..:.. مرحباً بك في شبكة الشدادين الرسمية ، ضيفنا الكريم يسعدنا دعوتك للانضمام والمشاركة معنا .. اضغط هنا لتسجيل عضوية جديدة ..:..


العودة   شبكة الشدادين > المنتديات الشعبية > أعلام ورجال
 
أدوات الموضوع
إضافة رد
قديم 16 Feb 2011, 03:30 AM [ 11 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


نظرات في عصر الخلفاء الراشدين 1


كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*
08/03/1431 الموافق 21/02/2010

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين ، وبعد ..
فإن عصر الخلفاء الراشدين يطلق على الفترة الممتدة من سنة 11هـ إلى سنة 41 هـ ، وهي الفترة التي حكم فيها الخلفاء الراشدون الخمس : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ـ رضي الله عنهم ـ وقد بدأت بتولي الصديق الخلافة سنة في ربيع الأول سنة 11هـ ، وانتهت بتنازل الحسن لمعاوية ـ رضي الله عنهما ـ عن الخلافة في ربيع الأول سنة 41 هـ ، وقد اتسعت فيها مساحة الدولة الإسلامية بعد أن كانت قاصرة على بلاد الجزيرة العربية عند وفاة رسول الله لتشمل بلاد الجزيرة العربية والشام والجزيرة الفراتية ومصر والمغرب العربي والعراق وفارس وأفغانستان ، وبلاد ما وراء النهر ، وجزءا من بلاد الهند .
وتميزت تلك الفترة بأنها كانت امتدادا لعصر النبوة من حيث السير على منهج الإسلام ، ولذلك قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : " « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ » (1).
وهذه نظرات نلقيها على هذا العصر نستخلص منها بعض الدروس التي تفيد أمتنا في العصر الحاضر ، نبدؤها بوقفة مع الصديق وكيف تم اختياره للخلافة ..
فقد شرع رسول الله في تهيئة أبي بكر الصديق لتولي أمر المسلمين بعده , والقيام بأعباء الخلافة , حتى لا يحس المسلمون بفراغ كبير بعد رحيله .
وجدير بالذكر أن رسول الله لم يرشح أبا بكر لخلافته إلا لأن فيه من المقومات التي يستطيع بها تحمل أعباء الخلافة ما لم يتوفر في غيره من سائر الصحابة , فقد لازمه طوال فترة البعثة , وراقب حركاته وسكناته , وتعرف منه كيف يواجه العظائم , ويتصدى للصعاب , ويدير أمور الدولة بحكمة ورشاد , وتعلم منه كيف يتعامل مع العدو والحبيب .
فكان أول ما فعله صلى الله عليه وسلم أن كلف أبا بكر رضي الله عنه بإمامة المسلمين في الصلاة فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " (2) وقد حدث أن غاب أبو بكر يوما , فقام عمر فصلى بالناس ,فلما كّبر عمر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال صلى الله عليه وسلم :" فأين أبو بكر ؟ !يأبى الله ذلك والمسلمون , يأبى الله ذلك والمسلمون " ...
ثم صار يوكل إليه قضاء حوائج المسلمين , وينبههم إلى الرجوع إليه في الأمور التي كانوا يرجعون إليه فيها عند فقده , فقد جاءت إليه امرأة تسأله عن حاجة فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك - كأنها تقول الموت - فقال صلى الله عليه وسلم : "إن لم تجديني فأتي أبا بكر". ( 3) .
ولما وجد في نفسه شيئا من العافية قبيل موته خرج إلى المسجد يهادي بين رجلين من أصحابه , فلما شاهده أبو بكر أراد أن يتأخر ويقدمه في الصلاة , فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن مكانك ، ثم أتى حتى جلس إلى جنبه , فصلى بصلاته . ..
وأعاد على مسامع المسلمين بعض فضائله , فقال :" فإني لا أعلم امرأ أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر .." وقال : " لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي " (4) ..
وطلب من المجاورين للمسجد , الذين كانت تفتح دورهم عليه مباشرة , أن يسدوا منافذهم تلك ؛ للحفاظ على نظافة المسجد فقال : ": سدوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر " ؛ لأنه سيحتاج إلى الخروج إليه كل حين , وعلى غير ميعاد للتباحث في أمر المسلمين , فيشق عليه تغيير مخرج بيته .
ورغم ذلك لم ينص صلى الله عليه وسلم على خلافة الصديق مباشرة ؛ لأنه لم يشأ أن يسلب المسلمين حقهم وإرادتهم في اختيار من يقوم بشئونهم ويتولى أمرهم .
قُبض صلى الله عليه وسلم , وكانت وفاته صدمة لكل المسلمين , لم يستطع الكثير منهم تحمل أثرها , فمنهم من دُهش فخولط , ومنهم من أُقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من أعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية ؛لأن فقد عزيز عليه كرسول الله ليس بالأمر الهين , إلا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أهلا بالفعل للقيام بأعباء المهمة التي أعده النبي لها , فما إن أُعلم بوفاته حتى جاء سريعا من منزل له بالسنح خارج المدينة , ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه ـ وهو متمالك لنفسه ـ وقبله قائلا: "بأبي أنت وأمي طبت حيا ميتا , والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبدا" .
ثم خرج فوجد عمر رضي الله عنه يصيح بالحاضرين : "إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي , وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات " فقال لعمر : "أيها الرجل ! أربع ( هون )على نفسك , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات , ألم تسمع الله يقول : " إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ "(5) وقال : " وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ " (6).
ثم أتى المنبر فصعده , وحمد الله , وأثنى عليه , ثم قال : ألا من كان يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات , ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت , قال الله تعالى :" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " (7) فتلقاها منه الناس , وصاروا يرددونها , وظل بمن حوله من أهل المدينة , حتى خفف عنهم هول الفاجعة , وفاءوا إلى رشدهم بفيئه , وأمسوا يدربون أنفسهم على الحياة دون رسول الله , وعلى الصبر على فراقه , وعلى البحث في شئونهم العامة والخاصة .
وكان أول أمر نظروا فيه هو ( من يخلف رسول الله عليهم , ومن ينهض بالأمر بعده صلى الله عليه وسلم ) لأنهم كرهوا كما قال سعيد بن زيد أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة , ولم يسندوا أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق مباشرة ؛ لأن رسول الله لم ينص على خلافته صراحة كما ذُكر من قبل , والبعض من المسلمين ـ وخاصة الأنصار ـ لم يفهموا من الإشارات الضمنية التي وردت عن رسول الله في فضل أبي بكر أهليته للخلافة دون غيره.
فاجتمع الأنصار في مكان لهم يسمى " سقيفة بني ساعدة" وتناقشوا في إمكانية استخلاف سعد بن عبادة , وكانت حجتهم في ذلك كما قال سعد بن عبادة : "لكم سابقة في الدين , وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب : إن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث في قومه بضع عشرة سنة , يدعوهم إلى عبادة الرحمن , وخلع الأنداد والأوثان , فما آمن به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه , ولا على إعزاز دينه , ولا على دفع ضيم، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة , ورزقكم الإيمان به وبرسوله , والمنع له ولأصحابه , والإعزاز له ولدينه , والجهاد لأعدائه , فكنتم أشد الناس على عدوه , حتى استقامت العرب لأمر الله ...وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ , وبكم قرير العين " ( 8).
ثم خرج من بينهم أسيد بن حضير فأتى أبا بكر ؛ ليعرض عليه وجهة نظر الأنصار هذه , فوجده وقد اجتمع إليه المهاجرون - أو من اجتمع إليه منهم – فلما أخبره بخبر الأنصار قال لمن حوله : " انطلقوا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً " ( 9) فذهبوا حتى أتوهم.
وبعد اطلاعه على ما عزموا عليه , ومعرفة وجهة نظرهم قال : " أنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين , ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله , وجعل إليكم هجرته ... , وإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له أهل (10 ) .
ثم بين لهم أن هذه الأمور ليست كفيلة بجعل الخلافة فيهم ؛ لأن العرب بما جلبت عليه من عصبية لن ترضى أن تدين لأحد من غير قريش , قوم النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي أثناء النقاش قال رجل من الأنصار: " منا أميرٌ ومنكم أمير " فاحتج عمر بأنه لا يصح أن يكون للمسلمين أميران , لأن رسول الله حذر من ذلك , وقال (أي عمر) ": هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم (11) .
فأعاد أبو بكر الحديث , وذكر الأنصار بفضلهم , وبما غاب عن ذهنهم في شأن الخلافة فقال " : لقد علمتم أن رسول الله قال : لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار ، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم , فقال سعد : صدقت ، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء , فقال أبو بكر : نعم "... لا تفاتون بمشورة , ولا تقضي دونكم الأمور.."( 12 ) .
وزاد أبو عبيدة : يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر , فلا تكونوا أول من بدل وغير! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار ! إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين , وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا , وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك , ولا نبتغي به الدنيا، ألا إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، من قريش وقومه أولى به، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم (13 ) .
ثم أعلنوا بيعتهم جميعا لأبي بكر بالخلافة بعد عبارة عمر المؤثرة : " أنشدكم بالله، هل أُمر أبو بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيل عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: كلنا لا تطيب أنفسنا، نستغفر الله!.ويشعر عندها أبو بكر بثقل التبعة فيقول " أنت يا عمر أقوى لها مني , فيرد عليه : إن لك قوتي مع قوتك ( 14 ) .
حدث كل ذلك يوم وفاة رسول الله , ثم جلس أبو بكر في اليوم التالي ؛ ليأخذ البيعة من سائر الناس, وأتته وفود العرب مجمعة على بيعته إلا المرتدين , فقد سئل سعيد بن زيد : أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : فمتى بويع أبو بكر ؟ قال : يوم مات رسول الله صلى الله عليه فقيل له : هل خالف عليه أحد ؟ قال : لا إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد (15 ) .
بتلكم الصورة تمت بيعة أول خليفة للمسلمين , لتعلن للناس أجمعين أن الحاكم في الإسلام لابد أن يكون خير الناس وأرجحهم عقلا , وأقدرهم على تولي التبعات , وفي نفس الوقت هم أصحاب الحق في اختياره , لا يفرضه عليهم أحد مهما علت مكانته.
ونشير هنا إلى أن الإسلام يسمح بأن يترك لأهل الحل والعقد اختيار الحاكم ، ثم تعرض مبايعته على جمهور الناس ، كما حدث مع الصديق ، ويسمح بأن يختار الحاكم نائبا له ثم يترك أمر الموافقة عليه لأهل الحل ، كما حدث مع الفاروق عمر ، ويسمح بأن يرشح الحاكم عددا ممن توفرت فيهم مؤهلات الحكم ، ثم يختار الرعية واحدا منهم كما حدث مع عثمان رضي الله عنه .
وقام الصديق رضي الله عنه بإلقاء الخطبة التي بين فيها الأسس التي اتبعها في حكومته فقال : "أما بعد ، أيها الناس ! فإني قد وُليت عليكم ، ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه ـ إن شاء الله ـ والقوي فيكم ضعيف عندي ، حتى آخذ الحق منه ـ إن شاء الله ـ لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ( 16) .
ونزل من توه ليستعد لمجابهة العرب المرتدين ، فالكثير من الأعراب في شتى الجزيرة العربية ( وأقول أكثر الأعراب لأن من آمنوا إيمانا صادقا مع رسول الله ثبتوا على إيمانهم مثل أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف ، وكان في سائر القبائل كثير ممن بقوا على إسلامهم ، ولكنهم أخفوه خوفا من المرتدين الذين سيطروا على قبائلهم ) ما إن سمعوا بموت رسول الله حتى انتفضوا وثاروا خالعين ربقة الإسلام من أعناقهم ، وطردوا ولاة رسول الله عليهم ، وظهر من بينهم من يدعي النبوة ، بعد أن ظنوا أن ذلك أفضل طريق لجمع الأعراب السذج عليهم..
ونشير إلى أن هؤلاء الذين ارتدوا بعضهم لم يكن قد مر على إسلامه إلا وقت قصير فلم تتشبع نفسه بالإيمان ، وحسب أن الإسلام مرتبط بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما مات رسول الله توهم أن الإيمان انتهى معه ، كما أن الكثير منهم قد أسلموا تبعا لزعمائهم الذين أسلموا إما طمعا في عطايا رسول الله أو خوفا منه ، فلما ارتد زعماؤهم أو ادعوا النبوة ارتدوا تقليدا لهم .
روى عروة بن الزبير عن أبيه قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب عوام أو خواص ، وتوحى مسيلمة وطليحة فاستغلظ أمرهما ، واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد ، وارتدت غطفان إلا ما كان من أشجع ، وخواص من الأفناء فبايعوه ، وقدمت هوازن رجلا وأخرت رجلا ، أمسكوا الصدقة إلا ما من ثقيف ولفها ...وارتدت خواص من بني سليم ، وكذلك سائر الناس بكل مكان (17 ) .
واختلفت مواقف الصحابة بالمدينة تجاه تلك الثورات ، وأكثرهم خشي من عاقبة مواجهتها ، ورءوا مهادنتهم ، بل غلب بعضهم اليأس حتى قال : نعبد ربنا حتى يأتينا اليقين " الموت "إلا أن أبا بكر كان حازما في رأيه ، وأصر على مواجهة كل خارج على الإسلام وقال : .. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " ( 18 ) .
وأثبت الصديق بهذا الموقف شجاعة قل أن توجد في البشر ، ويقين ورثه من النبي صلى الله عليه وسلم ، نعم . يقين عاشه برفقته يوم الهجرة ، ويقين شاهد أثره يوم بدر ، ويقين رأى ثمرته يوم الأحزاب ، بعد أن كانت كل المؤشرات المادية توحي بأن الإسلام أوشك على الزوال ، يقين علمه أن النصر محقق للمسلمين إذا نزعت من بينهم أسباب الهزائم ..
قال عبد الله بن مسعود: " لقد قمنا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مقاماً كدنا نهلك فيه ( أي بتركنا ما أوجبه الله علينا ) لولا أن الله من علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لا نقاتل ... ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا ، ونغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردودٌ علينا، وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم.
ولما رأى الصحابة من حوله عزمه على مواجهة المرتدين ومدعي النبوة قالوا له : فلتبق جيش أسامة الذي كان رسول الله قد أوصى ببعثه ؛ ليكون عونا لك في حماية المدينة ، لأن جيش أسامة جند المسلمين ، والعرب قد انتفضت بك ، فلا ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين ، وألح عليه أسامة في هذا الأمر فقال : ".. إن معي وجوه الناس وحَدّهم، ولا آمن على خليفة رسول الله ، وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون ( 19) .
فأبى ذلك عليهم أيضا ، لا لأنه يستبد برأيه ، وإنما لأن رسول الله هو الذي قد أوصى ببعث جيش أسامة قبيل وفاته ، ولا يجوز له أن يبدأ عمله بمعصية أمر رسول الله ، فيسن سنة سيئة لمن يأتي بعده ، وكان شعاره : "والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة ، كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته" ( 20 )..
إضافة إلى أنه كان يضع في حسبانه أنه لن يستطيع أن يعيد الأمن داخل الجزيرة إلا إذا قطع الطريق على الروم وشغلهم بأنفسهم ..
وظن بعض المسلمين أن أسامة قد يعجز عن تحقيق هذا الهدف لصغر سنه ، وأرسلوا للصديق تلك الرسالة عن طريق عمر ، فقال له ـ رضي الله عنهما ـ : إن الأنصار أمروني أن أبلغك ، وأنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة ، فوثب أبو بكر ـ وكان جالسا ـ يأخذ بلحية عمر وقال له :ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب أستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟!!. ( 21 ) .
فالشورى كما قلنا من لوازم المسلمين ، ولكن الشورى لا تعني أن تناقش في أن ننفذ أوامر الله ورسوله أم لا ننفذها ، وذلك لأن الشورى تهدف إلى الوصول إلى أحسن الآراء وأصوبها ، وبالطبع ليس ثمة أي رأي أصوب من رأي الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شيء علما ، ورأي رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى عنه الوحي ، ولا ينطق عن الهوى .




توقيع : جواهر



سبحانك اللهم وبحمدك .. أشهد أن لا إله إلا أنت .. استغفرك وأتوب إليك ..
الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:33 AM [ 12 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


نظرات في عصر الخلفاء الراشدين 2

كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
03/04/1431 الموافق 18/03/2010

ذكرنا في ختام الحلقة السابقة أن بعض المسلمين قد ظن أن أسامة قد يعجز عن تحقيق الهدف المرجو من غزو الروم في ظل الظروف الحرجة التي يمرون بها لصغر سنه ، وأنهم أرسلوا لأبي بكر الصديق الرسالة عن طريق عمر ـ رضي الله عنهما ـ وأن الصديق رفض هذا العرض وقال له :ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب أستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟!! ..
وقلنا : إن الشورى من لوازم المسلمين ، ولكنها لا تعني أن نتناقش في أن : ننفذ أوامر الله ورسوله أو لا ننفذها ، وذلك لأن الشورى تهدف إلى الوصول إلى أحسن الآراء وأصوبها ، وليس ثمة أي رأي أصوب من رأي الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شيء علما ، ورأي رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى عنه الوحي ، ولا ينطق عن الهوى .
ونكمل حديثا في هذه الحلقة فنقول : إن أسامة قد خرج بالجيش الذي أعده رسول الله قبل موته لغزو الروم بالشام ، وقبل رحيله قال له أبو بكر الصديق : "اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ابدأ ببلاد قضاعة ، ثم ائت آبل ، ولا تقصرن من شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده " (1) .
ومع إن كل حاكم جديد يحرص على أن تظهر بصماته وآراؤه بمجرد أن يلي الحكم ليحس الناس بقيمته إلا أن الصديق لم يزد على أن كلف أسامة بتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وخططه التي وضعها للجيش قبيل وفاته ، ولم يقل الصديق : إن الحال قد تغيرت أو أن الظروف قد تبدلت .. فليأخذ العاملون الإسلام دروسهم من هذا الموقف إن أرادوا أن يسيروا على منهاج النبوة .
وبعد أن فرغ الصديق من نصح أسامة في لقائه الخاص به خرج معه إلى معسكر الجيش، حيث أعلن النفير وسار مع الجيش وشيعه وهو ماش وأسامة راكب، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتركبن أو لأنزلن، فقال أبو بكر: والله لا تنزل ولا ركبت، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترتفع له ، وترفع عنه سبعمائة خطيئة !(2) ..
وللقارئ أن يتخيل كيف تكون الروح المعنوية لدى جيش يسير حاكمه الأعظم على رجليه وسط سحابة الغبار التي تغطي الجو حوله وهم ركوب على دوابهم ، ثم يحسسهم بعظم ما يقبلون عليه ، حيث يكتب لكل واحد منهم بكل خطوة سبعمائة حسنة ، ويرفع بها سبعمائة درجة ، ويحط عنه سبعمائة خطيئة .
ولما أراد الرجوع قال لأسامة: إِن رأيت أن تعينني بعمر فافعل (3) يسمع أسامة هذا الطلب من الصديق فيزداد ثقة بنفسه على ثقته ، ويسمع الجنود الذين كان بعضهم في سن زيد بن حارثة أبي أسامة فلا يفكر أحد منهم بعد ذلك في مخالفة أمره أو التعالي عليه ..
إن الكليات العسكرية قد يدرس فيها الطلاب الآن من قواعد تعظيم القائد وطاعته الكثير من المناهج والنظريات ، ولكن تلك المناهج النظرية لا تحقق ما حققه هذا الموقف التربوي من الصديق ـ رضي الله عنه ـ .
وبعد رحيل أسامة قدم على الصديق أول نذير بخطر الردة ، وهو عيينة بن حصن ومعه الأقرع بن حابس ، وكانا في رجال من أشراف العرب ، فقال له : إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام ، وليس في أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن تجعلوا لنا جعلا كفيناكم .(4) .
وكان ذلك أول اختبار يواجهه الصديق بعد رحيل جيش أسامة الذي أصر على بعثه طاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك يمكن أن يؤدي إلى شقاق بينه وبين من كانوا يخالفونه الرأي ويرون ضرورة بقائه بالمدينة في ظل تلك الظروف العصيبة ، وقد دخل بعضهم عليه ، وقالوا : نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ، ويكفيانك من وراءهما حتى يرجع إلينا أسامة وجيشه ويشتد أمرك ، فإنا اليوم قليل في كثير .(5).
أقول كان ذلك يمكن أن يؤدي إلى شقاق بين الصديق وبين من كانوا يخالفونه الرأي في بعث أسامة ، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث ، ولم نر لهذا الشقاق أثرا على الإطلاق ؛ وذلك لثقة الجميع في أن أبا بكر وإن خالف رأيهم لا يسير حسب هواه ، وإنما هو متبع لنهج الرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أعلمه به ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإن كل من حوله من الصحابة كان مستعد لأن يتنازل عن رأيه لمصلحة الإسلام والمسلمين ، كما أن الصديق رغم حرصه التام على اتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مستبدا ولا متعجرفا ولا متسلطا ، وإنما كان سمحا لينا هينا ..
وظهر ذلك في قوله لهؤلاء الصحابة الذين دخلوا عليه : فهل ترون غير ذلك ؟ ( أي غير الرأي الذي اقترحوه ) قالوا : لا . قال : قد علمتم أن من عهد نبيكم إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ، ولا نزل به الكتاب عليكم ، وأنا رجل منكم تنظرون فيما أشير به عليكم ، وإن الله لن يجمعكم على ضلالة ، فتجتمعون على الرشد في ذلك ، فأما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، وألا ترشون على الإسلام ، فنجاهد عدوه كما جاهدهم .. وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم فهذا أمر لم يغب عنه عيينة ، هو راضيه ثم جاء له (6) ولو رأوا ذباب السيف لعادوا إلى ما خرجوا منه ، أو أفناهم السيف فإلى النار ، قتلناهم على حق منعوه ، وكفر اتبعوه ، فقالوا له : أنت أفضلنا رأيا ، ورأينا لرأيك تبع . (7).
ولعلك أيها القارئ لاحظت الفرق بين موقف الصديق في إنفاذ بعث أسامة وموقفه هنا ، فموقفه من بعث أسامة تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون نقاش ، أما موقفه هنا فقد صرح فيه بأنه خاضع للمشورة ، وأنه مجرد رجل من بينهم غير معصوم يعرض عليهم الرأي وعليهم مناقشته ، وفي النهاية لن يجتمعوا على ضلالة ما دامت القلوب لله مخلصة .
ولم ينتظر الصديق لحظة بعد هذا القرار ، وإنما أسرع من فوره بوضع خطة لمواجهة أي خطر قد يحيق بالمدينة ، فوضع على مداخلها حراسا (وهم علي والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ) ليراقبوا له الطرق ، وأعلن بالمدينة حالة التعبئة العامة ، وألزم الجميع بحضور المسجد .. وقال لهم : إن الأرض كافرة ، وقد رأى وفدهم ( من كان مع عيينة ) منكم قلة ، وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا ، وأدناهم منكم على بريد ( مسافة بريد ) وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم ، وقد أبينا عليهم ، ونبذنا إليهم عهدهم ، فاستعدوا وأعدوا .(8).
وظل المسلمون في حالة التأهب القصوى هذه حتى عاد أسامة بجيشه بعد ستين يوما تقريبا من رحيله ظافرا غانما ، وبعوده عادت الطمأنينة إلى قلوب المسلمين بالمدينة ، وعلموا أن الصواب كان في إصرار أبي بكر على طاعة أمر رسول الله مهما كلفه من شدائد ، وذلك لأن بعث جيش أسامة قد قذف الرعب في قلوب الروم والعرب المشركين على السواء ، فالروم قالوا : لولا أن المسلمين بهم قوة ما غزونا في ديارنا في تلك الظروف العصيبة عليهم بعد فقد نبيهم ، وأما مشركو العرب أو المرتدين فقد صدموا بانتصار جيش أسامة على الروم الذين كانوا أشد قوة وأكثر جمعا..
ولم ينتظر أبو بكر بعد عودة جيش أسامة كثيرا لأنه كان يسابق الزمن وإنما استخلف أسامة على المدينة ، وقال له ولجنده : أريحوا وأريحوا ظهركم ، ثم خرج هو بمن كان معه من حامية المدينة ليهاجم المرتدين في مكان يسمى بذي القصة ، فقال له من معه من الصحابة : ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك ، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام ، ومقامك أشد على العدو ، فابعث رجلا ( أي قائدا بدلا منك ) فإن أصيب أمّرت آخر ، فقال : لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي . (9).
وهناك في ذي القصة التقى بجموع المرتدين فهزمهم الله وشتت شملهم ، ثم رجع إلى المدينة ، وكان جيش أسامة قد استراح ، وثاب من حول المدينة من الأعراب ، فجيش الجميع ، وعقد أحد عشر لواء على أحد عشر جندا ، وسير كل قائد إلى ناحية من نواحي الجزيرة ، ليحارب على كل الجهات بطريقة غير معروفة ولا مألوفة .
وكتب إلى قبائل العرب المرتدة كتابا واحدا ، يذكرهم فيه بترك الغي والعودة إلى هدي ربهم ، وأوصى كل قائد من قواده أن يقرأه على من يمروا به ، وأمرهم ألا يقاتلوا أحدا حتى يدعونهم إلى داعية الله ، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه ، ومن لم يجب قتل وقوتل ، ولم يمر عام على ولايته إلا والجزيرة العربية كلها قد أدانت له ، وفاء أهلها إلى الله سبحانه وتعالى ، وقضي على حركة المرتدين قضاء مبرما .
ولعل هذا النصر الحاسم والسريع الذي حققه أبو بكر في تلك الفترة القصيرة جدا يعود إلى :
ـ حزم الصديق الشديد وعدم التساهل معهم .
ـ اجتماع آراء المسلمين وتوحدهم على ضرورة الحزم في مواجهتهم بعد أن بان لهم حصافة رأي الصديق ، إذ لو بقوا مختلقين تجاههم ، وتعددت الآراء حولهم ، وظهرت بين المسلمين التبريرات أو الفتاوى التي تجيز تركهم وما هم عليه لوجدوا الفرصة لتوغلهم بين الناس .
ـ سوء تصرفات زعماء المرتدين ، وخاصة من ادعى النبوة منهم ، فقد لاحظ من حولهم كذبهم ودجلهم بل وإتيانهم الأفعال المشينة ، وما ورد في أمر زواج مسيلمة الكذاب وسجاح خير دليل على ذلك ..
والأهم من ذلك أن هؤلاء مع إفكهم لم يجرؤ أحد منهم على أن ينكر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما كل ما هنالك أنهم زعموا أنهم شركاء معه في الرسالة.
ـ أن أكثر هؤلاء لم يكن لهم غاية سوى المطامع الدنيوية ، وكانت ردتهم إما طمعا في الزكاة أو امتناعا عن أدائهم ، إذ كان كثير منهم يعمل على جمع الزكاة في حياة رسول الله فلما قبض طمع فيها ، مثل عيينة بن حصن ، ومالك بن نويرة .
وانتهت فتنة الردة بمنحة عظيمة على الإسلام ، إذ إنها محصت الناس ، ثم أكدت للمسلمين أن النصر الذي كان ينزله الله عليهم أثناء تواجد النبي صلى الله عليه وسلم رغم قلة عددهم هو ملازم لهم ما داموا على نهج النبي سائرين ، ووضحت للمسلمين فيما بعد سبل التصدي للخارجين على الإسلام ..
كما أنها أكسبت الجنود المجاهدين خبرة قتالية رائعة استفادوا بها فيما بعد في فتوحاتهم ..
وأخيرا فإن قتل كثير من الحفاظ قي وقعة اليمامة كان تنبيها للمسلمين على ضرورة جمع القرآن الكريم في مصحف واحد بعد أن كانت كتاباته متناثرة كل سورة أو مجموعة آيات تسجل على حده ، وتلك كانت من المنح العظيمة لأنها حفظت القرآن من أن يتسرب منه شيء أو يضيع من صدور الحفظة ، حيث أمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمعه ، فأخذ يتتبعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى جمعه زيد في صحف.
وبعد الفراغ من المرتدة انطلق المجاهدون المسلمون ينشرون الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، فخرجت الجيوش الأحد عشر منطلقة بعضها في اتجاه العراق وبعضها في اتجاه الشام ، ليحاربوا على الجبهتين في توقيت واحد ، وفي أماكن عدة ، وكأن الصديق بذلك كان يسابق الزمن ـ كما قلنا من قبل ـ حتى إنه لم يسمح للجنود بالرجوع للاستراحة قليلا بعد حروب الردة.
فالدولة التي ترى نفسها محاطة بالأعداء من كل مكان لا بد لها أن تأخذ بكل أسباب القوة ، وأن تكون في كامل يقظتها وانتباهتها إن أرادت أن يكتب لها البقاء ، ولا ينبغي أن تتواكل فقط على رسالتها السمحة ، فمجتمع البشرية على مر تاريخه لا يحترم الحق إلا إذا كان الحق قويا .
وقبل أن يشرع الصديق في إرسال تلك الجيوش خطب في الناس فقال : ألا إن لكل أمر جوامع ، فمن بلغها فهي حسبه ، ومن عمل لله كفاه الله ، عليكم بالجد والقصد ، فإن القصد أبلغ ، إلا إنه لا دين لأحد لا إيمان له ، ولا أجر لمن لا حسبة له ، ولا عمل لمن لا نية له ، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به ، هي التجارة التي دل الله عليها ، ونجى بها من الخزي ، وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة (10)..
هذه التعاليم التي عمل أعداء الإسلام على محوها من ذاكرتنا ، وصار من المحرم الحديث عنها أو تذكرها ، حتى غدا من يتناول الحديث عنها يبدو وكأنه شاذ لا بين الناس فقط بل بين المسلمين أنفسهم .
وقد بدأ الصديق فتوحاته بناحية العراق فأرسل خالد بن الوليد وعياض بن غنم لفتحها ، وأمر خالدا أن يدخلها من أسفلها ، وعياضا أن يدخلها من أعلاها ، ثم يستبقان إلى الحيرة ، فأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه ، وقال لهما : إذا اجتمعتما بالحيرة وقد فضضتما مسالح فارس ، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردأ للمسلمين ولصاحبه بالحيرة ، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم .... وجالدوهم عما في أيديهم ، واستعينوا بالله واتقوه ، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجتمعا لكم ، ولا تؤثروا الدنيا فتسلبوهما ، واحذروا ما حذركم الله بترك المعاصي ومعاجلة التوبة ، وإياكم والإصرار وتأخير التوبة . (11).
وقد يعجب الإنسان الآن وهو يرى العرب الذين يحيط بهم الخطر من كل مكان ، خطر اليهود الذين تجمعوا من أشتات الأرض في فلسطين ، وخطر أمريكا التي جيشت جيوش العالم وتحصنت بهم في العراق ، وخطر إيران الشيعية التي صارت تتبادل مع أمريكا واليهود الأدوار في ترهيب العرب وتخويفهم ، أقول قد يعجب الإنسان وهو يرى كل ذلك وفي نفس الوقت يرى حرص المسئولين العرب على إبعاد الناس عند دينهم يوما بعد يوم ، وكان آخرها تلك التصريحات التي نسبت لأحدهم وهو يقول فيها : إن البلاد تتجه نحو اللبرالية ، وإن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء ، وهم لا يعلمون أن الإيمان هو صمام الأمان الذي سيبقي عليهم وعلى شعوبهم ، وما تأملوا في حرص الصديق على تحصين الأمة بالإيمان وقت الأزمات وهو يقول لهم : " واستعينوا بالله واتقوه ، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجتمعا لكم ، ولا تؤثروا الدنيا فتسلبوهما ، واحذروا ما حذركم الله بترك المعاصي ومعاجلة التوبة ، وإياكم والإصرار وتأخير التوبة "
قام خالد بن الوليد حسب خطة الصديق بفتح الأبلة ، ودخل ميسان وما حولها من القرى، ثم سار نحو سواد العراق ، فاستولى على أراض كسكر وزندورد ، وفتح أليس ونهر الملك، وبلاد الحيرة والأنبار ، وعين التمر ، ودانت له أكثر بلاد العراق مع الحيرة في أشهر معدودة ، فجعل الصديق بعد أن جاءته نبأ تلك الانتصارات والفتوحات يقول لمن حوله : يا معشر قريش ـ يخبرهم بالذي أتاه ـ عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ، أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد؟!(12). وكم في العرب من خالد ؟!! ولكن أين الصديق الذي يجيش لخالد الجيوش ؟!!
ويلاحظ على فتوحات خالد بن الوليد بالعراق أنها اتسمت بـ :
ـ السرعة الفائقة ، فقد فتح كل بلاد الحيرة وجزءا كبيرا من سواد العراق ( الأراضي الزراعية ) في مدة قصيرة .
ـ وكان من طبيعته أنه لا يمهل العدو حتى يستعد له ، وإنما كان يعهد إلى أمرائه أن يبدءوا بدعوتهم فإن قبلوا قبلوا منهم ، وإن أبوا أن يؤجلهم يوما ، وقال : لا تمكنوا عدوكم من آذانكم ، فيتربصوا بكم الدوائر ، ولكن ناجزوهم ، ولا تردوا المسلمين عن قتال عدوهم(13). وذلك لأن رد المسلمين عن قتال عدوهم سيجرئ عدوهم عليهم هذا من جانب ، ومن جانب ثان ستدفع الغيرة على الدين وحرمات البلاد قلوب المسلمين إما إلى اليأس وإما إلى التهور واستخدام طاقتهم في غير محلها .
ـ أنها كانت تبدأ بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، ومحاولة تأليف قلوب الناس إليه عملا بأمر الصديق :تألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم (14).
وفي نفس الوقت إظهار القوة للخصم ، فقد كتب خالد إلى ملوك فارس قبل غزوهم يقول : سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فالحمد لله الذي فض خدمتكم ، وسلب ملككم ، ووهن كيدكم ، وإنه من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا ، أما بعد فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلي بالرهن ، واعتقدوا مني الذمة ، وإلا فو الذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة (15).
والمعروف أن إظهار القوة هو أفضل طريق لتحقيق النصر وبأقل خسارة ؛ لأنه يرهب العدو فلا يجعله يفكر في الاستعداد ، ويثير فيه اليأس ، وما تقوم به اليهود في ديار فلسطين الآن أظهر مثال للدلالة على ذلك ، فهم لا يفتئون يتظاهرون بقوتهم صباح مساء لتخور عزيمتنا .
ولما قرأ قادة الفرس كتاب خالد أخذوا يتعجبون من صدور هذا الكلام من العرب الذين عهدوهم أذلاء يقدمون الولاء والطاعة للفرس مقابل أن يرضوا عنهم .
وأعاد إليهم الكتاب مرة أخرى بعد فتح الحيرة ، وجعل نسخة منه إلى أمرائهم وملوكهم هذه المرة ، ونسخة أخرى تقرأ على عامة الناس ، وجاء فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس .. أما بعد فالحمد لله الذي حل نظامكم ، ووهن كيدكم ، وفرق كلمتكم ، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرا لكم ، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ، ونجوزكم إلى غيركم ، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون ، على غلب على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة (16)..
وكتب إلى الأمراء العرب الذين كانوا يحكمون الحيرة باسم الفرس ونيابة عنهم يقول : أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين ، لكم ما لهم ، وعليكم ما عليهم ، فإن أبيتم فالجزية ( وهذه كانوا يعطونها للفرس من قبل ) فإن أبيتم الجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة ، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم ، وكانت تلك الرسالة قد بعثها إليهم بعد هزيمة الفرس ورحيلهم ، فقال له أحدهم ويسمى " قبيصة بن إياس " : ما لنا بحربك من حاجة ، بل نقيم على ديننا ونعطيك الجزية فصالحهم على تسعين ألف درهم . (17)..
ـ البطش بالمتحدين له ليكونوا عبرة لغيرهم ، ففي وقعة أُليس وقف أمام الصف فنادى أمراء العرب الذين انحازوا على الفرس وقال : أين أبجر ؟ أين عبد الأسود ؟ أين مالك بن قيس ؟ فلم يخرج إليه أحد منهم إلا مالكا ، فبرز له متحديا ، فقال له خالد : يا ابن الخبيثة ما جرأك عليّ من بينهم وليس فيك وفاء ؟ ثم ضربه ضربة أطاحت به ، وبثت الرعب في قلوب الباقين .
وفي مقابل تلك الشدة مع المحاربين كان خالد يلين مع عوام الناس ؛ ولا عجب فقد جاء لتحريرهم من قبضة الطغاة ، وقد أوصاه أبو بكر قبل سيره بقوله : وأقر من لم ينهض من الفلاحين ، واجعل لهم الذمة ..
وهذه المعاملة الطيبة كانت سببا في إسراعهم إلى الدخول في الإسلام فيما بعد .
ـ أنها أظهرت للناس سماحة الإسلام وعدله ، وقد ظهر ذلك من كتب الصلح التي كانت تكتب للبلاد بعد فتحها ، من ذلك ما كتبه خالد لأهل ( بانقيا وباروسما وأليس) حيث جاء : فيه بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد لابن صلوبا السوادى ( الذي تولى إجراء الصلح معه ) ومنزله بشاطئ الفرات إنك آمن بأمان الله ، إذ حقن دمه بإعطاء الجزية ، وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتيك بانقيا وباروسما ألف درهم فقبلها منك ، ورضي من معي من المسلمين بها منك ، ولك ذمة الله وذمة محمد صلى الله عليه وسلم وذمة المسلمين . (18)..
وكتب إلى أهل الحيرة كتابا جاء فيه : هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابني عدي وعمرو بن عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيرى بن أكال ، وهم نقباء أهل الحيرة ، ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به ، عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم ، تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا ، رهبانهم وقسيسهم ، إلا من كان منهم على غير ذي يد حبيسا عن الدنيا تاركا لها ، وسائحا تاركا للدنيا ، وعلى المنعة ، فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم ، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة . (19).
وضمن لهم مقابل تلك الجزية توفير الحاجات الأساسية لهم ، وتشييد البنية التحية لبلادهم من إقامة للسدود والكباري ، وحفر للآبار ، وتصليح للطرق ، ومد شبكة مياه الري ، وإقامة المشافي ، ودور القضاء ، فضلا عن رواتب المعاشات التي خصصت لمن يتقدم به السن ، فقد جاء في كتاب آخر : " وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر،وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله". (20).
وقد دفع ذلك عمرو بن عبد المسيح أحد أمراء النصارى العرب بالحيرة إلى القول : والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن ، واقبل على أهل الحيرة فقال لهم : لم أر كاليوم أمرا أوضح إقبالا. (21)..
وقد حدث أن جمع أمراء الحيرة بعض الهدايا وقدموها لخالد وجنده ، فلم يلبث خالد أن بعث بها إلى الصديق ، فكتب إلى خالد يقوله له : أن احسب لهم هديتهم من الجزية (22)... وتلك آية الصفاء والنزاهة التي يجب أن تتعلمها البشرية من المجاهدين المسلمين ..
وصار خالد يكتب في كتب البراءات التي كانت تسلم لهم بعد تسديد ما عليهم من جزية : بسم الله الرحمن الرحيم ، براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها الأمير خالد بن الوليد ، وقد قبضت الذي صالحهم عليه خالد ، وخالد والمسلمون لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم وكففتم ، أمانكم أمان ،وصلحكم صلح ، نحن لكم على الوفاء (23).
ـ أن خالدا كان يحث المحاربين له على الإسلام حتى بعد الفراغ من الانتصار عليهم دون إكراه ، فقد خلا بأهل كل قصر من قصور الحيرة بعد فتحها من دون الآخرين وقال : ويحكم ما أنتم ؟ أعرب فما تنقمون من العرب ؟ أو عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل ؟ فقال له أحدهم : بل عرب عاربة وأخرى متعربة ، فقال : لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا ..
ولما رآهم مصرين على الجزية قال : تبا لكم ! ويحكم إن الكفر فلاة مضلة ، فأحمق العرب من سلكها ، فلقيه دليلان أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي ..
فلما أبوا تركهم حتى يكتب الله لهم الهداية ؛ لأن الإجبار على اعتناق الإسلام ليس من نهج الإسلام ، وشهد بذلك كل من اطلع على تاريخ المسلمين من المنصفين ، فهذا توماس آرنولد يقول : "لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبولالإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي " (24).
ـ أن خالدا لم ينس في زحمة المعارك وتكاثرها ، وفي ظل نشوات النصر التي تتكرر كل حين الالتزام بسنن النبي صلى الله عليه وسلم عند الفتح ، عندما أتم الله له فتح الحيرة صلى صلاة الفتح ، ثماني ركعات اقتداء بما فعله رسول الله عند دخول مكة .
ـ أن تلك الفتوحات كانت فاتحة خير على أهل البلاد المفتوحة ، وخاصة الفقراء منهم ، فقد رفعت عنهم القيود والأغلال التي كانت مفروضة عليهم ، وصاروا يتمتعون بخيرات أرضهم التي كانوا يعملون فيها لساداتهم الإقطاعيين دون مقابل ، ومن النوادر التي حصلت في ذلك أن نوعا من التمر كان يسمى " النرسيان " كان يزرع خصيصا لملوك الفرس لما حازه المسلمون جعلوا يأكلون منه ما يشاءون ، ويوزعون منه على الفلاحين العراقيين الذين ربما تعبوا في زراعته ثم حرم عليهم ، وكتبوا إلى عمر رضي الله عنه يقولون : إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها ، وأحببنا أن تروها ولتذكروا إنعام الله وأفضاله (25)..
وحتى من وقعوا في السبي من أطفالهم ، وفّر لهم الإسلام فرص التنشئة السوية والنبوغ في ظل من تملكوهم ، وأحسنوا تربيتهم ، وصار منهم ومن أبنائهم مشاهير العلماء كابن إسحاق ، والواقدي والحسن البصري وابن سيرين .
ـ كما أنه قد ظهر فيها سنن الله التي تحل بالأمم البعيدة عن نهج ربهم ، فها هم الفرس بعد أن امتد بهم الزمن في العصيان يصل بهم الأمر إلى الدرجة التي جعلتهم يضعون أمامهم الطعام فلا يُقدر لهم أكله حتى يعالجهم الموت والفناء ، كما حدث في وقعة أليس ، إذ نصب الفرس موائد الطعام وبسطوا البسط ، وتداعوا إليها وتوافوا إليها ، ثم التحم القتال قبل أن يشرعوا في تناول طعامهم لينتهي بهزيمتهم وتركه غنيمة للجوعى من المسلمين ، فقعدوا عليه لعشائهم بالليل .


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:34 AM [ 13 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


نظرات في عصر الخلفاء الراشدين 3

كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
07/05/1431 الموافق 20/04/2010

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين ، وبعد ..
فقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن تمكن المجاهدين المسلمين من القضاء على حركة المرتدة قضاء مبرما في خلال سنة واحدة ، وتمكنها بعد ذلك من فتح بلاد الحيرة والعراق في فترة قياسية تحت قيادة خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وأن فتوحاته اتسمت بـالسرعة الفائقة ، وأنها كانت تبدأ بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، ومحاولة تأليف قلوب الناس إليه ، وفي نفس الوقت إظهار القوة للخصم ، والبطش بالمتحدين له ، ليكونوا عبرة لغيرهم ، وفي مقابل تلك الشدة مع المحاربين كان خالد يلين مع أهالي البلاد والفلاحين ..
وأن تلك الفتوحات أظهرت للناس سماحة الإسلام وعدله ، كما أنها كانت فاتحة خير على أهل البلاد المفتوحة ، وخاصة الفقراء منهم ، فقد رفعت عنهم القيود والأغلال التي كانت مفروضة عليهم ، وصاروا يتمتعون بخيرات أرضهم التي كانوا يعملون فيها لساداتهم الإقطاعيين دون مقابل ..
وحتى من وقعوا في السبي من أطفالهم ، وفّر لهم الإسلام فرص التنشئة السوية والنبوغ في ظل من تملكوهم ، وأحسنوا تربيتهم ، وصار منهم ومن أبنائهم مشاهير العلماء كابن إسحاق ، والواقدي والحسن البصري وابن سيرين وغيرهم .
واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى نترك العراق الذي رفرفت على سواده راية الإسلام وعدله بفضل تلك الفتوح لنذهب إلى الشام ، حيث كان الصديق ـ رضي الله عنه ـ كان قد بعث عمرو بن العاص لفتح فلسطين ، وبعث أبا عبيدة بن الجراح لفتح حمص ، وبعث الوليد بن عقبة لفتح الأردن ، وبعث يزيد بن أبى سفيان لفتح دمشق ـ رضي الله عنهم جميعا ..
وكان عمرو بن العاص من قبل أميرا على منطقة عُمان بتأمير من النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما احتاجه الصديق لمواجهة المرتدين استدعاه ، ثم رده إلى عمان بعد فتنة الردة ، وقبل أن يصل إليها كتب إليه يقول : إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة ، وسماه لك أخرى ..؛ إنجازا لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وُليته ، ثم وُليته ، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه ؛ إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك ، فكتب إليه عمرو يقول : إني سهم من سهام الإسلام ، وأنت بعد الله الرامي بها ، والجامع لها ، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئا إن جاءك من ناحية من النواحي . (1).
ويوم أن يرى الحاكم أن كل واحد من رعيته سهما يرميه في أي جهة شاء لا بد أن يجابه كل قوى الطغيان أو الشرك ، وهو مطمئن أن سهامه لن تنفد .
وقد لاحظ الصديق أن تقدم الفتوحات الإسلامية بالشام متعثرا بالقياس إلى التقدم السريع الذي حدث بالعراق ، فأمر خالدا بأن يترك جزءا من جيشه بالعراق مع المثنى بن حارثة ، ويرحل هو إلى الشام لمساعدة القادة الذين بعثهم إليها ، وقال له : " أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا وأشجوا " فاستجاب خالد لأمره ، ورحل على الفور في جزء من جيشه إلى اليرموك بعد أن استخلف على جند العراق المثنى بن حارثة الشيباني ، فافتتح في طريقه مرج راهط، ثم سار فنزل على قناة بصرى ، وقدّم أبو عبيدة ففتح مدينة بصرى صلحا ، حيث كانت أول ما فتح من مدائن الشام، وفتح هو ( أي خالد ) مدينة تدمر .
ووصل خالد إلى نهر اليرموك حيث كان المسلمون في انتظاره فوجد أن الروم قد احتشدوا لهم في 240 ألفا ، منهم ثمانون ألف مقيد ، وأربعون ألفا مسلسلون للموت ، وأربعون ألفا مربطون بالعمائم ، وثمانون ألف فارس ، وثمانون ألف راجل ، أما المسلمون فكانوا سبعة وعشرين ألفا ، وقد قدم إليهم هو في تسعة آلاف ، فصاروا جميعا ستة وثلاثين ألفا ..
وكان القادة المسلمون من قبل يحارب كل واحد منهم في الجهة التي حددها له الصديق ، فلما اجتمع لهم الروم اجتمعوا هم وتصافوا لهم ، ولكن دون تنسيق بينهم ، فقال لهم خالد : إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم ، فإن هذا يوم له ما بعده ، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية على تساند وانتشار ، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي ، وإن من وراءكم ( يقصد الصديق الذي أرسل كل قائد على حده ) لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا ، فاعملوا فيما لم تؤمروا به للذي ترون أنه الرأي . ...
وقال لهم ذلك وهو يوقن أن الصديق لا يهمه في النهاية سوى المصلحة العامة ، ولا يشغله أن يتقيد القادة بأوامره تقييدا أعمى ..
ثم عرض عليهم خالد التصور الأمثل الذي يراه مناسبا لتحقيق النصر على هذا الجم الغفير من قوات الأعداء فقال : اجتمعوا فتكونوا عسكرا واحدا ، والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين ، فإنكم أعوان الله ، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره ، ولن يؤتى مثلكم من قلة ، وإنما يؤتى العشرة آلاف ، والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا فمن تلقاء الذنوب ، فاحترسوا من الذنوب ، واجتمعوا باليرموك متساندين ، وليصل كل رجل منكم بأصحابه(2) .
ولما تصاف الناس للقتال قال رجل لخالد : ما أكثر الروم وأقل المسلمين ، فقال خالد : ما أقل الروم وأكثر المسلمين ، إنما تكثر الجنود بالنصر ، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال ، والله لوددت أن الأشقر ( فرسه ) براء من توجيه ، وأنهم أضعفوا في العدد ، وكان فرسه قد حفي في مسيره من العراق ..
ولا عجب أن يرى خالد 240 ألف جندي أمامه لا شيء ، فإنه الرجل الذي رُبي في مدرسة النبي العسكرية ، وليس في المدارس العسكرية العلمانية التي تضع في حسبانها كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى ، ويرتجفون من عدوهم أكثر من ارتجافهم من الله وقدرته .
كما أن هذا الإحساس بالعظمة لم يكن شعور خالد وحده ، لأن المسلمين لم يكن عندهم فكرة القائد الأوحد الذي تحيا به الشعوب وتموت ، وإنما كان ذلك إحساس كل من شارك في القتال من 36 ألفا ، فهذا عكرمة بن أبي جهل يقف يومئذ ويقول : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن وأفر منكم اليوم ، ثم نادى من يبايع على الموت فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ..
وكان وراءهم الصديق الذي ذكرنا من قبل بعض مواقفه أيام حروب الردة ، كان من وراء هؤلاء يشجعهم ويحضهم ويحثهم على الإقدام حثا ، ويثني عليهم ، لكنه في نفس الوقت يحاسب كل واحد منهم على أدق الهفوات ؛ ليبقى الصف نقيا ، فلا يؤتى من ذنوبه ، فلم ينس ـ رضي الله عنه ـ وهو في غمرة الانتصارات أن يوجه إلى خالد اللوم لاجتهاد اجتهده فأخطأ فيه يوم أن ترك جيشه وذهب للحج سرا ، فقال له : وإياك أن تعود لمثل ما فعلت فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجيك ، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك ، فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ، فأتمم يتمم الله لك ، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل ، وإياك أن تدلُ بعمل فإن الله عز وجل له المن ، وهو ولي الجزاء .(3).
وبينما كان الصديق رضي الله عنه يترقب نتيجة تلك المعركة بين جند الله وجند الروم طرأه المرض فحّم 15 يوما ثم فاضت روحه إلى بارئها ، ورغم اشتداد المرض عليه إلا أن حرصه على مصلحة الإسلام والمسلمين لم يقِل خلال تلك الأيام التي حُم فيها ، فقد أرسل قبيل وفاته إلى عمر الفاروق رضي الله عنه فلما جاءه قال له : اسمع يا عمر ما أقول لك ، ثم اعمل به ، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا ( وذلك يوم الاثنين) فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى ( وكان قد جاءه يطلب منه المدد لمواصلة الفتوح في العراق بعد رحيل خالد بن الوليد ) وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى ، ولا يشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم ، وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعت ولم يصب الخلق بمثله ، وبالله لو أني أني عن أمر الله وأمر رسوله لخذلنا ولعاقبنا فاضطرمت المدينة نارا ، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق ، فإنهم أهله ، وولاة أمره وحده ، وأهل الضراوة بهم والجراءة عليهم .(4).
إن المسلم الآن قد يجد في وقته الضيق وهو يؤدي بعض الأعباء ، وربما انشغل بعمل عن باقي الأعمال ، أو انصرف بعمله عن شئون بيته ، ولكنا نرى أبا بكر رضي الله عنه الذي أدار تلك المعارك من المدينة ضد أعتى قوتين في عصره يظل في بداية خلافته ستة أشهر يجمع بين إدارة الدولة والمشي في الأسواق متاجرا ، ثم وجد بعد ذلك أن المسلمين في حاجة إلى كل وقته فقال : لا والله ما تصلح أمور الناس التجارة ، وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ، ولا بد لعيالي مما يصلحهم ، فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم ويحج ويعتمر ..
فقدر له القائمون على بيت المال في كل سنة ستة آلاف درهم ، فعاش بها حتى إذا حضرته الوفاة قال : ردوا ما عندنا من مال المسلمين ، فإني لا أصيب من هذا المال شيئا ، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم ، ورضي أن تكون الفترة التي قضاها في إدارة شئون المسلمين حسبة لله دون مقابل .


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:35 AM [ 14 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


نظرات في عصر الخلفاء الراشدين 4


كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*
30/05/1431 الموافق 13/05/2010


خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، وبعد ..
فقد مرض أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وأحس بدنو أجله، فاستشار كبار الصحابة في أمر الخلافة وقال لهم : " إني قد نزل بي ما ترون ، ولا أظنني إلا ميتا لما بي ، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم ، فأمَروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم عليكم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي (1) ..
وهكذا أثبت الخليفة الأول للمسلمين أن الأمة وحدها هي صاحبة الحق في اختيار من يتولى عليها ، ولو اتبعت البشرية تلك السنة الحسنة لوفرت على نفسها قرونا طويلة قضتها في الاستبداد قبل أن تقوم الثورة الفرنسية وينشر الغرب فكرة الديمقراطية وحرية الانتخاب ، ولو التزم المسلمون بهذا النهج الذي رسمه لهم الصديق ومن قبله النبي صلى الله عليه وسلم ما تعرضت أمتنا خلال تاريخها لانتكاسات كثيرة ، وإن كنا لسنا في موطن محاسبة التاريخ ومحاكمة السابقين وإنما نسعى لاستدراك ما فات ، ونجتهد لأن تعود أمتنا لتلك السنة الرشيدة ..
ونعود إلى الصحابة الذين وكل إليهم الصديق تبعة اختيار الخليفة بعده فنقول : إنهم "تشاوروا بينهم ثم جاءوه طالبين منه أن يرشح لهم واحدا من بينهم، فأجابهم بقوله : لعلكم تختلفون؟( أي على من يرشحه لهم ) فقالوا: لا. فقال: عليكم عهد الله على الرضا؟ قالوا: نعم. قال: فأمهلوني أنظر لله ولدينه ولعباده (2).
وقضى ـ رضي الله عنه ـ يومه في النظر في سيرة من حوله والمفاضلة بينهم ليهتدي إلى من هو أقدرهم على تولي المسئولية بعده ، ثم أرسل إلى عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهم من المهاجرين والأنصار ـ رضي الله عنهم ـ وأدخلهم عليه فرادى كي لا يستحي أحد منهم من إبداء رأيه بكل صراحة ، فكلهم أشار عليه بعمر ـ رضي الله عنه..
فكان مما قاله لعبد الرحمن بن عوف : أخبرني عن عمر ، فقال : يا خليفة رسول الله هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ، ولكن فيه غلظة ، فقال أبو بكر : ذلك لأنه يراني رقيقا ، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه ، ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه ، وإذا لنت له أراني الشدة عليه ، لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا ، قال : نعم .
ثم دعا عثمان بن عفان فقال : يا أبا عبد الله أخبرني عن عمر قال : أنت أخبر به ، فقال أبو بكر : علي ذاك يا أبا عبد الله ؟ قال : اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته ، وأن ليس فينا مثله ، فقال أبو بكر : رحمك الله يا أبا عبد الله ! لا تذكر مما ذكرت لك شيئا ، قال : أفعل .. . (3).
وبعد أن رأى إجماعهم على عمر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب له العهد باستخلافه عليهم ، فقال له : اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، ولم آلكم خيراً، ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله . (4).
وبعد ذلك أشرف على الناس من شرفة بيته وزوجته أسماء ابنة عميس تعينه على الوقوف وتسانده ، وهو يقول : أترضون بمن استخلف عليكم ؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ، ولا وليت ذا قرابة ، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقالوا : سمعنا وأطعنا..
وبعد فراغه من قراءة عهده دخل عليه طلحة بن عبيد الله ـ وكان لا يزال يرى في عمر الصلابة ، ويخشى أن يشتد على المسلمين فقال: استخلفت على الناس عمر ، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ؟ وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك! فقال أبو بكر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.
وهذا الموقف يحمد لأبي بكر وطلحة على السواء ، يحمد لأبي بكر لأنه عرف الحق فتمسك به ، ويحمد لطلحة لأنه عبر عن وجهة نظره ، ولم يكن إمعة ، ولم يجامل ولم ينافق الحاكم ، وتلك أسمى المنزلة في المعارضة ، ولكي لا تذهب العقول بعيدا نقول : إن طلحة صار من رجال الشورى في عهد عمر ، وجعله عمر قبيل وفاته من النفر الستة الذين رشحهم للخلافة ؛ مما يعني أنه لم يقصد باعتراضه على ترشيح عمر سوى الظن بأنه ربما اشتد على الناس في خلافته ، وأن عمر لم تؤثر في نفسه مقولة طلحة ..
وبعد فراغ الصديق من محاجاة طلحة أحضر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم أوصاه بتقوى الله فقال: يا عمر إن لله حقاً بالليل لا يقبله في النهار، وحقاً في النهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غداً إلا حق أن يكون ثقيلاً.
ألم تر يا عمر أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غداً إلا باطل أن يكون خفيفاً ، ألم تر يا عمر أنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة ، وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغباً راهباً، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبةً يلقي فيها بيديه.
أولم تر يا عمر أنما ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم ، فإذا ذكرتهم قلت : إني لأرجو أن لا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه يجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت : أين عملي من أعمالهم ؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت، ولست بمعجزه(5).
إن سنة الله ماضية ، وما من حاكم ـ مهما طال عمره ـ إلا وسيمر بتلك اللحظة التي مر بها الصديق ، ويقف مودعا الدنيا ليستقبل الآخرة ؛ حيث الحساب والجزاء على ما قدم ، فلماذا لا يؤخذ كل حاكم الدرس من الصديق ويوصي من يأتي بعده بمثل تلك الوصايا ، فتبرأ ذمته أمام الله ويسعد من يخلفه وتسعد به رعيته ؟
بلغ الصديق عمر تلك الوصية ثم قبض ـ رضي الله عنه ـ لثمان ليال بقين أو سبع بقين من جمادى الآخرة سنة 13 هـ ، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال ، فتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ..
وأقبل الناس يوم وفاته على عمر رضي الله عنه فبايعوه ، واستمرت بيعته ثلاثة أيام .. ثم صعد رضي الله عنه المنبر بعدها فلم يزد على أن قال : إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتبع قائده ، فلينظر قائده حيث يقود ، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق . (6).
وفي فجر اليوم التالي لخلافته ندب الناس للخروج مع المثنى إلى العراق ؛ لتكتمل فتوحات العراق ؛ واستجابة لأمر أبي بكر الصديق ، حيث أوصاه قبيل موته بتعجيل إرساله الناس معه ، وقال له : إني لأرجو أن أموت يومي هذا، فإذا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة عن أمر دينكم ووصية ربكم، فقد رأيتني متوفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما صنعت وما أصيب الخلق بمثله .. (7).
إن الملوك والرؤساء والحكام دأبوا الآن على إقامة الحداد على أسلافهم ونصب السرادقات لتلقي العزاء ، وربما عطلوا مصالح بلادهم أياما طويلة ، وهم يحسبون أنهم بصنيعهم هذا أوفياء لأوطانهم ، ولكن الوفاء الحقيقي كان في سلوك أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ حيث تجردا من ذاتهما ، ولم يضيعا لحظة واحدة في خدمة دينهما وبلادهما .
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يتكسب من العمل في التجارة مثل الصديق قبل توليه الخلافة ، فظل ردحا من الزمن يعمل فيها بعد مبايعته ، ثم جمع الناس بعد فتح القادسية ودمشق فقال : إني كنت امرأ تاجرا يغني الله عيالي بتجارتي ، وقد شغلتموني بأمركم ، فماذا ترون أنه يحل لي من هذا المال ؟ فأكثر القوم ( أهل الحل والعقد ) الحديث وعلي بن أبي طالب بينهم ساكت ، فقال له عمر من دونهم : ما تقول يا علي ؟ فقال : ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف ( أي لك أن تأخذ راتبا قدر ما يصلحك ) ليس لك من هذا المال غيره ، فقال القوم : القول قول ابن أبي طالب ..
هذه هي الحكومة التي كانت تقود المسلمين في السالف ، تجتمع لتقر وتحدد الراتب الذي يناسب الخليفة ، ويصدر القرار منهم فلا يعترض عليه ، ولعل القارئ لهذا الحوار يعرف السر الآن في حرص حكومات الدول المستبدة على تحجيم مقرر تاريخ الخلفاء الراشدين والإطناب في غيره من التواريخ ، حيث تحرص على إبعاد النشء عن مطالبتهم بالتأسي بتلك المواقف ..
ونعود إلى مجلس الحل والعقد مرة أخرى فنقول : إنهم لما أرادوا أن يزيدوا لعمر في عطائه بعد الفتوحات وكثرة الخيرات قال لهم : وإنما مثلي ومثل صاحبي( يقصد رسول الله وأبا بكر ) كثلاثة سلكوا طريقا ، فمضى الأول ، وقد تزود وزاد فبلغ ، ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه ، ثم اتبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما ، وكان معهما ، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما . (8).
إن الشباب المثقف في أمتنا الآن ، وخاصة من عايش الغرب وتعلم هنالك قد يرى القانون عندهم لا يجيز للحاكم أن يأخذ أكثر مما حدد له ، وقد يزداد اندهاشه وانبهاره عندما يرى من المسئولين في الغرب من قد خضع لنظام المساءلة ، وهو ـ بجهله للتاريخ ـ لا يدري أن ما يبهره في الغرب ما هو إلا غيض من فيض مما كان عليه حكام المسلمين الأوائل .
وكما حرص الصديق على أن يولي الأمر من هم أهله فقط فكذلك فعل عمر ، فقد ندب الناس للخروج إلى العراق مع المثنى ، فلما تأخروا في الخروج إليه وأسرع أبو عبيد بن مسعود ولاه قيادة الجيش ، فقيل له : أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار فقال : لا والله لا أفعل ، إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو ، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم من سبق إلى الدفع ، وأجاب إلى الدعاء ، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا ..
لقد سن عمر رضي الله عنه بفعله هذا نظرية الكفاءة وإسناد الأمر إلى من هو أهله ، تلك النظرية التي كانت سببا في التطور السريع الذي شهده العالم الإسلامي في كل المجالات وعلى رأسها الفتوحات الإسلامية ..
وقبل أن يودع أبا عبيد أوصاه قائلا : إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية ، تقدم على قوم قد جرؤا على الشر فعلموه ، وتناسوا الخير فجهلوه ، فانظر كيف تكون ، واخزن لسانك ، ولا تفشين سرك ، فإن صاحب السر ما ضبطه متحصن ، لا يؤتى من وجه يكرهه ، وإذا ضيعه كان بمضيعة . (9).
وهذا الكلام يدل على أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان ملما إلماما كاملا بأحوال عدوه ، وربما كان لديه ملفات كاملة في هذا الشأن ..
وبعد أن فرغ من أمر العراق عين أبا عبيدة بن الجراح خلفا لخالد بن الوليد على جند الشام ؛ لأنه أحس أن أكثر الجنود يريدون أن يحاربوا تحت لواء خالد فقط ؛ لما رءوا النصر حليفه في كل مكان حلّ به ..
ولقد أكثر الظانون بعمر ظن السوء القيل والقال حول سبب عزله لخالد ، ولكنه رضي الله عنه أكد على أنه ما عزله إلا للصالح العام فقال : إني لم أعزله عن ريبة ، ولكن الناس عظموه فخشيت أن يوكلوا إليه . (10).
إن عمر ما كان يعرف هوى النفس طريق إلى قلبه ، وما عين واليا قط لمكانة له في قلبه ، ولا عزل قائدا قط لأنه كان في نفسه منه شيء ، فلقد جرد نفسه لله حتى إنه لما دخل عليه الرجل الذي قتل أخاه قبل إسلامه قال له : لا أحبك أبدا وقد قتلت زيدا ، فيرد عليه الرجل بطبيعة الأعرابي الجاف : وهل بغضك إياي يمنعك حقا من حقوقي ؟ فقال عمر على الفور : لا ، فما كان من الرجل الأعرابي إلا أن قال له : إنما يبكي على الحب الناس ، وكأنه يقول له : لست في حاجة إلى حبك يا عمر ما دام ذاك لن يزيدني أو ينقصني .
وقبل أن يشيع عمر أبا عبيدة بن الجراح أوصاه قائلا : أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ، الذي هدانا من الضلالة ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد ، فقم بأمرهم الذي يحق عليك ، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم ، وتعلم كيف مأتاه ، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس ، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة ، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك ، فأغمض بصرك عن الدنيا ، وأله قبلك عنها ، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك ، فقد رأيت مصارعهم . (11).
وتتابعت فتوحات الشام في عهده ـ رضي الله عنه ـ حتى تم فتح كل أقاليمها على يد أبي عبيدة ومن معه من القادة ، وعقدت لهم المعاهدات ، وبنفس البنود التي كان يمنحها خالد لأهل العراق ، والتي أشرت إليها من قبل ، ومثال على ذلك ما شرطه شرحبيل بن حسنة لأهل طبرية ، إذ كتب لهم أنهم أمناء على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكنائسهم ومنازلهم إلا ما جلوا عنه وخلوه، واستثنى لمسجد المسلمين موضعا.
وما كتبه أبو عبيدة لأهل بعلبك الذين خرجوا إليه وهو في طريقه إلى حمص فطلبوا منه الأمان والصلح، فصالحهم على أنهم أمناء على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم: " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها ، على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم، داخل المدينة وخارجها، وعلى أرحائهم ( مطاحنهم )، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلا، ولا ينزلوا قرية عامرة ، فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاءوا ، ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج ، شهد الله، وكفى بالله شهيدا "(12)..
وتلك المعاهدات وما احتوته من بنود تحفظ لكل إنسان حقوقه وحريته كاملة كانت تجعل أهالي المدن الشامية الأخرى التي لم تفتح يرحبون بالفتح الإسلامي ، ويسعون للتخلص من نير الاحتلال الرومي ، فا هم أهل حمص بمجرد أن عرفوا بهروب هرقل خرجوا مرحبين بالمسلمين ، وأخرجوا إليهم العلف والطعام ، وطلبوا مصاحبتهم ، فصالحوهم وأمنوهم على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وأرحائهم، واستثنى عليهم أبو عبيدة ربع كنيسة يوحنا للمسجد، وكان قد هرب قوم من نصارى اللاذقية ، فلما علموا بسماحة المسلمين عادوا وطلبوا الأمان على أن يتراجعوا إلى أرضهم ، فأجابوهم على ذلك ، وتركت لهم كنيستهم.
ولما بلغ المسلمين أن هرقل قد جيش الجيوش وسعى لاسترداد حمص ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا: شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود. (13).
بل إن أصحاب الأديرة كانوا يسارعون بتقديم العون للفاتحين المسلمين ، فقد مر خالد بن الوليد على دير من الأديرة فأعطوه سلما صعد عليه لفتح أحد الحصون ، فكافأهم على ذلك ، وكتب لهم كتابا بتخفيف الخراج عليهم .
ووصلت أخبار تلك المعاملة إلى هرقل من خلال أحد الروم الذين وقعوا في الأسر ، فسأله وقال : أخبرني عن هؤلاء القوم فقال : أحدثك كأنك تنظر إليهم فرسان بالنهار ورهبان بالليل ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ولا يدخلون إلا بسلام ، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه ، فقال : لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين . (14)..
وقد صادف فتح القدس وجود عمر ـ رضي الله عنه ـ بالشام لتفقد جند المسلمين ، فذهب لتسلم مفاتيح المدينة بعد قدومه من الجابية من أرض دمشق، فمر في طريقه بقوم مجذمين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجرى عليهم القوت الذي يحتاجون إليه في معاشهم (15).
وكان ـ رضي الله عنه ـ يقابل بالترحيب من كل مدينة شامية يمر بها ، وخرج المقلسون ـ وهم قوم يلعبون بلعبة لهم بين أيدي الأمراءإذا قدموا عليهم ـ لاستقباله بالسيوف والريحان، فقال عمر رضي الله عنه: مه، ردوهم وامنعوهم،فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين هذه سنة العجم أو كلمة نحوها، وإنك إن تمنعهممنها سروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم، فقال: دعوهم، عمر وآل عمر في طاعة أبيعبيدة. (16)
وقد بلغه وهو هناك أن جبلة بن الأيهم ـ وكان ملكا على غسان من قبل ـ تشاتم هو ورجل من عامة الناس فلطم عينه، فاشتكى الرجل لعمر فأمره بالاقتصاص من جبيلة فقال: أو عينه مثل عيني ؟ يستنكف أن يسوى بينه وبين عوام الناس ! ولكن عمر رضي الله عنه الذي خرج لينشر العدل بين الرعية ما كان ليترك تنفيذه بين رجلين ، ولو كان أحدهما ملكا والآخر من العامة .
وقبل أن يغادر القدس كتب لأهلها كتابا جاء فيه : " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ، أنه لا تسكن كنائسهم ، ولا تهدم ، ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم ( أي عساكر الروم ) واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن ، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ، ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم ، .. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله ، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم ، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية (17).
وبعد الفراغ من فتح بيت المقدس وسائر بلاد فلسطين استأذن عمرو بن العاص عمر رضي الله عنهما في فتح مصر ، فأذن الله ، فسار إليها ، وبعد عدة معارك بين المسلمين والروم وقلة ممن شايعهم من المصريين ممن كانوا ينتفعون بوظائفهم تم تحرير مصر بأسرها من قبضة الروم ، وتوجه عمرو إلى الإسكندرية ، فدخل مع واليها في جولات خاطفة ، ثم كتب إليه أمير الإسكندرية يقول : إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم معشر العرب لفارس والروم ، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا فعلت ، فبعث إليه عمرو بن العاص إن ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه ، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي فإن هو قبل ذلك منك قبلت ، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره ، فقال : نعم .
ثم كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب كتابا يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية ، فرد عليه عمر : أما بعد فإنه جاءني كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصيب من سبايا أرضه ، ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم ثم كأنه لم يكن ، فأعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه ، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردهم ، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به ، فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين فقال : قد فعلت ..
وبتلك المناسبة أشير إلى حقيقة الجزية التي كان ينبغي أن نقف عندها عند أول إشارة لها في معاهدات المسلمين مع أمراء البلاد المفتوحة ، فقد كانت تلك الجزية التي تحصل من البلاد المفتوحة عبارة عن ضريبة من الضرائب التي تحصل في أي مجتمع من المجتمعات القديمة والحديثة ، لا يشذ فيها مجتمع ، وكانت تحصل من البلاد المفتوحة قبل فتحها ، تجبيها الحكومات القائمة ، والجديد في الأمر أن الإسلام هذبها ونظمها ، فبعد أن كانت متعددة صارت على ما يكسبه الأغنياء القادرون فقط ، وأعفي منها الفقير وأصحاب الحاجات الخاصة ورجال الدين ، ومن كانوا يقدمون خدمات للدولة كمساعدة الغزاة المسلمين أو إرشادهم عند الغزو ، كما أعفي منها النساء والصبيان غير البالغين والمرضى والمنقطعين للعبادة، وهذا ما لا تسمح به أي نظم غير إسلامية ، وكان يكتب في عقود الصلح أنها تؤدى على قدر الطاقة .
وإذا كانت الحكومات العلمانية التي هيمنت على العالم الإسلامي الآن تزعم ـ تقربا للنصارى ـ أنها ألغت ضريبة الجزية فإن كل ما فعلته هو إلغاء اللفظ فقط ، في حين أن الشعوب التي تخضع لها ـ الآن ـ مسلمها وغير مسلمها تدفع تلك الضريبة أضعافا مضاعفة ، تمتد لتشمل دخل الإنسان وما يبيعه وما يشتريه ، بل في بعض الدول يدفع أفرادها ضرائب على ما يستهلكونه من كهرباء ، ومياه الشرب ، ومكالمات الهاتف ، حتى الأطعمة تدفع عليها ضرائب مبيعات يتحملها الإنسان الفقير ، ولو كان يستجدي قوته عن طريق الصدقة ، وقد يكون الفرد المسلم يعيش على قدر من الزكاة ورغم ذلك لا يعفى من ضريبة المبيعات التي تسجل على فاتورة المياه في تلك البلاد .
وإذا كان المسلمون قد أعفوا من دفعها قديما فلأن المسلمين كانوا يدخلون الجندية ، ويبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل الله ، كما أنهم كانوا يدفعون حصة زكاة أموالهم التي كانت تحصلها الدولة ، وتعدها مصدرا من مصادر دخلها ، كما أن الدولة الإسلامية تجعل إعفاء المسلم من تلك الضريبة تشجيعا للناس على اعتناق الإسلام ومنحة تقدمها لهم ، وهذا لم يكن يؤثر في اقتصاد الدولة ، لأن هؤلاء الذين كانوا يسلمون كان كثير منهم يشتركون في الغزو ، ومن فتوحاتهم حصلت الدولة جزءا كبيرا من الدخل من خلال الخمس الذي كانت تأخذه ، وبالطبع فإن تلك الأخماس كانت تصرفها الدولة في مشاريعها المتعددة التي تفيد كل المواطنين على السواء على اختلاف دياناتهم ، مثل تشييد الأسواق ، وتوفير الأمن والحسبة لها ، وتصليح الطرق ، وتشييد السدود ، وتوصيل مياه الشرب ، وشق الترع والقنوات ، وبناء المعاهد العلمية والمستشفيات ، وشراء الأسلحة ، وتعيين رجال الأمن ، ودفع رواتب الموظفين ، وكان منهم المسلمون وغير المسلمين ، والمعاشات التي كانت تصرف للفقراء وكبار السن والعجز من كل رعايا الدولة دون النظر لديانتهم .
وبالنسبة لضريبة خراج الأراضي فكانت تحصل من المسلمين وغيرهم ، وتلك الضريبة التي تسمى الآن بضريبة العقارات ، هي أيضا موجودة في كل المجتمعات قديما وحديثا ؛ لكن المميز لها في الإسلام هي محدودتها والعدالة الكاملة في تحصيلها ، وأن جزءا كبيرا منها كان يصرف على المنشآت الزراعية التي تعود على الفلاحين بالنفع ، لدرجة أن ثلث خراج مصر كان يخصص لتطهير ترعها ، وأن الفلاحين كانوا إذا قاموا هم بإصلاحات أو شق ترع بأنفسهم كانت تحسب لهم تكاليفها من المقدار الذي يحصل منهم .
وبعد عود عمر ـ رضي الله عنه ـ من الشام في سنة 15هـ شرع في وضع نظام الرواتب والمعاشات للمسلمين ، ودون الدواوين التي سجل فيها أسماء الناس ووظائفهم وأعمارهم وأماكنهم ..
وقد قال له علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف : ابدأ بنفسك ( على اعتبار أنه رأس الدولة ) فقال : لا بل أبدأ بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب (18).
وشمل عطاءه حتى الصبيان ؛ إذ جعل لكل صبي أو طفل مائة درهم ، ثم جمع ستين مسكينا وأطعمهم الخبز ، فأحصوا ما أكلوا فوجدوه يخرج من جريبتين ، ففرض لكل إنسان ولعياله جريبتين في الشهر ، وقال قبل موته : لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف ، ألفا يجعلها الرجل في أهله ، وألفا يزودها معه ، وألفا يتجهز بها ، وألفا يترفق بها ، فمات قبل أن يتيسر له ذلك .
وكان عطاؤه للمجاهدين وأسرهم أولا ثم امتد ليشمل سائر من في رعيته ، فقد مرّ يوما ( وهو في إحدى سفرياته ) بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر فقال له : من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلي ماأرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخله بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ماأنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعنضربائه .


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:36 AM [ 15 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


نظرات في عصر الخلفاء الراشدين 5

كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*
13/07/1431 الموافق 24/06/2010

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد
فقد انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة مع التنظيمات الإدارية والمالية التي أجراها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ داخل الدولة الإسلامية ، واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى أكمل معكم الحديث حول تلك التنظيمات فأقول : إنه ـ رضي الله ـ بعث يعلى بن أمية إلى اليمن ، وأمره بإجلاء نصارى نجران لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل موته ( التي قال فيها : لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ) ولوصية أبى بكر ـ رضي الله عنه ـ له ، إذ قال : ائتهم ولا تفتنهم عن دينهم ( أي لا تجبرهم على تركه ) ثم أجلهم ، من أقام منهم على دينه ، وأقرر المسلم ، وامسح أرض كل من تُجلي منهم ، ثم خيرهم البلدان ، وأعلمهم أنا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك بجزيرة العرب دينان ، فليخرجوا من أقام على دينه منهم ، ثم نعطيهم أرضا كأرضهم ؛ إقرارا لهم بالحق على أنفسنا ، ووفاء بذمتهم فيما أمر الله من ذلك ؛ بدلا بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم بالريف.. وأبدلهم بأماكنهم أحياء خاصة بهم في الشام والعراق ، واشتر منهم أموالهم وعقاراتهم التي خلفوها ، وخيرهم من شاء نزل الشام ، ومن شاء نزل العراق ..
وقد كتب لهم ـ رضي الله عنه ـ : " أما بعد فمن وقعوا به من أهل الشام والعراق فليوسعهم من حرث الأرض، وما اعتملوا من شيء فهو لهم مكان أرضهم باليمن "(1) .
ثم سن عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد ذلك نظام التعبئة العامة عند الضرورة ، فقد بلغه أن يزدجرد لما حلت به الهزائم المتكررة قرر أن يحشد له كل من يستطيع من أهل فارس فقابل سعيه بالمثل ، وكتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل .. لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلي ، والعجل العجل .(2).
وبعض الحكومات التي تتسم بضيق نظر للأمور تلجأ في أوقات الحروب إلى ما يسمى بالأحكام العرفية والاستثنائية ، وتتخلى عن مبدأ الشورى بحجة مواجهة الواقع ، ولكن عمر ـ رضي الله عنه ـ تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أن أوقات الحروب هي أشد الأوقات حاجة للشورى ؛ نظرا لخطورة القرارات التي تُتُخذ بشأنها ، ولذلك نادى في الناس بعد أن حشدت له جموع المجاهدين وقال : الصلاة جامعة ، وهو النداء الذي كان يصدر عند كل طارئة ، فلما اجتمع الناس إليه قال : إن الله عز وجل قد جمع على الإسلام أهله ، فألف بين القلوب ، وجعلهم فيه إخوانا ، والمسلمون فيما بينهم كالجسد ، لا يخلو منه شيء من شيء أصاب غيره ، وكذلك يحق على المسلمين أن يكونوا أمرهم شورى بينهم ، بين ذوي الرأي منهم ، فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر ، ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس ، وكانوا فيه تبعا لهم ، ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولي رأيهم ، ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعا لهم .(3).
وكان من ضمن الأمور التي تشاور فيها موضوع قيادة تلك الحشود ، وهل يخرج عليها بنفسه أو ينوب عنها غيره ، فاستقر الرأي على أن يبقى هو ويختار لها قائدا ماهرا ، وكان من أشد المؤيدين لهذا الرأي طلحة بن عبيد الله الذي قال : بأبي وأمي اجعل عجزها بي وأقم ، وابعث جندا ، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد ، فإنه إن يهزم جيشك ليس كهزيمتك ، وإنك إن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت أن لا يُكبّر المسلمون ، وأن لا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدا ، فقال بعد هذا القرار : يا أيها الناس إني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج..
هكذا كان يقضي عمر ـ رضي الله عنه ـ في أخص شئون الدولة ، فلا استبداد ، ولا انفراد برأيه ، ولا إيثار لهواه .
وقد وقع الاختيار على سعد بن أبي وقاص للقيادة العامة لهذا الجيش فقال له عند توديعه : يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله ،فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن ، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته ، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء ، الله ربهم ، وهم عباده يتفاضلون بالعافية ، ويدركون ما عنده بالطاعة ، فانظر الأمر الذي رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه ، فإنه الأمر ، هذه عظتي إياك ، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك ، وكنت من الخاسرين .(4).
ثم ذكره بدستور الحرب عند المسلمين الذي نأمل أن يأتي اليوم الذي ترقى إليه البشرية بتشريعاته المعاصرة فقال له : فإن لاعب أحد منكم أحدا من العجم بأمان أو قرفه بإشارة أو بلسان كان ، لا يدري الأعجمي ما كلمه به ، وكان عندهم أمانا ، فأجروا ذلك له مجرى الأمان ، وإياكم والضحك ، والوفاء الوفاء ، فإن الخطأ في الوفاء بقية ، وإن الخطأ بالغدر الهلكة ، وفيها وهنكم ، وقوة عدوكم ، وذهاب ريحكم ، وإقبال ريحهم ، واعلموا أني أحذركم أن تكونوا شينا على المسلمين وسببا لتوهينهم .(5) .
وقد التزم سعد ـ رضي الله عنه ـ وسائر الأمراء بمضمون تلك النصيحة ؛ حتى إنه يوم فتح نهاوند حاصرها المسلمون مدة ثم لم يفاجأ المسلمون إلا وأبوابها تفتح ، ثم خرج السرح ، وخرجت الأسواق ، وانبث أهلها ، فأرسل المسلمون أن ما لكم ؟ فقالوا : رميتم إلينا بالأمان فقبلناه ، وأقررنا لكم الجِزاء على أن تمنعونا ، فقالوا : ما فعلنا ، فقالوا : ما كذبنا ، فسأل المسلمون فيما بينهم فإذا عبد يدعى مكنفا ، كان أصله من تلك المدينة هو الذي كتب لهم ، فقالوا : إنما هو عبد ، فقالوا : إنا لا نعرف حركم من عبدكم ، قد جاء أمان فنحن عليه ، قد قبلناه ، ولم نبدل ، فإن شئتم فاغدروا ، فأمسكوا عنهم ، وكتبوا بذلك إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فكتب إليهم : إن الله عظم الوفاء فلا تكونون أوفياء حتى تفوا ما دمتم من شك ، أجيزوهم ووفوا لهم ، فوفوا لهم ، وانصرفوا عنهم .(6).
والناس كما يقال على دين ملوكهم ، فقد وجد أحد الجنود بعد فتح سعد ـ رضي الله عنه ـ المدائن عاصمة فارس ، وأثناء جمع الأقباض بحُق ( كوز أو علبة ) معه فدفعه إلى صاحب الأقباض ، فقال الذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه ، فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأنا ، فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ، ولكني أحمد الله ، وأرضى بثوابه.(7) .
وإذا كان أهل الدنيا يحرصون عند انتصاراتهم على الاستيلاء على قصور الملوك واستحواذها فإن سعدا لما فتح المدائن رفض أن يجعل إيوان كسرى الذي فر منه يزدجرد وحاشيته قصرا له أو مقرا لحكمه ، وإنما حوله إلى مسجد جامع ، ونصب فيه منبرا ، فكان يصلي فيه أولا ، وفيه التماثيل دون أن يزيلها، ويُجمّع فيه ( أي يقيم فيه الجمع ).(8).
ثم كتب إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ يبشره بنعمة الفتح ، ويصف له حال البلاد ، وحال الناس في البلاد المفتوحة ، فأرسل إليه يقول : أقر الفلاحين على حالهم إلا من حارب أو هرب منك إلى عدوك فأدركته ( أي وقع في الأسر وقت القتال ) وأجر لهم ما أجريت للفلاحين قبلهم .(9) .
إن الحروب عند الأمم الأخرى وعلى مر التاريخ لا يصلى بنيرانها غير عوام الناس ومن بينهم الفلاحين ، ولكن الحرب في الإسلام من نوع آخر ، إذ كان ينعم بها هؤلاء بفضل الأغلال التي كانت ترفع عنهم ، والحرية والمزايا التي تمنح لهم ..
وكان في ثنايا رسالة عمر ـ رضي الله عنه ـ استفسار خاص عن نصارى بني تغلب الذين نزلوا العراق ، وسؤال عن حال معيشتهم ، وأوصاه بهم خيرا ، فقال له : من أسلم منهم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، ومن أبى فعليه الجزاء ، وإنما الإجبار من العرب على الإسلام لمن كان في جزيرة العرب ..
وبعد الفراغ من فتح العراق واستقرار الجند المسلمين بها علم عمر ـ رضي الله عنه ـ أن أجسامهم بدأت تضعف لعدم تلاؤم جوها معهم ، فأرسل من يبحث لهم عن الأماكن الصحية المناسبة لإقامتهم ، وأرسل إلى سعد ـ رضي الله عنه يقول : إنه لا تصلح العرب إلا حيث يصلح البعير والشاة في منابت العشب ، فانظر فلاة في جنب البحر فارتد للمسلمين بها منزلا ، فظلوا يبحثون حتى وجدوا أن أصلح مكانين هما الكوفة والبصرة فأسسا بهما المدينتين ..
وقد خطت هاتان المدينتان أولا وسكن الجند فيهما في خيام ، وهاجر إليهم أهلهم ، ثم استأذنوا في بنيان القصب ، فقال عمر : العسكر ( أي الخيام ) أِشد لحربكم وأذكى لكم ، وما أحب أن أخالفكم ، فابتنى أهل المصرين بالقصب، ثم إن الحريق وقع في الكوفة والبصرة، وكانت الكوفة أشد حريقاً ، فبعث سعد نفراً منهم إلى عمر يستأذنونه في البنيان باللبن، فقدموا عليه بخبر الحريق واستئذانه أيضاً، فقال: افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة ، فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك (10) .
ثم أمرهم أن يجعلوا الشوارع الرئيسية عرضها أربعون ذراعا ، وما يليها ثلاثون ذراعا ، وما بين ذلك عشرون ، والأزقة سبعة أذرع ليس دون ذلك شيء ، والفواصل بين القطائع ستون ذراعا ..
وبتلك الطريقة التنظيمية خطت سائر المدن الإسلامية ، فلم تعان من أزمة في الازدحام أو ضيق في الشوارع والطرقات ، فضلا عن توفر جانب التهوية الذي هو عنصر أساسي في اجتناب الأمراض .
وكان أول شيء بُني بالكوفة هو المسجد الجامع ، فاختطوه ثم قام رجل رام شديد النزع في وسطه ، فرمى عن يمينه ، فأمر من شاء أن يبني وراء موقع ذلك السهم ، ورمى به بين يديه ، ومن خلفه ، وأمر من شاء أن يبني وراء موقع السهمين ، فترك المسجد في مربعة خلوة من كل جوانبه ، وبُنى ظلة في مقدمه ، ليست لها مجنبات ولا مواخير ، وبنيت المربعة لاجتماع الناس لئلا يزدحموا ، وكذلك كانت المساجد ما خلا المسجد الحرام ، فكانوا لا يشبهون به المساجد تعظيما لحرمته ، وكانت ظلته مائتي ذراع على أساطين رخام ..
وعملوا على صحن المسجد بخندق لئلا يقتحمه أحد ببنيان ، ثم بنوا لسعد دارا بحياله ( دار الإمارة ) بينهما طريق منقب مائتا ذراع ، وجعل فيها بيوت الأموال..
ثم أنشئت السوق في الفراغ الدائر حول المسجد ، وصارت الشوارع تتقاطع معه ، وأخذت المدينة بذلك شكل الدائرة حوله .
ثم وضع عمر ـ رضي الله عنه ـ نظاما إداريا فريدا في نوعه ، لا يعطي فرصة لأمير بالانحراف في عمله ، فجعل أميرا للحكم أو الإدارة ، وأسند إليه إمامة المسلمين في الصلاة ، وجعل رجلا مستقلا على بيت المال لا يخضع لسلطان الأمير ، وإنما لسلطة الخلافة في المدينة ، وجعل قاضيا للفصل بين الناس ..
وكان كل حين يكتب إلى عماله ويقول : إني لم أستعملكم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أشعارهم ولا على أبشارهم ، إنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة ، وتقضوا بينهم بالحق ، وتقسموا بينهم بالعدل ، وإني لم أسلطكم على أبشارهم ، ولا على أشعارهم ، ولا تجلدوا العرب فتذلوها ، ولا تجمروها فتفتنوها ، ولا تغلفوا عنها فتحرموها ، جردوا القرآن ( أي لا تزاحموا معه العلوم الأخرى ) وأقلوا الرواية عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنا شريككم ..
وكان يقتص من عماله ، وإذا شكي إليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه ، فإن صح عليه أمر يجب أخذه به أخذه به..
فقد كتب أبو موسى إليه إن رجلا من عنزة يقال له : ضبة بن محصن كان من أمره .. وقص قصته ، فلما قدم الكتاب والوفد والفتح على عمر قدم العنزي ، فأتى عمر فسلم عليه فقال : من أنت ؟ فأخبره ، فقال : لا مرحبا ولا أهلا ، فقال الرجل : أما المرحب فمن الله ، وأما الأهل فلا أهل .(11) .
ومن يقرأ هذا الرد الجافي القاسي من الرجل على عمر ـ رضي الله عنه ـ ويرى حلمه عليه يدرك لماذا يحرص كثير من الحكام الآن على تنحية التاريخ الإسلامي ، وخاصة عصر الخلفاء الراشدين ، من الدراسة بالمدارس والجامعات ، واستبداله بتواريخ قديمة أو حديثة لا تحوي عظة ، ولا تقدم تذكرة من أجل أن ينشأ الشباب على التقديس لهم .
وظل هذا الرجل ثلاثة أيام يتردد على عمر ـ رضي الله عنه ـ فلا يسمع منه غير العبارة ، ولا يلقى منه سوى هذا الرد ، حتى إذا كان في اليوم الرابع دخل عليه فقال : ماذا نقمت على أميرك ؟ قال : تنقى ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه ، وله جارية تدعى عقيلة لها قصعة غادية رائحة يأكل منها أشراف الجند ، وليس منا رجل يقدر على ذلك ، وله قفيزان ، وله خاتمان ، وفوض إلى زياد بن أبيه وأجاز الحطيئة بألف ، فكتب عمر كل ما قال ، ثم بعث إلى أبي موسى ـ رضي عنه ـ يستدعيه ـ فلما قدم حجبه أياما ، ثم دعا به ودعا ضبة بن حصن ، ودفع إليه الكتاب فقال : اقرأ ما كتبت ، فقرأ أخذ ستين غلاما لنفسه ، فقال أبو موسى : دللت عليهم ، وكان لهم فداء ففديتهم فأخذته فقسمته بين المسلمين ، فقال ضبة : والله ما كذب ولا كذبت ، وقال : له قفيزان ، فقال أبو موسى : قفيز لأهلي أقوتهم ، وقفيز للمسلمين في أيديهم ، يأخذون به أرزاقهم ، فقال ضبة : والله ما كذب ولا كذبت ، فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ، ولم يعتذر ، وعلم أن ضبة قد صدقه ، قال : وزياد يلي أمور الناس ، ولا يعرف هذا ما يلي ، فقال : وجدت له نبلا ورأيا فأسندت إليه عملي ، قال : وأجاز الحطيئة بألف ، قال : سددت فمه بمالي أن يشتمني ، فقال : قد فعلت ما فعلت .(12) .
فرده عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال : إذا قدمت فأرسل إلي زيادا وعقيلة ففعل ، فقدمت عقيلة قبل زياد ، وقدم زياد فقام بالباب ، فخرج عمر وزياد بالباب قائم وعليه ثياب بيض كتان ، فقال له : ما هذه الثياب ؟ فأخبره ، فقال : كم أثمانها فأخبره بشيء يسير وصدقه ، فقال له : كم عطاؤك ؟ قال : ألفان ، قال : ما صنعت في أول عطاء خرج لك ؟ قال : اشتريت والدتي فأعتقتها ، واشتريت في الثاني ربيبي عبيدا فأعتقته ، فقال : وفقت ، وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن فوجده فقيها ، فرده وأمر أمراء البصرة أن يأخذوا برأيه .(13) . وأبقى عقيلة بالمدينة ، ولم يردها ..
ثم أعلن ـ رضي الله عنه نتيجة هذا التحقيق الذي أجراه على الملأ فقال : ألا إن ضبة غضب على أبي موسى وفارقه مراغماً أن فاته أمر من أمور الدنيا فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب فإنه يهدي إلى النار (14) .
وهذه الرقابة المشددة من عمر ـ رضي الله عنه ـ مع الوازع الديني الذي كان مستقرا في قلوب المسلمين جعل كل أمير من أمرائه لا يشعر أن ثمة أدنى فرق بينه وبين سائر الرعية ؛ حتى إن أبا عبيد بن مسعود الثقفي أهدى إليه بعض أهالي البلاد المفتوحة آنية فيها أطعمة فارسية فخمة ، وقالوا له : هذه كرامة أكرمناك بها وقرى لك ، فقال لهم : أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله ، فقالوا : لم يتيسر ونحن فاعلون .. فقال أبو عبيد : فلا حاجة لنا فيما لا يسع الجند ثم رده إليهم .(15) .
وقد تكرر هذا الموقف معه عندما دخل قرية من قرى "باروسما " إذ صنع أهلها له طعاما ، ثم أُتي به إليه ، فلما رآه قال : ما أنا بالذي آكل هذا دون المسلمين ، فقالوا له : كُل ! فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منزله بمثل هذا أو أفضل فأكل، فلما رجعوا إليه سألهم عن طعامهم فأخبروه بما جاءهم من الطعام .(16).
وللقارئ أن يتخيل كم كان البون شاسعا بين هؤلاء الأمراء الجدد في العراق الذين جاء بهم الإسلام ، الذين يأبى الواحد منهم أن يتفضل على غيره بلقمة طعام تهدى إليه وبين الأمراء الجدد الذين جاء بهم الاحتلال الأمريكي إلى العراق ، هذا الاحتلال الذي يدعي أصحابه والمعجبون السمو والرقي ، حيث تتناقل وسائل الإعلام كل يوم الحديث عن السلب والنهب والاختلاس الذي يتم على أيديهم..
ولم تكن تلك المساواة التي أوجدها عمر ـ رضي الله عنه ـ بين الجندي والقائد أو بين الأمير توقفت عند هذا الحد ، وإنما تخطت ذلك إلى الأمور العامة التي يجتهد كل فرد في تقريرها ، فقد أُسر رجل من المسلمين يسمى مطر بن فضة "جابان " أحد ملوك الفرس الذي جيش الجيوش لحرب أبي عبيد ، وهو لا يعرفه ، فوجده شيخا كبيرا فزهد فيه ورغب ، وشجعه على ذلك أن " جابان " خدعه وقال له : إنكم معاشر العرب أهل وفاء فهل لك أن تؤمني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وكذا وكذا ، فقال : نعم ، فقال له : فأدخلني على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه ففعل ، فلما أدخله على أبى عبيد عرفه من حوله وقالوا : هذا الملك " جابان " وهو الذي لقينا بهذا الجمع ، فقال أبو عبيد : ما تروني فاعلا معاشر ربيعة ؟!! أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا ؟ معاذ الله من ذلك ؟! (17) ..
وفوق ذلك كانت شفقة عمر ـ رضي الله عنه ـ التي شملت الناس جميعا ، والحرص الكامل على سلامتهم ، فقد أصيب أبو عبيد الثقفي في موقعة الجسر ، وبلغ عمر أن بعض المسلمين الذين فروا استحيوا من دخول المدينة فقال : اللهم كل مسلم في حل مني ، أنا فئة كل مسلم من لقي العدو ففظع بشيء من أمره ، فأنا له فئة ، يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إلي لكنت له فئة .(18).
وأثناء وقعة القادسية كان كل يوم يخرج إلى الصحراء يتشوق إلى خبر يطمئنه على جنوده ، من حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله ومنزله ، فلما لقي البشير ذات يوم ـ وهو لا يعرفه ـ سأله : من أين أتى ؟ فأخبره فقال : يا عبد الله حدثني ، فقال الرجل : هزم الله العدو ، وصار يكلمه وهو يسير مسرعا على ناقته لا يلتفت له ، ولا يقف حتى ينتظره ، وعمر يسرع في السير خلفه حتى دخل المدينة ، فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين ، وعندها خجل الرجل البشير من صنعه معه، وقال : فهلا أخبرتني ـ رحمك الله ـ إنك أمير المؤمنين ، فقال عمر : لا عليك يا أخي .(19).
ولما وقع طاعون عمواس بالشام أخذت عمر الشفقة على أبي عبيدة بن الجراح أن يصاب فيه ، فكتب إليه أن سلام عليك : أما بعد فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها ، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي ، ولكن أبا عبيدة عرف أنه إنما أراد باستدعائه إليه أن يستخرجه من الوباء ، فقال : يغفر الله لأمير المؤمنين ، ثم كتب إليه يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي ، وإني في جند من المسلمين لا أجد في نفسي رغبة عنهم ، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه ، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين ، ودعني في جندي ، فلما قرأ عمر الكتاب بكى فقال الناس : يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة قال : لا وكأن قد كان ..
ثم كتب إليه : سلام عليك ، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضا غمقة ( منخفضة موبوءة ) فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة ، فلما أتاه كتابه دعا أبا موسى الأشعري فقال : يا أبا موسى إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى ، فاخرج فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم.(20)..
وأنا أقرأ تلك الروايات وأقارن بين ذلك التقدير الذي كان يحمله القائد المسلم أو الخليفة لجنوده في قلبه وبين حال الجنود في بعض البلدان الإسلامية التي لاقت الهزائم المتكررة ، حيث يتأفف الضباط إن ينادوا الجندي باسمه ، وإنما : تعال يا ولد ! اذهب يا ولد ! اجر يا ولد ! فأقول : حق للمسلمين الأوائل أن يكونوا النصر حليفهم في جل المعارك التي خاضوها ، وأما نحن فلم يظلمنا القدر فيما حل بنا


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:37 AM [ 16 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


نظرات في عصر الخلفاء الراشدين 6

كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*
14/11/1431 الموافق 21/10/2010

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد
فقد انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة مع التنظيمات الإدارية والمالية التي وضعها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وحرصه التام على أن يسود العدل والمساواة بين كافة رعيته ، مع شفقة قل نظيرها في التاريخ ـ اللهم في سيرة الأنبياء ، ونكمل الحديث حول سياسته في إدارة البلاد فنقول : إنه كان في اصطفائه لعماله بعيدا عن الهوى ومزاج النفس، حتى إنه عين على قضاء البصرة أبا مريم الحنفي الذي قتل أخاه زيد بن الخطاب في موقعة اليمامة قبل إسلامه ، رغم أنه كان شديد التأثر لمقتل أخيه وبكاه زمنا طويلا .
وكان يأمر القضاة بعدم تتبع سقطات الناس وهفواتهم ، فقد عين شرحبيل بن السمط الكندي على المدائن فنادى في الناس : " أيها الناس، إنكم في أرضٍ الشرابُ فيها فاشٍ ، والنساء فيها كثير، فمن أصاب منكم حداً فليأتنا فلنُقم عليه الحد، فإنه طهوره، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه: لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الله الذي سترهم (1).
فكان ـ رضي الله عنه ـ يعلم أن النفس البشرية بحكم ما جلبت عليه معرضة للزلل في أي لحظة ، وفي مثل تلك الحالات ينبغي التستر على الناس،وترك أمرهم إلى الله ما دام ضررهم لم يتعداهم إلى إفساد المجتمع..
وجعل ـ رضي الله عنه ـ من نفسه نموذجا للمثول أمام القضاء حتى لا يستنكف أحد من ذلك ، فقد تخاصم ـ رضي الله عنه ـ مع الصحابي الجليل أبي بن كعب في ملكية بستان، فحكما زيد بن ثابت ، فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم..(2).
فتنحى له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أمير المؤمنين، فقال عمر: جرت يا زيدُ في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي، فجلسا بين يديه، فادعى أبي ، وأنكر عمر، فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره، فحلف عمر، ثم حلف مرة أخرى على ألا يُدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء .
ومع إن الدولة الإسلامية كانت تعد دولة ناشئة في عصره بالقياس إلى عمر الدول إلا أنها امتلكت المهارة في كل شيء ، حتى في اختيار السفراء ، حيث كان يختار الواحد منهم على هيئة وهيبة وفصاحة تثير إعجاب من أمامه ، رغم أنهم لم يكن لهم حظ من التعليم ، فهذا زهرة بن عبد الله بن قتادة يقدم سفيرا من سعد بن أبي وقاص إلى رستم قائد الفرس، فلما رآه رستم قال له : أنتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا ، فكنا نحسن جوارهم ، ونكف الأذى عنهم ، ونوليهم المرافق الكثيرة ، ونحفظهم في أهل باديتهم ، فنرعيهم مراعينا ، ونميرهم من بلادنا ، ولا نمنعهم من التجارة في شيء من أرضنا ، وقد كان لهم في ذلك معاش .
فقال له زهرة : صدقت قد كان ما تذكر ، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا طلبتهم ( يقصد الأعراب الذين ذكرهم رستم ) إنا لم نأتكم لطلب الدنيا ، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة ، كنا كما ذكرت يدين لكم من ورد عليكم منا ، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم ، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولا ، فدعانا إلى ربه فأجبناه ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني ، فأنا منتقم بهم منهم ، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به ، وهو دين الحق ، لا يرغب عنه أحد إلا ذل ، ولا يعتصم به أحد إلا عز ، فقال له رستم : وما هو ؟ قال : أما عموده الذي لا يصلح منها شيء إلا به فشهادة أن لا اله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى ، قال : ما أحسن هذا ، وأي شيء أيضا قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ، قال : حسن ، وأي شيء أيضا قال : والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم ، قال : ما أحسن هذا .(3).
ومنظمات حقوق الإنسان لا ترقى تعاليمها ـ إن صحت نوايا القائمين عليها ـ إلى مثل تلك التعاليم ، ورغم ذلك لا نكاد نسمع صوتا من سفرائنا فيها وفي العالم ينبه القائمين على تلك المنظمات على أن ما ينادون به ما هو إلا جزء من رسالتنا .
ونعود إلى رستم فنقول : إن رد على زهرة عند سماعه لرسالته بقوله : أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه ومعي قومي كيف يكون أمركم ؟ أترجعون ؟ قال : إي والله ثم لا نقرب بلادكم أبدا إلا في تجارة أو حاجة ، قال : صدقتني ، والله أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة ، كانوا يقولون : إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم ..
فقال له زهرة : نحن خير الناس للناس ، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون ، نطيع الله في السفلة ، ولا يضرنا من عصى الله فينا.(4).
وكانوا يحرصون على أن ألا يتنازلوا عن شيء من تلك الهيبة ، فهذا ربعي بن عامر يدخل على رستم بسلاحه فقالوا : ضع سلاحك فقال : إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم ، أنتم دعوتموني ، فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت.
كما أن حديثهم كان متفقا ، فقد تأملت في الرسائل التي كان يوصلها السفراء إلى ملوك فارس وقادتها فوجدت أن مضمونها ، بل ولفظها يكاد يكون واحدا .
كان الفرس والروم وقتها يعظمون المظاهر الكاذبة التي يحسب الناس أنها رمز العظمة ، ولكنها في النهاية لم تجلب لهم إلا الخسران ..
فقد اجتمع رستم برؤساء أهل فارس فقال : ما ترون ؟ هل رأيتم كلاما قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل ؟ فقالوا : معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا ، وتدع دينك لهذا الكلب !! أما ترى إلى ثيابه ؟ فقال : ويحكم ! لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ، إن العرب تستخف باللباس والمأكل ، ويصونون الأحساب ، ليسوا مثلكم في اللباس ، ولا يرون فيه ما ترون ..(5)..
واليوم بعد أن تبدل حال العرب ،وصارت نظرتهم للأمور والاهتمام بالمظهر تشابه ما كان عليه الفرس قبل الإسلام ، وغدونا لا نكاد نرى لكثير من السفراء في العالم الإسلامي هيبة أو أثر ملموس في القضايا التي تشغل العالم .
ونعود إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ وسياسته فنقول : إنه لم يسمح لأحد بالإسراف في المباحات إن ترتب على ذلك ضرر بمصلحة المجتمع العامة ، فقد بعث إلى حذيفة بعد ما ولاه المدائن وكثر المسلمات يقول : إنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها ،فكتب إليه لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام ؟ وما أردت بذلك ؟ فكتب إليه لا بل حلال ، ولكن في نساء الأعاجم خلابة ، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم ، فقال : الآن فطلقها .
وقد صدق حدس عمر ـ رضي الله عنه ـ فا هي العنوسة تفتك ببنات الجزيرة العربية المتوسطات الجمال بعد أن أقبل الشباب والرجال على النساء الأخريات في بلاد الشام ومصر والمغرب العربي وغيرها طمعا في جمال بشرتهن ، ولا زاجر لهم ..
وكانت سياسة عمر ـ رضي الله عنه ـ ألا يحاسب مخطئا إلا إذا علم سبب خطئه ، وسبق بذلك النظم الحديثة التي تأخذ في الحسبان تأثير الدوافع الخارجية على الإنسان لارتكاب الخطأ .
ولا يعاقب أحدا من الرعية إلا بعد أن يعذر إليهم ، فقد انتفض بعض أهالي مدن فارس بعد فتحها فكان أول ما فكر فيه ـ رضي الله عنه ـ هو معرفة أسباب انتفاضة هؤلاء، ولم يسرع إلى معاقبتهم ، وقال لأمرائه : ويحكم لعلكم أثقلتم عليهم فقالوا : لا ، وإنما سبب انتفاضتهم هو تحريض يزدجرد الذي كان يطمع في استرداد البلاد التي سلبت منه ..
وننوه هنا ونحن في صدد الحديث عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه في الوقت الذي كانت الحرب قائمة بينه وبين الروم كانت المعاملات التي تتطلبها مصالح العباد والبلاد قائمة ، وكانت السفارات بين الدولتين دائبة ، وقد حدث أن بعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إلى ملكة الروم بطيب ومشارب وأحفاش من أحفاش النساء ،ودسته إلى البريد فأبلغه لها ، وجاءت امرأة هرقل وجمعت نساءها وقالت : هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم وكاتبتها وكافأتها وأهدت لها .(6).
وحدث أن أجدبت المدينة وما حولها في العام الذي يسمى بعام الرمادة ، فانشغل عمر بهَمِّ الناس ،وتأخر في صلاة الاستسقاء ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل في المنام وقال له : قل له : إن عهدي بك وأنت وفيّ العهد ، شديد العقد ، فالكيس الكيس يا عمر ، فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه : استأذن لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عمر فأخبره ففزع وقال للغلام : رأيت به مسا ؟ قال : لا ، قال : فأدخله ، فدخل فأخبره الخبر ، فخرج فنادى في الناس وصعد المنبر وقال : أنشدكم بالذي هداكم للإسلام هل رأيتم مني شيئا تكرهونه ؟ قالوا : اللهم لا ، قالوا : ولم ذاك ؟ فأخبرهم ففطنوا ولم يفطن ، فقالوا : إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا ، فنادى في الناس فقام فخطب فأوجز ثم صلى ركعتين فأوجز ، ثم قال : اللهم عجزت عنا أنصارنا ،وعجز عنا حولنا وقوتنا ، وعجزت عنا أنفسنا ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، اللهم فاسقنا ، وأحي العباد والبلاد .(7).
وصلاة الاستسقاء التي هي سنة تجلب للناس الرخاء والنماء لا يكاد يحرص على أدائها إلا قلة قليلة من المسلمين ، وثمة دول إسلامية لا تكاد تسمع سكانها بها ..
ثم كتب ـ رضي الله عنه ـ بعد صلاته إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها ويستمدهم ،فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح في أربعة آلاف راحلة من طعام ،فولاه قسمتها فيمن حول المدينة ، فلما فرغ ورجع إليه أمر له بأربعة آلاف درهم فقال : لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين ، إنما أردت الله وما قبله ، فلا تدخل علي الدنيا ، وانصرف إلى عمله ، وتتابع الناس ، حتى استغنى أهل الحجاز.
وقال له عمرو بن العاص يوما : إن البحر الشامي حفر لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حفيرا فصب في بحر العرب فسده الروم والقبط ، فإن أحببت أن يقوم سعر الطعام بالمدينة كسعره بمصر حفرت له نهرا وبنيت له قناطر ، فكتب إليه عمر : أن افعل وعجل ذلك ، فعالجه عمرو وهو بالقلزم فكان سعر المدينة كسعر مصر ، ولم يزد ذلك مصر إلا رخاء (8) لأن الزراعة قد انتشرت على جانبي النهر الذي شقه وعمرت مساحة شاسعة حوله .
وهذا النهر الذي شقه عمرو كان يربط بين النيل وخليج السويس ، وليست قناة السويس التي كانت موجودة وردمت ؛ لأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لم يوافق على تجديد حفرها ليغلق الطريق على السفن الأجنبية ؛ كي لا تتعرض الجزيرة العربية للغزو في أوقات ضعف المسلمين ، كما حدث في عصرنا الحديث بعد أن صارت معبرا للسفن التي جلبت قوات الأمريكان وغيرهم .
وكانت من قبل سببا في احتلال مصر من قبل بريطانيا ،ولم تجلب لمصر مع عظم دخلها السنوي سوى الخراب والهوان .
واتسعت الدولة الإسلامية شرقا وغربا وعم الأمن والخير والعدل ربوعها في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ فعز على الأشرار ذلك ، ولما لم يكن أحد من أعدائها في الخارج يجرؤ على النيل منها فقد لجئوا إلى الكيد لها من الداخل ، فتآمروا على قتله ـ رضي الله عنه ـ مستغلين عدم وجود حراسة حوله لثقته بأنه لا يوجد داخل المدينة من يفكر في أذيته ، فاجتمع نفر منهم بعضهم كانوا عبيدا لأهل المدينة ،وبعضهم تظاهروا بالإسلام ليسمح لهم بالمقام في المدينة ، وبينما كان ـ رضي الله عنه ـ يؤم المسلمين في صلاة الفجر تسلل أحد هؤلاء ، وهو أبو لؤلؤة النصراني غلام المغيرة بن شعبة ، بعد أن أحكم الخطة مع رفاقه فطعنه في بطنه بخنجر مسموم له رأسان ست ضربات إحداهن تحت سرته ..
فلما سقط ـ رضي الله عنه ـ قال : أفي الناس عبد الرحمن بن عوف قالوا : نعم يا أمير المؤمنين هو ذا ، قال : تقدم فصل ، ثم احتمل فأدخل داره ، ثم دخل الناس يعودونه وفيهم المهاجرون والأنصار فقال لهم : أعن ملأ منكم كان هذا ؟ فقالوا : معاذ الله .(9).
فسأل الناس عمن طعنه فقيل : غلام المغيرة ، فقال : قال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة ، يا عبد الله بن عمر اذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم توفي ـ رضي الله عنه ـ ليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فخرجوا به بكرة يوم الأربعاء فدفن في بيت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين ليلة .
ومع عظم الخطب وجرم المعصية إلا أنه لم يقتل بمقتله سوى رجلين أو ثلاثة ممن تآمروا على قتله ، ولم يؤخذ أحد بالظنة ، ولم يسلط الخليفة بعده سيفه على الرعية ، ولم يفرض الأحكام العرفية الجائرة التي تتسبب في تدمير البلاد وانتهاك حرمات العباد ..
وكان آخر ما تكلم به ـ رضي الله عنه ـ قبيل موته هو قوله : أوصي الخليفة من بعدي بالأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم ،وأن يعفو عن مسيئهم ، وأوصي الخليفة من بعدي بالعرب فإنها مادة الإسلام ،أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فيوضع في فقرائهم ، وأوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أي غير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية )أن يوفي لهم بعهدهم ..
وكان ـ رضي الله عنه ـ قد عزم قبيل طعنه على القيام بجولة إلى كل الأقطار الإسلامية ليتفقد أحوال الرعية بنفسه ويعايشهم ويعايشونه ، وقال : لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا ، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني ، أما عمالهم فلا يرفعونها إلي ، وأما هم فلا يصلون إلي فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين ، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين ، والله لنعم الحول هذا.(10) ولو امتدت به الحياة لرأينا من سيرته عجبا ولكن لكل أجل كتاب.


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:38 AM [ 17 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


نظرات في عصر الخلفاء الراشدين 7

كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*
16/12/1431 الموافق 22/11/2010

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد
فقد انتهينا في الحلقات السابقة من الحديث عن خلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والترتيبات الإدارية التي تمت في عصره ، واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى نتحدث عن خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ والذي تم اختياره بطريقة قلما يوجد مثلها في تاريخ الأمم الناضجة حضاريا ، وكان بعض الصحابة قد أشاروا على عمر ـ رضي الله عنه ـ بأن يستخلف عليهم رجلا يتفقوا عليه بعد موته ، فقال : ما أريد أن أتحملها حيا وميتا ، عليكم بهؤلاء الرهط الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنهم من أهل الجنة : سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم ، ولست مدخله( لأنه كان قريبا له ) ولكن الستة علي وعثمان ابنا عبد مناف ، وعبد الرحمن وسعد خالا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته ، وطلحة الخير بن عبيد الله ، فليختاروا منهم رجلا ، فإذا ولوا واليا فأحسنوا مؤازرته ، وأعينوه إن ائتمن أحدا منكم فليؤد إليه أمانته (1).
وفي الصباح دعا عليا وعثمان وسعدا وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فقال : إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم ،وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض ، إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ، ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس ،فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذن منها فتشاوروا واختاروا رجلا منكم ..
ثم قال : فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام ،وليصل بالناس صهيب ،ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم ،ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا ،ولا شيء له من الأمر ( وكان عبد الله من أفاضل الناس وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم ) وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم ، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم ، ومن لي بطلحة ؟ فقال سعد بن أبي وقاص : أنا لك به ، ولا يخالف إن شاء الله ، فقال : عمر أرجو ألا يخالف إن شاء الله .(2).
وقال لأبي طلحة الأنصاري يا أبا طلحة إن الله عز وجل طالما أعز الإسلام بكم فاختر خمسين رجلا من الأنصار ، فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم ، وقال للمقداد بن الأسود : إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم ، وقال لصهيب : صل بالناس ثلاثة أيام..
وانتظر الصحابة الستة المرشحون لمنصب الخلافة حتى قبض عمر ـ رضي الله عنه ـ وفرغ من دفنه ، ثم فقال عبد الرحمن ـ رضي الله عنه ـ: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم فلم يجبه أحد فقال : فأنا أنخلع منها ، فقال عثمان ـ رضي الله عنه ـ: أنا أول من رضي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمين في الأرض أمين في السماء ، فقال القوم : قد رضينا ، وعلي ساكت فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : أعطني موثقا لتؤثرن الحق ، ولا تتبع الهوى ، ولا تخص ذا رحم ، ولا تألو الأمة .
فقال : أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير ، وأن ترضوا من اخترت لكم علي ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه ولا ألو المسلمين ، فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله ..
ثم قال عبد الرحمن لعلي ـ رضي الله عنهما ـ: إنك تقول إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ، ولم تبعد ، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر ؟ قال : عثمان ، وخلا بعثمان فقال : تقول شيخ من بني عبد مناف وصهر رسول الله صلى الله عليه و سلم وابن عمه لي سابقة وفضل لم تبعد ، فلن يصرف هذا الأمر عني ، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط تراه أحق به قال : علي ، ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به عليا وعثمان ، فقال : عثمان ثم خلا بسعد فكلمه فقال : عثمان.(3) .
ثم دار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان ، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة من الليل فأيقظه فقال : ألا أراك نائما ولم أذق في هذه الليلة كثير غمض، انطلق فادع الزبير وسعدا.(4).
ودعا عليا فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ! قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي ، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي فقال : نعم فبايعه..
وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فقيل له : بايع عثمان فقال : أكل قريش راض به قال : نعم ، فأتى عثمان ليبايعه فقال له عثمان : أنت على رأس أمرك إن أبيت رددتها ( وقال له ذلك لأنه كان من المرشحين معه للخلافة وله مثل ما له ) فقال له طلحة : أتردها ؟ قال : نعم ، قال : أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم قال : قد رضيت لا أغرب عما قد أجمعوا عليه وبايعه .(5).
وخرج عثمان ـ رضي الله عنه ـ بعد بيعته وهو أشدهم كآبة ، فأتى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس ،فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار ، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه ، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم ، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور .(6).
وأقبل عوام الناس بعد فراغه من خطبته يبايعونه حتى تمت له البيعة العامة مع الخاصة .
ثم أرسل إلى أمراء الأقاليم يقول : أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة ، وإن صدر هذه الأمة ( يقصد الصحابة ) خلقوا رعاة ، لم يخلقوا جباة ، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ، ولا يكونوا رعاة ، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء ، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم ، فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم ، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم ، وتأخذوهم بالذي عليهم ، ثم العدو الذي تنتابون ، فاستفتحوا عليهم بالوفاء .(7) .
وكتب إلى أمراء الأجناد يقول : أما بعد فإنكم حماة المسلمين وذادتهم ، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان عن ملأ منا ، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم ، فانظروا كيف تكونون ، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه . (8).
وكتب إلى عمال الخراج يقول : أما بعد فإن الله خلق الخلق بالحق فلا يقبل إلا الحق خذوا الحق وأعطوا الحق به والأمانة الأمانة قوموا عليها ، ولا تكونوا أول من يسلبها ، فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم ، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ، ولا المعاهد فإن الله خصم لمن ظلمهم.(9).
وكتب رسالة عامة إلى سائر رعايا الدولة يقول فيها : أما بعد فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع ، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم ، تكامل النعم ، وبلوغ أولادكم من السبايا ، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن ، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الكفر في العجمة ، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا .(10).
وزاد في أعطيات الناس مائة مائة ، وهو أول خليفة زاد الناس في العطاء ، وكان عمرـ رحمه الله ـ يجعل لكل نفس منفوسة من أهل الفيء في رمضان درهما في كل يوم ، وفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم درهمين درهمين فقيل له : لو وضعت لهم طعاما فجمعتهم عليه فقال : أشبع الناس في بيوتهم ، فأقر عثمان الذي صنع عمر ، وزاد فوضع طعام رمضان للمتعبد الذي يبيت في المسجد ولابن السبيل وللمثوبين بالناس في رمضان (11) .
ثم واصل الفتوح الإسلامية التي بدأها أبو بكر ثم عمر ـ رضي الله عنهما ـ فأرسل الوليد بن عقبة لإعادة فتح أذربيجان وأرمينية ، وأرسل عبد الله بن سعد بن أبي سرح لفتح إفريقية ، وألح عليه معاوية لغزو بعض الجزر في البحر المتوسط حتى أذن له ، على ألا يجبر أحدا من الجنود على الخروج معه ، فصار معاوية وفتح جزيرة قبرص سنة 28 هـ.. وقد أصاب من أهلها سبيا كثيرا فلما رآه أبو الدرداء بكى فقيل له : ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله وأذل فيه الكفر وأهله ؟ فقال : ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره ، بينا هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى ، فسلط عليهم السباء ، وإذا سلط السباء على قوم فليس لله فيهم حاجة (12) كما غزا معاوية القسطنطينية حتى وصل إلى مضيقها.
وقتل في خلافته يزدجرد آخر ملوك فارس ، قتل طريدا شريدا ، ليختم صفحة سوداء من تاريخ الظلم والكفر والبغي ، وقد ظل قبل موته يتنقل من مدينة لمدينة فارا أمام المسلمين ، واستنصر ملوك الترك والصين فأبوا أن ينصروه فسار إلى مرو فسأل مرزبانها مالا فمنعه ، ثم قاتله فقتل أصحابه ،وخرج هو هاربا على رجليه معه منطقته وسيفه وتاجه حتى أتى إلى منزل نقار على شط المرغاب فلما غفل يزدجرد ، وقيل لما نام قتله النقار ، وأخذ متاعه ، وألقى جسده في المرغاب .(13) .
وفتح المسلمون بعد مقتله أبرشهر وطوس وبيورد ونسا وسرخس ومرو من البلاد التي كانت خاضعة للممالك فارس.
وفتح الأحنف بن قيس مرو الروذ صلحا وكتب لمرزبانها كتابا جاء فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرو الروذ ومن معه من الأساورة والأعاجم سلام على من اتبع الهدى وآمن واتقى ،أما بعد فإن ابن أخيك ماهك قدم علي فنصح لك جهده ، وأبلغ عنك وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين ، وأنا وهم فيما عليك سواء ، وقد أجبناك إلى ما سألت ، وعرضت على أن تؤدي عن كورتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلي وإلى الوالي بعدي من أمراء المسلمين ، إلا ما كان من الأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطعها جد أبيك ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، وأن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة إن أحب المسلمون ذلك ، وإن لك على ذلك نصر المسلمين على من يقاتل من ورائك من أهل ملتك ، جار لك بذلك مني ، كتاب يكون لك بعدي ، ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام ، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك ما للمسلمين من العطاء والمنزلة والرزق ، وأنت أخوهم ، ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمة المسلمين وذمم آبائهم.(14).
واختتمت الفتوحات في عصره شرقا بفتح بلاد " الطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان وبلخ " أما في ناحية الغرب فكان آخر الفتوحات التي تمت في عهده فتح عمورية ، وانشغل المسلمون بعدها بأمر الفتنة التي أشعلها المنافقون بقيادة ابن سبأ اليهودي ، والتي انتهت بمقتله في الثامن عشر لذي الحجة سنة خمس وثلاثين ..
وقد عمت الخيرات المسلمين بتلك الفتوحات ، وأتاهم المال من كل وجه ، حتى اتخذت له الخزائن ، وصار ـ عثمان ـ رضي الله عنه ـ يأمر للرجل بمائة ألف بدرة في كل بدرة أربعة آلاف أوقية ، ووجد الناس في خلافته من رغد العيش ما لم يروه من قبل.
ودامت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وأياما ، وكان قد تجاوز الثمانين من عمره .


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:39 AM [ 18 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


نظرات في عصر الخلفاء الراشدين 8

كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق*
20/01/1432 الموافق 26/12/2010

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد
فقد انتهينا في الحلقة السابقة من الحديث عن خلافة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ، وعرفنا فيها كيف تمت بيعته ، وكيف كان يدير الدولة الإسلامية في عصره ، واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى نتحدث عن خلافة علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ
وأبدأ الحديث بعون من الله سبحانه وتعالى فأقول : إن الخليفة الثالث عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قُتل على أيدي المنافقين الذين أطلق عليهم السبئية ؛ لسيرهم تحت إمارة عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام ليكيد له على الملأ ، وكانت ظروف مقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ بهذه الكيفية قد جعلته لا يتمكن من ترشيح أحد للخلافة بعده ، كما لم تتح لأهل الشورى ورجال الحل والعقد الاجتماع للتباحث في أمر تعيين الخليفة الجديد ، فتمت بيعة على رضي الله عنه على عجل ..
ولم يكن أحد من أصحاب الرأي ليعترض على مبايعته ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي جاء بعد عثمان ـ رضي الله عنه ـ في الأفضلية من بين المرشحين الذين نص عليهم للخلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قبيل موته ، وكان الجميع يرون أنه أهل لها ، ولكن هيمنة المنافقين والغوغاء على الأمور بالمدينة بعد قتلهم لعثمان ـ رضي الله عنه ـ وعجزه عن اتخاذ قراراته المستقلة في ظل وجودهم جعلت الأمور لا تمر بسلام ؛ مما ألجأ كبار الصحابة وعلى رأسهم طلحة والزبير ـ رضي الله عنهما ـ إلى أن يفروا إلى خارج المدينة لعلهم يستطيعون أن يحشدوا من الجنود ما يقضون به على ابن سبأ وأتباعه ، ويخلصون المجتمع من فتنتهم ..
وبالفعل خرج الزبير وطلحة ـ رضي الله عنهما ـ إلى البصرة ترافقهما أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهناك تطوع الآلاف للانضمام إليهم ، وتمكنوا من قتل من عاد إلى البصرة من السبئية ، لكن عليا ـ رضي الله عنه ـ لما علم بخروجهم إليها ترك المدينة مقر الخلافة وسار إليهم ؛ ليُعلمهم أن حشد المسلمين والسير بهم إلى المدينة قد يكون خطره أعظم مما يتصورون ، وقد يؤدي إلى سيل دماء الأبرياء في المدينة التي حُرم فيها سفك الدماء ..
وصل ـ رضي الله عنه ـ بالقرب من البصرة ، وهناك التقى بـطلحة والزبير ـ رضي الله عنهم ـ وبعد مناقشات ومشاورات اقتنع كلٌ برأي الآخر ، واتفقوا على أن ينصرفوا من الصباح ، ويعود علي ـ رضي الله عنه ـ إلى المدينة مقر الخلافة ، غير أن السبئية الذين رافقوه في خروجه من المدينة ـ على غير علم أو رضا منه ـ أحسوا أن مخططهم لإزالة الخلافة في خطر ، وأن استقرار الأمور لعلي ـ رضي الله عنه ـ معناه أنه سيتفرغ لهم ، ويطهر سائر الأمصار الإسلامية من رجزهم ، فدبروا بليل مؤامرة للوقيعة بين من كان مع علي من جهة ، ومن كان مع الزبير وطلحة من جهة أخرى ، انتهت بموقعة الجمل على غير رغبة من الطرفين ..
ولم يكن خطر تلك الموقعة المشئومة مقصورا على من قتل فيها من صفوة المسلمين وعلى رأسهم طلحة والزبير ، وإنما لأنها أحدثت أول شرخ بين المسلمين ، وكانت الشرارة الأولى لاشتعال نار الخوارج وتطرف الشيعة ، وذلك لأن عليا ـ رضي الله عنه ـ ما إن خرج من تلك المعركة حتى صار من اندسوا إلى جيشه من السبئية يطعنون فيه أيضاً حين نهاهم عن أخذ أموال من قاتل من المسلمين في صف الزبير وطلحة ـ رضي الله عنهما ـ فقالوا: ما له يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ ..
ثم جاءت موقعة صفين التي هلك فيها من المسلمين الآلاف المؤلفة ، وانتهت بالصلح حقنا لما تبقى من الدماء من الفريقين ، وبرضا من فضلاء الصحابة ، وعلى رأسهم علي ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ فاعترض على هذا الصلح أصحاب الفتنة الذين كانوا يسعون في الخفاء لأن يُفني المسلمون بعضهم بعضا ..
وصاروا يرددون : لا حكم إلا لله ، وأن عليا حكّم الرجال وترك كتاب الله ، فتلقفها الأعراب الذين لم يكن عندهم فقه في الدين ، وانطلت عليهم الحيلة ، ووقعوا في الفخ ، فخرجوا على إمامهم دون بينة ، وعند عودة علي ـ رضي الله عنهـ من صفين بجيشه انفصلوا عنه ، وساروا في طريق غير طريقه ، ولم يكفوا خلال سيرهم عن الشتم والسب لعلي ومن رضي معه بالصلح ووقف القتال ، وأخذوا يقولون : يا أعداء الله ادهنتم في أمر الله، وجاءه رجل منهم يسمى : زرعة بن البرج الطائي فقال: يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك، أطلب وجه الله تعالى ، فقال علي : بؤساً لك ما أشقاك! كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح! ..
ثم سار هؤلاء حتى نزلوا في مكان يسمى حروراء فسموا الحرورية لذلك ، وكان عددهم اثني عشر ، وهم أول طائفة تبنت فكر الخوارج ... وقد ولوا عليهم رجلا منهم يسمى "شبث بن ربعي التميمي " وقالوا : هو أمير القتال ، وآخر يسمى "عبد الله بن الكوا اليشكري " وقالوا : هو أمير الصلاة ، وادّعوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فلما سمع من بقوا مع علي ـ رضي الله عنه ـ بأمرهم قالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ، وكانت تلك بداية التشيع ، ولكنه لم يكن تشيعا منبوذا ولا غلوّ فيه ، إلا أن الحرورية قابلوا هذا الفعل منهم بقولهم : استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى.
ويوما بعد يوم بدأ الشيطان يجنح بهم نحو الهاوية إلا أن عليا ـ رضي الله عنه ـ كان يترأف بهم ، ورغم أن خروجهم زاد من أوجاعه، حيث كان يرى فيه شرخا آخر بجسد الأمة ، وهو خارج من التو من قتال أهل الشام إلا أنه صبر عليهم ، وتحمل من سبهم وشتمهم واتهامه بالباطل ما تحمل ، وبعث إليهم عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقال له : لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك.
فخرج إليهم عبد الله فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى راجعهم ، فقال : ما نقمتم من الحكمين وقد قال تعالى : "إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما" ( النساء: 35 ) فكيف بأمة محمد، صلى الله عليه وسلم؟ فقالت الخوارج : أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه ، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا في هذا، فقال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: " يحكم به ذوا عدلٍ منكم " (المائدة: 95 ) فقالوا: أو تجعل الحكم في الصيد والحرث وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدلٌ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلاً فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يُقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتاباً وجعلتم بينكم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب مذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.
وبينما هم يتخاصمون وعبد الله بن عباس إذ جاء علي ـ رضي الله عنه ـ فقال له : ألم أنهك عن كلامهم حتى آتي ؟ ثم التفت إليهم فقال: اللهم هذا مقامٌ من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكوا ، فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين ، فقال لهم : قد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حكمهما برآء.
فقالوا له: فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق ، إنما يتكلم به الرجال ، فقالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال : ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، فأناب إليه أكثرهم وبقيت قلة على عنادهم ، فتركهم على ما هم عليه بعد أن أعذر إليهم إلى الله ، ولم يجبرهم على الدخول في طاعته ، وقال لمن حولهم : نحسن إليهم ونتركهم ما تركونا ..
ورغم ذلك حرصوا على استفزازه فقد صعد المنبر يوما ليخطب الجمعة فقاموا في جوانب المسجد، فقال علي : الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! إن سكتوا غممناهم، وإن تكلموا حاججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم ، فوثب إليه رجل يسمى يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغنى عنه! اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في الدين ، ادهانٌ في أمر الله ، وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صلياً.
وصبر علي ـ رضي الله عنه ـ وتصبر أمام هذا التجرؤ عليه وعلى منصب الخلافة الذي يشغله ، ووصْفِه بما لا يليق ، وأعاد عليهم مقولته : أما إنّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدءونا .
وسن ـ رضي الله عنه ـ بذلك سنة معاملة الخارجين على الدولة من أبناء المسلمين ، تلك السنة التي ينبغي أن يتحاكم إليها كل حاكم مسلم ، ولا يجنح إلى الهوى ، ولا ينتصر لنفسه الأمارة بالسوء إذا كان يرجو الله واليوم الآخر ..
ولو نظر هؤلاء الحرورية أو الخوارج لأنفسهم لتركوا عليا ـ رضي الله عنه ـ كما تركهم يعتنقون ما شاءوا من الأفكار ، ولكن أبى شيطانهم إلا أن يؤزهم على أن يُجبروا عليها الآخرين ، فلقي بعضهم بعضاً ، واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم فزهدهم في الدنيا ـ كما زعم ـ وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،الذي ليس في نظرهم سوى إجبار الناس على اعتناق أفكارهم ومقاتلة المخالفين لهم من المؤمنين ..
ثم قال لهم : اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة ( يقصد أمر الصلح الذي تم بين أهل الشام والعراق ) ثم اجتمعوا في منزل رجل يسمى شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنكم أهل الحق ، فقال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها ونأخذها بأبوابها ونخرج منها سكانها ، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا ..
ولا أدري بأي حق كانوا يفعلون ذلك ؟! وأي دين هذا الذي يأمرهم بأن يُخرجوا سكان المدائن من بيوتها ليسكنوها هو وأتباعهم ؟! لا أدري ، ولو كان أهل المدائن مشركين ـ كما زعموا ـ ما جاز أن يسلبوا منهم أموالهم ويخرجوهم من ديارهم ...
ثم قال بعضهم لبعض: لو خرجتم مجتمعين علم عليّ بأمركم ، ولكن اخرجوا وحداناً مستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى ننزل جسر النهروان .؟.
وسار الأشقياء حتى نزلوا جسر النهروان ، ومن هناك كاتب عبد الله بن وهب باقي أتباعه بالبصرة يعلمهم بما اجتمعوا عليه ، ويحثهم على اللحاق به، فأجابوه بموافقتهم ، وقضوا ليلة اليوم الذي غادروا فيه البصرة في العبادة والتهجد ، وهذا ما زاد من فتنتهم بين الناس ، وجعلهم يتحيرون في أمرهم ، ولسان حالهم يقول : إن أناسا يجتهدون في العبادة هذا الاجتهاد كيف لا يكونون على الحق ، وهذا من تلبيس إبليس عليهم وعلى غيرهم ؛ لأن الإسلام فطرة وسطية ، من تجاوزها بالتقصير أو التفريط حاد عنها ، ومن تجاوزها بالغلو والإفراط حدا عنها ..
وصدق فيهم قول الله النبي صلى الله عليه وسلم : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء .. " ( رواه البخاري ).
وعلم علي ـ رضي الله عنه ـ بأمر تسللهم وخروجهم إلى النهروان فأرسل إليهم من يذكرهم الله ويدعوهم إلى الطاعة فأبوا ، ولم يغير سياسته معهم القائمة على ألا يبدأهم بالقتال إلا إذا بدءوه ، وظل على ذلك حتى بلغه أن بعضهم رءوا رجلاً يسير بامرأته ، فدعوه وقالوا له : من أنت ؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم ، فقالوا : لا روع عليك، حدثنا عن أبيك حديثاً سمعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم تنفعنا به ، فقال: حدثني أبي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً" ..
فقالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً ، فقالوا : ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ فقال: إنه كان محقاً في أولها وفي آخرها ، فقالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ فقال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه ، وأنفذ بصيرة.
فقالوا: إنك تتبع الهوى ، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلةً ما قتلناها أحداً ، فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته، وهي حبلى في أيام الحمل الأخيرة ، حتى نزلوا تحت نخل مواقير، فسقطت منه رطبة، فأخذها أحدهم فتركها في فيه، فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن ، فألقاها ، ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه ..
فلما رأى ذلك منهم عبد الله بن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم من بأس، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، ولقد آمنتموني قلتم : لا روع عليك...
لكن من أبوا أن يأكلوا تمرة من التمر المتساقط المباح ورعا ، ومن أدوا دية الخنزير قاموا بقتل الرجل المسلم الأعزل ، حيث أضجعوه فذبحوه حتى سال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة ألا تتقون الله ! فبقروا بطنها ..
إنه تلبيس إبليس ، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم " طوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه " ..مسند أحمد بن حنبل..
بلغ علياً رضي الله عنه ما فعلوه بعبد الله بن خباب ، وأنهم قتلوا ثلاث نسوة من طيء ، وقتلوا امرأة أخرى تسمى أم سنان الصيداوية ، وأنهم صاروا يعترضون الناس، فبعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم وينظر ما بلغه عنهم ، ويكتب به إليه ولا يكتمه ، فلما دنا منهم يسائلهم عن سبب قطعهم للطريق على المؤمنين قتلوه...
فلم يكن أمام علي رضي الله عنه إذن بعد أن أعلنوا عليه الحرب ورّوعوا الآمنين إلا أن يسير إليهم ليقتلع شوكتهم ..
وأؤكد أن عليا ـ رضي الله عنه ـ لم يبدأهم بقتال لآراء تبنوها ، ولا لفكر خاطئ اعتنقوه ، وإن بدا في هذا الفكر خروج عليه ، وإنما قاتلهم لأنهم عاثوا في الأرض فسادا ، وروعوا الآمنين ، وآووا المارقين ، وأعلنوا عليه الحرب ، وأنه قد أعذر إليهم بمكاتبتهم ومراسلتهم ، ومحاورتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن ..
وبناء على ذلك لا يجوز لأي حاكم مسلم أن يقاتل أو يحاكم من رعيته من يتبني أفكارا غير الأفكار التي تتبناها الدولة ، وإن كانت أفكارا شططا إلا أن يعيثوا في الأرض فسادا ، ويظهر منهم اعتداء على الرعية ، وبعد أن يعذر إليهم ، ويستنفذ معهم كل أساليب التقويم السلمية ، وإلا كان زائغا عن الحق ، يعالج خطأ بخطأ..
وأعود إلى علي ـ رضي الله عنه ـ فأقول : إنه جهز جيشه لما رأى ـ كما ذكر من قبل ـ أن كل سبل المعالجة السلمية لم تفلح معهم ، وعبر جسر الفرات إليهم ، وقبل أن يبدأهم بقتال أرسل من يقول لهم : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم ـ قصاصا كما نص كتاب الله الذي يدّعون أنهم يتحاكمون إليه ـ ثم أنا تارككم وكاف عنكم .. ، فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم ، فقالوا: كلنا قتلهم ، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم ، فأعاد إليهم قيس بن سعد بن عبادة فقال لهم : عباد الله ! أخرجوا إلينا طلبتنا منكم ، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه ، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم فإنكم ركبتم عظيماً من الأمر، تشهدون علينا بالشرك ، وتسفكون دماء المسلمين!..
فقال لهم رجل منهم يسمى "عبد الله بن شجرة السلمي " : إن الحق قد أضاء لنا فلسنا مبايعيكم أو تأتونا بمثل عمر، فقال قيس : ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم ؟فقالوا: لا ، فقال قيس : نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
ثم ذهب إليهم أبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ فخطبهم وقال: عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، أليست بيننا وبينكم فرقة ؟ فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو تابعناكم اليوم حكمتم غداً ، فقال أبو أيوب : فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل.
ولم يكتف علي ـ رضي الله عنه ـ بذلك وإنما ذهب إليهم بنفسه وقال لهم : أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة! وصدها عن الحق الهوى، وطمع بها النزق( الخفة والطيش ) وأصبحت في الخطب العظيم! إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غداً صرعى بأثناء هذا الوادي وبأهضام ( جمع هضم وهو المستوي من الأرض ) هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين ..
فلم يجد عندهم سوى العبارة التي ألقى بها الشيطان في روعهم ، وهي :" إنا حكّمنا فلما حكّمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
فقال علي ـ رضي الله عنه ـ : أصابكم حاصب ، ولا بقي منكم وابر، أبعد إيماني برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ..
ثم انصرف ـ رضي الله عنه ـ عنهم وهو عازم على قتالهم ، وقد بدأ بطمأنة من معه كي لا يرهبوهم فقال لهم : والله لا يُقتل منكم عشرة ، ولا يَسلم منهم عشرة ..
وتقدم فعبأ جنوده ، وكانوا في حدود سبعمائة أو ثمانمائة مقاتل ، وأعطى أبا أيوب الأنصاري راية الأمان، فناداهم أبو أيوب فقال: من جاء تحت هذه الراية فهو آمن، ومن لم يَقتل ولم يستعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.
وتلك ـ لعمر الله ـ أسمى آيات التحري والتورع عن الوقوع في دماء الأبرياء ، والتي لم تصل إليها البشرية إلى الآن رغم ما قطعته من أشواط في مجال حقوق الإنسان ، وما سنت من قوانين ودساتير حديثة ..
وأفلحت سياسة علي ـ رضي الله عنه ـ هذه في تشجيع مجموعة منهم كان من الممكن أن يُقتلوا على المعصية فيكون مصيرهم إلى النار ـ والعياذ بالله ـ ، فقد وقف رجل يسمى " فروة بن نوفل الأشجعي " وقال : والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً، فانصرف في خمسمائة فارس إلى مكان يسمى الدسكرة ، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة، وانضم إلى علي ـ رضي الله عنه ـ منهم نحو مائة رجل ..
ولم يبق مع عبد الله بن وهب زعيمهم سوى ألف وثمانمائة من أربعة آلاف مقاتل كانوا معه ..
وأؤكد إن عليا ـ رضي الله عنه ـ بعد جهوده المضنية في إقناعهم بالحسنى ونجاحه في صرف الكثيرين منهم عن مقاتلته لم يكن البادئ بمقاتلة المصرين على عنادهم منهم وإنما تريث بهم بعد أن زحفوا إليه وقال لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدؤوكم ، فالتزم أتباعه بأوامره حتى تنادوا ( أي بقية الخوارج ) : الرواح إلى الجنة ! وحملوا على الناس حملة جعلت خيل علي ـ رضي الله عنه ـ تفترق فرقتين : فرقة نحو الميمنة ، وفرقة نحو الميسرة ، وعندها لم يكن من القتال بدٌ فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل ، ثم عطفت عليهم خيل علي رضي الله عنه من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبثوا أن أناموهم ، فأهلكوا في ساعة، فكأنا قيل لهم موتوا فماتوا كما أخبر الرواة .
ولا عجب أن يحقق ـ رضي الله عنه ـ عليهم هذا النصر السريع ، لأنهم بغوا ، والبغي مرتعه وخيم ، كما أن من قاتلوهم مع علي ـ رضي الله عنه ـ لم يشكّوا في وجوب قتلهم بعدما رءوا من إعذار علي ـ رضي الله عنه ـ إليهم ، فقاتلوهم قتال الأبطال الراجين في مثوبة الله سبحانه وتعالى .
وبعد انتهاء المعركة مر بهم علي ـ رضي الله عنه ـ وهم صرعى فقال : بؤساً لكم! لقد ضركم من غركم! فقالوا: يا أمير المؤمنين من غرهم؟ قال: الشيطان وأنفسٌ أمارة بالسوء غرتهم بالأماني ، وزينت لهم المعاصي ، ونبأتهم أنهم ظاهرون .
ثم جاء ـ رضي الله عنه ـ إلى ما كان في عسكرهم من شيء ، فأخذ السلاح فقسمه بين من قاتلوا معه ، وأما الأموال والمتاع والإماء والعبيد فإنه ردها على أهلهم ...
إنهم بغاة نعم ، وفي قتالهم صيانة للمجتمع من شرورهم ، لكن لا تجوز مصادرة أموالهم ولا نهبها ولا إتلافها ؛ لأن هذه الأموال هي من حق ورثتهم من أبنائهم وأهليهم الذين لا ذنب لهم فيما ارتكبه ذويهم ، والله سبحانه وتعالى يقول: " وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى "( الأنعام : 164 ).
وبعد مقتل هؤلاء تعاقدت مجموعة أخرى على قتل علي ومعاوية وعمرو ـ رضي الله عنهم ـ ورشحوا لكل واحد رجلا شقيا منهم ، وهم ابن ملجم والبرك بن عبد الله وعمرو بن بكر التميمي ، واتفقوا على أن يخرجوا لقتلهم في وقت الفجر كما قتل الشقي أبو لؤلؤة المجوسي عمر ـ رضي الله عنه ـ فنجا عمرو ومعاوية ، وقتل علي ـ رضي الله عنه ـ لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين، قتله ابن ملجم وهو ينادي الناس : الصلاة الصلاة ، لينهي بذلك أفضل حقبة بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، تلك الحقبة التي أكاد أجزم بأن التاريخ لم يشهد مثلها في العدل ، نعم قد سبق داود وسليمان عليهما السلام الخلفاء في عدلهم ، ولكن ما كانت مملكتهما إلا جزءا صغيرا بالقياس إلى دولة الخلفاء الراشدين ، وكانت الخسارة فادحة على الصعيد الإسلامي ، والصعيد العالمي ..
فأما على الصعيد الإسلامي فإنه وإن حافظ الخلفاء المسلمون فيما بعد على نهج الإسلام وتعاليمه وإقامة شرعه إلا أن المسلمين حرموا من تطبيق مبدأ الشورى التام في اختيار الحاكم ، هذا المبدأ الذي يفرز أفضل العناصر ، كما أن زوال حكم الخلفاء الراشدين قد ساعد على وجود الفرق الإسلامية وتأصلها في المجتمع الإسلامي ، تلك الفرق التي ما كانت لتأخذ فرصتها أو شرعيتها في البقاء ، أو تجد لها جمهورا ومؤيدين لو ظل حكم الراشدين كاملا ، كما أن بقاء الحكم الراشدي ـ لا محالة ـ كان سيمنع ظهور العصبيات القبلية التي كانت من أشد الأمراض فتكا بالأمة : لأن الخليفة الذي سيختار ستكون قوته مستمدة من المجتمع الذي اختاره وليس من عصبيته .
وأما على الصعيد العالمي فإن فكرة الانتخابات الحرة أو ما يعرف عند الغرب بالديمقراطية التي ظهرت أخيرا كان بالإمكان أن يتقدم ظهورها قرونا وبصورة أفضل مما عليه ـ اقتداء بالمسلمين ـ لو ظل مبدأ الشورى قائما ، خاصة وأن الغرب في بداية نهضته قد حرص على أن يأخذ من المسلمين كل نظام مفيد باستثناء ما يرتبط بأصل الدين الإسلامي الذي تركوه فقط كراهية له .
وبقي الدرس الذي نتعلمه وهو أن عدم أخذ الخلفاء بالحيطة والحذر ، وتوفير الحماية الكاملة لهم ، والتساهل مع حركات المناوئين للإسلام الذين تستروا بستاره من أجل حربه من الداخل بعد أن عجزوا عن حربه من الخارج كان السبب الأوحد في القضاء على الخلافة الراشدة ..
وبتلك الكلمات أختم نظراتي في عصر الخلفاء الراشدين ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها النفع للمسلمين ، وألا يحرمني من حظ ثوابها يوم القيامة .


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:40 AM [ 19 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


مدد الجيوش في العصر النبوي والخلافة الراشدة (1)

كتب: د / سعد بن عبد العزيز القصيبي *
02/12/1431 الموافق 08/11/2010

المقدمة :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة العالمين، وبعد...؛ فإن المتابع لحركة الفتح الإسلامي يلحظ مدى تكاتف المسلمين بعضهم مع بعض وحرصهم على نصرة الآخرين، تحقيقاً لقول الرسول: »مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى« (1).
ومن هذا المنطلق وتحقيقاً لرسالة الفتح الخالدة، لم يقتصر الفتح على إرسال الجند للقتال فحسب؛ بل اتبع ذلك بالمدد الذي جاء للعون والمساعدة لتحقيق رسالة الإسلام الخالدة في المعمورة.
وقد يخيل للقارئ أن دراسة المدد أو الحديث عن دعم الجيش وامتداده إنما هو تكرار للحديث عن الفتوحات أو لا جديد فيه، وقد يرى بعض الناس أن الكتابة في الموضوع مكرّرة.
ولكن المتأمل لواقع المدد أو دعم الجيوش يجد في دراستها وتتبعها أهدافاً أبعد من هدف المساندة فحسب، بل تجاوز إلى النجدة والعزيمة فضلاً عن الترابط بين أفراد الجماعة المسلمة.


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 16 Feb 2011, 03:40 AM [ 20 ]


تاريخ التسجيل : Jun 2010
رقم العضوية : 29031
الإقامة : saudi arabia
الهواية : القراءة والكتابة
مواضيع : 383
الردود : 14766
مجموع المشاركات : 15,149
معدل التقييم : 223جواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura aboutجواهر has a spectacular aura about

جواهر غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
العضو المميز

الشاعر المميز

الاحتفال بالعام السابع

التواصل

فعالية لقطة ومقاديرها

العضو المميز

وسام المسابقات والفعاليات

الحضور المميز


رد: عصر الخلفاء الراشدين


أولاَ : إيضاح مفهوم المدد أو الدعم.
ثانيـاً : مدى العلاقة بين الجيش والمدد الذي لحقه.
ثالثـاً : الحديث عن الفتوحات التي أعقبت مسار الجيش الأول وذكر الإمدادات اللاحقة وتوضيح هذا الدور المطلوب.
رابعـاً : إبراز قيادات مطمورة جديرة بالبحث عبر حركة الدعم.
خامساً : تعدد أهداف المدة وتنوعها سواء في العهد النبوي أو عهد الخلفاء الراشدين.
سادساً : ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاء الأمة للأقاليم الممدة للجيش.
سابعـاً : انتصار الجيوش يعود لبراعة قيادة المدد وشجاعته أو براعة خططه.
ثامنــاً : نزاهة الجيوش ومن ضمنها مددها وعفتهم.
تاسعـاً : مدى حرص الخلافة على سلامة أفرادها.


الأعلى رد مع اقتباس
إضافة رد
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

08:45 AM
Powered by vBulletin® developed by Tar3q.com