الموضوع: مقال على الرف
عرض مشاركة واحدة
قديم 23 May 2018, 09:26 PM [ 51 ]
عضو متميز


تاريخ التسجيل : Oct 2017
رقم العضوية : 76226
الإقامة : saudi arabia
مواضيع : 1
الردود : 219
مجموع المشاركات : 220
معدل التقييم : 66ريحـان will become famous soon enough

ريحـان غير متصل


رد: مقال على الرف


قـــفء
عبدالله الناصر - 2004




تحكي بعض الأساطير القديمة، أن حاكماً أجرى مسابقة غريبة، يدخل فيها من أراد من شعبه.. والمسابقة هي أن يركض من أراد الركض، منذ طلوع الشمس حتى مغيبها، ومن استطاع أن يواصل الركض حتى لحظة الغروب، فإن جميع الأراضي التي قطعها ستكون ملكاً له..!!

ودب الطمع في النفوس، وأعد كثير من الناس أنفسهم لهذه المسابقة، والتي ستكون جائزتها عظيمة لاشك.. فهي أراض شاسعة، واسعة، من استطاع تملكها فإنه سيكون أغنى أغنياء الناس.

وأجريت المسابقة وركض المتسابقون رجالاً، ونساءً، صبياناً، وشباناً، وشيوخاً.. وطالت مسافة الركض، وطال زمنه، وأخذ الكثيرون منهم يتساقطون.. منهم من سقط مبكراً، ومنهم من سقط في أول النهار، ومنهم من سقط في وسطه، ومنهم من سقط عند العصر، وبعد العصر.. غير أن أحداً لم يستطع الصمود والمواصلة ما عدا شخصاً واحداً.. فقد استطاع الركض والجري، وقطع مسافات هائلة واستطاع أن يواصل الركض إلى أن اختفى آخر جزء من أجزاء الشمس حتى إذا توارت كلها أدرك الجائزة.. ولكنه بكل أسف في هذه اللحظة سقط ولفظ آخر أنفاسه ومات..!! فقال الحاكم الفيلسوف: يكفيه من كل ما قطعه وامتلكه من هذه المسافة متران في نصف متر وهي مساحة القبر الذي سيوارى فيه..!!

@ كلما رأيت هؤلاء الراكضين اللاهثين وراء الحياة، تذكرت هذه الحكاية.. وهي حكاية عميقة تصور حياة الناس كلهم في جريهم وسعيهم الدنيوي..

لست هنا واعظاً - فأنا لا أملك مقومات شرف هذه المهنة - ولست ممن يكسلون عن الجري والكدح والكفاح.. لكن لابد أن يكون ذلك بقدر..

إنها دعوة لكي يجلس المرء إلى نفسه ويسألها هكذا: ثم ماذا؟ وإلى متى؟ كم سأعمر؟ كم سأعيش؟! ومتى سوف أرتاح من عناء الركض؟ متى سأجلس إلى ذاتي حاصداً ثمرة ما جنيت..؟!!

في غمرة الحياة ينسى المرء نفسه، وينسى مثله وأخلاقه التي فُطر عليها.. بل وتظهر له مثل وأخلاق وقيم هي من صنع لهَاثِه ومرضه، وتكالبه، فيرى أنها أخلاق العصر وقيمه، ومثله التي يجب أن تسود، وأن علينا أن نتعاطى معها تمشياً مع - براغماتية الحياة -..!

صحيح أن الحياة بلا بذل، ولا عطاء، ولا مجاهدة، ولا رؤية وهدف، هي حياة تافهة ورخيصة.. ولكن يجب ألا يختل توازن الحياة، ويتحول الإنسان إلى برغي تافه في عجلتها الطاحنة، يبيع مثله وقيمه وشرفه ودينه، وأخلاقه من أجل أن يضيف رصيداً مادياً.. أو كسباً معنوياً زائفاً ومؤقتاً.. يالها من لعبة، مضحكة ومزرية، وربما تافهة في آن..!!

@ الحياة قصيرة جداً.. أقصر من بهام القطاة كما تقول العرب.. وهي تمر كخطرة الطيف.. أو كلمح بالبصر.. كم سيعيش هذا الإنسان المكابر، المجادل، المعاند، القاسي، المداهن، المنافق، المختلس..؟ أربعين عاماً..!! ثلاثين عاماً..! 1زد على ذلك أو انقص منه قليلاً فإنه في النهاية راحل.. ولن يكون وارثاً أبدياً للأرض، ولن يعمر فيها أكثر مما عمر، حتى لو افتتن البعض بها أو تمنى أن يطول به البقاء أكثر من غيره: {ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمَّر ألف سنة} فإنه في النهاية سيمل من طول ثوائه في الحياة.. سيدركه الترهل الجسدي، الترهل العاطفي، والترهل العقلي.. سيدركه الملل، ويدب في روحه اليأس، ويتمنى في النهاية الخلاص من الحياة.

تقول الأسطورة الرومانية الساتيركون Satyricon أن فتاة اسمها "سيبل" كانت محبة للحياة فوضعوها في كبسولة زجاجية داخل كهف محصن قرب "نابولي" كي لا يدركها الموت، وأنهم بعد مئات السنين فتحوا الزجاجة وسألوا "سيبل" ماذا تتمنين..؟ وماذا تشتهين..؟ فقالت: أشتهي الموت..!!

@ الموت هو النهاية الحتمية، والمآل الطبيعي لكل الأحياء، وإني لأستغرب من أولئك الذين يرقعون أعمارهم، ويرممون أجسادهم، رغم أنها سوف تتداعى، وتتهاوى في لحظة من اللحظات.. سوف يشبعون موتاً، وستمتلئ عيونهم وبطونهم تراباً ورملاً..

ولو أنصف العاقل نفسه لهون عليه أمر الحياة..

صحيح أن الحياة جديرة بأن نعيشها وبأن نحبها، وبأن نتحمس لشؤونها.. وأن نغادرها حين نغادرها وقد تركنا لوجودنا أثراً ولاعمارنا معنى، ولكن يجب أن يكون ذلك بقدر، فلا نسرف في الافتتان بها.. ولا نسرف في التخلي عنها وإنما نكون بين ذلك قواما.

ما أبشع أن يسرف الناس في الكراهية والبغضاء والأحقاد.. وأن يسرفوا في الكذب، والمداهنة، والرياء، والتمويه، والدجل، والمراوغة، والغش في الرأي، والتنصل من قول الحق وفعله.

@ لسنا ملائكة.. ولن نستطيع أن نخرج من اهابنا الإنساني المليء بالعواطف والنزعات الإنسانية التي قد تقود إلى الخطأ والزلل، ولكن ذلك لن يمنع أبداً من أن نصنع الخير والإحسان ما استطعنا.. فذلك هو الشيء الذي يمنحنا الإحساس الصادق بإنسانيتنا.. ولو أن الفرد منا جلس إلى نفسه من فترة إلى أخرى يتأملها ويناقشها ويحاورها بل ويسألها بلا تعصب، ولا تغليب هوى، ولا انصياع لعاطفة، لو فعل ذلك لاستطاع أن ينصف نفسه قبل أن ينصف غيره.. ولما تجرأ على ظلم الحقيقة والحق، ولاستطاع أن يكون أقرب شيء إلى الحياة التي فطره الله عليها.. بل لوجد سبيلاً إلى معرفة حياة أكثر طمأنينة، وقناعة، ومحبة وأمناً وسلاماً.


توقيع : ريحـان

الكلام من فضة لكن الصمت فظيع نعيش ونموت بأسنان مطبقة ، الأشياء التي يجب أن تقال لاتقال أبداً *
الأعلى رد مع اقتباس