعد عودتنا من العاصمة. غداً".‏

ردت مارينا بتلك الكلمات، وهي ترفع كأسها. واقفة إلى جانب الوراق لتقبيله.‏

"ها أنتما تصنعان المفاجئات الوقحة، الواحد تلو الآخر. الرملاوي ينتحر دون أن يشاركنا بصنع القرار، والوراق ينتحر هو الآخر أمامك، وإن بطريقة مختلفة، دون أن يقول لك ذلك من قبل! أوليس الزواج هو إنتحار كما تعلمت ذلك من الكتب التي أفرزها الأدباء والفلاسفة، ومن الموروث الشعبي الذي تناقلته العامة يا ماوردي؟":.‏

"ليبارك لكما الربّ على ما ستفعلان."‏

هتف الماوردي والبهجة تلقي على كرتي عينيه دمعات شفافة، كالندى الذي يتشكل على أسطحة الورد في الصباحات الباكرة.‏

بدأ أريك وغريس يتهامسان، بعد مباركتهما لمارينا والوراق على هذا الإعلان المفاجىء الجميل.‏

"حتماً. فهو أمر جميل بالنسبة لمارينا والوراق. ولكن ماذا عن ابنتنا مورغ؟ أتبقى متعلقة بهذا المجنون الذي سيستنزف جمالها، يأكلها لحماً.. وربما سيرميها عظماً!"حتماً. كان أريك يقول لزوجته غريس هكذا!!"‏

تنفس الماوردي بعمق. وأبعد عن دماغه شبح أريك وغريس، قائلاً في خلده:‏

"الناس هنا، لا تفكر بالطريقة التي تعتقدها. فما رأيك يا ماوردي، بأن أريك وغريس كانا يحمدان الربّ على أن الوراق هو الذي فعل ذلك، وليس مورغ والماوردي؟!!"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:02 AM
عندما نهضت مورغ لتقبل مارينا والوراق، كانت بذلك قد مسحت من سبورة ذهن الماوردي كل ما كان يُؤلف من تهيؤات. فيما بدأت الكؤوس تناطح الكؤوس. وغبار التجليات يحلق فوق القامات. حت أن غريس راحت تغرز أصابعها في شعر أريك، دون أن يبدي الأخير أي نوع من أنواع المقاومة. ربما هي المرة الأولى التي تتجرأ فيها السيدة على فعل ذلك. على الأقل أمامنا. فالوقار الذي سبق وأن تحدث عنه أريك طوال العمر، سرعان ما قذف به بعيداً، ربما ليستقر في حذاء ما في المستودع. لأن إعلان الفرح ليس نقيضاً للهيبة أو الإحترام.‏

"تأتون من الشرق، ثم تضعون نيرانكم على الورق لنقرأ. فأي إحساس تنتمون إليه؟"‏

يرد الوراق:‏

"نحن ننتمي إلى حاسة القهر!"‏

"بل، ولنقل إلى حاسة الرعب." رد الماوردي مضيفاً:‏

"حتى الله الذي لدينا، هو مختصر للخوف!" ثم وجه كلامه إلى صديقته مورغ:‏

"أريدك أن تشاركيني أفكاري يا مورغ."‏

فردت عليه: "ولمَ لا. إذا كانت صالحة!"‏

"صالحة للشرب. أم ماذا؟" سألها الماوردي وهو يضحك.‏

"للتاريخ يا ماوردي."‏

"نحن ندخل التاريخ بدبابة، ونخرج منه لحماً مفروماً لا قبر له. لذلك ليس بمقدورنا أن نصنع من النفاية تاريخاً."‏

قالها الماوردي وهو يتطلع إلى مارينا التي ردت عليه بقولها:‏

"أشعر بأن السعادة لديكم، كما لو أنها بالون منفوخ بالنار. ولا قدرة لكم على تحملها!"‏

فعلق الدكتور الوراق:‏

"من شدة ثقل موروثنا الدموي. نحن لا نتقبل السعادة بسهولة، بل نعتبرها مؤامرة علينا في بعض الأحيان. هناك شيء من هذا الإحساس. تصوروا ماذا نقول في الشرق بعد الضحك:"اللهم اجعله خيراً" وذلك لإيمان الناس بأن الضحك الطويل سيجلب للمرء البكاء والغم والنكد!"‏

"هل كل هذه الكوارث من صنع حكامكم؟" سأل أريك وهو مكفهر من رائحة العنف التي ربما وصلت إلى أنفه.‏

"كل الذين جاءوا إلى السلطة من الجنرالات. ولو صادف وجاءنا شخص مدني للحكم، فإن أول ما يصنعه، هو القيام بمنح نفسه أعلى الرتب العسكرية في البلاد، حتى لو كان جندياً فاراً، لم يلتحق يوماً بخدمة العلم. لأنه يرى نفسه أكثر خبرة وأفضل قيادة من رومل أو منتغمري بأمور السياسة والعسكر. لذلك صار الدم نبيذ البشر في الشرق!" أجابه الوراق وهو ينتفض‏

"هون عليك يا عريس. وخذ الأمور بهدوء. فليس القصد إزعاجك يا وراق." قال له الأب أريك وهو يربت بحنو على كتفه مضيفاً:‏

"أقصد. عليكم بالديمقراطية. فهي الوحيدة التي تستطيع طرد الشبح وظله."‏

أجابه الماوردي:‏

"الديمقراطية. هل نشتريها من السوق؟" قالها بتهكم، وأضاف:‏

"اسمعني جيداً أيها الأب أريك. الديمقراطية في بلداننا مثل الحصى في الكلية، كلما تتشكل وتنمو، تصبح خطراً يستوجب العمل الجراحي أو قطع الكلية من جذورها لتأخذ مكانها في المزبلة!"‏

"آو.." صاحت مورغ وهي فاغرة الفم.‏

"آو.. فقط يا مورغ؟!" علق الماوردي كمحاولة منه لزجها في الحوار. فردت مارينا ضاحكة:‏

"لا تزعل. ومني آو.. ثانية."‏

الماوردي لمورغ ومارينا معاً:‏

"كأن النساء خلقن للتأوهات فقط!" أليس كذلك أيها الأب الرائع. منادياً على أريك. كي يقطع عليه تلك الأفكار التي ربما راحت تنهب رأسه. فنظرات الحنق التي تتجسد في عينيه، وهو يتفحص مورغ، كأنها تتحدث عن هذه الورطة التي اغرقت ابنته فيها نفسها بعلاقتها مع مخلوق من أمثال الماوردي.‏

"حتماً. فقد ضاق عليه عقله، وبات لا يعرف كيف يوازن ما بين تمثال الكريستال وبين قامة الصفصاف. ثم ماذا في رجل إذا ما صافحته، تسمع رنين حزنه وقيوده الحديدية وهي تنتقل من دمه إلى يديك كالكهرباء؟"‏

أجل. وسيقول مضيفاً في نفسه:"تركنا لكن يا بنات حرية الإختيار لا حرية الإنتحار!"‏

يرد الأب أريك بعد صفنته الطويلة-صار يصفن أيضاً- قائلاً:‏

"أجل. النساء يتمتعن بالتأوه. أليس كذلك يا غريس؟" ويمسك يد زوجته لتختفي تحت شرشف طاولة المائدة.فأجاب الوراق معلقاً:‏

"تأوهات النساء.. صوت الشحنات أثناء تفريغها." فضربته مارينا بعكسها قائلة:‏

"هل يتوجب علينا عدم التنفس أيضاً؟" وهي تغمز مورغ.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:03 AM
فتحرك الماوردي وأمسك بقنينة الخمر قائلاً:‏

"اغسلوا الذاكرة بكأس أيها الأصدقاء، لنفهم بعضنا بعمق أكثر!"‏

فعلق الأب أريك معقباً وهو يرفع كأسه:‏

"بزراعة الأفكار؟!!"‏

فشعر الماوردي بأن الجملة ملغومة. فرد عليه:‏

"هناك الكثير ممن يؤمنون بزراعة الأفكار في الرؤوس. حتى أن شيوعياً فعل ذلك، وعندما حان وقت الحصاد، لم يجن صديقنا غير بقدونس أحمر."‏

تطايرت قهقهات الجميع. فأحس الماوردي بالملل من القعود إلى المائدة. كأن رغبة ما قفزت في صدره من أجل الهرولة. نظر إلى خارج السياج، فكان الليل قد وضع أوزاره هناك. فترك تلك الرغبة تسقط من صدره، فعاد إلى الشرب والهمس في أذن مورغ. أيضاً، ليس الجميع وحدهم، ممن لم يعرفوا تلك الكلمات التي كان الماوردي يسكبها في أذن مورغ، بل هو كذلك!‏

فيما مورغ تنصت له بكل حذافيرها الداخلية والخارجية. وعندما بدأ صوت السيدة غريس بالغناء الهادىء، كفّ عن ثرثرته السرية وراح يتأمل السيدة الرقيقة، وهي تطلق صوتها من الفضاء مرددة أغنية قديمة. إنها تعزف على كمنجة ذكريات كانت لها. هكذا عرف الماوردي من مورغ. وعندما بدأت غريس بالتجلي، شاركها الجميع طقسها القديم. حيث راح أريك بالإقتلاع من جذوره، وهو يتطاير إلى البعيد البعيد.‏

"أليست الذكريات تقتلع المرء اقتلاعاً من المكان الذي هو فيه، لتعيد إليه أيام أو قرون الماضي؟"‏

سأل الماوردي نفسه.‏

وأجاب:"صحيح. ولكن من يعيدك أنتَ يا ماوردي، عندما تصبح رزمة من الذكريات..؟"‏

الأيام هنا في سباق. وأنت أشبه بالعربة التي يقودها حصان لا تعرف طباعه. فيما يترقب المراهنون فعل الحصان لا العربة. فالناس لا تفكر إلا بالرهان على الربح. وما عدا ذلك وهم وخسارة تقوض البهجة. فهل من أحد يستطيع أن يضع كرة النار في جيبك، ويدعوك للضحك؟‏

"لكنك وبكل عظمة وجمال.. تستطيع أن تكتب عن هزائمك يا ماوردي!!".‏

"الهزائم. نعم. لأنها تولد من رحم الإنتصارات. ولا هزيمة شاملة ولا انتصار كاملاً في عالم اليوم. فكلاهما يكمل الآخر".‏

"هل صحيح أن الغربي لا يشعر بالشرقي، إلا إذا شمّ رائحته وهو يحترق؟؟"‏

"أتريد جواباً أيها النذل؟"‏

" الشرقي هاوية عميقة تتراكم فيها حضارات صلبة. وليس صحيحاً ان يكون الغربي مستقلاً، ولا يشعر بالشرقي. إنه في أقصى الأحوال، يحاول تجاهله كمتفوق قديم. ومن ثم نحن لا نحترق أمام الآخرين إلا من شدة احتكاكاتنا الحضارية التي لم نستثمر منها غير الإحساس الدائم بالفجيعة، حتى وإن تكن بفمك ملعقة من ذهب تفيض بالعسل! ألست أنتَ مثالاً على ذلك الآن؟".‏

غريس تغني وأنتَ تتبخر كالقبر؟!‏

أحس الماوردي كما لو أنه سينهض وينتزع الدماغ ليطوح به كالكرة في الظلام. لكنه تراجع عن فعل ذلك لسببين:‏

أولهما لأن دماغه لا يشبه الكرة بالضبط. وثانيهما، لنه لا يملكه الآن، بعدما تسللت يد مورغ من تحت شرشف الطاولة ألى موقع العقل الطبيعي.

كديميس
09 Mar 2006, 12:06 AM
تجلس على متن المقهى وتطلق نفسك في ضبابها. كم من طريق يتفتح في وجهك؟‏

سأذعنُ للورق. هكذا ستقول! وتفعل ذلك فوراً، فتقذف بجسدك إليه كاملاً. وهي فكرة لابأس بها في كل الأحوال. فالورق جسدٌ، أنت تبني تاريخ معرفته. أي يوم تجعل منه رحماً للأفكار والصور.‏

-يا رجل. يكاد كل شيء يأكل الورق والجسد معاً.‏

-لكن الورق أقوى من الجسد. لأن الأول ما يزال قادراً عل تحمل أعباء الثاني.‏

-سيصبح الجسد الآدمي خلاصة حقيقية للورق. هذا ما أعتقده.‏

-آه أيتها الأرض الميلودرامية.‏

سرعان ما ابتعدت المقهى، نائية بنفسها عن اللغط الصاخب. فأخرجت من حقيبتي الصغيرة دفتراً، ورحت أخطط شكل الزمن. فيما كانت فتاة أمامي، تجلس كالمصباح الناطق الذي يتسلط منه الضوء على الورق، ويداهم تلك الكلمات بالعطر.‏

"الكتابة جدولة الجسد. هذا ليس اعترافاً بربرياً، بل رثاء اللحظة."‏

حملت ورقي وتطايرت من على متن المقهى. ولا أعرف إن كنت ضحكت أم لا.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:07 AM
(21)‏

لم يدرك الأب أن ابنته سمرقند، سينتهي بها المطاف كالجثة في أحد مستشفيات العلاج الخاصة بمرضى الأيدز. فقد كان صعباً تفريغ الجسد من تلك الأفاعي التي نشرت ظلالها المرعبة في الدم، لتزحف في تلافيف الدماغ كالبلدوزر الذي يفلش كل ما في طريقه.‏

كانت الأشهر الذهبية قد مرت بسلام: الجنس والحشيش والحقن والحبوب. كل ذلك من أجل تغييب العقل أو رميه في تنكة الزبالة. عالم جميل ورائع، ذلك الذي اكتشفته سمرقند، الفتاة الجميلة التي دخلت عامها الثامن عشر.‏

في البدء.. كانت الطقوس بالنسبة إليها بمثابة السحر. أو هو السحر. لأنها لم تكن تعرف عن السحر شيئاً. اكتشفته هنا: في مواخير الظلام التي تصطاد زمر الطلبة، ممن يبحثون عن البهجات السريعة، دون أن يعرفوا شيئاً عما تخفيه أغلفة تلك الملذات، من سموم وفداحات مرعبة. فبعد الرقص الجميل في الديسكوات والغرف المغلقة، جاء دور الرقص الآخر. وها هي سمرقند، تذكر نفسها بسندريلا، ولكن بفارق كبير، إنها تمارس رقصة الموت بقدمين طحنهما الأيدز. فيما التاريخ القديم لسندريلا، يتحدث عن فتاة أنتجها العشق الجميل، لتصبح رمزاً في الذاكرة العالمية.‏

حتى الحبّ الذي دخلت سمرقند في حلقاته، كان بمثابة إنتقام من شيء ما. فهي لم تمارسه بطقوسه النبيلة الرائعة والخاصة. بل مارسته على طريقة الفراشة وهي تدخل النار. فهي لم تحب أحداً بشكل روحاني أو جدي ذات يوم، لتقاسي من العشق والعذاب السري من لوعة الحبّ، بل لأنها لا بدّ أن تمارس الجنس كالأخريات. أي بفعل الغيرة، وليس بدافع التحدي لسلطة العائلة. فهي تريد فقط، تحدي القيم التي تنام في داخلها. بل ولتقفز السياج الأخطر نحو عالم المخدرات، بهدف أثبات عدم شعورها بالنقص. وأن شرقيتها لا تحول دون أن تفعل ما يفعله الأوروبيون هنا!‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:07 AM
"كيف يمكن لنا إعادتك للحياة مرة أخرى يا سمرقند؟!!"‏

بعد أقل من عامين، تبدد الحماس كله. لينحسر الطوفان القديم عند هذا السرير الذي تخلّد تحت أغطيته في المستشفى. أليست هذه هي الحرية التي أغوت سمرقند، فعاشتها دون نقص ما، كي لا يحز الغبن في نفسها؟‏

ولكن.. أي نوع من الحرية، هذي التي يدق جرس الإنذار فيها، ليعلن عن حدوث كارثة كالموت؟؟‏

يعتبر الكثيرون بأن جرس الإنذار هذا، حالة تنم عن نزعة ديكتاتورية، تحاول إعادة الإعتبار للقمع، كي يتحكم بالذات. إلا أن سمرقند، لم تتعب نفسها يوماً بمثل هذه الأفكار. لقد ابتلعت الصنارة الصغيرة دون شعور بضيق أو بألم. فقد كانت الفتاة، عبارة عن سلسلة طويلة من الأحلام والرغبات. حتى أنها فكرت بتغيير اسمها إلى اسم بديل يتناسب والعالم الدانماركي والأوروبي بشكل عام، بعد أن قامت بتغيير عاداتها ومخالفة تقاليد العائلة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:08 AM
"التمرد. على من؟"‏

"على كل شيء. بدءاً بالثياب، وانتهاء بالعقل والهوية القومية!"‏

"العقل. الهوية. هذه كلمات أكبر من سمرقند. فالكثير من الكبار لا يفقهون شيئاً من هذا القبيل. فكيف الحال للجيل الثاني والثالث؟"‏

"فات الأوان. وها أنتَ تندب نفسك وتلعن الساعة التي ولدت فيها."‏

كان شومان-والد سمرقند- يأخذ رأسه بين يديه ويبكي. في المقاهي. في منازل الأصدقاء. في القطار. فأيان تجده، تراه في مثل هذا الوضع البائس والمحزن.‏

"لقد بعنا أبناءنا للفرنجة" قالها شومان وهو يغرق بنوبة هستيرية من النحيب.‏

"وأين كنت يا رجل؟ هل غطت عينيك آلاف من الأجفان الخشبية، لتمنع عنك رؤية ما كانت تفعله سمرقند؟؟"‏

"كنت مشغولاً بالعمل. ليل نهار. اللعنة على الفلوس والذي صنع الفلوس."‏

"العمل؟!"‏

"أجل. العمل الأسود. وبنهم وعيون فارغة لا تملؤها كثبان من الرمل."‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:08 AM
لم يكن شومان وحده الذي تحولت حياته إلى نزيف أسود، بعد الإستفاقة المتأخرة، فهناك الكثيرون، ممن يأكلون بلحومهم، ندماً على ما حصل لأبنائهم في هذه البلاد، بعدما تركوا الحبل على الغارب. الأمر الذي هيأ الفرصة لهؤلاء بمد رؤوسهم إلى الممرات الموبوءة والمعتمة والضيقة. بل وأن البعض من الآباء راح يسوق أولاده لجمع القناني من الحاويات والأمكنة التي هي بمثابة معاقل ومقرات للحشاشين والكحوليين والشاذين، بهدف جمع بعض الكرونات الإضافية التي تدعم أرصدتهم الشخصية!!‏

ولكن أحداً من أولئك الأبناء، لم يستطع الخروج من تلك الممرات التي سرعان ما ضيقت الخناق عليهم، فذابوا في ظلامها القذر. فيما ذاك الطراز من الآباء، لا يتورع عن إرتداء ثياب الفضيلة والإدعاء بأصالة جذورهم الدينية والطبقية الممتازة!‏

"كلهم أبناء ذوات ومن الطبقة البرجوازية التي تتمتع بالنفوذ الاقتصادي والاجتماعي!!"‏

"يملكون العقارات والبيارات والمزارع والعقارات وكانوا يعيشون في قلعة الهرم الاجتماعي مثل الباشوات والأئمة!؟"‏

وإذن.. ما الذي جعل"برجوازية" بلداننا، تدفع بأطفالها إلى التقاط القناني الفارغة والأعمال المخجلة الأخرى؟‏

هل تخلى البرجوازيون عن خياراتهم الأساسية؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:10 AM
ألم تتذكر يا ماوردي الشيخ الذي رأيته على بلاج البحر في صيف العام الماضي؟‏

هل تذكرت؟ أم أن جرذاً قد أكل أوراق الأرشيف في رأسك؟!!‏

لا تتعب دماغك. فنحن مجموعة فضائح مركبة. لذلك لا غرابة في سماع السيد شومان، وهو يشتم وينتقد الآخرين قبل أن يفعل ذلك ضد نفسه. سيدفن سمرقند دون أن يدفع كرونة واحدة. وفي هذا توفير وراحة للبال. بعدها، سيبدأ الشغل في الظلام، وكأن شيئاً لم يكن!‏

"لا تدع الخيال الخبيث يجنج بك يا ماوردي بعيداً. فالناس حواس وعواطف ومشاعر."‏

أجل. ولكن هذا الشخص وسواه، كالشارع المبلط بطبقة سميكة من الأسفلت، لا يهمه ثقل أكبر الشاحنات، ولا يتأثر جلده بأشد الفرامل قوة. وربما كل الدموع التي تخرج منه الآن، أي الدموع التي تراها، قد تكون بكاءً على وقت يقضيه عبثاً في زيارة المستشفى من أجل ابنته. صحيح أنه بات يلطش الشراشف والملاعق والصحون وورق التواليت ومطافىء السكائر، إلا أنه يشعر بعدم قيمة هذه الأشياء، حينما يقارنها بدخله الشهري من العمل الأسود.‏

من هنا.. فلا تعتقد بأن شخصاً ما مثل شومان يعاقب ذاته. لأنه عقوبة فُرضت علينا. فالمخلوق الذي دون أخلاق، لا يشعر بأي نوع من العقوبة، بما فيها عقوبة الإعدام. لذلك ترى المجرمين الكبار والصغار، يهرولون إلى حبال المشانق أو نحو غرف الإعدام هرولة، وكأنهم ذاهبون إلى حفلة زفاف.‏

فكيف الحال في بلد جلالة ملكة الدانمارك، رئيس الدولة فيه يستقيل، فتسقط الحكومة ويصدر حكم بحبس وزير العدل، نتيجة اهمال أو كذبة تعرض لها لاجىء من التاميل. وليس شخصاً من أهل البلد. لقد قامت الدنيا هنا. علماً بأن البشر في سيريلانكا وسواها من مناطق التوتر في الشرق. يتساقطون كالذباب على أيدي الحكومة. ولأتفه الأسباب.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:11 AM
اضحك يا ماوردي. وإن شئت انتحب. فالحكومات التي لدينا، ربما ستصبح بعد سنوات دون شعوب. فالإنقراض هناك يشمل كل شيء: الإنسان والحيوان والنبات والحضارة، عدا الحكومات، فهي الباقية إلى ما لا نهاية، لأنه لا يقترب منها بعدما قررت الخلود! تمسح البشر مسح الحذاء، وتنفخ الأرض بالمعتقلات، دون أن يشار إلى ذنب لحاكم أو حكومة. فالمواطن من أملاك الدولة يا ماوردي، وليس له الحق بقص شعره من رأسه دون إذن منها.‏

أتتذكر ضابط الأمن رشاد الذي نفي من العاصمة إلى تلك المدينة النائية، بعدما غضب منه رؤساؤه، وكيف فعل بالناس هناك؟‏

"نعم رشاد. كان يبتدىء صباحه بجلد شخص ما، كوجبة للإفطار. وإذا ما تعذر وجود مثل ذلك الشخص، سرعان ما يقوم بتوبيخ الشرطة وشتم بعضهم تحت ذريعة التقصير بالواجبات.‏

"على كل شرطي أن يختار ضحية واحدة في اليوم. وإلا فيسقط حقه بقبض المعاش!!"‏

رشاد.. بل كم مثله من الضباط في تلك الدوائر؟ فعلى الرغم من أنه جديد على تسلم مقاليد الأمن في تلك المدينة البعيدة، ولم يكن يعرف عن الناس شيئاً، إلا أنه كان ينعتهم بالمتآمرين.‏

"يفعل ذلك بالبشر.. لأنه لم يتمكن من الحكومة التي بات يكرهها. لذلك يقوم بالثأر من المدينة وأهلها!!"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:11 AM
بالمقابل.. لم يخل رشاد من المتعة آنذاك. فقد كان يهدم في الليل، كل ما كان يصنعه للحكومة من رعب في النهار. أجل في الليل. فعندما يشتد به السكر في نهاية السهرة التي كثيراً ما كانت تبدأ بنادي الموظفين وتنتهي عند خيام الغجر في أطراف المديتة، يقوم بتمثيل دوره الحقيقي الآخر. يركن سيارته في الموقع الذي يرغب به. ثم يقوم بارتداء البزة العسكرية التي يحتفظ بها في السيارة، وهي تحمل رتبة نقيب... ثم يقوم بتشغيل جهاز التسجيل الخاص بالسيارة ويمشي على إيقاع المارش العسكري، قاطعاً الشارع من الرصيف إلى الرصيف، وكأنه في مهرجان لاستعراض الجيش. تارة تراه يعفط. وتارة تسمعه وهو يطلق بعض العواء الممزوج بالكلمات البذيئة بحق الحكومة. علماً بأن ليس من حق ضباط الأمن إرتداء البزات العسكرية. إلا أن رشاد، ربما كان يحن للجيش الذي تخرج من إحدى كلياته، فبعد أن تم إنتدابه للعمل في أجهزة الأمن والإستخبارات، شعر رشاد بأول نكبة يتعرض لها في حياته: حرمانه من الزي العسكري الذي كان يعتبر بمثابة حلمه الأبدي.‏

كان كل شخص منا، يرى رشاد وأفعاله، يعتقد بأن ما يفعل هذا الضابط الأمني جزء من المسرحية المخابراتية للإيقاع بالآخرين. فمن الصعب تصديق ما كان يفعله. أو لنقل، ليس من السهل تصديق ما كنا نراه من مسؤول يجلد الناس في الصباح، خدمة للحكومة، و يفعل العكس في الظلام .‏

وعندما أزف موعد تصفيته إغتيالاً من الحكومة، بعدما شاعت الأخبار عنه ووصلت للقصر. صدقنا بان رشاد معارض من طراز فريد. ولم تأخذنا الإشاعات بأن نصدق ما أشيع عن دور المعارضة بقتله. فهو الآخر كان يجلد نفسه بطريقة لا تخلو من الإنضباط والقسوة العسكرية.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:12 AM
سأل الماوردي نفسه بسخرية:‏

"لماذا تقفز من حفرة إلى أخرى، وكأن الحياة مقبرة وعقاب فقط؟!"‏

يا رجل. دع شومان في السوق الأسود أو الأخضر. ودع سمرقند في تختها. ودع البرجوازية الشرقية تبني أهرام مجدها الجديد من القناني وغيرها. ودع ضابط الأمن رشاد في حفرته. فالعالم ليس هؤلاء. ومن الخطأ الفادح أن يأخذ البعض الآخرين بجريرة واحد من طراز شومان وما عداه. لا تحشر نفسك بين هؤلاء، وكف عن إطلاق بالونات المواعظ. فأنت لو فعلت ذلك على الدوام، فسينتهي بك المطاف إلى مصير ربما لا ترغب فيه. صحيح أن خطأً فادحاً يرتكبه واحد منا، قد يسيء إلى سمعة عشرات الألوف هنا، ولكن، كل ذلك يتوقف على ثقافة واستيعاب المجتمع الذي أنت فيه.‏

أحس الماوردي بثقل المأساة التي أمامه: سمرقند تلفظ أنفاسها في المستشفى. والأب شومان في العمل الأسود الذي أصبح بمثابة منزله الحقيقي بعد الإنفصال. والزوجة البائسة التي تعيش وطفلها في منزل المطلقات.‏

"لا تقف على الأرض التي يقف عليها هؤلاء. إنها كالجب المموه بالأعشاب. وبمجرد ملامسة قدميك لها، ستحس بطقطقة الغصون اليابسة التي ستهوي بقامتك إلى قاع الظلام البارد. دع حواسك محصنة وساعد الآخرين على فعل ذلك. فأنت لست بالنبي أو بالمصلح الاجتماعي. فلا تحمل مشنقتك على كتفيك، وتتبختر بأفكارك كالطاووس. فهذا ليس عصر أفكار، ولا بزمن للنبوءات.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:12 AM
(22)‏

الآن مارينا حبلى. وسوف يكون الدكتور الوراق أباً بعد شهرين. هكذا قرر الاثنان معاً: تكوين عائلة كبيرة. ولم تلق الفكرة معارضة من قبل مارينا التي تعتقد بضرورة عدم التفريط بخصبها. فالعالم رحم.‏

صحيح أن لمارينا أفكاراً وتصريحات في غاية الدقة والغرابة أحياناً، إلا أنها لم تعنِ بذلك تخليها عن عالمها الجميل والمشترك مع البعل الجديد، وتفرغها للإنجاب فقط. بل إنها تؤمن بضرورة تنفيذ رغبتها كامرأة مهووسة بحب الأطفال.‏

كان الماوردي في زيارته الأخيرة لمنزل مارينا والوراق، أحس بأن الاثنين قد اكتمل ريشهما، استعداداً للطيران عنه. وأنه سيبقى طيراً خارج السرب. الرملاوي الذي اختفى مع كامل شخوصه الذين كان يمثل أدوارهم بمتعة متوازية ما بين العبث الكوميدي والأسود التراجيدي. ومارينا والوراق اللذان دخلا العش للتمتع والإنجاب ومراقبة تطورات الحياة التي سيسفر عنها الزواج.‏

"لتنقطع بك كل السبل. أبق وحيداً مثلما جئت. أو سر على الطريق كدولاب سيارة مُنفس. أنتَ الذي تبحث عن الكمال في مدجنة. وهن النساء اللاتي يفتحن أفواههن لإلتهامك، كما تفعل القطط بصغارها. سوف تحرق يدك شعلة الأولمبياد. ولن تصل، حتى لو أصبحت من اشهر العدائين في روما أو روسكليا. فذات يوم، سوف تٌدفن تحت نصوصك، عندما تهرم كالحلم، ولا تستطيع الطيران إلى أبعد من الأوراق التي تبعثر نفسك والعالم عليها."‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:13 AM
-ماذا عن مشاريعك الجديدة يا وراق؟‏

-اقرأ كتاباً وأنظر إلى بطن مارينا."يمد يده ويتحسس بطنها"‏

-أهم مؤلفي التاريخ العظماء والسيئون.. خرجوا من هذا الرحم.‏

-لذلك.. نريد لطفلنا أن يأتي عظيماً. فقد أصبح العلم يتحكم بالجينات الآن.‏

-أجل. لقد بدأ اهتمامهم بذلك يثير القلق. لأن تمييزاً بيولوجياً من نوع جديد، سيظهر بين البشر. سيتحكمون بانتاج جيل في غاية الذكاء والعبقرية والجمال، أي وفقاً للمواصفات التي يرغبون بها يا وراق!‏

-وماذا تريد أن نفعل يا ماوردي؟ أن نصنع طفلنا الثاني من مخبر الجينات! ويغرق بالضحك. فتنهض مارينا لمط رجليها من الجلوس وفقاً لأوامر الطبيب الخاصة بالحوامل، وهي تقول للماوردي بشيء من الدعابة:‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:13 AM
-وهل تشك بما تنتجه أرحامنا؟ فيرد عليها الماوردي معلقاً:‏

-كلا. حتى بت أعتقد بأن في رحم كل امرأة دانماركية، مخدة لصيانة الجنين من الإرهاق.‏

يغرق الثلاثة بالضحك. بعدها يفرغ الماوردي من تناول قهوته، ثم ينتحي بالوراق جانباً ليسأله:‏

-يا دكتور. هل تحتفظ برسالة ما أو نص للرملاوي.. أقصد بخط يده؟؟‏

فصمت الوراق قليلاً من السؤال المفاجىء الذي ألقاه عليه ككرة النار. ليجيب عن ذلك بعد برهة:‏

-أجل. هناك أكثر من رسالة. لماذا؟‏

-أحضر واحدة من الرسائل.. بعدها، يمكن أن نتكلم عن شيء.‏

فنهض الوراق متجهاً صوب الغيول. ليفتح أحد جواريره ويأتي بمظروف كبير. يفتحه ويلقي ببعض رسائل الرملاوي أمامه. ثم ينظر بشيء من الاضطراب، وهو ينتظر الهدف الذي سيسفر عن ذلك.-تعال."ويخرج الماوردي ورقة من جيبه" أليست هذه الوصية التي وجدت عند جثة الرملاوي؟‏

-أجل.‏

-وهل يتطابق الخط فيها مع خط رسائله؟ فيدقق الوراق في الخطين ويصرخ:‏

-مستحيل. هناك فرق شاسع ما بين الخطين!‏

-إذن.. لا بدّ من تسليم الأوراق للبوليس. هيا.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:14 AM
(23)‏

عندما عاد الماوردي إلى منزله ليلاً، وجد أثاث الصالة وغرفة النوم مقلوباً رأساً على عقب. فأصيب بالذهول. طاولة الطعام، الكراسي، الفراش، الكتب والأوراق المبعثرة، والمرايا المهشمة.‏

"قريباً سترى شكل وجهك.. مثلما تراه في بقايا هذه المرآة يا ماوردي!!"‏

هذه هي الجملة الوحيدة التي تركها الزائر أسفل المرآة. وقدكُتبت بخط أحمر عريض. ويبدو أن كاتبها يتمتع بشيء من الفن، كأنه من الخطاطين الذين كانوا يكتبون اللافتات السياسية في بلادنا القديمة التي تنازلنا عنها للقياصرة الجدد، وجئنا للإختباء خلف هذه الجدران التي لم تسلم هي الأخرى من المداهمات وفرق التفتيش.‏

جلس الماوردي على الأرض، وهو يستعيد منظر الأطلال التي تضمنتها قصائد الشعراء العرب في العصر الجاهلي.‏

"وما أوجه الإختلاف بين الجاهلية الأولى والجاهلية المعاصرة يا ماوردي؟ هناك أطلال الطين والرماد، وهنا أطلال البشر والأوطان. إن ما يحكم تاريخك، لم يكن إلا سيفاً. وهكذا طغت الكهولة علينا، لتنال من عالمنا العربي. في الزمن الغابر، كانت سنابك الزحف المغولي. والآن.. فرسان وزعماء الخراب الجدد، بثيابهم الأنيقة التي يصنعها بيار كاردان وأرقى دور صناعة الأزياء في العالم. كان المغولي القديم، يرفض ارتداء غير ثيابه. وإمتشاق سيف من غير السيوف التي يصنعها بيديه. أما المغول الوطني الجديد، لا يفعل شيئاً من هذا القبيل. إنه يريد استيراد البشر والدم والأطعمة من الخارج! إنهم يستوردون الأرض حتى. أليس من يستورد الطعام، كمن يستورد أرضاً؟ أم ماذا؟!!"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:15 AM
عندما توجه الماوردي إلى جهاز الهاتف، تأكد من موت الحرارة فيه. فلم ينس الزائر أن يحيل أسلاكه إلى قطع صغيرة، الأمر الذي يدل على أنه بذل جهداً، وأنفق وقتاً من أجل جعل الهاتف مخلوقاً بلا حراك. فصمت قليلاً. بعدها غادر المكان متوجهاً نحو منزل مورغ. كان وهو في الطريق إليها، يضرب الأخماس بالأسداس. يفكر، ويستعرض كل التفاصيل عن علاقاته بالآخرين. لم يترك نفسه لتشك بأحد. ولم يرَ نفسه متَّهماً بجناية أو ثأر أو قضية ما تتطلب أن يفعل به الآخرون هذا الذي جرى. حتى أنه رفض الانصياع إلى طلب مورغ بإبلاغ البوليس عن الحادث، فالزائر أو الزوار-لا فرق- لم يسرقوا شيئاً غير قلم الحبر القديم الذي كان يتركه الماوردي على الطاولة باستمرار. وربما حمل أحد الزوار القلم بالمصادفة ودون قصد.‏

"أنتَ ترتكب حماقة كبيرة بعدم القيام بإبلاغ البوليس."‏

قالت له مورغ ذلك بغضب وعصبية، وهي تساعده بإعادة ترتيب البيت من جديد.‏

"لا أحبذ الشرطة حتى وإن تحولوا لملائكة أو لراقصات ستربتيز."‏

أجابها ببرود. وكأنه يحاول عدم إقحام ذهنه باستعادة صورة الشرطي الآسيوي القديم.‏

"كفاك تعنتاً وتعقيداً. هناك بعض الأمور الملحة التي يجب فعلها وفقاً للمصلحة العامة. وإلا كيف يمكن للقانون توفير الحماية للناس يا سيد ماوردي؟"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:16 AM
"اسمعي مورغ: لا تدعي الحماس يقفز في خلاياك ككرات النار. لقد مررت بأكثر من هذا الموقف الذي أنا فيه. فالسلطات التي لدينا هناك، تُقطع جثمان المخلوق البشري، أكثر مما فعله الزائر بأسلاك الهاتف هنا. ثم تدير ظهرها وكأن شيئاً لم يكن. لقد تجرعنا الخوف بالتقسيط. وتعلمنا لغة الرعب درساً اثر درس. حتى بات المواطن يشك بقدرته على الحياة، عندما يمر عليه يوم هادىء لا يحمل له بعض المنغصات."‏

تطلعت مورغ في وجهه ملياً، ثم هرعت نحوه، لتأخذه بين ذراعيها. كانت كمثل من رأى دخاناً يخرج من عينيه. فحاولت قطع ذلك المشهد، وهي تشده للخروج من المكان نحو منزلها القريب.‏

-لا عليك. سنفكر بذلك فيما بعد. المهم أن لا تتحرك تلك البراكين في دواخلك. أنا مرتبكه الآن مثلك. ولكن ليس من المفروض أن نرسم الأشياء السيئة فقط. هذا ما أتمنى أن تفعله مثلي في الأوقات العصيبة.‏

-ما كان عليّ أن أقوم بزجكِ في هكذا موضوع. اعذريني مورغ. فأنا لا أحتمل ثيابي التي أرتديها في الكثير من الأحايين. من يدري، ربما قدرك هو الذي أسقطك في عالم لأشخاص، ينبعث الخراب من جلودهم كرائحة خيول السباق.‏

-سنقابل العالم الفجائعي ذاك، بلغتنا الخاصة. فقد نُفرغ نحاس اضطراباته، أليس بإمكان النساء الأوروبيات أن يفعلن ذلك يا ماوردي؟‏

-يا للعنة.. يبدو أنك مشغولة بالرنين الذي يصنعه الحزن. أجل فنحن نرن حينما نكون غرقى الحزن. وربما نزمر آلامنا أثناء النوم! هل أفعل ذلك يا مورغ؟‏

تمسكه من خاصرته ضاحكةً، وهي تدفعه إلى داخل منزلها.‏

-لقد بت أغار عليك من نهر الكلمات الذي يسكن أراضيك. إنها المرة الأولى التي أجد نفسي تافهة بهذا القدر من الإحساس: الغيرة التي تبث اللهب في الأعماق؟!‏

-ومع ذلك، لا يبدو عليك شيء من هذا القبيل!‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:16 AM
-وهل تريد رؤية النيران وهي تزحف فوق ثيابي، لتتأكد من ذلك؟‏

-لا أقصد النيران ولا الثياب، بل أنتِ بالضبط.‏

تترك مورغ قنينة النبيذ التي كانت تعمل على نزع غطائها الذهبي، ثم تتقدم نحوه كاللبوة المتحفزة قائلة:‏

-وماذا رأيك عن هذه المورغ؟‏

نظر الماوردي إليها، وكأنه يتخيل أمامه امرأة مصرية تتحفز للنزاع مع بعلها الدرويش، على غرار ما يحدث في الأفلام. إلا انه يترك طبيعة الذهن التخيلية تلك، ليجيب:‏

-مورغ. المرأة التي تترنح في الحبّ، ليست هي المرأة التي تسقط فيه!‏

-وأين أنا من هذه الحكمة.. في ضفة الترنح أم في ضفة السقوط؟؟‏

يقطع الماوردي الذهول الذي اعترى مورغ، فينهض نحوها ليمسك بيديها في محاولة منه لنزع الفتيل. هكذا أحس بها وكأنها قنبلة على وشك الإنفجار. فقال في نفسه:‏

"لمَ هذه الفلسفة الوقحة؟ ثم ماذا تريد من امرأة تهزّ قامتك من أخمص القدم إلى رأس هرم الجسد، وكأنكَ شجرة تساقط جنوناً؟ أتريد أن تضمها إلى ممتلكاتك من الكتب والأقلام والمحابر والفكار والخمور؟ أم أنت ما تزال بذهن الشيخ القديم، الذي يحاول أن يفرض على مورغ الصلاة على قدميه، كل صباح ومساء، مقدمة له الطاعة وقسم الولاء على غرار النساء في مجتمعات بلدان الشرق؟"‏

-أنا متعب يا مورغ. وقد لا يكون من مانع لديّ، لأسفك دم الظلام الذي يتراكم في عيوني. أرجو أن تفهمي ذلك جيداً، وبطريقتك الخاصة. لا يمكن للمرء أن يبقى كحزمة أوراق تبعثرها العواصف، وإلى ما لا نهاية!‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:17 AM
يصفق الباب خلفه، تاركاً مورغ وحيدة في المنزل، حيث راح يحث الخطى باتجاه محطة القطار.‏

"لن أتركك حراً.. وأنتَ تمارس هذا العبث بحياتي أيها الوغد.."‏

و ما هي إلا دقائق، حتى كانت مورغ إلى جانب الماوردي في مقعد القطار المتوجه نحو العاصمة كوبنهاغن.‏

كانت الساعة تشير إلى العاشرة مساءً. عندما جلس الاثنان تحت قاعدة نصب حورية البحر، صامتين، وكأنهما ضجرا من الحكي ويرغبان لو تحولا لتمثالين من النحاس أو الحجر أيضاً. أجل. ففي ذلك متعة. عندما يأتي السواح ويلتقطون لنا الصور للذكرى بكاميراتهم. أنتِ مورغ الدانماركية حفيدة سلالة الفايكنغ. وأنا الماوردي، ابن الشرق المتسكع على هامش الحضارات، لم يبق من تاريخها سوى التشرد والنفي. ومن ثم، لمَ يكلف الأجانب أنفسهم مشاق السفر والترحال وهدر الدولارات، ليذهبوا نحو الشرق، ويكون بإمكانهم الحصول على أجمل اللقطات منه هنا؟‏

كلا. فالغرب له أزماته كذلك. مثلما ذلك للشرق. لذلك اطمئن يا ماوردي. فلا أحد يستطيع الإفلات من هذا الشص. ما دامت الأزمات تختار الضحايا في مواسم الصيد، وفقاً لقانون العرض والطلب. صحيح أن الأزمة التي أنتَ فيها، لا تشابه أزمة مورغ، ولكنها أزمة تحرث في الكيان الإنساني.‏

-هل تسلل النعاس إليك؟‏

-قليلاً. ما رأيك لو نرتاد حانة ما لتناول البيرة. هل لديك استعداد لذلك؟‏

-البيرة أم الأوزو يا مورغ؟‏

-سأحتسي الاثنين معاً. ومن هنا.‏

ويلتقط شفتيها بفمه، كقاطع صحراء، يحاول سحب كل المياه من أول نبع يصادفه على الطريق. فيما بعد، أحس بأن عليه أن يستكمل انسحاب لسانه من أعماقها، فربما ذلك الإنسحاب، سيستغرق وقتاً طويلاً، إلا أنهما إستفاقا على صفعات طالت ظهريهما بشكل مباغت.. ضربات من نوع اللطش الذي تحدثه ذيول الأسماك على سطح النهر. فنهضا وهما يتطلعان إلى حورية البحر، وهي تغادر مكانها، مخلفةً قاعدة التمثال لجسديهما.‏

ما ذاك الذي حدث.. قالا هذه الجملة، ثم ابتلعت آثارهما الزقاق.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:18 AM
نأخذ الزمن مثلما يأتي‏

كحائط متصل بجدار سجوننا."‏

إختطّ في الذهن مقطع اندريه بريتون. أو قفز هكذا. فيما كنا نقطع الطريق بمحاذاة البحر نحو شارع يعزل نفسه عن المدينة، ليفضي إلى قلعة هلسنغور الشهيرة. كان البرد يقص المسمار. فيما غطى الثلج كل شيء، بما في ذلك الروح. هكذا يكون الحال الدائم لنا في الدانمارك: في الشتاء تنكمش أرواحنا فنعود إلى كهوفنا الجليدية، محمولين على نقالات الكآبة. وعندما يحلّ الصيف الخجول بشمسه، سرعان ما نتمدد قليلاً كالمعادن. أما في تلك الليلة، فلم يستطع معطفي المبطن بالفراء والصوف، والذي يحتاج حمله لشخصين معي، أن يرد عني الزمهرير الذي كان يفتح جسدي بنباله اللامعة.‏

-لا تتذمر. ها قد وصلنا.‏

لم تصلني كلمات الرملاوي. بل وصلت برودتها. فكل كلمة خرجت من فمه أو فمي آنذاك، لا بد وأنها سقطت كلوح من الجليد.‏

-وصلنا ماذا. الجحيم؟؟‏

"إنه أفضل الأمكنة التي رغبت بإرتيادها في مثل تلك الساعة."‏

-يمكن أن نعتبر المنزل كذلك! وأضاف الرملاوي:‏

-سيكون من حقك في هذا البيت النظر فقط. لا آراء. ولا حكي. ولا تعليقات.‏

"يا للهول. ها قد تحولت إلى بهيمة يا ماوردي. وإلا فلا بد من الرد الحاسم."‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:19 AM
لكن الرملاوي لم ينتظر ما سيسفر عن الماوردي من ردود أفعال. فقد ضغط على الزر، لينفتح لهما الباب سريعاً، ليصبحا في الداخل، مع قرابة الثلاثين شخصاً من كلا الجنسين. كان الجميع وقوفاً بانتظار شيء ما. وكأن الكل فقد لسانه آنذاك.‏

كاانت الشموع الكبيرة.. هي التي تثرثر فقط. بعد ذلك. سقط جدار السكون. عندما جلست فتاة على مقعد البيانو. وبدأت بعزف مقطوعة من الموسيقا. فيما دخل رجل مهيب الثياب، ليخترق الصفوف ويجلس على كرسي كان موضوعاً على منصة ليست بالمرتفعة كثيراً.‏

وبعد إنتهاء الفتاة من العزف. نهض الرجل على طول قامته. فيما زحف الجميع نحوه بالدور، لمصافحته. فيما هو، راح يناول كل شخص من هؤلاء مظروفاً مغلقاً صغيراً.‏

"أين أنت الآن يا ماوردي. في مدرسة ابتدائية؟ في محفل ماسوني؟ في شبكة تهريب دولية؟ في مصح للأمرض العقلية؟ ستقول: لا أعرف! ولكن لمَ جاء بك الرملاوي إلى هنا، وكأنك أعمى؟ أيريد منك أن تكون له شاهداً في يوم من الأيام؟ وعلى ماذا بحق الشيطان؟"‏

لكز الرملاوي الماوردي من خاصرته، وطلب منه التقدم كالآخرين لمصافحة الرجل. ففعل الماوردي ذلك بعد الرملاوي مباشرة.‏

"أهو أنتَ؟"‏

تمتم الرجل وهو يشد على يد الماوردي. وعندما شعر الرملاوي بأن الكلام سيتدفق كالطوفان من فم الماوردي، غرزه بلكزة أخرى من أجل أن يتحرك دون أخذ أو رد في الكلام.‏

وكان للرملاوي ما أراد. فسرعان ما انسحب الماوردي ليأخذ مكانه الأول في القاعة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:22 AM
عادت الفتاة ذاتها، لتعزف المقطوعة نفسها.‏

"يا للربّ! أنحن في ثكنة عسكر؟"‏

وما أن انتهى اللحن، حتى قامت إحدى النساء بنزع الثوب المطرز بملايين الخيوط الذهبية والفضية ومن كل الألوان عن جسد الرجل المهيب، ليبقى على صدره قميص شفاف .‏

"بارك الله بك يا رملاوي. ها قد بدأت أفهمك جيداً. فأنتً لم تأت بصديقك إلى هنا عبثاً. لقد تركتها مفاجأة له في ليلة رأس السنة العظيمة. وها هي حفلة الخلع وقد بدأت أمامك. النساء والرجال معاً. وعندما يأتي الدور عليك، لا تتردد. ضع رأسك بين الروس.. وقل يا قطاع الروس.. والدنيا فرص يا ابن العم. بل، وهل فاز باللذات من كان غير جسور وحنتور وعرمرم؟".‏

-اخلع الجاكيت بسرعة يا ماوردي؟‏

-وهل لا بدّ لي من فعل ذلك أيضاً؟‏

-أجل. ستعرف الآن...‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:22 AM
وانطلق الجرس يرسل رنيناً عجائبيا. كان يأتي من مكان وراء القاعة. فتقدم الرجل-رمز الأمة في المنزل- ليحمل في يده صولجاناً وينزل نحو دهليز. فتبعه الآخرون بصمت. حتى صار الجميع في الشارع المظلم هم يشكلون رتلاً.‏

"اللعنة على أبيك يا رملاوي. الميت أبوه ما بيطلع من بيته الآن. هي هاي حفلة الستربتيز التي جئت بي إليها؟!!"‏

-ما هذا الذي يحدث برب السماء؟ صرخ الماوردي عالياً.‏

لكن الرملاوي كان له بالمرصاد. فكم له فمه، بحيث لم يترك كلماته لتتجاوز شفتيه. ثم الكلمات نفسها تتجمد بين الأسنان.‏

-سوف لا تأخذ الرحلة إلا ساعة واحدة. طمأنه الرملاوي.‏

لكن الماوردي، لم يعد يثق بالرملاوي.‏

"ابن العرص. يحاول أن يصنع مني فيلماً سوريالياً في ليلة رأس السنة"‏

فراح ممسكاً بمؤخرة المرأة التي تسير أمامه طلباً للدفىء، كما قال لها بعدما التفتت إليه في المرة الأولى.‏

"بنت العاهرة.. هي أيضاً سعيدة. لأنني أشد على مؤخرتها فتمتص حرارة يديّ. لابأس. لكل شيء ثمن. ولكن لا تحلم بأن تصل إلى شهوتك وأنتَ في هذه الكارثة المثلجة. الدب القطبي نفسه، لا يستطيع بلوغ شهوته في مثل هذا الطقس. وفيما لو أصرت الدبة أن يفعل ذلك في ليلة عرسها، لكان قد كفر بالزواج وبصق لها وريقة الطلاق على الأرض، وفرّ إلى هناك.. للنوم في المغارة.‏

صحيح إنها مؤخرة فاخرة، ولكنها لا تصلح إلا للصيف. أي عندما تكون حرارة المرأة فوق الصفر بعشرين درجة على أقل توقع. وهذا غير كافٍ أيضاً.. فلا بد من الركض السريع. حيث يكون على المرأة، أن تقطع مساحة ملعب كرة القدم هرولة، ثلاث مرات. الملاعب الرسمية طبعاً، آنذاك. تصوروا. كيف يكون وضع المؤخرة؟ كثبان من الزبدة التي على وشك السيحان.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:22 AM
"لكن هذا الحبّ لا يتجلى في الغالب إلا تفاهماً بين إحساس حيوانين-هكذا تكلم زارا-"‏

-ما رأيك بالنبيذ؟‏

-سم. مثل الدم الذي يجري في عروقك يا رملاوي.أهكذا فعلت! يلعن أبو الساعة العرفتني بيك. ما علاقتي بهؤلاء المجانين؟‏

-يجب عليك إعتياد كل شيء في منزل"إعادة المفقودات" هذا!‏

-المفقودات التاريخية أم الجغرافية أم البشرية..؟!‏

ولمَ. ومن أجل ماذا. هل فقدت ساعة. خاتماً. كتاباً. يختاً ليعيدوه إليّ. أم أن هؤلاء المجانين لم يجدوا ما يتسلون به غير البؤساء من أمثالي على طريقة ما يفعله السحرة والمشعوذون؟‏

-كنت في مثل وضعك الآن منذ عامين. امتلىء سخرية. وأختض ضحكاً، مثل صهريج المازوت المحمول على ظهور العربات التي تجرها الخيول في شوارعنا قديماً. ولكن الأشياء، سرعان ما إنقلبت رأساً على عقب فيما بعد.‏

-رأسك الذي انقلب. أم الأشياء؟‏

-ستعرف ذلك فيما بعد يا ماوردي. فثمة موضوعات لا يمكن الحديث عنها الآن.‏

-وهل تتضمن أسراراً نووية؟‏

-بل بلداناً تعيش قريباً من غابة نووية!!‏

-دعني أربط شريط حذائي وكف عن هذه المسخرة التي تجعل من النفس اشبه بمنجم الفحم.‏

بعد مغادرة الرجل المهيب أخذ الجميع أماكنهم إلى الطاولات التي أُعدت لهم أثناء الرحلة المشؤومة في الخارج. فبدأت الموسيقا تبث ألحاناً مختلفة. فيما كانت هناك فتاتان تقومان بسكب نوع من الخمر في كؤوس صغيرة. يكاد المرء يلمس أشعتها الرقيقة، تلك التي تعكسها أنوار الشموع الكبيرة أو نيران الخشب المتوقد في الكوانين الجانبية.‏

ومع بدء زحف الحرارة في عظام الماوردي، أخذت الأسئلة بالإنشطارات في رأسه. هل يمكن للمرء المثلج، التفكير بشيء. كما فعل أخونا الدب! وها أنتَ يا ماوردي في منزل"إعادة المفقودات؟!"‏

"يا للعنة."‏

كانت أول فكرة قفزت لذهن الماوردي.. أن يضع يده على ظرف من تلك الظروف التي وزعها الرجل المهيب على هؤلاء. لو كان الرملاوي يملك واحداً من تلك المظاريف، لهان الأمر عليك يا ماوردي. تستطيع أن تلطشها من جيبه وتعيدها إليه بعد القراءة. لكن الرملاوي، اُستثني من تلك الهدية؟‏

"لماذا بحق السماء..؟ هل من أجل أن يضعني هؤلاء في الأقيانوس، ورقة يتلاطمها الموج؟"‏

"وإذا كان الهدف هو التورية والتمويه أمامك يا ماوردي.. فلماذا جيء بك إلى هنا؟ من أجل أن تتمتع بأسرار هذه الجمعية أو الشركة أو المحفل أو العصابة أو النادي مجاناً؟!"‏

عندما وضع الماوردي الظرف الذي لطشه من حقيبة احدى النساء في جيبه، غادر القاعة التي كانت مشتعلة بالرقص والغناء. نحو التواليت. وهناك قام بفض المظروف وقراءته. لكنه لم يستطع أن يفهم شيئاً مما كان مكتوباً على الورقة: مجرد أرقام، كانها من الشيفرات التي تستخدمها السفارات ودوائر المخابرات لدى الجيوش. فأقفل عائداً، ليضع الظرف في مكانه، وكأنه لص بارع.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:25 AM
الماوردي الذي أطل برأسه على المنفى من بوابة القطب الشمالي، رأى أن المعارضة فاكهة النظام.‏

- هل لي بسجارة لأهش بها على دماغي في هذا الصباح؟‏

- تفضل، ولكن-‏

- ولكن ماذا يا أخا العرب؟‏

- أن تسأل عن أصلي وفصلي ومن أي البلدان أنا قادم إلى أوربا؟‏

- صحيح. من أين أنت يا أخا العرب؟‏

- ألم أقل لك ذلك. ها نحن ندخل خان السياسة!‏

- وهل محظور عليكم التكلم بالسياسة يا أخ العرب؟‏

- كلا. ولكن السياسة عندنا، تبدأ بسيجارة وتنتهي بخازوق في قبو.‏

- لم أفهم ماذا تقصد بالخازوق والقبو، وما علاقتهما بالسياسة؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:25 AM
- لم أفهم ماذا تقصد بالخازوق والقبو، وما علاقتهما بالسياسة؟‏

- أنا مثلك لم أفهم. ولذلك دخلت المنفى من أوسع بواباته لاختصار علوم السياسة وفنون الساسة البقية الباقية من تكنولوجيا الايولوجيات.‏

- كلا. أنت غير طبيعي يا أخا العرب. هل زرت طبيباً نفسياً؟‏

- السياسة في بلادنا لا تحتاج لأن تكون طبيعياً. والسياسي هو طبيب نفسي.‏

- أنت متشائم جداً.‏

- وأنت جـئت على آخر السكائر في العلبة.‏

- السكائر غير مهمة، المهم هو الإنسان.‏

- بمعية صحته، أم دونها؟‏

- هذا سؤال محرج. كيف تخلطون السياسة بالصحة بعلبة التبغ؟‏

- من كثرة الاستعمال يا أخا العرب!‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:26 AM
- وهل تستعملون السياسة استعمالاً في بلادكم؟‏

- نستعملها استعمال المبيدات الحشرية والمنظفات الكيماوية لغسل المخلوق من أوساخه.‏

- والحمامات.. أليست لديكم الكثير منها؟‏

- نعم. ولكننا نفضلها للقراءة فقط.‏

- حقاً أنتم شعوب حضارية متطرفة.‏

- ولنا سبق في ذلك أيضاً.‏

- ماذا تعني يا أخا العرب؟‏

- أعني أن حمورابي مثلاُ، كان أول من ارتدى التنورة لدينا.‏

- تقصد قبل الإنكليز والإسكندنافيين؟‏

- أجل. وقبل أن يخترعوا الآيس كريم حتى.‏

- وماذا يعمل حمورابي الآن يا أخا العرب؟‏

- إنه يسن الشعوب ليس غير.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:26 AM
(25)‏

جاري الدنماركي مثل قطعة الشمع، أحياناً تراه مضيئاً، وأحياناً تجده ذائباً، إلى درجة لا تكاد تتلمس شيئاً من تضاريس وجهه، فتراه في الكثير من الأحايين، مشغولاً بنفسه، وتراه في مرات أخرى، أشبه بالوهيمي الذي لا يكف من التفريط بنفسه داخل مكعب الحياة التي يعيش داخلها.‏

"كف عن الهذر والشرح أيها الأحمق، فماذا تريد منه أن يفعل لك؟ أن يقف وسط الشارع ويقوم بإيداء التحية العسكرية، كما يفعل ذلك الجنود أمام جنرالاتهم؟ أن يهز لك بطنه، كما تفعل الراقصات الشرقيات؟ تكفيه لعنة الطقس هنا، فكيف ولعنة أخرى أمامه مثلك؟!"‏

"ولماذا لا تتركني وشأني، دعني أقشط شيئاً من تلك العتمة التي تبتلعني"‏

في الروح البشرية، فالظلام الذي يغلف الأرض، سرعان ما ينقشع، بمجرد خروج الشمس من كهفها البعيد.. فميا الظلام الذي ينزل في الروح البشرية، يتكلس طبقة فوق طبقة، ومن الصعوبة بمكان، تنظيفه من تلك الأعماق"‏

نحن نعيش عالماً داخل عالم، ونفتش عن مواقعنا، أين؟ هذه الثنائية الإزدواجية، تملي علينا فكرة أن البحث عن طراز جديد من التفكير، لا يخصنا وحدنا، بل هو الآخر يهم العالم الذي نحن على هامشه، كي نتجاوز الهامش إلى النقطة الأبعد: العمق، فحينما يصل المرء إلى هناك، يكون الطرف الأضعف إغتراباً وغربة، قد خرج من مثلث التهميش والتهشيم معاً، فيكون بإستطاعته البحث في صياغة العالم المشترك.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:27 AM
- هل ستكفينا سفينة واحدة؟ لا أعتقد ذلك، ولكن لابأس من توفير واحدة كإحتياط!"‏

- آه، لو كنت أستطيع، لوضعت على ظهرها وفي عنابرها كل اللاجئين الخطايا، وثم ثقبها بصاروخ من نوع "سلكورم" لتغرق في تلك الأعماق السيحقة.‏

- ولكن، من كان منكم بلا خطيئة، فلرجمها بحجر، لذلك فلا تدع الأفكار الإستثنائية والعدوانية، تسلب دماغك، وباسم من تدعو لذلك؟‏

- باسم العدل، القانون، التاريخ، الجغرافيا.‏

- لاتقل ذلك، فالذين يضعون القوانين خليط بشري في عالم تقرض الجرذان روحه.‏

- إذا كان القصد النفايات، فالزمن كفيل بتصريفها، فملوك الخطايا، لابد أيلون للسقوط.‏

- كأنك تريد وضع كتاب مقدس جديد.. أسألك: هل قرأ هؤلاء الكتب المقدسة القديمة، ليفعلوا ذلك مع ما تريد وضعه؟‏

- أنا متفق معك.. فلدى هؤلاء استعداد للتبول على كل الكتب وكل المعارف وكل الفلسفات وكل القوانين..‏

- هل لأنهم آميون؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:30 AM
"لا أحد يستطيع هضمك، حتى لو تصنعت رقة شقائق النعمان وإبتسامة الجوكندا وصمت أبو الهول. ستبقى تلدغ وتلذغ.. أفعى ولها ألف رأس ينفث السم، حتى في الجسد الذي هو منك."‏

لقد كان ما يميز النمس إدعاءاته بمعرفةأسرار المخلوقات دون إستثناء. وهي ميزة سيئة ورخيصة، وضعته في فوهات المدافع، فنال من ورائها ما لم ينله بغل الجبل. وهو يدرك ذلك جيداً، لأنه دفع مختلف الضرائب. ويدفع ثمن إنفضاض الناس عنه، وكراهيتهم له.‏

"أنا أعيش بالفائض من العمر. وكان عليّ أن أنتهي في تلك الحفرة منذ زمن طويل. ليس بفعل المرض العضال وحسب، بل وبسبب السلطات التي كادت أن تطبق على جوزة العنق، لتهرسها في بلاد العلجومّ"‏

وعندما يُسأل عن الكيفية التي نجا بها، كان يقول:‏

"إنه الحظ والصدف.." دون أن يتوانى عن ذكر المغامرات الخرافية أثناء الحديث عن نفسه.‏

إن اللسان الذي يخفيه النمس المتطرف في فمه، لا يتمتع بالطول فقط، بل بلونه الأصفر وكثرة الدمامل التي تستقر كالفقاقيع على سطحه:‏

"كل فقاعة.. تنفجر زنخاً عن قصة مختلفة ضد شخص ما. وليس غريباً أن يصنع لك النمس قصة كل دقيقة. وكلها تتعلق بالخيانات والبذاءات والعهر والدناءة. ودائماً.. البطلات من النساء: زوجات الساسة والأدباء والفنانين والشعراء. وبالنتيجة، لا شرف للمرأة عنده. الكل نساء مواخير وحانات وقوادة. فأجملهن داعرة وداهية جنس. وأبشعهن عاهرة زنخة!"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:31 AM
هذا التصوير العدواني الفاضح الذي ينم عن مرض، يشع بالعفونة التي تسكن أعماقه، فالنمس يراهن على تفاهته ليس غير. يطالب بتنظيف الأرض من النفايات، دون أن يقوم هو بتنظيف داخله من المستنقع الذي بلغ غاية التعفن. مثله مثل"بول الشهري" الذي نال اللجوء السياسي في البلد على أساس معاداته لحاكم ولاية "العلجوم" ليتحول بعدها وجماعة زيطا زمبليطا، إلى داعية للتبشير بوطنية وديمقراطية ذلك الحاكم!‏

"ألم تشهد له أنتَ بأنه كان من المعارضين والمضطهدين هناك؟"‏

كنت غبياً ومغفلاً. فكل واحد من هؤلاء مفاجأة. فالعقيم منهم ينجب هنا. والأمي يصبح علامة وفقيهاً في الصحافة والعلوم السياسية. والديمقراطي إلى مقصلة أتوماتيكية. أجل. فهؤلاء ما زالوا يتمتعون بدور المسمار في حذاء الديكتاتور، وإذا صادف أن ملّ أحدهم من هذه العادة، يصبح محراثاً صدئاً في لحوم الغير.‏

"كل الحق على السيكولوجيا.."‏

كلا. فالجثث المنحطة هنا، ليست بفعل التأثيرات السيكولوجية وحدها. هناك البيولوجيا والأيديولوجيا والسيوسولوجيا، لذلك من الصعب أن تعيد إنتاج بويا الأحذية، لتصنع منها دماغاً.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:32 AM
فطر سام، يخرج من الأرض، دون تدخل من البشر"‏

ولكن الغيوم التي تقوم بسقايته، عادة ما تأتي من ولاية "العلجوم" على ظهور المخبرين، والسياح الذين نالوا مؤخراً، تأشيرة الصفح الديمقراطي عن المعاصي القديمة! فراحوا يشدون الرحال إلى عاصمة "المعجزات"!!‏

" لكل شىء نهاية، فمثلما دق رأس نمس المتطرف بالحذاء، ووجد جثة متعفنة في التواليت العمومي لأحدى محطات القطار، سينتهي "الشهري" برميل نفايات في حضن غانيته الافريقية على الرصيف، قاضياً نحبه، دون الحاجة لمثل تلك السفينة التي كان يتحدث عنها النمس قبل عامين.‏

-"كل واحد من هذين، يحتاج لرواية طويلة، كي تعطي كل منهما حقه.. أليس كذلك؟"‏

-"رواية تكتب على جلود الصنادل، لا، الأفضل أن تقول النعل وليست الصنادل.. لأن الأخيرة كلمة موسيقية، فيما تستطيع أن تقلب الكلمة الأولى لتقرأها من الأخير، لتشعر بحقيقة الموقف: لعن"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:32 AM
هؤلاء هم الأبطال الوحيدون الذين لا يستحقون أن تفعل من سجلات أمجادهم حبكة فنية، فاللافني، لا يستحق لعبة الفن، دعهم يموتون، أو يتساقطون من على أي خط في الرواية، فدون هؤلاء، لا يمكن للسقوط أن ينتج معناه الحقيقي، فالبئر، الحفرة، الهاوية، كذبة أو وهم لولا رنين سقوط الحجر أو إرتطام الجثة في أعماقها، أقصد الرنين الأعمى للموت.‏

"مصيبة، أن يمرضك أبطال الرواية بهذا الشكل!!"‏

نظر الماوردي إلى ساعته، فقرأ فيها زمناً، كأنه نشارة خشب متطايرة نحو آفاق ليست قريبة، فلم يساوره الشك، بأن الحياة التي يعيشها، قد أصبحت تافهة، وربما لاتطاق، فمن الصعوبة بمكان، أن يتحول العالم إلى سرير، والمرء إلى مريض بالروتين، تظلل قامته الأغطية، فتلك علامة سيئة لا تبشر إلا بالتعفن، تعفن الجسد داخل الجسد، وتعفن العيون بفعل التلفزيون الذي أختاره الماوردي، كأن يكون صديقه الوحيد هنا.‏

"هذا الصديق، لن يتعبك كثيراً، صحيح إنه سيأكل منك كضفدعتين صغيرتين، ولكنك قادر على أن توقف هذره وهذيانه في الوقت الذي تشاء: إسكت يا ابن الكلب، فيخرس دون جدال أو نقاش، وكذلك، فهو لا يزعل، فالتلفزيون ملخص لكيانات تحاول أن تحظى باهتمامك"‏

"أنت تريد ضحية سهلة، ودون دماء، أليس كذلك؟"‏

"عندما تتواجه ضحيتان، تخرج من بينهم ضحية ثالثة".‏

"إنها نزعة السلطة. تبث أنغامها على الجسد."‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:33 AM
"طبعاً. ولكنها ليست كتلك السلطة التي تجعل من الجلود الآدمية طبولاً وصنادلّ"‏

"وهل تعتقد بأن ثمة سلطة لإنتاج الحرير؟"‏

أقصد هل هناك سلطة، لغمر أراضيِ الجسد بالمياه. أي أن تكون مختصة لقمع التصحر، أو لنقل الحيلولة دون زحفه إلى أخطر الأماكن حساسية في الرأس. لا أدري. لكن، ومع ذلك، فإن أغلب مشاريع تحصين الدماغ من الرمل، تبوء بالفشل في شرقنا. ربما لنفاذ الصبر الذي لم يعد له مكان في النفس، أو بفعل الآمال التي سقطت من على ظهورها الأجنحة، لتصبح عبئاً على نفسها والشجرة التي تتعلق بها. شجرة، هي الأخرى هرمة كتلك الآمال. وليس بمقدورها أن تفعل شيئاً سوى الإستسلام لمنشاركهربائي عظيم، ليطيح بمجدها القديم، كالجثة، وللأبد.‏

كل شيء يتحول إلى نفاية ملتهبة في بلاد العلجوم والمنفى: فالمدن تذبل وتشيخ أيضاً. وقد أصبح لدينا الكثير من المدن المتوفاة. فهي إن لم تكن ميتة على الطبيعة، تجدها كالطلل على الخرائط. متوفاة سياسياً على الأقل. مدن سوداء ومدن بيضاء!! قد تموت مدن كثيرة.. إلا أن الأرض، ستبقى تتنفس. مثلما أظن بالبعض من البشر الذين يتنفسون داخل قبورهم؟ أجل. البعض فقط. وهل يشاهدون كذلك؟‏

عندما تضيف السلطات ظلامها لظلام الطبيعة، سيكون من الصعب على المرء تلمس أنفه. لأن الظلام الحكومي، سرعان ما يكلس العيون وهي في كهوفها.‏

قبل سنوات.. كان الخراب أرحم. والقتل أخف وطأة. والسجون أكثر رفاهية: أحواض من التيزاب، وتذوب فيها العظام ومعادن الروح. والحروب الصغيرة: مسدسات كاتمة للصوت لتطريز الجسد بزخارف الحكم. والحريات أقل كلفة من حرية الوطن. أما بعد أن مدت الحروب الكبيرة أعنلقها إلى خارج الحدود.. أصبح كل شيء في نهايته. فالوطن، وأنت تراه مثل برج"بيزا" تثير قامته المائلة الهلع في النفوس. والناس تنتظر الساعة التي يرتطم بها كالجثة العملاقة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:35 AM
ألست أنتَ الذي قلت منذعشرين عاماً:‏

"لنقف قليلاً يا صديقي ونتساءل:‏

لمَ تشيد كل هذه البنايات،،‏

بينما الإنسان يتهدم‏

تحت السلالم التي لا تقود إلا للتشاؤم والإنتحار؟"‏

-أنا قلت ذلك منذ عشرين عاماً، وضبط الفيلم. فما بالك بسبعة آلاف سنة من التاريخ، يتسلبط عليها حاكم وغلمانه، لتحويل الحضارة إلى علف تجتره البهائم وعرفاء الجيش والبلطجية؟‏

-ليس ظلماً. بل هو التنكيل. الشطب الهندسي البشع لذاكرة البلد، وضمن متتاليات سريعة، وصلت في نهايتها إلى معادلة: رأس واحد مقابل رؤوس ملايين من المخلوقات البشرية؟؟!‏

-اللعنة ؟ على التاريخ والجغرافية والحضارة التي لا تكفي لمسح فضلات مؤخرة الحاكم!‏

-أية لعنة.. بحق السماء؟!‏

-نحن منتوج اللعنة. هكذا يقول البعض.‏

-يا للهول!!‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:37 AM
ها أنتَ.. وقد أصبحت بقرحتين يا ماوردي. كانت الأولى في مكانها الطبيعي، وها هي الثانية، تشتعل وتخمد في الرأس كالبركان. وما زلت تراهن على أولئك الذين تُزين المقاصلُ أعناقهم، كما لو كنت تستنهض تلك الأرقام المُخدرة في مربعات أوراق اللوتو الأسبوعية، لتربح جائزة اليانصيب الكبرى.‏

كم من العمر ضيعت في زقاق وشوارع وملاجىء المراهنات؟ والآن.. ماذا لديك لتفعل بالشلل الذي بدأيرمي بشباكه في مناطقك المختلفة بالتتابع؟‏

"لم تخسر شيئاً.. أكثر مما فقدت. والأنهار الميتة، سيأتيها فيضان، ليبعث الروح فيها من جديد. ولكن ليس أكثر من ربع قرن. فالطوفان لم يأت. مثلما فعل ذلك غودو. علماً بأن الغرق تحت رمال الإنتظار، بات على أشده، وهو أكثر هولاً وهلاكاً بالناس من الطوفان المنتظر."‏

إلى متى يا ماوردي.. كلما رأيت خنزيرا من هؤلاء، سرعان ما تحس بأنك تملك قرحة لا جسداً. قرحة تثور من الرأس وحتى أخمص قدميك. فتجعل منك عصفاً مأكولا؟‏

لمَ تترك التشاؤم يقودك بعصاه الغليظة.. وأنتَ الأفرنجي المنتظر؟‏

أليس غداً هو ما تنتظر. حيث ستنال مع كل الأجانب الجنسية الجديدة يا عم، لتصبح من السكان الأصليين لبلاد جلالة الملكة مارغيتا!‏

"ستبقى أجنبياً، حتى وإن حصلت على مائة جنسية من بلاد الفرنجة. سينظر إليك الآخرون وهم يشيرون عليك: ذاك هو الغريب الذي تعفن في المنفى."‏

آنذاك.. ستشق الرماد الذي أنت فيه لتصرخ في الشارع: يا نخلة من نخيل العلجوم.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:38 AM
تعبر أيها الأنت‏

من كلّية الظلام الواضح، إلى كلّية الفضائح، وما بين الليل والنهار كلّية مُسودّات العقل.‏

-ها أنت في النهار الفرن!‏

-ها أنت في الليل، تبني تحت حساسيته مخاوفك العالية.‏

لم أتذكر شيئاً. غير أنني عبارة صامتة في نهاية الخطاب التدميري.‏

"الوطن الناقص، يلد مواطنين خدجاً. وهؤلاء، سيستمرون بتنفس الهواء الناقص إلى ما لا نهاية. وباستعمال الحرية الناقصة. وبملامسة الحبّ الناقص. وبالتعامل مع الثقافة والحقوق الناقصة" كيف نمحو فكرة المعسكر في الذهن، ونطرد مرض العسكر من الدم؟‏

-نم حالماً!‏

-ولكن ليس دون امرأة. أليس كذلك؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:39 AM
(26)‏

لم يكن ذلك بالسبق الصحفي. بقدر ما كان أشبه باللعنة التي بصقت نيرانها على الوجوه. فالرجل الأمريكي الجنوبي الذي فرز الأيدز في دماء الدانماركيات اللائي تجاوز عددهن العشرين فتاة، كان على معرفة تامة بما يفعله. فقد تناولت الصحافة القضية من باب الفضائح ليس غير، ذلك لأنها لم تتطرق إلى أسباب القضية. ولم تشر إلى موضوع الإباحية الجنسية ومخاطر الشذوذ وفقدان الغالبية من النساء لحصانة الجسد. بل كانت دوافعها تسير في طريق آخر: زيادة المبيعات، وتقديم الطازج من الفضائح للقارىء الذي تمسك بعنقه.وتقدم له يومياً، ماذا يفكر ويشرب ويدخن ويقرأ ويأكل ويتبضع، وربما كيف ينام ويحلم في فراشه حتى.‏

إذن. كيف يمكن للماوردي أن يجري حواراً مع شخص من طراز فيدلوس؟ فيدلوس الذي فعلها ببرودة أعصاب. وبسوء نية:‏

"لن أدع روحي تخرج من جسدي لوحدي. سأدفعهن لهذا المصير كذلك!"‏

ولمَ تفعل يا فيدلوس ذلك. ألم تتمتع بأجساد النساء وتقبض ثمن ذلك؟‏

"ولمَ تريد مني الوقوف في قفص المحكمة وحيداً؟ أليس من الأفضل أن تستدعي النساء إلى هذا المكان، وتقوم بجرد الأفكار والرغبات المشتركة في معادلة الموت الذي يشملنا بعد رحلة اللذائذ التي إنتهت بنا في المستشفى؟"‏

أنتَ حاولت الإنتقام يا فيدلوس. ولا مكان لمنتقم إلا في نقطة العدم.‏

"ولماذا لاتقول العكس.. بأنني ضحية لإغتصابهن؟"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:39 AM
وهل تعرضت لذلك فعلاً؟‏

"كنت أبيع قوتي الجنسية في السوق السوداء، هرباً من الضريبة. كأية عاهرة في سوق العمل. وهناك الكثير من الرجال يفعلون ذلك في البلد. فنحن نترك للنساء العجائز حرية اغتصابنا بالعملة! ماذا يمكن أن تطلق على ذلك؟"‏

بسبب المال فقط يا فيدلوس. أم للمتعة أيضاً؟‏

" عندما نردم العقل بالمخدرات، ونرمي بالمفتاح إلى العتمة، فمن الصعب أن تعرف اللحاف من غيره آنذاك."‏

لقد حاول هذا الرجل القادم من الجنوب الأمريكي، الإستسلام للحلم الأوروبي على دفعات. إلاّ أنه سرعان ما وجد نفسه في الأوقيانوس المتلاطم لمدينة مثل كوبنهاغن، وهي تغص بالبارات والديسكوات والمقاهي ونوادي الليل والمسابح وعالم الرغبات الكبير. فلم يستطع مقاومة مغريات العاصمة. تلك التي سحبته من دمه نحو مواقع لم يكن لها من شيء في ذاكرته، سواء في الطفولة أو الصبا.‏

وها هو يلفظ أنفاسه في هذه العاصمة.‏

"لن يقرأ المارة غير تلك الكلمة الوحيدة على شاهدة قبرك يا فيدلوس: مات الجرذ الأجنبي في المبغى الأوروبي."‏

أجل. وماذا تريد أن يكتب هؤلاء على غلاف القبر. تاريخ رحلة كولومبوس أم فتوحات نابليون؟‏

"لن تصيدك إلا الفخاخ المستعملة للفئران، لأنك غريب، ولا تستحق أكثر من ذلك يا فيدلوس العاهر."‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:40 AM
لتكتب عن بطولاتك كل الصحف وكل المجلات. ومن يدري. فربما سيقيمون لك تمثالاً في هذي البلاد. بعدما عجزتَ في تلك البلاد عن تأمين ثمن الطابع الحكومي الذي يوضع على جواز الهجرة. وها أنتَ هاجرت للموت هنا.‏

"ألست بالفخور حتى بمرضك يا فيدلوس؟‏

إذن. مت بالأيدز بين فخذي امرأة، خير من الموت جوعاً في بلدان الإشتراكية هناك. فالموت ليس واحداً، كما يقول فلاسفة الطين. و الإستشهاد على سرير الحب، ليس مثل الموت أمام طاولة التحقيق."‏

" كل ما فعلته يا فيدلوس كان قذراً، اللعنة على سلالتك. ما كان عليك أن تفعل ذلك. ما فعلته لا يسمى انتقاماً، بل مجموعة من الجنايات الوضيعة، فمثلما وافقت أنت على دخول عالم الوضاعة والوسخ والعفونة والإنحلال، عليك أن توافق على المصير الذي آلت إليه الأمور في حياتك الوضيعة. أما أن تسرق الحياة من الآخرين، فتلك ليست بالدعابة، أجل، الموت ليس دعابة يا ابن العاهرة، لقد نمت مع نساء كثيرات، وكنت مبتهجاً وسعيداً ومأخوذ التلابيب من شدة وقع الجنس في أعماقك.‏

ألم تقل في أيامك الأولى:"النساء قبل الطعام"‏

فلماذا فعلت بهن ذلك؟ من أجل أن يصبحن فاسدات كالطعام في علب الصفيح الملوثة؟"‏

خمد فيدلوس في مقعده، وهو يتأمل الممرضة التي أمامه.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:41 AM
"يا لها من مؤخرة، تصلح قبراً لنهايتك، أو إن جدران لحمها، تستيطع احتواء كل نصوص أولئك الذين كتبوا وماتوا، وهم يرتلون العبارات الثورية في تلك الأراضي البعيدة، وماذا كتب أولئك غير كلمات تفوح منها رائحة أشد فتكاً بالدماغ من الأيدز، هل حرروا الإنسان من ألغامه التي تستبد به على حين غرة؟"‏

لا شىء.. كل الكذب لكل الناس، والعكس صحيح أيضاً، يا فيدلوس.‏

فجأة.. أمسك فيدلوس بيد الممرضة، وهو ينظر إلى حياته التافهة التي تستقر داخل الأبرة- علاجه اليومي- الجاهزة للحقن في جسده، وقال لها:‏

"هذا الجسد، لم يعد يرغب تمرير سوائل الأوهام، دعيه يكمل ذبوله النهائي بطريقة أخرى"‏

نظرت إليه بحنو زائد، وحاولت أن تحبس الدمع في عينيها‏

"في الكثير من الأوقات، يصبح المرضى من مستلزمات حياتنا، ربما بفعل الإلفة والعمل والصداقة، أو ربما لأننا نشعر بمسؤوليتنا الأخلاقية المحرجة، عندما يفلت منا هؤلاء، دون أن نتمكن من إعادة الحياة إليهم."‏

قالت الممرضة ذلك في نفسها، وهي تشد على يد فيدلوس لبث شىء ما من الشجاعة في نفسه، ليقاوم.. لكن الأخير، سرعان ما أطلق يدها في الهواء، وهرع باتجاه النافذة، ليخترق زجاجها بجسده من الطابق العاشر، فيما تسمرت الممرضة في مكانها كالتمثال، وهي تمسك الأبرة عالياً بيدها اليمنى وتصرخ:‏

"لقد طار فيدلوس، خرج من زنزانته وطار"‏

فيما كانت عيون المرضى الآخرين، كشاشات التلفزيون بيضاء بيضاء، وكأن بث الإرسال قد انقطع عنها!‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:42 AM
(27)‏

كان على برهان النهوض مبكراً في مثل هذا اليوم من الأسبوع: الاثنين، لم يكن ذلك من أجل مزاولة العمل، بل من أجل دفع الفواتير والضرائب وأيداع الرسائل في صناديق البريد، فرجل الأعمال، ليس وحده من يفعل هذا في البلد، بل الجميع يمارس هذه المهنة، بما في ذلك العاطلون عن الشغل، ويبدو أن البطالة صنعة ترافق الغريب إلى نهاية المطاف هنا،كأن القادم من الخارج، لا يستيطع أن يتقن شيئاً غير البطالة، فبمجرد أن تتقدم بطلب إلى شركة أو مصنع أو مرفق ما من مرافق الخدمات، ويكشف عن هويتك كأجنبي، من الصورة أو الصوت، سرعان ما يأتيك الإعتذار كقطار أعمى ليصدمك بالرفض، حتى أخذ الكثير من الأجانب بتغليب فكرة تغيير أسمائهم التي يحملونها إلى أسماء دانماركية، بهدف الدخول إلى العقلية السائدة في سوق العمل لتوفير فرصة ما من الحظ ضد هذا التمييز العنصري لدى الشركات ومراكز العمل، أو لمواجهة الرفض بالتحايل، ولكن، كثيراً ما تبوء هذه الألاعيب بالفشل أيضاً.‏

-سيبقى اسمك برهاناً، حتى لو مسحته من كل الوثائق والسجلات ووضت مكانه هنسين أو ينسن أو أي اسم دانماركي عريق.‏

-هل من سوء المصادف إنك ولدت هناك؟‏

-إن المرء لا يحتمل تغريباً آخر في جنسيته الداخلية، اللهم إلا إذا كان من نسل الرمل، ليولد في كل مكان.‏

-أوف، اللعنة على الولادات التي تخرج من الأرحام المحطومة كالقناديل.‏

-كن طفلاً، وإذا لم تتمكن من ذلك ارسمه على الورق، وتطلع إلى ألوان الطفولة بشغف.‏

- من، أنا؟ الطفولة تخرج من الأرض مرة واحدة، إنها لا تزرع أبداً.‏

"أليس من الأفضل أن تفكر في الصباح عن شىء آخر غير العمل؟"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:42 AM
هكذا إخترق صوت الزوجة رأسه بغتة، وهي تقف أمامه، فتغضن وجهه وبعض قطرات من العرق تسيل عليه.‏

ودون شعور منه، واحت يداه تتحسسان بطنها الحبلى.‏

وهذا، أليس من نتاج العمل؟‏

إذن، لا تشكو من البطالة مرة أخرى، ولديك شغل من هذا النوع.‏

قاطعها وهو يقول:‏

"ربما موهبة الأجانب الوحيدة في هذه البلاد: الإنجاب! أليس كذلك؟"‏

-ولكن علينا مراقبة أطفالنا الخمسة بإنتظام، وتوخي الحذر من مغبة تكرار ما حدث للطفلة "روجان اسماعيل" في النوربوت.‏

-لا تعيدي تكرار قصة الجريمة القذرة على مسامعي، فلن أفلح بكبح جماع التوتر الذي ينتاب أعصابي، لقد كان فعلاً جنونياً أذهل الجميع باستثناء الصحافة التي أغلقت عيونها الإضافية، وتطلعت للجريمة المروعة بلمح البصر، كان إغتصاب طفلة في السابعة من العمر، وتحولها إلى جثة مقطعة الأوصال في كيس للنفايات، ما نشيت لا يجلب الحلال للصحافة الدانماركية التي أعلنت عن الجريمة من باب رفع العتب.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:43 AM
أليس هذا ما حدث؟‏

-نعم، فكل قاتل يبقى طليقاً، يبقى شبحه يلقي بظلاله على العائلات.‏

-لمَ حدث ذلك بحق الرب؟ هل من أجل ترويع الأجانب ودفعهم للرحيل، أم كان الدافع من وراء قتل الطفلة هو الخلل العقلي؟ وإذا كان الجنون هو الحافز، فمن المسؤول عن إطلاق هذه النماذج حرة داخل المجتمع؟ بل ومن يستيطع منع وتكرار مثل هذه الجرائم بحق سكان البلد بين الفينة والأخرى؟‏

-أنت تسألين.. أم تحققين معي؟‏

-أنا قلقة على حياة الأطفال الذين أخرجناهم إلى الدنيا، دون أن نفكر جدياً بالمستقبل الذي ينتظرهم في طواحين عالم اليوم!‏

قد تقول لي: هذه مبالغات وتهويل للأوهام التي تستقر في داخلي، ولكن، ألا توحي الأمور بمثل الذي في ذهني؟‏

-أنتِ تجعلين من جسدي قماشة ترتجف، وليس من عادتي التجرؤ على دخول غرفة المستقبل المغلقة.‏

-طبعاً، أنتَ غارق في عالمك الخاص، دون أن تكلف نفسك عناء الإقتراب من مناطق الزلازل، تتركني وحيدة، دون أن تنظر إلى القيعان التي تبتلعني حتى.‏

وهل حدث وإن إبتلعتك الزلازل قديماً؟ ألست أنت أمامي الآن، أم أنت امرأة أخرى؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:44 AM
كما عهدتك منذ الزمن البعيد.. مثل "أبو الهول" يمسح العواصف بجلده دون أن يتحرك من مقامه!‏

-لا أظن.‏

-لا تظن بماذا؟‏

-بأن "أبو الهول" كان متزوجاً وله شلة أطفال، فلو كان كذلك، لما كنا وجدناه صامداً في مكانه هكذا!‏

-ولماذا لا تظن بأن النساء قد فعلن به ما يستحقه؟ أن يتحول إلى حجر بين الرمال!‏

-قد يكون ذلك صحيحاً، فالنساء يفضن بالعقوبات.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:44 AM
لم ترغب الزوجة بادارة معاركها من أجل الأطفال، بالكلمات وحدها، فتوفير الحماية لهؤلاء، تتطلب جهوداً مكثفة من الجميع، "هؤلاء أطفال لا فئران" ولذلك لا يمكن اعتبار قضية كهذه موضوعاً هامشياً في عالم اليوم، فقد ينكسر الطفل مثل أنية الكريستال وينتهي معه الحلم أنذاك، يصبح البكاء أو الندم من وسائل تعزية النفس الرخيصة.‏

"أنا مع هذا الرأي، ولكن لا أعتقد بأن كل أب صالح لقيادة هذه الخلوقات الصغيرة في فصل الطفولة الطويل، فكيف بالذي تطايرت طفولته كالوريقة الملونة عالياً، لتضيع فوق الغيوم؟ هناك أناس لا يريدون الإنفكاك عن طفولتهم حتى آخر العمر، وعندما تصرخ بأحدهم، أن يكف عن إرتكاب بعض الحماقات، لأنه بات رجلاً، سرعان ما يرد عليك ساخطاً:‏

"دعني أتمتع بطفولتي! هنا تختلط الطفولة بكل الأشياء، أزاهير بين رحى ثقافتين، عالمين، نقيضين، الشارع يربي، المدرسة تربي، البيت يربي، التلفزيون تربي، الصداقة يربي، الجار يربي، المخيلة تربي، المرآة تربي، فأين تقف أنت من عملية المزج الكبيرة، لتنتج طفلاً على القياسات النموذجية منيعاً ضد الإختراقات كسور الصين، وذكياً مثقفاً كالكومبيوتر، وحساساً كزهرة عباد الشمس، ونقياً شفافاً كالنبع، ونبيلاً كريماً كفارس من الفرسان، وحجراً غير قابل للتذويب والتهميش والطحن، كيف نصنع عالماً بريئاً، نحن ذوي الطفولات التي إنقضت عليها كل المخالب دفعة واحدة، وعاث الفساد بها، ليتركها جثثاً متفسخة من الأمراض والدناءات والعنف والنزعات التي لا تصلح لغير الدفن في الأعماق السحيقة؟ ترى.. كيف يتحدث المرء عن الطفولة بكل هذه التعنيف والتوبيخ؟ هل لأننا لم نكن أطفالاً ذات يوم، لكوننا خرجنا من بطون أمهاتنا شيوخاً تفيض بروح الصحراء، القسوة والعنف والجلد والصراع مع الطبيعة وقراءة ما تفرزه من منتوجات."‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:45 AM
هزت رجاء رأسها، وهي تنقب في وجه بعلها المحتقن، كأنها تحاول التخفيف من وطأة الأفكار التي إنتابته فجأة في مثل هذه الصباح الباكر، فهي تدرك ومنذ زمن بعيد بأن الحياة في المنفى لعنة لايمكن إحتمالها، ولكن أن تفعل شيئاً لمواجهة ذلك.. فهذا ما لا قدرة لها عليه هنا، هكذا تعتقد.‏

أما البعل المحترم، فهو يعرف في دواخله، إنه لا يستطيع غرس رجاء في هذه الأرض، هناك رفض داخلي شدسد ولذلك فالكثير من المخلوقات، مثلها مثل الكثير من النباتات التي ترفض النمو في غير الأمكنة التي كانت تعيش فيها، أو أنها تنغرس بعض الشىء، لكن ليس بجذور طويلة تضرب في أعماق التربة، حيث تبقى على الدوام عرضة للتلف والذبول، وهذا لا يتعلق بأسباب الطقس والفروقات الجغرافية وحسب، بل بفعل العادة، ففي النساء الكثير من صفات التي يتمتع بها النباتات على سطح الأرض الواسعة.‏

"حاولي أن تجدي لنفسك الأرض المناسبة هنا، قليلاً من الصداقات لكسر العزلة التي لا ترحم، وكثيراً من الصبر لتحمل افرازات عالم الغربة والتغريب والإغتراب، إنك إذا لم تفعلي ذلك، ستصبحين امرأة من حجر، أجل، ستتحول قامتك إلى تمثال تعوي حوله الريح، وتغطيه الثلوج".‏

في الشارع، وجدت رجاء نفسها تتنفس بعمق، أحست بأن الجنين يختنق في أعماقهـا، لم تكن تحس بذلك فيما مضى، أما اليوم، فقد نهضت من سريرها مبكرة، خلافاً للعادة، جلست عند النافذة، وأطلقت لنفسها الحرية بالتفكير، التفكير بكل شىء: العائلة، الأطفال، المستقبل، العواء الداخلي، الأحلام،الحمل، الأهل الذين وراء الحدود والبحار، التاريخ القديم للطفولة، مدرستها الابتدائية، صديقاتها، الحب الأول في حياتها، أجل، كل ذلك تدفق في أعماقها، وكأن أرشيفاً ضخماً، وقع من رأسها على الأرض، فبدأت بالتهام صفحاته كالبقرة النهمة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:46 AM
-كوني قوية وتنفسي بعمق يا رجاء، فستصل سيارة الاسعاف حالاً.‏

-لم أعد أقوى على فعل شىء، يا رب، أكاد أموت إختناقاً.‏

-لا داعي للتفكير بالأشياء السيئة.‏

-أمي، أين أمي؟ أريد أمي، أبي، أخوتي، أين كل هؤلاء؟‏

-سيكون كل شيء على ما يرام. دقائق فقط.‏

عندما سقطت الزوجة كالسعفة بين يديه بلا حراك، كان يسمع زمور سيارة الاسعاف دون أن يراها، فتخيلها أنها أنها لن تصل، إلا بعد أن تلف السيارة المحيط أو الكرة الأرضية، ولكنهما وصلا المستشفى الذي لم يبعد عن مكان إقامتهم غير عشر دقائق، وكانت الدقائق تلك، بطول قرون من الزمن.‏

"هكذا يشعر المرء، عندما يضايقه الموت على حين غرة، يحس بتجمد الزمن كما لو أنه كتلة هائلة من الاسفنج الثقيل"‏

" يا للرب، أية كارثة حلت بالمرأة بهذا الشكل الفوري المفاجىء؟"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:47 AM
لم تكن رجاء لتشكو من شىء، لا من مرض عضال أو سواه، فكل ما تعرضت له بالأمس، ليس غير لكمة جاءت في بطنها من شاب طائش أو عنصري عابر في الشارع.‏

هل هو مرض الحنين إلى تلك الأرض البعيدة التي انتزعت منها عنوة، أجل، فهناك نوع من البشر، لا يتمكنون من مقاومة العواصف التي تشدهم إلى ارثهم القديم على الدوام، هذا النموذج من المخلوقات، مثل سمك السلمون الذي يقطع آلاف الأميال في رحلة العودة بالإتجاه المعاكس لمجاري الأنهر، فقد يصل إلى موطنه الأصلي أو ينتحر في محاولات العودة، فالحياة في بعض صورها المدهشة، ربما تغطي خلايا المخلوق البشري بالنيران، وهناك الكثير من الوقائع التي تنتقل من الخارج إلى الداخل، لتنبت كالرماح في الأعماق السحيقة، ليتم إعادة إنتاجها فيما بعد.‏

وأنت السبب يا ابن اللعنة، ألم تكن تعرف بأن النساء مثل الآثاث، يتخلخل من كثرة النقل والترحال؟‏

أجل، أيم الخطوبة والحب، تقول لك المرأة: سأذهب معك إلى الجحيم فيما لو قررت دخول ذلك - تصور أن يقرر المرء اختيار الجحيم كمقر ومستقر له- ثم يكتمل الزواج.. فتبدأ بعده مياه الأسئلة بالطوفان، وكلها أسئلة تحركها موسيقى الحنين للبحث عن أقصر الطرق المؤدية إلى مساقط الرؤوس.‏

"هل تتذكر كونتاكتي في الجذور؟"‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:47 AM
سأل برهان الماودري، بعد أن تعرف عليه في غرفة التدخين الخاصة بالمرضى والزوار التابعة للمستشفى، حيث كان يجلس الأخير هناك وذراعه مجبرة بالجبصين.‏

- ولكننا ليس كذلك النموذج، لنا بلدان نعرفها، ونرى جذورنا وهي تتقطع عنوة، والشىء الأفظع من ذلك، إننا غالباً ما كنا نساهم بأعمال التقطيع تلك.‏

- كناغر، تحمل بلدانها في جيوبها وتنتحب من هول التعب ومن شدة التذكر، أليس هذا ما تحاول قوله؟ أجاب برهان.‏

لاأعرف، ولكنني ما زلت أشعر بأن أراضينا الداخلية، وقد توحدتا في طبقة واحدة ما تزال تتحكم ببرودة وحرارة أحلامنا التي نحملها، طبقة، يصعب على الجيولوجيين فهم مكوناتها من الفلزات والأسمدة والطين المجبولة منها أجسادنا.‏

"إخرج من بئر الهذر هذا يا برهان، وتابع مشهد الزوجة في غرفة العناية والإنعاش"‏

"وما تراه سيصنع؟ إذا كانت الأجساد مثلها مثل الأراضي، تتفتت، عندما يبدأ الزلزال بقراءتها" قالها الماوردي وهو يبحلق في وجه برهان الذي تتطاير منه النيران.‏

ثلاث ساعات من الوقت مضت، وما تزال الزوجة داخل تلك الغرفة المليئة بالأجهزة والمعدات الطبية الهائلة، فيما هو يجالس الماوردي الذي إلتقاه مصادفة في هذا المكان، ويثرثر.

كديميس
09 Mar 2006, 12:49 AM
-لا تأكل نفسك بسرعة، فالذين يفعلون ذلك يفقدون معنى الإنتظار، على الرغم من أن الإنتظارظرف إذلال المخلوقات البشرية الحساسة . يا للهول! قال الماوردي تلك الجملة. وهو يحاول التخفيف عن برهان بطريقة مضطربة. " سيخبرني هؤلاء الأطباء، بأن كل شيء قد انتهى. الجنين والمرأة والعالم. عندها، سأندب الحظ العاثر قات الذي قذف بنا هنا، دون أن نتمكن من التحرر منه إلا بالموت، أجل الموت، أليس هو الذي يحررنا من كل هم وحزن وتفاهة، ظننت هذا منذ زمن بعيد، لكن الأمور سارت بإتجاه آخر: تجرع العذابات على دفعات، وربما ما يزال الوقت مبكراً على ذلك، وكما يبدو، فان لكل مرحلة من الموت تقاليد خاصة، أنا برهان الجحش الذي يكتب لنفسه أسوأ الخيارات: غورباتشوف هدم الإتحاد السوفيتي، وبرهان هدم العائلة!! ما الفرق بين الاثنين برب الكعبة؟‏

لم يستطع الأطباء إنقاذ الجنين، على الرغم من كل ما فعلوه، فكانت العملية القيصرية، بمثابة إنقاذ لحياة الأم، ويبدو أن اللكمة التي صعقت بطنها من قبل ذلك الشاب المنطلق على دراجته في الشارع، الليلة البارحة، لكمة قاضية هرست رأس الجنين وهو في شهره السادس.‏

"وهؤلاء لا ينجبون، ولا يريدون لأحد أن يقترب من الإنجاب"‏

"كلا، لا تبالغ، ليس الموضوع بهذا الشكل، فالطفل بمنزلة الملاك في هذه البلاد"‏

"ولكن ليس الطفل الأجنبي! لقد أدخلوا الأطفال في حلبة الصراع العرقي الديني السياسي الثقافي، وها هو الجنين يردى قتيلاً في رحم أمه، فهل في هذا حضارة أو أخلاق؟ أم لا مكان لأن يغرس الغرباء بذورهم في الغرب؟"‏

"ولماذا لا تعتقد بأن الجنين رفض النزول إلى الأرض الملوثة بيئياً وعنصرياً؟ ربما كان يملك درجة عالية من الوعي، كي لا يشارك الناس في مواجهات مستقبل الإغتراب!"‏

أجابه الماوردي وهو يتطلع نحو الممرضة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:49 AM
هذه الليلة، هي الأولى يا برهان، دع النعاس يتحجر في عينيك، وإقترب من نفسك أكثر، لقد وضعوك في قلب الدريئة الآن، أجل، في ميدان المواجهة التي طالما هربت منها خلال السنوات الماضية، كنت تقول لنفسك: نحن لم نعط فكرة واضحة عن أوضاعنا، ثقافتنا، تراثنا، مجتمعاتنا، تاريخنا، واليوم تتلقى الطعنة، لتنزف نسلك هكذا، مجاناً، وبهذه الطريقة التي تخلو من المواجهة العلنية والشجاعة، كنت تتمنى أن تبارز واحداً من هؤلاء بالسيف والترس، أجل على طريقة الفرسان، ولكن هذا لم يحصل، فكل الذي حدث، أن تتلقى زوجتك طعنة خاطفة من شبح، سرعان ما يختفي أثره من العالم، مجهول، مخنث، أرعن، أزعر، مجنون، أليس هذا ما يكتب في محاضر الشرطة؟!‏

نحن نتحمل الضرب والشتائم يا عم، ولكن الأطفال شىء مختلف آخر، إذا لم توفر لهم الحماية يزدرونك، لذلك فأنت مضطر لأن تناضل من أجلهم على الدوام، ومثلما يدافع البشر عن قططهم وكلابهم ومنازلهم وسياراتهم، تدافع أنت عن أطفالك.‏

نعم، أليس لديهم كلاب تسد فراغهم لخلو الحياة من الأنس، ونحترم حقهم بذلك؟ فلنقل بأن الأطفال كلابنا! هل ثمة شىء ردىء في هكذا افتراض؟ قال الماوردي.‏

ولكن.. ماذا لو شعرت بالعجز، هل تضرب رأسك بالحائط حتى ينفجر دماغك إلى ملايين الفتافيت؟‏

لن ننتحر بالطبع، إذا كان بإمكانك سحق الحشرات العنصرية التي تسببت في قتل جنين زوجتك، لكن ما بالك بالأجنبي الذي يكسر ذراع الأجنبي في هذه البلاد؟ ألا يلتقي هؤلاء في قاع مستنقع نتن واحد؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:50 AM
إن العنصرية لا تملك وجهاً محدداً، فكل الفاسدين يلعبون لعبة قذرة وإن اختلفت الرقع التي يديرون عليها ألعابهم، ربما أنا في حالة يلفها الغموض، فما حدث لذراعي لا يشكل اعتداءً على الجسد، بقدر ما هو عملية لضرب ذاكرة العين التي تسجل هذا الكم الهائل من العنف والجنون والتجاوزز للقوانين الذاتية وسواها، فرغبة أن تصاب العدسة بالعمى، هو الأمر المطلوب، فهؤلاء، يحاولون تحرير العنف من الأغلال التي تضعها المجتمعات بيده.‏

عندما تلمست الزوجة بطنها الفارغ في صباح اليوم التالي بعد إنتهاء البنج، شعرت بأن يديها كقضيبين من النار، فرفعت رأسها من على المخدة قليلاً، لتستطلع الأمر بعينيها، ولم تستطع، ربما لأنها لا تريد أن تصدق ماحدث لها، لذلك تحولت عيناها إلى بحيرتين من الماء الحار، ماء التيزاب بالضبط، ولكي لا تدع نفسها ضحية للشك، نهضت بكامل قامتها وهي تصرخ: ابني، ابني، وما هي إلا لحظات حتىغابت رجاء تحت تأثير حقنة من المخدر مرة أخرى، حيث إمتلأت عيون الممرضات بالدموع، فيما أقفل الدكتور عائداً إلى غرفته وهو يتطاير سخطاً من هذا العمل القذر.‏

هكذا قرأ برهان ذلك على وجه الدكتور الذي تابع هذا الفصل التراجيدي في الغرفة التي ترقد فيها الزوجة هامدة.‏

الدانماركي الذي لا يقف في الشباك ليراقب العالم من خلال الزجاج، منعاً للفضول، يستطيع أن يقرأ ما يدور حوله بذكاء، فلكل مخلوق بشر من هؤلاء، جرسه الخاص الذي لا يرن إلا في اللحظة المناسبة، لتنهض فيه زهرة الصفاء، بعيداً عن الضجر الخاص به والتعب والتعقيدات، حتى القساة منهم، لا يستطيعون الفكاك عن طيبتهم، عندما تتدفق كالينابيع في بعض المواقف التي تتطلب النبل وعلى ما أعتقد، فإن البعض من الدانماركيين، ممن يرتكبون المساوىء والسيئات، لابد أن ينتحبوا في نهاية الليل ندماً، عندما يتأملون صناعتهم السيئة وما آلت إليه من عنف أو جرائم، ليس أجمل من البداهة واللاإزدواجية، والدانماركيون الذين لا يرتادون كنائس العبادة في غالبيتهم، لهم الكثير من الطقوس الإنسانية التي ليست لدى كبار المؤمنين المزورين في حياتا العامة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:51 AM
"اللعنة أيها المنفى..‏

ها أنت تخنق خصبنا في الأرض وداخل الجسد.‏

اللعنة أيتها البلدان التي شردتنا خارج حدود تلك الحقول.‏

التي نتمنى رؤية أحلامنا فيها، حتى وهي تلفظ أنفاسها هناك"‏

بعداليوم العاشر.. قامت الزوجة من سريرها في المستشفى، قالباً من الثلج المجمد، ودعت الجميع بالاشارات، وكأن خرساً شل كيانها كاملاً، فيما حمل الزوج حقيبة الملابس الصغيرة، ليتجه الاثنان برفقة ممرضتين حتى نهاية الممر، فيما الماوردي، راح يراقب المشهد من وراء بللور قاعة التدخين، وبمجرد أن إستنشقت المرأة الهواء خارج المستشفى، إنتابتها موجة من العويل المفاجىء، الذي لم ينقطع داخل التكسي على امتداد الطريق إلى البيت!‏

لم يكن لنا من الحظ في أن نراه، لكن، لا تهتمي، سنصنع في الغد طفلاً أجمل، داعبها الزوج بهذه الكلمات.‏

لم، لنرميه في صناديق النفايات؟‏

أطبق برهان فمه بصخرة سيزيف، وليس بصخرة أخرى، وبدلاً من أن يجلس برفقة الزوجة والأطفال، خرج ليجلس وحيداً على عتبة الدرج المعدني المؤدي إلى مدخل المنزل، وغرق في الدخان، كأنه من أولئك الذين يستحضرون الأرواح، وإلا أنه لم يتمتع بتلك الجلسة، إذ سرعان ما خرجت امرأته عليه، لتسحبه من ذراعه إلى داخل البيت.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:52 AM
(28)‏

على مدار السنوات الأخيرة، صار الشعور بالإلفة مع النفس ناقصاً أو معدماً، كأن كل شىء وقد غادر مكانه، ولم يبق إلا الرمل يسد الأفواه والأنوف، وتلك الحميميةالتي يتحدث عنها البعض، طردت خارجاً، فبشر اليوم، لا رغبة لأحد منهم بالإحتفاظ فيها، فكل فرد بات يقذف الحميمية من نفسه ومن لا يفعل ذلك يأكله التوتر والتلف.‏

لذلك كان على الماوردي أن يقرر إستبدال أبطاله باستمرار، خشية أن يتعفن أحدهم في سريره، ولا يستطيع أن يقوم برميه بعيداً أو دفنه، كان يقول في نفسه:‏

"ليخرج هذا البطل الفاسد من رأسي، كي لا يعيث الخراب بالنص، فلم تعد الرواية تليق بأمثاله، كل من يتصدع، لا يترك خلفه إلا الوجع"!‏

تلك.. ليست سياسة لأدلجة المزاج، بل طريقة لتنظيف عائلة الذهن من الأفراد الذين ليس لديهم وعياً أو مخيلة تتسرب منها الأحلام لمقاومة التلف، فثمة من البشر، من لم يكتسب غير سعادة الإيذاء، كونه الراهب الجليل من رهبان البعوض، وهذا الإنحطاط الذي أصبح يغلفنا في الكثير من الأوقات، لا يترك فينا غير النصوص المحترقة والأذرع المتكسرة ودوائر المؤامرات التي تتسع لإبتلاعنا على دفعات، عالم الغربة هنا عالم التفتت السري الصامت الذي لا إنعكاس مباشر له إلا داخل الروح.‏

لم تعد ذراعي الآن مثقلة بالجبصين، لقد سقط ذلك الثقل في المستشفى، ليحل مكانه ثقل آخر: مرض الإنفعالات، فالذين حطموا ذراعي بغتة في أحد الشوارع، ووضعوني رهينة في المشفى سارعوا لكسر شيء آخر في الدماغ. اغتصاب مورغ في منزلها بعد مداهمة ليلية، أعرف أننا لسنا في شيكاغو أو لوس أنجلس، ليتمكن منا رعب الزعران، لكن إقتحام البيت على تلك الطريقة، وربط القدمين واليدين بالأشرطة البلاستيكية وكم الفم بقطعة مبللة من المخدر، ومن ثم غرز تلك المسامير الصدئة في الجسد بمثل تلك الوحشية، يجعل إعتقادي وارداً، بأنني من سكان تلك المدن التي تملأ خلاياها الوطاويط والعصابات، هذا شعور لا تنازل عنه.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:53 AM
يبقى المواطن الذي لدينا تحت طائلة المسؤولية: أمام شرطي السير وأمام المعلم وأمام الوحدة العربية وأمام الحب وأمام الكتاب وأمام راقصة الستربتيز وأمام الضحك وأمام الحدود وأمام الطهاة في أقبية السعادة وأمام حراس الحدائق العامة وأمام مخدة النوم وأمام ماسك المحضر الحزبي.‏

أهي الخيبة التي نستقل حافلاتها وقطاراتها منذ أكثر من ربع قرن؟‏

وما تزال معطلة في موقف اليأس!‏

لم لا نجد الفلتر الفلسفي لتبرير هذا اللامعقول الذي يرتفع بيننا كالجدارية الصخرية؟‏

كي لا نمنح الموت امتيازاً خاصاً.‏

“انت.. أمام المرأة الآن”‏



(28)‏

على مدار السنوات الأخيرة، صار الشعور بالإلفة مع النفس ناقصاً أو معدماً، كأن كل شىء وقد غادر مكانه، ولم يبق إلا الرمل يسد الأفواه والأنوف، وتلك الحميميةالتي يتحدث عنها البعض، طردت خارجاً، فبشر اليوم، لا رغبة لأحد منهم بالإحتفاظ فيها، فكل فرد بات يقذف الحميمية من نفسه ومن لا يفعل ذلك يأكله التوتر والتلف.‏

لذلك كان على الماوردي أن يقرر إستبدال أبطاله باستمرار، خشية أن يتعفن أحدهم في سريره، ولا يستطيع أن يقوم برميه بعيداً أو دفنه، كان يقول في نفسه:‏

"ليخرج هذا البطل الفاسد من رأسي، كي لا يعيث الخراب بالنص، فلم تعد الرواية تليق بأمثاله، كل من يتصدع، لا يترك خلفه إلا الوجع"!‏

تلك.. ليست سياسة لأدلجة المزاج، بل طريقة لتنظيف عائلة الذهن من الأفراد الذين ليس لديهم وعياً أو مخيلة تتسرب منها الأحلام لمقاومة التلف، فثمة من البشر، من لم يكتسب غير سعادة الإيذاء، كونه الراهب الجليل من رهبان البعوض، وهذا الإنحطاط الذي أصبح يغلفنا في الكثير من الأوقات، لا يترك فينا غير النصوص المحترقة والأذرع المتكسرة ودوائر المؤامرات التي تتسع لإبتلاعنا على دفعات، عالم الغربة هنا عالم التفتت السري الصامت الذي لا إنعكاس مباشر له إلا داخل الروح.‏

لم تعد ذراعي الآن مثقلة بالجبصين، لقد سقط ذلك الثقل في المستشفى، ليحل مكانه ثقل آخر: مرض الإنفعالات، فالذين حطموا ذراعي بغتة في أحد الشوارع، ووضعوني رهينة في المشفى سارعوا لكسر شيء آخر في الدماغ. اغتصاب مورغ في منزلها بعد مداهمة ليلية، أعرف أننا لسنا في شيكاغو أو لوس أنجلس، ليتمكن منا رعب الزعران، لكن إقتحام البيت على تلك الطريقة، وربط القدمين واليدين بالأشرطة البلاستيكية وكم الفم بقطعة مبللة من المخدر، ومن ثم غرز تلك المسامير الصدئة في الجسد بمثل تلك الوحشية، يجعل إعتقادي وارداً، بأنني من سكان تلك المدن التي تملأ خلاياها الوطاويط والعصابات، هذا شعور لا تنازل عنه.‏

"ها نحن على أعتاب مافيا جديدة يختلط تحت خيمتها السياسي والعنصري واللص والمحتال الجاسوس والدجال وابن السفاح، ألا تظن ذلك يا ماوردي؟ أم مازلت مقتنعاً بأن الغبار لا يمكن أن يصبح جداراً في يوم من الأيام؟"‏

أحياناً، تضيف الصرامة إلى الجسد حاسة جديدة، يمكن أن نسميها حاسة الخراب البارد، حيث يتم تحطيم كل شىء بكل شىء، وإلى ما لانهاية، فعندما تتصادم الأفكار، لا تجد لها مخرجاً في الذهن، يخون العقل مسقط رأسه، ولن يحاكي سوى الشبح الكبير الذي يحرس بوابة العينين في الأوقات العصبية، فكيف بأعظم اللعنات: الإغتصاب؟‏

لم أتمكن من مواصلة قراءة الرسالة التي بعثتها مورغ من النروج، والتي وجدتها في صندوق البريد مع الرسائل الأخرى، فقد كانت الكلمات وكأنها حمم خارجة للتو من بركان، ومورغ وراء الحدود الآن، لم تغادر المدينة "روسكلدا" في رحلة للسياحة، بل هربت من مخالب بشرية، لتخفف عن مشاعرها حدة التوحش الذي أصابها، ومن السفالة التي تفوح برائحتها الكريهة، فالسفر بالنسبة لها، كان أشبه بعملية تطهير من الدرن والقاذورات التي تسممت بها، كنت أعرف أن مورغ وسواها من الفتيات الدانماركيات، يمكن أن تستسلم لأي رجل تجده في طريقها، فلديهن الشجاعة لذلك بالمطلق، فيما لو رغبت إحداهن بذلك، بل ولا تمانع الواحدة منهن أن تضاجع أحداً ما في عرض الشارع إذا كانت تملك الحاجة لذلك، أما الإغتصاب، فتعترض عليه المومس وبائعات الهوى في هذه البلاد التي تشبه الملهى الكبير، فالشرف الذي تتمتع به المرأة الإسكندنافية، يتضمنه قانون اسمه الرغبة، فالشرف ما زال كلمة مبهمة في كتاب الحياة الأوروبية، إلا إنه في المطلق العام يعني: عدم الإحتيال على المشاعر الصادقة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:54 AM
"وما زلت أحس بأن مسامير باردة تنهش تحت جلدي، على الرغم من أنني أنذاك، كنت مخدرة وخارج الوعي، لكن تلك اللحظات كتبت لي تاريخاً مرعباً، سأناضل من أجل محوه بالتدريج، ولو قدر لي وتعرفت على أحدهم، فإنني سأستنشق دمه إستنشاقاً في أية ساحة عامة، هل تثير حربي الخاصة لدى الآخرين شيئاً من التقزز؟ لا أعتقد ذلك، وإن حدث شىء من هذا القبيل، فليس بمقدار التقزز والغثيان الذي يطفو في داخلي"‏

تملكني شعور غامض وأنا أتقطر على رسالة مورغ، كان دمي تحول إلى غيمة من الصمغ الكثيف، ليتساقط من على حبل غسيل طويل، كل قطرة منه، تحدث دوياً مرعباً في الأعماق، فهرعت إلى الحمام، والرغبة تنتابني بالتخلص من شىء ما علق في بلعومي: أفعى، سفينة، ذراع طاحونة، فربما سقط شىء من هذا القبيل سهواً بين اللوزتين، وعليّ التخلص منه، غير أنني لم أتمكن من فعل شىء، فوقفت أمام المرأة لأرى خطوطاً وكتابات من ضوء أصفر على وجهي، أولون برتقالي مائل للون النحاس بالضبط، ويلمع، فيما كان شعري سجادة من الرماد، تأملت جيداً أبعاد الوجه الذي بدأ يغوص داخل الزجاج، ورحت أرسم تفاصيله بمعجون الأسنان، إلا إن شيئاً لم يبق من ذلك، فأسرعت بخلع ثيابي للتمدد في البانيو الذي راحت مياهه الساخنة تبث البخار ليملأ الحمام ويمسح كل أثر لي هناك.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:54 AM
"ها قد نقلت الحطام إلى غيرك بالعدوى، وكان عليك يا ماوردي، أن تفلت كالنيزك من قبضة الجاذبية، لتتحطم إلى ذرات غبار لوحدك!"‏

عدت إلى مكتبي في المجلة، وبعد أن دخلت الباب الرئيسي، إنغرزت حذائي في سائل مجهول، حتى أنني لم أستطع سحب أقدامي من ذلك المكان، وبعد أن ضغطت على زر مفتاح النور القريب من الباب، وجدت أن الموكيت غارق بمادة تشبه الغراء الأسود الذي يستعمل لصيد الفئران، وقفت متجمداً في مكاني الذي لا مناص من مغادرته، ولكن دون الحذاء الذي سرعان ما غاص وتجمد داخل ذلك السائل اللعين برائحته التي تمزق شبكة الأنف، بعد أن فشلت بإخراجه من الغراء.‏

تركت حذائي نائماً هناك، وأسرعت بالخروج، ويبدو أن الهلع، هو المادة الوحيدة التي لابد من التعايش معها في المستقبل، أليس هذا ما يهدف إليه الآخرون؟ أن تتوقف المجلة عن الصدور، ليبلغوا سقف الإنتصار الذي توهموا بأنه سيتحقق لهم عبر سلسلة من المضايقات والتهشيم والضغط النفسي؟ لكن فقدان الحذاء الآن، يشكل بالنسبة لي، طرف المعادلة الآخر في هذه المعركة الغامضة التي تجري ضدي في الظلام، فهم شىء والحذاء شىء آخر، وحاجتي للأخير، هي ما تثير في نفسي شيئاً من الحنق، فاليوم هو الأحد، حيث ليس بالإمكان استدعاء عامل لتنظيف المكتب، وليس من مكان لشراء حذاء، والأفضل في كل الأحوال، التوجه حافياً نحو محطة القطار، والرحيل إلى البيت.‏

كانت الشاشة في المساء، تعرض فيلماً لأشخاص أشعر بالراحة تجاههم، عدا المخرج الوقح الذي يكاد أن يفترس البطلة من نهديها بشراهة عبر فوهات وخراطيم كاميراته، ولأنني حاولت مقاومة رغبة المخرج بعناد، تناولت قنينة السنابس من الثلاجة، ورحت أسقي المصورين الأقداح تلو الأقداح، كي تدب في قاماتهم الثمالة ولا يذعنون لإرادة المخرج. كنت أتخيل أن السكر سيمنحهم الكثير من الشجاعة. وهذا ما حدث فعلاً، فقبل أن يقضوا على قنينة السنابس حتى قعرها، بدأ أحد المصورين بالتمرد على المخرج، قائلاً له:"يجب أن تتخلى عن هدر الكثير من أفكارك، عليك بتعطيل رادار الأوامر والإنتباه إلى شكلك أكثر من الإخراج، فأنت تشبه الضفدع، وسيكون علينا إخراج الفيلم بطريقتنا الخاصة" فيما عفط المصور الثاني بوجه المخرج قائلاً:‏

"لتذهب أنت وأفكارك العنكبوتية للجحيم: أأنت مصاب بعقدة أوديب يا حمار، لنصور لك ثدي الممثلة من بداية الفيلم حتى النهاية؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:55 AM
هل ستعرض الفيلم في حمام أم كباريه؟"‏

أما الممثلة التي لم يصبها من السنابس إلا جرعة واحدة، فقد خرجت عليّ من الشاشة في محاولة شجاعة لإستلطافي، وعندما أخذت مؤخرتها مكانها في مقعد كان يقع بالجوار، راح فمها يحتسي البيرة معي، مانحة ظهرها للمخرج.‏

ودون مقدمات، كما لا يحدث ذلك في السينما العذرية، سألتني إن كانت مؤخرتها تشبه مجسم الكرة الأرضية التي رأتها في الصالون أم لا؟‏

وعندما شهدت لها بصحة ذلك، نادت على المصورين أن يشاركوا بهذه الجلسة الخاصة، بعد أن قامت باستئذاني" كأنها بحاجة لذلك؟!"‏

فترك طاقم التصوير العمل واخترقوا الشاشة، تاركين المخرج يصرخ بين معداته وحيداً كالسحلية المصابة بطلق ناري في عنقها.‏

حملت الثلاجة إلى الصالون، ووضعتها أمام الجميع، وكان المخرج يراقبنا بعينين تكاد أن تبلغنا بنيرانها ونحن داخل الصالون، بيرة ونبيذ أحمر وروم وسنابس وعرق وأوزو القبرصي فودكا غورباتشوف، لكن، وبسرعة البرق، إختفى المخرج خلف احدى الكاميرات، صارخاً في نفسه: أكشن!‏

هل بدأ الضفدع بتصويرنا؟ هكذا تساءلت ونفسي، إلا أن الممثلة الحسناء، رمت بذراعيها على كتفي قائلة: لم هجرت السينما؟ دخت قليلاً، وكأن صدمة ما لحقت برأسي، إنها امرأة جميلة وصارمة،ولكن، كيف أدخلتني عالم السينما دون دراية مني؟ هل أنا بطل من الأبطال البصريين ولا أعرف تاريخي السينمائي بالضبط؟‏

"أن صناعة السينما، تبدأ بضربة على رأس المخرج، ليقفز الفيلم إلى الشاشة ويستحوذ علينا! أليست هذه هي الصناعة الحديثة للسينما؟" قالت وهي تتأمل خريطة وجهي وما عليها من تضاريس، هي بالتأكيد ليست كتضاريس مارلون براندو.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:57 AM
تفرست الممثلة جيداً، وقلت لها بشهية:‏

- ماذا لديك في الغد؟‏

- سأقوم بتنظيف نفسي من بعض الإضطرابات!‏

أشرت لها نحو المخرج الذي بدا نائماً على الكاميرا‏

ماذا يفعل الآن؟ هل يعمل أثناء نومه كذلك؟‏

ردت بشىء من الجدية‏

- أنه يقوم بتصوير اللقطات الأخيرة من هذا الفيلم، هل تدرك ماذا فعلت أنت به قبل قليل؟‏

- أنا؟‏

- نعم، لقد سحبت فيش التلفزيون، لتقطع الكهرباء عن تعابيره، وحينما أعدته مرة أخرى، لم يجد في نفسه الرغبة بمواصلة الحياة، أو التنفس على أبعد إحتمال.‏

- هذا يعني أنني قتلته مع سبق الإصرار والترصد؟!‏

وبصوت عال مليء بالعربدة والدلع، تنفست البطلة بعمق وصرخت:‏

أجل، فأنتم المشاهدون تفعلون بنا ذلك على الدوام، تقتلون المخرج والممثلين والمصورين، لمجرد أن الفيلم لا يروق لكم، وهذا ما يتم فعلاً، فإغلاق أجهزة التلفزة إعدام لنا! هل تدركون هذه الحقيقة؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:57 AM
حاولت النهوض من الكرسي الذي كنت غارقاً فيه، لكنني لم استطع إنتزاع جسدي، فسرعان ما نهض المصوران ليشدا على رقبتي حبلاً من البلاستيك الشفاف، ويبأ بالضفط التدريجي.‏

"يا إلهي، هل سأواجه مصيري بهذه الطريقة؟ من أين هبط عليّ هؤلاء الأوباش، ليفعلا بي كل هذا ؟"‏

حاولت الإستنجاد بالممثلة التي كانت تعشقني وتموت فيّ منذ قليل، لكنها دخلت الشاشة لتوقظ المخرج من نومة أهل الكهف، ليبدأ بمهمات التصوير، أجل، فسرعان ما نهض الضفدع الخرافي وراح يدير العدسات نحوي. فيما كان المصوران يمزقان الثياب التي على جسدي.‏

ها قد أصبحت عازباً وستأتيك الممثلة لتنام وإياك فيالسرير وأنذاك سيصرخ الضفدع الذي ما زال عالقاً بأجفانه اكشن. ولابأس بقبلة طويلة تطير بها حياتك إلى آخر الأجرام السماوية، فالممثلة ماتزال شابة، وشفتاها أشبه بنهرين متلاصقين تفوح ضفتاهما بالطمي الأحمر".‏

لكن العملية، كما تبدو، لا تتعلق بمحاولة شنق أو شىء من ذلك القبيل، فقد أرخى المصوران الحبل عن الرقبة، وقام الأول بتمشيط شعري، فيما أمسك الآخر بذراعي، ساحباً جسدي نحو جهاز التلفزيون، وهناك، مد لي المخرج يده من الشاشة، ليساعدني على الدخول.‏

"ياللروعة، ها أنت في الأستوديو، الأضواء والكاميرات والتابلوهات وعدة المكياح والمايكات والأقلام الملونة والعدسات التي تغلف المكان تغليفاً"‏

جلست أمام الممثلة، هي على كرسي ينطوي على نفسه، وأنا على كرسي مثله، فيما غادر المخرج والمصورون الأستوديو إلى الخارج بسرعة.‏

كنت أراهم، لقد جلسوا أمامي في صالون منزلي، وهم يحتسون آخر المشروبات المتبقية في الثلاجة، فتمنيت عليهم أن يردموا لي عطشي بقنينة جعة، لكن صوتي لم يصل إلى هناك كما أعتقد، فقد قام المخرج الضفدع بسحب فيش الكهرباء عن الجهاز، لأختنق أنا والممثلة الحسناء بماء من الظلام، ولولا وجود الأخيرة معي، لكنت أعلنت إحتجاجي على هذه الميتة السخيفة خلف الشاشة.‏

ياللرب.. أي مصير موحش هذا الذي أعيشه في مثل هذا المكان المقفل بإحكام وراء هذا الزجاج؟ حياة تسيل مثل الضوء المتشنح، وموت لا يتفسخ في مناخه الجسد! فيما الخمر هوالمؤلف الذي يسير على ضفة العقل، ويهش بصولجانه على قطعان الأحلام التي قد لا نجد فيها إلا متعة التيه، حتى ونحن في طبقات النوم العليا التي لا نصلها على الدوام إلا من خلال تلك الإهتزازات السحرية، فمن الصعب أن تقنع النوم بأن يلقي بجثته على السرير وينهمد كالجدار.‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:58 AM
كيف..‏

لماذا..‏

أين..‏

متى..‏

....‏

والبقية تأتي في المسلسل المطل على شرفة العين الغائمة بكثافة الضباب “أن يصبح الماضي هو خيارك الوحيد للتنفس، فلابد من هزة عنيفة لشجرة اللغة.”‏

كديميس
09 Mar 2006, 12:59 AM
29)‏

كيف تتحول عاصمة مثل كوبنهاكن إلى صحراء؟ تخيل ذلك، القصور والأبنية والبنوك والعمارات والمخازن والمحال والملاهي والجسور والمقاهي، كلها تطفو فوق الرمال، وأنت تقطع المدى على ظهر بعير هرم، له من العمر سبعة آلاف سنة؟ كنت أنظر إلى البحيرات، وأتأمل آثارها، وعندما استبد العطش بي في مثل هذا القيط، عرجت على "السكالا" فكانت كقبة من النور، تعطرت ببخارها وغادرت المكان، حيث لا أحد هناك ولا من يحزنون، نزلت ببعيري عند محطة السكك الحديد، حيث لابد وأن أكون بانتظار مورغ التي ستعود اليوم من النرويج، وفعلاً وجدتها على الرصيف، اشبه بحمامة، ولكن دون ذلك الأمان الذي في عيون الحمام المنتشر تحت سقف المحطة الخرافية المليئة بصور عارضات الأزياء لمايوهات الصيف والكثير من الإعلانات الأخرى عن المشروبات الغازية والأيدز والبيرة والزبدة والعنصرية ورحلات السياحة إلى مناطق الشمس!‏

غمرني هذا الإحساس المراهق، وأنا ألتقي بمورغ العائدة تواً من رحلة قسرية للعلاج، فدارت الأمكنة برأسي دورة غير عادية هذه المرة، وكأن الوحدة الآثمة قد فلشت بنيان الإنس المتبقي في الداخل، وبالإضافة إلى ذلك، أحسست بأن أكثر الكاميرات تعقيداً وتطوراً، لا تستطيع إلتقاط شىء من ذاك المسحوق الناري الذي كان يغلف الأعماق، أكان ضرورياً ما أشعر به وأنا أستقبل مورغ في مثل تلك الظهيرة التي لم أر مثيلاً لها حتى في دول الشرق؟‏

ظهيرة حمراء كوردة من الجوري، وعلى تلك الوردة ندى بنفسجي يدعي هذه المرة: دموع مورغ ، تلك الدموع التي أيقظت المدينة الصحراوية، لتحرك كل شىء في العاصمة، القطارات، الحمام، البشر، المصاعد الأوتوماتيكية، الكلام وأجهزة الغناء، القلوب، الأرصفة التي صارت تميد، الدم، النيونات الملونة للإعلانات التجارية، النوافذ، الباصات، الكلاب، المطابع، أجل، كل ذلك تحرك دفعة واحدة عندما بكت مورغ، وكأن دموعها سقطت على ذراع طاحونة عملاقة، إستطاعت هزّ كل هذه الأشياء مجتمعة، من أجل تعذيبي بمثل تلك القسوة!‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:00 AM
كانت مورغ تشع بضوء أزرق، حاولت تلافيه بدفع سؤال ما من فمي الذي إلتصقت شفتاه بطن من الصمغ:‏

- بتنا على أبواب الخريف، ولم نر صيفاً حقيقاً هنا!‏

- لن تطهرنا الشمس، حتى لو نزلت من قصرها السماوي وجلست بيننا ياماوردي.‏

- وماذا عن النرويج؟‏

- دمية من ثلج، لا تبث الدفء، حتى لو وضعتها في حضنك.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:00 AM
تابعت كلمات مورغ دون تعليقات، وسرني أنها التقطت بعض أنفاسها بعد ذلك العدوان، فلاشىء أقسى من محاولة تحطيم مخلوق خارج دائرة الصراع، هذا النوع من العدوان، يكرس خطراً شيطانياً لا يمكن ترويضه في المستقبل، وأنا لاألوم مورغ التي عانت من الإغتصاب بسببي، أن تجنح بها أفكارها وأفعالها إلى المدى الأسود من تلك اللعنة، لأنها تؤكد على عجز الآخر الذي لم يوفر لها الحماية، على أقل إعتبار.‏

حين هبطنا من الباص وتسللنا باتجاه منزلها، رفضت الدخول إلى هناك، فقد إستبد بها خوف داخلي، أعرف دوافعه جيداً، عندها قلبنا وجهة الطريق نحو منزلي، وشيئاً فشيئاً أصبحنا في الداخل عندها أنارت مورغ كل الأضواء، وبدأت قامتها بالإنتقال من غرفة إلى أخرى، وكأنها تفتش عن شىء ما، أنه الرعب أجل ففي داخل كل مخلوق جرس اسمه: الذعر، حتى أنك تكاد في بعض الأحيان تسمعه.‏

- من الآن فصاعدً، لا تستغرب أي تصرف مني، عليك إختبار كل شىء بدقة ودون مبالاة، وجهت لي مورغ هذه الكلمات، لكني إمتنعت عن التعليق بهدف سبر أغوار الذات الجديدة التي تتقمص مورغ.‏

- هل بدأت تعي جيداً، بأنهم يتبعون خطواتك يا ماوردي؟‏

- سيتعبون قلبي.‏

- سيتعبون من ماذا؟ من ملاحقتك، أنت لست موجة ليتعبوا من تعقبها بين زحام البحار، أنت مرسوم بوضوح على الورق، فيما هم كالحبر السري لا يعرف لهم مقر أو مستقر.‏

- هل تعرفين ماذا توحي كلماتك يا مورغ؟ قتل الأمل واعلان الهزيمة.‏

- لا أقصد ذلك بالضبط، ولن أشارك في صنع قرار بهذا الإتجاه، إلا أنني أدفعك نحو التفكير بخيار عدم الإستسلام الشامل لهم، وعدم الإستقرار بالإفضاح الشامل لإرتكاباتهم.‏

- "ما أبأس أن تفلت من القبر الذي يعده إليك الآخرون، بحفر قبر إختباري لك، وحسب المواصفات التي تريدها.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:01 AM
أن تصبح الإطار لصورة غير صورتك، والأسطوانة التي تدور في دماغك، وهي بصوت يغني عن حطامك وهزائمك وأحزانك التي لم تجد لها حبلاً لتجف، كل هذا، ليس بائساً وحسب، بل هو إعلان للموت، ولوبطريقة لا تمر عبر خرم الدفن، فكلما وجدت فرصة لبناء جسر ممكن بينك وبين الآخرين، سرعان ما يخرج عليك رعيل قطاع الطرق والأغبياء، ليدمروا تلك الفرصة، علماً بأن الوضع هنا، ليس متيناً أو محصناً بالدرجة الكافية التي تمنع العدوان السافر ضد الأجانب، فالمجتمعات لا تحتاج إلى محرض، كي يستنهض تلك النزعات الهيسترية القديمة التي حفرها الكثير من المفكرين الغلوائيين وأساطين الكراهية والحقد والتجني ضد الشرق، والتي تعود بجذورها التاريخية إلى ما قبل مرحلة الحروب الصليبية.‏

إن مراحل التاريخ المظلمة للقمع والحروب والإرهاب والمجازر والمخلفات الإستعمارية للثقافة والفكر والهيمنة المسلحة، لا يمكن أن تكون كالإنفلونزا الآن، لتصاب الشعوب بأمراضها عن طريق العدوى، فاستنهاض الهوس التاريخي الدموي الأعمى، كما ينبغي أن يقال، لا يحق لأحد منا التنقيب عن آثاره وزرعها في العهد الجديد، ونحن لو فعلنا ذلك كعرب، لطالبنا بإعادة الإعتبار للإمبراطورية الإسلامية القديمة من حدود الصين وإلى قلب أوروبا، أو لكنا قد أفرغنا الديانتين اليهودية والمسيحية من ثقلهما اللاهوتي، وقمنا بضمهما إلينا، لأنهما ولدتا على أرض عربية، مثلهما مثل الإسلام، لكن مثل هذا القمع والإحتواء والإستلاب لم يحدث، وظل العرب بمنأى عن فكرة تدمير المؤسسات الدينية لكلتا الديانتين، مثلما يفعلون مع مؤسساتهم، وبكل ما تعنيه كلمة التسامح من معنى، فالدين لله، مثله مثل الأرض".‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:02 AM
ربما كانت مورغ قد سمعت الغليان الذي فار في أعماقي، ولا استطيع أن أجزم بذلك، رغماً عني، أو لأن التركيز في مواجهة الهزيمة المقترحة لي، لم يعد وراداً، وللأسف، وجدت نفسي وكأنهما قنينة ترمى في بحيرة من الغيوم.‏

"أنا مدين لمن يفتح لي مخيلتي، والهزيمة غلق لها سواء كانت على جبهة من البارود، أو أمام بغل من بغال الجبال، لكن التنفس بعمق هو الانتصار. فكيف إذا كان بين نهدين تعشوشب فيهما النيران، وعند مورغ"؟‏

بعض أحلامنا تطفو على سطح المياه، وبعضها يختفي فيغرق في القاع، وبعضها يتفتت، لكن، لا ذكريات تموت لدينا، أليس كذلك يا مورغ؟‏

أجابت بعبث مزلزل:‏

الأحلام العاطفية كالأحذية، لا يمكن إستعمال فردة منها وترك الفردة الأخرى!!‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:03 AM
إلتبس الوضع عليّ وغرقت في جهل مطبق، والحق أنني لم أعرف شيئاً عن الرموز التي باتت تدلقها مورغ مع كلماتها، هل هو الخبث الذي تعملق فجأة في نفسها؟ أم هي محاولات لفلسفة تشق طريقها، كالبرعم بين الأحراش التي وجدت ذاتها غارقة في روائحها؟"‏

- ما من حزن يكسر الجسد أكثر من رائحة الأحلام المهزومة، وها قد بدأت أشم ذلك الآن، أجبتها بخفوت.‏

- وأنا أشم أحزانك على بعد آلاف الأميال،وعندما ترغب بالهروب، تأتي الخمرة لتكسر جرّة الشجن في الليل.‏

- وهل تعتقدين بأن الحزن نفاية يجب التخلص منها، قد لا تعرفين بأن الليل مقبرة ندفن فيها خصائصنا السرية، فالأرض ليست إلا خيمة، لا ظل فيها للغريب.‏

- إسمع، أنا لاأريد منك أن تفسد حياتك كالفقاعة داخل الخلاط الكبير، ولا أن ترمي روحك كقارب من ورق على سطح الطوفان، قد تجد في الكتابة إنقاداً لنفسك من الهلع، ولكن ليس مع هؤلاء البرابرة والمتوحشين.‏

ها قد بدأ فصل الجد بالنسبة لمورغ، ورداً مبهماً في مثل هذه المواجهة، يمكنني من المقاومة,‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:04 AM
كنت أدرك جيداً يا صديقتي، بأن الرحم هو السجن التمهيدي للجسد، وبأن الكتابة بعد تخطي مرحلة الحضانة السياسية للعقل، تصبح سجناً، هي الأخر في نهاية المطاف، غير أن العناد، قد يرافق المرء كداء الكلب، ولم أكن قد خططت لمثل هذا الوضع اطلاقاً، بل أنني،لم أخطط لأي مشروع في حياتي، كنت وما زلت أترك العالم في ناحية ونفسي في ناحية أخرى، وكل واحد منا يتطلع إلى الآخرى بنظرات من العبث، كأن الحكمة التي تتقمصني، هي عدم الريبة: العالم طبقة من نور وطبقة من ظلام، أحداهما تتنفس الثانية بالتناوب، ومن المستحيل بمكان، الفصل بينهما أو إلغاء احداهما، طبقتان متعايشتان ضمن شروط استراتيجية لا فكاك منها،وعندما يجد المرء نفسه في شفق احداهما، سوف تتسلل إلى روحه الكتابة، ويجد ذاته الطليقة في حقول من المتعة العالية التي تفوق متعة اللذة.‏

الله يا ماوردي! لو كنت نحلة لما وقفت إلا على الزهرة التي أنت، لأمتص رحيقها حتى الهلاك.‏

- إذن قومي لنكتب بعضنا في العري يا مورغ.‏

تنهض النحلة ويتبعها الحقل المتفتح، جسدان يتناثران من هول الرغبات المشاغبة، ويسيران على جسر من البللور الموصل بين ضفتين لنهر يطير ويحط كالهدهد في الفضاء، وكنت أتبع تلك الخطوات، ليس كأنني الحقل الملغوم بألاف الزهور وحسب، وإنما الكرسي الذي يجلس السحر عليه، ويهتز كقوس قزح سكران أمام غيوم شابة. كان السرير الذي أنظر إليه في تلك الساعة المتموجة، قائماً على ساقين فقط، أما الساقان الأخريان فكانا يرفعان سقف السماء بما تحمل من كواكب وأقمار وأجرام ومذنبات ونيازك، وعندما سألت مورغ ان كانت قد تعبت من حمل تلك المجرات على ساقيها أم لا أطلقت تأويهةً كادت أن تسُقط السماء على رأسي، بل سقطت فعلاً على ما أتذكر، لأنني لم أجد نفسي، عندما فتشت عنها أنذاك.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:04 AM
الأسئلة أيضاً، تبحث عن نفسها، ألم تدخل أنت مجالها وتختلط في تلك القيعان الرطبة للفكر الذي يدخن شخوصه؟‏

“الأيام تأكل شكل الموتى، ونحن لا نستطيع التعبير عن كل الرماد الذي نتحصن في خندقه، لتذود عن المجهول.”‏

فر الماوردي من جسده، وسقط كالمقص على حواسه، فيما كانت النيران تعوي في ذلك الكهف التي تستنطق الروح فيه طيورها.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:05 AM
(30)‏

الجمهرة التي حضرت إلى المنزل في ليلة عيد ميلاد الماوردي، تجاوزت العشرين شخصاً، وقد كنت مرغماً على إقامة مثل هذا الحفل الذي تخلى عنه منذ سنوات طويلة، لسبب واحد، أنه يوم لا يليق بذكر مناقب عمر، هو أشبه بالجثة المهترئة، متقطعة الأوصال، وفي زمن، لا يرى فيها ما يناسب الإحتفال بالخراب، قد تكون هذه النظرة سيئة وغير حضارية كما يقول المتفائلون، ولكن الماوردي أدرى من غيره، فهو صاحب البنيان الهرم الذي يحمله معه، والذي ما زال يتفلش ويتبدد في المنفي منذ قرابة الربع قرن.‏

قد تكون الأحلام في الكثير من الأوقات، بمثابة المصدر الوحيد للقلق، فعندما تجف قامة الحلم يتزعزع العمر، ويصير الوقت ضيقاً علينا، والأفدح من ذلك إستخراج تلك الأحلام من الأرشيف، والبدء بقراءتها تباعاً في الليل، أسراب طويلة من الطيور، وقد تحولت إلى مومياءات، تبث في الأعماق تلك الرائحة المخيفة، وهنا، لابد من تذكر جوقة الصيادين، ممن يمارسون مهنة صيد الأحلام قبل طيرانها من الرؤوس حتى.‏

"هل من الضروري إستراجاع هذا النشيد النازف الليلة؟"‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:06 AM
"صحيح، الليلة أناخرجت من ذلك الرحم الضيق إلى الرحم الكبير، رحم الأحزاب والحروب والجنون والمستشفيات واليباب ومصانع الأحذية والإفكار وموانع الحمل والكومبيوترات والصعاليك والشامبو والسجون وثياب الجينز، كل ذلك صحيح، فالأرحام تتواصل بعضها بالبعض الآخر دون مشقة، ومن يدري، فربما تفكر بلغة التخاطر".‏

بدأت الكؤوس تصهل في الأعماق صهيلاً، ومن الصعب على الماوردي أن يغيب بعيداً، فقد توغلت الخمور إلى كل المنافذ، والأصدقاء هنا تحاول إستكمال دورة العمر مع الرنين الذي تبثه الأقداح، كل فرد يحاول أن يحصد حقل حياته في لحظة مناسبة، أما تعبيراً عن الكآبة السرية التي تكمن في الأعماق، وأما بهدف الولوج إلى بوابة النسيان الكبرى، تلك التي يدفع الدانماركي على وجه الخصوص ثمناً باهظاً من أجلها، فالفرح، ومهما تكن مساحته، أنما هو من الممتلكات المستحيلة التي نعترف زوراً التصرف بها في بعض الأحيان، وكل ذلك يصبح وهماً، لأن الأسى السري يغمرنا، على الرغم من محاولات المخلوق البشري الداعية لإبعاد شبح الخيبة العملاقة التي تحتل أرض الإنسان الداخلية بتلك القوة الغامضة.‏

هذا الشعور ليس مفاجئاً، أو هو وليد ثمالة متطرفة، فهو بالنسبة لأصدقائي الدانماركيين، نظرية حياة تكاد أن يكون شبه شاملة، فقد إستطاع ابن الشمال الإحاطة بها عن عمد من خلال إسلوبه بالتعاطي مع العالم الذي يعيش في قوقعته المثلجة، وكم كنت أتمنى لو يربط كل بيت في الدانمارك بخرطوم مباشر للبيرة، مثله مثل تمديدات الماء والكهرباء والغاز والهاتف، لأن ذلك سيوفر الكثير من الأعباء على المواطن هنا، وهذا الحلم الذي يراود ذهن صديقي "بيتر بيدرسن" وسواه من أبناء البلد، قد يصبح أمراً واقعاً ذات يوم، فإذا كانت ثمة دول تنتج النفط لتفقير شعوبها، فثمة دول أخرى تنتج البيرة لإسعاد البشر الذين وجدت من أجلهم، بعيداً عن النتائج المنظورة، وليس من فانتازيا في هذا الوضع المأمول، فإنك لو تفصد دم "بيتر بيدرسن" الآن، لكان جعةً تلونها خطوط من السنابس والويسكي والروم والفودكا وموجات من النبيذ، فهل أصبحت هذه المواد ومشتقاتها، أفضل من النساء عند الرجال؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:06 AM
قد تكون الذاكرة ملغومة الآن، ولكن ليس بالضرورة أن تنفجر في مثل الساعة، على الرغم من التداعيات الحزينة التي تتوافد إلى الرأس من مختلف المناطق القربية منها والنائية، وهذا الإحساس الذي يعتريني وأنا في أجمل اللحظات، ربما يستند إلى أرشيف ضخم من خراب الداخل الذي نشره اليأس عبر الأعوام الطويلة الماضية، والتي كانت ضياعاً في ضياع، حتى أصبحت السنة الكاملة، تساوي في بعدها الزمني ساعة أو أقل من ذلك الوقت.‏

كانت مورغ تطلق خلفي عيونها بترقب حاد، فيما كان الحاضرون يحشدون أفواهم بالنقاش في موضوعات غلب عليها الطابع السياسي والإجتماعي والثقافي، ومنها ماأثاره الدكتور الوراق حول مسألة الرسائل التي باتت توجه للكومونات من قبل مجهولين، وكلها تقارير مخابراتية تتعلق بسفر الأجانب إلى الخارج، تحت طائلة المسؤولية وفرض عقوبة قطع مخصصات اللاجئين، ممن هم على برنامج المعونة الإجتماعية!‏

-أيها الأجانب: ها أنتم في السجن الدانماركي المرفه الكبير!قال يوهنس معلقاًبسخرية على الموضوع وومضيفاً: فيما الدنماركيون والأوروبيون ممن يعتاشوا على برنامج المعونات الاجتماعية. طلقاء وأحراراً يسرحون ويعملون في عالمنا الأوربي دون أن يحصد منجل العدل الالهي في البلديات، شيئاً من كروناتهم‏

-ولم لا تسخر من مسألة تجنيد البلديات للاجانب كمخبرين ضد بعضهم لبعض؟ سأل كاسبر.‏

-تلك ديمقراطية حديثة يا سيد، وربما لا نفقه الكثير عنها راهناً، قبل حدوث فضيحة أشبه بفضيحة التاميل! رد يوهنس ضاحكاً.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:07 AM
رفعت تينا كاسها قائلة:‏

-سيأتي اليوم الذي تحاكم فيه دولتنا الأجنبي على عدد المرات التي يتبول فيها، تحت شعار نظافة البيئة!‏

فساد الضحك الجو العام، ولم يستطع أحد من تمالك نفسه تهكماً بالقرارات التي باتت البلديات تمارسها بهذا الشأن، وهو ما دفع الدكتور الوراق إلى إشهار صورة عن الرسالة التي تلقاها من المشرفة الإجتماعية، والتي كان مفادها متعلقاً بشأن سفره إلى خارج البلاد من تاريخ كذا!‏

اللعنة، قالها كاسبر عندما قرأ عبارة "محب الدانمارك": التي ذيلت الرسالة بهذا الاسم‏

المستعار، معلقاً بتهكم: كأن ما ينقصنا حب هذا الجاسوس القذر، ثم بصق على الرسالة.‏

لقد ترك كاسبر ردود فعل حادة لدى الجميع، الأمر الذي دفع "ليز" وهي مدرسة جامعية إلى الإعراب عن قلقها من إنتشار هذه الظاهرة التي تستوجب الجدل والنقاش في البرلمان وغيره من الدوائر.‏

"إن قبول الكومونات لرسائل يوجهها مجهولون، تشكل خرقاً للقانون، لأنها تضع اللاجىء في وضع يشابه وضع الرهينة المعتقل كما تخضع اللاجىء للرقابة والترصد، ولا تعتبر إلا من وسائل التجسس الممنوعة، وخرقاً للحريات، بل أن إعتماد الدوائر الحكومية على هذه الرسائل، سيفسح المجال واسعاً لعمليات إنتقامية وتصفيات حساب بين الأجانب أنفسهم، سيكون مداها خطيراً في المستقل"‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:07 AM
ساد الذهول قليلاً، فتطلع الماوردي إلى الساهرين وأحس بضرورة قلب صفحة جديدة من الليل، فالذهن، لم يعد يتحمل أعباء النقاش، لذلك كان لابد من الموسيقا لتملأ سلال الأجساد بتموجاتها، ونسيان جوقة الأوباش ممن باتوا يفضحون أنفسهم عن طريق ممارسة هذا العمل النذل، فهل يكررون دورهم القديم الذي كانوا يمارسونه في بلدانهم، كمخبرين في دوائر الأمن والشرطة .‏

سألت سوزان فريدركسن بصوت عال:‏

"أما من أحد منكم يرغب بالرقص أيها البشر؟".‏

فرد عليها جون أولف وهو ينهض إستعداداً للرقص قائلاً: "نحن نرغب بالرقص مع الذئاب فقط!" ثم تبعه الأصدقاء بإطلاق أقدامهم مع الموسيقا التي راحت توقظ ما في الداخل من مشاعر وأسرار في ذاك البنيان الإنساني الغامض في أغلب الأحيان، كم من الموسيقا التي تطاير معها الأفكار والأحاسيس، وكم من المخلوقات التي تستلم لها منذ البدء.‏

كنت أشعر جيداً بوضوح الصورة هنا، وأحياناً بغموضها لدينا، وكأن الموسيقا لا توقظها أبداً، لأنها إعتادت على هذا الإيقاع، فبات لا يوقظها إلا السوط أو محرك الدبابة أو بوق النفير العام، فالإنسان يتعلم حيث يولد، وقد كنت أدرك هذا الإيقاع المعرفي للحزن الذي ولدنا نحن على أرضه في الشرق، لذلك لازمنا التطرف دون إنفصال. فنحن متطرفون في كل شىء: في الحب في السياسة في الكتابة في الغناء في الهرولة في الهجران في المعرفة في الثمالة في الفنون في التعذيب الذي نقيمه للذات وللآخرين، أو لسنا ضحايا للحنين المرعب الذي نتفلش تحت خيامه في المنافي؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:09 AM
لا نعرف إلى أي مدى يصل بنا، ولا إلى أين أو لماذا؟ فهو يسكننا كالشبح فقط. ليقطع علينا كل إتصال بعوالم البهجة، لذلك ترى الكثيرين منا، وقد تحولوا إلى جنائزيين معادين للفرح، وبشكل مطلق، لأنهم لم يجدداً لمشاعرهم الداخلية إلا في دائرة الحزن الذي يستمد قواه الخفية من غابة التاريخ الثقيل الذي يرزح تحته بشر الشرق.‏

"أين وصل بك رأسك المجنح يا ماوردي؟"‏

سألتني مورغ وهي تسحبني من ذراعي نحو أرض الرقص والغناء والخبل، لم أبد أية مقاومة، على الرغم من أنني هنا ولا هنا، تلك عادة ورثتها بجدارة عن أحد لا أعرفه تماماً، ولكن الشخص الذي أورثني هذه العادة، عظيم بالتأكيد كما أعتقد، فعلى المرء أن يكون موزعاً على أكثر من مكان في أن واحد: هنا، وهناك، فهذا أفضل، لأن التوزع، يمنع المرء من إستهلاك نفسه في حفرة أو في قالب واحد، وهو أمر يستحق التقدير.‏

قبل إنتصاف الليل.. بدأت قوافل الأصدقاء بالرحيل، ولم يكن بالإمكان ترك "كاسبر" وصديقته "ليز" أن يفعلا ذلك مثل الجميع، فقد أقفلت الخمرة عيونهم تماماً، وكان من المستحيل على أحدهما قيادة السيارة في مثل الوضع الذي هما عليه، وبخاصة في الليل، لذلك قررت التخلي عن السريرلهما، وقضاء البقية الباقية من الليل في منزل مورغ، وقبيل رحيلنا، قمنا بوضع الاثنين في التخت، وغادرنا البيت بعد إغلاق الباب.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:10 AM
- هل لك رغبة بتناول كأس من المارتيني يا ماوردي؟ سألت مورغ وهي تحضر القنينة وكأسين.‏

- كلا، ليس لدي الرغبة بذلك.‏

- وكيف عرفت ذلك، هل ثمة من يقرر بالنيابة عنك؟ ردت مورغ وهي ممتقعة.‏

فتفحصت وجهها ملياً، وهي تدلق المارتيني في جوفها وقلت:‏

- لابد من شىء هناك فهل لك أن تطلعيني مباشرة على الكابوس الذي يخنقك يا مورغ؟‏

- ليس من كابوس هناك، ولكن علينا الإعتناء بحياتنا بالقدر المطلوب، فلم أعد أطيق صمودك العبثي أمام أوغاد يستطيعون إشعال النار في الهشيم.‏

- تقصدين أن نصمم هزيمة ما، تليق بنا؟‏

- لاأعني الهزيمة، بل الإنسحاب من إكواريوم التماسيح يا ماوردي.‏

عندما اقتربت مورغ وسقطت بين ذراعي، أحسست بأنها لا تتوسل، بل تنذر بإحتمالات وقوع أشياء، كنت أتوقعها منذ أن صدر العدد الأول من المجلة، فقد أمطرت اللعنات علي تباعاً، وها هي مورغ تحاول أن تكلل قامتي بعاصفة الهزيمة الكبرى، وذلك من خلال التخلي عن المجلة، وإلا فما الفرق بين الإنسحاب والهزيمة في مثل هذه الحرب التي تخاض من طرف واحد: هم.‏

تناولت الكأس برغبة عارمة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:11 AM
"إنها الرغبات التي تتوالد فينا فجأة، لتبدد وتخلق ما ليس في عداد المشاريع المقررة للتنفيذ"‏

وقلت بصوت خفيض كصوت سمكة تخرج من المياه:‏

- هل تصدقين يا مورغ.. بأن الطريقة الوحيدة للحياة، أن يظل المرء طفلاً إلى الأبد، كي يتحمل الآخرون غلاظاته وعبثه لا العكس؟‏

- عندما أقرأ الدموع في عينيك يا ماوردي، أزداد تعلقاً بتمثال الجنون المتحرك وهو يحتل قامتك، ولكن الخوف هو الذي يجعل الحياة محتقرة لدينا، أليس كذلك؟‏

- ربما يمكنني النيل من تفكيرك في الصباح، أما الآن، فوداعاً يا شهرزاد.‏

العالم الضيق يا مورغ.‏

الحلم الضيق، البشر الضيقون، كل ذلك يحدث في هذه العين التي تهرول على أراضيها أحصنة النيران.‏

فيما نحن والبكاء الطويل،‏

سلسلة جبال لا تحمل غير الرماد على ظهورها.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:12 AM
الأسئلة أيضاً، تبحث عن نفسها، ألم تدخل أنت مجالها وتختلط في تلك القيعان الرطبة للفكر الذي يدخن شخوصه؟‏

“الأيام تأكل شكل الموتى، ونحن لا نستطيع التعبير عن كل الرماد الذي نتحصن في خندقه، لتذود عن المجهول.”‏

فر الماوردي من جسده، وسقط كالمقص على حواسه، فيما كانت النيران تعوي في ذلك الكهف التي تستنطق الروح فيه طيورها.‏

‏ ‏

(30)‏

الجمهرة التي حضرت إلى المنزل في ليلة عيد ميلاد الماوردي، تجاوزت العشرين شخصاً، وقد كنت مرغماً على إقامة مثل هذا الحفل الذي تخلى عنه منذ سنوات طويلة، لسبب واحد، أنه يوم لا يليق بذكر مناقب عمر، هو أشبه بالجثة المهترئة، متقطعة الأوصال، وفي زمن، لا يرى فيها ما يناسب الإحتفال بالخراب، قد تكون هذه النظرة سيئة وغير حضارية كما يقول المتفائلون، ولكن الماوردي أدرى من غيره، فهو صاحب البنيان الهرم الذي يحمله معه، والذي ما زال يتفلش ويتبدد في المنفي منذ قرابة الربع قرن.‏

قد تكون الأحلام في الكثير من الأوقات، بمثابة المصدر الوحيد للقلق، فعندما تجف قامة الحلم يتزعزع العمر، ويصير الوقت ضيقاً علينا، والأفدح من ذلك إستخراج تلك الأحلام من الأرشيف، والبدء بقراءتها تباعاً في الليل، أسراب طويلة من الطيور، وقد تحولت إلى مومياءات، تبث في الأعماق تلك الرائحة المخيفة، وهنا، لابد من تذكر جوقة الصيادين، ممن يمارسون مهنة صيد الأحلام قبل طيرانها من الرؤوس حتى.‏

"هل من الضروري إستراجاع هذا النشيد النازف الليلة؟"‏

"صحيح، الليلة أناخرجت من ذلك الرحم الضيق إلى الرحم الكبير، رحم الأحزاب والحروب والجنون والمستشفيات واليباب ومصانع الأحذية والإفكار وموانع الحمل والكومبيوترات والصعاليك والشامبو والسجون وثياب الجينز، كل ذلك صحيح، فالأرحام تتواصل بعضها بالبعض الآخر دون مشقة، ومن يدري، فربما تفكر بلغة التخاطر".‏

بدأت الكؤوس تصهل في الأعماق صهيلاً، ومن الصعب على الماوردي أن يغيب بعيداً، فقد توغلت الخمور إلى كل المنافذ، والأصدقاء هنا تحاول إستكمال دورة العمر مع الرنين الذي تبثه الأقداح، كل فرد يحاول أن يحصد حقل حياته في لحظة مناسبة، أما تعبيراً عن الكآبة السرية التي تكمن في الأعماق، وأما بهدف الولوج إلى بوابة النسيان الكبرى، تلك التي يدفع الدانماركي على وجه الخصوص ثمناً باهظاً من أجلها، فالفرح، ومهما تكن مساحته، أنما هو من الممتلكات المستحيلة التي نعترف زوراً التصرف بها في بعض الأحيان، وكل ذلك يصبح وهماً، لأن الأسى السري يغمرنا، على الرغم من محاولات المخلوق البشري الداعية لإبعاد شبح الخيبة العملاقة التي تحتل أرض الإنسان الداخلية بتلك القوة الغامضة.‏

هذا الشعور ليس مفاجئاً، أو هو وليد ثمالة متطرفة، فهو بالنسبة لأصدقائي الدانماركيين، نظرية حياة تكاد أن يكون شبه شاملة، فقد إستطاع ابن الشمال الإحاطة بها عن عمد من خلال إسلوبه بالتعاطي مع العالم الذي يعيش في قوقعته المثلجة، وكم كنت أتمنى لو يربط كل بيت في الدانمارك بخرطوم مباشر للبيرة، مثله مثل تمديدات الماء والكهرباء والغاز والهاتف، لأن ذلك سيوفر الكثير من الأعباء على المواطن هنا، وهذا الحلم الذي يراود ذهن صديقي "بيتر بيدرسن" وسواه من أبناء البلد، قد يصبح أمراً واقعاً ذات يوم، فإذا كانت ثمة دول تنتج النفط لتفقير شعوبها، فثمة دول أخرى تنتج البيرة لإسعاد البشر الذين وجدت من أجلهم، بعيداً عن النتائج المنظورة، وليس من فانتازيا في هذا الوضع المأمول، فإنك لو تفصد دم "بيتر بيدرسن" الآن، لكان جعةً تلونها خطوط من السنابس والويسكي والروم والفودكا وموجات من النبيذ، فهل أصبحت هذه المواد ومشتقاتها، أفضل من النساء عند الرجال؟‏

قد تكون الذاكرة ملغومة الآن، ولكن ليس بالضرورة أن تنفجر في مثل الساعة، على الرغم من التداعيات الحزينة التي تتوافد إلى الرأس من مختلف المناطق القربية منها والنائية، وهذا الإحساس الذي يعتريني وأنا في أجمل اللحظات، ربما يستند إلى أرشيف ضخم من خراب الداخل الذي نشره اليأس عبر الأعوام الطويلة الماضية، والتي كانت ضياعاً في ضياع، حتى أصبحت السنة الكاملة، تساوي في بعدها الزمني ساعة أو أقل من ذلك الوقت.‏

كانت مورغ تطلق خلفي عيونها بترقب حاد، فيما كان الحاضرون يحشدون أفواهم بالنقاش في موضوعات غلب عليها الطابع السياسي والإجتماعي والثقافي، ومنها ماأثاره الدكتور الوراق حول مسألة الرسائل التي باتت توجه للكومونات من قبل مجهولين، وكلها تقارير مخابراتية تتعلق بسفر الأجانب إلى الخارج، تحت طائلة المسؤولية وفرض عقوبة قطع مخصصات اللاجئين، ممن هم على برنامج المعونة الإجتماعية!‏

-أيها الأجانب: ها أنتم في السجن الدانماركي المرفه الكبير!قال يوهنس معلقاًبسخرية على الموضوع وومضيفاً: فيما الدنماركيون والأوروبيون ممن يعتاشوا على برنامج المعونات الاجتماعية. طلقاء وأحراراً يسرحون ويعملون في عالمنا الأوربي دون أن يحصد منجل العدل الالهي في البلديات، شيئاً من كروناتهم‏

-ولم لا تسخر من مسألة تجنيد البلديات للاجانب كمخبرين ضد بعضهم لبعض؟ سأل كاسبر.‏

-تلك ديمقراطية حديثة يا سيد، وربما لا نفقه الكثير عنها راهناً، قبل حدوث فضيحة أشبه بفضيحة التاميل! رد يوهنس ضاحكاً.‏

رفعت تينا كاسها قائلة:‏

-سيأتي اليوم الذي تحاكم فيه دولتنا الأجنبي على عدد المرات التي يتبول فيها، تحت شعار نظافة البيئة!‏

فساد الضحك الجو العام، ولم يستطع أحد من تمالك نفسه تهكماً بالقرارات التي باتت البلديات تمارسها بهذا الشأن، وهو ما دفع الدكتور الوراق إلى إشهار صورة عن الرسالة التي تلقاها من المشرفة الإجتماعية، والتي كان مفادها متعلقاً بشأن سفره إلى خارج البلاد من تاريخ كذا!‏

اللعنة، قالها كاسبر عندما قرأ عبارة "محب الدانمارك": التي ذيلت الرسالة بهذا الاسم‏

المستعار، معلقاً بتهكم: كأن ما ينقصنا حب هذا الجاسوس القذر، ثم بصق على الرسالة.‏

لقد ترك كاسبر ردود فعل حادة لدى الجميع، الأمر الذي دفع "ليز" وهي مدرسة جامعية إلى الإعراب عن قلقها من إنتشار هذه الظاهرة التي تستوجب الجدل والنقاش في البرلمان وغيره من الدوائر.‏

"إن قبول الكومونات لرسائل يوجهها مجهولون، تشكل خرقاً للقانون، لأنها تضع اللاجىء في وضع يشابه وضع الرهينة المعتقل كما تخضع اللاجىء للرقابة والترصد، ولا تعتبر إلا من وسائل التجسس الممنوعة، وخرقاً للحريات، بل أن إعتماد الدوائر الحكومية على هذه الرسائل، سيفسح المجال واسعاً لعمليات إنتقامية وتصفيات حساب بين الأجانب أنفسهم، سيكون مداها خطيراً في المستقل"‏

ساد الذهول قليلاً، فتطلع الماوردي إلى الساهرين وأحس بضرورة قلب صفحة جديدة من الليل، فالذهن، لم يعد يتحمل أعباء النقاش، لذلك كان لابد من الموسيقا لتملأ سلال الأجساد بتموجاتها، ونسيان جوقة الأوباش ممن باتوا يفضحون أنفسهم عن طريق ممارسة هذا العمل النذل، فهل يكررون دورهم القديم الذي كانوا يمارسونه في بلدانهم، كمخبرين في دوائر الأمن والشرطة .‏

سألت سوزان فريدركسن بصوت عال:‏

"أما من أحد منكم يرغب بالرقص أيها البشر؟".‏

فرد عليها جون أولف وهو ينهض إستعداداً للرقص قائلاً: "نحن نرغب بالرقص مع الذئاب فقط!" ثم تبعه الأصدقاء بإطلاق أقدامهم مع الموسيقا التي راحت توقظ ما في الداخل من مشاعر وأسرار في ذاك البنيان الإنساني الغامض في أغلب الأحيان، كم من الموسيقا التي تطاير معها الأفكار والأحاسيس، وكم من المخلوقات التي تستلم لها منذ البدء.‏

كنت أشعر جيداً بوضوح الصورة هنا، وأحياناً بغموضها لدينا، وكأن الموسيقا لا توقظها أبداً، لأنها إعتادت على هذا الإيقاع، فبات لا يوقظها إلا السوط أو محرك الدبابة أو بوق النفير العام، فالإنسان يتعلم حيث يولد، وقد كنت أدرك هذا الإيقاع المعرفي للحزن الذي ولدنا نحن على أرضه في الشرق، لذلك لازمنا التطرف دون إنفصال. فنحن متطرفون في كل شىء: في الحب في السياسة في الكتابة في الغناء في الهرولة في الهجران في المعرفة في الثمالة في الفنون في التعذيب الذي نقيمه للذات وللآخرين، أو لسنا ضحايا للحنين المرعب الذي نتفلش تحت خيامه في المنافي؟‏

لا نعرف إلى أي مدى يصل بنا، ولا إلى أين أو لماذا؟ فهو يسكننا كالشبح فقط. ليقطع علينا كل إتصال بعوالم البهجة، لذلك ترى الكثيرين منا، وقد تحولوا إلى جنائزيين معادين للفرح، وبشكل مطلق، لأنهم لم يجدداً لمشاعرهم الداخلية إلا في دائرة الحزن الذي يستمد قواه الخفية من غابة التاريخ الثقيل الذي يرزح تحته بشر الشرق.‏

"أين وصل بك رأسك المجنح يا ماوردي؟"‏

سألتني مورغ وهي تسحبني من ذراعي نحو أرض الرقص والغناء والخبل، لم أبد أية مقاومة، على الرغم من أنني هنا ولا هنا، تلك عادة ورثتها بجدارة عن أحد لا أعرفه تماماً، ولكن الشخص الذي أورثني هذه العادة، عظيم بالتأكيد كما أعتقد، فعلى المرء أن يكون موزعاً على أكثر من مكان في أن واحد: هنا، وهناك، فهذا أفضل، لأن التوزع، يمنع المرء من إستهلاك نفسه في حفرة أو في قالب واحد، وهو أمر يستحق التقدير.‏

قبل إنتصاف الليل.. بدأت قوافل الأصدقاء بالرحيل، ولم يكن بالإمكان ترك "كاسبر" وصديقته "ليز" أن يفعلا ذلك مثل الجميع، فقد أقفلت الخمرة عيونهم تماماً، وكان من المستحيل على أحدهما قيادة السيارة في مثل الوضع الذي هما عليه، وبخاصة في الليل، لذلك قررت التخلي عن السريرلهما، وقضاء البقية الباقية من الليل في منزل مورغ، وقبيل رحيلنا، قمنا بوضع الاثنين في التخت، وغادرنا البيت بعد إغلاق الباب.‏

- هل لك رغبة بتناول كأس من المارتيني يا ماوردي؟ سألت مورغ وهي تحضر القنينة وكأسين.‏

- كلا، ليس لدي الرغبة بذلك.‏

- وكيف عرفت ذلك، هل ثمة من يقرر بالنيابة عنك؟ ردت مورغ وهي ممتقعة.‏

فتفحصت وجهها ملياً، وهي تدلق المارتيني في جوفها وقلت:‏

- لابد من شىء هناك فهل لك أن تطلعيني مباشرة على الكابوس الذي يخنقك يا مورغ؟‏

- ليس من كابوس هناك، ولكن علينا الإعتناء بحياتنا بالقدر المطلوب، فلم أعد أطيق صمودك العبثي أمام أوغاد يستطيعون إشعال النار في الهشيم.‏

- تقصدين أن نصمم هزيمة ما، تليق بنا؟‏

- لاأعني الهزيمة، بل الإنسحاب من إكواريوم التماسيح يا ماوردي.‏

عندما اقتربت مورغ وسقطت بين ذراعي، أحسست بأنها لا تتوسل، بل تنذر بإحتمالات وقوع أشياء، كنت أتوقعها منذ أن صدر العدد الأول من المجلة، فقد أمطرت اللعنات علي تباعاً، وها هي مورغ تحاول أن تكلل قامتي بعاصفة الهزيمة الكبرى، وذلك من خلال التخلي عن المجلة، وإلا فما الفرق بين الإنسحاب والهزيمة في مثل هذه الحرب التي تخاض من طرف واحد: هم.‏

تناولت الكأس برغبة عارمة.‏

"إنها الرغبات التي تتوالد فينا فجأة، لتبدد وتخلق ما ليس في عداد المشاريع المقررة للتنفيذ"‏

وقلت بصوت خفيض كصوت سمكة تخرج من المياه:‏

- هل تصدقين يا مورغ.. بأن الطريقة الوحيدة للحياة، أن يظل المرء طفلاً إلى الأبد، كي يتحمل الآخرون غلاظاته وعبثه لا العكس؟‏

- عندما أقرأ الدموع في عينيك يا ماوردي، أزداد تعلقاً بتمثال الجنون المتحرك وهو يحتل قامتك، ولكن الخوف هو الذي يجعل الحياة محتقرة لدينا، أليس كذلك؟‏

- ربما يمكنني النيل من تفكيرك في الصباح، أما الآن، فوداعاً يا شهرزاد.‏

العالم الضيق يا مورغ.‏

الحلم الضيق، البشر الضيقون، كل ذلك يحدث في هذه العين التي تهرول على أراضيها أحصنة النيران.‏

فيما نحن والبكاء الطويل،‏

سلسلة جبال لا تحمل غير الرماد على ظهورها.‏

(31)‏

كانت الشمس قد تلألأت على زجاج نافذة غرفة مورغ للنوم واشغال الليل، إنها العاشرة صباحاً بالضبط، القهوة بعيارها الثقيل الذي تعودت مورغ على عدم التخلي عن إعدادها هكذا، كانت جاهزة، فتناولها كل منا بطريقته الخاصة: هي دون سكر وحليب، وأنا العكس تماماً، ومع تسلل دخان السيكارة الأولى إلى ممرات الجسد، بدأ الرأس يستعيد وقاره، هكذا أحس دائماً، فكأن الرئتين لا علاقة لهما بالدخان الذي نتشرب به، خاصة في الصباح، أعرف مايقوله الأطباء والعارفون عن ذلك، إلا أن المسألة تتعدى حدود كيمياء الجسم، إلى شبكة أخرى من شبكات الجسد البشري، لأن إستنشاق التبغ في الصباح، يمنحني أنا شخصياً، نوعاً من الأمل، لم أستطع اكتشاف هويته حتى الآن، وهذا في حد ذاته متعة غامضة.‏

كان علينا أنا ومورغ العودة لمنزلي لإعداد القهوة والإفطار لضيفينا، ولكن لم نتمكن من إنجاز ذلك، فقد حضر رجال الشرطة إلى منزل مورغ، وأبلغانا بما حدث لليز وكاسبر في منزلي أثناء الليلة الماضية، لذلك كان علينا الذهاب إلى مقر البوليس من أجل التحقيق وتثبيت بعض الوقائع هناك، ولولا إفادة كاسبر الأولية، كنت قيد الإعتقال.‏

جاء في إفادة كاسبر هنيس ما يلي:‏

"لا أعرف الوقت تماماً، فقد كنت ثملاً، ولكنني صحوت بفعل ركلات قوية على معدتي ورأسي، وعندما أيقظني الألم من سكرتي، رأيت رجلين يوجهان لي تلك اللكمات، لم أستطيع المقاومة ولا التفكير بشىء، فقد سقطت من التخت أرضاً، ورحت أتلوى مثل الثعبان المطوق بسور من النار، وعندما هدأت الآلام التي كانت تنبعث من معدتي، إستيقظت لأجد "ليز" وهي تنز في جواري أرضاً، فامتلكني الهلع والذعر، فأسرعت للهاتف دون جدوى، لأنه لا يعمل بفعل قطع الأسلاك، فتشجعت لجمع قواي، وحملتها إلى سيارتي وتوجهت بها نحو المستشفى"‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:13 AM
أصبحنا نحن الثلاثة خارج دائرة البوليس، وقررنا الذهاب للمستشفى، بهدف الإطلاع على وضع ليز الصحي، إلا أننا لم نستطع رؤيتها اليوم، كما قالت الطبيبة المشرفة على علاجها "يلزمنا 24 ساعة لمراقبتها في غرفة العناية المشددة".‏

لذلك خرجنا من هناك دون أن نعرف الوجهة التي سنرتادها، إلا أن كاسبر إقترح علينا أن نستعير سيارته إلى الغد، بعد أن نقوم بإيصاله لبيته، جراء شعوره بالتعب والإرهاق والنعاس، وهكذا حدث، ودعناه في مدخل البناية التي يقطن فيها، وإنطلقت مورغ تقود السيارة دون تحديد الإتجاه وهي صامتة كالروبوت.‏

"دعها يا ماوردي في مواجهة نفسها، فالنساء نصف أحلام، والنصف الآخر رغبات"‏

كانت مورغ خلف مقود العربة، وكأنها تقود معركة، ألمر الذي أربكني، فإقترحت عليها تناول فنجان من القهوة في احدى الكافيتيريات، إلا أنها غيرت وجهة سير العربة، منطلقة نحو منزل صديقتها روزينا، كما عرفت ذلك فيما بعد، ولم ترغب مورغ بتناول شىء هناك، وهذا ما دفع روزينا للإستفسار عن سبب توتر مورغ التي لم تعط جواباً كافياً عن أحوالها الراهنة.‏

- هل من جديد يا مورغ؟ لا تحاولي تجاهل ما أقصد.‏

- كلا، ما من شىء سوى أنني أكاد أصاب بالغثيان.‏

- الغثيان.. من ماذا.. من الرجال أم من أفعال الرجال؟ سألتها روزينا بشىء من التهكم وهي تنظر إليّ.‏

- بل من كثرة الأسئلة التافهة بالضبط.‏

- يبدو أن الورطة أكبر ما أظن.‏

- إذن، حاولي معي أن نخرج الماوردي من عالم الرعب وإنقاذه من المخاطر، فقد عجزت معه من تحقيق شىء، هل تعديني بذلك أيتها الروزينا؟‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:14 AM
حاولت التدخل في معركة التفاهم بين الاثنتين، لتهدئة الصخب والتصريحات والقرارات التي تحاك أمامي، ولكن مورغ قطعت علي الفرصة، عندما نهضت فجأة لتعلن لي رغبتها بالخروج قليلاً، ولتقطع وعداً لروزينا بعودتنا إلى منزلها مساءً.‏

"يا للرب، إن الجدية تقصم ظهر الفتاة، فيما الماوردي غارق في العبث داخل هذا المسرح الذي ربما لم يأخذ أحد فصوله على محمل الجد، ولكن، هل فعلاً الأرض تحترق تحت قدمي دون أن أشعر برائحةٍ الدخان؟"‏

بعد أقل من ساعة، كنت ومورغ أشبه بتمثالين في مواجهة البحر، يغلفنا الصمت، كأن الكلام سقط كلياً من الفم، ولم يبق منه حتى رائحة الإيماء، فهل جاءت بي مورغ إلى هنا، لتمنحني فرصة للتأمل؟‏

لا أعتقد ذلك، فالوقت الذي يضغطنا بمكابسه، لم يمنحنا مثل تلك الفرصة، بقدر ماكنا نحاول الإغتسال برائحة البحر من المتاعب التي نحن فيها. ربما، أو هكذا أحسست وأنا أختلط بلغة الموج العالية لبحر الشمال، فيماظلت مورغ جالسة خلف مقود العربة، وهي تتطلع نحو الحقول المجاورة.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:15 AM
- لحساب من يعمل البحر يا مورغ؟ طرحت سؤالاً.‏

- لحساب الشباك والأقفاص والسنارات.‏

- وأين الحالمون؟‏

- لم يزل هؤلاء في طور اللامتكيفين، ويحتاجون إلى زمن ليس بالقصير.‏

- من أجل أن يتكيفوا مع الصيد؟‏

- كلا، ربما من أجل الإرتقاء إلى درجة الحس الذي تتحلى به حواري البحر.‏

- ألا تعتقدين بأن حورية البحر هي الأخرى قفص للذي ينتظرها وللذي يقع في حبها وللذي يكتب عنها؟‏

- ربما، ولكنها بالتأكيد قفص مرسوم على الرمل، ويستطيع المرء الخروج منه في الوقت الذي يشاء.‏

قبل أن تكتمل جملة مورغ الأخيرة في طبقة الأذن الوسطى، كنت وجدت نفسي خارج العربة وأنا أتنفس البحر إلى آخر رذاذة من رذاده المتطاير.‏

"لا أجمل من مواجهة البحر والإستفراد بنظراته، أليس البحر هو الفستان الذي لم يبل نسيجه الأزرق منذ ملايين القرون؟"‏

هكذا هتفت داخل نفسي وأنا أمتزج فيه على بعد أقل من مترين.‏

كديميس
09 Mar 2006, 01:15 AM
يا بحر الشمال..‏

يا بحر القراصنة والحواري والغواصات والحيتان.‏

يا قامة الحلم المرير وياورق الحنين الممزق.‏

يا غربة مُركبّة في المنفى الغارق فينا كحطام تلك السفن النائمة في أعماقك.‏

أي نشيد يتلى الآن، لسمكة معوقة في منازلك.‏

أو لسمكة قضت نحبها على الرصيف.‏

يا بحر الشمال.. أين الطريق إلى الفرات.‏

وكل حدودك شباك وألغام وأقفاص وخفر سواحل.‏

لم يكن في اللغة أنذاك، سوى الدمع المقطر، وهذا أمر فادح كما أدرك، فبمجرد أن يظهر الدمع في مشهد من مشاهد اللغة.‏

يتسرب الفساد إلى قوة الدفع في النص، وهنا، لابد من الهرب والإختفاء، وهذا ماكنت قد فعلته حقاً في تلك الظهيرة، فقد أقفلنا عائدين من الماء إلى الثرثرة في حانة كانت مرمية على تلة بمحاذاة الطريق الريفي.‏

يتبع

خالد بن سعود
09 Mar 2006, 10:33 AM
تسلم على الموضوع الجميل يأخي كديميس
ولكن الإطاله عزيزي تمل القارئ
أمل أخذ هذه النقطه بصدر رحب
وحياك الله أخوي

السلطان
09 Mar 2006, 01:07 PM
أبو محمد

الرواية طويلة جداً وأنت وضعتها في وقت واحد

قراءتها لا تبدو سهلة إلا بعد طباعتها وأخذ فترة راحة للهدوء

والاستمتاع بهذه الرواية

بارك الله فيك

كديميس
09 Mar 2006, 01:30 PM
أخي خالد وأخي سلطان
لايوجد هناك مدة محددة لقرآءة الرواية
هي موجودة هنا لزمن يمكن لأي شخص قرآتها في أي وقت وبأي طريقة
شكرا لتواجدكما

بنت زايد
09 Mar 2006, 03:16 PM
:shiny:

شفتك كديميس شغال عليها البارحة ..
دشيت عشان اقرأ لقيتك ما انتهيت !! ولادري متى انتهيت :)

ومثل ما قالو رواية طويلة ..!!..
فأكيــد إني ما قريتها كلها :)
على أمل أن انهي قرائتها يوما ما متى ما انتهيت منها :)
يعطيك العااااافية يا بومحمد

الجبوري عراقي ..صح؟!

كديميس
09 Mar 2006, 11:59 PM
كنت قد أردت الإبتعاد عن شفرة الموت الصدئة داخل الكلمات، ولكن الذي يتأمل الليل وشكل الليل وروح الليل، سرعان ما يدرك بأن اللغة التي تتحدث، انما هي لغة موت لا يمكن الفرار منها.‏

‏ ومهما تعطل رادار التأمل في اللغة أو في الليل، ستجد نفسك في الفرن.‏

"هكذا ودون مقدمات يا ماوردي"‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:01 AM
(32)‏

اليوم الاثنين.. ولم يحضر الإجتماع الإسبوعي المقرر لهيئة التحرير، سوى السكرتيرة ومحرر واحد من المجلة، وهي علامة شؤم، كما إعتبرتها قياساً للظروف التي حاولنا التملص منها ومن متاعبها، ويبدو أن الإمتناع، كان بمثابة إعلان أولي للهزيمة، وليس مجرد أنقلاب لتعديل أو تصحيح مسار المجلة بالتعاطي مع القضايا والأحداث الخاصة بالأجانب، فقد طارد الخوف الجميع، بواسطة التهديدات المجهولة، لوضع كل محرر في مكان لا يحسد عليه، ولم يكن بالإمكان مواصلة بث الطمأنينة في القلوب التي طالها الرعب الخفي، فالجرأة مثلها مثل العناد والكرم، طبيعة وليست تطبعاً كما أستطيع أن أجزم.‏

أشعلت غليوني وأنا أنظر إلى النافذة بصمت، وحزّ في نفسي النظر في ساعتي اليدوية، كي لا أعطي الإنطباع بأنني بانتظار مجىء أحد بعد مرور ساعة على الموعد، فبادر زياد، وهو محرر الشؤون الإجتماعية في المجلة بطرح إقتراح لتناول القهوة في مكان عام، ربما ليفك الحرج أو شيئاً من هذا القبيل عني، فسألت سوزانا، وهي سكرتيرتنا للعلاقات العامة عن رأيها، فلم تبد إعتراضاً.

كديميس
10 Mar 2006, 12:02 AM
وهكذا إنتقلنا في عربتها، تاركين لها حرية إختيار المقهى.‏

قالت سوزانا وهي تلصق عينيها بوجهي‏

-هل من شيء يعمل في رأسك الآن يا كابتن؟"‏

"تشريح جثة الهزيمة، لإيجاد المبرر للإنسحاب وليس غير، ألم يكن هذا ما تطمحين إلى معرفته؟" أجبتها.‏

فردت على الفور:‏

"تفكرك بالأشياء القاسية، لا تلغي القسوة ذاتها"‏

فقال زياد معلقاً:‏

"لقد إزدادت خبرتنا بمعرفة الأشياء السيئة، وها نحن ننظر إلى صورنا في مرآة مهشمة، ماذا يعني كل ذلك؟".‏

"ليس غير تغيير المرآة.. أليس هذا ما تقصده؟" أجابته سوزانا وهي ترفع عن عينيها خصلة عن شعرها.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:02 AM
فقلت لهما:‏

"هذه الساعات وقت خصب لإختراع أجمل أزياء الهزيمة، الآخرون إتكاليون، كل منهم يلقي الحبل على الغارب، وينتظر من الوقت أن يجترح معجزة تزيل الركام الذي في أفواهنا، يكفي أن تراهم نائمين في مقصورة مريحة، وينتظرون من القطار أن يختار لهم، أفضل المحطات أمناً وسلاماً ونفعاً، أي أنهم يحاولون إستثمار كل شىء جاهزاً، دون التفكير بدفع أدمغتهم إلى دائرة الفعل حتى، أليست هذه هي صورة الواقع المرّ الذي نحن فيه؟"‏

فرد زياد قائلاً بشيء من النرفزة:‏

"عندما لا يتحسس الآخرون حتىصفير الخراب الذي يزحف إلى دواخلهم، جراء أفعال السوء التي يقترفها البعض من الأجانب، فعليهم تقبل ما سينتج عن المناخ الردىء الذي يهيئه الخارجون على القانون في هذي البلاد، أنذاك ستطال يد العنف والكراهية الجميع دون إستثناء، وستغرق السفينة التي تحمل الألولف على ظهرها في المستنقع، جراء أزاميل المئات من المخربين، ممن لا يهتمون لا بالأجانب ولا يغرق السفينة، ولقد أنذرنا من مغبة الإستسلام لهؤلاء."‏

فعلقت سوزانا وهي تستعيد صورة مؤلمة بقولها:‏

"تتملكني الآن صورة ذلك اليوم الذي دخل فيه زياد الجريدة، بعين متورمة ووجهه ينزّ دماً، عندما حاصره الثلاثة في الزقاق الخلفي للمجلة، لينهالوا عليه ضرباً، بفعل التحقيق الصحفي الذي نشر عن أصحاب الشهادات الجامعية المزورة، والممهورة بأختام وزارات العالم الثالث!"‏

فتطلع زياد لروزينا بشغف، ربما لرغبتته بمعرفة مشاعر هذه السكرتيرة الجميلة إزاءه، والتي لم يكتشفها من قبل، وقال بمودة لإستدراجها.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:03 AM
"وهل كان تلك شفقة وحسب يا آنسة..أم..؟" ولم يكمل جملته، بل ترك الفراغ لتملأه روزينا.‏

فردت عليه ضاحكة:‏

"المقاتلون يا زياد، لا يتركون السطور الفارغة في المعارك، ليملأها لهم الآخرون!"‏

"ها قد عدنا إلى نقطة الصفر معك يا روزينا"‏

ردّ زياد عليها والعبوس المسرحي يملأ وجهه.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:03 AM
(33)‏

"هنا لندن" عبارة كانت تتكرر في ذاكرتي منذ الطفولة، أعوام الخمسنيات، وكنت أستمع إليها من ذلك الراديو الخشبي الضخم الذي كان أبي يملكه، هو الشخص الذي لا تفوته نشرات الأخبار في مواعيدها. فعندما تطلق دار الإذاعة ابريطانية بثها.‏

يحل الضيوف من الجيران في منزلنا للإستماع إليها، والسهر مع ما كانت تقدمه من برامج سياسية متنوعة.‏

"الإنكليز.. كل شيء لديهم ممتاز.. بما في ذلك المكائد!" هكذا كنت أسمع مثل هذا اللغط الذي لم أفهم شيئاً منه آنذاك في مجالس الكبار، لكن، وبمرور الزمن أدركت إن الإنكليز، هم أول من أدخلوا الشاي إلى بلاد العلجوم مع عساكرهم، ليصبح المشروب الأول، ليس بالنسبة لنا فقط، بل لسكان مستعمرات الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وهم أيضاً الذين دفعوا السياسة والأحزاب إلى عقول أبسط الناس لأن يكونوا من فئة المسيسين في الشرق.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:05 AM
والآن أقول في نفسي:‏

"أمن أجل هذا، لا يحس البريطاني حرجاً من رؤية الأجنبي في بلاده، كونه انكليزياً من سلالة المستعمرات القديمة التي جعلت التاج البريطاني مرصعاً بثروات الشرق التي لا تأكلها الينران لقرون قادمة؟"‏

"هنا لندن" ولكن هذه المرة ليست عبارة عبر الأثير، كما كنت أستمع إليها في الماضي البعيد، بل بالتماس الجغرافي المباشر على الأرض، فعندنا هبطت الطائرة في مطار هيثرو بعد الظهيرة، أحسست باختلاط الزمن وذوبانه في آنية واحدة، ولم أحس برغبة مغادرة المطار- المدنية الواسعة، دون القيام بنزهة بين أروقتها ومطاعمها وأكشاشها ومقاهيها ومحالها التجارية، وهكذا فعلت. فقد إبتعت بعض الصحف والمجلات العربية، وجلست على مقهى لتناول القهوة وممارسة التدخين بشراهة، تعويضاً عن فترة القمع التي مارستها شركة الخطوط الجوية البريطانية بحق المدخنين أثناء الرحلة من كوبنهاكن إلى لندن.‏

لم أفكر أبعد من تلك الحدود أنذاك، فالذي لا يحمل غير حقيبة يستيطع رميها على الظهر، يقدر على الدخول المباشر في الزمن، دون لعبة تقسيم اليوم إلى ساعات والساعات إلى أرباع وأنصاف ودقائق، وعندما غادرت المطار بعد إستخدام الهاتف، تركت مواعيدي مع الأصدقاء إلى المساء، فكان لابد من التسكع ورؤية التايمس أولاً، ربما بسبب تعلقي بالأنهار، وثانياً، للإستفراد بنفسي والتفكير على نار هادئة بما أرغب بصنعه، فطبقة الظلام التي أكاد أتكلس بينها وبين اليأس الذي يبني أسواره العالية داخلي، هو شأن روحي قبل أن يكون شيئاً آخر، لذلك أتي عليّ هاجس السفر إلى لندن، بهدف منع الإنهيار، كمحاولة أخيرة قد تمنع إرتطام قامة المجلة على صغر حجمها بالأرض، وفي لندن التي إستقطبت الصحافة العربية بعد العاصمة بيروت، قد نجد المخرج، وإن مؤقتاً للصدور من هنا.‏

لكن الأصدقاء الذين قابلتهم في المساء، أبدوا إحتفاءهم بي، أكثر من المشروع، وذلك بالنظر لحجم التكاليف المالية الباهظة التي تترتب على الطباعة والتسويق في بريطانيا، وكل ذلك جرى خارج تكاليف الكتابة التي إستعدوا للمساهمة فيها مجاناً، لدعم المجلة بالنصوص والمواد والخبرات الإعلامية.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:06 AM
في ظهيرة اليوم التالي، وجدت نفسي فجأة في حديقة الهايدبارك، فقلت لم لا تشد العزم يا رجل، وتلقي خطاباً في هذا المكان المأهول بالبشر من كل الجنسيات؟ جلست على ذلك المقعد الخشبي، متأملاً الموسيقيين والرسامين والخطباء والصعاليك والعشاق والشعراء والفوضويين، وقلت في نفسي: ربما كان حلم هتلر أن يخطب في مكان كهذا، فبدأت الحرب، لأن الأنكليز إعترضوا على منحه مثل تلك الفرصة! ربما، فمن يدري بالأفكار التي تدور في عقول القادة؟‏

أليست الأفكار تهرب في الكثير من الأحايين، مثلها مثل البشر والحيوانات، عندما يحسون بالخطر؟ وها هو رأسك يا ماوردي وقد فرغ من كتل الحجر الذي كنت تثقل به دماغك، يا إلهي! ليس من المعقول أن يتحول هذا الرأس العظيم المعقد فجأة من فرن إلى ثلاجة خاوية من كل شىء، عدا الجليد، لن تكون هناك فرصة للعناد بعد ذلك، والآمال التي كانت ترفرف مثل رايات الكرنفالات، ها هي خرق لا تصلح لمسح الأحذية أو طاولات المطاعم.‏

ويبدو أن الثقافة من منغصات الحياة بالنسبة للكثير من الأجانب، وأن العصر ليس عصر فكر وفن وثقافة وحضارة، بقدر ما هو عصر "بسنس" وشفط ولهف في مراثون التجارة الحرام وغير الحرام في بلاد جلالة الملكة مارغريتا، حتى الثقافة بالأسود، على سبيل الإفتراض، فإنها لا تجمع اثنين من الأجانب في فكرة واحدة، أو على إتفاق مشترك، ويا للهول!!.‏

هكذا أنهيت خطابي الداخلي الساخط، ونهضت مغادراً الهايدبارك، دون تحديد هوية لمكان أو إتجاه، أليس الأفضل أن يفعل المرء ذلك، وكأنه خارج للتو من رحم أمه؟‏

السيدة التي كانت جالسة إلى جواري، كأنها الشخص الوحيد الذي إستمع إلى الخطاب السري الذي كنت قد إنتزعت كلماته من فمي على طريقة ما يفعله أطباء الأسنان مع الرحي الغائرة الجذور والمستعصية، فأمسكت بيدي قائلة:‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:07 AM
"إجلس، ما زال الوقت مبكراً، ثم إن كل الأمكنة والأزمنة تشابه بعضها، عدا بعض الفروقات التي نضيفها بنفسنا عليها، كي تبدو مختلفة بعض الشىء" ثم أضافت تلك المرأة الستينية:‏

- ألست أنت من بلاد العرب؟‏

- نعم، هكذا يقال، من العرب الدون بلاد، وماذا عنك أنت أيتها السيدة؟‏

- أنا بلاد دون عرب الآن! أي بعكس ما قلته تماماً.‏

- هل يعني ذلك بأننا كطرفين لمعادلة واحدة في نهاية الأمر؟‏

- لا تتعب نفسك بالرياضيات، فقد تخسر كل الأرقام دفعة واحدة، لأن ثمة خواص نادرة لكيمياء الأجساد التي لدينا.‏

- هل السيدة مختصة بالكيمياء..أم ماذا؟‏

- يعني، ألم تر أفلاماً قديمة لراقصة كانت تجعل من الدنيا زيطا زمبليطا؟‏

- آ، أتذكر، فالتاريخ الذي لدينا، لا يعفينا من هذا الحق، هل أنت "ثريا" أليس هذا صحيحاً بحق الشيطان؟‏

- أجل، وها أنت تقعد إلى جانبهبا بسهولة، يوم لم تكن تسمح أنذاك، إلا بمجالسة الباشوات والوزراء والأعيان!‏

- وأين هم الآن؟ ألا تزالين تفكرين بسلطة الجسد الذي لدى الراقصة، وأنت في مثل هذا العمر؟‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:08 AM
- إسمع، سلطة الجسد لن تنتهي مع الزمن، إنها تحيا في ذاكرة من عاشها وإستسلم لها برضاه ذات يوم، لذلك تجدني في الكثير من الأحيان وأنا أرقص وأراقص الآخرين ذهنياً، لقد كنت أحكم بلداً أكثر ممما يحكمه القانون، وليس من خطأ في ذلك كما أظن، لأنه أفضل من اللاقانون، وهذا لا يثبت بأنني كنت قاسية ومرعبة ومتسلطة، بالعكس فقد كان الجسد الذي لديّ أنذاك، يخفف من القسوة والعنف على الكثيرين، ويجعل غلاظ القلوب أرانب زينة، فإنك لتلين الحديد، ضعه في حضن المرأة، فاقسى الرجال سلطة، أولئك الذين يديرون ظهورهم للنساء، وهذه الراقصة التي إلى جوارك، خدمت الأمة ثلاثين عاماً من تعاقب الحكومات التي كانت ترميكم بأحجارها نهاراً، وترتمي عند حجري في الليل.‏

- ستنالين الثواب العظيم يا سيدة! وأرجو أن تنالي ذلك عن جدارة؟‏

- لا تحاول النيل من أحد بالسخرية، فلو كانت الجنة بيد مخلوق من جنسكم، لأقفل أبوابها دون البشر، وظل يهز مع الراقصات "من أين خرج عليك التاريخ هذه المرة يا ماوردي؟ فلو كتبت هذه الراقصة سيرتها، لتهدمت تماثيل كثيرة في بلدان الشرق، وهل تدرك يا ماوردي إن التاريخ الحقيقي، هو في راس هذه المرأة؟‏

قد تقول تلك ترهات ومبالغات، ولكنك لو حفرت بالأبرة في ذهنها، لخرج عليك طوفان من الروايات والأخبار والأسرار. ألست صحافياً؟ إذن خذ هذه المتعة التاريخية الطارئة التي لم تكن تخطر على بالك في يوم من الأيام؟".‏

عندما دعوتها للعشاء في أحد مطاعم، رفضت ذلك بلباقة، ولكنها رحبت بفكرة تناول الشاي في المقهى، وقبل أن نتوجه إلى الخارج، تناولت الهاتف من حقيبتها وتحدثت مع أحد ما بلغة فرنساوية، فسألتها بعد الإنتهاء من المكالمة، إن كانت تفضل مقهى محدداً هنا. معتذراً عن جهلي بمعرفة خريطة لندن، فردت عليّ ضاحكة:‏

"سنركب العربة أولاً، وبعد ذلك ستقرر..".‏

عـــلاوي
10 Mar 2006, 12:08 AM
أخوي كديميس موضوعك جميل جدا ... ويجب قراته بشكل طبيعي ...

سوف اعود لقراته .... يعطيك العافيه .

كديميس
10 Mar 2006, 12:08 AM
لم أكن مشغولاً أو قلقاً من التفاصيل: الحديث أو المكالمة أو السيارة الفاخرة التي إنطلقت بنا في جولة داخل العاصمة، فحتى الآن لم أفكر بالأِشياء السيئة مع هذه المرأة المحتشدة بالتجارب، والتي بنت عقلها على نحو مختلف للبناء الذي تم لعقولنا في المدارس والأحزاب والمنظمات الثقافية ومقاهي الصباح ونوادي الخمر والنقاش النكدي في الليل، فبنيان عالم الراقصات، عالم مختلف، عالم مزيج من اللذة والمرارة، من الحرية والقيد، من الموت والحياة في آن واحد، وجسد الراقص المجسم لا يثير رغبة القراءة، بقدر ما يدفع الأفواه لأن تفتح بواباتها إلى الحدود القصوى، فهناك الكثيرمن المعاول الصدئة التي تحرث بالضد من رغبة أراضيهن في الكثير من الأوقات.‏

إنتهت حفلة الشاي في المقهى، ولم ينته نهر الكلمات، فقد كانت ثريا طبيعة غارقة بالرموز، لا تدخل التفاصيل، بل تلوح بنشرها كاملة الوقائع، وقد أدركت بسرعة البرق، أن إقتحام راسها ليس بالمسألة المعقدة، ولكن في الوقت المناسب، أي عندما يتضخم الماء المر في الذاكر، ويهدم السدود والموانع التي في طريقه، وهذا جائز على ما أعتقد، ففي مرحلة ما، لا يستطيع المرء خزن ما في دواخله إلى ما لانهاية، على الأقل من أجل تطهير النفس من المعلومات التي نعتبرها نحن ذنوباً.‏

شكرتها وأنا أستلم الكارت الشخصي لأسمها وعنوانها ورقم هاتفها والتلفاكس، ومتفقاً معها على اللقاء عصر اليوم التالي في المقهى ذاته.‏

"غداً، ستكون لدينا مادة شهية للمناقشة، فأرجو أن يكون إستعداداً مثالياً يا ماوردي، إلى اللقاء"‏

كانت هذه هي الكلمات التي نطقت بها ثريا وهي تودعني مساءً عند باب المقهى.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:09 AM
ببربرية متطرفة، أخذت أجلد ذهني بالأسئلة الحادة، وأنا في الطريق إلى الفندق الذي أنزل فيه، إلا أنني سرعان ما قررت تغيير الإتجاه، مقترحاً على نفسي شرب الجعة بهدف التفاوض مع نفسي ذاتها، فالمرء، ومهما كانت براعته في تمرين ذاته على أحوال الدنيا، إلا أنه لا يستطيع إكتشاف نفسه الكامل، هناك مناطق وعرة من الذات البشرية، لا تمكن المرء من دخولها إلا في اللحظات المناسبة، فعوالم الذات ليست جغرافية وحسب، بل هي نسيج مكثف من مادة لم أستطع إكتشافها تماماً، على الرغم من إدعاءاتي الساذجة بمعرفتها أحياناً، ولذلك، فتفاوض المرء مع نفسه، من المشقات كما أستطيع القول، لأن لا سؤالاً محدداً على أرض النفس، ولا جواباً قاطعاً لها أبداً، فالأسئلة تسيل وتتجمد، والإجابات تقفز أعلى الموانع.‏

لقد كان اليوم التالي غائماً في لندن- هو شبه مشرق بالمناسبات طبعاً- وبعد حفلة الشاي والأحاديث المتفرقة، هيأتني ثريا لمغادرة المكان، فشعرت بعيون الرواد تشيعني، وهو ما بث بعض الخجل في نفسي من رفقة هذه التاريخ الذي يمشي إلى جانبي.‏

هززت رأسي دون شعور، وقلت بصوت عال:‏

"ليكن ما يكون"‏

فنظرت ثريا بوجهي وهي تقول:‏

"هل من أمر يا ماوردي؟" فأجبتها بنعم، مشيراً إلى ساعتي.‏

"إنها مثل الكائنات الحية، تعظ في بعض الأوقات"‏

"وهل ثمة إرتباطات لديك؟ أرجو أن لا يكون ذلك، لأنك مدعو على العشاء في منزلي" هكذا سألت، وأضافت في آن واحد.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:10 AM
فأجبتها مازحاً:‏

"من أجل ديك رومي مطبوخ بالنبيذ، يمكن إستبدال المواعيد أيتها السيدة؟".‏

عندما أصبحنا على عتبة منزلها وسط العاصمة لندن.. قالت لي وهي تدير المفتاح في قفل الباب:‏

"معي صديقة فرنسية أسمها "سونيتا" إنها كاتبة وصحافية مميزة، وتسكن معي في المنزل، وهي تعرف بأنك ضيفنا في هذه الليلة"‏

فطأطأت لها براسي متفهماً، ثم دخلنا المنزل المتحف، صافحت السيدة سونيتا، وتبادلنا الإبتسامات، متطلعاً في فضول إلى المقتنيات الفنية والصور واللوحات التي تتوزع الجدران وزوايا الصالة، ولم أتخيل كيف وصلت إلى هنا من خلال هذه الصدفة التي غالباً ما تحدث في السينما فقط.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:11 AM
(34)‏

بينما كانت السيدة ثريا، تعد لنا الأرواح في الكؤوس، بعد طرح السؤال التقليدي عن نوع الشراب المفضل لشحن رؤوس ضيوفها، تناولت حقيبتي اليدوية، وإنشغلت بالبحث بين الأوراق، هو ما أضفى طابعاً جدياً لدى سونيتا لتسأل: "إن كنت قد فقدت بعضاً من أوراقي أم شيئاً آخر؟"‏

فتأملت في وجهها ملياً، وأجبت متسائلاً:"أجل، أريد أن أتأكد إن كنت قد جلبت الحظ معي أم نسيته كالعادة!" فضحكت الاثنتان طويلاً، ولم أكن أتوقع أن يكون لسونيتا المعرفة باللغة العربية بطلاقة، فقد أخبرتني بأنها عاشت ردحاً طويلاً من الزمن في القاهرة وبيروت، كمراسلة لصحيفة فرنسية، وهو أمر زاد في إنعاشي، أنا الذي فشلت على طول الخط بإتقان أية لغة أجنبية، ربما بفعل الغباء الذي أتمتع به، أو بسبب اصابتي بمرض اللغة الأم، وإنعدام وجود مساحة كافية للغات الأخرى في دماغي، أو لأن المنطقة المخصصة للغات الأخرى، ما تزال مقفرة مثل الصحراء بفعل عامل فيزيولوجي، المهم، لا أعرف، فكل اللغات تدخل أذني الشمال، لتخرج مهرولة من الأذن اليمنى، أشبه بأشخاص مطاردين من قبل الأنتربول، أو لنقل بشكل أكثر فانتازية: إنني أفكر بحقوق فصيلة من البشر: المترجمون، أي يذهب هؤلاء، عندما يتقن البشر لغات بعضهم البعض؟ ألا تموت الترجمة في مثل تلك الحال؟‏

كانت الطاولة زاخرة، وكان الكلام سلة فواكة تتبخر منها الذكريات، لتضيف للطقس نشوة أشبه بلون الشفق عند الغروب، وكنا نحن الثلاثة- عدا جورجيت الخادمة الوسيمة التي يطلق عليها مديرة المنزل، والتي تتردد علينا بين الفينة والأخرى، وياليتها أخذت مكان الاثنتين- من راكبي الهوادج، وبمحاذاة نهر طويل اللسان، ما أن يدرك المرء سعادته في شىء، حتى يجد شيئاً آخر، أجمل من الأول بالكثير من الزخارف والألوان، أليست هذه هي السعادة: وهم مستمر من الفلسفة والمال والجنس والغرور والثقافة والرقص والغش والحلم والخيانة والتأليف والجمال والقسوة والدعارة والأزياء والحب والجنون.. وإلى ما لانهاية .‏

"ألم تكن يا ماوردي مع الراقصة، فاصبحت مع الكاتبة، وها أنت تتابع الخادمة جورجيت بحواسك المنظورة وغير المنظورة، أليست السعادة في التحول، أم تلك خيانة كما ينص عليها القاموس؟"‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:12 AM
- هل توافق مبدئياً على تبني المشروع والتوقيع على عقد عمل: تنسيق وترتيب وكتابة سيرتي الذاتية؟‏

سألتني ثريا بشكل مفاجىء، وهي تنتظر برغبة مشوبة بالقلق رداً قاطعاً.‏

- وهل سبق وأن عرضت المشروع على أحد ما؟ سألتها.‏

- أجل، على ثلاثة من الكتاب وصحافي وقد وافق هؤلاء في البداية، وما لبثوا أن قدموا إعتذاراتهم عن تنفيذ المشروع.‏

- ولم حدث ذلك؟‏

- ربما كان ذلك بسبب الضغوط والمخاوف التي تعرضوا لها من قبل بعض الأطراف الاجتماعية والسياسية هنا وهناك، فقد افادهم البعض بأن الإجراءات ستشمل سحب جوازات السفر وإسقاط الجنسبة وتعريض عائلاتهم للملاحقة والإعتقال.‏

"يا للرب، إذا كان نشر السيرة الذاتية لراقصة واحدة، تستدعي كل هذه الإجراءات الإرهابية! فكيف الحال إذا ما قامت راقصات العرب جميعاً بنشر مذاكرتهن؟! أية كارثة ستفتحها على نفسك يا ماوردي هذه المرة؟ لقد جئت إلى لندن من أجل أن تدفع عن المجلة 'إرهاب عصابة ضالة، وها أنت تدخل في دائرة إرهاب الدول، قل يا ماوردي لهذه العاهرة التي أمامك:أنك لن تستطيع إعادة ما هو مأكول من لحم جسدك أبداً، وليس عليك إلا أن تضعي بفمك أكبر أحجار الطبيعة وتخرسي، قل لها يا ماوردي أن لا تحلم بحكم الباشوات والأعيان والوزراء والأثرياء وأحفادهم مرة جديدة، فالشرف الرفيع لا يسلم من الأذى؟ وإن لم تستطع فعل ذلك.. إقفز من النافذة يا ماوردي حالاً، ودع الراقصة تهز خصرها وصحونها وذهنها وبطنها وأموالها وحيطان منزلها الفاخر لوحدها وحتى الموت، فالذي فيك يكفيك!"‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:13 AM
لكن الفكرة التي طرحتها عليّ ثريا، كانت بمثابة رمح إخترق الدماغ، وهي فرصة قد أكون محتاجاً إليها، دون أن أسميها أو أعرف مضمونها على وجه التحديد، لذلك لم أمتنع أو أسجل إعتراضاً على المشروع، فقد قمت فوراً، بإعادة جدولة ترتيب الذهن أو تنظيفه بالضبط، وكأنني بذلك، قد أطلقت اضخم فصائل الفئران لتسحق الأشيف الكبير الذي كان في أعالي الراس، "ولم لا تجدد يا ماوردي الصور والأفكار والمعلومات القديمة بجديد السيدة، فقد أتعبتك الشياطين وملائكة الأنابيب؟"‏

- يا سيدة ثريا، أنا موافق، وجاهز لتوقيع عقد العمل فوراً.‏

- يا ليوم السعد الذي أنا فيه، قالتها بذهول، مضيفة: سيأتي اليوم الذي سأنصب لك فيه تمثالاً، في حديقة الهايدبارك، أي في المكان الذي كنت إلتقيتك فيه، فهل أنت متأكد من قرارك يا سيد ماوردي؟‏

- وهل لديك محام تستطيعين إستدعاءه الآن؟‏

- أجل، والناشر الانكليزي أيضاً.‏

تنهض السيدة نحو التلفون وهي في أبهى حالات السعادة.. لتستدعي المحامي الخاص بها، والناشر الانكليزي معاً، للإنضمام إلى السهرة معنا.‏

"ولم لا.. إذا كنت الفكرة تتعلق بالسلطة، امرأة تنهض من الرماد لتستعيد ثلاثين عاماً من الحكم والرقص والمجد الذي دفعنا ثمنه تحت شعارات ويافطات، ظهرت كلها لعنات في النهاية التي لم نر خطها بعد!"‏

"ولم لا تقول بأنها تحاول ختم حياتها بقنبلة من العيار الثقيل؟".

كديميس
10 Mar 2006, 12:13 AM
"لا تستعجل الأمور كثيراً يا ماوردي، قبل أن تصبح كاتب سيرة هذه الدعارة الجميلة، فيوم كنت أنت مراهقاً، وكانت هي على عرش الفن، كنت تمارس العادة السرية على صورها في المجلات والأفلام، جيل كامل كان يفعل ذلك، في حين كانت هي تنام في حضن وزير أو ثري تافه أو خنزير من خنازير الحكومات."‏

"أكانت تتوسل إليك الآن، لو لم يضربها الخراب بزلزال عنيف؟ أم هي بلوى جديدة، تصطف أمامك على ضفتي الطريق، وأنت كالأعمى فقد عصاه، تلك التي يطلق عليها الأكابر بالصولجان؟".‏

أفقت صباحاً لأجد على المنضدة الصغيرة في غرفة نوم الضيوف، نسخة من العقد موقعاً وجاهزاً مع كل ما يترتب عليه قانونياً، وربما كان ذلك بهدف معرفة ردود فعلي، فقد كان ذلك الصباح مثالياً، فبدل فنجان القهوة شربت الخادمة جورجيت ساخنة وبالحليب ومع كل ما في العالم من حقول السكر، وبعد أن قامت الأخيرة بتلخيصي وريقة وريقة، طرحت عليها سؤالاً غامضاً قد يثير بعض البلبة في نفس سيدتها:‏

"إن كانت هي الأخرى قد وقعت على هذه الأوراق أم لا؟"‏

فضحكت بخبث لم يفسد الخيال، فيما راحت يداها تفككان صخور جسدي تحت طائلة المساج في غرفة الساونا الملحقة بالحمام، قلت لها ذلك، لأنني أعرف أدوار الخادمات، فأغلبهن يعملن بمثابة مخبرات لسيداتهن في المنازل والقصور، والواحدة منهنّ رشوة رخيصة في أبسط الظروف تعقيداً.‏

كنت غارقاً بتأمل جسدها الصحراوي الذي تنتصب فيه تلك الخيمة السوداء من الوبر الفاحم، وسائلاً نفسي: ترى لمَ يهرب الرجالُ الأشاوس من ملوك وأمراء وأثرياء وموظفون كبار من فراش زوجاتهم إلى مخادع الخادمات بالسر؟‏

وقلت لأقنع النفس الأمارة بالسوء: الزوجات هنّ التفاح - رمز الخطيئة الأولى- والخادمات هن رائحة التفاح، لذلك يشبع الرجال من الأكل، ولا يشبعون من الرائحة، أليس هذا هو السر؟ ربما!‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:14 AM
لم تجب جورجيت، فقد أدخل البخار نفسه في مسام جسدها، لا ليثبت نظرية دورة الماء في الطبيعة، بل ليطارد تلك الرائحة التي نتورط وهماً بصيدها، فيما لا يمسك الفخ أحداً بمخالبه غيرنا.‏

عند حوالي الظهيرة.. كانت السيدة ثريا قد عادت من البنك بأوراقها الخاصة، حياة الثلاثين عاماً من الرقص والترقيص، الأبهة والبكاء، الأضواء والألم الذي لم تستطع العدسات إلتقاطه، كانت مرحة إلى حدود إنك تستطيع مسك سعادتها، كما لو كنت قيثاراً ورث عن الأرض كل المعزوفات، وعندما وقعت عيناي على الملفات، قلت لنفسي: كم سأحتاج من الأيام، لتنسيق وترتيب هذه الأوراق، لأبدأ كتابتها بفن وأمانة، دون أن أخون شرف هذه الراقصة التي خدمت الأمة، أو أقع في مطب خاطىء لتشويه السرة الذاتية الجليلة لهذه السيدة؟!!‏

لم أكن متشوقاً لقراءة الفضائح، بقدر ما كنت أسعى لفهم ما سيرشح من ترسبات عن أبطال تلك القصص، فربما تلك هي متعتي الوحيدة التي قد تتيحها لي تلك الأوراق والكاسيتات الصوتية التي ستشحن معي إلى الدانمارك، فأنا لا أستسلم للفضائح بشكل عرضي، بل أنخرط في مناخها لأستخلص عبارة أو عبرة عن العش القومي الذي نسكن فيه.‏

- أراك اليوم مشرقاً يا ماوردي؟ قالتها ثريا، جملة لتصيد صحة الوضع من الصفقة، وكانت تبتسم.‏

- ولم لا، وكل الشرق هنا أيتها السيدة؟ بل ولو لم يكن هنا لقمنا بإستدعائه فوراً، أليس كذلك يا عزيزتي سونيتا؟‏

- أنت شخص من الذين يبنون أجمل أفكارهم من الأنقاض، وأنا أحسدك على ذلك يا صديقنا الماوردي.‏

- ومن الذي يعيدون إنتاج البكتيريا، كي تكون صالحة للإستعمال في عصرنا.‏

فنظرت السيدة إلى جورجيت، وغمزتها بطرف عينها لتنسحب خلفها إلى غرفتها الخاصة، فأدركت بأنها تريد الإستماع إلى التقرير الكامل عن أحوالي، فماذا ستقول لها مديرة المنزل؟ لا أدري.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:15 AM
إزاء هذا الأسلوب التجسسي، تقع مصائر ملايين الناس بين أيدي المخبرين، ولكي أقطع عن نفسي التفكير بما ستقوله جورجيت لسيدتها، إعتبرت بأن تقريرها سيكون في صالحي، عدا نقطة واحدة، قد يكون تفسيرها لدى السيدة مختلفاً بالنسبة لي، وهي ذهاب الخادمة معي إلى الدانمارك، كمساعدة لي طيلة فترة صياغة المذكرات وإعدادها وهو ما نص عليه العقد كما أردت، ولا أعتقد بأن الشرط سيكون تعجيزياً، خاصة وإنني اكتشفت إرتياب ثريا، من تعلق سونيتا الشديد بجورجيت، وهذه قد تكون فرصة مواتية لإبعاد الاثنتين عن بعضهما لفترة من الزمن، أو للقضاء على هذا الحب، إذا ما كانت الرغبة جاهزة لدى السيدة.‏

فقلت لسونيتا وأنا غائم بعض الشيء:‏

- ما مدى تقديرك للمشروع بشكل عام؟‏

فأجابت وهي تقضم شفتها السفلى بأسنانها:‏

- لا يمكن أن نسأل السمكة لماذا إبتلعت الطعم بعد خروجها من الماء؟‏

كان الجواب صاعقاً بالنسبة لي، فهو أشبه بتحذير مريب أو هكذا، أو لنقل بأنه تحذير مبطن من مغبة الموافقة على المشروع، لذلك هرعت إلى البار الواقع في زاوية الصالون، ملتقطاً أول زجاجة من خموره لأدلق ربعها في جوفي، ثم لأصرخ بعدها:‏

- سيدة ثريا، هل كل شىء جاهز؟‏

- فخرجت هي وجورجيت من الغرفة والذهول بادٍ على وجهيهما.‏

- هل حدث شىء يا سيد ماوردي؟ سألت وكأنها تعتذر عن شيء سيء قد يكون وقع فجأة.‏

- كلا، ولكن على أن أغادر، هل كل الأوراق والأشرطة جاهزة؟‏

فسألتني وهي تتطلع في وجه سونيتا بشك واستغراب:‏

- أجل، كل شىء على ما يرام، بما في ذلك جورجيت التي قررت الذهاب معك للمساعدة، ولكن قل لي بحق الشيطان، ماالذي حدث بالضبط، لتفعل هذا فجأة؟‏

"ولم ذهاب جورجيت، هل هي طاولة ليفرش السيد الماوردي عليها أوراقه؟ أنت أحوج إليها منه، أليس كذلك يا سيدة ثريا؟"‏

- كلا، لأن عمل السيد سيكون شاقاً لو قام بتفريغ أشرطة التسجيل وحده، ثم أنني أستطيع الإستغناء عنها حالياً بسبب ذهابي إلى هونغ كونغ.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:15 AM
لم أشعر برغبة في الرد، فقد حملت حقيبتي اليدوية بيد، وصندوق الأوراق باليد الأخرى، وأنا أرتج سخطاً، وتوجهت نحو الباب فيما إلتقطت السيدة مفاتيح السيارة وخلفها مديرة المنزل وهي تحمل حقيبة أشرطة التسجيل، بالإضافة إلى حقيبة ثيابها، وكان الطريق نحو الفندق، حيث تمت من هناك إجراءات الحجز، لننتقل بعدها من مطار هيثرو إلى كوبنهاكن.‏

قالت السيدة وهي تودعنا:‏

"سنبقى على إتصال دائم، ولابد لي أن أعرف ما حدث لك يا ماوردي مع سونيتا! إسهري على راحته يا جورجيت"‏

كنت إلى جانب النافذة وأنا أقذف بعيوني وذهني في الآفاق البعيدة، فيما كتل الدخان تحلق فوق رأسي، وفجأة تطلعت إلى جورجيت قائلاً لها: من حسن الحظ أن التدخين مسموح في رحلات الخطوط الجوية الهولندية، ولو لم يكن كذلك، لكنت إقترحت عليك قطع الطريق مشياً على الأقدام من لندن إلى كوبنهاكن، فإبتسمت جورجيت وهي تضع رأسها على كتفي.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:16 AM
(35)‏

بدأت تحولات الطقس واضحة في منتصف سيبتمبر، فنحن على أبواب الخريف، الغيوم والأمطار الخفيفة والقليل من البرد، فروح الشتاء، تكاد تسكن كل الفصول في الدانمارك، وهو ما يدفعني في بعض الأحايين، للتفكير بلصق أو تثبيت شمس صناعية على السموات الأسكندنافية، بواسطة مسامير عملاقة، لكن، وكما تبدو الوقائع، فحدوث ذلك يبقى هو الآخر صعباً، بفعل ما تنتجه الأفواه من أبخرة البيرة، والتي ستحجب الشمس التي نتخيل لصقها هنا.‏

إذن، لا فائدة من عمل ذلك، ففي كل الأحوال لا شمس لدينا، وعلى المرء أن يصنع شمسه الخاصة، لأهمية الأمر، فذلك أفضل لمواجهة الإنقلابات الدائمة في المناخ، لأن الطقس، هو من يبني السلوك البشري في هذه البلاد، والدانماركيون أمزجة لا تحتاج إلى تلسكوب لقراءتها.‏

كنت أحدث جورجيت عن المناخ، فيما كانت عيونها غارقة باستطلاع جمال الريف الدانماركي الرائع، من خلال نافذة السيارة التي تقلنا لإستلام المنزل الريفي الذي قررت الإنتقال إليه، بعد الطلاق الذي جرى بيني وبين عوالم المدينة، والذي لا يشبه في كل الأحوال أوراق الطلاق التي يوقع عليها البعض من الأجانب، للإنفصال الصوري عن زوجاتهم حيلة، بهدف كسب بعض الكرونات وهي ظاهرة بلغت أوجها في صفوف الأجانب، كما تقول بعض الإحصاءات، فالمرء الذي يوافق على الإنفصال الصوري، وإن بالتزوير المتفق عليه بين الزوجين، يصبح أمراً حقيقياً بمرور الوقت، كما هو ضربة موجعة للتقاليد الأسروية والدينية في نهاية المطاف.‏

لقد كنت أفكر بالإنتقال إلى الريف طيلة الشهور الثلاثة الماضية، أي بعد الإعتداء الأول على منزلي، ثم حالة الإغتصاب التي تعرضت لها مورغ، وما أعقبه من إعتداءات، كان آخرها ضرب "كاسبر" والرضوض التي تلقتها جمجمة "ليز" التي خرجت قبل إسبوع من المستشفى بفعل تلك الجريمة الوقحة.‏

كماإن السكن في الريف، كان حلماً قديماً يراودني خاصة بالنسبة للكتابة، وها هو مشروع السيرة الذاتية لثريا وقدوم جورجيت إلى هنا، يضيف سببباً أو دافعاً جديداً للإنتقال إلى الريف، من أجل التمتع بهدوء أفضل، ونسيان عالم المدن، هذا بالإضافة إلى أن حلم الإستمرار بإصدار المجلة، قد تهشم نهائياً جراء الضغوطات على المحررين والإعتداءات عليهم، وعلى مكتب المجلة الذي تعرض إلى حادثة إشعال النيران في مقتنياته أثناء غيابي في لندن.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:17 AM
إذن.. فالهزيمة بكل مظاهرها قد وقعت، وبدلاً من أن يعاقب الجناة المجهولون، صار عليّ الاختفاء والتواري عن الأنظار التي لم تعد تتحمل رؤية فاضح سفالاتها في هذه البلاد، فهؤلاء الأوباش لا يتوانون عن إعلان الإنتقام الذي طالما هددوا وتحدثوا عنه ضد كل من يقوم بتضييق الخناق عليهم، من خلال كشف مخالفاتهم ضد القانون، ويبدو ان المكافأة، أصبحت في الإتجاه المعاكس، تحويل الإنتصارات الصغيرة التي حققتها المجلة ذات يوم، إلى رعب يلاحق محرريها.‏

"وما رأي المديرة الجديدة بالبيت الريفي، أليس رائعاً؟" سألت جورجيت.‏

"ها أنت قلت ذلك، وأيان يحل الماوردي فالمكان رائع" أجابت، مسددةً نحوي الجملة الجميلة، وهي تتفحصني كدريئة مستسلمة.‏

"الله الله.. ها أنت تمنحين الماء للصفصافة اليابسة بسخاء، أليس في ذلك مبالغة يا امرأة؟".‏

هتفت بها وأنا أرتب بعض الأثاث في الصالة الصغيرة، فيما كانت هي تفرش الأغطية على السرير، وربما كانت تفرش الليل هناك أيضاً، فالنساء يتصرفن على غرار طبيعة النور، ينتصبن في مكان، ويتسربن إلى كل الأمكنة التي تستطيع استقبال الضوء الأحمر الحار المدمى بالتأوهات، لذلك، فمن المخاطر الجدية على المرء، أن يقوم بحبس ذلك النور في دورق من خشب أو ما يشابهه.‏

في السابعة مساء.. رن جرس الباب، فكان في الخارج امرأة وسيمة في الخمسينات تحمل باقة من الزهور، فيما وقف إلى جوراها رجل بدين أحمر الوجه، ويبدو أنه في الستينات من العمر، لم نكن نتوقع مجىء أحد، كما لا يعرف أحد عنوان السكن الجديد إلا الدكتور الوراق.. والذي لم أمنحه ترخيصاً بإعطاء عنواني ورقم الهاتف لكائن من كان، عدا مورغ التي حاولت الإتصال بها مرات عديدة، دون أن أبلغ مكانها، ولا أن أكتشف سبباً واضحاً لغيابها بعد وصولي من لندن.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:18 AM
عندما فتحت الباب، قدمت لي السيدة باقة الزهور، قائلة:‏

"نحن جيرانك ونرحب بكما في هذه القرية، فيما صافحني الرجل مقدماً لنا الدعوة لتناول القهوة في منزلهم عند تمام الساعة الثامنة، فشكرت الاثنين على البادرة الطيبة قائلاً:‏

"سنفعل ذلك بالضبط" فحياني الاثنان عائدين إلى منزلهما الذي يقع إلى شمال حديقة بيتنا.‏

جلست على الأريكة متأملاً الطبيعة من خلال نافذة الصالون، فيما دخلت جورجيت للحمام للإغتسال، كان الزمن توقف قليلاً، هكذا أحسست دون أن أجد تفسيراً منطقياً لذلك، فليس المنطق طبقة واحدة لتبرير الأشياء، فهو الآخر مناطق متجزئة، منها ماهو منخفض، ومنها ما هو عال بتوتراته، ومنها ما ينتمي إلى المناطق المهشمة التي لا ينطبق عليها منطق في بعض الأحيان، فطالما حاولت أن يكون ذهني كبركة ماء راكدة ومعزولة عن أي مورد، ولم أستطع نيل تلك الفرصة أبداً، وحين يبلغ بي التعب المدى الأقصى، أذهب للكتابة بهدف تكفيك تلك المخلوقات في حجرات الذهن، وطردها إلى أسطحة النص.‏

ها هو الريف الذي طالما بث السحر في نفسك، فتوزع على نشواته بالتدريج، لئلا يتجمد تموجه في أعماقك وتفقد طغيان جماله عليك، فالمخلوق البشري بستان أيضاً، ولكن لمجرد أن يتسرب إليه الانهاك يتحول إلى جدارية سميكة وسيئة، لذلك ترانا نلصق الصمت بالطبيعة، ونمنح النطق وهماً لذواتنا فقط، وعندما نتورط بالكلام، تخرّ الأحجار من أعماقنا بالتتابع، فكل جملة لدينا مسطبة يرقد فوقها جثمان، ولكننا نخدع بعضنا ببلاغات لم نفهم منها إلا الموت، تذكرت هذا فجأة، لأنني في حالة تجميع العوالم المبعثرة في أعماقي، تلك العوالم التي فشلت بالوصول إليها، ربما لأنها أراض مأهولة بكائنات ترفض إتخاذ خطوة جدية للقاء مخلوقاتي المنظورة، هذي التي تجلس معي وتفكر عني وتكتب لي وتنام لتحلم بإختراق العالم الداخلي الذي مازال مبهماً وشائكاً.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:18 AM
- هل أزف موعد زيارتنا للجيران يا سيد ماوردي؟‏

سألت جورجيت وهي خارجة عليّ في روب الحمام، وكانت تفرك شعرها بالمنشفة.‏

- بقي نصف ساعة على ذلك، فهل ستكون القشطة السمراء جاهزة؟‏

- هل ثمة قشطة سمراء يا ماوردي؟‏

- ودون تأجيل أو تأمل أو تفكير صرخت: أجل، إنها القشطة الجورجيتية، يا سبحان الله! هتفت دون وعي مني، متذكراً خبز الصاج الشفاف، عندما تدهنه بالزبدة ساخنا! أليست هذه هي جورجيت؟ نعم، ولكن بفارق واحدة، هو أن خبز الصاج يفقد حرارته ويجف سريعاً، فيما جورجيت ذاتية الحرارة، تجفف ولا تجف!!‏

فقالت وهي تراقبني عن قرب:‏

- وماذا عن صمود الرجال يا ماوردي؟‏

- أفظع الهزائم أمام الجمال! وليس من عادتي أن أفعل ذلك حتى أمام التماثيل الجميلة.‏

فأدركت اللعينة المعنى، شابكة ذراعي، ومتجهة نحو الباب للخروج بإتجاه جارنا، وفي الطريق الذي هو أقل من عشرين ياردة بين المنزلين، همست قائلة:‏

"أنا أحس بالدبيب الذي يسري فيكم، فكيف بالذي يتهدم أمامي كالجبل، قطعة قطعة؟!!".‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:19 AM
خلنا منزل البحار، وكانت جملة جورجيت العاصفة، ما تزال تشيل وتحط أحجار الجبل المبعثرة، إلا أن الكلب أعادني إلى اليقظة من جديد، فتحدثنا عن المناخ وروح الريف والكلب "بوب" والمزرعة والمجلة وزريبة الحيوانات والحبّ "الكيوسك" الوحيد في القرية- يعني بالعربية الدكان- وبعض الموضوعات المتفرقة، فشعرنا بإلفة حادة تجرفني نحو الشخصين: سورن وزوجته فبيكا.‏

(36)‏

كان لا بد من وضع خطة للعمل في هذا الصباح، هكذا وجدتني أنهض من السرير مفكراً بالتخطيط لشيئين، الأول يتعلق بتحويل المجلة إلى نشرة إسبوعية تكمل عملنا الماضي، ولا تمنح الهداريس حتى فرصة لتخيل الإنتصار. والشىء الأخر البدء بالإستماع إلى أشرطة التسجيل وتفريغها من المواد، ليتم دمجها مع الموضوعات التي تتضمنها الأوراق، بهدف تنسيق السيرة الذاتية للراقصة ثريا، كما جرى الإتفاق على ذلك في عاصمة الإنكليز.‏

وللبهجة.. فقد سبقتني جورجيت لتنفيذ البند الثاني، عندما وجدتها في غرفة المكتب، وهي تقوم بتفريغ مواد الشريط رقم "1" بواسطة آلة التسجيل، فهذه المرأة كما يبدو، تحاول أن تجعل من النشاط فضيلة لدى، فقد نهضت مبكرة، لتعمل القهوة وتنجز الإفطار وتنقل المذكرات على الورق، وهو شيء طارىء على حياتي المليئة بالكسل والعبث.‏

"ربما هي أوامر سيدتها ثريا، تجهيز المواد ووضعها تحت تصرفي بسرعة، منعاً لهدر الزمن، فالوقت من كبرى مشاكل الراقصات، كما يدرك ذلك خبراء الفن"‏

وعلى الرغم من أنني سررت بما كانت تفعله جورجيت، إلا مشاعر الضيق سرعان ما إنتابتني، فقد كنت أريد الإستماع المباشر إلى الأخبار والمعلومات التي سجلتها ثريا بصوتها على تلك الأشرطة أولاً، وثانياً من أجل أن لا أقوم باعادة شيء منها، للتنقيب عن معلومة قد اشك بصحتها، ولكن لاباس من إستمرار جورجيت بنقل ذلك، لأنني سأعمل على قراءة المعلومات المنقولة للأوراق، بمرافقة سماع تلك الأشرطة، والتأكيد من تطابق المعلومات، ولا يشكل عملي هذا ظناً سيئاً بجورجيت، بقدر ما هو الحرص على عملية التوثيق، فليس من شأني، ولا من صلاحياتي اضافة جملة صغيرة من رأسي لمذاكرات خادمة الأمة.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:20 AM
قالت جورجيت:‏

- هل ستسمح لي بتناول قهوة الصباح معك أيها السيد؟‏

- ولم لا أيتها السكرتيرة، دعينا نشرب القهوة ثم نرمي الفناجين إلى الحديقة، ليس الفناجين، بل الأوراق وجهاز التسجيل والأقلام والراقصة ثريا كذلك.‏

- وهل كنت تفعل ذلك دائماً؟‏

- فقط في المطاعم والمقاهي التي تكون على متن البحر.‏

- زهل سبق لك وأن قذفت بامرأة إلى هناك أيضاً؟‏

- كلا، كان العكس هو الذي حدث، فعندما تكون هناك امرأة جميلة، أقذف بجسدي فقط، هل يساورك شعور بالخوف من شىء؟‏

- أنا، لم تعد لديّ مخاوف من شيء، فقد علمتني أمي المصرية كيف يمكن تجاوز المطبات، وأخذت عن أبي اليوناني الجرأة في مواجهة وتحدي المآزق، فقد كان صياداً بارعاً وشجاعاً.‏

- وثريا.. وماذا تعلمت عنها؟‏

- إسمع، سأقول لك شيئاً خاصاً علمتني إياه تلك المرآة: أن أقوم باحترام لذتي العميقة، وأن لاأعيش أو أعتاش من جسدي. قبل حلول الظهيرة.. أنهت جورجيت الشريط الثاني، فيما أنا لم أنجز شيئاً مهماً على الإطلاق، عدا التدخين وتناول القهوة ومطالعة الأوراق وتصفح بعض الجرائد والإعلانات والقيام بجولة تفقدية للحديقة، ربما لأن الاعتياد على الأمكنة الجديدة، يتطلب مني وقتاً طويلاً على الدوام، ولا أعرف، إن كان الآخرون يعانون ذلك مثلي أم لا؟‏

لذلك دعوت جورجيت للقيام بجولة في القرية، والتبضع من الكيوسك الوحيد فيها، وهكذا فعلنا ذلك في امتداد ساعتين، عدنا بعدها للمنزل، لتناول الطعام وممارسة القيلولة القصيرة، التي لم أتنازل عنها حتى وإن نمت خلالها وقوفاً، لمدة نصف أو ربع ساعة من الزمن.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:21 AM
خلال إسبوع من الإقامة الجديدة، ما أمسكت أصابعي قلماً، كأن الرغبة كانت متوفاة في الزمن الذي كان يجري داخلي، هذه المشاعر لا تنتابني بشكل مفاجىء، بل هي فصل من فصول الكتابة التي تسكنني، وهذا الوضع نفسه، ينطبق على كتابة وتبادل الرسائل بيني وبين الأصداقاء، فكل كلمة، كأنها لا تخرج من تلك الأرض، إلا في الموسم المقرر لها، وإلا فهي نتاج تافه، ولا قيمة لتدوينها.‏

- أحييك يا جورجيت.. وأنت تعملين بهذه الطريقة العجائبية في تفريغ شحنات السيدة ثريا!‏

قلت لها ذلك، ونحن نتجاوز منتصف الليل، فأغلقت اللعينة فم جهاز التسجيل، وتناولت قنينة النبيذ لتفتح آفاق الليل.‏

- إترك محلول الذهب والفضة "البيرة" وافتح لنا شريان الليل الأحمر يا ماوردي، مناولة أياي قنينة النبيذ لنزع الغطاء عنها.‏

"أليست النساء أدوات الحلم اللائي نحفر بهن الليل يا ماوردي؟"‏

"كلا، أنت غلطان يا سيد، فالنساء هن حفرة الحلم التي لا قرار لنا فيهن".‏

"ولم الحفرة، إنها كلمة لا تناسب مقام الحلم؟"‏

"ولكن النساء مدافن الرجال"‏

"ألا تستطيع أن تهذب أقوالك؟ وما لنا ومال الدفن في هذه الليلة!"‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:21 AM
أوقفني غناء جورجيت المثير في الحمام، فاقتربت لإستراق السمع والنظر معاً، وهناك رأيت الغناء العظيم كاملاً، حيث العري يتدفق من جورجيت والماء يتوضأ فيها. فيما هي غائبة تحت الرذاذ .‏

الساخن، وكأنها تغني ذلك النشيد الأبدي، وعندما رأتني منتصباً عند الباب، أغرقت جسدها تحت الماء سريعاً، لتسألني إن كان صوتها هو الذي سحبني إلى هنا أم شىء آخر؟‏

فقلت لها:‏

- أحب الغناء العاري يا سيدتي!‏

حينها لفت المؤزر على جسمها دون أن ترتديه، ودخلت غرفة النوم لإرتداء ثيابها، وكنت لا أزال اسمع رنين صوتها وهي في الداخل. ويبدو أن الغناء مثل الأشجار التي تختار مواطنها في الطبيعة، ولو كان غير ذلك، لتعفنت في دواخلنا الأصوات من كثرة الخلل وكم من المرات التي يضطر فيها المرء لتنظيف ذاكرته من الغناء الردىء، كي لا تردم منطقة الذائفة بالوحل، هذا لا ينطبق على الغناء وحده، بل على أشياء العالم المختلطة المشابكة.‏

لقد أثارت في داخلي السيرة الذاتية لراقصة مثل ثريا- وهي واحدة من مئات- صورةً مصغرة عن الأكواريوم الذي تعيش فيه الأمة، فهي ليست صورة جديدة تعكس الفساد، بقدر ما هي قطعة من تاريخ داعر كانت الناس تتبناه بشرف وكرامة ونضالات وشهداء وسجون وتأليف سياسي وأدبي وفني من الدرجة الأولى، فيما كان الأبطال الكبار يغوصون في مغاطس الجنس والحب المبتذل مستخدمين السلطة بتطرف، كوسيلة للوصول إلى عالم الجنس والثروة والقمع.‏

في أوروبا مثلاً.. عندما يقع الوزير أو المسؤول في ورطة من هذا النوع، فإنه سرعان ما يعتذر أمام الصحافة ويقرر الإنسحاب من منصبه والحياة العامة، فيما يتم عكس ذلك تماماً، لا الصحافة تجرؤ، ولا المواطن يجرؤ، ولا الدولة تجرؤ على فعل شيء حتى، لأن ذلك إلى حد التعبير الرسمي "يضر" بمصلحة وسمعة البلد!! فيتم مسح الجميع بالأرض، ويبقى باشاً السلطة في قلعة الرذيلة محصناً وإلى ما لانهاية؟!!‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:22 AM
ليست هذه هي آلامك وحدك يا ماوردي، ولكن قل لي: هل هو ذنب ثريا وأمثالها من راقصات ومطربات؟‏

إن أغلب هؤلاء يتساقطون كالذباب تحت أقدام الفنانات، باعتبارهن من الشخصيات العامة التي تسيل اللعاب، وهذه المزاحمة في سوق السلطة، جعلت من إنتشار البترونات والسماسرة والقوادين ظاهرة في المدن الكبرى، فمن لديه صداقة فنانة من هذا الطراز أو ذاك يسجل إضافة لإمتيازاته، وتفوقاً ومدعاة للمباهاة مع الأقران من ذات الصنف.‏

"وهل تعتقد بأنك اكشتفت قارة جديدة، لإضافتها إلى أرضنا؟ إخرس ياماوردي، فلو كان الطريق إلى عالم الراقصات معبداً، لكنت قد حملت شعلة الأولمبياد ووصلت إلى هناك منذ ألف قرن!!"‏

عندها شعرت بالخيبة من صفاقة التحليل بعرض الجانب السري من الصورة، فقدمت الإعتذار لنفسي عن محاولاتي غير المتعمدة لإفساد السهرة، وقلت لها في الوقت نفسه:"معك حق أيتها النفس، فكل الأرض رقص وترقيص، وربما دون ذلك، تحس الأرض بالبلادة، فتخرج علينا بزلزال ليشق عنها ثيابها البالية، لا وقت للنظريات الآن، لأن جورجيت تزحف بزلزالها والأرض تبدل ثيابها من شدة الهزات الخافتة.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:23 AM
(37)‏

بعد شهر من الحياة الريفية والعمل الشاق في قراءة وإستماع أشرطة وأوراق ثريا، كان رغبة جورجيت بزيارة العاصمة قد تضخمت وأصبحت في أوجها، التجوال في الشوارع وشراء الثياب ومشاهدة السينما، على الرغم من أنني لا أدخل داراً لسينما إلا لرؤية الأفلام الهامة، وذلك لكثرة، القنوات التلفزيونية التي يفوق عددها الستين قناة، سواء تلك التي تأتي عبر الكابل العام أو من بث الأقمار الصناعية بواسطة الستلايت أو الإرسال الخاص، فهذا الجهاز أصبح سرطاناً ملوناً، يستهلك العين والوقت وينشر الدماغ، مسيطراً على المرء، وشاداً الخناق عليه بشكل خرافي هائل، لذلك يعتبره الكثيرون منا،خطراً على تربية الأبناء، واعتداء على التقاليد، لأن هذا الجهاز لا يفرز غير أخلاق شرائح الألكترون وشركات الإعلان: أفلام الإباحية الجنسية والشذوذ الامتناهي والعنف وبناء العقل البشري بناءً سينمائياً بشعاً!‏

خيل لي وأنا أدفع ثمن القهوة في الكافتيرا، أن شخصاً ما، قد اقترب من الطاولة التي كنا نجلس عليها، ليناول جورجيت وريقة صغيرة، بعدها ليختفي بسرعة، ولكنني لم استحب لمثل تلك الشكوك كعادتي، فقد نهضنا للتجوال، وبعد ذلك لتناول الغداء في أحد المطاعم الصغيرة، ثم أقفلنا عائدين إلى الريف بعد قرابة عشر ساعات من ضجيج العاصمة.‏

"هل تعرف جورجيت أحداً في العاصمة كوبنهاكن؟" قلت ذلك لأهنىء نفسي ببطلان السؤال وعدم شرعيته.‏

"وإن حدث عكس ذلك يا ماوردي، أليس الأفضل قطع الطريق على ما سينتابك من تلك المخاوف التي تحيط بك؟ ألم تقل بأنني لا أشك بأحد، كي لا تستبق الأحداث وتفسر العالم غلطاً؟"‏

كانت جورجيت مستلقية على الصوفا في الصالون، ويبدو أن التعب قد أخذ بها قليلاً من نزهة العاصمة، فتركتها هناك، لأقوم بالتنقيب في أوراق ثريا وقراءة ما كتبته جورجيت على الورق بعد تفريغ القسم الكبير من الأشرطة، فلاحظت أن فروقات قد وقعت بين ما كانت قد قرأته، وما بين ما كتبته جورجيت، فأسرعت إلى التفتيش عن مصدر هذا الخطأ، من خلال ترقيم الأشرطة، فوجدت عدم الإنتظام في تفريغ المواد من الأشرطة وفقاً للتسلسل، وعندما حاولت التغلب على المشكلة، وحلها بنفسي، وجدت صعوبة في العثور على بعض الأشرطة!‏

"ها قد وضعت في الحفرة يا ماوردي! فثمة أشرطة غير موجودة، هل ضاعت أم ماذا؟".‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:26 AM
"الشك عيب، وماعليك إلا سؤال جورجيت يا ماوردي، فقد تكون وضعتها في مكان غير هذا الذي فتشت عنها فيه".‏

تضاعدت النيران إلى أعالي الدماغ، وتوسعت رقعة الحريق لتشمل عواطفي إزاء المرأة، فإذا كانت المؤامرات قد بدأت في لندن، فهل عليها أن تستمر إلى هنا في الدانمارك؟‏

نهضت جورجيت قائلة:‏

- ماذا ترغب الآن بعمله يا سيد ماوردي؟‏

- هل ثمة أشرطة تحتفظين بها في مكان ما؟‏

- لا، أبداً، هنا كل ما يلزم، لماذا تطرح هذا السؤال؟‏

- لأن ثمة نقصاً في تسلسل الأشرطة!‏

- كلا، لا أكاد أن أصدق، هل فتشت جيداً؟‏

غادرت غرفة المكتب.. فيما ظلت جورجيت في داخله، تبحث عن الأشرطة المفقودة بنفسها، تناولت كأساً من المارتيني الممزوج بالليمون وأشعلت غيلوني وأنا أستمع لعزف الكلب "بوب" الذي يبدو أنه قد ألفنا أكثر من الجيران، فيما سحابة كثيفة من طيور الدخان، كانت تحلق فوق رأسي، حاملة معها تلك الأفكار السوداء التي بدأت تتكاثف وتمطر في دواخلي، لتبلل كل شيء بالقطران، كيف حدث هذا؟ لا أدري، فحقيبة الأشرطة كانت بعهدة جورجيت منذ مغادرة لندن، وحتى الآن، ولكن الأمر الذي كان مقلقاً، هو لم لم تعلن هي عن النقص في بعض الأشرطة؟ هل هي لم تنتبه لذلك حقاً؟ أم أنها حاولت تلافي مشكلة عويصة من هذا النوع؟‏

وضعت أسطوانة المغنية "ويتني هيوستن" ليبعدني صوتها الصافي عن غابة الشوك التي بدأت تضغط على أعصابي بشكل سيء، هكذا فعلت، وأنا أقلب صورة سونيتا التي لم تثبت في ذاكرتي، أرسمها، لأستعيد ملامحها ولغة عينيها والخطوط العامة لحركاتها خلال وجودي في منزل ثريا.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:27 AM
"أنت تحاول ابتزازي يا ماوردي!" هذا أول ما ستقوله لك ثريا، بعدما تخبرها عن ضياع بعض الأشرطة.‏

"ولم لا يكون تسلسل أرقام الأشرطة غلطاً؟ قد تخبرك ثريا بصحة هذه الفكرة، فلا يعود من ورطة وتوريط هناك.‏

"حاول أن تشك بسونيتا ياماوردي، فقد تكون هي من فعل ذلك، فقد استطاعت تلك الفرنسية، وبموجب عملها وتنقلاتها المكوكية مابين القاهرة وباريس وبيروت ولندن وبغداد، كمراسلة صحفية، أن تبني الكثير من العلاقات المهمة مع الكثير من رجال السياسة والأعمال والصحافة والمال والجيش والحشيش والبودرا"‏

"كلا يا ماوردي، لم لا تبحث في العلاقة ما بين سونيتا وجورجيت؟ ألم تقل بأنك لم تستنظف تلك العلاقة غير الطبيعية؟! سل ثريا عن ذلك، فقد تكشف لك المزيد من الفضائح"‏

- ثريا.. نحن في مايشبه الورطة، لقد وجدنا بعض النقص في تسلسل الأشرطة، هل ثمة أمل لنا بالعثور عليها لديك؟‏

- ماذا؟! يا للمصيبة.. هل تتكلم بجد يا ماوردي؟‏

- أرجوك يا سيدة ثريا.. خذي الأمر بشيء من الهدوء، فقد نجد الطريق لإستعادتها سوية.‏

- مستحيل، وأين في جهنم الحمرا؟‏

- قد يكون مفيداً الإستفسار من سونيتا، فقد يكون لديها فكرة عن ذلك؟‏

- سونيتا! وأين أجدها هذه السونيتا؟ لقد رحلت إلى باريس بعد مغادرتكما بيوم، إنتظر مني إتصالاً، فقد أتدبر الأمر.‏

ظلت كلمات ثريا عن رحيل سونيتا ترن في رأسي، وهو ما دفعني لإطلاق كلب الشك، ليتبع أثرها، إلا أنني منحت سفرها في الوقت نفسه، تبريراً منطقياً يتعلق بفراق جورجيت عنها، وهو ما دفع بها لمغادرة المنزل، للبحث عن علاقة مابديلة، أو ما شابه ذلك.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:28 AM
فالنساء اللاتي من أمثال سونيتا، لا يستطعن تقطيع الوقت بأسنانهن!!‏

"ولم لا تفكر بطريقة أخرى: سونيتا ذهبت بالأشرطة من أجل أن تقبض الثمن؟!"‏

"سوف لن يصدقها أولئك الرجال، فاستنساخ الأشرطة عمل يتم بسرعة البرق هذه الأيام، ولابد أن تكون ثريا قد استعدت لمثل هذه الحالات بالتأكيد، لأن الأشرطة حياتها"‏

"وماأدراك أنها فعلت ذلك، فلو كانت تحتفظ بنسخ أخرى لما قامت بسحب الأشرطة من البنك؟".‏

....‏

كانت الخطوات سريعة لإنجاز جريدة الجيب، كل شيء يسير بوتيرة عالية، السيرة الذاتية للراقصة ثريا، والسيرة الذاتية للهداريس في الدانمارك، ولا فرق بين عالم أولئك، وعالم هؤلاء، فالعمل مع هكذا فضائح ليس شاقاً، بقدر ما هو منعش مع التكنولوجيا الحديثة: عندما يكون بين يديك الكومبيوتر والطابعة وماكنة الإستنساخ في المنزل، المهم وجود الرغبة: ليس من أجل الفضح وحسب، بل من أجل الدعوة لتصحيح المسارات، فهداريس الباشوات من أعيان السلطة ومرتزقتها، وبال هناك! وهداريس المهجر من نصابين وأنذال ومدعين ومزورين ولصوص كارثة هنا، لأنهم يحاولون أن يصنعوا لأقدامهم أحجذية من الذهب!‏

أولئك لهم رقصهم الخاص على الجثث، وهؤلاء لهم رقص سيجعل منا جثثاً تحت أقدام العنصرين، وهؤلاء يدركون بأن أظافرهم، إنما تحفر قبراً جماعياً، يستوعب اللاجئين والمقيمين من الأجانب وحاملي الجنسية، فلا قيمة عند الهداريس سوى نزعة الإنتفاخ غير الطبيعي، وبالسرعة التي تجعل من لحظة الإنفجار، ثم التلاشي عن الخريطة تماماً.‏

أصبحت جورجيت متحفظة مني بعض الشيء، تواصل النهار بالليل، عملاً للإنتهاء من تفريغ الأشرطة التي تبلغ العشرين شريطاً بعد المائة، حيث لم يبق منها سوى أشرطة بعدد الأصابع، لذلك أحسست بضرورة تفريغها من شحنات خوفها الداخلي الذي تعيشه فدعوتها لقضاء السهرة في مطعم ما في العاصمة، إلا أن رغبتي تلك، سرعان ما أصطدمت بالرفض الذي عبرت عنه جورجيت قائلة:‏

- أهي سهرة من أجل التحقيق بشأن ضياع تلك الأشرطة، أم ماذا؟‏

- كلا يا سيدتي، لا من أجل التحقيق ولا من أجل الأشرطة، فقد تم تلافي النقص، وانتهى الموضوع قبل أسابيع.‏

- وكيف حدث ذلك؟ قالتها وكأن صدمة كهربائية صعقتها فجأة.‏

- بسهولة.‏

- وهل استطاعت السيدة ثريا الوصول إلى مكان سونيتا؟ سألت بتعجب وذهول.‏

- لاأعرف، ولكن ثريا عوضتنا عن ذلك بالمعلومات اللازمة لتلافي الثغرة في سيرتها الذاتية.‏

قلت لها ذلك، وأنا أقرأ ما كان يظهر على وجهها من كتابات سريعة، كتلك التي تمنحنا إياها إعلانات النيون الضوئية، فيما نهضت جورجيت من مقعدها، وهي تعلن إستعدادها لتلبية الدعوة لتناول العشاء في المدينة، وبشكل مفاجىء، أثار الريبة في نفسي بشكل ملفت للنظر.‏

- سنكمل حديثنا هناك يا ماوردي.‏

- أجل، ولم لا؟ فالكلام جيمل على رنين الكاسات، أليس صحيحاً يا عزيزتي جورجيت؟‏

سألتها وأنا أهيء نفسي لتقمص دور السكران الذي سيفضي بما في داخله عن كيفية العثور على الأشرطة المسروقة!! إبتدعت هذه الفكرة، بهدف الدخول إلى أعماق جورجيت فبعض النساء مثل الدهاليز المعتمة، فكل ما قمت به، هو كتابة المذكرات وارسال أوراقها يوماً بيوم إلى ثريا بواسطة الفاكس، كي تملأ الفراغ بالمعلومات التي ما تزال تحتفظ بها ذهنياً، فتلك أفضل طريقة لتلافي الورطة، وبعد أن تقوم ثريا بقراءة وإضافة المعلومات التي تريدها مع ماكنت قد كتبت، تعيد إلي الأوراق مع المعلومات الجديدة لتتم صياغتها مرة أخرى، وهذا الأمر جعلني أكثر قرباً لثريا من سونيتا وجورجيت، فقد أحست الراقصة، بأن للأثنتين دوراً في عملية لطش بعض الأشرطة، وهكذا إستطعنا تلافي ذلك بواسطة الفاكس دون إنقطاع، فكان بمثابة الخط الأحمر الذي يستخدمه القادة أثناء الحرب الباردة ما بين الدول الكبرى، أو عند حدوث أزمة ما بين الجبهات المضادة.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:29 AM
(38)‏

لم تكن جورجيت تعرف بان سونيتا قد أصبحت في الدانمارك. و هي تسكن الآن في غرفة من غرف فندق<<الساس>>.‏

لذلك كانت دعوتي لجورجيت، ليست من أجل تناول الطعام في مطعم المدينة المجاورة، بل للسهر سوية على طاولة واحدة. و بالضبط في الفندق الذي تقيم فيه سونيتا!‏

أصاب جورجيت الهلع و الذهول و هي ترى سونيتا متوجهة نحو الطاولة التي كنا نجلس إليها. فقلت لها مستدركاً:‏

- ها. أتنما معاً. وجهاً لوجه! فتلعثمت جورجيت قائلة لسونيتا بشيء من الذهول:‏

- كيف وصلت إلى هنا بحق الشيطان؟ فردت عليها سونيتا و هي تمسك بيدها و تضحك:‏

- من أجلك يا عزيزتي. لم أقدر على فراقك أكثر من مائة يوم أسود مضى. ألا تشاطريني الإحساس نفسه يا جورجيت؟‏

لم تجب جورجيت على سؤالها. فقد راحت تنظر في وجهها بامتعاض، و هي تحمل كأس النبيذ بيدها. الأمر الذي دفع الحيرة بسونيتا إلى أقصى حدودها، كأن تضع رأسها بين يديها و تغرق بالصمت. فيما كنت أتأمل المشهد الذي أمامي: جورجيت المشتعلة خوفاً و امتعاضاً. و سونيتا العاشقة المحبطة. حاملة الأخبار و الأسرار، و التي لم تستطع تمالك نفسها جراء إهمال جورجيت لها. فقد كانت الصفعة قوية.‏

- ها. ما أخبار مشروعك يا ماوردي؟ سألت سونيتا.‏

- أي منهم؟ قلت بشيء من السخرية.‏

- مذكرات السيدة ثريا أقصد.. و ليس غير.‏

- قد لا يستغرق الأمر طويلاً. هل لك فكرة عن الأشرطة المسروقة؟‏

- أبداً. فقد أخبرتني السيدة ثريا عن ذلك للأسف. فنظرت جورجيت إلى سونيتا و قالت لها:‏

- لقد تم ترتيب كل شيء لتلافي ما كان قد حدث.‏

- كيف؟! سألت سونيتا باستغراب و دهشة.‏

- لا أعرف الطريقة. لكن إسألي السيد الماوردي فقد يعطيك فكرة واضحة عن ذلك. أجابتها جورجيت:‏

- سيد ماوردي. ما رأيك بالإبتعاد عن مشروع المذكرات، و العمل الفوري رئيساً لتحرير مجلة في لندن؟‏

- هل هي صفقة يا سونيتا؟ أجابها الماوردي دون أكتراث.‏

- كلا. مجرد عرض طيب نقدمه لصديق لا يريدون فقدانه. و إذا لم يكن منصب المجلة مُرضياً. فهناك معونة مالية كبيرة، ستكون تحت تصرفك، لتنفيذ المشروع الذي ترغب فيه.‏

- فقدانه! و من هؤلاء الذين يريدون ذلك، و ليس لي معرفة بأحدهم؟ سأل الماوردي باستغراب.‏

- لا عليك. إنهم يقدمون المساعدة من أجل دفن مذكرات ثريا فقط. هل فهمتني يا سيد؟‏

- لم يكن أمامي إلا الإنسحاب. فقد فهمت الرسالة التي قامت سونيتا بحملها لي. و عندما غادرت الفندق عائداً إلى المنزل، لحقت بي جورجيت و الدموع تترقرق في عينيها. فسألتني إن كنت أوافق على مجيئها معي للمنزل أم لا. فأجبتها أن تذهب هي و صديقتها سونيتا إلى جهنم. و لكنها ألحت بالرجاء، دون أن تترك لي إلا فرصة الموافقة على ذلك.‏

إعترفت جورجيت، و نحن في الطريق إلى المنزل، بأنها خارج دائرة اللعبة التي تديرها سونيتا. و أقسمت كثيراً إلى حدود البكاء التافه. و كل ما تفكر هي فيه، الهرب من العواطف الشاذة لسونيتا التي تدير أكثر الألعاب قذارة. هكذا لفظت جملتها الأخيرة قبل أن تهبط أقدامنا من القطار.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:29 AM
- ربّ حلم يقتل نفسه من كثرة الطيران.‏



- العادة السيئة ذاتها، و ها أنت تتأمل شكلها كغانية بين الكلمات.‏



- و لكن. ما من أرض للكلمات أفضل من أراضي النساء. لأن التارخ هنا أشبه بالغجري العاري.‏



- الكلمات.. الكلمات. أليس من صورة فوتوغرافية للعالم غير هذه التي تقول؟‏



<<حاولت أن أجلس إلى تلك المخيلّة، لأتبع نورها>>‏



لكن الماوردي الذي هدّم قلاعه و مشى في قوافل الليل دون ليل، اربك نفسه مثلما أربك إغترابه هنا. ففي هذا الممر الذي تزدحم فيه الهياكل و الأرواح المنشقة عن أجسادها، تكمن رائحة لطير لم يحصل على اسم بعد. و لكنه يطير بشكل مختلف تماماً عن ذلك الطيران الذي تمارسه المخلوقات المُجنحة.‏



"سأدخل هذا المستقبل، دون أن أتلمس ثيابه بيدي"‏



<<أنت تفعل ذلك لأنك خصب>>‏



نهض الماوردي مخلفاً نهر النوم في السرير. و دون إيضاحات كالعادة.‏

كديميس
10 Mar 2006, 12:30 AM
(39)‏

كيف يكون اليوم الأول من العام الجديد؟‏

هذا ما خطر على بالي و أنا أتبضع إستعداداً لليلة القادمة:ليلة رأس السنة. ولم تمض ثوان حتى وجدت الجواب يتحرك على شاشة الذهن. الحب لا الحرب يا ماوردي. فقد أنجزت الكثير خلال هذا العام. ولكي تتخلص من متاعب المجلة و مذكرات ثريا التي إنتهيت منها، فإنك تكون بحاجة إلى مليون ساعة من الكسل، لالتقاط أنفاسك فقط!‏

فاذا لم تفكر بشيء الآن، لا تفكر بشيء آخر. لا بأس من مضي قوافل الأيام على هذه أو تلك الشاكلة. فعادة ما يكون التفكير بالمستقبل مرضاً بالنسبة لك. و لذلك فقد فعلت أجمل الفضائل، عندما أقلعت عن تلك العادة منذ زمن ليس بالقصير. فالإكتفاء بالعمل الآني، و عدم جعل الهوة سحيقة ما بين اليوم و الغد، هو الآخر ممارسة لبناء عالم من طراز آخر. لا تقل لديّ اعتراض على أولئك الذي يخططون لحياتهم من المهد إلى اللحد. لأنهم غالباً ما لا ينجزون شيئاً بسبب إنشفالهم بالتفكير وكتابة المشاريع. دع نفسك قنبلة لا تخضع لإشرا ف أولئك الذين مهنتهم التفجير. تريد الإنفجار؟ إنزع صمام الأمان في الوقت الذي تشاء، و السلام!!‏

أسرعت لتناول القهوة في المقهى المجاورة للسوبرماركت، و النظر إلى النساء برغبة تفور إلى حدود الغليان. ففي بعض الأوقات، أشعر بأن مرجلاً يغلي في جسدي. كأنني لم أرى امرأة في حياتي. ايمكنني أن أسمي ذلك توحشاً شبقياً أم شوق لبعض النساء اللائي تحتفل الذاكرة بصورهن، و قبل رؤيتهن حتى؟‏

تذكّرت مورغ التي غابت دون سابق إنذار. و مرت بخاطري جورجيت التي لم تستطع ملء غياب مورغ. و سرعان ما انكمش النظر في عينيّ كورق السلوفان، لتقفلهما الأجفان فجأة. هل كانت تلك اللحظات نوماً للعقل الباطني أم ماذا؟‏

تركت المقهى لأقفل عائداً إلى المنزل الريفي. حيث لم يترك الثلج ممراً سالكاً ما بين الطريق الفرعي و المنزل. مما اضطرني أن أقوم بسحب أكياس بضاعتي زحلقة على الثلج، و هي عادة، غالباً ما يمارسها الأطفال في ألعابهم الشتوية في هذا البلد. و الذي كان يحنقني أكثر، هو طريقة نط الكلب<بوب> عليّْ، كلما شاهدني مقبلاً باتجاه المنزل. فقد أصبح هذا الحيوان صديقاً رائعاً، أغنى عني الكثير من الصداقات خلال وجودي في الريف.‏

كانت الدعوات التي تلقيتها للمشاركة في حفلات رأس السنة لهذا العام، قليلة بالقياس للأعوام الماضية. بسبب الانتقال للريف وعدم معرفة أغلب الأصدقاء من عرب و دانماركيين، لعنواني الجديد و لا لرقم الهاتف كذلك. و لفرط انشغالاتي بالعمل خلال العزلة التي ضربتها على نفسي طوعاً. لذلك فضّلت البقاء هنا، لأمضي السهرة برفقة ذاتي. فيما كان<بوب> ينبح بين الحين و الآخر، إحتجاجاً على مغادرة الجار و زو جته للبيت، للسهر في الخارج، و تركه وحيداً هناك.‏

كانت برامج التلفزيون صاخبة قبل انتصاف الليل.‏

يرن الهاتف... فيأتي صوت مورغ ليمطر في القامة ذاك المطر الساخن. لم أكن مصدّقاً لما حدث في تلك اللحظات.‏

- أين كنت أيتها.....؟‏

- في أفريقيا. لقد وصلت قبل ساعات. و لم أعثر لك على أثر في البيت. لذلك اتصلت بالدكتور الوراق و أخذت منه رقم الهاتف و العنوان. هل أصبحت فلاحاً جيداً في الريف يا ماوردي؟‏

- و يحرث في الضباب أيضاً.. ألا تأتين فوراً يا مورغ. إطردي التعب عنك و تعالي الآن بحق الملائكة و الشياطين معاً؟‏

- سأكون معك الليلة بالتأكيد. لكن المسافة ستستغرق ثلاث ساعات. أليس كذلك؟‏

- ليس بالضبط. سأنتظرك بفارغ الصبر.‏

- إذن. إلى اللقاء.‏

<< في أفريقيا! كان هذا ما ينقصنا. و عنا ماذا؟ أنحن اسكندناف! أليست كل القارات بين أيديكن أيتها الملائكة الزرق؟>>‏

نهضت مسرعاً لإجراء بعض الترتيبات في البيت، و لتنظيم الطاولة و إعداد الأطعمة. فشيء جميل أن تكون عودة مورغ بهذه الطريقة المفاجئة، و بالضبط الليلة. و هو أمر لم أتوقع حدوثه. نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار، فرأيت عقاربها و كأنها لا تزحف على الإطلاق. فقلت لنفسي ربما لفظ الزمن أنفاسه، و لم يعد يرغب بالتحرك. و لكن لا فائدة من أن يخدع المرء نفسه بهذه الطريقة الفارغة. فالعمر يجري سريعاً. و ها هي البشرية تقيم الإحتفالات لإنتصار الزمن عليها، مثلما يحدث كل عام. أوليست ليلة رأس السنة مقصاً هائلاً نحتفل فيه ببرودة أعصاب، فيما هو مشغول بتقطيع أجسادنا دون الشعور بالإثم؟‏

سمعت صيحات بوب. فقلت لا بد و أن تكون مورغ قد وصلت الآن. بوب يفعل ذلك، كلما رأى سيارة تتوقف أمام المنزل أو على جانب الطريق الفرعي المشترك الذي يفضي إلى منزل الجيران و منزلنا. كنت قد وضعت شمعة منارة طويلة على مدخل الباب الرئيسي في الخارج، تعبيراً مني للإحتفاء بقدوم مورغ. بالإضافة إلى الشموع المنارة على الطاولة في الداخل. إلا أن أحدأً لم يضغط على زر الجرس بعد مضي أكثر من ثلاث دقائق على توقف السيارة. فيما بوب لم يكف عن النباح الذي يشبه الصيحات في هذه المرة.‏

فقررت الخروج من المنزل، لأستطلع الأمر بنفسي. معتقداً بأن مورغ لم تستدل على المنزل بالضبط، نتيجة للعتمة. أو ربما قد يكون حدث لها مكروه بسبب تزحلق قدميها على الجليد.‏

و فيما أنا غارق في أفكاري التشاؤمية، فتحت الباب. فإذا بشخصين يرتديان قناعين على وجهيهما و يسدان عليّ الطريق للخارج. يا للهول!‏

كنت قد أحسست بضربتين فقط. الأولى عندما قاما بسحبي إلى الداخل و أقفلا الباب. و الثانية عندما رفع الإثنان جسدي عالياً، ليقذفا به إلى حافة الموقد الحجرية. أما الضربات المتبقية، فلم أشعر بشيء منها اطلاقاً. و لا عددها بالضبط؟!!‏

<< الآن.. كل شيء ناصع البياض. الذهن والعالم و الأشياء. فكل ما تراه بلا تاريخ أو ذكريات. فهل خرجت للتو من رحم ساخن عميق، كان لساعات قليلة ماضية، أشبه بالمقبرة التي تحيط بها أشجار تلك الغيبوبة السوداء و الرطبة؟‏

أم هي ولادتك الأولى، كونك لم تكن قبل الآن على هذه الأرض؟‏

ألا تريد أن تقول شيئاً عن النور و الكائنات و الشوارع و الأسواق و النساء و الدنيا الجديدة؟‏

أم لأن الكلمات ما تزال في طور النمو، و أنت تحاول اختيار اللغة المناسبة التي تعيد خلقك بحرية أكبر؟‏

كل شيء متوقع الحدوث و ممكن. و لذلك تجد نفسك غير متوتر و غير مضطر للإستعجال. ستبقى هادئاً من أجل أن تتأمل فقط. و من أجل أن تكوّن فكرة أولية عن هذا العالم الذي خرجت إليه دون أن تعرف واحداً مشاكساً من طراز الماوردي. فاسمك هو الآخر ذاب و انتهى. و لم تبق لك منه حتى رائحته، تلك التي يتعين عليك عدم الإقتراب منها، فيما لو صادفتها تجري مع عاصفة ما، ذات يوم من الأيام. فثمة بشر لا تستطيع إدراك أعماقهم حتى لو سبرت جلودهم بكل نبال المعارف. فسماكة جدران النتانة، تقدر على تحطيم كل شيء هنا، كونها مصفحة بالعهر الذي يهزمنا بمادته الصفراء. هل تعرف كيف يجري تركيب تلك المادة؟‏

لا تتيح لنفسك فرصة للتذكر بعد هذه اللحظات. سيمنحونك اسماً جديداً. و مهنة أخرى، سيدربونك على فنونها، من أجل أن تمارسها بغبطة طفولية مطلقة. فها أنت في طريق الحضانة يا...... هذا الذي لا يعرف اسمه الآن!!>>‏

(40)‏

تقرير البوليس بعد الحادث بيوم:‏

إدعت الآنسة مورغ بأنها كانت على موعد مع الماوردي في ليلة رأس السنة، من العام الماضي. و عندما وصلت إلى بيت المجني عليه، في تمام الساعة الثانية عشر إلا ربع. وجدت الباب مفتوحاً. فدخلت المنزل لترى الماوردي ملقى على الأرض، قرب الموقد الخشبي و هو ينزف دون حراك. فيما كان المنزل يعج بالفوضى، بفعل تناثر الأوراق و الكتب و حطام الزجاجات على الملابس و أشرطة التسجيل و الأثاث و أغطية النوم. إلى جانب حطام الكومبيوتر و الطابعة و الفاكس و جهاز التصوير و الاستنساخ.‏

تم التحقيق مع مورغ. و أطلق سراحها كشاهدة. و حفظت القضية.‏



تقرير المستشفى بعد أربعة شهور من الحادث:‏

نحن الأطباء الموقعون أدناه‏

هنس بيتر.. طبيب جراح في الجملة العصبية‏

ماك روجرس.. طبيب عظام‏

سوزانا لاودغوب.. طبيبة نفسية‏

نشهد بأن المجني عليه الماوردي، قد تعرض إلى كسور في الجمجمة و نزيف في الدماغ. و إلى كسور متفرقة في العنق و الذراع الأيمن. كما وجدت كدمات على وجهه و ظهره و ساقيه، جراء استخدام بعض المواد الصلبة الحادة. حالته الآن غير مقلقة. و يمكنه استعادة ذاكرته من خلال التمرين!‏


"تمت بحمد الله"

بنت زايد
10 Mar 2006, 01:00 AM
لو لولوووووووووووووووووش ...
يالله طباعة واشوفك بعد اسبوع او اسبوعين ..



يسلمووووووووووووووو
يعطيك العافية

بس ما قلت الجبوري عراقي؟

متفائل
10 Mar 2006, 06:36 AM
اخوي

كديميس

الله يعطيك العافية

جهود مضنية متواصله

لايكفيك الشكرعليها

يامبراطور

تحياتي

كديميس
10 Mar 2006, 11:20 PM
لو لولوووووووووووووووووش ...
يالله طباعة واشوفك بعد اسبوع او اسبوعين ..



يسلمووووووووووووووو
يعطيك العافية

بس ما قلت الجبوري عراقي؟

معليش لونا يوم سألتي أول مرة كنت منهمك في النسخ
نعم الجبوري عراقي

كديميس
10 Mar 2006, 11:22 PM
اخوي

كديميس

الله يعطيك العافية

جهود مضنية متواصله

لايكفيك الشكرعليها

يامبراطور

تحياتي

أخي متفائل
تواجدك هنا خاتمة حسنة لهذا الجهد
الذي زال تعبه بردك الجميل