عرض مشاركة واحدة
قديم 29 Oct 2005, 02:15 AM [ 10 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل





مقالات كتبت عن السياب ...


ثلاثون موتاً مطر واحد و محتملان
قاسم حداد




1


أعرف صديقا، كلما هطل مطر فـي الأرض، جـاء يدق بقبضتـه جدار غرفتـي صارخـا: " أخرج، لقد جـاء المطر وعلينا أن نقرأ أنشودة السيـاب ". فأخرج معه، دائما كنت أخرج، ليأخذنـي بسيارته ونقف على سـاحل البحـر والمطر يغسل كل شيء، يخـرج ديوان "أنشودة المطر " ويطلب مني أن أقرأ، فيما هو يحـتـقن. هكذا كل شتاء. صديق مثل هذا، يقرأ المطر بدموع السياب، لن يغفر لي سهوا ولا غفلة عن الشعر، معبرا عن إعجابه الأزلي ببدر، و متوغلا معي فـي تحـولات الفصول منذ الدرس الأول. ذلك الدرس الذي صاغ اتصال جـيلنا بالشعر بوصفه مطر الحيـاة على يبـاس الأرض. لكي يوشك الارتباط الخرافـي بين السيـاب والمطر أن يصبـح أحـد معالم الثـقافة العربية المعاصرة. ليـس لأن " أنشودة المطر " خصوصا هي واحـدة من أهم التجـارب الشعرية العربيـة، ا المؤسسة فحـسب، ولكن لأن الهيـام الوجـودي بالمطر لدي السيـاب يشكل المفارقة الحيـاتية التي صاغت تجـربـة السيـاب الرؤيوية. فهو الشاعر العربـي الذي مات لفوط المرض والعوز بـالمعنى المادي للكلمة، مات وهو يصوغ شعرا فتح، لأكثر من جـيل،الأفق للشعري العربـي برحـابة نهر لا ينضب. وهنا تكمن طاقة الرؤيا التي سيصدر عنها السياب ذاهبا نحـو قدره المأساوي. ذهب، غير محسود على الموت

2


" أتعرفين أي حزن يبعث المطر.. " ويطلق صديقي تنهيدة ادخـرها طوال الصيف، لكـي يفصح عنها تحت مطر السياب. أتساءل أحيانا، لفرط الحرائق التـي يلهبني بها صديق مثل هذا، ما إذا كان بمقدور الإنسان أن يحمل هذا القدر من الألم، ويكون مستعدا لأن يتطوع باستـعادتها كمن يستحـضر أحلامه المغدورة. لكن السيـاب كـان يذهب إلى أبعد مما يتعثـر به صديقي بـين مطر و آخـر. لقد كـان يختـزل الحـزن الإنساني كله في كـلمات. وكـان علينا أن ننتظر سنوات لنحـيط بتـجـربة السيـاب صـاعدا بعذابـه الجـسدي والروحـي وهو يجـابه الواقع. علينـا التـخـبط فـي محـتملين أمام تجربة السياب التي لا تزال متاحـة للدرس و التأمل كـأنها تحدث الآن محـتملان كـان السيـاب يقتـرحها على مستـقبلنا الشعري العربـي: الخـضوع لوهم الواقع بإعتباره التفسير الوحيد للشعر، وبالتالـي الامتثـال لكـل ما تطرحه علينا تنظيرات النقد الأبي بـي الذي لم يكن يـرى إلى الأدب إلا انعكاسا للحدث العام. وهذا الاحـتـمال هو لأبرز والأكـثـر شيـوعا حيث يتـعرض السيـاب لآلتـه الجـهنميـة، ويصبح وردة الضحـايا لتـلك المرحلة. الاحتمال الآخر، هو الإيمان بطاقة المخـيلة بوصفها جـوهرة المراصد التـي تـأخـذ الشاعر والشعر والقارئ نـحـو أفق يصدر عن الأعماق، حيث لا نكون صادقين حقا إلا هناك. وهو احتمال اقترحتـه (من بين تجـارب شعرية نـادرة) تجـربة السيـاب فـي الجـانب المكبـوت فيـها والمسكوت عنه نقديا أكثـر الأوقـات. فمعظم النقد الذي احـتـفى بالسيـاب انحـاز لشائـع الإحـتمال الأول، لكونه يلبي متطلبـات تلك اللحظة. لكن مايبـقى من تجـربة السيـاب الرؤيـويـة هو ما سوف يتصل دوما بـالإحتمال الآخر، الذي تتأكد لنا الآن قدرته على سبر الروح واكتشاف الجسد وتحرير الجمال على الجانبـين، حيث يكون الشعر هو الحلم بإعتباره كشف الواقع وفضيحـته ومجـابهة الحياة فيـه

3


الصديق يطرق جدار الغرفة صارخـا بـي، كمن ينـهر جرحـا متـماثلا للنوم: "أخـرج. المطر في الخـارج، تعال لنقرأ السيـاب تحت سقفه الأثير، المطر". هكذا فـي كل مطر، يترك كل مشاغله ويأتـي لكـي يسمع الشعر. قلت لصديقي ذات ليلة: "هل تعرف أن السيـاب مات بعيدا عن بيته وأهله ووطنه؟ ". فـاستنفر، كمن يريد أن يغفل عن الموت: (، لا تصدق، إن الشاعر لا يموت ". وصرت أتيقن بخـلود الشاعر كلما أعدت قراءة السياب، وأنحـاز لعذابه ومعاناته ضد واقع كان يحـدق به ويستهدف مصادرتـه بشتى الأشكال. ففي مثل هذه المجـابهة ضرب من اخـتبـار طاقة الشعـر على اخـتـراق الحـصـارات كلها، مـبـتكـرا الوقت والمكان. ويـومـا بعـد يوم تعلمت من السيـاب، فـي أجمل شعره، أن الشعر هو ماتكتبه وليس ما يكتبك. بمعنى أن الشعر هو مايصدر عن ذاتك (+ العالم) وليس ما يصدر عن العالم (+ ذاتك). فعنـدما أتمعن فـي تجـربـة السيـاب أشعر بـأن بؤرة عذاباته الروحـيـة تكمن فـي صراعه المأساوي بين مـا يحـب (ويحلم) أن يكئـبـه، وبـين مـا يسعى (الواقع) إلـى فرضه لكي يقوله عنه، وهذا مـا أوقـع السيـاب (كـإنسان) فـي الملابسات التـي جعلته ضحـيـة المهانات والعذاب فـي حيـاته. ففيما كان يكتـشف تفجـرات الشعر من جـهة، وينغمس متورطا فـي تفجـرات الروح والجسد من جهة أخـرى، كان الشاعر فيـه يبرأ من الحيـاة متطهرا بالتجـربـة. و قـد أتاح له كل ذلك أن يعرف كـيف تضيـع الجموع فـي تيـه الوهم، وكيف يضرب الجفاف روح الإنسان شوقا إلـى أنشودة المطر، ويعرف " كيـف يشعر الوحيد فيـه بالضيـاع ". و ها نحـن نتـأكد، يوما بعد يوم، كم كـان بدر شاكر السيـاب وحـيدا. وكأننا لسنا وحدنا فـي هذه الوحدة

4


" أرسل إليـك رفقة هذه الرسالة قصيدة لي بعنوان " أنشودة المطر" وأتمنى أن تنال رضاك وأن تكون صالحـة للنشر فـي (الآداب) بم نـي لخجـول. جدا من أن قصيدتي هذه ستـشغل فـي مجـلة (الآداب) حيزا قد يكون من الأولى ملؤه بما هو خير من قصيدتـي و أجدى " (رسائل السياب.
أولا، ترى هل كـان السيـاب يدرك أن قصيدتـه، التي يقدمها إلى سهيل إدريس بتـوإضع المبـدع ورهافة الشاعر، سوف تكون حجـر أساس فـي تجديد تجربة الشعر العربـي المعاصر كله، وعلامة من علامات انعطافته الحاسمة؟ وثانيا، كيف يتسنـى لنا العثور الآن على شاعر يقدم قصيدته بمثل هذا التواضع. ونحن نرقب الذين يكتبون محـاولاتهم الأولـى (ليسوا شعراء كما كان السياب، ولا أقل أيضا) يمعنون تيها وغرورا وغطرسة، مما يدفعنا إلـي الخجـل مما يحـدث؟ الحـقيقة أن الدرس الذي تقترحـه علينا تجـربة السياب هو من الغنـى والخصوبـة بحـيث يمكن أن يتـحـول إلـى ضوء يكـشف الواقـع الشعري العربـي الواهن، إن كان على صعيد تواضع المبدع أو جدية الأديب أو ضرورة حرية الشاعر الكـاملة فـي مجـابهة دوره الإبداعي. و إذا كـان السيـاب قد صودر فـي بعض هذه الشروط، فإنه كـان نموذجـا جميلا فـي بعضها الآخـر. وما علينـا إلا أن نتأمل ما حـولنا لكـي ندرك مقدار التـضحـيات التـي نالت من روحه وجـسده فـي سبيل أن يحـصل على أيام إضافيـة نادرة من الحياة

5


" أحس بأجـراس خـافـتـة، أجـراس مطر وزهر، تقرع في نفسي، مـبـشرة بميـلاد قصيـدة.. هذه الليلة أو غدا. سيكون ميلادها نعمة تنزلها السماء عليه. (رسائل السياب). في غمرة عذاباتـه كـان الشعر يأتيه مثل البلسم. وفيـما كان جسده يتـآكل بفعل الجراح (الناغرة الفاغرة) كمـا يصفها فـي إحدى رسائله، كـان انهماكـه فـي كـتـابة الشعر هو الملاذ الرحـيم الذي يخفف عنـه تلك الأوجاع. والآن، بعد ثلاثـين عاما من ذهابه، لماذا لا نجـد مفرا من شعور الخسارة ونحـن نستعيد تجـربتـه الإبداعيـة، ولماذا تظل تجـربـة الروح والجسد عند السيـاب، مدخلا متـاحـا دوما للإحاطة بتجـربته الشعريـة و كنه العذاب الذي عاشه وتـعدد دلالاتـه؟ ليس ثمـة جـواب لدينا. على العكس، فإن أسئلة لا تحـصى يمكن أن نصادفها ونحـن نتـوغل، مع الوقت، فـي معـالم حـيـاة السيـاب وملامح إبداعه الشعري. وما أن نسمع أو نقرأ شاعرا يذكر المطر فـي قصيدته حتـى يحـضر السياب ليضعنا فـي ارتباكة المقاربات، كما لو أن تلك الأنشودة قد وضعت حـدا يقاس عليه كل ما سيكتب عن المطر بعد ذلك.. ولكأننا لم نكن نحـسن اكتشاف المطر قبل السيـاب، ولأن السيـاب قد منـح الخلود والمجـد للمطر منذ أن كـتب أنشودته.
وحين تنفجـر المفارقات ساعة موتـه، مثلما تفجـرت طوال حيـاته، فسوف يشارك فـي تشييع جـثمانه، ذات. صبـاح ممطر، عدد قليل من أهله و أبناء قـريتـه الجنوبيـة (جـيكور)، ومن بينهم صديقـه الشاعـر الكويتي علي السبـتي، الذي نقل الجـثـمـان من المستـشفى،الأمـيـري فـي الكويت إلى جيكور فـي العراق. لقد كان الشتاء يبكي على شاعر مات غريبا على الخليج، وغريبا عنـه أيضا. كما لو أن الطبيعة أرادت أن تـعبر. للشاعر عن محـبة وتقدير لم يحصل عليـهما من البشر في حياته

6


بعد ثلاثـين مـوتا، كـيـف لنا أن نقرأ درس السيـاب. كـيـف نقرأ فيـه الدم والشعـر و المطر، ونستـفيق على صوته الشاحب وهو يفتح الأفق لنهر الشعر العربـي الحديث، ونسمع الصدى كـأنه النـشيـج: "يا خليج، يا واهب المحـار والردى ". فإذا جـاء ذلك الصديق ثانيـة يطرق جـدار غرفتـي، لكـي نستعيد معا ذلك الصدى، يمكن أن أقـول له: " أنظر إلى الشاعر الآن، أنظر إليـه، يعبر موتا بعد موت، دون أن يسفر كل هذا الليل عن... بدر واحد، حيث الظلام هو سيد الوقت والمكان ".
بعد ثلاثين موتا، منذ أن غاب السيـاب بعيـدا عن بيـتـه، لا يزال الشاعر العربـي يموت.. ولا بيت له، غير الغربة والوحدة واليأس، فيما يرقب أحلامه مهدورة مغدورة وقبض الريـح. بعد ثلاثين موتا، ماذا ينبغي أن يقال، وأكثر من مبدع يذهبون إلـى الموت نحـرا أو انتحـارا. سنقول: طوبـى لمن يرى إلـى السيـاب فـي موته، ويقرؤه قليلا من الشعر تحت المطر. لقد ذهب بدر شاكر السياب غير محسود على الموت، ولسنا... على الحياة


توقيع : sanaa


...je ne veux ni cadeau ..ni fleur..ni promesse
seulement
!!... le don de ton coeur
sanaa

التعديل الأخير تم بواسطة sanaa ; 29 Oct 2005 الساعة 02:17 AM
الأعلى رد مع اقتباس