..:.. مرحباً بك في شبكة الشدادين الرسمية ، ضيفنا الكريم يسعدنا دعوتك للانضمام والمشاركة معنا .. اضغط هنا لتسجيل عضوية جديدة ..:..


العودة   شبكة الشدادين > المنتديات الأدبية > مكتبة الشدادين لروائع الكتب
 
أدوات الموضوع
إضافة رد
قديم 12 Nov 2005, 07:06 PM [ 11 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






مثل الثعلب والطبل


قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ ثعلَبًا أتي أجَمَةً فيها طَبلٌ مُعَلَّقٌ علي شَجَرَةٍ وكُلَّما هَبَّتِ الرِّيحُ علي قُضبانِ تلك الشَّجَرَةِ حَرَّكَتها فَضَرَبَتِ الطَّبلَ فسُمِعَ له صوتٌ عظيمٌ باهِرٌ. فَتَوجَّهَ الثعلَبُ نحوه لأجلِ ما سَمِعَ من عَظيمِ صَوتِهِ. فلمَّا أتاهُ وَجَدَهُ ضخمًا فأيقَنَ في نَفْسِهِ بكثرَةِ الشَّحمِ واللَّحمِ. فعالَجَهُ حتي شَقَّهُ، فلمَّا رآهُ أجوَفَ لا شيء فيه قالَ: لا أدري لعلَّ أفسَلَ الأشياءِ أجهَرُها صوتًا وأعظَمُها جُثَّةً

وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتعلَمَ أنَّ هذا الصَّوتَ الذي راعَنا لو وَصَلْنا إليه لوجدناهُ أيسَرَ ممَّا في أَنْفُسِنا. فإن شاء الملِكُ بَعَثَني وأقامَ بمكانِهِ حتي آتِيَهُ بِبَيانِ هذا الصَّوتِ. فوافَقَ الأسَدُ قَولَهُ فأذِنَ له في الذَّهابِ نحو الصَّوتِ

فانطَلَقَ دِمنَةُ إلي المكانِ الذي فيه شَتْرَبَةُ. فلمَّا فَصَلَ دِمنَةُ من عندِ الأسَدِ فَكَّرَ الأسَدُ في أمرِهِ ونَدِمَ علي إرسالِ دِمنَةَ حيثُ أرسَلَهُ وقالَ في نفسِهِ: ما أصَبتُ في ائتِماني دِمنَةَ وإطلاعِهِ علي سِرِّي وقد كانَ ببابي مَطروحًا. فإنَّ الرجلَ الذي يَحضُرُ بابَ الملِكِ إذا كانَ قد أُطيلَتْ جَفوَتُهُ من غيرِ جُرمٍ كانَ منه أو كانَ مَبغِيًّا عليه عند سلطانِهِ. أو كانَ عندَهُ مَعروفًا بالشَّرِه والحِرصِ. أو كانَ قد أصابَهُ ضَرُّ وضَيقٌ فلم يَنعَشهُ . أو كانَ قد اجتَرَمَ جُرمًا فهو يَخافُ العُقوبَةَ منه. أو كانَ يرجو شيئًا يَضُرُّ الملِكَ وله منه نَفعٌ. أو يَخافُ في شيءٍ ممَّا يَنفَعُهُ ضَرًّا. أو كانَ لعدُوِّ الملِكِ سِلمًا ولسِلمِهِ حَربًا. أو كانَ قد حِيلَ بينه وبين ما في يديهِ مِنَ السُّلطانِ. أو باعَدَهُ. أو طَرَدَهُ. فليسَ السُّلطانُ بحقيقٍ أن يَعجَلَ في الاسترسالِ إلي هؤلاءِ والثِّقَةِ بهم والائتِمانِ لهم

وإنَّ دِمنَةَ داهِيَةٌ أريبٌ وقد كانَ ببابي مَطروحًا مَجفُوًّا. ولعلَّهُ قد احتَمَلَ عليَّ بذلك ضِغنًا ، ولعلَّ ذلك يَحمِلُهُ علي خيانَتي وإعانَةِ عَدُوِّي ونَقيصَتي عندَهُ، ولعلَّهُ أن يُصادِفَ صاحِبَ الصَّوتِ أقوي سلطانًا منّي فيَرغَبَ به عنّي ويَميلَ معه عليَّ. ولقد كانَ الواجِبُ أن أهجُمَ علي صاحِبِ هذا الصَّوتِ بنفسي. ولم يَزَلِ الأسَدُ يُحَدِّثُ نفسَهُ بأمثالِ ذلك حتي جَعَلَ يَمشي وينظُرُ إلي الطَّريقِ التي سارَ فيها دِمنَةُ. فلم يَمشِ غيرَ قليلٍ حتي بَصُرَ بدِمنَةَ مُقبِلاً نحوه فطابَتْ نفسُهُ بذلك وَرَجَعَ إلي مكانِهِ.

ودَخَلَ دِمنَةُ عليه فقالَ له الأسَدُ: ماذا صَنَعتَ وماذا رأيتَ? قالَ: رأيتُ ثَورًا وهو صاحِبُ الخُوارِ والصَّوتِ الذي سَمِعتَهُ. قالَ: فما قُوَّتُهُ? قالَ: لا شَوكَةَ له وقد دَنَوتُ منه وحاورتُهُ مُحاوَرَةَ الأكْفاء فلم يَستَطِعْ لي شيئًا

قالَ الأسَدُ: لا يَغُرَّنَّكَ ذلك منه ولا يَصغُرَنَّ عندكَ أمرُهُ، فإنَّ الرِّيحَ الشَّديدَةَ لا تَعْبَأُ بضعيفِ الحَشيشِ لكنَّها تَحطِمُ طِوالَ النَّخلِ وعَظيمَ الشَّجَرِ وتَقْلَعُ الدَّوْحَةَ العاتِيَةَ من مَوْضِعِها. قالَ دِمنَةُ: لا تَهابَنَّ أيُّها الملِكُ منه شيئًا ولا يَكبُرَنَّ عليكَ أمرُهُ فأنا علي ضعفي آتيكَ به فيكونُ لك عبدًا سامِعًا مُطيعًا. قالَ الأسَدُ: دونَكَ ما بدا لك. وقد تَعَلَّقَ أمَلُهُ به.

فانطَلَقَ دِمنَةُ إلي الثَّورِ فقالَ له غَيرَ هائِبٍ ولا مُكتَرِثٍ: إنَّ الأسَدَ أرسَلَني إليكَ لآتِيَهُ بك وأمَرَني إن أنت عَجِلتَ إليه أن أُؤَمِّنَكَ علي ما سَلَفَ من ذَنبِكَ في التَّأخُّرِ عنه وتَركِكَ لِقاءهُ. وإن أنت تأخَّرتَ وأحجَمتَ أن أُعَجِّلَ الرَّجعَةَ إليه فأُخبِرَهُ. قالَ له شَتْرَبَةُ: ومَن هذا الأسَدُ الذي أرسَلَكَ إليَّ وأين هو? وما حالُهُ?

قالَ دِمنَةُ: هو ملِكُ السِّباعِ وهذه الأرضُ التي نحن عليها له وهو بمكانِ كذا ومعه جُندٌ كثيرٌ من جِنسِهِ

فَرُعِبَ شَتْرَبَةُ من ذِكرِ الأسَدِ والسِّباعِ وقالَ: إن أنت جَعَلتَ ليَ الأمانَ علي نفسي أقبَلتُ معكَ إليه. فأعطاهُ دِمنَةُ مِنَ الأمانِ ما وَثِقَ به ثم أقبَلَ والثَّورُ معه حتي دَخَلا علي الأسَدِ. فأحسَنَ الأسَدُ إلي الثَّورِ وقَرَّبَهُ وقالَ له:

متي قَدِمتَ هذه البلادَ وما أقدَمَكَها ? فقَصَّ شَتْرَبَةُ عليه قِصَّتَهُ. فقالَ له الأسَدُ: اصحَبني والزَمْني فإني مُكرِمُكَ ومُحسِنٌ إليكَ. فَدَعا له الثَّورُ وأثني عليه وانصَرَفَ وقد أُعجِبَ به الأسَدُ إعجابًا شديدًا لِما ظَهَرَ له من عَقلِهِ وأدَبِهِ. ثم إنَّه قَرَّبَهُ وأكرَمَهُ وأنِسَ به وائتَمَنَهُ علي أسرارِهِ وشاوَرَهُ في أمرِهِ ولم تَزِدْهُ الأيامُ إلاَّ عُجبًا به ورغبةً فيه وتقريبًا له حتي صارَ أخَصَّ أصحابِهِ عندَهُ منزلةً.

فلمَّا رأي دِمنَةُ أنَّ الثَّورَ قدِ اختَصَّ بالأسَدِ دونَهُ ودونَ أصحابِهِ وأنَّه قد صارَ صاحِبَ رأيِهِ وخَلَواتِهِ ولَهوِهِ حَسَدَهُ حَسَدًا عظيمًا وبَلَغَ منه غَيظُهُ كلَّ مَبلَغٍ. فشَكا ذلك إلي أخيهِ كَليلَةَ وقالَ له: ألا تَعجَبُ يا أخي من عَجزِ رأيي وصُنعي بنفسي ونَظَري فيما يَنفَعُ الأسَدَ وأغفلتُ نَفعَ نفسي حتي جَلَبت إلي الأسَدِ ثَورًا غَلَبَني علي منزلَتي!

قالَ كَليلَةُ: أخبِرني عن رأيِكَ وما تُريدُ أن تَعزِمَ عليه في ذلك

قالَ دِمنَةُ: أمَّا أنا فلستُ اليومَ أرجو أن تَزدادَ منزلَتي عند الأسَدِ فوقَ ما كانت عليه. ولكن ألتَمِسُ أن أعودَ إلي ما كانت حالي عليه. فإنَّ أمورًا ثلاثَةً العاقِلُ جَديرٌ بالنَّظَرِ فيها والاحتيالِ لها بجُهدِهِ. منها النَّظَرُ فيما مَضي مِنَ الضَّرِّ والنَّفعِ، أن يَحتَرِسَ مِنَ الضَّرِّ الذي أصابَهُ فيما سَلَفَ لئِلاَّ يَعودَ إلي ذلك الضَّرِّ، ويَلتَمِسَ النَّفعَ الذي مَضي ويَحتالَ لمُعاوَدَتِهِ. ومنها النَّظَرُ فيما هو مُقيمٌ فيه مِنَ المنافِعِ والمَضارِّ. والاستيثاق ممَّا يَنفَعُ، والهَرَبُ ممَّا يَضُرُّ. ومنها النَّظَرُ في مُستَقبَلِ ما يَرجو من قِبَلِ النَّفعِ وما يَخافُ من قِبَلِ الضَّرِّ لِيَستَتِمَّ ما يَرجو ويَتَوَقَّي ما يَخافُ بجُهدِهِ.

وإني لمَّا نَظَرتُ في الأمرِ الذي به أرجو أن تَعودَ منزلَتي وما غُلِبتُ عليه ممَّا كنتُ فيه لم أجِدْ حِيلَةً ولا وَجهًا إلاَّ الاحتِيالَ لآكِلِ العُشبِ هذا حتي أُفَرِّقَ بينه وبين الحياةِ، فإنَّه إن فارَقَ الأسَدَ عادَتْ لي منزلَتي. ولعلَّ ذلك يكونُ خيرًا للأسَدِ. فإنَّ إفراطَهُ في تَقريبِ الثَّورِ خَليقٌ أن يَشينَهُ ويَضُرَّهُ في أمرِهِ

قالَ كَليلَةُ: ما أري علي الأسَدِ في رأيِهِ في الثَّورِ ومكانِهِ منه ومنزلتِهِ عندَهُ شيئًا ولا شرًّا

قالَ دِمنَةُ: إنَّما يُؤْتي السُّلطانُ ويَفسُدُ أمرُهُ من قِبَلِ سِتَّةِ أشياءَ: الحِرمانِ والفتنَةِ والهوي والفَظاظَةِ والزَّمانِ والخُرقِ. فأمَّا الحِرمَانُ فأن يُحرَمَ من صالحي الأعوانِ والنُّصَحاءِ والسَّاسَةِ من أهلِ الرأيِ والنَّجدَةِ والأمانَةِ، وأن يكونَ مَنْ حَولَهُ فاسِدًا مانِعًا من وُصولِ أمورِ المُلكِ إليه، وأن يَحرِمَ هو أهلَ النَّصيحَةِ والصَّلاحِ من عنايتِهِ والتِفاتِهِ إليهم. وأمَّا الفِتنَةُ فهي تُحارِبُ رعيَّتَهُ ووقوعُ الخِلافِ والنِّزاعِ بينهم. وأمَّا الهوي فالإغرامُ بالنِّساءِ والحديثِ واللَّهوِ والشَّرابِ والصَّيدِ وما أشبَهَ ذلك. وأمَّا الفَظاظَةُ فهي إفراطُ الشِّدَّةِ حتي يَجمَحَ اللِّسانُ بالشَّتمِ واليَدُ بالبَطشِ في غيرِ مَوضِعِهِما. وأمَّا الزَّمانُ فهو ما يُصيبُ الناسَ مِنَ السِّنينَ مِنَ المَوتاَنِ ونَقصِ الثَّمَراتِ والغَزَواتِ وأشباهِ ذلك. وأمَّا الخُرقُ فإعمالُ الشِّدَّةِ في مَوضِعِ اللّينِ، واللّينِ في مَوضِعِ الشِّدَّةِ. وإنَّ الأسَدَ قد أُغرِمَ بالثَّورِ إغرامًا شديدًا هو الذي ذَكَرتُ لكَ أنَّه خَليقٌ أن يَشينَهُ ويَضُرَّهُ في أمرِهِ.

قالَ كَليلَةُ: وكيفَ تُطيقُ الثَّورَ وهو أشَدُّ منكَ وأكرَمُ علي الأسَدِ منكَ وأكثرُ أعوانًا?

قال دِمنَةُ: لا تَنْظُرْ إلي صِغَري وضُعفي، فإنَّ الأمورَ ليست بالضُّعفِ ولا القُوَّةِ ولا الصِّغَرِ ولا الكِبَرِ في الجُثَّةِ. فَرُبَّ صغيرٍ ضَعيفٍ قد بَلَغَ بحِيلَتِهِ ودَهائِهِ ورأيِهِ ما يَعجِزُ عنه كثيرٌ مِنَ الأقوياء. أوَلَمْ يَبلُغكَ أنَّ غُرابًا ضَعيفًا احتالَ لأسوَدَ حتي قَتَلَهُ?

قالَ كَليلَةُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?





توقيع : sanaa


...je ne veux ni cadeau ..ni fleur..ni promesse
seulement
!!... le don de ton coeur
sanaa

الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:07 PM [ 12 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل





مثل الغراب والأسود

قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ غُرابًا كانَ له وَكرٌ في شَجَرَةٍ علي جَبَلٍ، وكانَ قريبًا منه جُحرُ ثُعبانٍ أسوَدَ. فكانَ الغُرابُ إذا أفرَخَ عَمَدَ الأسوَدُ إلي فِراخِهِ فأكَلَها فَبَلَغَ ذلك مِنَ الغرابِ فأحزَنَهُ. فشَكا ذلك إلي صَديقٍ لهُ من بَناتِ آوي وقالَ له: أُريدُ مُشاوَرَتَكَ في أمرٍ قد عَزَمتُ عليه. قالَ: وما هو? قَالَ الغُرابُ: قد عَزَمتُ أن أذهَبَ إلي الأسوَدِ إذا نامَ فأنقُرَ عَينَيهِ فأفقَأَهُما لعلِّي أستَريحُ منه. قالَ ابنُ آوي: بِئسَ الحِيلَةُ التي احتَلتَ! فالتَمِسْ أمرًا تُصيبُ فيه بُغيَتَكَ مِنَ الأسَودِ من غيرِ أن تُغَرِّرَ بنفسِكَ وتُخاطِرَ بها. وإيَّاكَ أن يكونَ مَثَلُكَ مَثَلَ العُلجُومِ الذي أرادَ قَتلَ السَّرَطانِ فَقَتَلَ نفسَهُ. قالَ الغُرابُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?



الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:08 PM [ 13 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






مثل العُلْجُوم والسرطان


قالَ ابنُ آوي: زَعَموا أنَّ عُلجُومًا عَشَّشَ في أجَمَةٍ كثيرَةِ السَّمَكِ. فكانَ يختلِفُ إلي ما فيها مِنَ السَّمَكِ فيأكُلُ منه. فعاشَ بها ما عاشَ ثم هَرِمَ فلم يستَطِعْ صَيدًا فأصابَهُ جوعٌ وجَهدٌ شديدٌ. فجَلَسَ حزينًا يَلتَمِسُ الحِيلَةَ في أمرِهِ. فمَرَّ به سَرطانٌ فرأي حالتَهُ وما هو عليه مِنَ الكآبَةِ والحُزنِ. فدَنا منه وقالَ له: ما لي أراكَ أيُّها الطَّائِرُ هكذا حزينًا كَئيبًا?

قالَ العُلجومُ: وكيفَ لا أحزَنُ وقد كنتُ أعيشُ من صَيدِ ما ههُنا مِنَ السَّمَكِ، وإني رأيتُ اليومَ صَيَّادَينِ قد مَرَّا بهذا المكانِ فقالَ أحدُهُما لصاحِبهِ: إنَّ ههُنا سَمَكًا كثيرًا أفَلا نَصيدُهُ أَوَّلاً? فقالَ الآخرُ: إني قد رأيتُ في مكانِ كَذَا سَمَكًا أكثَرَ من هذا السَّمَكِ، فلنَبدأ بذلك فإذا فَرَغنا منه جِئنا إلي هذا فأفَنيناهُ. وقد عَلِمتُ أنَّهُما إذا فَرَغا ممَّا ثَمَّ انتَهيَا إلي هذه الأجَمَةِ فاصطادا ما فيها. فإذا كانَ ذلك فهو هلاكي ونَفادُ مُدَّتي

فانطَلَقَ السَّرَطانُ إلي جَماعَةِ السَّمَكِ فأخبَرَهُنَّ بذلك. فأقبَلْنَ علي العُلجُومِ فاستَشَرنَهُ وقُلنَ له: إنَّا أتَيناكَ لتُشيرَ علينا، فإنَّ ذا العَقلِ لا يَدَعُ مُشاوَرَةَ عَدُوِّهِ، وبقاؤُكَ ببقائِنا. قالَ العُلجومُ: أمَّا مُكابَرَةُ الصَّيَّادَينِ فلا طاقَةَ لي بها. ولا أعلَمُ حِيلَةً إلاَّ المَصيرَ إلي غَديرٍ قريبٍ من هنا فيه سَمَكٌ ومياهٌ كثيرَةٌ وقَصَبٌ. فإن استَطَعتُنَّ الانتِقالَ إليه كانَ فيه صَلاحُكُنَّ وخِصبُكُنَّ .

فقُلنَ له: ما يَمُنُّ علينا بذلك غيرُكَ. فجَعَلَ العُلجومُ يَحمِلُ في كلِّ يومٍ سَمَكَتَينِ حتي ينتهي بهما إلي بعضِ التِّلالِ فيأكُلُهُما. حتي إذا كانَ ذاتَ يومٍ جاء لأخذِ السَّمَكَتَينِ فجاءهُ السَّرَطانُ فقالَ له: إني أيضًا قد أشفَقتُ من مكاني هذا واستَوحَشتُ منه، فاذهَبْ بي إلي ذلك الغَديرِ. فقالَ له: حُبًّا وكرامَةً. واحتَمَلَهُ وطارَ به، حتي إذا دَنا مِنَ التَّلِّ الذي كانَ يأكُلُ السَّمَكَ فيه نَظَرَ السَّرَطانُ فرأي عِظامَ السَّمَكِ مجموعَةً هنَاكَ فعَلِمَ أنَّ العُلجومَ هو صاحِبُها وأنَّه يُريدُ به مثلَ ذلك. فقالَ في نفسِهِ: إذا لَقِيَ الرجلُ عَدُوَّهُ في المَواطِنِ التي يَعلَمُ أنَّهُ فيها هالِكٌ سَواءٌ قاتَلَ أم لم يُقاتِلْ كانَ حَقيقًا أن يُقاتِلَ عن نفسِهِ كَرَمًا وحِفاظًا، ولا يُمَكِّنَهُ من نفسِهِ حتي يَستَفرِغَ ما عندَهُ مِنَ الحِيلَةِ في قِتالِهِ. لأنَّه قد بَني أمرَهُ علي التَّلَفِ فلعلَّ خَلاصَهُ في ذلك القِتالِ، والهَلاكُ واقِعٌ به كيفَ كانَ. فلم يَزَلْ يَحتالُ علي العُلجومِ حتي تَمَكَّنَ من عُنُقِهِ فأهوي بكَلبَتَيهِ عليها فعَصَرَها فماتَ وتخلَّصَ السَّرَطانُ إلي جماعَةِ السَّمَكِ فأخبَرَهُنَّ بذلك.

وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتَعلَمَ أنَّ بعضَ الحِيلَةِ مَهلَكَةٌ للمُحتالِ. ولكنّي أدُلُّكَ علي أمرٍ إن أنت قَدَرتَ عليه كانَ فيه هَلاكُ الأسوَدِ من غيرِ أن تُهلِكَ به نفسَكَ وتكونُ فيه سلامَتُكَ. قالَ الغُرابُ: وما ذاكَ? قالَ ابنُ آوي: تَنطَلِقُ فَتَتَبَصَّرُ في طَيَرانِكَ لعلَّكَ أن تَظفَرَ بشيءٍ من حُليِّ النِّساء فتَخْطَفَهُ ولا تَزالُ طائِرًا واقِعًا بحيث لا تَفوتُ العُيونَ. فإذا رأيتَ النَّاسَ قد تَبِعوكَ تأتي جُحْر الأسوَدِ فتَرمي بالحُليِّ عندَهُ. فإذا رأي الناسُ ذلك أخَذوا حُلِيَّهُمْ وأراحوكَ مِنَ الأسوَدِ.

فانطَلَقَ الغُرابُ مُحَلِّقًا في السَّماءِ، فوجَدَ امرأةً من بناتِ العُظَماءِ علي شاطِئ نهرٍ تَغتَسِلُ وقد وضعَتْ ثِيابَها وحُلِيَّها ناحيَةً، فانقَضَّ واختَطَفَ من حُلِيِّها عِقدًا وطارَ به. فَتَبِعَهُ الناسُ، ولم يَزَلْ طائِرًا واقِعًا بحيثُ يَراهُ كلُّ أحدٍ حتي انتَهي إلي جُحْرِ الأسوَدِ فألقي العِقدَ عليه والناسُ يَنظُرُونَ إليه. فلمَّا أتوا أخذوا العِقدَ وقَتلُوا الأسوَدَ

وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتَعلَمَ أنَّ الحِيلَةَ تُجزِئُ ما لا تُجزِئُ القُوَّةُ. قالَ كَليلَةُ: إنَّ الثَّورَ لو لم يَجتَمِعْ معَ شِدَّتِهِ رأيُهُ لكانَ كما تقولُ. ولكنَّ له معَ شِدَّتِهِ وقوَّتِهِ حُسنَ الرأيِ والعَقلَ فماذا تَستَطيعُ له?

قالَ دِمنَةُ: إنَّ الثَّورَ لكما ذَكَرتَ في قوَّتِهِ ورأيِهِ ولكنَّهُ مقِرٌّ لي بالفَضلِ وأنا خَليقٌ أن أصرَعَهُ كما صَرَعَتِ الأرنَبُ الأسَدَ.

قالَ كَليلَةُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:08 PM [ 14 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






مثل الأرنب والأسد


قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ أسدًا كانَ في أرضٍ كثيرَةِ المياهِ والعُشبِ. وكانَ في تلك الأرضِ مِنَ الوحوشِ في سَعَةِ المياهِ والمَرعي شيءٌ كثيرٌ. إلا أنَّه لم يكن يَنفَعُها ذلك لخَوفِها مِنَ الأسَدِ. فاجتَمَعَتْ وأتَتْ إلي الأسَدِ فقالت له: إنَّك لتُصيبُ منَّا الدَّابَّةَ بَعدَ الجُهْدِ والتَّعَبِ. وقد رأينا لكَ رأيًا فيه صَلاحٌ لكَ وأمنٌ لنا. فإن أنت أمَّنتَنا ولم تُخِفنا فلك علينا في كلِّ يومٍ دابَّةٌ نُرسِلُ بها إليك في وقتِ غدائِكَ. فَرَضِيَ الأسَدُ بذلك وصالَحَ ش الوحشَ عليه ووَفَينَ له به

ثم إنَّ أرنبًا أصابَتها القُرعَةُ وصارَتْ غداءَ الأسَدِ. فقالت للوحوشِ: إن أنتُنَّ رَفَقتُنَّ بي فيما لا يَضُرُّكُنَّ رَجَوتُ أن أُريحَكُنَّ مِنَ الأسَدِ. فقالتِ الوحوشُ: وما الذي تُكَلِّفينَنا مِنَ الأمورِ? قالت: تأمُرنَ الذي يَنطَلِقُ بي إلي الأسَدِ أن يُمهِلني ريثما أُبطِئُ عليه بعضَ الإبطاء. فقُلنَ لها: ذلك لك. فانطَلَقَتِ الأرنَبُ مُتَباطِئةً حتي جاوَزَتِ الوقتَ الذي كانَ يَتَغَدَّي فيه الأسَدُ. ثم تَقَدَّمَتْ إليه وحدَها رويدًا وقد جاعَ، فغَضِبَ وقامَ من مَكانِهِ نحوها فقالَ لها: من أين أقبَلتِ? قالت: أنا رسولُ الوحوشِ إليكَ وقد بَعَثَني ومعي أرنَبٌ لك فتَبِعَني أسَدٌ في بعضِ تلك الطريقِ فأخذَها منّي وقالَ: أنا أولي بهذه الأرضِ وما فيها مِنَ الوحشِ. فقلتُ له: إنَّ هذا غداءُ الملِكِ أرسَلَتْ به الوحوشُ إليه فلا تَغصِبَنَّهُ. فَسَبَّكَ وشَتَمَكَ، فأقبَلتُ مُسرِعَةً لأُخبِرَكَ.

فقالَ الأسَدُ: انطَلِقي معي فأريني مَوضِعَ هذا الأسَدِ. فانطَلَقَتِ الأرنَبُ إلي جُبٍّ فيه ماءٌ غامِرٌ صافٍ. فاطَّلَعَتْ فيه وقالت: هذا المكانُ. فاطَّلَعَ الأسَدُ فرأي ظِلَّهُ وظِلَّ الأرنَبِ في الماءِ، فلم يَشُكَّ في قَولِها ووَثَبَ علي الأسَدِ ليُقاتِلَهُ فغَرِقَ في الجُبِّ. فانقَلَبَتِ الأرنبُ إلي الوحوشِ فأعلَمَتهُنَّ صَنيعَها بالأسَدِ.

قالَ كَليلَةُ: إن قَدَرتَ علي هَلاكِ الثَّورِ بشيءٍ ليسَ فيه مَضَرَّةٌ للأسَدِ فشأنَكَ. فإنَّ الثَّورَ قد أضَرَّ بي وبك وبغيرِنا مِنَ الجُندِ. وإن أنت لم تَقدِرْ علي ذلك إلاَّ بهلاكِ الأسَدِ، فلا تُقدِمْ عليه فإنَّه غَدرٌ منّي ومنك

ثم إنَّ دِمنَةَ تَرَكَ الدُّخولَ علي الأسَدِ أيامًا كثيرَةً. ثم أتاهُ علي خُلوَةٍ منه، فقالَ له الأسَدُ: ما حَبَسَكَ عنّي? منذُ زمانٍ لم أرَكَ. ألا لِخَيرٍ كانَ انقِطاعُكَ. قالَ دِمنَةُ: ليكن خيرًا أيُّها الملِكُ. قالَ الأسَدُ: وهل حَدَثَ أمرٌ? قالَ دِمنَةُ: حَدَثَ ما لم يكن الملِكُ يُريدُهُ ولا أحدٌ من جُندِهِ. قالَ: وما ذاك? قالَ: كلامٌ فَظيعٌ. قالَ: أخبِرْني به

قالَ دِمنَةُ: إنَّ كلَّ كلامٍ يَكرَهُهُ سامِعُهُ لا يَجسُرُ عليه قائِلُهُ وإن كانَ ناصِحًا مُشفِقًا إلاَّ إذا كانَ المَقولُ له عاقِلاً، فإنِ اتَّفَقَ ذلك حَمَلَ القَولَ علي مَحمِلِ المَحَبَّةِ وعَلِمَ ما فيه مِنَ النَّصيحَةِ لأنَّ ما كانَ فيه من نَفعٍ فهو له

وإنَّكَ أيُّها الملِكُ لَذو فَضيلَةٍ ورأيُكَ يدُلُّكَ علي أنَّه يوجِعُني أن أقولَ ما تَكرَهُ. وإني واثِقٌ بك أنَّك تَعرِفُ نُصحي وإيثاري إيَّاكَ علي نفسي. وإنَّه ليعرِضُ لي أنَّك غيرُ مُصَدِّقي فيما أُخبِرُكَ به. ولكنّي إذا تَذَكَّرتُ وتَفَكَّرتُ أنَّ نُفوسَنا مَعاشِرَ الوحوشِ مُتَعَلِّقَةٌ بك لم أجِدْ بُدًّا من أداءِ النُّصحِ الذي يَلزَمُني وإن أنت لم تَسألني أو خِفتُ أن لا تَقبَلَهُ منّي. فإنَّه يُقالُ مَنْ كَتَمَ السُّلطانَ نَصيحَتَهُ والأطِبَّاءَ مَرَضَهُ والإخوانَ رأيَهُ فقد خانَ نفسَهُ.

قالَ الأسَدُ: فما ذاك? قالَ دِمنَةُ: حَدَّثَني الأمينُ الصَّدوقُ عندي أنَّ شَتْرَبَةَ خَلا برؤوسِ جُندِكَ وقالَ لهم: إني قد خَبَرتُ الأسَدَ وبَلَوتُ رأيَهُ ومَكيدَتَهُ وقوَّتَهُ، فاستَبانَ لي أنَّ ذلك يَؤُولُ منه إلي ضُعفٍ وعجزٍ وسيكونُ لي وله شأنٌ مِنَ الشّؤُونِ.

فلمَّا بَلَغَني ذلك عَلِمتُ أنَّ شَتْرَبَةَ خَوَّانٌ غَدَّارٌ، وأنَّك أكرَمتَهُ الكَرامَةَ كلَّها وجعلتَهُ نَظيرَ نفسِكَ فهو يَظُنُّ أنَّه مثلُكَ وأنَّك متي زُلتَ عن مكانِكَ كانَ له مُلكُكَ ولا يَدَعُ جُهدًا إلاَّ بَلَغَهُ فيك. وقد كانَ يُقالُ: إذا عَرَفَ الملِكُ من أحدِ رعيَّتِهِ أنَّه قد ساواهُ في المنزلَةِ والحال فليَصرَعهُ. فإن هو لم يَفعَلْ به ذلك كانَ هو المَصروعَ. وشَتْرَبَةُ أعلَمُ بالأمورِ وأبلَغُ فيها. والعاقِلُ هو الذي يحتالُ للأمرِ قَبلَ تَمامِهِ ووقوعِهِ. فإنَّك لا تأمَنُ أن يكونَ وأن لا تَستَدرِكَهُ. فإنَّه يُقالُ: الرجالُ ثلاثَةٌ حازِمٌ وأحزَمُ منه وعاجِزٌ. فالحازِمُ مَن إذا نَزَلَ به الأمرُ لم يَدهَشْ له ولم يَذهَبْ قلبُهُ شَعاعًا ولم تَعيَ به حِيلَتُهُ ومكيدتُهُ التي يَرجو بها المَخرَجَ منه. وأحزَمُ من هذا المِقدامُ ذو العُدَّةِ الذي يَعرِفُ الابتِلاءَ قبلَ وقوعِهِ فيُعظِمُهُ إعظامًا ويَحتالُ له حِيلَةً حتي كأنَّه قد لَزِمَهُ فيَحسِمُ الدَّاءَ قبلَ أن يُبتَلي به ويَدفَعُ الأمرَ قَبلَ وقوعِهِ. وأما العاجِزُ فهو في تَرَدُّدٍ وتَمَنٍّ وتَوانٍ حتي يَهلِكَ. ومن أمثالِ ذلك مَثَلَ السَّمَكاتِ الثَّلاثِ. قالَ الأسَدُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:09 PM [ 15 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






مثل السمكات الثلاث


قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ غَديرًا كانَ فيه ثلاثٌ مِنَ السَّمَكِ: كَيِّسَةٌ وأكيَسُ منها وعاجِزَةٌ. وكانَ ذلك الغَديرُ بنَجوَةٍ مِنَ الأرضِ لا يكادُ يَقرَبُهُ أحدٌ. وبقربِهِ نهرٌ جارٍ. فاتَّفَقَ أنَّه اجتازَ بذلك النَّهرِ صَيَّادانِ فأبصَرا الغَديرَ فَتواعَدا أن يَرجِعا إليه بشِباكِهِما فيَصيدا ما فيه مِنَ السَّمَكِ. فسَمِعَتِ السَّمَكاتُ قَولَهُما. فأمَّا أكيَسُهُنَّ فلمَّا سَمِعَتْ قَولَهُما ارتابَتْ بهما وتَخَوَّفَتْ منهما فلم تُعَرِّجْ علي شيءٍ حتي خَرَجَتْ مِنَ المكانِ الذي يَدخُلُ فيه الماءُ مِنَ النَّهرِ إلي الغَديرِ فنَجَتْ بنفسِها. وأمَّا الكَيِّسَةُ الأخري فإنَّها مَكَثَتْ مكانَها وتَهاوَنَتْ في الأمرِ حتي جاء الصَّيَّادانِ. فلمَّا رأتهُما وعَرَفَتْ ما يُريدانِ ذَهَبَتْ لتَخرُجَ من حيثُ يَدخُلُ الماءُ فإذا بهما قد سَدَّا ذلك المكانَ فحينَئِذٍ قالت: فَرَّطتُ وهذه عاقِبَةُ التَّفريطِ فكيفَ الحِيلَةُ علي هذه الحالِ? وقلَّما تَنجَحُ حيلَةُ العَجَلَةِ والإرهاقِ . غيرَ أنَّ العاقِلَ لا يَقنَطُ من مَنافِعِ الرأيِ ولا ييأسُ علي حالٍ ولا يَدَعُ الرأيَ والجَهدَ. ثم إنَّها تَماوَتَتْ فطَفَتْ علي وجهِ الماءِ مُنقَلِبَةً علي ظَهرِها تارَةً وتارَةً علي بطنِها. فأخذَها الصَّيَّادانِ وظَنَّاها مَيتَةً فوضَعاها علي الأرضِ بين النَّهرِ والغَديرِ فَوَثَبَتْ إلي النَّهرِ فنَجَتْ. وأمَّا العاجِزَةُ فلم تَزَلْ في إقبالٍ وإدبارٍ حتي صِيدَتْ.

قالَ الأسَدُ: قد فهِمتُ ذلك ولا أظُنُّ الثَّورَ يَغُشُّني ولا يَرجو لِيَ الغَوائِلَ، وكيفَ يَفعَلُ ذلك ولم يَرَ منّي سوءًا قَطُّ ولم أدَعْ خيرًا إلاَّ فَعَلتُهُ معه ولا أُمنِيَّةً إلاَّ بَلَّغتُهُ إيَّاها!

قالَ دِمنَةُ: أيُّها الملِكُ إنَّه لم يَحمِلهُ علي ذلك إلاَّ ما ذَكَرتَهُ من إكرامِكَ له وتَبليغِكَ إيَّاهُ كلَّ منزلَةٍ خَلا منزلتِك وإنَّه مُتَطَلِّعٌ إليها. فإنَّ اللَّئيمَ لا يَزالُ نافِعًا ناصِحًا حتي يُرفَعَ إلي المنزلَةِ التي ليسَ لها بأهلٍ. فإذا بَلَغَها اشرَأَبَّتْ نفسُهُ إلي ما فَوقَها ولا سيَّمَا أهلُ الخيانَةِ والفُجورِ. فإنَّ اللئيمَ الفاجِرَ لا يَخدُمُ السُّلطانَ ولا ينصَحُ له إلاّ من فَرَقٍ أو حاجَةٍ، فإذا استَغني وذَهَبَتِ الهَيبَةُ والحاجَةُ عادَ إلي جَوهَرِهِ. كَذَنَبِ الكَلبِ الذي يُربَطُ ليَستَقيمَ فلا يَزالُ مُستَوِيًا ما دامَ مَربوطًا فإذا حُلَّ انحَني وتَعَوَّجَ كما كانَ

واعلَمْ أيُّها الملِكُ أنَّه مَن لم يَقبَلْ من نُصَحائِهِ ما يَثقُلُ عليه ممَّا يَنصَحونَ له لم يَحمَدْ غِبَّ رأيِهِ. كالمريضِ الذي يَدَعُ ما يَصِفُ له الطَّبيبُ ويَعمِدُ لِما تَشتَهيهِ نفسُهُ. وحُقَّ علي مُؤَازِرِ السُّلطانِ أن يُبالِغَ في التَّحضيضِ له علي ما يَزيدُ به سُلطانَهُ قوَّةً ويَزينُهُ والكَفِّ عمَّا يَضُرُّهُ ويَشينُهُ. وخيرُ الإخوانِ والأعوانِ أقَلُّهُمْ مُداهَنَةً في النَّصيحَةِ. وخيرُ الأعمالِ أحمَدُها عاقِبَةً. وخيرُ النِّساءِ الموافِقَةُ لبَعلِها. وخيرُ الثَّناءِ ما كانَ علي أفواهِ الأخيارِ. وأفضَلُ الملوكِ مَن لا يُخالِطُهُ بَطَرٌ ولا يَستَكبِرُ عن قَبولِ النَّصيحَةِ. وخيرُ الأخلاقِ أعوَنُها علي الوَرَعِ.

وقد قيلَ: لو أنَّ امرأً تَوَسَّدَ النَّارَ وافتَرَشَ الحيَّاتَ كانَ أحَقَّ أن يَهنِئهُ النومُ ممن يُحِسُّ من صاحبِهِ بعداوَةٍ يُريدُهُ بها ويَطمَئِنُّ إليه. وأعجَزُ الملوكِ آخَذُهُمْ بالهُوَيناءِ وأقَلُّهُمْ نَظَرًا في مستقبَلِ الأمورِ وأشبَهُهُمْ بالفيلِ الهائِجِ الذي لا يَلتَفِتُ إلي شيءٍ. فإن أحزَنَهُ أمرٌ تَهاوَنَ به وإن أضاعَ الأمورَ حَمَلَ ذلك علي قُرَنائِهِ.

قالَ الأسَدُ: لقد أغلَظتَ في القَولِ وقولُ النَّاصِحِ مَقبولٌ مَحمولٌ. وإن كانَ شَتَْرَبَةُ مُعادِيًا لي كما تقولُ فإنَّه لا يستَطيعُ أن يَضُرَّني ولا أن يَفُتَّ في ساعِدي ، وكيفَ يَقدِرُ علي ذلك وهو آكِلُ عُشبٍ وأنا آكِلُ لحمٍ? وإنَّما هو لي طَعامٌ وليسَ عليَّ منه مَخافَةٌ. ثم ليس إلي الغَدرِ به سبيلٌ بعد الأمانِ الذي جَعَلتُهُ له وبعد إكرامي له وثَنائي عليه. وإن غيَّرتُ ما كانَ منّي وبدَّلتُهُ فقد سَفَّهتُ رأيي وجَهَّلتُ نفسي وغَدَرتُ بذِمَّتي ونَقَضتُ عهدي.

قالَ دِمنَةُ: لا يَغُرَّنَّكَ قولُكَ هو لي طعامٌ وليسَ عليَّ منه مخافَةٌ. فإنَّ شَتْرَبَةَ إن لم يَستَطِعكَ بنفسِهِ احتالَ لك من قِبَلِ غيرِهِ. ويُقالُ إنِ استَضافَكَ ضَيفٌ ساعَةً من نهارٍ وأنت لا تَعرِفُ أخلاقَهُ فلا تَأمَنهُ علي نفسِكَ ولا تَأمَنْ أن يُصيبَكَ منه أو بسببِهِ ما أصابَ القَملَةَ مِنَ البُرغوثِ.

قالَ الأسَدُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:11 PM [ 16 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






مثل القَمْلَةِ والبُرغوث


قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ قَملَةً لَزِمَتْ فراشَ رجلٍ مِنَ الأغنياءِ دَهرًا فكانت تُصيبُ من دَمِهِ وهو نائِمٌ لا يَشعُرُ وتَدِبُّ دَبيبًا رَفيقًا. فمَكَثَتْ كذلك حينًا حتي استضَافَها ليلَةً مِنَ الليالي بُرغوثٌ. فقالت له: بِتِ الليلَةَ عندنَا في دَمٍ طَيِّبٍ وفراشٍ لَيِّنٍ. فأقامَ البُرغوثُ عندَها حتي إذا أوَي الرجلُ إلي فراشِهِ وَثَبَ عليه البُرغوثُ فلَدَغَهُ لَدغَةً أيقَظَتهُ وأطارَتِ النومَ عنه، فقامَ الرجلُ وأمَرَ أن يُفَتَّشَ فراشُهُ فنُظِرَ فلم يُرَ إلاَّ القَملَةُ فأُخِذَتْ فقُصِعَتْ وفَرَّ البُرغوثُ.

وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتَعلَمَ أنَّ صاحِبَ الشَّرِّ لا يَسلَمُ من شَرِّهِ أحدٌ. وإن هو ضَعُفَ عن ذلك جاء الشَّرُّ بسببِهِ. وإن كنتَ لا تَخافُ من شَتْرَبَةَ فَخَفْ غيرَهُ من جُندِكَ الذينَ قد حَرَّشَهُمْ عليك وحَمَلَهُمْ علي عداوَتِكَ.

فَوَقَعَ في نفسِ الأسَدِ كلامُ دِمنَةَ. فقالَ: فما الذي تَرَي إذن وبماذا تُشيرُ? قالَ دِمنَةُ: إنَّ الضِّرسَ المَأكولَ لا يَزالُ صاحِبُهُ منه في ألَمٍ وأذًي حتي يَقلَعَهُ. والطعامَ الذي قد عَفِنَ في البطنِ الراحَةُ في قَذفِهِ. والعَدُوَّ المُخيفَ دواؤُهُ قَتلُهُ. قالَ الأسَدُ: لقد تَرَكتَني أكرَهُ مُجاوَرَةَ شَتْرَبَةَ إيَّايَ. وأنا مُرسِلٌ إليه وذاكِرٌ له ما وَقَعَ في نفسي منه. ثم آمُرُهُ باللِّحاقِ حيثُ أحَبَّ.

فَكَرِهَ دِمنَةُ ذلك وعَلِمَ أنَّ الأسَدَ متي كَلَّمَ شَتْرَبَةَ في ذلك وسَمِعَ منه جوابًا عَرَفَ باطِلَ ما أتي هو به واطَّلَعَ علي غَدرِهِ وكَذِبِهِ ولم يَخفَ عليه أمرُهُ. فقالَ للأسَدِ: أمَّا إرسالُكَ إلي شَتْرَبَةَ فلا أراهُ لك رأيًا ولا حَزمًا. فليَنظِرُ الملِكُ في ذلك فإنَّه لا يَزالُ لك في نفسِكَ الخِيارُ ما دامَ لا يَعلَمُ أنَّ أمرَهُ قد وَصَلَ إليك. فإنَّه متي عَلِمَ ذلك خِفتُ أن يُعاجِلَ الملِكَ بالمُكابَرَةِ. وهو إن قاتَلَكَ قاتَلَكَ مُستَعِدًا وإن فارَقَكَ فارَقَكَ فِراقًا يَليكَ منه النَّقصُ ويَلزَمُكَ منه العارُ. مَعَ أنَّ ذَوي الرَّأْيِ مِنَ المُلوكِ لا يُعلِنونَ عُقوبَةَ مَنْ لم يُعْلَنْ ذَنبَهُ. ولكنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ عِندَهُم عُقوبَةً. فَلِذَنْبِ العَلانِيَةِ عُقوبَةُ العَلانِيَةِ. ولِذَنْبِ السِّرِّ عُقوبَةُ السِّرِّ.

قالَ الأسَدُ: إنَّ الملِكَ إذا عاقَبَ أحدًا عن ظِنَّةٍ ظَنَّها من غيرِ تَيَقُّنٍ لجُرمِهِ فنفسَهُ عاقَبَ وإياها ظَلَمَ وكانَ ناقِصَ البَصيرَةِ.

قالَ دِمنَةُ: أمَّا إذا كانَ هذا رأيَ الملِكِ فلا يَدخُلَنَّ عليك شَتْرَبَةُ إلاَّ وأنت مُستَعِدٌّ له، وإيَّاكَ أن تُصيبَهُ منكَ غِرَّةٌ أو غَفلَةٌ. فإني لا أحسَبُ الملِكَ حين يَدخُلُ عليه إلاَّ سَيَعرِفُ أنَّه قد هَمَّ بعظيمَةٍ. ومن علاماتِ ذلك أنَّك تَري هيئتَهُ مُتَغَيِّرَةً، وتَرَي أوصالَهُ تُرعَدُ وتَراهُ مُلتَفِتًا يَمينًا وشِمالاً، وتَراهُ يُصَوِّبُ قَرنَيهِ فِعلَ الذي هَمَّ بالنِّطاحِ والقِتالِ.

قالَ الأسَدُ: سأكونُ منه علي حَذَرٍ وإن رأيتُ منه ما يَدُلُّ علي ما ذَكَرتَ عَلِمتُ أنَّ ما في أمرِهِ شَكٌ.

فلمَّا فَرَغَ دِمنَةُ من تَحريشِ الأسَدِ علي الثَّورِ وعَرَفَ أنَّه قد وقَعَ في نفسِهِ ما كانَ يَلتَمِسُ وأنَّ الأسَدَ سَيَتَحَذَّرُ مِنَ الثَّورِ ويَتَهَيَّأُ له أرادَ أن يأتِيَ الثَّورَ ليُغرِيَهُ بالأسَدِ. وأحَبَّ أن يكونَ إتيانُهُ من قِبَلِ الأسَدِ مخافَةَ أن يَبلُغَهُ ذلك فَيَتَأذَّي به، فقالَ: أيُّها الملِكُ ألا آتي شَتْرَبَةَ فأنظُرَ إلي حالِهِ وأمرِهِ وأسمَعَ كلامَهُ لعلّي أن أطَّلِعَ علي سِرِّهِ فأُطلِعَ الملِكَ علي ذلك وعلي ما يَظهَرُ لي منه? فأذِنَ له الأسَدُ في ذلك. فانطَلَقَ فدَخَلَ علي شَتْرَبَةَ كالكَئيبِ الحَزينِ. فلمَّا رآهُ الثَّورُ رَحَّبَ به وقالَ: ما كانَ سَبَبُ انقِطاعِكَ عنّي فإنّي لم أرَكَ منذُ أيامٍ، أسَلامَةٌ هو? قالَ دِمنَةُ: ومتي كانَ من أهلِ السَّلامَةِ مَن لا يَملِكُ نفسَهُ وأمرُهُ بيدِ غيرِهِ ممن لا يوثِقُ به ولا يَنفَكُّ علي خَطَرٍ وخَوفٍ حتي ما من ساعَةٍ تَمُرُّ ويأمَنُ فيها علي نفسِهِ!

قالَ شَتْرَبَةُ: وما الذي حَدَثَ? قالَ دِمنَةُ: حَدَثَ ما قُدِّرَ وهو كائِنٌ. ومَن ذا الذي غالَبَ القَدَرَ? ومَن ذا الذي بَلَغَ مِنَ الدُّنيا جَسيمًا مِنَ الأمورِ فلم يَبطَرْ? ومَن ذا الذي بَلَغَ مُناهُ فلم يَغتَرَّ? ومَن ذا الذي تَبعَ هَواهُ فلم يَخسَرْ? ومَن ذا الذي حادَثَ النِّساءَ فلم يُصَبْ? ومَن ذا الذي طَلَبَ مِنَ اللِّئامِ فلم يُحرَمْ? ومَن ذا الذي خالَطَ الأشرارَ فَسَلِمَ? ومَن ذا الذي صَحِبَ السُّلطانَ فَدامَ له منه الأمنُ والإحسانُ? ولقد صَدَقَ الذي قالَ: مَثَلُ السَّلاطينِ في قِلَّةِ وفائِهِمْ لِمَن صَحِبَهُمْ وسَخاءِ أنفسِهِمْ بمن فَقَدُوا من قُرَنائِهِمْ كَمَثَلِ صاحِبِ الخانِ كلَّما فَقَدَ واحِدًا جاء آخَرُ.

قالَ شَتْرَبَةُ: إني أسمَعُ منكَ كلامًا يَدُلُّ علي أنَّه قد رابَكَ مِنَ الأسَدِ رائِبٌ وهالَكَ منه أمرٌ.

قالَ دِمنَةُ: أجَلْ لقد رابَني منه ذلك وليسَ هو في أمرِ نفسي.

قالَ شَتْرَبَةُ: ففي نفسِ مَن رابَكَ? قالَ دِمنَةُ: قد تعلَمُ ما بيني وبينك وتَعلَمُ حَقَّكَ عليَّ وما كنتُ جَعَلتُ لك مِنَ العَهدِ والميثاقِ أيَّامَ أرسَلَني الأسَدُ إليك. فلم أجِدْ بُدًّا من حِفظِكَ وإطلاعِكَ علي ما اطَّلَعتُ عليه ممَّا أخافُ عليك منه.

قالَ شَتْرَبَةُ: وما الذي بَلَغَكَ? قالَ دِمنَةُ: حَدَّثَني الخَبيرُ الصَّدوقُ الذي لا مِريَةَ في قَولِهِ أنَّ الأسَدَ قالَ لبعضِ أصحابِهِ وجُلَسائِهِ: قد أعجَبَني سِمَنُ الثَّورِ وليسَ لي إلي حياتِهِ حاجَةٌ فأنا آكِلُهُ ومُطعِمٌ أصحابي من لحمِهِ. فلمَّا بَلَغَني هذا القَولُ وعَرَفتُ غَدرَهُ وسوءَ عهدِهِ أقبَلتُ إليك لأقضِيَ حَقَّكَ وتَحتالَ أنتَ لأمرِكَ.

فلمَّا سَمِعَ شَتْرَبَةُ كلامَ دِمنَةَ وتَذَكَّرَ ما كانَ دِمنَةُ جَعَلَ له مِنَ العَهدِ والميثاقِ وفَكَّرَ في أمرِ الأسَدِ ظَنَّ أنَّ دِمنَةَ قد صَدَّقَهُ ونَصَحَ له. ورأي أنَّ الأمرَ شبيهٌ بما قالَ دِمنَةُ. فأهَمَّهُ ذلك وقالَ: ما كانَ للأسَدِ أن يَغدُرَ بي ولم آتِ إليه ذَنبًا ولا إلي أحدٍ من جُندِهِ منذ صَحِبتُهُ، ولا أظُنُّ الأسَدَ إلاَّ قد حُمِلَ عليَّ بالكَذِبِ وشُبِّهَ عليه أمري، فإنَّ الأسَدَ قد صَحِبَهُ قَومُ سوءٍ وجَرَّبَ منهُمُ الكَذِبَ وأُمورًا تُصَدَّقُ إذا بَلَغَتهُ عن غيرِهِم. فإنَّ صُحبَةَ الأشرارِ ربما أورَثَتْ صاحِبَها سوء ظَنٍّ بالأخيارِ وحَمَلَهُ ما يَختَبِرُهُ منهم علي الخَطإ في حقِّ غيرِهم، كخطإِ البطَّةِ التي زَعَموا أنَّها رأتْ في الماءِ ضَوء كوكَبٍ فَظَنَّتهُ سَمَكَةً فحاوَلَتْ أن تَصيدَها. فلمَّا جَرَّبَتْ ذلك مِرارًا عَلِمَتْ أنَّه ليسَ بشيءٍ يُصادُ فتَرَكَتْهُ. ثم رأتْ من غَدِ ذلك اليومِ سَمَكَةً. فَظَنَّتْ أنَّها مثلُ الذي رأتهُ بالأمسِ فَتَرَكَتْها ولم تَطلُبْ صَيدَها.

قالَ دِمنَةُ: إنَّ إرادَةَ الأسَدِ بك ليست من تَحْريشِ الأشرارِ ولا سَكَرةِ السُّلطانِ ولا غيرِ ذلك. ولكنَّها الغَدرُ والفُجورُ منه فإنَّه فاجِرٌ خَوَّانٌ غَدَّارٌ لطعامِهِ حَلاوَةٌ وآخِرُهُ سُمٌّ مُميتٌ.

قالَ شَتْرَبَةُ: فأراني قد استَلذَذتُ الحَلاوَةَ إذ ذُقتُها وقد انتَهَيتُ إلي آخِرها الذي هو المَوتُ. ولولا الحَينُ ما كانَ مُقامي عند الأسَدِ وهو آكِلُ لحمٍ وأنا آكِلُ عُشبٍ. فأنا في هذه الورطَةِ كالنَّحلَةِ التي تَجلِسُ علي نَورِ النِّيلُوفَرِ إذ تَستَلِذُّ ريحَهُ وطَعمَهُ فتَحبِسُها تلك اللَّذَّةُ عنِ الحِينِ الذي يَنبَغي أن تَطيرَ فيه. فإذا جاء الليلُ يَنضَمُّ عليها فتَرتَبِكُ فيه وتَموتُ. ومَن لم يَرضَ مِنَ الدُّنيا بالكَفافِ الذي يُغنيهِ وطَمَحَتْ عينُهُ إلي ما سوي ذلك ولم يَتَخَوَّفْ عاقِبَتَهُ كانَ كالذُّبابِ الذي لا يَرضي بالشَّجَرِ والرَّياحينِ ولا يُقنِعُهُ ذلك حتي يَطلُبَ الماء الذي يَسيلُ من أُذُنِ الفيلِ فَيَضرِبُهُ الفيلُ بأُذُنَيهِ فيُهلِكُهُ. ومَن يَبذُلْ وُدَّهُ ونَصيحَتَهُ لِمَن لا يَشكُرُهُ فهو كَمَن يَبذُرُ في السِّباخِ . ومَن يُشِرْ علي المُعجَبِ كَمَن يُشاوِرُ المَيتَ أو يُسارُّ الأصَمَّ.

قالَ دِمنَةُ: دَعْ عنك هذا الكلامَ واحتَلْ لنفسِكَ. قالَ شَتْرَبَةُ: بأيِّ شيءٍ أحتالُ لنفسي إذا أرادَ الأسَدُ أكلي معَ ما عَرَّفَتني من رأيِ الأسَدِ وسوءٍ أخلاقِهِ? وأعلَمُ أنَّه لو لم يُرِدْ بي إلاَّ خَيرًا ثم أرادَ أصحابُهُ بمَكرِهِمْ وفُجورِهِمْ هَلاكي لَقَدروا علي ذلك. فإنَّه إذا اجتَمَعَ المَكَرَةُ الظَّلَمَةُ علي البَريءِ الصَّالِحِ كانوا خُلَقاءَ أن يُهلِكوهُ وإن كانوا ضُعَفاءَ وهو قَوِيٌّ. كما أهلَكَ الذِّئبُ والغُرابُ وابنُ آوي الجَمَلَ حين اجتَمَعوا عليه بالمَكرِ والخَديعَةِ والخيانَةِ.

قالَ دِمنَةُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?







الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:11 PM [ 17 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






مثل الذئب والغراب وابن آوى والجمل


قالَ شَتْرَبَةُ: زَعَموا أنَّ أسَدًا كانَ في أجَمَةٍ مُجاوِرَةٍ لطريقٍ من طُرُقِ الناسِ، وكانَ له أصحابٌ ثلاثَةٌ: ذِئبٌ وغُرابٌ وابنُ آوي. وإنَّ رُعاةً مَرُّوا بذلك الطَّريقِ ومعَهُم جِمالٌ. فتَخَلَّفَ منها جَمَلٌ فدَخَلَ تلك الأجَمَةَ حتي انتَهي إلي الأسَدِ. فقالَ له الأسَدُ: من أينَ أقبَلتَ? قالَ: من مَوضِعِ كذا. قالَ: فما حاجَتُكَ? قالَ: ما يأمُرُني به الملِكُ. قالَ: تُقيمُ عندنَا في السَّعَةِ والأمنِ والخِصبِ. فأقامَ الأسَدُ والجَمَلُ معه زمانًا طويلاً.

ثم إنَّ الأسَدَ مَضي في بعضِ الأيامِ لطَلَبِ الصَّيدِ، فَلَقِي فيلاً عَظيمًا فقاتَلَهُ قِتالاً شديدًا وأفلَتَ منه مُثقَلاً مُثخَنًا بالجِراحِ يَسيلُ منه الدَّمُ، وقد خَدَشَهُ الفيلُ بأنيابِهِ. فلمَّا وصلَ إلي مكانِهِ وَقَعَ لا يَستَطيعُ حراكًا ولا يَقدِرُ علي طَلَبِ الصَّيدِ. فَلَبِثَ الذِّئبُ والغُرابُ وابنُ آوي أيَّامًا لا يَجِدونَ طعامًا لأنَّهم كانوا يأكلونَ من فَضَلاتِ الأسَدِ وطعامِهِ. فأصابَهُمْ وأصابَهُ جوعٌ شديدٌ وهُزالٌ. وعَرَفَ الأسَدُ منهم ذلك فقالَ: لقد جُهِدتُمْ واحتَجتُمْ إلي ما تأكُلونَ. فقالوا: لا تُهِمُّنا أنفسُنا. لكنَّا نَري الملِكَ علي ما نَراهُ فليتَنا نَجِدُ ما يأكُلُهُ ويُصلِحُهُ. قالَ الأسَدُ: ما أشُكُّ في نصيحَتِكُمْ ولكنِ انتَشِروا لعلَّكُم تُصيبونَ صَيدًا تأتونَني به فَيُصيبَني ويُصيبَكُم منه رِزقٌ.

فَخَرَجَ الذئبُ والغرابُ وابنُ آوي من عند الأسَدِ فَتَنَحَّوا وائتَمَروا فيما بينهم وقالوا: ما لنا ولهذا الآكِلِ العُشبِ الذي ليسَ شأنُهُ من شأنِنا ولا رأيُهُ من رأينا، ألا نُزَيِّنُ للأسَدِ فيأكُلَهُ ويُطعِمَنا من لحمِهِ? قالَ ابنُ آوي: هذا ممَّا لا نَستَطيعُ ذِكرَهُ للأسَدِ لأنَّه قد أمَّنَ الجَمَلَ وجَعَلَ له من ذِمَّتِهِ. قالَ الغرابُ: أنا أكفيكُمْ أمرَ الأسَدِ. ثم انطَلَقَ فدَخَلَ عليه فقالَ له الأسَدُ: هل أصَبتَ شيئًا? قالَ الغرابُ: إنما يُصيبُ مَن يَسعي ويُبصِرُ. وأما نحن فلا سَعيَ لنا ولا بَصَرَ لِما بِنا مِنَ الجوعِ. ولكن قد وُفِّقْنَا إلي أمرٍ واجتَمَعنا عليه إن وافَقَنا الملِكُ فنحن له مُجيبونَ. قالَ الأسَدُ: وما ذاك? قالَ الغُرابُ: هذا الجَمَلُ آكِلُ العُشبِ المُتَمَرِّغُ بيننا من غيرِ مَنفَعَةٍ لنا منه ولا رَدِّ عائِدَةٍ ولا عَمَلٍ يُعقِبُ مصلحَةً.

فلمَّا سَمِعَ الأسَدُ ذلك غَضِبَ وقالَ: ما أخطأَ رأيَكَ وما أعجَزَ مقالَكَ وأبعدَكَ عنِ الوفاءِ والرَّحمَةِ! وما كنتُ حقيقًا أن تَجتَرِئَ عليَّ بهذه المقالَةِ وتَستَقِلَني بهذا الخِطابِ معَ ما عَلِمتَ من أني قد أمَّنتُ الجَمَلَ وجَعَلتُ له من ذِمَّتي. أوَ لم يَبلُغْكَ أنَّه لم يَتَصَدَّقْ مُتَصَدِّقٌ بصَدَقَةٍ هي أعظَمُ أجرًا ممن أمَّنَ نفسًا خائِفَةً وحَقنَ دَمًا مَهدورًا? أمَّنتُهُ ولستُ بغادِرٍ به ولا خافِرٍ له ذِمَّةً.

قالَ الغرابُ: إني لأعرِفُ ما يقولُ الملِكُ ولكنَّ النَّفسَ الواحِدَةَ يُفتَدي بها أهلُ البيتِ، وأهلُ البيتِ تُفتَدي بهمِ القبيلَةُ، والقبيلَةُ يُفتَدي بها أهلُ المِصرِ، وأهلُ المِصرِ فِدي الملِكِ. وقد نَزَلَتْ بالملِكِ الحاجَةُ وأنا أجعَلُ له من ذِمَّتِهِ مَخْرَجًا علي أن لا يَتَكَلَّفَ الملِكُ ذلك ولا يَلِيَهُ بنفسِهِ ولا يأمُرَ به أحدًا. ولكنَّا نَحتالُ بحيلَةٍ لنا وله فيها صَلاحٌ وظَفَرٌ.

فَسَكَتَ الأسَدُ عن جوابِ الغرابِ عن هذا الخطابِ. فلمَّا عَرَفَ الغرابُ إقرارَ الأسَدِ أتي صاحِبَيهِ فقالَ لهما: قد كَلَّمتُ الأسَدَ في أكلِهِ الجَمَلَ علي أن نَجتَمِعَ نحن والجَمَلُ عند الأسَدِ فنَذكُرَ ما أصابَهُ ونَتَوجَّعَ له اهتِمامًا منَّا بأمرِهِ وحِرصًا علي صَلاحِهِ. ويَعرِضُ كلُّ واحدٍ منَّا نفسَهُ عليه تَجَمُّلاً ليأكُلَهُ فَيَرُدَّ الآخرانِ عليه ويُسَفِّها رأيَهُ ويُبينَا الضَّرَرَ في أكلِهِ. فإذا جاءَت نَوبَةُ الجَمَلِ صَوَّبنا رأيَهُ فهَلَكَ وسَلِمنا كلُّنا ورَضِيَ الأسَدُ عنَّا.

ففعَلوا ذلك وتَقَدَّموا إلي الأسَدِ، فقالَ الغرابُ: قد احتَجتَ أيُّها الملِكُ إلي ما يَقوتُكَ. ونحن أحَقُّ أن نَهَبَ أنفسَنا لك فإنَّا بك نَعيشُ فإذا هَلَكتَ فليسَ لأحدٍ منَّا بَقاءٌ بعدَكَ ولا لنا في الحياةِ من خِيرَةٍ. فليأكُلني الملِكُ فقد طِبتُ بذلك نفسًا. فأجابَهُ الذئبُ وابنُ آوي أنِ اسكُتْ فلا خَيرَ للملِكِ في أكلِكَ وليسَ فيكَ شِبَعٌ.

قالَ ابنُ آوي: لكن أنا أُشبِعُ الملِكَ فليأكُلني فقد رَضيتُ بذلك وطِبتُ نفسًا. فَرَدَّ عليه الذِئبُ والغرابُ بقَولِهِما: إنَّك لَمُنتِنٌ قَذِرٌ.

قالَ الذِئبُ: إني لستُ كذلك فليأكُلني الملِكُ فقد سَمَحتُ بذلك وطابَتْ به نفسي. فاعتَرَضَهُ الغرابُ وابنُ آوي وقالا: قد قالتِ الأطِبَّاءُ مَن أرادَ قَتلَ نفسِهِ فليأكُلْ لحمَ ذِئبٍ.

فَظَنَّ الجَمَلُ أنَّه إذا عَرَضَ نفسَهُ علي الأكلِ التَمَسوا له عُذرًا كما التَمَسَ بعضُهُمْ لبعضٍ الأعذارَ فَيَسلَمُ ويَرضي الأسَدُ عنه بذلك ويَنجو مِنَ المَهالِكِ. فقالَ: لكن أنا فِيَّ للملِكِ شِبَعٌ وَرِيٌّ ولَحمي طَيِّبٌ هَنِيٌّ وبَطني نَظيفٌ فليأكُلني الملِكُ ويُطعِمْ أصحابَهُ وخَدَمَهُ فقد رَضيتُ بذلك وطابَتْ نفسي به. فقالَ الذئبُ وابنُ آوي والغرابُ: لقد صَدَقَ الجَمَلُ وكَرُمَ وقالَ ما عَرَفَ. ثم إنَّهم وثَبوا عليه فمَزَّقوهُ.

وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتَعلَمَ أنَّه إن كانَ أصحابُ الأسَدِ قدِ اجتَمَعوا علي هَلاكي فإني لستُ أقدِرُ أن أمتَنِعَ منهم ولا أحتَرِسَ وإن كانَ رأيُ الأسَدِ فِيَّ علي غيرِ ما هُم عليه مِنَ الرأيِ. فإنَّ ذلك لا يَنفَعُني ولا يُغني عنّي شيئًا. وقد يُقالُ خيرُ السَّلاطينِ مَن أشبَهَ النَّسرَ وحولَهُ الجِيفُ لا مَن أشبَهَ الجِيفَةَ وحولَها النُّسورُ. ولو أنَّ الأسَدَ لم يكن في نفسِهِ لي إلاَّ الخيرُ والرَّحمَةُ لغَيَّرَتهُ كَثرَةُ الأقاويلِ. فإنَّها إذا كَثُرَتْ لم تَكُفَّ دونَ أن تُذهِبَ الرِّقَّةَ والرَّأفَةَ. ألا تَرَي أنَّ الماء ليسَ كالقَولِ، وأنَّ الحَجَرَ أشَدُّ مِنَ الإنسانِ? والماءُ إذا دامَ انحِدارُهُ علي الحَجَرِ لم يَزَلْ به حتي يَثقُبَهُ ويُؤَثِّرَ فيه. وكذلك القَولُ في الإنسانِ.

قالَ دِمنَةُ: فماذا تُريدُ أن تَصنَعَ الآنَ? قالَ شَتْربَةُ: ما أري إلاَّ الاجتِهادَ والمُجاهَدَةَ بالقِتالِ، فإنَّه ليسَ للمُصَلِّي في صَلاتِهِ ولا للمُحتَسِبِ في صَدَقَتِهِ ولا للوَرِعِ في وَرَعِهِ مِنَ الأجرِ ما للمُجاهِدِ عن نفسِهِ إذا كانت مُجاهَدَتُهُ علي الحَقِّ.

قالَ دِمنَةُ: لا يَنبَغي لأحَدٍ أن يُخاطِرَ بنفسِهِ وهو يَستَطيعُ غيرَ ذلك.

ولكنَّ ذا الرأيِ جاعِلٌ القِتالَ آخِرَ الحِيَلِ وبادِئٌ قَبلَ ذلك بما استَطاعَ من رِفقٍ وتَمَحُّلٍ . وقد قيلَ: لا تَحقُرَنَّ العَدُوَّ والضَّعيفَ المُهينَ ولا سِيَّمَا إذا كانَ ذا حِيلَةٍ ويَقدِرُ علي الأعوانِ. فكيفَ بالأسَدِ علي جَراءَتِهِ وشِدَّتِهِ!

قالَ شَتْربَةُ: فما أنا بمُقاتِلٍ الأسَدَ ولا ناصِبٍ له العَداوَةَ سِرَّا ولا عَلانِيَةً ولا مُتَغَيِّرٍ له عمَّا كنتُ عليه حتي يبدو لي منه ما أتخَوَّفُ فأُغالِبَهُ.

فَكَرِهَ دِمنَةُ قَولَهُ وعَلِمَ أنَّ الأسَدَ إن لم يَرَ مِنَ الثَّورِ العلاماتِ التي كانَ ذَكَرَها له اتَّهَمَهُ وأساءَ به الظَّنَّ. فقالَ لشَتْربَةَ: اذهَبْ إلي الأسَدِ فسَتَعرِفُ حين ينظُرُ إليك ما يُريدُ منك.

قالَ شَتْرَبَةُ: وكيف أعرِفُ ذلك? قالَ دِمنَةُ: ستَري الأسَدَ حين تَدخُلُ عليه مُقعِيًا علي ذَنَبِهِ رافِعًا صَدرَهُ إليك مادًّا بَصَرَهُ نحوك قد صَرَّ أُذُنَيهِ وفَغَرَ فاهُ واستَوي للوَثبَةِ. قالَ: إن رأيتُ هذه العلاماتِ مِنَ الأسَدِ عَرَفتُ صِدقَكَ في قَولِكَ.

ثم إنَّ دِمنَةَ لمَّا فَرَغَ من تَحريشِ الأسَدِ علي الثَّورِ والثَّورِ علي الأسَدِ تَوَجَّهَ إلي كَليلَةَ. فلمَّا التَقَيا قالَ كَليلَةُ: إلامَ انتهي عَمَلُكَ الذي كنتَ فيه? قالَ دِمنَةُ: قريبٌ مِنَ الفراغِ علي ما أُحِبُّ وتُحِبُّ.

ثم إنَّ كَليلَةَ ودِمنَةَ انطَلَقا جميعًا ليَحضُرا قِتالَ الأسَدِ والثَّورِ وينظُرا ما يَجري بينهما وما يَؤُولُ إليه أمرُهُما. وجاءَ شَتَربَةُ فدَخَلَ علي الأسَدِ فرآهُ مُقعِيًا كما وصفَهُ له دِمنَةُ فقالَ: ما صاحِبُ السُّلطانِ إلاَّ كصاحِبِ الحيَّةِ التي في صدرِهِ لا يدري متي تَهيجُ عليه.

ثم إنَّ الأسَدَ نَظَرَ إلي الثَّورِ فرأي الدِّلالاتِ التي ذَكَرَها له دِمنَةُ فلم يَشُكَّ أنَّه جاءَ لِقِتالِهِ. فواثَبَهُ ونَشَأَتْ بينهما الحربُ واشتَدَّ قتالُ الثَّورِ والأسَدِ وطالَ وسالَتْ بينهما الدِّماءُ.

فلمَّا رأي كَليلَةُ أنَّ الأسَدَ قد بَلَغَ مِنَ القِتالِ ما بَلَغَ قالَ لدِمنَةَ: أيُّها الفَسلُ ، ما أنكَرَ جَهلَتَكَ وأسوَأُ عاقِبَتَكَ في تَدبيرِكَ! قالَ دِمنَةُ: وما ذاكَ? قالَ كَليلَةُ: جُرِحَ الأسَدُ وهَلَكَ الثَّورُ. وإنَّ أخرَقَ الخُرقِ مَن حَمَلَ صاحِبَهُ علي سوءِ الخُلُقِ والمبارَزَةِ والقتالِ وهو يَجِدُ إلي غيرِ ذلك سبيلاً. وإنَّما الرجلُ إذا أمكَنَتهُ الفرصَةُ من عَدُوِّهِ يَترُكُهُ مخافَةَ التَّعَرُّضِ له بالمُجاهَرَةِ ورَجاءَ أن يَقدِرَ عليه بدونِ ذلك. وإنَّ العاقِلَ يُدَبِّرُ الأشياءَ ويَقيسُها قَبلَ مُباشَرَتِها، فما رَجا أن يَتِمَّ له منها أقدَمَ عليه، وما خافَ أن يَتَعَذَّرَ عليه منها انحرَفَ عنه ولم يَلتَفِتْ إليه. وإني لأخافُ عليك عاقِبَةَ بَغْيِكَ هذا، فإنَّكَ قد أحسَنتَ القَولَ ولم تُحسِنِ العَمَلَ. أينَ مُعاهَدَتُكَ إيَّايَ أنَّك لا تُضِرُّ بالأسَدِ في تَدبيرِكَ? وقد قيلَ: لا خيرَ في القَولِ إلاَّ معَ العَمَلِ. ولا في الفِقهِ إلاَّ معَ الوَرَعِ. ولا في الصَّدَقَةِ إلاَّ معَ النِّيَّةِ. ولا في المالِ إلاَّ معَ الجُودِ. ولا في الصِّدقِ إلاَّ معَ الوفاءِ. ولا في الحياةِ إلاَّ معَ الصِحَّةِ. ولا في الأمنِ إلاَّ معَ السُّرورِ. وقد شَرَطتَ أمرًا لا يَقدِرُ عليه إلاَّ العاقِلُ الرَّفيقُ.

فانتَهي كَليلَةُ من كلامِهِ إلي هذا المكانِ وقد فَرَغَ الأسَدُ مِنَ الثَّورِ. ثم فَكَّرَ في قَتلِهِ بعد أن قَتَلَهُ وذَهَبَ عنه الغَضَبُ وقالَ: لقد فَجَعَني شَتْرَبَةُ بنفسِهِ وكانَ ذا عَقلٍ ورأيٍ وخُلقٍ كريمٍ. ولا أدري لعلَّهُ كانَ بَريئًا أو مَكذوبًا عليه. فحَزِنَ ونَدِمَ علي ما كانَ منه. وتَبَيَّنَ ذلك في وَجهِهِ وبَصُرَ به دِمنَةُ فتَرَكَ مُحاوَرَةَ كَليلَةَ وتَقَدَّمَ إلي الأسَدِ فقالَ له: لِيَهنِئكَ الظَّفَرُ، إذ أهلَكَ اللهُ أعداءَكَ، فما يُحزِنُكَ أيُّها الملِكُ? قالَ: أنا حزينٌ علي عَقلِ شَتْرَبَةَ ورأيِهِ وأدَبِهِ. قالَ له دِمنَةُ: لا تَرحَمهُ أيُّها الملِكُ فإنَّ العاقِلَ لا يَرحَمُ مَن يَخافُهُ، وإنَّ الرَّجلَ الحازِمَ ربما أبغَضَ الرجلَ وكَرِهَهُ ثم قَرَّبَهُ وأدناهُ لِما يَعلَمُ عندَهُ مِنَ الغَناء والكَفاءَةِ فِعلَ الرجلِ المُتَكارِهِ علي الدَّواءِ الشَّنيعِ رَجاءَ مَنفَعَتِهِ. وربما أحَبَّ الرَّجلَ وعَزَّ عليه فأقصاهُ وأهلَكَهُ مخافَةَ ضَرَرِهِ. كالذي تَلدَغُهُ الحيَّةُ في إصبَعِهِ فيَقطَعُها ويَتَبَرَّأُ منها مخافَةَ أن يَسريَ سُمُّها إلي بَدَنِهِ.

فَرَضِيَ الأسَدُ بقَولِ دِمنَةَ. ثم عَلِمَ بعد ذلك بكَذِبِهِ وفُجورِهِ فقَتَلَهُ شَرَّ قِتلَةٍ




الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:12 PM [ 18 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل







باب البوم والغربان


قالَ دَبشَليمُ الملِكُ لبَيْدَبا الفَيلَسوفِ: قد سَمِعتُ مَثَلَ إخوانِ الصَّفاءِ وتَعاوُنِهِم. فاضرِبْ لي مَثَلَ العَدُوِّ الذي لا يَنبَغي أن يُغتَرَّ به وإن أظهَرَ تَضَرُّعًا ومَلَقًا . وأخبِرني عنِ العَدُوِّ هل يَصيرُ صديقًا وهل يُوثَقُ من أمرِهِ بشيءٍ، وكيفَ العَداوَةُ وما ضَرَرُها، وكيفَ يَنبَغي للملِكِ أن يَصنَعَ إذا طَلَبَ عَدُوُّهُ مُصالَحَتَهُ.

قالَ الفَيلَسوفُ: مَنِ اغتَرَّ بالعَدُوِّ الذي لا يَزالُ عَدُوًّا أصابَهُ ما أصابَ البومَ مِنَ الغِربانِ. قالَ الملِكُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?

قالَ بَيْدَبا: زَعَموا أنَّه كانَ في جَبَلٍ مِنَ الجبالِ شجرَةٌ من شجرِ الدَّوحِ فيها وَكْرُ ألفِ غُرابٍ وعليهِنَّ والٍ من أنفسِهِنَّ. وكانَ عندَ هذه الشجَرةِ كهفٌ فيه ألفُ بومَةٍ وعليهِنَّ والٍ منهنَّ. فخَرَجَ ملِكُ البومِ لبعضِ غَدَواتِهِ ورَوحاتِهِ وفي نفسِهِ العَداوَةُ لملِكِ الغِربانِ وفي نفسِ الغِربانِ وملِكِها مثلُ ذلك للبومِ. فأغارَ ملِكُ البومِ في أصحابِهِ علي الغِربانِ في أوكارِها فقَتَلَ وسَبي منها خَلقًا كثيرًا. وكانت الغارَةُ ليلاً. فلمَّا أصبَحَتِ الغِربانُ اجتَمَعَت إلي مَلِكِها فقلنَ له: قد عَلِمتَ ما لَقينا الليلةَ من ملِكِ البومِ وما مِنَّا إلاَّ مَن أصبَحَ قَتيلاً أو جريحًا أو مَكسورَ الجَناحِ أو مَنتوفَ الرِّيشِ أو مَهلوبَ الذَّنبِ. وأشَدُّ ما أصابَنا ضَرًّا جرأتُهُنَّ علينا وعِلمُهُنَّ بمكانِنا، وهنَّ عائِداتٌ إلينا غيرُ مُنقَطِعاتٍ عنَّا لعِلمِهِنَّ بمكانِنا. فإنَّما نحن لكَ أيُّها الملِكُ فانظُرْ لنا ولنفسِكَ.

وكانَ في الغِربانِ خَمسَةٌ مُعتَرَفٌ لهنَّ بحُسنِ الرأيِ يُسنَدُ إليهِنَّ في الأمورِ وتُلقي إليهِنَّ مقاليدُ الأحوالِ. وكانَ الملِكُ كثيرًا ما يُشاوِرُهُنَّ في الأمورِ ويأخُذُ آراءَهُنَّ في الحوادِثِ والنَّوازِلِ . فقالَ الملِكُ للأوَّلِ مِنَ الخمسةِ: ما رأيُكَ في هذا الأمرِ? قالَ: رأيٌ قد سَبَقَتنا إليه العلماءُ وذلك أنَّهم قالوا: ليسَ للعَدُوِّ الحَنِقِ الذي لا طاقَةَ لكَ به إلاَّ الهرَبُ منه. قالَ الملِكُ للثَّاني: ما رأيُكَ أنتَ في هذا الأمر? قالَ: ما رأي هذا مِنَ الهَرَبِ. قالَ الملِكُ: لا أري لكما ذلك رأيًا أن نَرحَلَ عن أوطانِنا ونُخلِيَها لعَدُوِّنا من أوَّلِ نَكبَةٍ أصابَتنا منه، ولا يَنبَغي لنا ذلك فنكونَ به لهم عونًا علينا. ولكن نَجمَعُ أمرَنا ونَستَعِدُّ لعدُوِّنا ونُذكي نارَ الحربِ فيما بيننا وبين عدُوِّنا ونَحتَرِسُ مِنَ الغِرَّةِ إذا أقبَلَ إلينا فنَلقاهُ مُستَعِدِّينَ ونُقاتِلُهُ قِتالاً غيرَ مُراجِعينَ فيه ولا حامينَ منه. وتَلقي أطرافُنا أطرافَ العَدُوِّ ونَتَحَرَّزُ بحُصونِنا ونُدافِعُ عَدُوَّنا بالأناةِ مَرَّةً وبالجِلادِ أخري حيثُ نُصيبُ فرصَتَنا وبُغْيَتَنَا وقد ثَنَينا عَدُوَّنا عنَّا.

ثم قالَ الملِكُ للثَّالِثِ: ما رأيُكَ أنتَ? قالَ: لا أري ما قالا رأيًا، ولكن نَبُثُّ العُيونَ ونَبعَثُ الجواسيسَ ونُرسِلُ الطَّلائِعَ بيننا وبين عَدُوِّنا فَنعلَمُ هل يُريدُ صُلحَنا أم يُريدُ حَربَنا أم يُريدُ الفِديَةَ. فإن رأينا أمرَهُ أمرَ طامِعٍ في مالٍ لم نَكرَهِ الصُّلحَ علي خَراجٍ نُؤدِّيهِ إليه في كلِّ سَنَةٍ نَدفَعُ به عن أنفسِنا ونَطمَئِنُّ في أوطانِنا. فإنَّ من آراءِ الملوكِ إذا اشتَدَّت شَوكَةُ عَدُوِّهِم فخافوا علي أنفسِهِم وبلادِهِم أن يَجعَلوا الأموالَ جُنَّةَ البلادِ والملِكِ والرعيَّةِ.

قالَ الملِكُ للرابعِ: فما رأيُكَ في هذا الصُّلحِ? قالَ: لا أراهُ رأيًا بل أن نُفارِقَ أوطانَنا ونَصبِرَ علي الغُربَةِ وشِدَّةِ المَعيشَةِ خيرٌ من أن نُضِيعَ أحسابَنا ونَخضَعَ للعَدُوِّ الذي نحن أشرَفُ منه. معَ أنَّ البومَ لو عَرَضنا ذلك عليهِنَّ لَما رَضِينَ منَّا إلاَّ بالشَّطَطِ. ويُقالُ في الأمثالِ: قارِبْ عَدُوَّكَ بعضَ المقارَبَةِ لتَنالَ حاجَتَكَ ولا تُقارِبهُ كلَّ المُقارَبَةِ فيَجتَرِئَ عليك ويُضعِفَ جُندَكَ وتَذِلَّ نفسُكَ. ومَثَلُ ذلك مَثَلُ الخَشَبَةِ المَنصوبَةِ في الشَّمسِ إذا أمَلتَها قليلاً زادَ ظِلُّها، وإذا جاوَزتَ بها الحَدَّ في إمالَتِكَها نَقَصَ الظلَّ. وليسَ عَدُوُّنا راضيًا منَّا بالدُّونِ في المُقارَبَةِ. فالرأيُ لنا ولكَ المُحارَبَةُ.

قالَ الملِكُ للخامِسِ: ما تَقولُ أنتَ وماذا تَري? القِتالُ أمِ الصُّلحُ أم الجَلاءُ عنِ الوطَنِ? قالَ: أمَّا القِتالُ فلا سبيلَ للمَرءِ إلي قِتالِ مَن لا يَقوي عليه. وقد يُقالُ إنَّه مَن لا يَعرِفُ نفسَهُ وعَدُوَّهُ وقاتَلَ مَن لا يَقوي عليه حَمَلَ نفسَهُ علي حَتفِها. معَ أنَّ العاقِلَ لا يَستَصغِرُ عَدُوًّا. فإنَّ مَنِ استَصغَرَ عَدُوَّهُ اغتَرَّ به ومَنِ اغتَرَّ بعَدُوِّهِ لم يَسلَمْ منه. وأنا للبومِ شديدُ الهَيبَةِ وإن أضرَبنَ عن قِتالنا، وقد كنتُ أهابُها قَبلَ ذلك. فإنَّ الحازِمَ لا يأمَنُ عَدُوَّهُ علي كلِّ حالٍ. فإن كانَ بعيدًا لم يأمَنْ سَطوَتَهُ، وإن كانَ مُكثِبًا لم يأمَنْ وَثبَتَهُ، وإن كانَ وحيدًا لم يأمَنْ مَكرَهُ. وأحزَمُ الأقوامِ وأكيَسُهُمْ مَن كَرِهَ القِتالَ لأجلِ النَّفَقَةِ فيه. فإنَّ ما دونَ القِتالِ النَّفَقَةُ فيه مِنَ الأموالِ والقَولِ والعَمَلِ. والقِتالُ النَّفَقَةُ فيه مِنَ الأنفسِ والأبدانِ. وربَّما اكتُفِيَ عنه بالنَّفَقَةِ اليَسيرَةِ والكَلامِ اللَّيِّنِ.

فلا يَكونَنَّ القِتالُ للبومِ من رأيِكَ أيُّها الملِكُ. فإنَّ مَن قاتَلَ مَن لا يَقوي عليه فقد غَرَّرَ بنفسِهِ. فإذا كانَ الملِكُ مُحصِنًا للأسرارِ مُتَخَيِّرًا للوُزَراءِ مَهِيبًا في أعيُنِ الناسِ بعيدًا من أن يُقدَرَ عليه، كانَ خَليقًا أن لا يُسلَبَ، صَحيحَ ما أُتِيَ مِنَ الخَيرِ. وأنتَ أيُّها الملِكُ كذلك والملِكُ يَزدادُ برأيِ وُزَرائِهِ بَصيرَةً كما يَزيدُ البحرُ بمُجاوِرِهِ مِنَ الأنهارِ.

وقد استَشَرتَني في أمرٍ جوابكَ منّي عنه في بعضِهِ عَلَنِيٌّ وقد أجَبتُكَ به، وفي بعضِهِ سِرِّيٌّ.

فإنَّ وُزَراءَ الملِكِ إذا كانوا صالِحينَ وكانَ يُطيعُهُمْ في آرائِهِمْ لم يَضُرَّ في مُلكِهِ كَونُهُ جاهِلاً واستَقامَ أمرُهُ. كما فَعَلَتِ الأرنَبُ التي زَعَمَتْ أنَّ القَمَرَ مَلِكُها وعَمِلَتْ برأيِها. قالتِ الطَّيرُ: وكيفَ كانَ ذلكَ






الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:33 PM [ 19 ]
مؤسس شبكة الشدادين


تاريخ التسجيل : Jan 2005
رقم العضوية : 1
الإقامة : saudi arabia
الهواية : رياضة + كمبيوتر وبس
مواضيع : 2072
الردود : 91526
مجموع المشاركات : 93,598
معدل التقييم : 4981السلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond repute

السلطان غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
فعالية ضوء عدسة

فعالية طلباتك أوامر

شكر وتقدير

فعالية مجموعات المنتدى

يوميات الأعضاء

التميز في دورة الفوتوشوب

شكر وتقدير

أجمل خط 1434 هـ




قرأتُ هذا الكتاب قبل 15 سنة تقريباً

وكان من أكثر الكتب تشويقاً وإثارة في سرد القصص

كان ما يعيبه ذلك الوقت هو تشعب القصص وتداخلها

مما يجعل القارئ ينسى القصة الرئيسية التي تشعبت

عنها القصص التالية لها

هذا الكتاب فيه من الفلسفة الشيء الكثير مما قد يجعل

فهمه صعباً على صغار السن

سناء

بارك الله فيك


توقيع : السلطان
الأعلى رد مع اقتباس
قديم 12 Nov 2005, 07:34 PM [ 20 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






مثل الأرنبِ وملك الفِيَلة


قالَ الغرابُ: زَعَموا أنَّ أرضًا من أراضي الفِيَلَةِ تَتابَعَتْ عليها السِّنون وأجدَبَتْ وقَلَّ ماؤُها وغارَتْ عُيونُها وذَوي نَبتُها ويَبِسَ شجرُها. فأصابَ الفِيَلَةَ عَطَشٌ شديدٌ. فشَكَونَ ذلك إلي مِلكِهِنَّ فأرسَلَ الملِكُ رُسُلَهُ ورُوادَهُ في طَلَبِ الماءِ في كلِّ ناحيةٍ. فَرَجَعَ إليه بعضُ الرُّسُلِ فقالَ له: إني قد وَجَدتُ بمكانِ كذا عَينًا يُقالُ لها عَينُ القَمَرِ كثيرَةُ الماءِ. فَتَوجَّهَ ملِكُ الفِيَلَةِ بأصحابِهِ إلي تلك العَينِ ليَشرَبَ منها هو وفِيَلَتُهُ. وكانتِ العَينُ في أرضٍ للأرانِبِ فَوَطِئنَ الأرانِبَ في أجحارِهنَّ فأهلَكنَ منهُنَّ كثيرًا. فاجتَمَعَتِ الأرانِبُ إلي مِلكِها فقلنَ له: قد عَلِمتَ ما أصابَنا مِنَ الفِيلَةِ. فقالَ: ليُحْضِرْ منكُنَّ كلُّ ذي رأيٍ رأيَهُ.

فَتَقَدَّمَتْ أرنَبٌ مِنَ الأرانِبِ يُقالُ لها فَيروزُ، وكانَ الملِكُ يَعرِفُها بحُسنِ الرأيِ والأدَبِ. فقالت: إن رأي الملِكُ أن يَبعَثَني إلي الفِيَلَةِ ويُرسِلَ معي أمينًا ليَسمَعَ ويَرَي ما أقولُ ويَرفَعَهُ إلي الملِكِ.

فقالَ لها الملِكُ: أنتِ أمينَةٌ ونَرضي بقَولِكِ فانطَلِقي إلي الفِيَلَةِ وبَلِّغي عنّي ما تُريدينَ. واعلَمي أنَّ الرَّسولَ برأيِهِ وعَقلِهِ ولِينِهِ وفَضلِهِ يُخبِرُ عن عَقلِ المُرسِلِ. فعليكِ باللِّينِ والرِّفقِ والحِلمِ والتَّأَنّي. فإنَّ الرَّسولَ هو الذي يُلَيِّنُ الصُّدورَ إذا رَفَقَ ويُخَشِّنُ الصُّدورَ إذا خَرِقَ .

ثم إنَّ الأرنَبَ انطَلَقَتْ في ليلَةٍ قَمراءَ حتي انتَهَتْ إلي الفِيَلَةِ. وكَرِهَتْ أن تَدنُوَ منهنَّ مَخافَةَ أن يَطَأنَها بأرجُلِهِنَّ فيَقتُلَنَّها وإن كُنَّ غيرَ مُتَعَمِّداتٍ فأشرَفَتْ علي الجَبَلِ ونادَت ملِكَ الفِيَلَةِ وقالت له: إنَّ القَمَرَ أرسَلَني إليك والرَّسولُ غيرُ مَلومٍ فيما يُبَلَّغُ وإن أغلَظَ في القَولِ.

قالَ ملِكُ الفِيَلَةِ: فما الرِّسالَةُ? قالت: يَقولُ لكَ أنَّه مَن عَرَفَ فَضلَ قُوَّتِهِ علي الضُّعَفاءِ فَاغتَرَّ في ذَلِكَ بالأقوِيَاء قِياسًا لَهُمْ عَلَي الضُّعَفَاءِكانت قُوَّتُهُ وَبالاً عليه. وأنتَ قد عَرَفتَ فَضلَ قُوَّتِكَ علي الدَّوابِ فغَرَّكَ ذلك فعَمَدتَ إلي العَينِ التي تُسمَّي باسمي فشَرِبتَ منها ورَنَّقتَها فأرسَلَني إليك فأُنذِرُكَ أن لا تَعودَ إلي مِثلِ ذلك. وأنَّه إن فَعَلتَ يُغَشِّي علي بَصَرِكَ ويُتلِفُ نفسَكَ. وإن كنتَ في شَكٍّ من رِسالَتي فهَلُمَّ إلي العَينِ من ساعَتِكَ فإنَّه مُوافيكَ بها.

فعَجِبَ مَلِكُ الفِيَلَةِ من قَولِ الأرنَبِ فانطَلَقَ إلي العَينِ معَ فَيروزَ الرَّسولِ. فلمَّا نَظَرَ إليها رأي ضَوءَ القَمَرِ فيها فقالت له فَيروزُ الرَّسولُ: خُذْ بخُرطومِكَ مِنَ الماءِ فاغسِلْ به وَجهَكَ واسجُدْ للقَمَرِ. فأدخَلَ الفيلُ خُرطومَهُ في الماءِ فَتَحَرَّكَ فخُيِّلَ إلي الفيلِ أنَّ القَمَرَ ارتَعَدَ. فقالَ: ما شأنُ القَمَرِ ارتَعَدَ? أتَرَينَهُ غَضِبَ من إدخالي خُرطومي في الماءِ? قالت فَيروزُ الأرنَبُ: نعم. فسَجَدَ الفيلُ للقَمَرِ مرَّةً أخري وتابَ إليه ممَّا صَنَعَ وشَرَطَ أن لا يَعودَ إلي مِثلِ ذلك هو ولا أحدٌ من فِيَلَتِهِ.

قالَ الغرابُ: ومعَ ما ذَكَرتُ من أمرِ البومِ فإنَّ فيها الخِبَّ والمَكَر والخَديعَةَ، وشَرُّ الملوكِ المُخادِعُ.

وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لما أرجو أن نُصيبَ من حاجَتِنا بالرِّفقِ والحِيلَةِ. وإني أُريدُ مِنَ الملِكِ أن يَنقُرَني علي رؤوسِ الأشهادِ ويَنتِفَ ريشي وذَنَبي ثم يَطرَحَني في أصلِ هذه الشجرةِ ويَرتَحِلَ الملِكُ وجنودُهُ إلي مكانِ كذا. فإني أرجو أني أصبِرُ وأطَّلِعُ علي أحوالِهِمْ ومَواضِعِ تَحصينِهِمْ وأبوابِهِمْ فأُخادِعُهُمْ وآتي إليكم لنَهجُمَ عليهم ونَنالَ منهم غَرَضَنا إن شاءَ اللهُ تَعالي.

قالَ الملِكُ: أتَطِيبُ نفسُكَ لذلك? قالَ: نعم، وكيف لا تَطيبُ نفسي لذلك وفيه أعظَمُ الرَّاحاتِ للملِكِ وجنودِهِ!. ففَعَلَ الملِكُ بالغرابِ ما ذَكَرَ ثم ارتَحَلَ عنه.

فلمَّا جَنَّ الليلُ أقبَلَ ملِكُ البومِ وجُندُهُ ليوقِعَ بالغِربانِ، فلم يَجِدهُمْ، وهَمَّ بالانصرافِ. فجَعَلَ الغرابُ يَئِنُّ ويَهْمِسُ حتي سَمِعَتهُ البومُ ورأينَهُ يَئِنُّ فأخبَرنَ ملِكَهُنَّ بذلك. فقَصَدَ نحوه ليسألَهُ عنِ الغِربانِ. فلمَّا دَنا منه أمَرَ بومًا أن يسألَهُ فقالَ له: مَن أنتَ وأينَ الغِربانُ? فقالَ: أمَّا اسمي ففلانٌ. وأمَّا ما سألتَني عنه فإني أحسَبُكَ تَرَي أنَّ حالي حالُ مَن لا يَعلَمُ الأسرارَ. فقيلَ لملِكِ البومِ: هذا وَزيرُ ملِكِ الغِربانِ وصاحِبُ رأيِهِ فنسألُهُ بأيِّ ذَنبٍ صُنِعَ به ما صُنِعَ. فسُئِلَ الغرابُ عن أمرِهِ فقال: إنَّ مَلِكَنا استَشارَ جماعَتَنا فِيكُنَّ، وكُنتُ يَومَئِذٍ بمَحضَرٍ مِنَ الأمرِ، فقالَ: أيُّها الغِربانُ ما تَرَونَ في ذلك? فقلتُ: أيُّها الملِكُ لا طاقَةَ لنا بقِتالِ البومِ لأنَّهُنَّ أشَدُّ بَطشًا وأحَدُّ قَلبًا منَّا. ولكن أري أن نَلتَمِسَ الصُّلحَ ثم نَبذُلَ الفِديَةَ في ذلك فإن قَبِلَتِ البومُ ذلك منَّا وإلاَّ هَرَبنا في البلادِ. وإذا كانَ القِتالُ بيننا وبين البومِ كانَ خيرًا لهنَّ وشَرًّا لنا. فالصُّلحُ أفضَلُ مِنَ الخُصومَةِ. وأمَرتُهُنَّ بالرجوعِ عنِ الحرب وضَرَبتُ لهنَّ الأمثالَ في ذلك وقلتُ لهنَّ إنَّ العَدُوَّ الشَّديدَ لا يَرُدُّ بأسَهُ مثلُ الخُضوعِ له. ألا تَرَينَ إلي الحَشيشِ كيف يَسلَمُ من عاصِفِ الرِّيحِ للينِهِ ومَيلِهِ معها حيثُ مالَتْ والشَّجَرُ العاتي يُكسَرُ بها ويُحطَمُ?

فعَصَينَني في ذلك وزَعَمنَ أنَّهُنَّ يُرِدنَ القِتالَ واتَّهَمَنني فيما قلتُ وقلنَ: إنَّك قد مَالأْتَ البومَ علينا. ورَدَدنَ قَولي ونَصيحَتي وعَذَّبْنَني بهذا العذابِ وتَرَكَني الملِكُ وجُنودُهُ وارتَحَلَ ولا عِلمَ لي بهنَّ بعد ذلك.

فلمَّا سَمِعَ ملِكُ البومِ مقالَةَ الغرابِ قالَ لبعضِ وُزَرائِهِ: ما تَقولُ في الغرابِ وما تَرَي فيه? قالَ: ما أري إلاَّ المُعاجَلَةَ له بالقَتلِ فإنَّ هذا أفضَلُ عُدَدِ الغِربانِ، وفي قَتلِهِ لنا راحَةٌ من مَكرِهِ، وفَقدُهُ علي الغِربانِ شديدٌ. فإذا قُتِلَ ثُلَّ مُلكُهُم وتَقَوَّضَ وما أراهُ إلاَّ فَتحًا قد أرْسَلَهُ اللهُ إليك. ويُقالُ: مَن ظَفِرَ بالسَّاعَةِ التي فيها يَنجَحُ العَمَلُ ثم لا يعَاجِلُهُ بالذي يَنبَغي له فليسَ بحكيمٍ، فإنَّ الأمورَ مَرهونَةٌ بأوقاتِها. ومَن طلَبَ الأمرَ الجَسيمَ فأمكَنَهُ ذلك فأغفَلَهُ فاتَهُ الأمرُ. وهو خَليقٌ أن لا تَعودَ الفرصَةُ ثانيةً. ومَن وَجَدَ عَدُوَّهُ ضَعيفًا ولم يُنجِزْ قَتلَهُ نَدِمَ إذا استَقوي ولم يَقدِرْ عليه.

قالَ الملِكُ لوَزيرٍ آخَرَ: ما تَرَي أنتَ في هذا الغرابِ? قالَ: أري أن لا تَقتُلَهُ لأنَّه قد لَقِيَ من أصحابِهِ ما تَراهُ فهو خَليقٌ أن يكونَ دَليلاً لكَ علي عَوراتِهِمْ ومُعينًا لكَ علي ما فيه هَلاكُهُمْ. وإنَّ العَدُوَّ الذَّليلَ الذي لا ناصِرَ له أهلٌ لأن يُؤَمَّنَ ولا سِيَّمَا المُستَجيرِ الخائِفِ. والعَدُوُّ إذا صَدَرَت منه المَنفَعَةُ ولو كانَ غيرَ مُتَعَمِّدٍ لها أهلٌ لأن يُصفَحَ عنه بسببِها.

قالَ ملِكُ البومِ لوَزيرٍ من وُزَرائِهِ: ما تَقولُ في أمرِ الغرابِ? قال: أري أن تَستَبقِيَهُ وتُحسِنَ إليه فإنَّه خَليقٌ أن يَنصَحَكَ. والعاقِلُ يَرَي مُعاداةَ بعضِ أعدائِهِ بعضًا ظَفَرًا حَسَنًا. ويَرَي اشتِغالَ بعضِ أعدائِهِ ببعضٍ خَلاصًا لنفسِهِ منهم ونَجاةً.

فقالَ الوزيرْ الأوَّلُ الذي أشارَ بقَتلِ الغرابِ: أظُنُّ أنَّ الغرابَ قد خَدَعَكُنَّ ووَقَعَ كلامُهُ في نفسِ الغَبيِّ منكُنَّ مَوقِعَهُ فتُرِدنَ أن تَضَعْنَ الرأيَ غيرَ مَوضِعِه. فمهلاً مهلاً أيُّها الملِكُ عن هذا الرأيِ ولا تَكونَنَّ لِما تَسمَعُ أشَدَّ تَصديقًا منك لِما تَرَي.

فلم يَلتَفِتِ الملِكُ إلي قَولِهِ وأمَرَ بالغرابِ أن يُحمَلَ إلي منازِلِ البومِ ويُكرَمَ ويُستَوصي به خيرًا.

ثم إنَّ الغرابَ قالَ للملِكِ يومًا وعندَهُ جماعَةٌ مِنَ البومِ وفيهِنَّ الوَزيرُ الذي أشارَ بقَتلِهِ: أيُّها الملِكُ قد عَلِمتَ ما جَري عليَّ مِنَ الغِربانِ وإنَّه لا يَستَريحُ قلبي دونَ الأخذِ بثأري منهُنَّ. وإني قد نَظَرتُ في ذلك فإذا بي لا أقدِرُ علي ما رُمتُ لأني غرابٌ. وقد رُوِيَ عنِ العلماءِ أنَّهم قالوا: مَن طابَت نفسُهُ بأن يُحرِقَها فقد قَرَّبَ للهِ أعظَمَ القربانِ لا يَدعو عند ذلك بدَعوَةٍ إلاَّ استُجيبَ له. فإن رأي الملِكُ أن يأمُرَني فأُحرِقَ نفسي وأدعُوَ رَبّي أن يُحَوِّلَني بومًا فأكونَ أشَدَّ عَداوَةً للغِربانِ وأقوي بأسًا عليهِنَّ لعلّي أنتَقِمُ منهُنَّ.

فقالَ الوَزيرُ الذي أشارَ بقَتلِهِ: ما أشبَهَكَ في خيرِ ما تُظهِرُ وشَرِّ ما تُضمِرُ بالخَمرَةِ الطَّيبةِ الطَّعمِ والرّيحِ المُنقَعِ فيها السُّمُّ. أرأيتَ لو أحرَقنا جِسمَكَ بالنارِ أنَّ جَوهَرَكَ وطَبعَكَ مُتَغَيِّرٌ? أوَلَيسَت أخلاقُكَ تَدورُ معكَ حيث دُرتَ وتَصيرُ بعد ذلك إلي أصلِكَ وطينَتِكَ?

فلم يَلتَفِتْ ملكُ البومِ إلي ذلك القَولِ ورَفَقَ بالغرابِ ولم يَزدَدْ له إلاَّ إكرامًا. حتي إذا طابَ عَيشُهُ ونَبَتَ ريشُهُ واطَّلَعَ علي ما أرادَ أن يَطَّلِعَ عليه راغَ رَوغَةً فأتي أصحابَهُ بما رأي وسَمِعَ، فقالَ للملِكِ: إني قد فَرغتُ ممَّا كنتُ أُريدُ ولم يَبقَ إلاَّ أن تَسمَعَ وتُطيعَ.. قالَ له: أنا والجُندُ تحت أمرِكَ فاحتَكِمْ كيف شِئتَ.

قالَ الغرابُ: إنَّ البومَ بمكانِ كذا في جَبَلٍ كثيرِ الحَطَبِ. وفي ذلك المَوضِعِ قَطيعٌ مِنَ الغَنَمِ معَ رجلٍ راعٍ ونحن مُصيبونَ هناكَ نارًا ونُلقيها في أثقابِ البومِ ونَقذِفُ عليها من يابِسِ الحَطَبِ ونَتَرَوَّحُ عليها ضَربًا بأجنِحَتِنا حتي تَضطَرِمَ النارُ في الحَطَبِ فمَن خَرَجَ منهُنَّ احتَرَقَ ومَن لم يَخرُجْ ماتَ بالدُّخانِ مَوضِعَهُ.

ففَعَلَ الغِربانُ ذلك فأهلَكنَ البومَ قاطِبَةً ورَجَعنَ إلي منازِلِهِنَّ سالِماتٍ آمِناتٍ.

ثم إنَّ ملِكَ الغِربانِ قالَ لذلك الغرابِ: كيف صَبَرتَ علي صُحبَةِ البومِ ولا صَبرَ للأخيارِ علي صُحبَةِ الأشرارِ? قالَ الغرابُ: إنَّ ما قُلتَهُ أيُّها الملِكُ لكذلك. فإنَّه يُقالُ: لَذعُ النارِ أيسَرُ علي المَرءِ من صُحبَةِ الأشرارِ والإقامَةِ مَعَهُمْ. ولكنَّ العاقِلَ إذا أتاهُ الأمرُ الفَظيعُ العَظيمُ الذي يَخافُ من عَدَمِ تَحَمُلِهِ الجائِحَةَ علي نفسِهِ وقَومِهِ لم يَجزَعْ من شِدَّةِ الصَّبرِ عليه لِمَا يَرجو من أن يُعقِبَهُ صَبرُهُ حُسنَ العاقِبَةِ وكثيرَ الخيرِ، فلم يَجِدْ لذلك ألَمًا ولم تَكرَهْ نفسُهُ الخُضوعَ لمَن هو دونَهُ حتي يَبلُغَ حاجَتَهُ فيَغتَبِطَ بخاتِمَةِ أمرِهِ وعاقِبَةِ صَبرِهِ.

قالَ الملِكُ: لقد احتَمَلتَ مَشَقَّةً شديدةً في تَصَنّعِكَ للبومِ وتَضَرُّعِكَ إليهِنَّ. قالَ الغرابُ: إنَّه مَنِ احتَمَلَ مَشَقَّةً يَرجو نَفعَها ونَحَّي عن نفسِهِ الأنَفَةَ والحَمِيَّةَ ووَطَّنَها علي الصَّبرِ حَمِدَ غِبَّ رأيِهِ. وإنَّه يُقالُ: لو أنَّ رجلاً حَمَلَ عَدُوَّهُ علي عُنُقِهِ وهو يَرجو هلاكَهُ وراحتَهُ منه لكانَ ذلك عندَهُ خَفيفًا هَيِّنًا كما صَبَرَ الأسوَدُ علي حَملِ ملِكِ الضَّفادِعِ علي ظَهرِهِ وشَبعَ بذلك وعاشَ. قالَ الملِكُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?









الأعلى رد مع اقتباس
إضافة رد
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أسئلة خفيفة ولزيزة وحلوة قلب ياسر القسم العام 3 17 May 2009 02:58 AM
ضابط يرثي نفسه ويموت بعدها بيومين الولهان قصائد مختارة 9 15 Aug 2005 07:47 AM
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

11:19 AM
Powered by vBulletin® developed by Tar3q.com