..:.. مرحباً بك في شبكة الشدادين الرسمية ، ضيفنا الكريم يسعدنا دعوتك للانضمام والمشاركة معنا .. اضغط هنا لتسجيل عضوية جديدة ..:..


العودة   شبكة الشدادين > المنتديات الأدبية > منتدى القصص والحكايات > كتّاب المنتدى في القصص والرواية الأدبية
 
أدوات الموضوع
إضافة رد
قديم 30 Apr 2006, 01:10 AM [ 61 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




هو يعرف رجالاً من بني وطنه، يمكن أن يطلب منهم هذه الخدمة، لكن هل يستطيعون تأديتها؟ شريكه صبري؟ الدكتور عبد الرحمن؟ جميل مردم؟ كلهم لا يملكون من أمر البلد شيئاً.. أكثر من مرة رآهم يخذلون أمام عنت ليوتنان أو كابيتان فرنساوي، فلماذا لا يقصد رأس النبع؟‏

-انهض معي.. أشار له وهو ينهض، ثم سرعان ما أغلقا المحل ومضيا يغذان الخطا. بالترحاب استقبلهما القومندان رينو وقد فاجأته الزيارة فهش لها وبش..‏

-أنا لا أصدق.. عزو يزورني!! قال القومندان بلكنته الأجنبية وهو يجلسهما على مقعد وثير ليجلس وراء طاولته..‏

كانا، مذ أرسل القومندان الأخضر إلى فرنسا، يلتقيان.. لكن القومندان دائماً هو المبادر، هو من يذهب إلى عزيز في المحل، يزوره في بيته، يفرض عليه نفسه...‏

-حقك علينا مسيو قومندان!! بدأ عزيز وهو يجرب مخزونه من الدماثة التي حاول اكتسابها ذات يوم في حماة، لكن خالد آغا والكابيتان جيرار قطعا عليه الطريق حينذاك. الحقيقة، زيارتكم واجبة...‏

-صحيح.. زيارتنا واجبة.. مع ذلك لا نراك.. إذن لا بد هذه المرة، جاءت بك الأمور الصعاب... قال ضاحكاً وهو يشير إلى الشاب النحيل الطويل الذي كان عزيز قد قدم اسمه، لكنه لم يستطع حفظه..‏

وشرح عزيز الأمور الصعاب التي جاءت به فضحك من جديد..‏

-معلم!!؟ بسيطة يا رجل!! قال بكثير من الاستهانة، ثم التفت إلى عواد، اعتبر نفسك معلماً منذ اللحظة، ومد يده ببطاقة تحمل اسم القومندان بأحرف سوداء متراكبة توحي بالرهبة والسطوة، ثم كتب عليها شيئاً، بعدئذ تابع: تأخذ هذه إلى وزارة التعليم.. تسأل عن مدير التعليم الابتدائي.. تعطيه إياها وهو يكمل البقية..‏

بيد مرتعشة، أخذ الشاب الطويل النحيل بطاقة القومندان، فيما انهمرت عبارات الشكر منه، من عزيز الذي وقف هو الآخر مستأذناً.‏

-أين تذهب أنت، أبا الأخضر؟ اجلس يا رجل.. قال القومندان وهو يمسك بيده إلى امتدت إليه تودعه..‏

-لا.. شكراً.. سأذهب معه.. هو لا يعرف أحداً ولا يدري كيف يتحرك في دمشق..‏

مكرهاً قبل القومندان رحيله، فقد كان يرغب في انتهاز الفرصة أكثر.. عند عتبة الباب فقط تذكر..‏

-صحيح، قال القومندان فجأة، أنا مسافر بعد غد إلى باريس.. إن كنتم تريدون أن ترسلوا شيئاً للأخضر!؟‏

-بالطبع نريد.. رد عزيز وهو يعلم أن الأم لا يسعدها كأن ترسل لابنها أشياء وأشياء..‏

-إذن هيئوه.. وغداً مساء.. أمر بكم.. قال القومندان وكأنما اعتاد المرور بهم دائماً..‏

في وزارة التعليم لم يجد عزيز وعواد الشخص المطلوب.. انتظراه ساعة وبضع الساعة، لكن أحدهم همس في أذن عزيز أن مدير التعليم الابتدائي في جولة وأنه لن يعود قبل الغد.‏

-هو حظي التعيس! تأفف عواد وتأوه، أنا أعلم.. هو حظي التعيس!!‏

لكن عزيز ضحك مربتاً كتفه:‏

-ولماذا هذا التشاؤم؟ لم تجده اليوم تجده غداً؟‏

-أخشى أن حظي العاثر يلاحقني!! أنا متشائم عمي.. لا أصدق أن الحظ سيقف إلى جانبي يوماً!!‏

-حظ!! حظ!! ما هذا الذي تقوله عواد؟ سأله ساخراً ملوحاً برأسه، وهما يغادران مبنى التعليم.‏

-الحظ حقيقة أكيدة عمي أبا العز.. ابن الرومي كان يؤمن بالحظ.. بل كان يتطير من القطة السوداء أو الوجه القبيح إذا اصطبح به فلا يخرج‏

يومذاك !!؟‏

-لا.. لا.. دعك من ابن الرومي وتطيره.. لا تتشاءم، عمرك.. واسمع مني.. حظنا هو ما نصنعه بأيدينا..‏

عند باب الجابية بدا عواد متردداً.‏

-أذهب إلى القرية اليوم وأعود غداً، قال بشيء من تلعثم، رداً على نظرات عزيز المتسائلة.‏

-بل تنام عندي الليلة وغداً تتابع.. قال بشيء من شرود في البدء، بعدئذ انتفض وبنبرة من عتاب ولوم تابع: لكن ما خطبك؟ ألم أقل لك اعتبر بيتي بيتك.. أنت في مقام الأخضر.. متى جئت إلى دمشق أنت ضيفي.. ابن من أبنائي..‏

وارتعش شيء في داخل عواد.. ما هذه الأريحية؟ ما هذا الكرم؟ لماذا إذن في حوران يحذروننا من أبناء دمشق؟ الشامي يزدرينا؟ يأنف منا؟ بخيل... شحيح.. لا يعرف الكلب باب داره.. أتراهم يشنعون على الشوام زوراً وبهتاناً؟ "لكنه نظر إلى عزيز فتذكر فجأة أنه ابن ريف وفد قبل سنوات فقط إلى دمشق، فلم يملك إلا أن يبتسم "هي ذي أخلاق الريف إذن، لا أخلاق المدينة. "ثم مضى بخطى واثقة إلى بيت عزيز.‏

فرح به مناف فرحه بأخيه الأكبر، كذلك فرحت بدور، ففي بيتهم شاب متعلم يحمل "البكالوريا". أيضاً فرحت شمس فقد حمل لها رائحة الأخضر.. لكن كم كان فرحها عظيماً حين نقل لها عزيز خبر القومندان:‏

-سأصنع له الكبة والمحشي واليبرق.. ردت للتو بحماسة الأم التي تظن أن ابنها في غيابها لا يجد طعاماً أبداً...‏

-كبة!! محشي!! يبرق!! ماذا تقولين، شمس؟ الرجل ذاهب إلى فرنسا لا إلى كفر سوسة.‏

وتبين لشمس أنها لا تستطيع أن ترسل له من الطعام إلا مؤونة يمكن طبخها فيما بعد، فالقومندان سيسافر بحراً، ورحلة البحر تستغرق العديد من الأيام.‏

رسالة سريعة كتب عزيز لابنه نقل له فيها حب الأهل والوطن هو المشوق بالتأكيد لأخبار الأهل والوطن.‏

لكن الرسالة الطويلة كتبتها الأم باثة بعض ما في صدرها من مشاعر وأحاسيس: سألوا أعرابية: من أحب أبنائك إلى قلبك؟ فقالت: المريض حتى يشفى والصغير حتى يكبر والغائب حتى يعود..‏


توقيع : كديميس

"لاتبحثوا عني بين كلماتي فهي لاتشبهني"
الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:10 AM [ 62 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




الأخضر بكرها... حبيبها الأول وهو الغائب فكم تكن له من حب!! كم تحمل من مشاعر وأحاسيس، هي الأم التي باتت ترى الحياة من خلال أبنائها، تتنفس عبر أنفاسهم، تعيش لهم وبهم. بود شمس لو تستطيع أن تطوي الأرض طياً فتصل إلى الأخضر، تأخذه بين ذراعيها، تشمه، تضمه.. "يا لرائحتك أنت يا فلذة الكبد!! كم أتوق لشمها، عبق الياسمين!! "كتبت له شمس" يا لعينيك يا أخضر! كم أنا مشوقة إلى بريقهما، إلى حورهما حيث الأبيض والأسود يتقابلان، نهاراً ساطعاً وليلاً حالكاً... بني!! كم أحن لسماع صوتك يشنف أذني.. لدفء أنفاسك تدغدغ عنقي، وأنت تلقي بنفسك في أحضاني.‏

طوال بعد الظهر ظلت شمس تكتب. تتوقف لتتابع، وهي تتمنى لو أكملت دراستها كي تمتلك ناصية اللغة فتكتب بطلاقة وانسياب، لكن، وهي تكتب، تستعصي اللغة أحياناً وتحرن.. فرساً لم تروض بعد.. فتكتب بالعامية "سيضحك علي الأخضر"، رددت لنفسها وهي تعيد قراءة الرسالة.‏

-كتبت بالعامية.. قالت لعزيز، والكتابة للفصحى.. آه!! ليتني أتقن الفصحى!!‏

-لا تخافي!! الأخضر لن يعتب علينا.. طمأنها عزيز، الذي كتب هو الآخر بالعامية، حامداً ربه أنه يستطيع الكتابة، فمعظم أقرانه لا يستطيعون فك الحرف.. بالمناسبة، هل كتبت له عن روضة؟‏

-بالطبع!! مذ حصل لها ما حصل كنت أنوي أن أخبره.. لكنني تريثت. الآن أخبرته... حرام!! يجب أن يعلم!!‏

مع الرسالة، أعدت شمس رزم البرغل، الشنكليش، الموالح، الحلويات، البن..‏

-هو يحب القهوة العربية كثيراً.. قالت للقومندان وهي تشير إلى كيس البن الذي طلبت من البائع أن يكثر من الهال فيه.. وهناك لا تصنعون القهوة العربية..‏

-صحيح.. هناك نشرب النسكافيه..‏

-لهذا، يطالبنا كل مرة بالقهوة.. أكثروا من القهوة.. أكثروا من الهال، تابعت شمس ثم لوحت برأسها، صحيح،.. المرء على ما تعود.‏

-أف.. أف.. ما هذا كله؟ أشار القومندان إلى الرزم الأخرى بكثير من الاستغراب.‏

-لا تؤاخذنا.. رد هذه المرة عزيز، وهو خجل بعض الشيء.. أم ترسل لابنها الغائب! إذن.. بودها لو ترسل له كل ما تطول يدها من أطعمة ومأكولات..‏

-لكن ما هذا؟ قال وهو يبتعد بأنفه عن رزمة كانت تصدر روائح لا يستطيع أنف إلا أن ينكرها.‏

-شنكليش.. الأخضر يحبه كثيراً.. ردت الأم باندفاع، فضحك القومندان ملء شدقيه..‏

-أوه!! لكن أخشى أن يهربوا منه، هناك، في فرنسا، إن شموا رائحته!!‏

عزيز نفسه كان قد احتج لدى شمس "ليس حسناً أن نحمل قومنداناً مثله أشياء كهذه!!"‏

رائحة الشنكليش كريهة منفرة لكن لا فائدة.. فقد تحولت شمس إلى مجرد أم لا يعنيها إلا رضى ابنها وسروره.‏

-أنت تمزح أم جاد؟ سألت شمس وقد خشيت فجأة أن يكون في ذلك إزعاج له. فالرجل كريم معهم، نبيل، دمث ولا يحسن بك أن تلحس صاحبك كله إن كان عسلاً.‏

-بل هو جاد.. تدخل عزيز ضاحكاً قبل أن يتاح للقومندان الرد..‏

-لا.. السؤال لماذا تبعثين مثل هذه الجبنة العفنة.. وفي فرنسا ثلاث مائة نوع من الجبنة.‏

-صحيح، ردت شمس بحماسة خاصة، لكن ليس فيها هذا النوع الذي يحبه الأخضر.‏

-هو ذا ذوق الشرق الذي يختلف فيه عن الغرب... علق القومندان وهو يجلس على المقعد الوثير في غرفة الاستقبال يرشف القهوة ويبتسم..‏

-الشرق والغرب.. هي ذي المشكلة دائماً. بدأ عزيز وهو يرى في القومندان مرة ثانية رجلاً جاء من الغرب لاستعمار الشرق، رجلاً مختلفاً كل الاختلاف، بل خصماً معادياً، مع ذلك ما من صداقته بد.‏

-ذات مرة، دار نقاش في منزلنا وكنا نتغدى، تدخلت شمس عائدة بذاكرتها سنين عديدة إلى حماة وإلى الكابيتان جيرار، لكن نظرة من عزيز ملؤها الخوف والتحذير جعلتها تقلع عن إكمال الحديث... فتح القومندان عينيه على سعتهما حاثاً إياها على الاستمرار.‏

-اي.. دار نقاش؟ حول ماذا؟‏

-الشرق والغرب، ردت وقد رأت أنه ليس بإمكانها إلا أن تستمر.. هل يلتقيان أم لا؟ فما رأيك أنت سيدي القومندان؟.‏

-قبل أن أقول رأيي.. من تراه كان المحاور؟ وأين؟ وماذا كان رأيه؟‏

ووجمت شمس كما وجم عزيز أمام أسئلة القومندان التي انهمرت رشا عليهما ليريا فيهما ظلال الشك القديم وهي تعود إلى عيني القومندان ولسانه.. كأنما بحثه عن اللغز ما يزال هو المحرك الأساسي...‏

-لا.. لا يهم.. سارع عزيز للرد، وهو يشعر أن ثمة ورطة أوقعت شمس نفسها وأوقعته فيها.. المهم أن تعطينا رأيك أنت..‏

-رأيي.. الشرق والغرب مثلما هو الشمال والجنوب جهتان لعالم واحد، لا فضل فيه لجهة على أخرى ولا امتيازاً لطرف على آخر...‏

-رائع!! مسيو قومندان!! رائع!! هتفت شمس، وقد سرها جواب القومندان.. تعني أننا سواسية.. متساوون..‏

-بالتأكيد مدام.. كلنا بشر.. والبشر سواسية متساوون..‏

-لماذا تستعمروننا إذن؟ لماذا تعتبرون أنفسكم فوق ونحن تحت.. أنتم كل شيء ونحن لا شيء.‏

-من قال ذلك؟ رد القومندان وقد وجد نفسه فجأةً في موقف الدفاع يشير له المدعي العام بإصبع الاتهام، أنتم أيضاً شعب عريق الحضارة.. أنا أعلم ذلك.. وأدافع عنه.. أريد لكم الحرية كما أريدها لشعبي.. صدقوني.. لم أكره يوماً كالاستعمار ولم أقف يوماً إلا مع تحرر الشعوب واستقلالها.‏

-أنت تكره الاستعمار، تؤمن بتحرر الشعوب، عادت شمس للسؤال وهي تريد أن تحل لغز الرجل.. مع ذلك أنت تخدم الاستعمار، تنفذ خططه وبرامجه.. أليس في هذا تناقض؟‏

-ربما ظاهراً.. مدام.. لكن في الباطن.. بالحقيقة... لا..‏

-كيف والاستعمار يجعلنا على طرفي نقيض.. ظالم ومظلوم، ناهب ومنهوب، مستغِل ومستغَل؟‏

-معك حق مدام.. معك حق.. الاستعمار يفرقنا.. يجعلنا أعداء.. لكن الإنسانية نفسها تجمعنا.. الحضارة البشرية تشد الأواصر بيننا، توحدنا.. أنا أؤمن بذلك، مدام، وحين ينتهي الاستعمار من العالم سنجد أنفسنا أبناء إنسانية واحدة، عالم واحد ومصير واحد..‏

-الله!! هذا هو الحلم، هتف عزيز وقد سحرته الفكرة.. لكن هل يتحقق؟‏

-لم لا، إن استطعنا أن نقيم حكومة واحدة تحكم العالم بالعدل وتسوسه بالقسطاس؟‏

-معقول؟ قومندان رينو؟ أنت تفكر هكذا؟ سألت شمس هذه المرة.‏

-أكيد.. مدام.. أنا أؤمن بالإنسانية، بالأممية، وبسهولة يمكن الآن صنع حكومة تحكم العالم.. عصبة الأمم في سويسرا، ألا تظنان أنه يمكن تطويرها لتحكم العالم؟‏

-تطويرها، وهتلر يهددها الآن؟ سأل عزيز وقد تذكر للتو تعديات هتلر الأخيرة على قوانين عصبة الأمم وتحدياته لقرارات عصبة الأمم...‏

-هتلر خطر.. خطر ولا شك.. لكن إن لم يكن هناك هتلر؟‏

-كيف، وهو الآن النجم الصاعد في السماء؟ سألت شمس، هي التي تعلم كم بات يتحدث عنه الناس... كم صار الشغل الشاغل للناس.. بعضهم يحبونه، بعضهم يكرهونه، بل إن بعضهم يبنون آمالاً كبار عليه، "سيخلصنا من بريطانيا وفرنسا كلتيهما.. سينهي الاستعمار في العالم.. سيعيد الحق إلى نصابه في الأرض.. سيخلص العالم من اليهود ويقضي على الأشرار". فقد كانت إذاعته التي تأتي قوية هادرة لا تفتأ تعد الشعوب بالحرية والاستقلال، تتكلم عن تطهير العالم من المستعمرين والمستغلين.. تحريره من الطغاة الظالمين..‏

-هو نيزك.. هتلر نيزك.. يصعد بسرعة.. صحيح.. لكن الصحيح أنه سيحترق بسرعة.. رد القومندان الذي كان يعلم ما يفعله هتلر بأوروبا بل وما ينوي أن يفعله هناك.. فالتقارير التي كانت تأتيه، الأخبار التي كان يسمعها، معلومات الجواسيس التي كان يطلع عليها، كلها كانت تؤكد أن هتلر يبني قوة عسكرية فريدة من نوعها في التاريخ.. قوة يريد منها أن تصنع رايخاً ثالثاً يهيمن على العالم كله وحجته: "عرق أنقى شعب أرقى" إذن لماذا لا يكون الألمان سادة العالم وهم لب العرق الآري وجوهره؟‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:11 AM [ 63 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




عشرات الأسئلة انهالت على القومندان من عزيز وشمس فقد وجداها فرصة للاستفسار عن شغل الناس الشاغل: هتلر وحزبه النازي الذي بات في القلب من اهتمام العالم، في القلب من اهتمام مجلاته، إذاعاته.. فهو لا ينفك من حين إلى حين يفجر لغماً هنا، لغماً هناك.. بهذه الحجة، بتلك، هو يمد أذرعه الأخطبوطية إلى ما حوله في أوروبا.. مهدداً العالم كله بالانفجار، باثاً الرعب حتى في قلب تشامبرلين بريطانيا، تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.‏

القومندان يعلم ما يشكله هتلر من خطر.. وهو يجيب على الأسئلة بصدق وبصراحة.. ما عدا سؤالاً واحداً لم يستطع الإجابة عليه.‏

-هل سيفجر هتلر الحرب؟ وإن فجرها هل يفكر حقاً باجتياح فرنسا؟ سأل عزيز فلم يملك القومندان إلا أن يقشعر بدنه وهو يتصور الأهوال التي يمكن أن تجرها حرب كهذه على بلاده، الدمار الذي يمكن أن توقعه في بلاده.. ولرغبته في التخلص، نهض وهو ينظر إلى ساعته:‏

-المعذرة.. تأخرت ويجب أن أذهب.. قال وهو يمضي على عجل، في أثره أمانة مرسلة إلى باريس وأبوان يحمّلانه السلام إلى فلذة الكبد في باريس.‏

القومندان يحفظ الأمانة ويرعى العهد.. هو يشعر أنها أثقل على ظهره من الجبل، ألم يقولوا "حملوا الجمل أمانة فناخ تحتها"؟ القومندان كذلك، خشي أن ينيخ تحت الأمانة فسارع يتصل بالأخضر لكنه لم يجده، "هو طالب مجدّ، والمجدّ يظل طوال النهار في الجامعة، ردت عليه البترونة، صاحبة "البنسيون". في المساء بلغته الخبر فأحس الأخضر بأنسام منعشة تدغدغ وجهه "رائحة أمي وأبي!! شميم أهلي ووطني!! آه كم أنا مشوق لكم يا أهلي ووطني!!" ولم يجد نفسه إلا وهو يطبع القبلات الحرى على وجنتي "البترونة " العجفاوين المتخددتين.‏

-أنت مسرور؟ سألته العجوز ذات الجلد المتجعد والوجنتين المخددتين وقد فاجأتها قبلاته.‏

-كثيراً!! كثيراً، هتف وهو يكاد يطير فرحاً.‏

-إذن، هو بانتظارك غداً، الساعة العاشرة صباحاً..‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:11 AM [ 64 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




ومن جديد قبل البترونة قبلات حرى ثم مضى إلى غرفته.. كانت تلك هي الغرفة الثالثة التي يبدلها خلال عام. "البنسيون الأول" كان بعيداً عن جامعته، وكان لجهله بالمدينة يريد أي مكان يؤويه، لكن لم يمض شهران حتى ذاق الأمرين، باريس كبيرة واسعة ممتدة ولا يعقل أن تكون جامعتك في شرقيها ومسكنك في غربيها، فأسرع يبحث عن بنسيون جديد. البنسيون الجديد كان قريباً شروطه كلها مناسبة إلا أن صاحبته كانت فظة غليظة القلب فلم يملك إلا أن ينفض من حولها. نظام صارم قاس كانت تفرضه على البنسيون حتى ليخيل إليك أنك في ثكنة عسكرية... وهي الجنرال الأعظم... كل شيء لديها بنظام: الطعام، النوم، الاستيقاظ، الحمام، المرحاض. ولم يملك الأخضر إلا أن يعجب: كيف يمكن أن يكون المرحاض بنظام؟ هل يمكن للمثانة والشرج أن يلتزما بنظام؟" لكنها هي كذلك.. تريد أن تكون المهيمنة المسيطرة وكل ظنها أنها في بنسيونها ربان سفينة لا يخرج أحد في سفينته عن طاعته.‏

في "البنسيون" الثالث وجد الأخضر ضالته.. خمس دقائق أو ست تفصله عن جامعته. الماما كلارينس هي الرعاية ذاتها، الرأم والحنان ذاتهما حتى لتذكره بأمه شمس.. في الصباح توقظه حسب الطلب.. غداؤه، عشاؤه، كل ما يحتاجه يأتيه إلى غرفته، فكلارينس ليست كالمدام رولان تلك التي تلزم كل من في البنسيون بالجلوس إلى مائدة الغداء أو العشاء وفي وقت محدد لا يزيد دقيقة ولا ينقص. كلارينس عجوز في الستين، خاضت غمار الحياة بكل ميادينها وساحاتها، بدءاً من ساحة الفلاحة والزراعة وحتى ساحة بيع الهوى. كان أصلها الريفي يأبى إلا أن يظهر عفوية وطيبة وكانت قد تنقلت بين جنوبي فرنسا وشمالها، سنين طويلة تشردت وارتحلت.. في الحرب الأولى عرفت طعم الجوع والخوف وهربت من الجوع والخوف إلى باريس. استقرت أخيراً في باريس. تعرفت إلى رسام يدمن المونمارتر ومن بيت ذلك الرسام صنعت بنسيونها بعد أن أسلم الزوج وداعته.‏

البنسيون مريح، غرفة الأخضر مريحة، حاجاته مقضية، طباخ وخادمة يقومان بكل ما يحتاجه النزلاء والماما البترونة تعرف كل نزيل: ماذا يحتاج، كيف تلبي حاجاته، فاستعذب الأخضر المقام.‏

النهار في الجامعة، الليل في غرفته.. الأخضر سعيد.. دورة اللغة مر بها بنجاح، الفصل الأول من سنة الطب بدأه.. هنا كل شيء يوظف لخدمة الإنسان، لتوفير راحة الإنسان... الأخضر يشعر بطعم مختلف للحياة. في ما حوله، الناس أحرار، لا أزمات لديهم، لا هموم، لا مشاكل.. بل عمل.. كل يمضي إلى عمله، حتى ليتعذر على الأخضر أن يجد امرءاً يتسكع في شارع أو يجلس في مقهى يشرب النارجيلة أو يلعب النرد. حقاً!! أين مقاهي النارجيلة؟ أين يلعبون النرد؟" سأل جانيت ذات مرة، وقد مضى عليه بضعة أشهر في باريس. ضحكت جانيت ضحكة القهقهة ثم هزت رأسها "نارجيلة!! نرد!! عم تتكلم، أخضر؟" سألته، ملؤها التعجب، وكأنها تسمع كلمات غريبة لم تسمع بها من قبل، ماما كلارينس كانت قد سمعت بها لكنها أكدت له " لن تجد في فرنسا من يدخن نارجيلة أو يلعب نرداً.. هذا شغل العاطلين الباطلين عن العمل" وعاد الأخضر بذاكرته إلى الشرق حيث تفترش ضفتي بردى مقاهٍ لا عد لها ولا حصر...‏

ملؤها النارجيلات وطاولات النرد. كان الأخضر قد تعرف إلى باريس، شوارعها، ساحاتها، معالمها، ففي الجامعة أوقات فراغ وثمة أيام عطل لا يقضيها كلها في القراءة والكتابة. كان يريد أن يعرف جيداً عاصمة الفرنساوي، ذلك القوي المهيمن الذي يستعمر بلاده... وكان قد اكتسب أصدقاء زنوجاً، صفراً، بيضاً، حمراً، فالفرنساوي القوي يبسط سلطانه على بلاد شتى من قارات شتى.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:11 AM [ 65 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




الأخضر لا يهتم بالسياسة كثيراً لكنه ليس جاهلاً بها تماماً... جلساتهم في "بوفيه" الجامعة، في النادي، لدى بعضهم بعضاً، تجره إلى النقاش في السياسة، إلى تناول مسائل راهنة وقضايا ساخنة، فكيف يظل جاهلاً بالسياسة؟ ثم إنه في بلد المستعمر ولا يغريه كأن يعلم ذلك الفرق الحضاري الذي جعل من وطنه مستعمراً ومن الفرنساوي مستعمراً.. فوارق كثيرة لمسها الأخضر لمس اليد.. أشياء كثيرة لم تكن قد وصلت إلى دمشق وجدها في باريس، منجزات حضارية لا تعرفها دمشق تعرفها باريس.. وبات الأخضر على يقين "المسألة مسألة حضارة.. على أي درجة من درجات سلم الحضارة أنت، يتحدد وضعك: أعلى أو أسفل، مستعمِر أو مستعمَر، مستغِل أم مستغَل؟" ووجد في ذلك كل حافز لأن يحصل على المزيد من العلم والمعرفة.. "الحضارة هي العلم، هي المعرفة.. بقدر ما نكسب منهما نرتقي سلم الحضارة".‏

-هه.. قل لي.. كيف أنت؟ دراستك؟ بادره القومندان رينو، وهو يستقبله في الموعد المحدد.‏

-أنا بخير.. لا أملك إلا أن أشكرك، سيدي القومندان.. وقدم له كشفاً بما فعل وما أنجز بعد أن جاء إلى باريس.‏

-عظيم!! كنت عند حسن الظن إذن؟ وكما توقعت!‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:12 AM [ 66 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




لكن الأخضر كان مشوقاً لأخبار الأهل، متلهفاً لمعرفة الأحوال هناك.. في بلده حيث يسكن القلب وتهيم الروح، ولم يكن الأخضر ليشبع من حديث القومندان وهو يروي له أخبار الأهل والوطن.. كان يستمع وكله آذان صاغية، وكان يود لو يظل يحدثه حتى آخر الليل... لكن القومندان مشغول.. لديه موعد هام مع جنرال في القيادة.. اعتذر من الطالب واعداً إياه بلقاء ثانٍ قبل أن يعود. أعطاه الأمانة ضاحكاً من الشنكليش الذي أرسلته له أمه.. ففتح الأخضر فمه سروراً ودهشة، لكن السرور الأكبر كان بالرسالة التي قدمها له.‏

في عب اللحم وضعها الأخضر، وهو لا يصدق متى وصل إلى غرفته.. لكن قبل أن يصل تلقته كلارينس وقد لفتت نظرها علبة الكرتون الكبيرة التي حملها بشق النفس..‏

-أوه!! ما هذا أخضر؟ قالت بلهجتها الجنوبسية التي ترفض أن تحول الراء إلى غين كما يفعلون في باريس.‏

-هذه من الأهل.. هناك في دمشق. وأسرع الأخضر يفتح العلبة، يخرج الحلويات.. الموالح.. ثم يبدأ بتوزيعها على أصحابه النزلاء..‏

-أوه!! لا.. لا.. ما هذا قصدت.. دعها لك.. هي من أهلك وأنت أحق بها، لكن الأخضر لم يرد على الماما كلارينس..‏

-بالعكس، مشاركتكم تسعدني أكثر، قال الأخضر وهو يقدم لهم الموالح والحلويات التي لم يروها ولم يعرفوا مثيلاً لنكهتها من قبل.‏

-أنتم عرب كرماء.. أنا أعرفكم.. تحبون العطاء وتكرهون البخل.. حسبك.. حسبك.. قالت له الأم كلارينس وهي توقف سيل أريحيته ثم تحمل معه العلبة إلى غرفته. "تحبون العطاء لكن أنتم تحبون الأخذ.. فضيلتنا الكرم وفضيلتكم البخل...‏

أليس هذا ما يميزنا عنكم.. نحن الشرق وأنتم الغرب؟".‏

كان الأخضر يخاطبها سراً، وهو يدخل بقية الحاجات التي جاءت من دمشق تحمل أريج دمشق. على سريره استلقى، أخرج الرسالة وشرع يتشممها.. "آه!! بالشميم العرار!! يا لعطر الفل!! يا لعبق الياسمين!!" بيدين مرتعشتين فض الرسالة، وبعينين شبه مغرورقتين بدأ يقرأ.. سعيداً بأخبار الأب.. بنجاح تجارته.. مسروراً بنجاح مناف أخيه، بنجاح بدور إلى "البروفيه".. كل شيء على خير ما يرام.. ديباجة الرسالة حملته عالياً على بساط الريح. "سلام سليم أرق من النسيم وأحلى من العافية على قلب السقيم".. "أجل.. سلامكم أحلى من العافية وأرق من النسيم فكم أنا مشتاق إليكم!! "خاطبهم من بعيد وهو يتابع قراءة الأسطر التي خطتها يد الأم.‏

".. تخص وتهدي روحكم الزكية وأنفاسكم البهية". "إيه! إن هذه إلا أنت أيتها الأم!! يا أزكى روح وأبهى نفس!! يا نبع الحنان الذي لا ينضب! يا سلسبيل الحب المتدفق أبداً شلالاً من دفء وعطاء!!"‏

لكن فجأة توقف الأخضر.. "خبر مزعج سأنقله إليك.. أنا أعلم أنه مزعج، لكن لا بد من أن أخبرك به... مسكينة روضة ابنة جارتنا خرست.. أصبحت عاجزة عن النطق". ومن جديد أعاد قراءة الأسطر وهو لا يصدق ما يقرأ. "روضة صارت خرساء!! بكماء!! صماء!!؟ لا.. الأم لا تقول انها صماء.. بل عاجزة عن النطق، تهمهم، تدمدم، تخرج أصواتاً لكنها تظل مبهمة لا يستطيع أن يفهمها أحد.. لكن كيف؟". الرسالة تروي حادثة الخرس بكثير من التفاصيل "جاءها عريس!! رفضته أمام الأم لكنها خافت أن ترفضه أمام الأب... انعقل لسانها وعجزت عن الإفصاح!! "معقول هذا يا ربي!؟" راح الأخضر يتساءل وهو يقلب الرسالة بطناً لظهر وظهراً لبطن"... روضة الصبية المرحة، الشيطانة المهذارة، ذات اللسان بأربع شعب تصاب بالبكم!؟ تصبح عاجزة عن الكلام؟ يا إلهي!! أي لغز هو الإنسان!! "ومن جديد راح يبحث في الرسالة عما يحل ذلك اللغز، لكن الأم لم تكن قد كتبت له شيئاً.. فكرت أكثر من مرة أن تكتب لـه "هي تحبك، تريدك أنت ولا تريد سواك، ولسوف تنتظرك إلى أن ترجع إليها" لكنها خشيت أن يؤثر ذلك في ابنها، أن يشعره بالذنب، أن يعيقه عن متابعة دراسته، فصمتت. إشارة وحيدة فقط كانت قد سجلتها في زاوية مهملة من الرسالة "الدكتور الشهبندر يعالجها الآن.. هو يقول ان السبب سيكوروجي.. لا أدري ماذا". ولم يملك الأخضر إلا أن يضحك.. بعدئذ تابع. "ثمة شيء في نفسها تخفيه وهو ذاته ما يمنعها من الكلام!!" "أهو تلميح من أمي لي!؟ ماذا تريدني أن أفهم منه؟"..‏

طوال بعد الظهر، ظل الأخضر يفكر حزيناً شارداً إلى درجة لم يسمع معها الصوت الناعم الذي كان يسأل عند الباب:‏

-الأخضر هنا؟‏

-أجل!.. هنا.. تفضلي جانيت.. ادخلي.. ردت الماما كلارينس، لكن الأخضر لم يسمع الرد.. لم يسمع وقع الخطى المقتربة، بل لم يستطع التخلص من شروده إلى أن دخلت جانيت الغرفة شبه هاتفة:‏

-أوه!! أخضر!! أين أنت؟ لم أرك اليوم في الجامعة؟ وقبل أن يتاح له الوقت للنهوض من سريره، كانت جانيت قد وصلت طابعة قبلة على خده الأيمن ثم أخرى على خده الأيسر، دافعة به إلى النهوض..‏

-كنت عند أخيك، رد الأخضر وهو يقف على الأرض بشيء من تعثر.‏

-القومندان رينو جاء؟ سألته بتلك اللامبالاة التي تميز أهل الغرب.‏

-لم تعلمي.. إذن!؟ جاء أمس وجاء لي بحاجات وحاجات من دمشق.. أتشربين القهوة العربية؟‏

-أشرب.. أجابت الفتاة المرحة ضاحكة، لكن بشرط.. وتوقفت لحظة تنتظر سؤال الأخضر عن الشرط، لكنه لم يأت فاستأنفت: ألا تكون مرة..‏

-مرة!! لا.. لا.. حلوة سأصنعها لك حلوة.. كالعسل.. قال وهو ينحني على علبة الكرتون، يخرج كيس البن ثم يمضي به إلى المطبخ فليس يسعده كأن يشرب فنجان قهوة مع جانيت... الفتاة الرشيقة ذات العشرين ربيعاً والعينين الزرقاوين والشعر الأشقر حتى درجة الصهب، تلك التي كانت أول من تعرف إليها في باريس.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:12 AM [ 67 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




جانيت تدرس اللغات الكلاسيكية والأدب الكلاسيكي في السوربون، وعليها اعتمد في التسجيل بالجامعة، كانت له العون في فصل اللغة، ساعدته في شراء الكتب، في تعريفه بباريس، مدينة الحضارة والنور، جانيت لم تبخل عليه بشيء.. هي فتاة ذكية شجاعة واثقة من نفسها، واسعة الإطلاع ورغم أنها لا تكبره أكثر من عامين إلا أنه كان لا يملك إلا أن يندهش كلما دخلا حواراً أو علقا في نقاش. كانت تعرف الأدب اللاتيني، الأدب الإغريقي وتقرأهما بلغتهما الأم.. إن أرخى لها الحبل حدثته عن هوميروس، سوفوكليس، فرجيل وأسماء أخرى لم يسمع بها من قبل. هي معجبة بشعر الرومان لكنها معجبة أكثر بمسرح اليونان وفلسفتهم.. وهي لا تفتأ تبحث وتستقصي.. ذات مرة جاءت فرحة "أتعلم، ماذا اكتشفت اليوم؟" "ماذا؟" سألها الفتى الشرقي الذي كانت تفاجئه دائماً باكتشافاتها: أعظم فلاسفة الأغريق إما أنهم من الشرق أو درسوا في مدارس الشرق.. في مدارس حمص، صيدا.. صور أي عندكم في بلادكم.. وشعر الفتى الذي لم يكن قد درس الأدب الكلاسيكي ولم يتعمق في معرفة حضارة الإغريق بكثير من الزهو "صحيح!؟ أنا لا أعرف ذلك" أجابها الفتى فاندفعت تحدثه عن فيثاغورس، زينون، أفلاطون، إلى أن فاجأته من جديد بقنبلة أخرى "كما اكتشفت أيضاً أن الإغريق أخذوا حسابهم وآلهتهم عن البابليين، علوم الفلك والهندسة عن المصريين بل حتى أبجديتهم أخذوها عن الفينيقيين!! يا إلهي!! كم هو عظيم الشرق إذن!! كم له من فضل علينا هنا!! على البشرية جمعاء!! "حينذاك شعر الأخضر بزهو شال معه رأسه عالياً كما شعر باحترام شديد للفتاة التي تبحث وتستقصي كي تعرف وتعترف. "لكن لماذا لا يعترف الغرب بذلك؟ لماذا يعتبر أن أصل الحضارة الإغريق؟" سأل الفتى الذي كان يعرف بعض الأشياء عن أهمية الشرق، بلده، في صنع الحضارة البشرية كلها، هو الذي وضع أسس الحضارة ورفع أعمدتها عالياً.. ومن جديد اعترفت له "لعله الكره والحقد، لعله الصراع القديم على السيطرة على العالم: إغريق وفينيق، رومان وهانيبال.. إسلام وإسبانيا.. صليبيون وعرب. فكيف يعترف الغرب بفضل الشرق؟ "ذلك جعله يكبرها أكثر.. هي تدهشه، تبهره أحياناً بأفكارها المختلفة، بآرائها الجديدة، بل يشعر أنه عاجز عن اللحاق بأفكارها أكثر الأحيان.‏

الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:12 AM [ 68 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




فارت القهوة على النار فابتعد الأخضر بالدولة قبل أن تطوف على حوافها.. رائحة القهوة تنعشه، تحمله بعيداً إلى الشرق حيث البخور والهال، المسك والعنبر وتلك الروائح التي لا يشبع المرء من شميمها.. صينية القهوة، الفناجين أعدتهما له الخادمة التي حاولت أن تصنع عنه القهوة "بل أصنعها بيدي.. كي تخرج عربية أصيلة كما أشتهي"، وقدم للفتاة الرشيقة ذات العينين الزرقاوين فنجاناً يتصاعد بخاره تنشقته فانفرجت أساريرها.‏

-شيء منعش!! هتفت وهي ترشف الرشفة الأولى. حقاً!! لا شيء يضاهي القهوة العربية الأصيلة!!‏

طرب الأخضر للإطراء، فانبرى يقدم لها من كل ما أرسلته الأم في الشرق: بقلاوة، كل واشكر زنود الست، بللورية، بعدئذ جاء دور الموالح: البزر الأبيض، الأحمر، الفستق الحلبي، السوداني بل هم بأن يقدم لها الشنكليش والبرغل، لولا صيحات الاحتجاج التي تعالت منها.‏

-ماذا؟ تريد أن تحشوني حشواً؟ ما أطعمتني حتى الآن يكفيني ثلاثة أيام!!‏

وضحكا كلاهما... كانت الفتاة قد أكلت بنهم، شربت بنهم، فكل ما قدمه لها جديد.. تتذوق هذا.. تجده لذيذاً تتذوق ذاك، تجده ألذ وكله جديد طيب.‏

-إذن كم في الشرق من أشياء جديدة علينا غريبة عنا؟ سألت وهي تتلمظ إثر قطعة من البللورية شعرت بها تذوب ذوباناً في فمها...‏

-الكثير!! الكثير!!‏

-تعلم.. أنا أشعر أن كل شيء لديكم مختلف.. كل شيء لديكم أصيل عريق: القهوة العربية، السمنة العربية، الخيول العربية.. ترى هل الرجل العربي كذلك؟.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:13 AM [ 69 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




وشعر الأخضر بدفقة دماء حارة تصعد إلى وجنتيه.. هو لا يدري إن كانتا قد احمرتا لكنه يدري أنه أطرق استحياء!! هذه الفتاة.. كم هي جريئة شجاعة!! "فكر وهو يشيح بوجهه ويبتعد بناظريه. هو يعلم أنها تعرف ما تريد وتعمل على تحقيق ما تريد.. كما يعلم أنها تعرف الرجال ولها تجارب كثيرة مع الرجال.. بعض أصدقائها يعرفهم.. يراها وهي تذهب معهم.. ذاك شأنها الخاص.. وفي الغرب لا أحد يتدخل في شأن خاص.. علاقته بها تبتعد عن كل شأن خاص. هي أحياناً تأخذه بالأحضان حين يلتقيان، تقبله من فمه، تتأبط ذراعه وهما يمشيان، تلتحم به أكثر وأكثر لكن خجله كان يجعله يبتعد، يحاول تجنب المزيد من الالتحام وكانت جانيت تحترم خجله.. تغمز منه أحياناً لكن تحترم رغبته أكثر الأحيان.. ذات مرة سألته "ألم تتعرف إلى فتيات هنا؟ ألم تقم صداقة مع إحداهن؟ "وهز رأسه نفياً" الفتيات بحاجة إلى فراغ وأنا لا فراغ لدي، وقتي كله لدراستي" وتبسمت حينذاك. هو يذكر ابتسامتها حتى اليوم، كما يذكر امتداد أناملها الناعمة الدافئة إلى خده تمسده برفق ثم تنشبك في أنامله.‏

-هه.. أخضر.. ما لك لم تجبني؟ الرجل العربي فحل أصيل كحصانه أم لا؟ سألته وهي تمسح أصابعها بمنشفة بللها الأخضر بالماء..‏

-لا.. لا.. أ.. دري.. بما.. أجيبك.. قال متلعثماً محمر الوجه والعنق..‏

-إذن.. دعني.. أجرب، قالت وهي تنهض عن كرسيها، ملؤها الحيوية والحماسة...‏

ذهبت إلى الباب المفتوح، أغلقت مصراعه على مهل، وعلى مهل حركت الرتاج إلى أن أخذ مكانه، وعيناها على الأخضر كأنما تقولان له "انظر. الباب الآن مغلق نحن في أمان".‏

-جانيت، ماذا فعلت؟ قال، وعيناه تتجهان إلى الباب.‏

-ما يجب أن أفعله.‏

-وكلارينس؟ الخادمة؟ النزلاء؟ ماذا سيقولون؟‏

-لا.. لا عليك.. هنا لا شأن لأحد بأحد، قالت وقد ركعت على ركبة واحدة أمامه. أمسكت بيده ثم رفعتها إلى شفتيها.. حرارة هائلة شعت من أصابعها، من شفتيها. هو خائف، حائر يحاول الابتعاد.. لكن أين يبتعد وذراعاها طوق حوله، وجهها لصق وجهه، تلامس بخدها خده، تندلق بصدرها على صدره فيشعر بما يشبه الارتجاف "يا إلهي!! في المنزل وأمام سمع الناس وبصرهم!؟"‏

-لا تخف، قالت جانيت وكأنها تعلم ما يدور في ذهنه.. الناس هنا ليسوا كناسكم في الشرق، يتدخلون في شؤون الآخرين الخاصة.. هنا.. تغلق الباب عليك يصبح المكان ملكك، لا يسمح أحد لنفسه بانتهاك حرمته، فاطمئن.. خذ راحتك كما تشاء.. مارس حريتك بالشكل الذي تشاء..‏

-راحتي!؟ حريتي!؟ بدأ يردد، وهو يرتعش من أخمص قدميه حتى قمة رأسه، فقد صار أتون النار فوق فخذيه لكن كيف؟ وأخوك؟‏

-وما شأن أخي؟ سألت وهي تنهض عن فخذيه عتباً ولوماً.‏

-أغدر به؟ أخونه بأخته؟ لا.. لا.. هو أسدى إلي معروفاً ومن الغدر أن أرده له ولوغاً في عرضه، تمريغاً لشرفه.. وانطلقت قهقهة عالية...‏

-غدر؟ تمريغ!؟ قالت من بين أمواج قهقهتها.. عم تتكلم يا صديقي؟ نحن هنا في الغرب ولسنا هناك في الشرق.. مثل هذه المفاهيم اندثرت لدينا وبادت.. هنا، شيء واحد يعنينا هو الحب.. السعادة.. الرضى.. ولن يسعد أخي كأن توفر لي الرضا والسعادة، كأن تمنحني الحب!!‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:13 AM [ 70 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




في رأسه ما يشبه الدوار، يسمعها الأخضر، مذهولاً، مبهوتاً متسمراً في كرسيه، فيما هي تخلع قميصها الزهري ذا التشجرات الخضراء... تحته لم يكن غير حمالة نهدين.. الصدر أبيض محمر كبركة من أرجوان، البطن ضامر أخمص، كأنه لم يعرف يوماً الطعام، السرة غمزة ذقن ترسل ألف إيماء.. هو لا يملك إلا أن ينظر.. احمرار وجهه، ارتعاش يديه، خفقان قلبه، كل ذلك لم يمنعه من استراق النظر.. يطرق لحظة لكن عينيه تنشدان إلى الأعلى لحظات.. ثم بدا وكأنهما تسمرتا حين انفكت الحمالة عن النهدين وتنفس النهدان الصعداء.. حلمتاهما اشرأبتا فجأة إلى البعيد، وثبتا إلى الأعلى مهرتين على مرجة ربيع.‏

-ما رأيك؟ أنا حلوة؟ صدري جميل؟‏

وتحركت شفتاه بالرد لكن جانيت لم تسمع صوته.. فقد أحس باضطرام نار يشعل حلقه.. بغصة تسد فمه...‏

-أ.. أ.. أجل.. أفلح أخيراً في التخلص من الغصة.‏

-ما بك لا تتحرك إذن؟ ألست رجلاً؟‏

وكأنما كان ذلك الفتيل الذي أشعل البارود، هب الأخضر.. "هو ذا التحدي.. أنا لست رجلاً!؟ من قال هذا؟ أنا الأخضر بن عزيز سيد الرجال.. فكيف تهان يا أخضر؟ كيف تتحداك امرأة أيها الرجل؟ "ولم يجد نفسه إلا وهو يمسك بها، يطوقها بذراعيه، يشدها إلى صدره، يلقم شفتيه شفتيها ثم يحملها إلى الفراش.. يلقيها عليه ويعري ما بقي من ستر....‏

-الآن علمت لماذا الحصان العربي حسن السمعة واسع الشهرة.. غمغمت جانيت دافنة وجهها في عنقه، وقد همدا هنيهة من الزمن عاريين على الفراش..‏

-تعنين أنني نجحت في الاختبار؟ قال ضاحكاً، وهو يبتعد عنها قليلاً غارساً عينيه في عينيها..‏

-بدرجة امتياز.. قالت ضاحكة هي الأخرى وقد استعادت أنفاسها بعد انقطاع، رادة إليه النظرة نفسها انغراساً وجرأة. وكومض البرق وجد الأخضر نفسه يعود إلى هناك إلى شجرة النارنج في بيتهم الدمشقي، وروضة تختبئ وراءها بخجل واستحياء، ينظر إليها فتهرب بعينيها منه، يقول لها انظري إلي فتزداد إطراقاً إلى الأرض "يا إلهي!! كم هناك من اختلاف!! روضة الحبيبة الخجولة التي تحبه حتى العبادة، لكنها لا تجرؤ على لمس يده، بل تستحيي أن تنظر إليه وجهاً لوجه، وجانيت التي لا تحمل له أدنى مشاعر الحب تتعرى كما حواء وتمارس معه الحب.‏

-هه!! أين شردت؟ لكزته، وهي تتأمل عينيه اللتين غابتا بعيداً..‏

-لا.. لا.. رد في محاولة للتهرب منها ومن أفكاره.‏

-أنت خجول.. خجول كثيراً.. ترى ألم تعرف النساء من قبل؟‏

-أ.. أ.. بداً.. قال متلعثماً وقد عاوده الحياء من جديد.‏

-إذن.. أنا التي فضضت بكارتك!؟ كم أنا سعيدة، أخضر!؟ وانهالت عليه تلثم خده، عنقه، صدره، منتشية بالبكارة التي فضتها للتو.. ومن جديد عاد خياله إلى روضة التي لم تجرؤ يوماً على البوح بحبها له. كانت تدور، تلف، تقترب، تبتعد، لكنها لم تقل شيئاً ولم تبح بالسر الذي ظل دفيناً في أعماقها تضن أن يراه النور.. عيناه مضتا إلى الطاولة حيث الرسالة التي كان يقرأها حين دخلت جانيت.. لحظت ذلك فسألته.‏

-في الرسالة شيء محزن.. أليس كذلك؟‏

-أجل؟! خبر أحزنني كثيراً!؟‏

-ما هو؟ احك لي..‏

وحكى لها الأخضر قصة الفتاة التي عقد الخوف لسانها فأصبحت خرساء.‏

-مسكينة، ألهذا الحد يصل الخوف بالفتاة عندكم؟‏

-كيف لا والساطور الذي يجز الأعناق أمام عينيها؟‏

-شيء محزن حقاً!! الفتاة لا تجرؤ على التعبير عن رأيها، لا تستطيع البوح بحبها، لا تملك حرية اختيار قرينها... ما هذا؟ قالت وقد نهضت تلبس ثيابها تعبيراً عن تغير مزاجها.‏

-هذا هو الشرق.. وهذا ما يحزنني في القصة.. جانيت.. أنا أشعر بالذنب.‏

-كنت تحبها إذن؟‏

-لا.. ليس حباً.. ربما هو مودة.. ألفة..‏

-بالنسبة إليك.. لكن بالنسبة إليها حب، أمل، مستقبل.. وهذا ما سبب لها الصدمة.‏

-ربما.. أمي تقول رأي الطبيب أن خرسها لأسباب سيكولوجية.‏

-اذهب إليها إذن، ربما تشفى إن رأتك..‏

-والدراسة التي بدأت؟‏

-لا أدري.. ما أدريه أن عليك أن تتصرف: اكتب لها.. طمئنها.. عدها بشيء.‏

وكتب لها الأخضر، لكن دون أن يعدها بشيء، فوعد الحرّ دين، وهو لا يريد أن يضع دينا في عنقه قد يضطر يوماً لإيفائه.‏

بنفسه، أوصل القومندان الرسالة إلى شمس.. لم تفاجأ به كعادتها كل مرة، هذه المرة هي أم تنتظر أخبار ابنها بشوق العالم كله ولهفته.‏

-أهو بخير؟ صحته جيدة؟ يأكل جيداً؟ ينام جيداً؟ انهالت عليه بالأسئلة ما إن جلس في غرفة الاستقبال، فرحاً في سره لغياب عزيز...‏

-لا.. لا.. لا تخافي عليه.. الأخضر ذكي، فهيم، وهو رجل يعرف جيداً كيف يشق طريقه في الحياة...‏

-يعني.. صار يعرف باريس.. له أحد هناك.. له أصدقاء؟‏

-أو.. وه!! أصدقاء، صديقات.. بل هو وأختي جانيت صديقان حميمان!! لا يفارق واحدهما الآخر..‏

وأجفلت شمس، لكن دون أن تسمح للإجفالة بالظهور.. هل أوقعته الفرنسية في شراكها، هل علق في فخها؟ وماذا إن ألهته عن دراسته وطبه؟"‏

-يعني رأيته؟ جلست معه؟‏

-مرات.. كان يجيء إلى المنزل مع جانيت.. وكنا نلتقي منفردين.. الأخضر شاب نبيه.. صدقيني سررت كثيراً برؤيته، ومضى يحدثها عن كل ما يحمله من أخبار..‏

-الله كم أشكرك، سيادة القومندان!!‏

-بل أنا الذي يشكرك، فقد أتحت لي فرصة لسماع حديثه العذب..‏

-صحيح!! حديثه عذب؟ وقاطعته شمس بكثير من الفرح: عم كان يتحدث سيادة القومندان؟‏

-أوه.. وه.. عن حياته هناك.. دراسته.. حياته هنا.. طفولته في حماة...‏

وتوقف القومندان لحظة متفرساً النظر في وجه شمس التي بدت وقد انكمشت للتو، على سيماها الانزعاج والضيق، تعلمين؟ لم أكن أعلم أنكم عشتم في حماة.. لماذا لم تحدثيني عن ذلك؟‏

-ولماذا أحدثك؟ مرحلة مضت وانقضت سيادة القومندان..‏

-لكن بودي لو أعرف شيئاً عن حياتكم هناك.. هي تهمني..‏

-تهمك؟ لماذا؟ سألته وقد عادت أنامل الخوف تمسك بقلبها عاصرة إياه.‏

-مدام، أنت الآن صديقتي، عزو صديقي.. وأنا لا أريد أن أتعامل مع أصدقاء أجهلهم.. الفضول يدفعني دائماً لأن أكتشفهم، أعرف كل شيء عنهم...‏

"لماذا يريد اكتشافنا، بل لماذا فرض علينا صداقته، هو يعرف شيئاً، يشك بشيء بالتأكيد.. لكن ماذا عرف من الأخضر؟ أتراه يذكر تلك الأيام؟ أيعلم الأخضر من كان يجيء إلينا أو يذهب؟ يا إلهي!! الرجل مصمم على ملاحقتنا.. فكيف التخلص منه؟".‏

وبدا التخلص منه ضرباً من المستحيل، فالقومندان الدمث اللطيف، الذي يحسن الحديث، يحسن التصرف، بل يقدم الخدمات ويصنع المعروف تلو المعروف، يطوق عنقها الآن بأكثر من قيد.‏

-لا.. اطمئن.. قالت أخيراً وقد تخلصت من أفكارها فيما كان صمت رهيب قد أطبق. نحن أناس بسطاء، حياتنا بسيطة..‏

-بسطاء!؟ حياتكم بسيطة!؟ كيف وأنت الشيخة ابنة الشيوخ؟‏

"يا إلهي!! إذن جررت الأخضر إلى قول ما لم أحب أن يقول؟ إذن، بت لا تعرف قرية عزيز وحسب بل أهلي وعشيرتي أيضاً!؟ فماذا تريد إذن؟ إلامَ تبغي الوصول؟ "هه حضرة الشيخة شمس!! تابع القومندان وابتسامة عريضة على شفتيه، صدقيني.. أنا لم أفاجأ، كلام الأخضر عن أهلك وعشيرتك لم يفاجئني.. كنت أشعر أنني أعامل امرأة غير عادية.. امرأة يجب أن تكون شيخة أو أميرة.. لكن السؤال لماذا تخفين ذلك؟‏

-لا.. ليس... بدأت شمس متعثرة، لكنها توقفت دون أن تعرف ما تقول.‏

-الناس هنا، بل في كل مكان من العالم، يفخرون بأصولهم، بحسبهم ونسبهم.. فلماذا أنت تخفين ذلك.. وأنت الشيخة.. الأميرة.؟‏

-لماذا؟ لا.. لا أدري.. ربما أنا.. وزوجي نكره التفاخر.. نكره الحديث عن الماضي..‏

-ها.. تكرهان الحديث عن الماضي؟ هنا السر الذي أود معرفته؟ فما هو شمس، أيتها الشيخة ابنة الشيوخ.. أي سر تخفين؟.‏

-أهو تحقيق؟ انتفضت شمس فجأة وهي ترى نفسها تحشر في الزاوية.. أرجوك.. كف عن أسئلتك..‏

وتبسم القومندان وقد تيقن أن ذلك يكفي هذه المرة وأن عليه حقاً، أن يكف عن الأسئلة... بدماثته، بكياسته نفسها، نهض الرجل مودعاً، انحنى، هم بتقبيل يدها لكنها سحبتها.. "جيرار!! هو نفسه جيرار!! يريد أن يستجرني إلى مصيبة أخرى!!" وكظمت غيظها.. باذلة كل ما في وسعها علها تستعيد دماثتها:‏

-كل الشكر لك، سيادة القومندان.. غمرتنا بأفضالك ولا ندري كيف نرد لك تلك الأفضال؟.‏

-بسيطة، رد القومندان ضاحكاً وكأنه لم يصدّ قبل لحظة، تدعينني إلى منسف ثريد..‏

-هو كذلك.. لكن بعد أن يعود.. ردت ضاحكة وهي تشير إلى باحة البيت الفارغة وكأنما تشير إلى رب البيت الغائب، ثم ما إن أغلقت الباب وراءه حتى أسرعت إلى مخدعها، ألقت بنفسها على السرير متنفسة الصعداء، وكأنما انزاحت عن صدرها صخرة صوان.. ساعة، ساعتين، التقطت أنفاسها ثم عادت إلى الرسالة تشمها، تلثمها، تلتهم ما كتبه لها الأخضر التهاماً. كلماته تمس شغاف قلبها، تدخل هناك إلى الأعماق، تبلل كالندى أزاهير الشوق المتفتحة للفتى الطويل الرشيق الذي لم يمتلئ بعد. "أمي الحنون.. أمي الحبيبة"، تقرأ شمس فتبرد نار هناك في صدرها، تطمئن أنفاس في صدرها وتسري راحة في أوصالها". أخباره سارة، أحواله مطمئنة.. "حمداً لك يا رب!! سيعود إلي الأخضر ظافراً مظفراً!!لكن أتراه يعود إلى روضة؟" راحت شمس تتساءل وهي تقرأ فقرة الرسالة التي يسأل فيها عن روضة. هو يقسم انه لم يبادلها كلمة حبٍ ولم يعدها بعهد، ولا صار بينهما شيء.. ثم يلوم: "إن كانت تحبني إلى هذه الدرجة، لماذا لم تقل لي؟ لماذا كتمت مشاعرها طوال الوقت؟" أسئلة وجيهة، لكن من يستطيع الإجابة؟‏


الأعلى رد مع اقتباس
إضافة رد
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تأملات على الطريق دق تحية قدامك مهرسية مرافئ البوح 10 02 Feb 2011 10:22 AM
تأملات على الطريق مجدي الشدادي القسم العام 4 12 Feb 2010 10:10 AM
الطريق خوي الذيب قصائد مختارة 10 08 Jan 2007 10:47 PM
وجه الطريق دايم الشوق قصائد مختارة 18 12 Apr 2006 02:22 PM
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

02:11 PM
Powered by vBulletin® developed by Tar3q.com