..:.. مرحباً بك في شبكة الشدادين الرسمية ، ضيفنا الكريم يسعدنا دعوتك للانضمام والمشاركة معنا .. اضغط هنا لتسجيل عضوية جديدة ..:..


آخر 10 مشاركات فُوُقٌ قٌمة !    <->    نشاط روضة الذاكرين    <->    قلب نابض رُفعت الجلسة !    <->    قلب نابض عبر عن نفسك بأنشودة أو شيلة    <->    سهم مكتبة الشدادين للصوتيات والمرئيات    <->    قلب ثرثرة على شغاف الواو    <->    T9mem مجموعة ألوان للأعضاء (وقله من البال ما أغيب ولا مرة) 2024    <->    اسباب بحة الصوت    <->    Momyz ما الفرق بين الهيروين والكوكايين والأفيون وما مخاطرهم الصحية؟    <->    الكبد مع الخضروات    <->   
مختارات   العاقلُ لا يستقبلُ النعمة ببطرِ ولا يودعها بجزعِ   
مواضيع ننصح بقراءتها مجموعة الوان للاعضاء وقله من البال ماغيب ولامره2024
العودة   شبكة الشدادين > المنتديات الأدبية > منتدى القصص والحكايات > كتّاب المنتدى في القصص والرواية الأدبية
 
أدوات الموضوع
إضافة رد
  [ 1 ]
قديم 13 Apr 2006, 12:31 AM
عضو متميز

كديميس غير متصل

مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص


تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83
الملف الشخصي للكاتب
إضافة تقييم
الرد على الموضوع
ارسال الموضوع لصديق
طباعه الموضوع
تبليغ عن الموضوع
الطريق إلى الشمس - عبد الكريم ناصيف



ــ 1 ــ‏

ـ واحد أحد!! الله أحد!!‏

بدأ صاحب البيدر يكيل الحنطة، مالئاً مكياله الخشبي واضعاً إياه في العدل.‏

ـ اثنين، يا موفي الدين، تابع بصوت أعلى وهو يمسح المد الخشبي الذي ربما استخدمه أبوه وجده مكيالاً للحنطة والشعير، ثم أفرغه في فم العدل الجائع.‏

ـ ثلاثة، يا مجير من الشماتة، نغّم الفلاح بلهجة حورانية سرعان ما عادت بعزيزٍ وهو يتربّع بجانب صبة الحنطة، إلى أولئك الفتيان البداة الذين جاؤوا، ذات يوم من صباه، بغاة طغاة يأمرون "املا العدول.... املا....".‏

وحين رفض أن يملأ العدول انهالوا عليه بالخيزرانات طامعين في أن ينهبوا حتى الثوب الذي يلبسه: "افسخ الثوب... ملعون الوالدين... افسخ الثوب"، ثم لم ينقذه من براثن الموت إلا ظهور الفارس الملثم الذي تكشف فيما بعد عن شمس، حبيبته....". إيه يا لتلك الأيام!! يا شهد العسل....!!".‏

وأطلق عزيز تنهيدة كادت تفضحه لولا أن كتمها آخر لحظة، فالرجال المتحلقون حول الصبة، بدافع الفضول من بعض والعمل من بعضهم الآخر كانوا لا يغفلون لحظة واحدة عن حركات التاجر الشامي، الذي يتكلم اللهجة البدوية مثلهم، ويتقن فن الأخذ والعطاء، ويأتيهم كل موسم لينقل حبوبهم إلى المدينة التي تلتهم كل شيء، ودائماً تلتهم كل شيء، سائلة: "هل من مزيد؟!"، اهراءات روما نفسها، سهول حوران، بكل غلالها لا تشبع المدينة، فأين تذهب بها يا ترى؟ في المواسم الخصبة وحين تجود السماء بالأمطار وتجود التربة بالغلال الوافرة يخشون أن تكسد غلالهم. لكن يأتي عزيز وأمثاله فلا يبقى منها شيء. عشرة جمال كانت تنيخ بجانب البيدر، تنتظر أن توضع على ظهورها الأحمال. عزيز يسمع بعضها يرغي بشيء من قلق، وهي تلتفت يمنة ويسرة كأنها ملت الانتظار، لكن بعضها يرقب كيل الحنطة وإملاء العدول مجتراً مافي جوفه بصمت الخضوع وسكينة التسليم.‏

اثنان من الفلاحين بدأا ينقلان العدل الذي امتلأ جانباً، الآخرون يشاركون بالكيل والعد، وكلهم مبتسمون متفائلون. على البيدر لا يجوز التشاؤم أو أصيب البيدر بالنحس وضربت الغلة. حسب الفلاحين التجار الذين يأتون من دمشق وليس في ذهنهم إلا أن يستغلوهم ويبتزوهم". المد بعشرين قرشاً"، يقول التاجر الذي لا يشبع وعلى الفلاح المسكين الذي قضى عاماً بطوله يفلح ويبذر، يحصد ويرجد، يدرس ويذري، أن يرضى بالعشرين قرشاً، فيربح التاجر بالمد الواحد أضعاف ما أعطاه للفلاح......‏

وحده عزيز الذي كانوا يعرفونه باسم "عزو" مختلف. هو لا يساوم ولا يريد أن يبتز، يقول لهم "المد بأربعين قرشاً"... بخمسين"... معنى ذلك أن سعره هكذا!!.. أربعون... خمسون قرشاً في سوق الحبوب في دمشق. منذ سبع سنوات كان قد جاء برفقة صبري البديوي سليل تجار الحبوب في ذلك المحل الواسع من سوق الميدان. صبري قال لهم إن أصله من عرب الرولا وإن صداقة حميمة تربطه به. تلك الصداقة جعلته شريكاً له وجوالاً يتحرك باسمه هنا وهناك من قرى حوران. بعدئذ بدأ يأتي بمفرده فارضاً على الناس احترامه، محيطاً نفسه بهالة من غموض، كاسباً ثقتهم شيئاً فشيئاً حتى صار الأثير لديهم لا يبيعون حبوبهم إلا له"... هذا العام المد بخمسين قرشاً".. بشرهم حين جاء أول مرة، وأشرقت وجوههم، فنصف ليرة للمد تعني لهم الكثير.‏

ـ صب الشاي لعمك عزو... صب الشاي... صاح الكيال بابنه الذي جاء بإبريق الشاي الكبير وحشد من الكؤوس، فيما توقف شبه لاهث عن كيل القمح..‏

ـ إن شا الله ماهو حلو؟ قال عزيز مبتسماً للولد الذي بدأ يصب الشاي.‏

ـ شاي حوراني وماهو حلو؟ تدخل أحد الحاضرين ملوحاً برأسه، فيما انفجر الكل ضاحكين.‏

عزو يحبها "اكرك عجم" ثقيلة مرة، هكذا قال لهم منذ أول مرة، ومنذ أول مرة خاب أمله ومايزال: "ايه" يتأوه دون صوت، وهو يتذكر كأس "الأكرك عجم"، الذي شربه ذات مرة في القلمون فكاد ينعقد له لسانه... كانوا إذ ذاك يستريحون: فوزي القاوقجي، سعيد العاص، وبعض القياديين في أحد بساتين قارة، وقد أعدوا القوة اللازمة لقطع الطريق على الفرنسيين الذاهبين بمصفحاتهم إلى دمشق.. كانت ثورة حماة قد وئدت في المهد، وكان عزيز قد أوصل "شمساً"، إلى أهلها في البادية حيث كان الأولاد قد سبقوها ثم عاد فالتحق بقائده. شهرين ظلوا متمترسين بجبال القلمون ومعاصيها، يناوشون الفرنساوي ويهاجمون مخافره وجنوده. كان سعيد العاص هو قائد المنطقة هناك وكانت مهمته قطع الطريق على قوات المستعمر وعزل دمشق عن حمص، فوجد فوزي القاوقجي في القلمون المكان المناسب للانتقام من عدو أجهض ثورته الواعدة في حماة.‏

كان تكتيكهم "اضرب واهرب"... " تفرقوا إذا اجتمع العدو وتجمعوا إذا افترق"...وكانت شعاب القلمون ووديانها، جرودها وصخورها، كفيلة بالتغطية والتمويه.‏

ضربات سريعة كانوا يضربون، هجمات مفاجئة وغارات من حيث لا يحتسب العدو، كانوا يغيرون، وكان لهب الثورة في جبل العرب يتراقص مضيئاً لهم حلكة الظلام. سلطان باشا في عرينه يكيل لهم الضربات، وثوار الغوطة يحيلون الغوطة إلى غابة للأسود.‏

"إيه!! حياك الله يا سعيد العاص، أيها القائد الفذ!!"رشف عزيز رشفة سريعة من كأس الشاي شديد الحلاوة خفيف النكهة، فعادت إلى ذاكرته نكهة ذلك الشاي الأكرك عجم الذي أوصى عليه سعيد العاص. هو أيضاً كان يحب ذلك النوع من الشاي: "يفتح المخ"، كان يقول: "يقبض على الأعصاب من جذورها، ثم يشدها فينبهها. "يومذاك كانوا بحاجة لكل مافيهم من أعصاب وتنبه.... كانوا يكمنون للقوة الفرنسية في ذلك البستان، وكان عليهم ألا يغفلوا لحظة واحدة، القوة قد تصل في أية لحظة... والمفاجأة يجب أن تكون كاملة..... كأساً كبيرة، كأسين، ثلاثاً شرب سعيد العاص، فهو يخشى حتى الاسترخاء...... عزيز شرب كأساً واحدة، وكانت كافية لأن يظل متنبهاً حتى مطلع الشمس. كان الشاي أكرك عجم حقيقياًـ طعمه مايزال تحت أضراسه حتى الليلة... حيث الناس غير الناس، والمكان غير المكان، والمناسبة غير المناسبة. عشرة عدول كان أبو دحدل قد ملأ، وكان لهاثه قد بدأ يعلو ووتيرة عمله قد خفت فانبرى أخوه يريحه.‏

فك أبو دحدل إناخته الأشبه بإناخة الإبل القريبة منه، ونفض شيئاً من الغبار عن ركبتيه وثيابه، ثم زحف على عجيزته باتجاه عزيز.‏

ـ أنا لم أتعب...ها!! خاطب أبو دحدل الجمع حوله وكأنما قرأ اتهاماً في أعينهم، هو الذي لا يرضاها واطئة أبداً. إذ رغم سنواته الخمسين كان الرجل يصر على أنه كالشباب قوة واقتدارا.‏

ـ البركة فيك أبا دحدل، خاطبه عزيز مربتاً كتفه، فالمختار الخمسيني، ذو النساء الثلاث والأولاد العشيرة الذين لا يعرف أسماء بعضهم، كان لطيف المعشر ودوداً، وكانت تربطهما علاقة حميمة عمرها سنوات...... ينزل عزيز في مضافته إذا جاء "الخربة"، ويستضيفه عزيز إذا جاء المختار دمشق.... أنت شباب دائم!! تابع بمسحة من هزل... فقد كان الرجل الخمسيني مايزال يلهث....‏

ـ غصباً عنك!! رد المختار بمسحة الهزل نفسها... فضحك الرجال المتحلقون وقد اعتادوا مزاح الصديقين... إي مالك علي يمين، شعرة واحدة ما تغيرت منذ عشرين سنة....‏

ـ وشواربك الّتي ابيضت مختار؟ ذقنك التي شابت؟ تدخل أحد الحضور ممن لم يكن يقل عن المختار ابيضاض شوارب وشيب ذقن.....‏

ـ الشيب صباغ خارجي يا رجل.... المهم هنا.... وهنا أيضاً، رد المختار وهو يشير إلى صدره ثم إلى ماتحت سرته.‏

ـ إذا كان قولك صحيحاً لماذا بدأت نسوتك يتهامسن أنك قصرت؟‏

ـ خسئن... أبو دحدل مايقصر أبداً... أنا مثل ماقال أخي عزو شباب دائم... أشعر الآن وكأني أهجم على القطار... أتذكر أبا شدهان؟‏

ـ أنا الذي يذكر... رد أبو شدهان الأكثر ابيضاض شوارب وشيب ذقن... يومذاك أشهد لله وبالله... كنت زين الشباب.... فحل الفحول...‏

القصة يعرفها عزيز، فقد رواها له أبو دحدل عشرات المرات.... لكن أحد الفتيان ممن لم يكن يعرفها أثير فضوله فهب حاثاً المختار.‏

ـ صحيح...عمي أبا دحدل!! ماذا فعلتم يومذاك؟‏

ـ هـ..هـ...هـ...ي.... هوهأ المختار ضاحكاً، ضارباً الهواء بيديه كلتيهما، نافخاً صدره وكأنه يريد عب ذلك الهواء كله... عينك ترانا ونحن نهجم على القطار...كأنه يوم الحشر... ياوليدي.. ألوف مؤلفة... بالعصي، بالمناجل، بأسياخ الحديد، بالحجارة، أوقفنا القطار، قتلنا جنود الفرنساوي... ذبحنا رئيس وزرائهم بطوله وعرضه، دعسنا وزراءه بأرجلنا... قتلنا الضباط.... معركة خربة غزالة.... أشهر معركة بثورة حوران، ماسمعت بها ياوليدي؟... طبعاً، كان الوليد قد سمع بها لكنه، ربما، كان بحاجة لبعض التفاصيل التي تنعش نفسه بما تنفحها من عزة وكبرياء.... فتلك الثورة حدثت حين كان هو نفسه في بطن أمه، ومذ ولد لم ترَ عينه سوى "الشيف" الفرنساوي و"الكابورال" السنغالي يجلدان أهل الخربة فلا يرفع واحدهم رأسه. "أين ذهب ذلك الزخم؟ أين وئدت تلك الحماسة التي ألهبت صدور الناس فانقضوا على قطار علاء الدين الدروبي يدمرون ويقتلون؟"..‏

ـ الناس نعَّجت، قال أبو شدهان وكأنما أدرك ماكان يعتمل في ذهن الفتى .... ماعاد أحد يحتد أو يثور....‏

ـ كأنهم عجّز هرمون، شباب هذا الجيل..... تابع آخر من الجيل نفسه وهو ينظر باتجاه اثنين أو ثلاثة من الجيل الأصغر سناً، كأنه ماعاد فيه شباب.‏

ـ لا، فيه شباب... احتج أحد أولئك الثلاثة، لكن مافيه أمل... هناك يأس كامل في قلوب الناس.... في كل مكان اليأس....‏

ـ صحيح... أخي عزو.... تدخل المختار شبه مقاطع، إيش يقولون بالشام عن هذا اليأس؟ أسبابه؟‏

ـ القسوة، البطش... أجاب عزيز بعد إطراقة وآهة، فقد أثار كلام الفتى في نفسه شجوناً وشجوناً....‏

ـ ماتعني عزو أفندي؟‏

ولم يملك عزو إلا أن ينكمش، فقد كان أكثر مايزعجه أن ينادوه بكلمة أفندي أو بيك... تلك الألقاب التي كان أهل الريف يطلقونها على كل من يجيئهم من المدينة... عشرات المرات توسل إليهم أن ينادوه باسمه مجرداً: "عزو"، "أبا العز"، "أبا الأخضر"، لكن عبثاً... يخرج له أحدهم على حين غرة ويفاجئه بهذا اللقب أو ذاك... بلع عزيز ريقه، بالعاً معه اللقب الذي وقف غصة في حلقه لحظات، ثم أجاب:‏

ـ تعلمون... ثورات عديدة قامت على فرنسا حين دخلت بلادنا... في جبال اللاذقية، في جبل الأربعين.... في دير الزور، في حماة، هنا في حوران، في جبل العرب... الغوطة، دمشق كلها كانت ثورات ترفض الاستعمار والانتداب... تنادي بالحرية والاستقلال... لكن كلها بطشت بها فرنسا، ضربتها بقسوة وجبروت... كم دمرت من أحياء!! حرقت من قرى، قتلت من أبرياء...... نسيتم حملة غاملان؟ ثلاثون ألف جندي هاجموا الجبل... حرقوا الأخضر واليابس... هذا البطش هو الذي أخاف الناس، زرع في نفوسهم اليأس....‏

ـ يعني.... الاستعمار باقٍ.... لا أمل؟ سأل أحد الشبان.‏

ـ يعني صخرة فرنسا على صدرنا ولن تتزحزح؟ سأل ثانٍ.‏

ـ أموالنا يأخذونها.... حبوبنا باسم الميرة يصادرونها.... أعراضنا ينتهكونها.......‏

هدر شاب ثالث.‏

ـ لا...لا... صاح المختار محتجاً مقاطعاً، لا تقلبوها سياسة.... ثم أردف بنبرة الهمس وهو يميل عليهم ميلة التآمر، هناك آذان صاغية تسترق السمع وأيدٍ... خطها حلو....‏

ـ ليسمعوا مايسمعون.... وليكتبوا مايكتبون.... لا يهمنا!!... قاطع الشاب الأول وقد ازداد حماسة. ليبلطوا البحر...‏

ـ لا... يا وليدي!!... سيبلطوننا نحن!! أنا مختار وأعرف جيداً ما في أدمغة الدرك وبواريدهم...‏

ثم أشار بيده إشارة الإطلاق، مطلقاً من بين شفتيه عدة أصوات مفاجئة:‏

طخ...طخ...طخ...‏

وساد الصمت... هنيهة من الزمن لا يكسره سوى صوت القمح يعبأ في المكيال ثم يفرغ في العدل، ورغاء بعير أو بعيرين ربما سئما القعود. كان القمر الذي مايزال هلالاً قد غاب في الأفق الغربي وكانت سماء الصيف مرصعة بالنجوم لألاءة تجذب إليها الأبصار... بصر عزيز ينتقل بين بنات نعش والغرار... نجوم الميزان ودرب التبان المبيض كطريق من ثلج.......‏

"أهي السماء نفسها التي رأيتها ليلة تل عرار؟"... ويمسح عزيز السماء من جنوبها إلى شمالها..‏

"وهذه النجوم، أهي النجوم ذاتها التي كنتُ أبثها شكواي، شكوى العاشق المحروم؟ أرسل مع أشعتها الرسائل إلى معشوقتي، شمس؟ "لكن الصمت المهيمن يعيده من جديد إلى الرجال من حوله يتأمل وجوههم... عيونهم... ثمة خوف.... خوف يراه حيثما يذهب... في دمشق، حماة، أم العيون، ثمة خوف يصل حد الرعب من مستعمر طاغٍ باغٍ لا يعرف قلبه الرحمة... حسن الخراط الذي ذبحوه ومثلوا في جسده، أحمد مريود الذي حوصر في جباتا ثم قتل ومن معه عن بكرة أبيهم، سلطان الأطرش الذي حُشِر في الزاوية بعد أن ذبح من ذبح من رجاله، وسيق من سيق إلى السجن، ولم يفلت هو نفسه من الأنشوطة إلا بشق النفس......‏

كل ذلك جعل الناس تستكين"... وكيف لا يحتج ذلك الشاب ويثور؟ لم لا تغلي الدماء في عروقه وتفور؟ ذلك من حقه... لكن هل من حقي أنا أن أطمئنه؟ هل من حقي أن أعلنها صريحة: لا تخف... الشعب لم ولن يستكين؟ أنا مثلاً لم أستكن... مازلت...".‏

فجأة ينقطع الصمت وتنقطع معه سلسلة أفكاره.... أخو المختار يعلن إنهاء المهمة بصوت جهوري.‏

ـ ثلاثة وثلاثون!! البركة كلها يا حنون!!‏

ـ أعطاك الله العافية!! هب المختار هاتفاً بأخيه متفحصاً صبة الحنطة التي مسحت عن وجه الأرض حتى غدت أثراً بعد عين....‏

ـ سلمت يداك، أردف عزيز وهو ينهض من مكانه، متجهاً إلى حيث كانت تنتصب العدول بين صبة القمح التي اختفت والإبل التي كانت تجتر وترغي....‏

ـ ابدؤوا التحميل، قال المختار مخاطباً أصحاب الجمال الذين كانوا يسترخون بجانب جمالهم، هيا...‏

ـ الكل هنا؟ تدخل عزيز وقد لفت نظره غياب أحدهم.‏

ـ عواد!!.. رد أحد الجمالين بشيء من غمز فيما شرع صحبه بتحميل جمالهم...‏

"هذا العواد العاشق لا يأتي إلى الخربة إلا وينسل خلسة ليغيب ساعة أو ساعتين..".‏

..... وتبسم عزيز في سره وهو يشيح بناظره عن الجمالين، متطلعاً إلى القرية الملتفة بطيلسانها الأسود تاركة فتحة هنا، وفتحة هناك لمصابيح ذابلة شاحبة أشبه بحبابات تنبثق هنا وهناك..."، في أي وكر حبابة، أنت يا عواد..؟ "كان عزيز قد حاول أكثر من مرة أن يسأل ذلك الفتى الذي لم يجتز سن المراهقة بعد عن الفتاة التي سحرت لبه إلى درجة تجعله يهرب إليها تحت جنح الظلام وفي كل فرصة تسنح له، لكن عبثاً.... كان الفتى يخشى على محبوبته افتضاح السر فحرم على لسانه حتى ذكر اسمها "حسبي أن أتنسم شميمها".. كان يقول لعزيز كلما سأله عنها: "أهو شميم العرار في نجد؟" يسأله عزيز ويضحك فيتمتم الفتى: "بل هو الخزامى، هو النرجس، هو الياسمين"، ولا يملك عزيز إلا أن يبارك ذلك العشق الذي يسمو إلى مرتبة عبق الخزامى، وأريج الياسمين.‏

ـ الله لا كان جابك... أين كنت؟ قال أحدهم في الطرف القصي للجمال... التفت عزيز فرأى على قبس النجوم المتلألئة شبح عواد وهو ينسل مسرعاً إلى بعيره، مسكتاً صاحبه بإشارة سريعة من يده وهمسة خافتة من شفتيه:‏

ـ اسكت... اسكت...‏

ومن جديد، تبسم عزيز وهو ينظر إلى الفتى الذي أسرع إلى أقرب عدل يحمله مع فتى آخر ربما كان يبحث عن شريك. هم عزيز بالتوجه نحوه، يمازحه ويسائله، لكن شبحاً آخر كان مايزال بعيداً في الجهة الأخرى شده إليه. شبح ذئب كان يعرفه جيداً... مشية الذئب تلك لا يخطئها.... انطلاقة سريعة، بضع خطوات، ثم توقف وتفحص... تأكد من سلامة المكان، ثم اندفاعة جديدة... "هو ذا البطحيش" قرر عزيز ثم شرع يتحرك صوبه.‏

عزيز لا يدرك ما اسمه الحقيقي، بل لا أحد يدري ما اسمه، الكل يعرفونه بلقبه "البطحيش"، تلك الكلمة التي ربما تجمع كلمتين: "بطح" و"طحش"، وكلتاهما تدل على القوة والقدرة والفتك..."البطحيش"، بالحقيقة، هو هذا كله، يبطح كل مستعمر يجده في طريقه ويطحش كل عدو يلتقيه... ليس علانية أو نهاراً بل خفية وتحت ستر الظلام.‏

ألم تقل الشاعرة الأندلسية: "فإني رأيت الليل أكتم للسر؟ "هكذا يفعل البطحيش، ينتقل من قرية إلى قرية في حوران.... ومن ضيعة إلى أخرى كي يهاجم دورية أو يغير على مخفر أو ينصب كميناً لعسكري فرنسي...‏

ـ مرحباً، صديقي، بادره البطحيش وقد وصل إليه عزيز في الطرف القصي للبيدر....‏

ـ مرحباً يا بطحيش... ما الذي جاء بك؟ سأله عزيز وهو يختلس النظر إلى الوراء، ربما خشية أن يكون قد لحظه أحد.‏

ـ "الليوتنان" هناك... رد البطحيش بنبرة الهمس ذاتها، واختلاس النظر ذاته، مشيراً إلى جهة محددة في القرية.‏

ـ والظروف؟‏

ـ كلها مؤاتية، أجاب البطحيش بنبرة المطمئن، درت حول البيت ثلاث مرات... معه سائقه فقط، ينام على مقود السيارة، وهو القذر الحقير ـ في الداخل...‏

وكز عزيز على شفته: "لا شك أن الفتى كان يعنيه، ذلك "الليوتنان" القذر، حين قال: "ينتهكون أعراضنا".. تمتم عزيز دون إفصاح، وهو يتفكر مطرقاً في أمر "الليوتنان بورجيه" الذي ما فتئ يعهِّر نساء القرية واحدة بعد الأخرى، و"دنيا" التي يسهر عندها الليلة إنما كانت زوجة هنية وفية، لكن على وجهها "لحسة لبن"، ولهذا السبب، ربما، لفتت نظر "الليوتنان"، فجاء بزوجها إلى الثكنة يشتغل في المطبخ نهاراً حيناً، وليلاً أكثر الأحيان، فيما هو يفرض نفسه على امرأته ويحتل فراشه...‏

ـ انتظرني عند البئر... بعد ساعة... همس عزيز لصديقه ثم دار على عقبيه، متمشياً على مهل وكأنما هو عائد من قضاء حاجة.‏

"هيلا... هيلا..‏

يا نشامى شيلوا الشيلة"..‏

كان الفتية، وهم يحمِّلون الجمال عدول الحنطة، ينشدون بتناسق وتناغم جعلا قدمي عزيز تتسمران وعينيه تنشدان إلى حشد النحل المتحرك بطنين موسيقي موقع. وعلى ضوء النجوم بدا المشهد لعزيز فاتناً يأسر القلوب.." هؤلاء المساكين شبه الجياع، شبه الحفاة العراة يعملون بكل همة ونشاط، بل إنهم يغنون ويهزجون!! كم هو جبار، الإنسان!!.. من قلب البؤس يصنع السعادة، ومن فكي الحزن يستل الابتسامة!!"...‏

"والجمل غضبان هايج...... يا ويله اللي يقرب ويله...‏

هيله.... هيلة...‏

يا نشامى شيلوا الشيلة"....


توقيع : كديميس

"لاتبحثوا عني بين كلماتي فهي لاتشبهني"

رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:33 AM [ 2 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




كانت خلية النحل تصدر طنينها المموسق، حاملة العدول، رابطة واحدها إلى هذا الجانب أو ذاك من بعير يرغي احتجاجاً على حمل سيوقر ظهره، أو ينظر إلى الرجال مجتراً وقد أسلم أمره لله!! فيما المختار يغدو هنا، يروح هناك، يحمس الشبان، يبدي الملاحظات أو يلقي الأوامر، فخطأ واحد في التحميل قد يؤدي إلى سقوط عدل وإعاقة حركة القافلة كلها.‏

ـ هيا يا شباب... حيا الله الشباب!! بادرهم عزيز من جديد، وهو يقترب ، حاثاً مشجعاً. فالقافلة يجب أن تنطلق بأسرع وقت. لكنه مع كلمة "شباب"، أحس بشيء كالوخزة في قلبه. كان قبل سنتين قد رأى أول شعرة بيضاء في مفرقه، حسب بطرفة عين سنوات عمره، فأدرك أنه بلغ الذروة، هناك حيث يتبدل خط الانحدار ويبدأ المرء بالهبوط بعد أن كان في صعود. حينذاك أحس بغصة...".، "الأربعون...!! الله كيف مضت تلك الأربعون!!" ومرقت في ذهنه صور: اشتباكات، مغامرات، معارك!! ثم مرق عثمانيون وأبو شعيب، فرنسيون وغورو، ثورات وحروب، وهاهو ذا الآن يتحول إلى تاجر حبوب يجوب حوران وينقل حنطتها وشعيرها إلى المدينة.. تجارته مربحة ولاشك، شراكته مع رئيسه القديم اليوزباشي صبري توفر له الراحة والطمأنينة، لكن أهذا ماكان يبتغيه عزيز؟.. كثيراً ماكان يسأل نفسه وكثيراً ماكان يرتد على عقبيه. "ليس للتجارة خلق عزيز..... وليس بأعمال كهذه يجد نفسه عزيز...."، لكن ما إن التقى بالبطحيش حتى شعر أنه وجد نفسه.‏

هيله.... هيلة...‏

يا نشامى شيلوا الشيلة"....‏

جاءت النغمة مختلفة هذه المرة، فتنبه عزيز إلى الرجال وهم يشدون آخر العدول إلى جمال ثلاثة بينها جمل عواد، فيما عواد يشد باستغراق تام الحبل حول سنام جمله ثم ينزل به خلف قائمتيه الأماميتين وتحت بطنه. "كم هو نشيط هذا الفتى؟" جمجم عزيز وهو يرقب الفتى الطويل الناحل، جلداً على عظم"، أهو الفقر وسوء التغذية، أم التعب والإجهاد؟ "إذ ما إن تفتح المدرسة أبوابها في الأول من تشرين حتى يسارع عواد إليها، ينكب على كتبه ودفاتره يجد ويجتهد، ثمانية أشهر حتى يحصل على درجة متفوقة في سلم الناجحين.. هو في الصف الحادي عشر.... يحفظ الأشعار، يعرف التاريخ والجغرافية، الفلسفة والمنطق، الحساب والجبر... مثله مثل الأخضر... هما في صف واحد... يراه عزيز فيتذكر ابنه.... كلاهما يحب الدرس، يطمح لأن يكون شيئاً في عالم العلم والمعرفة، لكن ابنه لا يحتاج لأن يكد ويكدح طوال الصيف. الأخضر في غنى عن هذا كله... أبوه يعمل، يوفر له المال لكي يعيش ويدرس، لكن من يوفره لعواد؟ عواد يعلم ذلك، لهذا ما إن تغلق المدرسة أبوابها حتى يسعى في مناكبها... غلال حوران تنتقل إلى خارج حوران، والجمال واسطة النقل.‏

لدى عواد جمل فتي قوي... إذن لماذا لا يعمل؟ شهرين أو ثلاثة، يظل عواد يعمل جمالاً، راجداً الزرع من الحقول إلى البيادر، ثم ناقلاً الغلال من البيادر إلى دمشق.... منذ سنتين عرفه عزيز وهاهو ذا الموسم الثالث يبدأ معه... فتى ذكي نشيط صاحب دعابة.......شجاع، لطالما دخل قلب عزيز بقصصه ودعاباته.‏

ـ نمشي، عزو أفندي؟ فاجأه رئيس الجمالة، وقد جاء من خلف واللهاث مازال في فمه.‏

ـ توكلوا على الله، رد عزيز بنبرة من فرح وقد بات باستطاعته أن يبدأ العودة إلى دمشق.‏

ـ هـ...ى!! هـ...ى!! يالله يا رجال!!‏

ـ هيـ...يتج.... هيـ...يتج هيا.... انهض... راحت أصوات الرجال تتعالى حاضة جمالها على الهبوب من إناختها الطويلة والجمال يتلكأ بعضها وينهض بعضها الآخر لكنها كلها ترغي وتزبد وكأنها تحتج على ما حملوها من أثقال.‏

ـ تعرفون الطريق، امضوا على بركة الله ولا تزعجوا الجمال/ تابع عزيز، وقد نهضت الجمال، معطياً تعليماته لرئيس القافلة، على مهل!! تصلون بإذن الله ظهر الغد!!‏

ـ ألن تأتي معنا!؟ تساءل رئيس القافلة بشيء من استغراب..‏

ـ بل قد أسبقكم! ... قال عزيز، وهو يشعر أن عليه أن يفسر، حصاني في إسطبل المختار. رئيس القافلة يعلم أن حصانه في إسطبل المختار، لكنه لا يعلم أن هناك مهمة أخرى ورجلاً آخر في انتظاره ربما يؤخرانه بعض الحين.‏

ـ هيا بنا!!... قال له أبو دحدل وهو يمسك بيده، متجهاً صوب القرية.‏

في المضافة، وجدوا طعام العشاء جاهزاً. أم دحدل تعلم أن سفرتها يجب أن تكون غبّ الطلب دائماً، يحضر الضيف، يقدم له الطعام في الحال، فكيف إذا كان الضيف قد حضر منذ العصر؟‏

لقيمات سريعة تناول عزيز، غسل يديه، دفع ثمن القمح، ثم ودع الرجال على عجل وامتطى حصانه على عجل، عله يصل في موعده المحدد مع البطحيش.‏

قبل أربعة مواسم، وفي ليلة صيفية كليلته تلك، كان عزيز يسير بقافلة إبله إلى دمشق. لم يكن هناك قمر، النجوم وحدها كانت تتلامع في قبة السماء، قبس من ذلك اللمعان كان يصل إلى الأرض، فتتسع أحداق البشر والبهائم لتصنع منه نوراً يضيء لها طريقها. عزيز يذكر كيف استطاع في تلك الليلة أن يرى على ضوء ذلك القبس جسداً ممدداً على الأرض، حسبه في البداية جثة هامدة. فهو بلا نأمة، بلا حركة، لكنه ما إن انكب عليه يتفحصه حتى لفحته أنفاسه الحارة ونبضات كانت ماتزال تروح وتجيء في سكة أقفرها الجدب وعلاها الرمل والغبار. "من أنت؟! ماذا بك؟!.. انهض يارجل".. هتف به ورجال قافلته يتحلقون حولـه، لكن الرجل كان أشبه بجثة هامدة.... تلمسوه، تفحصوه فإذا بالرجل جراح ودماء، ربما لم يبق في عروقه منها إلا الذماء.. حمله عزيز عن الأرض، وضعه على ظهر حصانه ثم أسرع به إلى أقرب قرية. في الشيخ مسكين كان له صاحب. أوعز للقافلة أن تتابع مسيرها ومضى هو إلى صاحبه. هناك أسعفا الرجل. فحكيم القرية العربي كان يعلم كيف يعالج الجروح، يستخدم الكي والمراهم ويوقظ المغشي عليهم من غشيتهم، أراد عزيز أن يأخذه معه إلى دمشق لكن الجريح أبى".. رأسي مطلوب، وإن رأوني في الشارع عرفوني".. ومكث الرجل في "الشيخ مسكين"، يعالج من رصاصتين خرقتا جسده... الأولى في الكتف والثانية في الخاصرة. ولم يكن عزيز بحاجة لأن يسأله".‏

كيف، أين، متى؟ "ففي بيت "الشيخ مسكين" عرف عزيز أن الرجل مشهور في حوران، يعرفه القاصي والداني، مقارعته للمستعمر حديث الناس جميعاً، روى له صاحبه من قبل الكثير عن قصصه تلك: هجوم على مخفر، كمين لدورية، اعتراض لقافلة عسكر، بل ذات مرة دخل البطحيش مخدع قائد المعسكر نفسه كما تدخل الأشباح. انتشله من بين ذراعي امرأته، واضعاً رأس الخنجر بين عينيه قائلاً له: "كي تعلم أن باستطاعتي أن أصل إليك أينما كنت، فكف عن ظلمك للناس، أوقف نذالاتك وسفالاتك أو ذبحتك بهذا الخنجر ذبح النعاج"... وكما دخل شبحاً، خرج شبحاً وعينا القائد الفرنسي جاحظتان، شفتاه راعشتان، أسنانه تصطك ولسانه منعقد لا يستطيع النطق، فيما امرأته تمثال من ثلج لا يعرف الصراخ.‏

تلك القصة أثارت إعجاب عزيز أيما إثارة فانكب على الجريح يلثمه ويشد على يديه.......ومن بين اللثم والشد خرجت كلمات كانت ميثاق صداقة وحب، مهره كلاهما بخاتمه.‏

ثمانية وأربعين يوماً ظل البطحيش مختفياً في بيت "الشيخ مسكين"، إلى أن استعاد عافيته، قافلة الجمال تروح وتغدو، عزيز في ذهابه وإيابه يمر به، يقضي معه الساعتين أو الثلاث، يزوده بكل ما يحتاج، يستمع إلى قصصه، يروي له قصصه، لقد كان عزيز بأمس الحاجة لرجل كالبطحيش، خمس سنوات كانت قد مضت عليه لم يشم فيها رائحة بارود ولا دخان معركة.‏

كان البطش الشديد والخسائر الكبيرة في الممتلكات والأرواح قد بثا الرعب في القلوب إلى درجة خرست معها الألسن وشلت الأيدي، فلا عصيان، ولا تمرداً... بل لا رأساً يرفع ولا صوتاً يسمع... وكان ذلك يحز في نفس عزيز... هو مستكين.... في محله في الميدان يعمل بصمت، في أزقة الميدان يسير وكل من حولـه يهمس، "امش الحائط، الحائط، وقل يارب الستر"، لكن في أعماقه كان ثمة بركان.... "هذا الخضوع، هذا الخنوع، إلامَ يستمر؟.. يجب أن تتحرك عزيز".. ، لكن كيف يتحرك والكل جمود؟ كيف يتحرك والأعين مصوبة عليه، والآذان موجهة إليه، هو الغريب عن الميدان، الوافد من مكان غامض وزمان غامض؟‏

صبري البديوي يشكل غطاءه، يخرس عنه الألسنة... فكيف يثير عليه تلك الألسنة؟ هو هارب من الفرنساوي.... مبتعد عن حماة، عن أم العيون، بل حتى عن الشيخ نواف والبادية، فكيف ينبه عليه الفرنساوي؟ اسمه غيّره، ثوبه بدلّه، بل حتى صنعته، علاقاته جددها كلها وقد عقد العزم على أن يخفي ماضيه كله، فلا يأخذه الفرنساوي بذلك الماضي.‏

لكن، ما إن عرف عزيز البطحيش وسمع قصصه وبطولاته حتى ثار في نفسه الحنين لأيام القصص والبطولات.... عقد العزم على أن يعيد سيرته الأولى من جديد... "اسمع"، قال للبطحيش: "حين تسترد عافيتك، وتخطط لعمليتك الأولى، سأكون شريكك". وهو ما حدث بعد شهرين فقط.‏

ـ هـ...يه... أخبارك؟ بادر عزيز صديقه البطحيش شبه هامس وقد وصل إليه في المكان المحدد والزمان المحدد.....‏

ـ الأمن مستتب... رد البطحيش بنبرة الهمس نفسها وهو يشير إلى دار قريبة تقف أمامها سيارة جيب، لكنك تأخرت، تابع البطحيش همسه، خفت أن يذهب "الليوتنان" قبل أن تجيء...‏

ـ حانت منيته فأين يذهب؟ رد عزيز ضاحكاً ضحك الهمس... لقد خططا للانتقام منذ زمن.... لكن الفرصة لم تأتِ إلا الليلة. ظلمه، قسوته، ارتكاباته، فظاعاته، كلها كانت قد انتشرت في المنطقة شائعات، وأقاويل، "لا يترك امرأة من شره"، "يريد أن يجعل من نسائنا كلهن عاهرات"، "لا رجل يستطيع الوقوف في وجهه"..، "يستخدم كل وسيلة للوصول إلى المرأة التي يريد"، وكانت "دنيا" آخر النساء التي يريد...‏

ـ الخطة؟ سأل عزيز صاحبه وهو يربط حصانه إلى جذع شجرة يتيمة كانت قد نمت في غفلة من الزمان والشياه والناس.‏

ـ نكمُّ فم السائق أولاً..... شرح البطحيش وهو يلطأ إلى جانبه وأعينهما الأربع على السيارة الجاثمة، بومة في خراب.‏

ـ ولماذا نكمُّ فمه؟ نقتله وننتهي منه؟‏

ـ وإذا كان مغربياً أو جزائرياً؟ لا، لا نريد أن نقتل عربياً مسلماً. البطحيش يحسب حساب كل شيء، وهو يميز... هذا حلال، هذا حرام، ذاك خير، ذلك شر. وقتل سائق قد يكون مظلوماً بريئاً جيء به لخدمة الفرنساوي رغماً عن أنفه أمر لا يرضاه وجدانه. وجدان عزيز أيضاً لا يرضاه، لكن عزيزاً يخشى الفشل "ماذا إن قاوم السائق؟ ماذا إن افلح في تنبيه "الليوتنان"؟ التخوفات كثيرة، مع ذلك يفلح البطحيش دائماً في إقناع عزيز، فالمرء يجب أن يكون عادلاً منصفاً، فلا يأخذ امرءاً بجريرة آخر ولا عنزة بعرقوب أخرى.‏

على مهل بدأ الرجلان يتسللان.. وبحذر شرعا يقتربان، الدار في الطرف الشمالي الغربي من القرية.. يحفها من كلا جانبيها دور وسكان، وأية نأمة قد توقظ النائمين. أية حركة قد تنبه الساهرين.. ثمة كلب أو كلبان ينبحان وبقرة تخور وشياه تثغو... غربي الدار، شرقيها. لكن الدار صامتة، لا كلب ينبح ولا بقرة تخور... زوج دنيا فقير... عاملاً بالمياومة يعمل... ربما لا يملك بقرة ولا شاة.. أهذا ما أغرى "الليوتنان" بزوجته، دنيا التي تطمح لأن تملأ بطنها بما لذ وطاب؟‏

وتذكر عزيز ذلك الكابيتان الذي سال لعابه على شمس.‏

نصب الشباك لها، رسم الخطط ودبر المكائد كي يلتهمها، وحين أعيته الحيل، كشر عن أنيابه ومخالبه علناً ثم انقض عليها جهاراً نهاراً.عزيز على ثقة أنه لولا ذلك الخنجر الذي كانت شمس قد خبأته في صدرها والشجاعة التي بقيت لها من ذلك الفارس الملثم، لذهبت لقمة سائغة بين فكيه. "اللعنة عليكم أيها المستعمرون!!...‏

تحسبون الناس كلهم عبيداً، ونساءهم كلهن إماء، تفعلون بهم وبهن ما تشاؤون".. وأحس عزيز بدفقة حماسة تملأ جسده كله.‏

ـ السائق لك، و"الليوتنان لي".. همس عزيز في إذن صديقه وقد صارا على مقربة من الدار...‏

ـ لم لا نعمل معاً؟.. رد البطحيش مستغرباً اقتراح صديقه الجديد....‏

ـ لا... لا.. ابق أنت في الخارج، تحرس الطريق وتحمي ظهري..‏

غِلُّهُ على الكابيتان جيرار لم يكن قد شفي بعد، أحد عشر عاماً كانت قد مضت على تلك الحادثة، مع ذلك، يشعر عزيز بمرارة في فمه وغصة في حلقه، كأنما كانت بالأمس. "كيف يفكر ذلك النذل الخسيس بتمريغ شرفي في الوحل؟ كيف يخون الخبز والملح؟ كيف يغدر بصداقتي وينهش لحم امرأتي؟"...‏

تلك الأسئلة كانت لا تنفك تطرق جدران دماغه، كلما استعاد تلك الذكرى. وهي، ربما، ما ألهب فيه الحماسة حين سمع بقصة "الليوتنان" الذي مافتئ يعهّر النساء.‏

على مقربة من السيارة، انفصل الصديقان، البطحيش توجه إلى السائق، وعزيز نحو باب الدار.... نمسين ينسلان بخفة وحذر... بطرفة عين وصل الأول إلى هدفه، وقد تمدد في المقعد الخلفي مستغرقاً في سبات عميق. يد على فمه والأخرى على عنقه ثم شدة من هنا وشدة من هناك، وبدأت الروح تتحشرج، متذبذبة بين الصدر والفم.‏

ـ منشان الله... دخيل محمد، راحت كلمات متقطعة تفلت من الفم المكموم، والعنق المضغوط...‏

ـ أنت مسلم إذن؟ همس البطحيش في أذنه سائلاً.‏

ـ الله أكبر!! أشهد أن لا إله إلا الله وأن......‏

ـ يكفي... قاطعه البطحيش شاداً الكمامة على فمه، اسكت تنجُ.. وسكت السائق مسلماً نفسه بكليته للرجل قوي الذراعين عريض المنكبين الذي راح يشد الكمامة على شفتيه والوثاق على يديه..‏

في غضون ذلك، كان عزيز قد تسلق الحائط، ثم انقلب بهدوء وحذر على الجانب الآخر.... الباب خطر..... قد تصر مفاصله الخشبية العتيقة... مصدرة صوتها الصدئ فينتبه "الليوتنان" الغارق في بحر اللذة.‏

ببطء وثبات اجتاز فناء الدار... على مصطبة أمام الغرف، كان ثمة فراش أو فراشان، وكان أطفال ينامون. داخل الغرفة، كان ضوء مصباح، لطا بجانب الحائط يصيخ السمع، ثمة لهاث وشهقات، اختلس النظر من شباك صغير... "الليوتنان" آدم يعلو حواءه، ودنيا حواء تعانق آدمها، واللهاث يتسرب عبر الباب الموارب بلا مبالاة: صيحات مكتومة وشهقات معلومة". الويل لك أيها العربيد العاهر"، تمتم عزيز وهو يكز على شفته السفلى، مشرعاً خنجره في يده واثباً إلى الباب وثبة نمر حدد مكان فريسته. وثبتان أو ثلاث ثم وقع على فريسته منشباً فيها أنيابه ومخالبه... الانقضاض صاعق، والإنشاب مباغت إلى درجة صعقت معها الفريسة فلم تجد قوة لمقاومة أو وقتاً لصراخ.‏

ـ ويلا... بدأت دنيا تحته الصراخ، وقد أرعبها الانقضاض المفاجئ فيما كان خنجر يهبط ويعلو ودم حار ينبجس ويتدفق... لكن قبل أن تكمل صرختها أطبقت يد قوية أخرى على الفم وهمسة مرعبة هدرت في الأذن...‏

ـ اخرسي أيتها القذرة أو قتلتك...‏

وخرست دنيا، ليس بلسانها فحسب بل بكل مافيها... صدرها، بطنها، فخذاها، كل شيء همد بعد نشاط وخرس بعد صخب... الرجل الملثم لا تبدو منه إلا عيناه... يده فقط تطعن وتطعن فيما "الليوتنان" يسقط متكوماً على صدرها وقد شهق شهقة الموت...‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:34 AM [ 3 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




ــــ 2 ــــ

تنتثر أشعة الشمس على الزجاج المعشق، لوحات فسيفساء ونثار قوس قزح. شمس تحب ذلك النثار وتلك اللوحات، تفتح عينيها عليها كل صباح فتشعر بأيد خفية تدغدغ أحاسيسها. هذا الفن الجديد الجميل الذي أبدعته دمشق كم هو متعة للعين وبهجة للناظرين!!...‏

في المضارب أيام زمان، لم يكن هناك زجاج معشق، ولم تكن الشمس تنكسر على بللور النوافذ، أقواس قزح، وفسيفساء ألوان. في أم العيون، في حماة نفسها، لم تكن شمس قد استمتعت بما أبدعته قرائح الفنانين المبدعين في دمشق. هنا، في هذا البيت الدمشقي العتيق وحده عرفت قيمة الفن والغاية من الفن: إبداع كل جميل ساحر وصنع كل ممتع مثير!! نساء دمشق يضعن الستائر على الزجاج المعشق، فيحجبن انعكاسات الإبداع وارتساماته. شمس أبت منذ البدء إلا أن تعانق الشمس كل صباح عبر مهرجان الألوان ذاك. تفيق، ترخي العنان لخيالها هنيهة من الزمن، تظل في فراشها مسترخية فليس أقسى عليها من أن تهب من نومها على عجل... لحظات الاسترخاء تلك، الانتقال من النوم إلى اليقظة على مهل أروع متعها. الكل يحرصون على ألا يحرموها منها.‏

وضحة، عزيز، الأولاد كلهم يعرفون حبها للاستيقاظ على مهل والتلبث زمناً في الفراش. وضحة تعلم ماعليها أن تفعله من تنظيف، كنس، مسح قبل أن تفيق عمتها، الشيخة ابنة الشيوخ التي رافقتها مذ كانت في حماة، هي ليست شيخة ولا سيدة بالنسبة إليها، بل هي عمة، أم................حنانها، سعة صدرها، طيبة نفسها، كل ذلك جعل الحياة لدى "الشيخة" هينة لينة، وجعل وضحة تشعر كأنها في بيت أمها وأبيها، هي تطبخ، تنفخ، تربي الأولاد، وحسبها أن ترضى عليها العمة.‏

ابتسامة الرضى ترتسم على شفتي شمس وهي تلتحم بعزيز أكثر وأكثر فيما أمواج دفئه تغمر رمال شاطئها المستكين..."ليلة أمس!! آه ما أروعك يا ليلة أمس!!".. وشرعت تنقل ناظريها من فسيفساء الزجاج المعشق إلى مهرجان الجسد الدافئ رافعة عنه الغطاء الخفيف، متفحصة ذلك الجسد العبقري الذي يمنحها الارتواء بعد الظمأ، الراحة بعد التعب والاسترخاء بعد التشنج، فتنتشي غبطة وسعادة. بأطراف أناملها مرت على الكتف المصنوعة من عجين القمح، المشوية كالآجر على نار التنور... بعد الكتف مرت على العضد، لامست عضلته المفتولة ثم الزند فشعره الكث... هنا... بين هذا الزند وذاك العضد تنهصر شمس، تشعر بنفسها تذوب في الصدر تنسرب إلى القلب دفق دم حار يمتزج بدم عزيز ويمضيان معاً إلى مروج الربيع. بتعبد الوالهة تتأمل شمس الوجه الجميل، وهو يشع رضى وابتساماً فتتذكر رابعة العدوية وهي تنظر إلى السماء ثم تنشد: وليت الذي بيني وبينك عامرٌ..وبيني وبين العالمين خراب. ثم بتعبد الوالهة تتشمم شمس رائحة الجسد. أنفها يتعشق تلك الرائحة حيث عبق الرجولة يطغى على كل شيء... من قال إن للأنوثة وحدها عبقاً؟ للرجولة أيضاً عبق، لا يضاهيه في أنف شمس عبق الياسمين ولا النرجس. ليلة أمس تأخرت القافلة.. العاشرة، الحادية عشرة، منتصف الليل، وعزيز لم يصل. لكن كيف تنام وعزيز لم يصل؟.. هي على ثقة أنه سيأتي، فالموسم في نهايته وربما تلك هي آخر القوافل ثم هي مشوقة إليه.. في أحشائها لهب يتراقص. في كل خلية من خلاياها لهب يتراقص. لا تملك إلا أن تنتظر... أيام كانت قد مضت على غيابه، أرسل فيها قافلتين دون أن يجيء.. أحياناً يأتي مع كل قافلة وأحياناً لا يجيء...‏

هو موسم الحبوب وعليه أن يعمل... لقمة العيش مغمسة بالدم، والحياة صعبة شاقة، لا أحد فيها يطعمك بملعقة من ذهب... عليك أن تكافح لكي تعيش وعزيز يكافح. طوال تموز وآب يظل يكافح.. يذهب ليعود ويعود ليذهب. طريقه في تجارة الحبوب شقها بقوة وجدارة، كما شق ذات يوم طريقه في تجارة الجبن والسمن.. شهرين كل موسم يذهب بالمال إلى حوران ليأتي بحبوب حوران، وهي تنتظره كلما غاب على أحر من الجمر.. "يا إلهي!! أما آن لهذا القلق أن يسكن!! لهذا اللهب أن ينطفئ!!".‏

هي تشعر بأن تلك اللحظة وذلك الينبوع، حيث كشف عزيز اللثام عن وجهها يوم كانت فارساً ملثماً فتبين له أنها الشمس التي تحتجب خلف قناع. شمس تشعر وهي في فراشها أنها ما تزال بين يديه هناك، قرب الينبوع بكل ذلك الدفء، بكل تلك الدهشة، تبوح له بسرها، سر الأنوثة التي كمنت طويلاً ثم تفجرت ينبوعاً من عطاء.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:35 AM [ 4 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




حماة، ارتماء العشاق عليها، محاولات خالد آغا امتلاكها، مناورات حسني لاختراقها، خطط الكابيتان جيرار للالتفاف عليها كل ذلك ذهب مع الريح ليظل ذكريات فقط. هي تذكر جيداً يوم مضت إلى البادية، تختبئ بين أهلها من ذئاب الفرنساوي وقد قتلت أشرس تلك الذئاب.. الخنجر الذي غرسته في قلب الكابيتان جيرار كان قد ختم تلك المرحلة العصيبة من عمرها. الدماء التي سالت من صدره على يدها كانت قد شفت غلها، أعادت لها الكرامة التي كادت تفقدها على يديه. في المنزل التقت بعزيز، فمضى بها عزيز زورقاً تعصف بشراعه الرياح.. خرجا من حماة تحت جنح الظلام أودعها حيث الأهل والأولاد، ثم عاد هو إلى الثورة والثوار، فوزي القاوقجي وسعيد العاص... سنتين ورياح الثورة تعصف به... لا يحط في مكان إلا ليرحل، ولا ينتهي من عملية حربية إلا ليبدأ أخرى، وهي تنتظره متنقلة مع أهلها الرحل بين "سماوة" العراق و"بلعاس" الشام، لكن ليس أبعد غرباً، فالدرك الفرنساوي في القرى، وجنده في المدن.. ومن يدري؟ ربما ما يزالون يبحثون عن الخنجر الذي مزق قلب جيرار..‏

حين جاءتها رسالة عزيز بأن تلتحق به عند الشعلان لم تصدق أذنيها.. الأخبار قبل ذلك كانت فاجعة: الثورة أخفقت وسلطان باشا لاذ بوادي السرحان، هناك في بواطن الصحارى، حيث لا فرنساوي ولا إنكليزي، شمس ظنت أن عزيزاً معه هناك، يطارد حتى الموت.... لكن الرسالة واضحة: "أنا لدى الأمير لورنس في دمشق".. عزيز يدهشها دائماً، يفاجئها بكل مالا تتوقع، آتياً بكل غريب وعجيب.. ربما لتزداد إعجاباً وحباً له، لكأنما ينقصها أن تحبه أكثر‍‍!!...‏

فالثائر الذي قاتل المستعمر من حماه إلى السويداء، مروراًبالقلمون والغوطة يقيم الآن في دمشق؟ كيف؟ لم يكن باستطاعة الرسول أن يفسر... عشرته للبدو وصداقته لأمير الرولا كان طوق النجاة الذي ركبه عزيز إلى بر الأمان...‏

الأمان في البدء كان مضارب القبيلة، حيث الرولة تنتشر من أطراف عدرا قرب دمشق وحتى آخر بادية الشام.... هي تتحرك أيضاً، حركتها تصل إلى هضبة نجد فلماذا يخاف عزيز؟..‏

مع الرولا، صار عزو، وصار فرداً من أفراد القبيلة، يعيش في كنف الأمير ضيفاً وصديقاً، ثم هدأ البركان وبدأ المفوض السامي الجديد كأنما يريد أن يطوي صفحة الماضي بأسودها وأبيضها كي يفتح صفحة جديدة..‏

الصفحة الجديدة جعلت عزيزاً يطمئن ثم يدخل مع الأمير الشعلان إلى دمشق حيث له دار واسعة شاسعة يمكن أن يعيش فيها عشرون عزيزاً دون أن يثيروا الانتباه. من تلك الدار الواسعة الشاسعة شرع عزيز يمتد وينتشر استطالات تتلمس طريقها بحذر وتعرش بحذر على جدار استناد مكين.. جدار استناده الثاني كان اليوزباشي صبري، صديقه الوفي الذي ما إن رآه حتى أخذه بالأحضان فاتحاً له بيته ومحله.‏

لدى الشعلان كان يعيش، ضيفاً كصاحب المنزل، وصاحب منزل كالضيف، لكنه لدى يوزباشيه القديم بات يعمل.. كان والد صبري قد توفي، وكان الضابط القديم لا يحسن التجارة كثيراً وكان بأمس الحاجة لمن يثق به ويعتمد عليه ومن أجدر من شاويشه السابق بالثقة والاعتماد؟!...‏

داراً بجواره استأجر، مفاتيح المحل استلم... ولم يكن عليه إلا أن يأتي بزوجته وأولاده، يلم الشمل وتعود الحياة إلى مجاريها سعادة وهناء. ثماني سنوات مضت على لم الشمل، وثماني سنوات أمضت شمس في دارها الدمشقية... تفتح عينيها على الزجاج المعشق، تنعم بمياه الفسقية، وتسعد بليالي العلية القمراء، فبيوت دمشق لا تغفل لحظة من لحظات النهار والليل تريد من أصحابها أن ينعموا بأصباحها وأمسائها، نهاراتها ولياليها، فكيف لا تنعم شمس؟‏

ليلة أمس، كان يمضها الشوق للحبيب الذي تعبد، وكان موعد القافلة أن تجيء من حوران... أرقة مسهدة انتظرته... وشعور خفي يدغدغها... "عزيز آتٍ الليلة.... لابد من أن يأتي الليلة.... فكيف أنام؟".. كانت تدفع أطياف النوم كلما اقتربت من أجفانها، وكانت تصم أذنيها عن شخير النيام، تغمض عينيها عن صورهم ووجوههم، علها تقوى على الانتظار... ديك من مكن ما، ربما هو في آخر الميدان، أو آخر الشاغور، أطلق لقريحته العنان، لا تدري شمس أكان ذلك الديك كاذباً أم صادقاً، لكن مع صياحه سمعت أذناها صوت باب يفتح على مهل وخطوات حذرة تقترب. حينذاك فقط سكن القلق، انطفأ لهب الانتظار لتدب في أوصالها كلها رعشة الفرح، صانعة لها جناحين طارت بهما إلى عزيز، تلتقي به دون تمهل أو حذر".. آه!! يالذاك اللقاء!! يالذاك العناق!! كم كنت دافئاً حاراً حتى صهرت كل خوف، أذبت كل جليد، نهراً من حمم يصهر في طريقه كل شيء!!"...‏

حركة في الخارج، جعلت الحالمة المسترخية تنتبه، وعلى مهل تودع الجسد الدافئ بنظرة والهة أخرى ثم تنسل خارجاً...‏

ـ صباح الخير، أمي، بادرها الأخضر وهو يترك البركة بعد أن غسل وجهه ويديه بمائها البارد.‏

ـ صباح النور، حشيشة قلبي، ردت الأم، وهي تطبع قبلة على خده، بلهجتها البدوية التي كانت تأبى أن تتخلى عنها مع زوجها وأولادها، والأخضر أقرب أولئك الأولاد إلى قلبها... أكثرهم تذكيراً لها بالماضي، بمضارب الخيام، بأصالة البادية التي تعشق. هه، أراك مستعجلاً؟...‏

ـ يجب أن أفتح المحل، عمي أبو فريد مشغول وأبي لم يأتِ...‏

ـ بل جاء..‏

ـ حقاً؟ بفرح طفولي يهتف، أبي وصل؟‏

ـ أجل، لكن القافلة لم تكن قد وصلت بعد.... ردت الأم التي كانت تنتظر كل قافلة على أحرمن الجمر...‏

ـ الحمد لله!! عشرون قافلة جاء بها هذا العام... أمي أريد أن أراه، قال وهو يتوجه إلى غرفة أبيه.‏

ـ لا..أخضر... دعه ينم... الليلة جاء متأخراً كثيراً، ومتعباً كثيراً، ولاشك أنه بحاجة إلى النوم...‏

ـ حسن... اذهب إلى القافلة إذن، واتجه الأخضر من جديد نحو الباب الخارجي، فيما انبثقت وضحة من باب المطبخ، تحمل بيدها "السفرطاس" الذي يحوي طعامه لذلك النهار. خطفه من يدها ومضى مسرعاً.‏

"الأخضر!!.. ايه!!... أيها الفتى الرشيق الطويل يابن السابعة عشرة، كم أحبك!!"..‏

ولاحقته بناظريها إلى أن غاب... شمس تحبه حب الوله... ألأنه بكرها والبكر حبيب أول؟ هي لا تدري...‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:35 AM [ 5 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




لكن لشد ما يذكرها بأبيه حين عرفته أول مرة... صحيح أن الأب كان مفتول العضلات أكثر، عريض المنكبين أكثر، يوحي بالقوة والمقدرة أكثر، لكنه في كل ماعدا ذلك، كان الابن كالأب، والأب كالابن: لمعة العيون، ارتسامة الشاربين، وضاءة الابتسامة، لون البشرة، غرة الشعر... كل شيء، كل شيء... وكان الأب يعتمد على الابن... منذ الثالثة عشرة كان يأخذه إلى متجر الحبوب، يعرفه بأسرار المهنة، الأسعار، الزبائن، فلم يبلغ السابعة عشرة حتى بات بإمكان الشريكين الصديقين أن يلقيا قدراً كبيراً من المسؤولية على كاهله.‏

ـ صباح الخير عمتي، حيتها وضحة، فردت شمس بابتسامة مشرقة عرفت منها وضحة أن عمتها سعيدة... أحضر لك القهوة؟ تابعت المرأة التي دخلت سن الكهولة ولم تعرف غير سيدتها شمس وخدمة شمس... سعادتها من سعادتها وشقاؤها من شقائها...‏

ـ لا .. اشربها مع عمك، ردت شمس مشيرة بيدها إلى غرفة نومها، وفي الوقت نفسه اتجهت إلى غرفة نوم الأولاد. سرير نواف فارغ، ابن السادسة عشرة، يحب الريف والبادية... يعشق الحياة هناك بعيداً عن الجدران العالية والأزقة الضيقة.. فلا يغادر بيت جده في أم العيون حتى يذهب إلى بيت جده في مضارب الخيام... في أم العيون، ينعم نواف بالطبيعة، بالأشجار، بأقنية المياه يسبح فيها، بطيور البط والأوز يصطادها... جده علي المر يفرح به.. علاقة عشق تربطهما الواحد بالآخر... يجلس معه في المضافة، يخرجان إلى الحقول ونواف يسأل.. يسأل دائماً والجد يجيب... مع جده الشيخ نواف هكذا.. يمتطي ظهر الفرس، يسير مع جده بين المضارب، يتدرب على إطلاق النار. كان السيف قد صار عملة باطلة... لم يعد أحد يستخدم السيوف وكان الشيخ نواف يروي لحفيده الذي أخذ اسمه كيف كانت أمه ذات يوم فارساً ملثماً، يبارز الرجال ويحضر الحروب ويشارك في الغزوات...‏

مناف مايزال مستغرقاً في نومه.. وصلت إليه شمس، مسدت شعره السبط المائل إلى الشقرة..."، من أين جاءته هذه الشقرة؟" غالباً ماكانت تتساءل ولم تكن تصدق مايرويه عزيز عن شعر أخيه عمران، ذاك الذي كان شديد الشقرة وهو صغير... لكنه لم يبلغ سن الرشد إلا وقد حولت الشمس الحارقة شعره إلى لون الكستناء. جلست شمس على حافة السرير تتأمل ذلك الوجه الرقيق الأبيض نبيل الملامح الذي بدأ زغب شاربيه يرتسم سواداً شاحباً على شفته العليا. كان مناف قد أكمل الرابعة عشرة وكان قد نجح إلى صف "البروفيه"..‏

بارع هذا الفتى شأنه شأن الأخضر، "مرقت فكرة في ذهنها وهي ماتزال تتأمل الوجه الرقيق نبيل الملامح وتمسد الشعر الذي يميل للشقرة".. كلاهما يحب العلم.. كلاهما يريد أن يصبح شيئاً... آه!! ما أسعدني أن يغدو واحدهما طبيباً... والآخر عالماً أو أديباً!!...‏

سيقولون حينذاك... شمس... يا أم الطبيب... يا أم العالم أو الأديب!! آه!! كم سيسعدك ذلك!!".. كان الأخضر قد أصبح على أعتاب البكالوريا. وكان يدرس ويعمل... مثالاً للجد والنشاط، وحده نواف لم يكن يحب المدرسة، بصعوبة تعلم القراءة والكتابة.. تشغله القرية والبادية، الطبيعة والناس.. مع ذلك شمس تحبه، بل هي فخورة به... فخورة أيضاً ببدور ابنتها الوحيدة المدللة... التي تذهب هي الأخرى إلى المدرسة، ففي دمشق بدؤوا يبعثون البنات إلى المدرسة... يتعلمن شأن الصبيان... إذن لماذا لا تذهب بدور؟...‏

بدور ما تزال نائمة هي الأخرى، شمس تتأملها؟ صبية صغيرة ماتزال في الثانية عشرة... .صورة طبق الأصل عن الأم بشعرها الأسود وبشرتها البيضاء، لكن دون تلويحة شمس... صدرها لما ينهد بعد لكن قامتها تشب... يوماً بعد الآخر تنهض لكأنها نخلة في سواد العراق تضرب جذورها في الماء ويمنحها الطمي ماتشاء من غذاء. في عطلة الصيف تأخذ بدور راحتها.. تنام حتى الظهر، تذهب إلى لداتها، يأتي إليها لداتها، تنمو وتترعرع، نخلة في سواد العراق... الأخضر لا يعرف عطلة.. إن كانت هناك مدرسة ذهب إليها، إن لم يكن جعل محله مدرسته.. أخذ معه الكتب إلى هناك، يقرأ، يعب المعلومات، يبحث عن المعارف... حتى صار مرجعاً... هي... أبوه... الكل يسألونه عن أي شيء، وهو يجيبهم عن أي شيء: كلام جميل يقوله الأخضر: "الشمس ثابتة في مكانها والأرض تدور"... "لكن كيف؟".. تسأله الأم فيشرح ويمثل الأرض بجمع يده كرة تدور حول محور في فضاء بالغ الاتساع، الأرض تدور حول الشمس والقمر يدور حول الأرض، ويكاد عقلها لا يصدق لكن الأخضر قوي الحجة، بارع الإقناع فيعاجلها بآية قرآنية: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون".. هو ذا الفلك إذن.. وهذه هي السباحة!! الشمس في مكانها والأرض تدور حولها.. إنه قانون الجاذبية، قال لها الأخضر ذات مرة مفسراً، فزاد الطين بلة... هي تعلم أن كلامه صحيح...، لكن أنى لها أن تستوعبه؟ أهو السن؟ شمس تعلم أنها اجتازت عتبة الكهولة، فكيف لعقل كهل أن يقلب مفاهيمه؟‏

حين أفاق عزيز كانت شمس قد أنهت جولتها على المنزل. اغتسلت، سرحت شعرها، وتكحلت أيضاً. متثائباً خرج عزيز من الغرفة فبهره ضوء الشمس وقد صارت في رأد الضحى. رشق وجهه رشقات سريعة بالماء فصحا تماماً.... تعب الليل كان قد أخذ منه كل مأخذ ثم جاء الحب بلذائذه ليطرحه فراشاً حتى الضحى... احتج عزيز لدى ربة الحب التي طرحته فراشاً، فضحكت وهي تحييه تحية الصباح قبلة على الفم تدعوه إلى إفطار من نوع آخر..‏

ـ تأخرت كثيراً... لابد أن الجمّالة قد وصلوا وعلي أن أسبقهم إلى المستودع.‏

بصعوبة جعلته يرتشف قهوته ويتناول لقمة سريعة، لكنه قبل أن يمضي أمسكته عند الباب.‏

ـ ماذا تريد أن تأكل اليوم؟‏

ـ من يدك كل طعام طيب، أجابها وهو يتملص مسرعاً.‏

المستودع في طرف الميدان، تتسع الفسحة أمامه لعشرات الجمال، ينيخونها هناك ".. إخ... إخ"... يصيحون بها فتهبط من عليائها إلى الأرض ثم ينزلون أحمالها ليبتلعها المستودع.‏

لحسن الحظ كان شريكه قد سبقه، هو الذي يعلم أن القافلة قد تصل في أية لحظة، "تأخرت في الليل فباكرت المستودع في الصباح..." وصلت الجمال، فرغت الحمولات وبعث صبري من يأتي للشبان بأطباق الفول والحمص، طعاماً لا ألذ ولا أشهى لفتيان حوران.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:36 AM [ 6 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




رئيس القافلة حرث طبق الفول حراثة، عواد غرس رأسه في طبق الحمص حتى كاد أن يستعصي على الإخراج... فحول البصل كانت قد كسرت وكانت رائحتها ملء الساحة والمستودع. شمها عزيز قبل خطوات، وحين وصل إلى الساحة، أسعده انكباب الرجال على طعام الإفطار، فالليل كان طويلاً والزاد ماجف ولايبس، إذن كيف لا ينكبون ذلك الانكباب؟؟‏

المستودع مليء حتى الحافة.... حنطة، شعير، عدس، حمص. الموسم خصب والغلال وفيرة، والشريكان يريدان أن يعملا... شهرين، ظل عزيز يجيء بقوافل الحبوب...‏

الموسم انتهى، والبيادر اختفت من واجهات القرى، وتلك آخر القوافل التي يأتي بها عزيز. مختار القرية ودعه بالأمس وداع الصاحب الحبيب، رجال الخربة أخذهم كلهم بالأحضان، ثم مضى إلى البطحيش يودعه... أكثر من شهر كان قد غاب عنه، حيطة وتستراً، فاغتيال "الليوتنان بورجيه" كان قد أثار البلبلة ليس في قرية دنيا وحسب، بل في حوران كلها...‏

أخباره وصلت حتى مسامع صبري في دمشق، بل بدت الدهشة تمسك بمجامعه كلها حين ختم القصة بالسؤال "من تراه ذلك المقدام الذي مايزال يتربص بالفرنساوي"... لم يستطع عزيز أن يجيب حينذاك وإن هم أكثر من مرة بذلك.. لقد كان بينه وبين البطحيش عهد قاطع:‏

أن يبقى السر بينهما لا يتجاوزهما إلى ثالث.‏

أنهى الجمالة إفطارهم وبدؤوا يعدون العدة للعودة، صبري أعد حسابهم بالمقابل.... سلم كلاً منهم أجره قطعاً فضية رنانة وأوراقاً خضراء وحمراء أدخلها معه الفرنساوي شرطاً من شروط انتدابه على سورية.‏

ـ عائد للديرة الآن؟ سأل عزيز الفتى الناحل الطويل وهو يربت كتفه، مدركاً أنه سيفتقده حتى العام القادم..‏

ـ لا، بل اذهب إلى سوق الهال أحمل الخضار.... رد عواد وعلى محياه سيما الحزن لفراق صاحبه الذي كان يرى فيه بعضاً من أب. تبسم عزيز وهو ينظر إلى الفتى الناحل الذي لا يضيع دقيقة من وقته... نملة في موسم البيادر تنقل الحنطة إلى وكرها ذاهبة آيبة... عواد يأتي بالحنطة إلى دمشق ويعود بالخضار والفاكهة إلى حوران... منشار يأكل الخشب في الذهاب والإياب... الصيف لديه عمل، والشتاء دراسة، قميصه المهلهل، بنطاله المرقع، صندله ذو الإصبع... مظهره كله يدل على مقدار حاجته للمال... فلماذا لا يحمل صناديق الباذنجان والبندورة، الفليفلة وتفاح الزبداني إلى أسواق درعا؟..‏

ـ بماذا أوصيك عواد؟ انتبه لدراستك.. قال عزيز وهو يشد على يد الفتى الناحل مودعاً، دراستك ولا شيء غير دراستك...‏

ـ بالتأكيد، همهم الفتى الناحل وهو يعرف قصد الرجل الأربعيني عريض المنكبين الذي بدا الشيب يخط فوديه.. ففي ذهابهما وإيابهما ذلك الصيف، اعترف له بقصة حبه، فتاة برشاقة الغزالة وعيون المها كانت قد سحرت لبه. والدها يبيع الحلاوة والتمر، وعواد يحب الحلاوة والتمر... يذهب إلى دكان الكهل كلما مر بخربة الغزالة". أتراهم سموا القرية باسم الفتاة أم سموا الفتاة باسم القرية؟.. "هو لا يدري، لكنه لم يكن يستطيع المرور بالخربة إن لم يمر بدكان الغزالة. هو محجه ولابد للمرء من زيارة محجه.... نظرة، فابتسامة فسلام، هكذا بدأت قصته مع الغزالة، ثم توقف هناك، لا هو قادر أن يبوح بما في صدره من كلام ليتبع ذلك موعد فلقاء ولا هي قادرة على ذلك أيضاً. وجنتاها كوجنتيه تحمران كشمندر مسلوق حين يقترب منها، بل هو يشعر وكأن بخاراً ساخناً يخرج منها جميعاً، بخار شمندر أحمر.. يخرج من قدر... باستحياء تنظر إليه... باستحياء تسأل، وهو بعفوية واندفاع، يحدثها عن دراسته...عن البكالوريا التي يريد أن يأخذها، ثم الجامعة في دمشق والحياة الجميلة والمستقبل فيما هي تتابعه، توشك أن تطير فرحاً، "أريد أن أصبح محامياً أدافع عن الحق، أنصر الضعفاء والمظلومين"... قال لها آخر مرة فتوهجت وجنتاها شمندراً أكثر احمراراً وجمراً أكثر توهجاً...‏

عزيز أصغى إلى قصته حتى النهاية... لكن دون أن يبدو على محياه السرور "لماذا؟"... سأله الفتى الناحل الطويل. "لأنك فتى نابه أمامك دراسة ومطامح، وعليك أن تحققها..."، "لكأن الحب يعيق المطامح؟"، سأل الفتى سؤال المتعجب فأجاب الأربعيني الذي عاش الحب بأحلى صوره وعرف تماماً مايعني. "بالعكس، قد يكون الحب دافعاً عظيماً لتحقيق المطامح"... ثم سرد له طرفاً من قصته مع شمس، الفارس الملثم الذي أنقذه ذات يوم من براثن الموت ثم تكشف له عن فتاة خلبت لبه حبا "إذن، ينبغي أن تشجعني".. استغل الفتى الناحل الفرصة ضارباً ضربته"... لا.. في حالتك العكس هو الصحيح تماماً"... "لماذا؟"..‏

"ها.... تسألني لماذا!.. لأن الحب يعني الزواج، والزواج هو المرساة التي توقف السفينة وتثبتها، أتدري مايعني وقوف السفينة؟" .. عواد يدري، لكن الحب يمور موار دمه ويجيش جيشان أنفاسه فكيف يعطي أذناً لناصح؟‏

ـ تفرغ لدراستك... الآن وقت الدراسة فقط، عاد عزيز يؤكد نصيحته، وكأنما يريد أن يربط بين حديثه اليوم وحديث الأمس...‏

ـ ا... ا... ان... شاء الله.... أجاب الفتى الناحل الطويل بتلعثم علم عزيز منه أن لا علاقة له بالتنفيذ..‏

ـ بل تعدني.. قال وهو يشير بسبابته إشارة الأمر... لا تفكر بشيء آخر غير دراستك... بعدئذٍ تابع بنبرة مختلفة: المثل يقول: بطيختان لا تمسكان بيد واحدة...... والدراسة والحب بطيختان فأيهما تمسك؟‏

ـ الدراسة؟‏

ـ تعدني؟ تقسم على ذلك؟‏

ـ أجل.. أعدك... وأقسم على ذلك...‏

ـ على بركة الله.. ولا تنسَ... زرني إن جئت إلى دمشق..‏

ـ إن شاء الله، همهم الفتى وهو يعلم أنه لن يجيء إلى دمشق في الشتاء. بعدئذٍ شد على يد عزيز، ثم دار على عقبيه وأسرع إلى جمله. كان الصحب قد بدأوا بإنهاض جمالهم، وكانت الجمال تهدر وترغي، بعضها فك ركبة وبعضها ركبتين، فيما هب بعضها الثالث واقفاً مرتفعاً بسنامه حتى موازاة حائط المستودع. "وداعاً أيها الصيف!!... وداعاً يا موسماً خصباً قد لا يعود!!".... فكر عزيز وهو يرى إلى الجمال تنسرب واحداً إثر الآخر وأيدي أصحابها تلوح له تلويحة الوداع..‏

في الداخل، كان صبري مايزال يحسب جامعاً طارحاً وقد أدى لكل ذي حق حقه. دفتر كبير كان ينبسط بين يديه وأرقام كثيرة كانت ترتسم على صفحاته.‏

ـ أتعلم مجموع ما اشتريناه هذا الموسم من حبوب؟ دفع الفضول عزيزاً لأن يسأل ..‏

ـ لم أجمعها بعد... رد صبري وهو يقلب الدفتر أمامه، ملتفتاً إلى أكداس الحنطة والشعير وراءه... لكنها هذا العام أكثر من كل عام...‏

ـ إذن، ستكون أرباحنا أكثر...‏

ـ قل... نلبي حاجة الناس أكثر...‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:36 AM [ 7 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




وتنهد عزيز راحة وطمأنينة، فرئيسه القديم لم يخيب أمله مرة واحدة... كان دائماً يفكر بالآخرين، لم يره يوماً يتحول إلى تاجر جشع يهمه تكديس المال وكنز الذهب والفضة...‏

صبري مؤمن أنه مامن غني محتكر ولا تاجر جشع يدخل الجنة حتى يدخل الجمل من خرم الإبرة، قلبه ينبض بحب الغير تماماً كما عرفه في ساحة الميدان....‏

هو دائماً أول من يضحي وآخر من يستفيد...! أينسى عزيز تلك‏

الأيام ـ ؟..‏

ـ هـ..ـيـ.. يه... أين شردت؟ سأله الرئيس القديم وقد رآه يطرق ساهماً..‏

ـ من كان يظن ونحن نطفئ مستودع القدم ذلك اليوم السعيد أنه سيكون لنا مستودع في القدم؟‏

ـ هي ذي الحياة دائماً، مفارقات ومفاجآت..‏

رد صبري، الضابط القديم الذي لم يكن قد وضع في حسابه يوماً، أنه سيعود تاجراً كأبيه يضرب ويحسب بين عدول الحنطة والشعير...‏

ـ أجل... هي ذي الحياة.... دولاب يدور وفصول تتغير... أتذكر يوم دخلنا دمشق؟.. كان يخيل إلينا أن الدنيا كلها ملك أيدينا...‏

ـ إيه!!... كم كانت أحلامنا كبيرة!! دولة عربية من جبال طوروس حتى بحر العرب!!‏

علم واحد، ملك واحد، جيش واحد.... إيه!! رحمك الله يافيصل!!.. كنت تقاتل الاستعمار لتأتي باستعمار أشد وأدهى؟!...‏

ـ تعلم أبا فريد؟ حتى اليوم أتساءل أحقاً كان مخدوعاً؟ أحقاً استطاعوا أن يغرروا به؟‏

ـ أجل... حقاً وصدقاً، أنا أعرف... رافقته منذ البدء... ثائراً مخلصاً، يحلم بالحرية الحقة والاستقلال الحق.... لكنه، لم يكن يعلم أن كل من حوله ذئاب غادرة.... لورنس، اللنبي، سايكس، بيكو، مكماهون... كلهم كانوا يتآمرون عليه....‏

ـ مايثير عجبي أيضاً، كيف استطاعوا أن يضللوكم أنتم، يخدعوكم جميعاً..... وأنتم ضباط متعلمون دارسون؟...‏

ـ البراءة....كنا أبرياء. وما أسهل أن تخدع بريئاً لم يعرف الخداع والمكيدة من قبل... نحن خارجون من قلب الصحراء... من قلب الطبيعة، من قلب البراءة، وهم ذوو باع طويل في التآمر والكيد، في خدع الاستعمار وأحابيله، فكيف لا يمكنهم أن يخدعونا؟..‏

هم عزيز بالكلام لكن الرئيس تابع وقد اشتعل حماسة ودفقاً:‏

ـ تعلم؟.. بالخديعة استعمروا العالم.... بالتآمر والباطل هيمنوا على بحار الأرض... وقاراتها... يضربون هذا الشعب بذاك، هذه الطائفة بتلك ليقطفوا هم الثمار...‏

ـ صحيح... هذا مايثير انتباهي... نحن هنا لم نقاتل الفرنساوي بل السنغالي والمغربي، الإفريقي والجزائري...‏

ـ وهذه فرنسا... أدنى درجة من بريطانيا في سلم الاستعمار...‏

ـ ربما... رد عزيز شبه مقاطع، ربما الإنكليز ألأم وأخبث لكن هؤلاء الفرنسيين أكثر قسوة وطغياناً، يؤلمك أن واحدهم نزق أحمق... لا يحكم تصرفاته عقل أو منطق...‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:37 AM [ 8 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




وتجهم عزيز وهو يتذكر الكابيتان كاربييه الذي عاقب مدينة بكاملها كالسويداء، من أجل قطة.... حبس أهلها وفرض عليهم الغرامات انتقاماً لقطة.... صبري نفسه يذكر ذلك، يذكر القسوة والظلم اللذين عوملت بهما دمشق والغوطة أيام الثورة ومابعد الثورة، يذكر البيوت التي قصفت، قذائف المدفعية وهي تصب كوابل المطر على حيه، الميدان، حي الشاغور، باب الجابية، المدينة القديمة كلها، وكأنهم يريدون مسحها عن وجه الأرض.... لكن ذلك مضى وانقضى.... الناس منذ انطفأت نار الثورة رفعوا أيديهم ولووا أعناقهم.. هم يأكلون ويشربون، يبيعون ويشترون، وكأنما أسلموا أمرهم للأقدار. تقسيم البلاد تراجعت عنه فرنسا، الميرة خففت منها، الضرائب باتت تحسب ألف حساب قبل أن تفرضها، لكن الإنكليز!! الويل لهم أولئك الإنكليز ماتراهم يفعلون هناك حيث فرضوا أنفسهم دولة انتداب في فلسطين؟..‏

رأي البطحيش أنهم كانوا يسلمونها لليهود قرية قرية ومدينة مدينة، وذلك ماكان يشغله في لقائه الأخير بعزيز. لم يكن الرجل على "الحشيشة". حزيناً مقهوراً كان لا ينفك يزفر الزفرات الحرى، حين سأله عزيز "مابك؟" أجاب: "أنا حائر، بلدي هنا يدعوني كي أقاتل الفرنساوي وأناجزه، وبلدي هناك يدعوني أيضاً.... فلسطين تدعوني يا عزو... الخطر داهم والمؤامرة عليها قاتلة، فهل أذهب إليها أم أبقى؟ هل أقاتل مع الذين يقاتلون فيها عدوين لدودين: الإنكليز واليهود... أم أظل هنا أصارع الفرنساوي؟"...‏

كانت تلك الحيرة هي التي تقلقه ولم يكن باستطاعة عزيز نفسه أن يحسم الأمر وينهي تلك الحيرة، كلا البلدين كان يعاني وكلا البلدين كان بحاجة لمن يدافع عن حريته واستقلاله، لكن فلسطين مهددة في وجودها...‏

مئات الآلاف من المهاجرين اليهود كانوا يأتون كل عام، تحت هذا الغطاء، تحت ذاك، كان يهود أوربا، قد غدوا أسراب قطا لا يرويها إلا مياه نهر الأردن، بحيرة طبريا، والحولة.. وكان هتلر يسوطهم في ألمانيا بشواظ النار فيفرون كالحمر المستنفرة ولا يجدون أنفسهم إلا في أيدي الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية تسوقهم قطعاناً قطعاناً إلى مرج ابن عامر وسهول حيفا ويافا. لكأنها خطة مدبرة، سلسلة متكاملة الحلقات، تبدأ بهتلر وتنتهي‏

بوايزمن....‏

ذهباً وفضة يحملون معهم... أموالاً طائلة ينفقون فيشترون هذه البيارة وذلك الحقل، تلك الأرض وهذا الحي... إلى درجة باتوا معها يشكلون خطراً حقيقياً.... الناس في الشوارع باتوا يتعرضون للاغتيالات والقتل، ونساؤهم للتحرش والاغتصاب.... كانت النار قد وصلت إلى ثيابهم... حينذاك فقط هبوا يصرخون "نريد سلاحاً، نريد مالاً، نريد تنظيمات ندافع بها عن أنفسنا"...‏

البطحيش همس في أذنه أنه يرسل لفلسطين أسلحة في القطار بين أكداس الفحم: في عربات الشحن، بل حتى في سلة سائق القطار، حيث يضع زوادته، يخبئ البطحيش المسدسات، وتذهب إلى سمخ، ومن هناك تنتقل غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، "يجب طرد اليهود... ينبغي منعهم من تملك الأرض.... فلسطين لنا فلماذا تأتون باليهود إليها؟ لماذا تغرقون سهولها وجبالها بهم؟"... كانت صيحات الناس تتعالى احتجاجاً في كل مكان، مما أزعج السادة الإنكليز فانقضوا على العبيد يلهبون ظهورهم سياطاً وصدورهم رصاصاً. الدم يجر الدم، والعرب يأتون من كل مكان لنصرة الشعب المظلوم، ومن غامض علم الله يظهر الشيخ عز الدين القسام ليقود ثورة على الإنكليز واليهود... هدفها إخراجهم معاً من فلسطين....‏

السؤال الذي كان يحير البطحيش بات يحير عزيزاً... هل ألتحق بالشيخ القسام أم لا؟!"... وأفضى عزيز لشريكه بالسر فلم يتردد صبري لحظة واحدة..‏

ـ ولم لا؟ نذهب فنقاتل مع الشيخ القسام؟‏

ـ حقاً؟!.. أتذهب؟..‏

ـ وما المانع؟ سعيد العاص ذهب.... الشيخ القسام نفسه جاء من جبلة فلماذا لا نذهب نحن من الشام؟.. قال صبري وقد عاد إلى وجهه الإشراق الذي عرفه عزيز أيام كان يقود فصيله المتقدم في الجيش العربي الزاحف إلى الشام يحررها من نير الاستعمار العثماني...‏

تداول الرئيس القديم ومرؤوسه الأمر وقد عادا عشرين عاماً إلى الوراء، يحملان السلاح ويقاتلان.... الرئيس أكثر حماسة من المرؤوس وأكثر حسماً أيضاً، فكل ما يهمه أن لا تضيع فلسطين.‏

ـ لكن دعنا نكلم شكري بيك علنا نأخذ متطوعين... اقترح الرئيس وهو يشتعل حماسة ..‏

ـ بيدك حق..شيء رائع أن تذهب على رأس كتيبة من المتطوعين‏

إلى فلسطين!!...‏

شطت بعزيز الحماسة وهو يتصور أن دمشق كلها ربما تلبي النداء إذا ما طرحا الفكرة على شكري بيك فيذهب مقاتلون أشداء يطردون الإنكليز من فلسطين ويطهرون ترابها من اليهود..‏

ـ ننهي هذه الحسابات ونمضي، اقترح صبري أخيراً.. وهو يشير إلى سجلات أمامه لم تكتمل حساباتها..‏

لكن حين أقفلا باب المستودع وتوجها إلى المدينة أدهشهما انقلاب المدينة حالاً على حال... شارع الميدان خاوٍ على عروشه، المحال مغلقة، بل حتى متجرهما، متجر الحبوب مغلق، مرا به فلم يجدا لا أخضر ولا أصفر، سألا أحد الأصحاب...‏

ـ هـ...ي...هـ...ي... رد الصاحب... ألم تسمعا؟‏

ـ لا.. ماذا هناك؟ سأل صبري باستغراب أشد..‏

ـ المدينة خربة... مظاهرات النساء ملء الشوارع..‏

وأسرع عزيز إلى بيته يبحث عن شمس وقد أحس في الحال بوخزة مسلة، لكن لم تكن هناك شمس.‏

ـ أين عمتك؟ سأل بكثير من القلق وضحة التي كانت وحيدة في المنزل منهمكة بإعداد الغداء.‏

ـ عمتي خرجت..‏

ـ أين؟.. سأل بلهفة أشد وقلق أعظم..‏

ـ لم تقل لي... عمي.. لا أدري....‏

وأنى لوضحة أن تدري؟‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:37 AM [ 9 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




في الصباح، بعد أن غادر عزيز المنزل، كانت شمس قد جاءت إليها في المطبخ تشاورها في شؤون الطعام "عمك يشتهي المحشي؟"، "إذن نطبخ له المحشي"، كوسا، فليفلة، باذنجان"، "عددت لها شمس" "على راسي عمتي"، أجابت وضحة واضعة كفها على رأسها ثم خرجت إلى السوق تشتري الخضار واللحمة والفواكه، فيما مضت "العمة" إلى جانب البركة تشرب القهوة، وتستمتع بنسيم الصباح العليل..‏

على جناحين من سعادة.. كانت تحوم شمس في فناء الدار، عيناها تبرقان سروراً وبهجة.. شعور عميق بالراحة يفرش أجنحته على كل مافي صدرها من مشاعر وأحاسيس، هو الشعور نفسه يطغى عليها كلما عاد إليها عزيز بعد غياب....‏

أهو شعور الاسترخاء بعد التوتر؟ الطمأنينة بعد القلق؟ هي لا تدري، لكنها تدري من تجارب السنين الطويلة أنها لا تعرف راحة إلا بعد أن يعود إليها، ولا تشعر بسعادة إلا وهي بين أحضانه: "آه!! ما أروع تلك الأحضان!! ما أشهى دفق الحب من شفتيك يا حبيبي".. ورشفت شمس رشفة قهوة ساخنة. هي تحب قهوة الصباح على صوت العصافير وهي تزقزق، فسقية الماء، وهي تعزف أنغامها الراقصة، وطيوف الذكريات وهي تنسرب في خلاياها دافئة حميمة..‏

جلسة الصباح تلك كانت تحبها كثيراً، الدار كلها كانت تحبها كثيراً، أشجار النارنج، أحواض الأزهار والورود، بركة الماء، التي تتلألأ تحت أشعة الشمس وتتلامع على ضياء القمر، زجاجها المعشق، عليتها، شرفتها، "المشرفة" كما كانوا يسمونها.. تحفة رائعة كانت تلك الدار، تجد فيها شمس كل ماتحب وتشتهي... السنون الطويلة التي أمضتها فيها جعلتها تتعلق بها... هي تتذكر أحياناً دارها في حماة، كانت داراً واسعةً أيضاً لكن لم يكن لها هذا التناسق والجمال، ذلك الفن والإبداع.... ولم تكن قد حملت لها مشاكل وجراحاً، هموماً... وغموماً، كما فعلت دار حماة... هي تتذكر حسني أفندي، خالد آغا، الكابيتان جيرار والمخالب التي أرادوا أن ينشبوها فيها كلما حانت الفرصة... تتذكر المضافة التي حملت لها الكثير من المشاكل والمنغصات. هنا، لا مشاكل، ولا منغصات، لا خالد آغا، ولا كابيتان جيرار. مذ سكنت دمشق اختطت لنفسها خطة جديدة، تلتزم فيها بتقاليد الميدان وعاداته.‏

كانا ما يزالان في طور التخفي،... هي لا تريد أن يعرف بها أحد وعزيز لا يريد أن يفضي بحقيقته لأحد فاقتصر على القلة القليلة من الناس... جيرانهم الأقربون فقط يعرفونهم، آل صبري فقط أصدقاؤهم.... لم يكن باستطاعة عزيز أن يفتح مضافة، ولم تكن الظروف تسمح لشمس أن تخرج سفوراً أو تستقبل الرجال أو تجالس الضيوف.... هنا حرملك، سلملك.... الحدود قائمة والحواجز عالية، البدو بعيدون عن الميدان... وأعراف البدو لا تسري على الميدان، تخرج شمس، تلبس الملاءة السوداء، شأنها شأن كل امرأة في الميدان، لا يتلصص عليها أحد، ولا يتحرش بها أحد. وحده بيت الشعلان كان متنفسها، فحين تذهب إلى ذلك البيت تعود بدوية آتية من مضارب الخيام. هي هناك شيخة ابنة شيخ، تحدث الأمير وتجالس الرجال وتسمع في المضافة عزف الرباب وقصائد الشعراء. لكن تعود إلى بيتها في الميدان فتعود الحرملك الذي لا يختلط بالسلملك...‏

أربع سنين ظلت شمس تعيش في أضيق دائرة من العلاقات، كان الخوف مايزال يعشش في صدرها... يعرفون بها، يفطنون لقصتها، فتذهب هباء.... لكن شيئاً فشيئاً بدأ الخوف يتلاشى... أهو اختلاف الليل والنهار ينسي؟ أهي الأحداث تمحو ماقبلها حتى تبهت ألوانه فلا تعود العين تبصره؟ شمس لا تدري. لكن قوانين الحياة وسنن الطبيعية هي التي تسود دائماً...‏

يتلاشى القديم ليظهر الجديد. حجر يسقط في بركة ماء فيصنع دائرة ثم دائرة. الدوائر تتسع بعدئذٍ وتتسع. دائرة شمس كانت تتسع..... صحيح لم يكن في دمشق المكيساتية أم عمر لكن ثمة حمامات سوق أيضاً وأم خالد وأم قعود..... وفي دمشق جارات لطيفات ظريفات أيضاً يدفعهن الفضول لأن يتشممن رائحة هذه ويتسقطن أخبار تلك.... شيئاً فشيئاً راحت شمس تتعرف إلى جارات وجارات فلم تنته السنون الثماني حتى كانت قد أصبحت معروفة جيداً في أوساط النساء.... على صلة بسيدات المجتمع.... وبأنشطة المجتمع...‏

كم سرت شمس حين اكتشفت أن في دمشق رابطة للنساء ونادياً يجتمعن فيه ويتحدثن، يناقشن قضايا المرأة وهموم النساء...هناك تعرفت شمس إلى عايدة بيهم، إلى ماري عجمي، وإلى نازك العابد... معهن صارت تلتقي، تحضر أمسيات، تشارك في لقاءات...‏

وكانت هموم الوطن محور تلك اللقاءات... من قال ان المرأة لا يشغلها سوى هموم المرأة؟‏

هي كالرجل يشغلها هم الوطن أيضاً، شمس تستمع إلى محاضرات في السياسة، تصغي لما يدور في العالم من أحداث.... تطورات كثيرة حدثت مذ كانت في حماة.... في دمشق لم تعد تشعل المصباح الكازي ولا الشموع.... صار هناك شركة كهرباء.... أسلاك الكهرباء مدت إلى البيوت.... مصابيح الكهرباء أخذت تشع كالشموس.... ومع الكهرباء جاء المذياع الذي ينقل لك أخبار العالم... هتلر، موسليني، ستالين، صار بإمكان شمس أن تعرف كل مايدور في العالم... تعلم من المذياع أخبار الدول والأنظمة والجيوش... نازك مولعة بتلك الأخبار.... في الصحف، في المجلات، في الإذاعة، نازك لا تترك خبراً سياسياً يفوتها، تطوراً أو حدثاً يمر بها، ونازك صديقة حميمة... شمس معجبة بها... فتاة في أواخر ثلاثيناتها لكنها لا تفكر بالزواج، فاتها القطار لكن دون أن تبالي.... همها الوحيد أن تنظم النساء من حولها، أن تعمل من أجل توعيتهن، حثهن على المطالبة بحقوقهن والدفاع عن وطنهن، كتلة من الحيوية والحماسة تلك الفتاة، يمر طيفها بذهن شمس وهي ترشف قهوتها بجانب البركة فلا تملك إلا أن تبتسم.‏

مع ابتسامتها جاء القرع على الباب.... وشهقت شمس حين فتحت الباب وظهرت نازك.‏

ـ معقول!؟... بادرتها شمس وهي تسرع إليها حاضنة مقبلة، الآن فقط كنت أتذكرك...‏

ـ هذا مايدعونه التخاطر... أسمعت به؟‏

-لا.. على كل حال اقعدي.. اشرحي لي ما هذا التخاطر.‏

ـ لا... لا... ليس لدينا وقت... ولا أنا قادرة أن أقعد، ردت نازك الثلاثينية، العانس، رقيقة العظام، رقيقة الملامح، لامعة العينين، وهي في عجلة من أمرها...‏

ـ خير ماذا هناك؟...‏

ـ مظاهرة... الرابطة قررت أن تخرج بمظاهرة نسائية...‏

ـ لماذا؟ ألم يعد هناك رجال؟ ردت شمس مازحة مستغربة أن تتظاهر النساء في الشوارع ويقعد الرجال في البيوت.‏

ـ بل هناك رجال... لكن المظاهرة النسائية أسلم... النساء لا يحملن سلاحاً ولا يقاتلن يعني... مظاهرة سلمية...‏

ـ رائعة! فكرة رائعة.... هتفت شمس وقد أعجبتها الفكرة فجأة...‏

ـ أسرعي إذن... النساء بانتظارنا... فلا نتأخر عنهن...‏

وأسرعت شمس، لبست ملاءتها السوداء على عجل، ثم خرجت شابكة يدها بيد نازك. ناسية حتى أنها ربة منزل.‏

ـ لكن لم تقولي لي... لم هذه المظاهرة؟ قالت شمس وقد تذكرت أنها لم تعرف السبب...‏

ـ العراق وقع معاهدة مع بريطانيا يحصل فيها على مايشبه الاستقلال. مصر أيضاً حصلت على مايشبه الاستقلال... ونحن هنا قاعدون، لا فرنسا تفكر بإعطائنا استقلالنا ولا رجالنا يطالبون... فقلنا نطالب نحن!!...‏

ـ عظيم!! يعني نحن خارجون كي نطالب بالاستقلال!!‏

ـ وبالحرية!! بحقوقنا كشعب، كوطن!!‏

ـ الله!! هذا ماكنت أحلم بالعمل من أجله!!..‏

أمام الرابطة، كانت مئات النساء قد تجمعن... وكان الصخب عالياً، حتى بدا لشمس انه يصل إذن الجوزاء... لافتات كانت قد كتبت بخط أسود عريض: "الاستقلال... الاستقلال"، "الحرية"... "الحرية"...، لا استعمار ولا انتداب"، "نحن بدنا الحرية"، "سورية أرض الأحرار"....‏

ـ متى فعلتن هذا؟ سألت شمس وهي تشير إلى اللافتات وفي نبرتها مسحة من عتاب.‏

ـ منذ ثلاثة أيام ونحن نستعد... وأسرعت نازك إلى المقدمة فقد كان هناك تململ الانتظار.‏

هو الرق الذي لا ريب فيه، أرادوه فسموه انتداباً. لعلع صوت نازك حين وصلت إلى المقدمة فرددت مئات الأفواه في الحال: "يسقط الانتداب... يسقط الاستعمار... تسقط فرنسا". وخلال ثوان بدأت المظاهرات تشق طريقها في شوارع فغرت أفواهها تعجباً من مظاهرة لم تشهدها من قبل. كانت الفكرة جديدة اعترضت عليها نساء من الرابطة وأيدتها أخريات... نازك كانت أشد المتحمسات، "ولم لا؟!" قالت لهن. "قبل سبعة عشر عاماً خرجت نساء مصر يتظاهرن احتجاجاً على سياسة بريطانيا واضطهادها، ومناصرة لسعد زغلول، فلماذا لا نخرج نحن ونثبت أننا لا نقل عن نساء مصر شجاعة ووطنية؟"..‏

الحجة مقنعة فوافقت الأخريات "مظاهرة سلمية تطالب فرنسا بإنهاء انتدابها وخروجها من سورية"، لم تستأذن النسوة فرنسا كما لم يستأذن رجالهن. لأول مرة كن يردن أن يفاجئن فرنسا والرجال معاً، وبدت المفاجأة صاعقة حين انطلقت حشود متراصة من ملاءات الليل وقد أسفرت عن أقمار لا عد لها ولا حصر. الرجال أفواه فاغرة وعيون جاحظة...‏

شرطة الفرنساوي وجنده مندهشون ذاهلون.... ليس لديهم أوامر ولا يعرفون مايفعلون..... من باب الجابية مروراً بسوق مدحت باشا إلى سوق الحميدية....كانت المظاهرة تسير، بتناسق وانتظام.. الأيدي تلوح عالياً، والأصوات تلعلع.... هن النسوة الخجولات الحبيبات يطلقن لأصواتهن العنان فتردد جدران مدحت باشا وسقف الحميدية الأصداء أصواتاً أنثوية لم تسمع مثيلاً لها من قبل.‏

كانت خطة المظاهرة أن تمر بأكبر قدر من شوارع دمشق، تغلق المحال، تشجع الرجال، تحث الشبان على المطالبة بحقوق لا يجوز السكوت عنها، بحرية تؤخذ عنوة ولا تعطى اختياراً. ثم تصل إلى المرجة حيث السراي والمندوب السامي فيوصلن له احتجاجهن ويسمعنه بأذنيه مطالبهن.‏

المندوب السامي وصله نبأ المظاهرة فانتفض غاضباً."نحن نريد لهم الخير وهم يريدون بنا الشر... نأتي لهم بالحضارة والمدنية فيبعثون بنسائهم يتظاهرن ويشاغبن.... حركوا الشرطة... ابعثوا الجند، فرقوهن... لا أريد مظاهرات، لا أريد احتجاجات..."، راح المندوب السامي يصرخ بكبار ضباطه وأعوانه... فانتشر الضباط والأعوان في الحال ناشرين معهم الجند والشرطة... صفوفاً متراصة من هراوات وبنادق...‏

شمس في المقدمة، روح الفارس الملثم كانت قد بعثت. قوته، شجاعته، كلها كانت قد توهجت من جديد. جمراً كشف عنه الرماد، ماذا؟ عشر سنين؟ إحدى عشرة سنة مرت على آخر توهج لذلك الجمر؟ ربما، شمس على ثقة أن مائة سنة لا تستطيع إطفاء ذلك الجمر... كل من حولها من نساء شممن فيها رائحة تلك الشجاعة، لمسن روح ذلك الفارس فأسلمن لها القياد ليعلو صوتها كهدير الرعد: "يا فرنسا اطلعي برا... من سوريا الأرض الحرة، لا انتداب، لا استعمار... سورية بلد الأحرار...".‏

مظاهرة سلمية تقوم بها النساء، لا سكين ولا خنجر، لا بندقية ولا مدفع، وفرنسا بلد الحضارة، تحترم الرأي الآخر، تؤمن بحقوق الإنسان، بحرية التعبير... المرأة لديها في أرفع المراتب، تقبل يدها، تحني لها الرؤوس، إذن لم لا تخرج نساء دمشق؟ لم لا يطالبن بحقوقهن؟‏

النساء يهتفن مطمئنات أن ضيراً لن يصيبهن فالسلم ينبغي أن يقابل بالسلم.....شمس، وهي تهتف، ترى هراوات الشرطة وسياطهم، مسدساتهم وبنادقهم، لكنها لا تخاف.... هي لا تحمل سلاحاً، النساء كلهن لا يحملن سلاحاً... سلاحهن أصواتهن فقط، يرفعنها مطالبات بحق، فرنسا نفسها تعترف به، فلماذا تخاف شمس؟ كل ظنها أن الجند سيكتفون بدفع النسوة إلى الوراء أو تشكيل سد يمنع الزحف إلى المندوب السامي أو التقدم باتجاه السراي.... لكن مرة ثانية يخيب ذلك الظن: إذ ما إن تصل النسوة إلى الهراوات حتى تنهال الهراوات على رؤوسهن. ويختلط الحابل بالنابل....‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 13 Apr 2006, 12:38 AM [ 10 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




ـــ 3 ــــ

الشمس في مركز الدائرة، هالات حولها ومدارات، تسير عليها الكواكب وتدور الأقمار، تستمد منها الضوء، والحرارة، تأخذ الطاقة والحياة..... فماذا يحدث إن انطفأت تلك الشمس؟ ما ترى يجري للكواكب والأقمار؟.. فلك شمس كله اضطرب، مداراتها كلها تقاطعت وتصادمت، كواكبها وأقمارها تحيرت في أماكنها وارتبكت، وقد غرق الكون كله في الفوضى والظلام....‏

بدور أحست بذلك الظلام مذ فتحت عينيها. فليس أحب على قلبها من أن ترى وجه أمها أول ماترى تصطبح به شمساً مشرقة، تشع لها الدفء وتمنح الحنان..... طفولتها الأولى قضتها هناك في البادية حيث الحل والترحال وحيث الأم هاربة، متخفية، وبدور شاغلها الوحيد... لم يكن هناك دار ولا حبيب: عزيز يقاتل في صفوف الثورة أو مختف هنا أو هناك، والدار بيت من شعر تقوم بخدمته وضحة فتنكب شمس على فراخها الذين لم ينبت زغبهم بعد، تزقهم، تحنو عليهم وتفرش جناحيها رعاية وحماية.... لكن... الأخضر، نواف، مناف صبية، والصبية يخرجون إلى الفضاء الرحب، يلعبون، يلهون، يشتبكون مع الصبية الآخرين، ويغيبون، فيما بدور تظل مع أمها أنى ذهبت وكيفما توجهت، في حجرها، بين ذراعيها، على كتفيها، بدور دائماً مع شمس وشمس لا تستطيع فراق بدور.‏

حين انتقلوا إلى دمشق كانت بدور قد بلغت الخامسة... وفي أحشاء الحي العتيق، الميدان ذي الأزقة الضيقة والدور الكالحة والعليات المتلاصقة عاشت مع أمها غربة من نوع جديد... لم يكن هناك أقرباء ولا أصدقاء... الأهلون في البادية وأم العيون ودمشق غربة تامة... كل مافيها ومن فيها جديد على الأم والبنت فاشتدت العلاقة بينهما حميمية وازدادت الوشائج وثوقاً. الأب يخرج والأخوة يتفرقون لتبقى البنت لأمها دمية و سلوة... بيدها تطعمها، بيدها تسقيها. في الصباح توقظها بنفسها، تمسد براحتها الدافئة جبينها، تلاعب وجنتيها، تعبث بشعرها، ولا يسعد البنت كصحبة الأم، فتفيض عليها دفئاً وألقاً.‏

أول مرة ذهبت إلى المدرسة بكت عليها الأم مر البكاء، كما بكت البنت وشهقت ... فهما ستفترقان... وللمرة الأولى تفترقان.. لكن كان يعزي البنت أنها ما إن تفتح الباب عائدة من المدرسة حتى تجد أحضان الأم مفتوحة لها تغمرها دفئاً وحناناً... وفي الصباح توقظها أشعة الحب والحنو يطلقها وجه "الشمس المشرقة" فكيف لا تشعر بمثل ذلك وهي تستيقظ فلا تجد شمسها..؟‏

الظلام "يصاحبه القرس" والقرس بدأ يشوبه الرعب حين جاء الأب إلى المنزل فلم يجد الأم. "أين عمتك؟" "لا أدري رجعت من السوق فلم أجدها" الصبية الصغيرة توجست شراً وهي ترى أباها يتسمر في مكانه مفاجأ مذهولاً... جواب وضحة زاد سيماه اصفراراً وشفتيه ارتعاشاً". هو إذن خائف عليها؟"... فكرت الفتاة بعجب واستغراب... الأب، في عينيها فارس الفوارس، رجل الرجال.... كيف إذن يصفر وجهه وترتعش شفتاه؟ "المدينة مقفلة والمظاهرات ملء الشوارع، مظاهرات نساء لا رجال"، قال لها مناف بعد أن خرج الأب مسرعاً، ربما يبحث عن ذرة طمأنينة... كان مناف قد خرج قبل ساعة وكانت أخباره مثيرة للرعب..... "أمي في المظاهرة والاشتباكات على قدم وساق مع الفرنساوي". فزاد الطين بلة في عين بدور وفي قلبها، حيث القرس والرعب غابة من أشواك اشتعلت فيها النيران.‏


الأعلى رد مع اقتباس
إضافة رد
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تأملات على الطريق دق تحية قدامك مهرسية مرافئ البوح 10 02 Feb 2011 10:22 AM
تأملات على الطريق مجدي الشدادي القسم العام 4 12 Feb 2010 10:10 AM
الطريق خوي الذيب قصائد مختارة 10 08 Jan 2007 10:47 PM
وجه الطريق دايم الشوق قصائد مختارة 18 12 Apr 2006 02:22 PM
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

06:55 PM
Powered by vBulletin® developed by Tar3q.com