الموضوع: مقال على الرف
عرض مشاركة واحدة
قديم 02 Aug 2018, 01:44 PM [ 64 ]
عضو متميز


تاريخ التسجيل : Oct 2017
رقم العضوية : 76226
الإقامة : saudi arabia
مواضيع : 1
الردود : 219
مجموع المشاركات : 220
معدل التقييم : 66ريحـان will become famous soon enough

ريحـان غير متصل


رد: مقال على الرف


المجاملة وأدبيات التخاطب
فهد السلمان - 2006



كانت أجهزة الخدمة الذاتية معطلة ذلك المساء في الصالة الداخلية في مطار الملك خالد.. لذلك اندفع المسافرون بلا انتظام إلى موظفي الكاونتر لإتمام إجراءات سفرهم.. لم يكن ثمة أكثر من ثلاثة موظفين على ذلك الكاونتر الطويل.. فيما كان أحدهم يناشد المسافرين أن يصطفوا بانتظام حتى لا يأخذ أحد دور آخر.. ولكنه عبثا كان يحاول.. لأن الجميع كان لديهم ما يكفي من الذرائع والحجج لنيل الأولوية في الخدمة.. فهذا كان يقف أمامه منذ ساعة، وهذا لم يبق على إقلاع رحلته سوى بضع دقائق، وذاك لا يستطيع الوقوف لأنه خرج للتو من المستشفى إثر عملية جراحية لم يلتئم جرحها بعد، ورابع يريد أن يستبدل مقعده بآخر على الشباك .

كان الموظف المسكين يدير بصره في تلك الوجوه التي تتلاصق أمامه كما لو كانت كلها رؤوسا لجسد واحد.. وهي تتحدث معه بنفس اللحظة.. وأمام هذا الضغط فلتت من لسانه عبارة ما كان يريد أن يقولها فيما يبدو.. إذ خرجت من فمه كما لو كانت شيئا من الشكاية في مواجهة ذلك الزحف الضخم.. قال: "يا أخي وش أسوي أنا لحالي هنا.. أكثر الموظفين مفركين" أي هاربين عن العمل.. هنا احتج البعض قائلا: هذه مشكلتك وليست مشكلتنا .

وللحق فقد كان الرجل حريصا على ألا يتأخر أحد عن موعد رحلته.. بعد أن توصّل معهم إلى حل مقنع بعيدا عن مسألة الأولوية أو الدور الذي لا يمكن ضبطه أو العثور عليه في تلك الأوضاع.. بحيث يتم إنجاز إجراءات السفر للرحلات الأقرب ثم التي تليها وهكذا.. وهو الحل الذي أرضى الخائفين على فوات مواعيد رحلاتهم فعلا.. رغم أنه لم يرض الآخرين الذين قبلوا به على مضض لمنطقيته .

كانت عبارة الموظف لا تزال ترن في أذني وأنا أجلس في صالة السفر بانتظار الإعلان عن موعد الدخول إلى الطائرة، وهنا كان لدي ما يكفي من الوقت لتأمل تحركات موظفي المطار بأجهزة النداء التي يضعونها على آذانهم معظم الوقت، واستراق السمع لبعض مكالماتهم أعترف ! حيث كنت أتساءل: لماذا لا يذهب هذا الموظف إلى رئيسه ليبلغه عن أولئك الموظفين الذين وصفهم عفوا ب (المفركين) بدل من أن يتجرع وحده ملامة كل هذه الأعداد من المسافرين.. الذين يبدون على عجلة من أمرهم كما لو أن رحلاتهم كلها على أهبة الإقلاع وبنفس اللحظة؟.

استرعى انتباهي أنهم يخاطبون بعضهم ب (أبو نايف) (أبو وليد)

( أبو أحمد): (أبو نايف شيّك على رحلة عرعر).. (يا أبو أحمد لا تسكرون رحلة نجران) .

في البداية قدرتُ عاليا هذا الأدب في التعامل مع الزملاء بندائهم بأحب الأسماء لديهم.. وهي أخلاق الإنسان المسلم التي لا جدال حولها.. لكنها حينما تتحول إلى لغة خطاب عمل وفي موقع خدمات عامة.. فإنها حتما ستنقل معها نفس قيم التعامل خارج العمل إلى موقع العمل.. بمعنى آخر أنها ستكون لغة مجاملة واستحباب بين الزملاء حتى على حساب العمل.. فأنت لا تستطيع أن تذهب لتشكو من تراه مسيئا بكل هذا القدر من التوقير والتبجيل.. مما يجعلني أمام هذه الأخلاق في التخاطب التي لا شك أنها محل تقدير في الحياة العامة.. أعتقد أنها ربما تكون معنية بقدر كبير عن سلبيتنا تجاه تصحيح الكثير من الأمور في أعمالنا.. بعد أن تطبّعنا بالمجاملات فيما بيننا، لتصبح التغطية على تقصير الآخرين جزءاً من قواعد الاحترام التي تجعلنا لا نخاطبهم إلاّ ب (أبو فلان وأبو فلان) !! .

هذه سمة عامة في مختلف الوظائف الخدمية.. فقد يحدث أن تذهب لموظف ما في أيّ إدارة لإنجاز عمل ما.. وعندما لا تجده وتسأل أحد زملائه.. فإنك غالبا ما تجد إجابة على غرار (أبو محمد ما يروح بعيد انتظره شوى هالحين يجيء) وقد يُكلفك هذا ال (شوي) طيلة نهارك.. هذا إن لم تكن مطالبا بالعودة في اليوم التالي ! .

لذلك تشعرني هذه الأدبيات في مواقع العمل تحديدا أو تبدو لي تماما ككلمة الحق التي يُراد بها باطل.. فهي من جهة جزء لا يتجزأ من أخلاقياتنا.. لكنها قد تسطو من جهة أخرى على حقوق العمل.. حينما تجرّنا لقيمها جرًّا مما يجعلها بالنتيجة ضربا من المجاملة التي تلجم ألسنتنا عن قول الحق.. وإلا فما معنى أن يقبل البعض بتحمّل كل مشقات العمل وربما سباب بعض المراجعين وشتائمهم وتقريعهم بسبب هروب بعض زملائه.. لو لم تكن قواعد المجاملة هي سيدة الموقف في تعاملهم مع بعضهم البعض.. وقد يكون لتبادل الأدوار حصة في هذه المشكلة.. لكنها كلها تنضوي تحت هذا العنوان الذي يزيد يوما بعد يوم من تآكل فعالية الأداء في بعض قطاعاتنا خاصة الخدمية منها.. ولعل المعنيين بعلم الإدارة يرتبون الكثير من تطور الأداء على أسلوب التعامل بين الزملاء في القطاع الواحد.. بحيث لا يفقد العمل روح الفريق.. لكنه لا يذهب جهة المجاملة.. وهو ما دفع الغربيين في اعتقادي لاستخدام الاسم العائلي في النداء مسبوقا بمفردة سيد.. مما يحافظ على مبدأ الاحترام دون الوقوع تحت طائلة ما نسميه نحن ب (الميانة) !! .


توقيع : ريحـان

الكلام من فضة لكن الصمت فظيع نعيش ونموت بأسنان مطبقة ، الأشياء التي يجب أن تقال لاتقال أبداً *
الأعلى رد مع اقتباس