..:.. مرحباً بك في شبكة الشدادين الرسمية ، ضيفنا الكريم يسعدنا دعوتك للانضمام والمشاركة معنا .. اضغط هنا لتسجيل عضوية جديدة ..:..


العودة   شبكة الشدادين > المنتديات الأدبية > مكتبة الشدادين لروائع الكتب
 
أدوات الموضوع
إضافة رد
قديم 18 Nov 2005, 05:03 AM [ 21 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






- 11 -


سجلت أميرة على دفتر المدرسة أحداث صفد. لمن؟ طبعا، لقيس الذي ستلتقي به عندما تنتهي الحرب ويعود إلى مدرسته في صفد! طبعا له! كيلا يفوته يوم غاب عنه! ولابد أن يعطيها هو دفترا فيه القصائد التي كتبها في غيابه عنها!

سجلت أميرة: قال الشيشكلي لأبي إنه بلغ الكولونيل الإنكليزي وطسن أنه سيهاجم صفد وعين زيتيم وبيريا. ثم اتفق معه أن يؤجل الهجوم حتى انسحاب الإنكليز. تغدينا في شرفة بيتنا ورق العنب الطري الذي حشته أمي وأكثرت من العصاعيص تحته. وتساءل أبي: هل الكولونيل وطسون غاضب من هجوم اليهود على القوات الإنكليزية، أم يحب العرب لذلك سلمهم مائة بندقية وخمسة آلاف طلقة قبل انسحابه. قالت له أمي: أنت قلت إن اليهود أوقفوا قطارا في حيفا وأجبروا الإنكليز أن ينقلوا لهم السلاح المحمّل فيه! أعطى الإنكليز لليهود مصفحات! لكن هذا الإنكليزي يعرف أن صفد لنا!

يخرج أخي يسار من البيت في الفجر، يعود أحيانا وقت الغداء، ولايرجع إلا في الليل. مشغول مع شباب صفد. نحن النساء نطبخ للمتطوعين.

انسحب الإنكليز في 16 نيسان فاحتل العرب مركز البوليس على جبل كنعان، ومركز بوليس المدينة، والقلعة، ودار فؤاد الخولي، وفندق صفد، وبيت شلوه، والمدرسة الصناعية اليهودية.

حاولت أن أخرج إلى السطح لأرى أين تجري المعركة التي يقود العرب فيها إحسان كم ألماظ. لكن أمي أرجعتني. قالت: اطبخي للرجال! وصلت من الشيشكلي سريتين مع الملازم عبد الحميد السراج وفصيلين مع الملازم هشام العظم. ووصلت سرية أردنية مع ساري الفنيش الذي عينه الشيشكلي قائدا لحامية صفد.

سهر أبي مع إحسان كم ألماظ وبعض الرجال. سمعت أبي يقول: لن يسمع ساري الفنيش أوامر الشيشكلي بل أوامر غلوب! تعيين الفنيش خطأ! يبدو أن إحسان كم ألماظ أفهم أبي أن صفد الآن في خطر لأن الفنيش سيسلمها! لكن أبي هدأه.

سقطت حيفا في 24 نيسان. حزنت البلد كلها على حيفا. بكت أمي. سمعت أبي لأول مرة يشتم الدنيا.

لم يلمس أبي صحن الأكل. قال: سقطت الجاعونة وفرعم والمنصورة وصارت صفد مطوقة من الشرق والجنوب. قال: الجاعونة على الطريق إلى صفد وإلى طبرية، تطل على الغور من جميع الجهات إلا الشرق. لذلك احتلوها في الثاني من أيار! لم يسمعه أحد غيري يهمس: قررت الجاعونة مصيرنا!

بدأت الحرب في صفد في 1 أيار. احتل اليهود عين الزيتون وبيريا بالبالماخ. وصلنا صراخ أهلها في الليل. بكيت من القهر. حاول أهل صفد نجدة عين الزيتون لكن ساري الفنيش منعهم. قال أبي: باحتلال القريتين فصل اليهود صفد عن الشمال والشمال الغربي ومنعوا عنا النجدات. كان مقهورا فنسيت حزني وعصرت له كأس ليمون. أعرف الجاعونة. بيوتها مبنية بالحجر، حولها زيتون وتين! راحت الجاعونة حقا؟؟

في 5 أيار وصلت لليهود نجدة في 35 سيارة كبيرة، وفي 6 أيار نجدة في 137 سيارة.

في 7 أيار زارنا الشيشكلي. لم يقبل غير قهوة. ثم ذهب مع الرجال. رجع أبي بعد أن رجع الشيشكلي إلى مقره في الصفصاف.

في 8 أيار هاجم اليهود الأحياء العربية في ثلاثة صفوف طويلة واستعملوا راجمات دافيد. دوى صوت مرعب فتخيلت أن السقف سقط علينا! قال أبي في تلك الليلة: لاتخافوا! راجمات دافيد صوت فقط، هدفها أن تثير الرعب! يريدوننا أن نترك البلد! عرفنا أنها كالمنجنيق يقذف 37 كلغ من المتفجرات إلى مسافات بعيدة. استعملها اليهود أول مرة في أبو كبير وحيفا والقدس. قالت له أمي: هل يعرف أهل البلد ماعرفته أنت؟!

روى أبي أن الملك عبد الله قال لزكي قدورة رئيس بلدية صفد، رح إلى القوتلي الذي دخل المعركة دون أن يكون مستعدا لها!! هل يقول له قدورة نعرف أنك تتصل بالوكالة اليهودية وأنها أوفدت غولدا مائير وقابلتك في عمان؟ قال أبي: خليها في القلب تجرح، ولابين الناس تفضح!

وقفت على السطح. صفد حلوة. أطللت من السطح على الوادي والجبل. ورأيت الدكان الذي كنا نلتقي أمامه. هل تظن أن البائع لايعرف أنك تحبني؟ لماذا إذن كان يتشاغل في البحث عما تطلبه؟ لم يلتفت أبدا عندما كنت أفتح ملاءتي لك! نزلت ولمست ملاءتي. أحببت لونها البرتقالي المخطط بالأسود. كأني شعرت بأثر نظرتك عليها! سألتني أمي: لماذا يبدو عليك الحزن؟ لن تسقط صفد! وقالت في غم: قبل ألف سنة كانت النساء تحارب مع الرجال. هنا يحبسوننا في البيت لنطبخ للمتطوعين. قلت أعزيها: هذا أيضا شغل!

رجع أبي غاضبا. قال: وصلت إلى صفد قوة التل، ليست مدربة ولاتعرف التضاريس، ومع ذلك وضعت في المراكز الأمامية. لعبة! أمضينا ليلة مخيفة! من كان يتصور أن نترك صفد؟!

انسحب ساري الفنيش من صفد دون إذن قائده الشيشكلي. بقي ليلة 9-10 أيار في عين التينة في وادي الطواحين. وعندما وصل إلى دمشق اعتقل بتهمة الخيانة، لكن الملك عبد الله توسط له. في صفد نزل مطر لاتذكر أميرة أنها رأت مثله. لاتستطيع أن ترى الطريق من النافذة! عندئذ قال أبوها: هيا! سترحلون الآن وتعودون عندما تهدأ البلد! فرحت أميرة. ففي الأيام الأخيرة تساءلت هل ستعيش حتى تجتمع بقيس؟ وأين هو الآن؟ هل يقصفون بلده أيضا؟ حملت دفترها وتركت صفد.

بنجدات البالماخ التي وصلت إلى اليهود هجموا على مواقع القوة الجديدة وأخذوها منها. لكن الآخرين قاوموا. تحت المطر الشديد قاتلوا من بيت إلى بيت ومن غرفة إلى غرفة. قاتلوا حتى بالسلاح الأبيض.

في 12 أيار سقطت السرايا القديمة، وحارة الجورة، وحارة الأكراد، بيد اليهود. في الصفصاف قال الشيشكلي: بدأ اليهود هجومهم الأخير على صفد في الساعة التاسعة والربع من ليلة 9-10 أيار 1948 وأخذوا القلعة، فانسحب منها أفراد السرية الجديدة. وانسحب بعدهم سكان المدينة. في الساعة الثالثة وصلت برقية من اميل جميعان تعلن أنه بقي هو وهشام العظم. فأمرناه بالانسحاب.

انسحب المقاتلون إلى ميرون. استوقفهم الشيشكلي. لخص لهم سبب الهزيمة: انسحاب الفنيش ، توزيع السرية الجديدة غير المدربة على المواقع المتقدمة، انسحاب أهل صفد، راجمات دافيد ذات الصوت المرعب، المطر.

منذ أول أيار نزل بعض أهل صفد إلى ميرون. ينتظرون الهدوء كي يعودوا إلى بيوتهم! ميرون على منحدر جبل الجرمق، تطل فوق واديها على تلال الجليل الأعلى، قربها طريق صفد عكا. هل يرسل أبو أميرة عائلته إلى هناك في انتطار انتهاء المعارك؟ لا، موقع ميرون الجميل خطر! عند الفجر أخرج أسرته من صفد: روحوا إلى بنت جبيل! قالت أم أميرة: سآخذ بعض الثياب. رد زوجها: لماذا؟ ستبقون أسبوعا، أسبوعين ثم تعودون إلى البيت! الحي اليهودي صغير جدا في صفد، فهل يعقل أن تصبح صفد كلها يهودية؟ هل يعقل أن ينتصر الباطل ويهزم أهل البلاد وتفشل الجيوش العربية؟ سنسترد الجاعونة وعين الزيتون! هل كان مؤمنا في تلك البرهة بما يقول؟ أم أراد أن تنجو أسرته فتخرج من صفد في سرعة؟

غطت أم أميرة بسرعة الأرائك بالشراشف. أقفلت الخزائن، تفقدت المؤونة، رتبت البيت لغياب قد يمتد شهرا لاأكثر. ساعدتها أميرة. ثم نزلتا مع الأولاد من وادي الطواحين. حملوا فقط الضروري من الثياب. في آخر الوادي طريق مزفت، ركبوا منه شاحنة فيها أكثر من خمسين شخصا اتجهت بهم إلى بنت جبيل في لبنان.

بعد ليلة المطر التي لم تعرف صفد مثلها، بعد القصف وانسحاب ساري الفنيش، ترك أهل صفد البلد. خطأهم القاتل! انسحبوا عند الفجر. مع ذلك هذا موقت! لم تبدأ الجيوش العربية بعد المعركة!

افتقدت أسرة أميرة أشياءها وقت احتاجتها. قال يسار سأعود! عدّوا مايلزمكم! كان الناس يعودون إلى بيوتهم فيتناولون منها مايحتاجونه. أوصته أمه بما يجب أن يجلبه من البيت. دلّته إلى أمكنة الأشياء بدقة. سألته هل حفظها؟ استعادته ماأوصته. ومشى يسار مع أصحابه الشباب. أعمارهم بين الرابعة عشرة وبين السادسة عشرة. تفرقوا قبل الوصول إلى صفد. بقي يسار مع فتى واحد. عيّنا وقت اللقاء ليعودا معا. صعدا من وادي الطواحين. أخذ يسار الطريق إلى الحي العربي، وأخذ صاحبه الطريق في اتجاه الحي اليهودي. المدينة فارغة صامتة. لم يحتل اليهود المنطقة العربية بعد. لم يصدقوا أنها مهجورة؟ ينتظرون أن تتفجر الألغام الممكنة؟ فتح يسار الباب بالمفتاح، تناول مايحتاجه، أغلق الباب بالمفتاح، ونزل من وادي الطواحين إلى عين التينة. انتظر صاحبه. انتظره. وجد هناك بعض الفتيان الذين قصدوا بيوتهم مثله ليأتوا بما يلزم العائلة. أطعمهم أهل عين التينة وسقوهم. لكن يسارا لايستطيع الانتظار بعد. عاد إلى بنت جبيل ماشيا، يركب في الطريق أحيانا الدابة أو الشاحنة التي تتوقف له. أما صاحبه فلم يعد أبدا.

لو بقيت في صفد الكلية الاسكتلندية التي تعلم بالانكليزية وتخرج منها كثير من كبار رجال العرب، لدرس فيها يحيى، أخو أميرة. كان مدير الكلية مستر سنبل نشيطا ومحبوبا حتى عرفت الكلية باسمه. لكن الكلية نقلت بعد الحرب العالمية إلى حيفا.

انتقل يحيى من صفد إلى الكلية العربية في القدس ليكمل فيها دراسته، وقت انتقل قيس إلى المدرسة الثانوية في صفد. فلم يعرفه قيس إلا على حافة العطل. يحيى أكبر من أخيه يسار. وقت أغلقت الكلية العربية في القدس، عاد يحيى إلى صفد. وأصبح منذ وصل وسط مجموعات الشباب التي يدربها الضابط السوري إحسان كم ألماظ.

كأهل مدينته، وقع في هوى إحسان! شاب سوري ترك المجد الممكن والحب الممكن في دمشق، وأتى ليدافع عن صفد. أشقر ورشيق، متحمس وذكي، مخلص ودمث، ودمه على كفه. يحاول أن يجعل من شباب صفد فرقة في جيش. إلى الأمام سر، إلى الوراء در. طبعا، يجب أن يتعلموا النظام والتنفيذ! لايكفي حب الوطن! الضرورة أن تملكوا المهارة في الدفاع عنه! يقابلنا جيش يهودي. يجب أن ننتقل من أسلوب فرق متطوعة إلى أسلوب جيش منظم! حقق ياإحسان حلمك في الفسحة الباقية بين المناوشات وبين المعركة الأخيرة! آه، لو يستطيع أن يمدّ الزمن!

عندما استعاد الرجال الذين نظمهم إحسان كم ألماظ قلعة صفد زغردت له النساء. تخاطفته البيوت وفتحت له وللسوريين الذين جاؤوا معه. مايزال بيت الحاج عيسى جديدا يرصف بالحجر. قدموه لإحسان. فنزل فيه مع السوريين. تصيب القذائف اليهودية البيت فيعاد نقش الحجارة المخربة بالإزميل! اندفع أهل صفد إلى إحسان. وثبّتهم إحسان في البلد!

بقي إحسان كم ألماظ في صفد عشرة أشهر تقريبا. رافقه يحيى في آخرها فقط. ساري الفنيش خرب كل شيء! منذ جاء مع سريته بدأ صدامه مع إحسان. احتل ساري الفنيش "المنزل"، نشر سريته فيه وفرش أسلحته. بدا كحاكم عام. لايتحمله يحيى! أتى ليخدم المدينة أم ليحكمها؟ لماذا عينه الشيشكلي قائدا لحامية صفد؟ فرض عليه؟ في قرار التقسيم صفد في القسم اليهودي. صفد عاصمة الجليل الأعلى، التي تبعد عن الحدود الشمالية 29 كم مترا فقط، صفد التي تحكم قلعتها الطريق بين دمشق وعكا، فيها حي واحد يهودي وبقية أحيائها عربية، تضم إلى القسم اليهودي من خريطة التقسيم؟! لليهود الغرباء الذين أتوا من البحر؟! أي ظلم! فليهب أصحاب قرار التقسيم بلادهم لليهود إذا أرادوا! لايملكون أن يهبوهم بلادنا! اهدأ يايحيى! أهدأ؟ أهل البلاد كلهم مثلي! العرب كلهم يفكرون كما أفكر! لكن يبدو أن بعض العرب سينفذ قرار التقسيم ويسلم صفد لليهود! اسكت يايحيى! أسكت؟ لماذا يمنع ساري الفنيش إذن إحسان كم ألماظ من الهجوم على المراكز اليهودية؟ في الوقت المناسب تماما، لاقبله ولابعده، يكون الهجوم! ينتظر ساري الفنيش أن تصل النجدات إلى اليهود!

في ذلك اليوم رفع ساري الفنيش مسدسه على إحسان كم ألماظ! وقال إحسان: "على صفد السلام!" وخرج من المدينة. يعرف إحسان تعلق أهل صفد به، وأثر انسحابه منها عليهم. لكن ساري الفنيش لم يترك له مخرجا. خلال إقامته في صفد استطلع إحسان المستعمرات الصهيونية. صادق الضباط الإنكليز. ركب معهم المصفحات وتسرب معهم حولها. كان مركز البلد. تفرج عليه الأطفال عندما "ضرب" له الضباط الإنكليز المارون به التحية! وعندما سألت فتاة: من هذا الأشقر الذي يحييه الإنكليز، التفتت إليها النساء وسألنها هل تعيش فوق الأرض أم تحتها!

نزل إحسان كم ألماظ إلى الصفصاف، مقر قيادة جيش الإنقاذ، غاضبا وحزينا. رآه أهل الصفصاف من مطلهم على التل محاطا بشباب صفد الذين يحاولون أن يستعيدوه. عرفوا ماكان بينه وبين ساري الفنيش فساروا معه عبر وادي الطواحين. انشغل أهل الصفصاف بتأمين البيوت للضيوف. ونزل إحسان في بيت قاسم، ومعه مرافقاه. في الليل سأله قاسم: ماالخبر؟ قاسم من رجال صفد الذين دربهم إحسان كم ألماظ. مدرس في المدرسة الثانوية التي تقع قرب المستشفى، على بعد كيلومتر تقريبا من "المنزل". روى إحسان لقاسم أنه اختلف مع ساري الفنيش قائد السرية الأردنية. منعني من الهجوم على المراكز اليهودية. هددني بالمسدس! منعني عمليا من البقاء في صفد! سيسلم صفد لليهود قبل 15 أيار! لينفذ مخطط التقسيم! لاأمل الآن إلا في الهجوم من خارج صفد. لذلك سأقترح على أديب الشيشكلي أن يجهزني بسريتين للهجوم على صفد من خارجها. سأستعين بدمشق. سأنزل إليها كأني في إجازة!

لايوجد بيت لم يدخل إليه إحسان في صفد! أقام بين الناس. ساري الفنيش أتى كحاكم عسكري. ألا يلاحظ المسؤولون العسكريون في جيش الإنقاذ هذه العلاقات بين المدينة والكتيبة التي وضعت للدفاع عنها؟ يلاحظونها ياإحسان، ولكن!..

رافق قاسم إحسان كم ألماظ إلى مقر الشيشكلي. قبو واسع سقفه عقد. الشيشكلي غارق في حديث مع شوكت شقير قائد القوات اللبنانية. ضرب إحسان بقدمه الأرض في تحية عسكرية. التفت إليه الشيشكلي ورحب به.

في الصفصاف، التي سماها الرومان صفصوفا، انتظر يحيى مع شباب صفد إحسان كم ألماظ ماشين بين المدرسة الابتدائية والمدرسة والنبع، متأملين أشجار الزيتون والفواكه. يأملون أن يحل الشيشكلي المشكلة كما يريد إحسان. لكن العقل ليس سيد الكون، وليس الخير سيده. تجري الدنيا في مسار لانريده، لانوافق عليه، كأنها مقدرة علينا. لا! كل مانراه صنعه الإنسان. لكننا لسنا نحن ذلك الإنسان. نحن الآخر الذي لاوزن له الآن، ولاكلمة له! كيف لانكون ذوي كلمة ياإحسان وهذه بلدنا ونحن نعرف مايفيدها ومايضرها؟ بلدكم لكنكم لاتملكونها إلا بمقدار. تملكها القوى الأخرى التي تستنجدون بها! العرب! ومن هم العرب اليوم؟ نحن وأنتم؟ أم قادة وملوك لايبالي بعضهم بفلسطين؟ آه، يقول ذلك إحسان كم ألماظ المطرود من صفد! يعزي يحيى الذي لم يهزم في معركة مع ساري الفنيش! سيرتب الشيشكلي الهجوم من خارج صفد! سيقصف المراكز اليهودية في التاسع وفي العاشر من أيار من خارج صفد! لكن ذلك سيكون متأخرا! سينفذ ساري الفنيش مااستشفه إحسان كم ألماظ!

وصلت سيارة شيفرو قديمة إلى الصفصاف. من؟ رجل يقول إنه صديق من أصدقاء إحسان كم ألماظ، يسأل عنه. يقول، وصل خبر إلى أمه في الشام: قتل إحسان! طمئنوه! لم يقتل! حي! نادوا إحسانا ليراه بعينيه! هاهو! عانقه إحسان. طمأنه: اذهب وسألحقك فيما بعد إلى الشام! سأنزل إلى دمشق في إجازة! وقف يحيى مع شباب صفد ينظر إليه. وشعر بأن شرخا في قلبه انفتح. كيف لم يخطر له حتى الآن أن إحسان كم ألماظ يمكن أن يقتل؟ لم يقتل بعد، لكنه سيقتل. مثله لايمكن إلا أن يقتل. في تلك البرهة تماما فهم يحيى أن صفد في خطر!

ماتزال مواقع العرب في صفد قوية. لهم مركز البوليس، "تيغرت" صفد، البناء ذو الموقع الستراتيجي على جبل كنعان شرقا خارج المدينة. و"المنزل" الذي كان لسكن الطلاب الغرباء واحتله ساري الفنيش وكتيبته. والسرايا الجديدة في وسط البلد بين الأحياء العربية وبين الحي اليهودي. والقلعة المرتفعة التي تتوسط البلد وتطل عليها كلها، وحولها أشجار الصنوبر وفيها بئر تكفي البلد كلها، وتحيط بها فنادق سياحية عربية ويهودية. في يد العرب الأبنية الستراتيجية في صفد: فندق رزق، بناية صالح عبد الغني، بناية فؤاد الخولي! من صفد تطل على بحيرة طبرية وترى الطريق إلى روش بينا! ولكن من يدافع عن هذه المواقع؟! من يقود المدينة؟ لدى العرب أقل مما لدى اليهود من الأسلحة. صفد مطوقة، لاطريق إليها إلا من وادي الطواحين. لكن أهلها ثابتون فيها. الإنسان حاسم في المعركة! فلماذا تسلم إلى ساري الفنيش ويخرج إحسان منها؟!

نزل يحيى مرات إلى الصفصاف بعد ذلك اليوم. الصفصاف مركز حربي وسياسي يعود إليه أهل صفد. كان علي رضا النحوي مرة متصرفا لمدينة حماة. عندما سمع أن أكرم الحوراني وصل إلى الصفصاف نزل مع آل النحوي ليسلموا عليه. نزلوا من الطريق الخطرة المتعرجة. سلّموا عليه ودعوه إلى صفد مع أصحابه. لم يكن يحيى منهم. لايؤهله عمره لذلك. لكنه الوحيد من أسرته الكبيرة الذي سيعيش في الصفصاف في أهم أيامها.

خسر اليهود معارك صفد طوال الأسبوعين الأخيرين. رد العرب هجومهم. لكن المعارك ظلت مناوشات حتى سقوط حيفا. في ليلة الحسم الأخيرة أظهر اليهود قوتهم كلها، ظهرت النجدات التي وصلت إليهم مسلحة ومجهزة بذخائرها. وصل البالماخ إلى صفد بعد سقوط حيفا. قاده يغال آلون ونفذ عملية يفتاح. لن يتركوا للعرب صفد التي تحكم الطرق بين الساحل والجليل الشمالي والجليل الشرقي! لكنهم لن يأخذوها بسهولة! سيدفعون ثمانمائة قتيل، خمس قواتهم تقريبا، ثمن احتلال صفد! سيقاتلهم المتطوعون السوريون في مركز البوليس من طابق إلى طابق ثم من غرفة إلى غرفة!

كان أهل صفد قد جمعوا ثمن أسلحة وكلفوا صبحي الخضرا بشرائها. عشية سقوط صفد وصل صبحي الخضرا إلى الصفصاف مع الأسلحة التي اشتراها! عشية سقوط صفد وصل مئتا شخص من القرى المجاورة إلى صفد! وصلت من لبنان سرية المتطوعين الذين لايعرفون استعمال السلاح ووزعهم ساري الفنيش في الليلة نفسها على المراكز الأمامية! عشية سقوط صفد نزل اثنان من اللجنة القومية في صفد ليطلبا من الشيشكلي أسلحة ونجدة! عشية سقوط صفد وصل إلى الصفصاف فؤاد الخولي مع أسلحة وأموال! عشية سقوط صفد وصل المفتي إلى صور، قادما مع أسلحة ليعلن الدولة العربية من صفد! أرسل رجاله من بنت جبيل إلى الصفصاف. في الصفصاف رأى رجال المفتي عند الفجر، ورأى فؤاد الخولي، النازحين من صفد. سقطت! صفد سقطت! ياناس، سـقـطـت!

أذهلت المفاجأة قرى قضاء صفد فنزحوا خلف أهلها. إلى لبنان! قفوا! من يوقف جموعا يطاردها سقوط المدن العربية، مذابح القرى، وأصوات المستغيثين؟! لايعرف هؤلاء الشبعانون مذاق التشرد. لايعرف أصحاب البيوت والبيادر والحقول طعم النوم في الخيام والوقوف في الصف في انتظار الخبز! لايعرف المكتفون أن فقد المدن والأرض يعني فقد المكان الطبقي والاجتماعي والاقتصادي! أصبح مجتمع متماسك منتج ميسور مجموعات من لاجئين! قفوا! لاتتركوا رزقكم! في صعوبة انتزع الشيشكلي بعض الأسلحة من المتطوعين الذين خرجوا من صفد. من لم يخرج من قريته طرده اليهود.

لكن اليهود لم يتقدموا خارج صفد. رجع أهل الصفصاف من بنت جبيل إليها وأنشأوا مع السوريين مراكز دفاعية جديدة. من بنت جبيل رحل أهل صفد فيما بعد إلى دمشق. ولكن أين الفتى يحيى؟ من رآه! تسألون عنه؟ هرب من أهله ورجع إلى الصفصاف! أنتم أهله؟ اتركوه مع الشباب يدافع عما بقي من البلاد!

لماذا رجع؟ ليشم هواء صفد من الصفصاف؟ الصفصاف في الشمال الغربي من صفد، على بعد كيلومترين من قرية الجشّ، في شمال جبل الجرمق. على خط انحدار المياه بين الأودية إلى سهل الحولة وإلى بحيرة طبريا. في وسط القرية جامع وبعض الدكاكين ومدرسة ابتدائية للبنين. سكان الصفصاف أقل من ألف شخص! فماذا يستهوي يحيى فيها؟ يستهويه أنها المركز الحربي، وستبقى كذلك من 15 أيار إلى تشرين الأول. سيبقى يحيى فيها مع المسلحين حتى يومها الأخير!

جرت الحياة في الصفصاف كماء النهر. كأن الحرب ليست على الباب. حصد الناس القمح وبدأوا بقطف الزيتون وعصره. رتب غسان جديد المراكز الدفاعية. غسان جديد قائد المنطقة بعد سقوط صفد. معه جودت الأتاسي. معهما ضباط بعثيون وضباط قوميون سوريون وآخرون. معهم متطوعون فلسطينيون من أهالي القرى التي سقطت. رتبت القيادة قوائم بأسماء المتطوعين المدافعين عن الصفصاف. دربتهم على الأسلحة ووزعتهم على المواقع. مواقع الدفاع محصنة في شرق البلد. زوجة غسان جديد معه، تعيش بين أهل القرية وترقص الدبكة في حفلاتهم. محبوبة مثل زوجها. بعد التدريب وبعد الشغل ينام أهل الصفصاف ملء عيونهم. يصطنعون ذلك؟ أم هي قوة من قرر ألا ينسحب؟ قوة من تلقى الضربة الكبرى ولم يعد يخاف شيئا؟ سقطت حيفا ويافا وعكا وصفد فأية مصيبة أكبر من ذلك؟ يدفع الغضب إلى الجرأة؟ ويدفع إليها التجمع الصلب الذي رعاه غسان جديد وجودت الأتاسي والسوريون. تزوج شابان وفي الصفصاف عرس! فليكن كمعركة كسبها المقاومون! دبكت زوجة غسان جديد مع المحتفلين بالعرس. لم تكن مقاتلة لكنها كانت تجلس إلى جانب النساء وهن يخبزن، تمشي معهن إلى البيدر، وتحمل جرة الماء. تثبّتهن!

أتى إلى الصفصاف الرجال المسلحون من القرى المجاورة. معهم أسلحتهم. سيكون منهم نصف القتلى في معركة الصفصاف الأخيرة. السوريون معهم. كلهم ينتظر المعركة! لايستطيعون الهجوم. لكنهم قرروا الدفاع عن أواخر المواقع الفلسطينية، عن البوابة إلى لبنان!

لم تكن ميرون قد سقطت لكن اليهود قرروا احتلال قرية الصفصاف وإغلاق المنطقة. في يوم 28 تشرين الأول في الساعة الرابعة والنصف صباحا قصفت طائرتان إسرائيليتان المواقع العربية من ترشيحا إلى الصفصاف. هاجمت فصيلتا مصفحات وسرية مجنزرات من شيفع الصفصاف. لكن اليهود لم يتقدموا مترا! استمات العرب في الدفاع عن الصفصاف. وقف اليهود عاجزين عند الجبهة الشرقية. استداروا وأتوا من الجنوب. فواجهتهم المقاومة نفسها. عندئذ أطفأوا أنوار آلياتهم وساروا غرب الطريق في السهل وأتوا من خلف المدافعين عن الصفصاف. وفي الوقت نفسه نزلت كتيبة من بيت جن في اتجاه الصفصاف. لم يبق للمقاتلين العرب وبقايا جيش الإنقاذ إلا الانسحاب إلى لبنان! هاأنت يايحيى شاهد من الشهود على سقوط قرية عربية! تفرج عليها جيدا! احفظها! سجل كل تفصيل من تفاصيلها! لأن اليهود سينسفونها ويشيدون في مكانها مستعمرة يسمونها صفصوفا!

سقطت قرية الصفصاف في الشهر العاشر. قاومت طول الليل. ردت وجبات من المهاجمين اليهود. في الصباح انسحب المسلحون منها إلى لبنان. وانسحب معهم من بقي من المنسحبين من ميرون التي هاجمتها قوات يفتاح في أواخر أيار لكنها لم تسقط إلا بعد هجوم الطائرات الإسرائيلية في 28 تشرين الأول ومقتل أكثر السرية العربية المدافعة عنها. بقي في القرية الأولاد والنساء والشيوخ، والقتلى السوريون والفلسطينيون. سقطت الصفصاف.

دخل اليهود إلى الصفصاف في الصباح. في ضوء النهار رأوا قتلاهم على الأرض أمام مراكز الدفاع عن القرية! جمعوا أهل القرية، انتقوا منهم الشباب ابتداء من سن الثانية عشرة من العمر. صفّوهم قرب جدار. تقدمت جندية معها ستن، ورشّتهم. مشت قرب القتلى وتفقدتهم. رشت من رأته يتحرك. ثم انتقي من أهل الصفصاف أولاد دون الثانية عشرة. قيدهم اليهود وأوقفوهم وسط الطريق. مرت مجنزة فوقهم. تصرخون ياأهل الصفصاف؟ تنوحون؟ ابكوا موتاكم! ثمن قتلانا!.. احبسوهم وامنعوا عنهم الطعام والماء! في الصفصاف نبع الماء في المغارة، عين ينزل إليها بدرج، يجر الماء منها بموتور إلى البلد. رمي القتلى في تلك المغارة. ثم حفر لهم قبر جماعي. خذوهم، ادفنوهم! عدّهم العجوز الذي دفنهم: سبعون قتيلا.

حبس اليهود من بقي حيا من سكان القرية في المكان الذي كان مركز القيادة السورية. لاطعام، ولاماء سوى ماء الزيتون المرّ! في اليوم الرابع فتح عليهم الباب مردخاي رئيس بلدية روشبينا. معه لهم سيارة محملة بالطعام. قال لهم: نحن جيرانكم! يجب أن نعيش معا في سلام.. ربما وصلت قواتنا في هذه اللحظة إلى الشام.. لم يبق لنا إلا التعايش معا. يمكنكم أن تخرجوا..

التعايش مع من؟ مع الغرباء الذين أتوا من بلاد بعيدة عن فلسطين؟ بعد عقود سيكتب الأمريكي اليهودي ليون اوريس عن الشباب الذين جندتهم الصهيونية ليحتلوا فلسطين، وسيجعل حرق القرى العربية ونسفها وهي نائمة كسعسع أو صاحية كالصفصاف، كمهمة إلهية تهيأ في طقوس المعسكرات بعد خروف مشوي وقهوة عربية وعزف قيثارة وعناق. ربما كانت المجندة التي رشّت من توهمته لازال حيا بين قتلى الصفصاف هي كيتي نفسها! ربما كان آري هو آمر المصفحة التي دعست أولاد الصفصاف، أو التي ستدعس سيارة مدنية في جنوب لبنان بعد عقود من الزمن! "ملأ آري بعد الإفطار في الكيبوتز، كيسه بالشراب والمأكولات. ثم حمل مدفعه الرشاش ومخازن الذخيرة. كان قد قرر أن عليه في لحظات الفجر الاولى أن يخترق الجبل قبل الآخرين والطقس مايزال باردا. كان الهواء لاذعا. أما كيتي فملأتها لهفة المغامرة. انحرفا عن الجبل واتجها إلى قرية دبورية العربية التي تقع في عكس اتجاه مستعمرة بيت ألونيم. ثم سارا في درب ضيق. وبعد دقائق قليلة استطاعا أن يتبينا على بعد كيلومترات كثيرة مدينة الناصرة التي تهجع بين التلال. كان الهواء مايزال باردا. لكنهما تقدما بسرعة إلى الأمام. كانت كيتي تدرك تماما أن مارأته حتى تلك البرهة مجرد خدعة بصرية لأن جبل طابور يرتفع أكثر من 600 مترا. يبدو أن اليوم سيكون طويلا، وأصبحت قرية دبورية أكثر صغرا كلما تقدما. وبدت كأنها شيء غير واقعي كلما توغلا في البعد عنها".

سيرسم اوريس معسكرا دنيويا وإلهيا! فالنظام الداخلي للخدمة في البالماخ يوجه النداء التالي: "أيها الشباب والشابات تجنبوا الخجل والحشمة. أيتها النساء اليهوديات الفلسطينيات ضاجعن من يحبكم، وإلى الأمام!" لذلك كانت "يوردانا وداوود متعانقين بقوة في حلم سعيد. في الرابعة فجرا قدمت لكل واحد حصته من الخروف المشوي مع كأس من القهوة العربية الحارة. وقد كرموا كيتي بأول صحن. وعندها هدأ تقريبا صخب الرقص والموسيقى، لكن بقي الكثيرون من المتعانقين مضطجعين. كان لحم الخروف المشوي رائعا. في هذه اللحظة كان يوهان يواصل العزف على الفلوت بلحن أغنية قديمة قدم الأرض، وفتاة من مواليد اليمن البعيدة تغني أحد مزامير داوود وكأن صوتها ينضح بالشجن والسر اليهودي الآسر. وفي ضوء النار التي تخبو طافت عينا كيتي بالتدريج على وجوه الحاضرين.

ساءلت نفسها: أي جيش هذا الذي لايلبس ملابس موحدة ولايحمل رتبا؟ أي جيش هو هذا الذي تقاتل فيه النساء بالبندقية والحربة إلى جانب الرجال؟ من هؤلاء أسود يهودا الشباب؟ تطلعت بطرف عينيها إلى آري بن كنعان وأصيبت بقشعريرة، تماما كما لو أن هذا الإدراك صعقة كهربائية اخترقتها. وقالت لنفسها: هذا الجيش ليس جيش الناس العاديين. هؤلاء الموجودون هنا هم المحاربون اليهود القدماء. ماأكثر مابينهم من دان وروبين ويودا وأفراييم، ماأكثر مابينهم من شمشون وديبورا ويوآب وشاؤول. هذا جيش إسرائيل. وليس هناك في الأرض من قوة تستطيع أن تقف في وجهه لأن قوة الله في حوزته!"

قال رئيس بلدية روشبينا لمن بقي في الصفصاف حيا: ربما وصلت قواتنا في هذه البرهة إلى الشام ، ولم يبق إلا أن نعيش معا! توسط لهم ليخرجوا أحياء! وخرجوا إلى بنت جبيل! سيبحث كل منهم عن ولده! تسللوا مرات من بنت جبيل إلى بيوتهم، ورآهم اليهود يأخذون بعض أغراضهم من الصفصاف ويرحلون. فلينزحوا! لتكن الأرض دون سكان! نفذ البالماخ بالقتل والظلم "مهمة إلهية"؟

فتح سقوط الصفصاف الطريق إلى الناقورة. أخذ اليهود الجليل العربي كله وسدوا الطريق إلى لبنان. كان الجليل الشرقي قد سقط في 15 أيار. ابحث الآن يايحيى عن أهلك! سيدلك إليهم من رآهم يعبرون بنت جبيل! الحقهم إلى دمشق!





توقيع : sanaa


...je ne veux ni cadeau ..ni fleur..ni promesse
seulement
!!... le don de ton coeur
sanaa

الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:05 AM [ 22 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






- 12 -


نفذت إنكلترا خلال انتدابها على فلسطين وعد بلفور الذي اعتمدته دول الحلفاء في صك الانتداب: تجعل الدولة المنتدبة البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل خلق الوطن القومي اليهودي. اكتملت نواة دولة يهودية ذات مراكز مالية وعلمية وعسكرية. فحولت إنكلترا في 2 نيسان 1947 كدولة منتدبة، القضية الفلسطينية، إلى هيئة الأمم المتحدة. يسند اليهود أنهم من ضحايا النازية! وستظل من الأسرار التي يقتل أو يطارد كل من يكشفها، أن ليفي أشكول كان يدير مكتب فلسطين في برلين في أيام النازية! وأن فون ماندل شتاين، رئيس قسم الشؤون اليهودية في المخابرات النازية ساعد المنظمات الصهيونية في تنظيم معسكرات تربية وتثقيف للشباب اليهود تحضّرهم للعمل في فلسطين!

مع ذلك كان الضغط الأمريكي والإنكليزي أكثر من العطف على اليهود كضحايا، خلال بحث مسألة فلسطين في المؤسسة الدولية.

اجتمعت الهيئة العمومية في 28 نيسان وانتدبت لجنة تدرس مشكلة فلسطين. فرأت اللجنة مشروعين: الأول دولة اتحادية، والثاني دولتان عربية ويهودية. اختارت بالأكثرية الثاني. كيف يقبل العرب تقسيم بلادهم؟ ويتخلون عن مدنهم لدولة يهود غرباء العرب فيها أكثرية؟ عكا، حيفا، يافا، طبرية، صفد؟! في 29 تشرين الثاني 1947 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين. وخصصت لليهود الغرباء مع أنهم أقلية 57% من فلسطين، الساحل وأكثر الأراضي والمدن التي لاتزال عربية! كان يلزم للقرار ثلث الأصوات وكانت أصوات هايتي وليبريا والفيليبين هي المرجحة. ضغط هارفي فايرستون، صاحب مزارع المطاط في ليبريا على حكومتها، ووجه ترومان موظفيه الأمريكيين للضغط على المندوبين.

رغم ظلم قرار التقسيم، سينقل اليهود بالقوة يافا وعكا من المنطقة العربية في خريطة التقسيم إلى المنطقة اليهودية. ولن ينفذ الجزء الآخر من قرار التقسيم: دولة عربية فلسطينية! صاح حتى الأولاد العرب في مدارسهم: أي ظلم! سرق قرار التقسيم من العرب أراضيهم، وفرض دولة غريبة! ولكن هل يستطيعون أن يردوا ظلم الدول الكبرى؟!

اجتمع في فندق طانيوس في عاليه، مجلس جامعة الدول العربية. كانوا يمثلون بلادا استقل بعضها بعد الحرب العالمية الثانية، هشة لكنها تحمل خبرة مقاومة الاحتلال. وبعضها يرتبط بمعاهدات إنكليزية. تابعوا جميعا الاستيطان اليهودي في فلسطين خلال الانتداب الإنكليزي. ماجت بلادهم بالمظاهرات في كل سنة في ذكرى وعد بلفور. وصرخ فيها السياسيون وغير السياسيين إن غرس إسرائيل على حافة بلاد الشام، بين المشرق والمغرب، يقطع الوطن العربي إلى شطرين. يلبي حاجة بريطانيا إلى حماية قناة السويس والمشروع الصهيوني، لكنه للعرب جريمة لايمكن أن تسكت عليها الشعوب العربية. ستقاس وطنية السياسيين طوال نصف قرن بموقفهم من مسألة فلسطين، فلسطين التي رأى العرب بعيونهم كيف تنتزع منهم بالقوة. قال الناس: الدول العظمى متآمرة علينا! الأجانب! اجتمع رؤساء الوزراء العرب إذن ليبحثوا ماالعمل. وسيجتمعون طوال خمسين سنة قادمة لأن إسرائيل ستظل تهاجم البلاد العربية!

لكن المجتمعين الذين وحدهم خطر الدولة اليهودية، باعدت بينهم أوضاعهم المتباينة بين الاستقلال والمعاهدات الأجنبية، وطموحهم الشخصي. يستهوي الملك عبد الله مشروع سورية الكبرى الذي يخشاه القوتلي ويرفضه الشعب السوري لأنه يلحق سورية المستقلة بالعراق المربوط بمعاهدة إنكليزية. يرغب الملك بضم بقايا فلسطين إلى شرق الأردن. ويطمح المفتي أن يكون رئيس حكومة عموم فلسطين. لذلك سيتجدد التوجس بينه وبين القاوقجي الذي سيحارب بقوة مسلحة في بلد يفترض المفتي أنه رئيسه. سيخشى الملك المتطوعين المسلحين الذين سيعبرون بلاده. وسيتوجس القوتلي من اتفاق جيش الإنقاذ مع الملك ضده. وعندما ينتصر جيش الإنقاذ ستنتشر إشاعات عن طموحه إلى انقلاب عسكري وسيخشاه من يسنده. ماهذه القوة غير النظامية التي لاتلتزم بقرارات الهدنة وتعترض على نقص التموين والعتاد وتطلب أن تسلح كجيش نظامي ويفاوض قائدها الملك عبد الله ورئيس الجامعة العربية والملك فاروق ورؤساء الوزراء العرب؟! استنفدت مهمتها!

سافر القاوقجي في 19 تشرين الأول سنة 1947 مع عبد الرحمن عزام إلى دمشق واجتمع بالقوتلي ومردم وطه الهاشمي والفلسطينيين معين الماضي وعزة دروزة. قدر القاوقجي مايحتاجه من المتطوعين والأسلحة من كل بلد عربي. وعين معسكر لتدريب المتطوعين في قطنا. في 6 كانون الأول سنة 1947 بلغ اللواء اسماعيل صفوت والعميد طه الهاشمي، باسم جامعة الدول العربية، وباسم القوتلي، القاوقجي بأنه قائد المتطوعين. وألزموا الحاج أمين الحسيني بأن يقبل ذلك. أسس جيش الإنقاذ الذي يستطيع كقوة متطوعين أن يدافع عن القرى والمدن العربية قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين في 15 أيار يوم جلاء الإنكليز عن فلسطين! قائده العام اللواء اسماعيل صفوت مركزه قدسيا. في 8 كانون الأول 1947 تحرك فوج اليرموك بقيادة الرئيس أديب الشيشكلي من قطنا إلى بنت جبيل في لبنان، وغطاه هجوم العشائر على اليهود في الزوية والقنيطرة. وفي 29 كانون الثاني تحرك فوج حطين إلى فلسطين.

أغلق رجل من مئات الرجال الذين تطوعوا في جيش الإنقاذ الباب وتحدث طويلا مع زوجته. بدا ذلك الاجتماع بينهما لبنته ليلى الطالبة في المدرسة، ولأخيها معتصم طالب الطب، مختلفا عن "اجتماعات" أبيهما السابقة مع أمهما. كانت أمهما منور تصغر زوجها بهاء .لكنها تبدو حاكمة البيت. يبدو أن زوجها يدللها بذلك. ففي أول الشهر يضع راتبه في يدها. فيوجه كل طلب إليها. منها تأخذ ليلى ثمن دفاترها وكتبها. ومنها يتناول معتصم ثمن قسط الجامعة وثمن بطاقة السينما، ومنها يأخذ بهاء نفسه نفقته في المقهى.

يعرف الولدان العلاقة الخاصة بين أبيهما وأمهما التي تختلف عن العلاقات في بيوت الجيران حولهما. بين ليلى وبين أخيها عشر سنوات لم تنجب أمهما خلالها. ومع ذلك لم يتزوج أبوهما امرأة أخرى. قال لهما مرة في متعة إنها اشترت في صباها زوج جوارب بليرة ذهبية. كانت منور قد تجولت في بلاد الشام مع زوجها يوم كانت بلاد الشام في دولة واحدة. لكن زهوها بأنها مدللة ومحبوبة وقوية، كان منسوجا بحزن مكتوم ينفجر أحيانا. فاجأتها ليلى مرة أمام صندوق قديم من الجلد المغلف بالقماش، وهي باكية تغمر وجهها بقميص أبيض مطرز فيه بقع دماء. جفلت عندما فتحت ليلى عليها الباب. واضطرت أن تقول لها: قميص خالك! اخرجي! عادت ليلى إلى الصندوق وحدها وتفرجت على القميص المطرز ولمست بقع الدم. ألبست في خيالها الشاب الجميل الذي تراه في صورة معلقة على الحائط في إطار من الخشب القديم، قميصه الجميل. بدا وسيما وأنيقا. سألت ليلى أباها في ذلك المساء: كان خالي جميلا؟ كادت دموعه تنط. سألته: تحبه؟ رد: كما أحب أمك! وكان ذلك ذروة الحب! لماذا إذن يتفاديان الحديث عما يحبانه، ويظهران كأنهما يعيشان هذه الأيام فقط؟ فتضطر أن تجمع كالجاسوسة الصغيرة طيفا من هنا وطيفا من هناك؟ يوم حبست ليلى نفسها في الغرفة معلنة الإضراب عن الطعام لأن أمها منعتها من الذهاب وحدها إلى السينما في ذلك العمر، قال لها أبوها: أمك ليست مذنبة. ولكن لو كانت ذنوبها بحجم الجبال لغفرها أنها كانت توزع كل يوم ثمانية أرغفة على الجياع أيام السفر بر في بيروت. يوم كان الناس يبيعون بيوتهم ونساءهم بالخبز! وكان زملائي يكنزون الذهب والأراضي من بيع الخبز! باعت أمك حليها لتشتري مايلزمنا، كي توزع مجانا حصتي اليومية من الخبز!

أغلق بهاء ومنور عليهما الباب. ماذا يبحثان؟ أشار معتصم لليلى مبتسما أن تقترب من الباب لعلها تسمع حديثهما. فعبست: لاأتلصص على أحد! قال معتصم ساخرا: من طلب منك ذلك!

قالت منور لزوجها: لكن هذه الحرب لن تكون مثل حملة الترعة! ولست في ذلك العمر. هل تستطيع أن تتحملها؟ قال: لاأستطيع ألا أشترك فيها! لو بقي هنا لكان تعيسا ومذنبا. قال: أصحابي تطوعوا! سألته: إذن قد ترى أختي في عكا! رد: إذا قدر لي أن أكون قريبا من عكا. قالت في هدوء: سترد بعض دين فلسطين عليك! ابتسم! اشتغل في طبرية يوم كانت بلاد الشام دولة واحدة يخرج فيها من دمشق ويصل في اليوم نفسه إلى حيفا. عاش مع منور في بيت جميل على السور، يطل على بحيرة طبرية. رد: دينها لاأستطيع أن أفيه! أيقصد أنه أحبها في حيفا وتزوجها في طبرية؟

فتح الباب وخرجا. لم يقرأ ولداهما على وجهيهما فرحا ولاحزنا. جلسا على ديوان فوقه سجادة رقيقة طرية. قفزت ليلى وجلست قرب أبيها ومالت عليه بجسمها كله وعانقته. تقصد أن تظهر له أنها تحبه! كانت تمد نفسها من النافذة وتنتظر عودته. فإذا لمحته في أول الطريق ركضت لتلقاه. وكان يحمل لها كلما سافر إلى بيروت شيئا تحبه. قضبان قصب السكر، مربى الزهر، قبعة للشتاء، قفازين. ويأخذها إلى سوق علي باشا فتشم عبق الفواكه، وتستمتع بترتيبها الأنيق في صفين من الدكاكين، وتأكل تفاحة حمراء طيبة. وكان معتصم يدلل أمه ويبالغ في ذلك. فيرفع كفها إلى فمه ويقبلها. فتقول له ليلى: ألغيت تلك العادات منذ رحل العثمانيون! ستمر عقود من الزمن لتفهم أن القبلة على اليد ليست عبودية، فقد تغمر حتى القدم عندما يشف الحب!

قال أبو ليلى: اهتموا بأمكم في غيابي! تطوعت في جيش الإنقاذ الذي سيحارب في فلسطين. تجمع في فلسطين يهود من أنحاء العالم ليستوطنوها ويطردوا العرب منها. أهلها أهلنا. وهناك عشنا. هل أحب بيروت أكثر من حيفا؟ هل أحب دمشق أكثر من طبرية؟ لاأعتقد! لكن المسألة ليست فقط حبا وكرها. المسألة أن احتلال فلسطين سيكون دملا في قلب البلاد العربية. سنعاني منه حتى هنا في دمشق. لذلك تطوعت في جيش الإنقاذ الذي نظمته الجامعة العربية للمتطوعين. وقف معتصم: وأنا أيضا سأتطوع! دهش أبوه. لاتعرف الطرقات ولاالرمي. مع ذلك لو كنت متخرجا لكنت مفيدا كطبيب. ادرس وانجح! وماأكثر المعارك القادمة! جلس معتصم مجروحا. في هذا العمر يستطيع أن يقرر مصيره بنفسه! لكن هل يجرح أباه؟! أبدا! أبدا! قال أبو ليلى وهو يلف شعرها الناعم على أصابعه: هكذا كان جدك يلف شعر أمك الطويل على أصابعه. ثم نهض: لن أوقظكما في الفجر. سأقبلكما قبل أن تناما! سأعود كلما وجدت فرصة!

تقلبت ليلى زمنا في فراشها. وكذلك تقلب معتصم. لكنها غفت دون أن تشعر، ولم تصح عندما ركع أبوها قربها وتأملها وهي نائمة. ربط معتصم الساعة ولفها بمنشفة كيلا يبدو أنه قصد أن يستيقظ في الفجر. ودع أباه بعناق قوي وخرج معه إلى الطريق. مدت منور نفسها من النافذة. ومر في تلك البرهة رجل يسوق حمارا محملا بالقنب. لم توقد بعد الأفران! ولم تستطع أن تتابع زوجها في غبش الفجر. خرج بهاء من البيت مشرقا كما يخرج المؤمن بأنه ذاهب إلى عمل يملأ عمره. يوم ذهب إلى معركة الترعة كان ينفذ أمر أبيه. وكان يشعر بأنه يحارب حربا ليست حربه. لكنه الآن راجع إلى فلسطين التي أحبها، إلى القرى الخضراء التي عبرها، راجع إلى حياته الحلوة. ليدافع عن بلد مظلوم تكاتفت عليه الدول الكبرى ويهود العالم. وسيكون أمام اولئك. نعم، أمامهم! ماضاع حق خلفه مطالب! وهو أحد المطالبين بذلك الحق!

هل بكت منور في ذلك الفجر؟ مرة أخرى يخرج الأميرالاي اسماعيل إلى الحرب؟! لا، ذاك خرج إلى حرب اليمن التي لم يخترها ولم يوافق عليها وقرر أن يكون فيها مقتولا لاقاتلا! وهذه ليست الحرب العامة التي سيق فيها أخوها نوري إلى العراق ليحارب الإنكليز ففقد فيها! هذه حرب يخرج إليها زوجها راغبا! وهي أيضا راغبة في أن يدافع عن القرى والمدن التي عاشت فيها. سيرد بعد هذه السنوات الطويلة الظلم الذي سلب أباها قريته وبيته التي سرقها منه اليهود. بينها وبين اليهود الذين استوطنوا فلسطين ثأر! فعندما كبرت فهمت أنهم دمروا أسرتها وبددوها. وأنها كانت تفصيلا صغيرا من برنامجهم في أن يستعيدوا أرض الميعاد باسم ربهم القديم!

في غياب زوجها في فلسطين فكرت منور بالموت. لم تفكر به أبدا سابقا مع أنها رأت موت أبيها المحبوب. ثم أخيها المحبوب. وربما تمنت لو رأت موت أخيها المفقود أمامها، في حضن بلده لافي غربة عن البلد وغربة عن الحرب في العراق. لكن فتوتها وقوتها أبعدت الموت عن فكرها بعد كل موت رأته. خيل إليها أن الموت أخذ منها كل ضحاياه ولم يعد يجرؤ أن يدق بابها. لكنها في غياب زوجها فكرت: وإذا لم يعد؟ وخيل إليها أن ذلك حدث فلم تنم في تلك الليلة. قالت لتهدئ نفسها: يخرج كل إنسان من الحياة بطريقة خاصة. وقد يكون أفضلها الموت هناك! لكن ذلك لم يسعفها من الأرق. ماتزال ليلى تحتاجه. وهي؟ استعادته منذ رمت الطعام الذي طبخته في بحيرة طبرية للسمك. قالت له: لاأريد هذا الزواج! سأعود إلى بيت أهلي! فهم أنها فشلت في تحضير أول وجبة في حياتهما فتظاهر بالتعب وقال لها: سنبحث ذلك فيما بعد. ولن تنفذي إلا رغبتك. لكن لنأكل الآن لبنة وجبنا. لاأتحمل اليوم غيرها. ستكرر ليلى ذلك فيما بعد بشكل آخر. يوم يترك لها زوجها كومة من ورق السلق لتحشوه فيتمزق بين يديها. فتغضب وتترك له ورقة: لست ماهرة في التفصيل والخياطة! سيتغدى معها عند أمها منور ويتذكر الأيام التي كان فيها ضيفا دائما أيام الجمعة عند منور. وسيحرم على السلق الدخول إلى البيت!

كان بهاء أكبر من زوجته وعلى كل منهما أن يعبر كل تلك السنوات إلى الآخر. وكانت تشعر بأنها أقوى منه لأنها أصغر منه. ولأنه مفتون بها. ثم تبينت في بيروت أن النساء يهوينه وأنهن يدعونه إلى حفلات وسهرات. لكنها أبقته عاشقا يغار هو عليها لاهي عليه. انشغلت بابنها وبجاراتها. وماأحلى معشر أهل بيروت! وتجاهلت "بلورات" الصور السوداء التي وجدتها بين أمتعة التصوير التي استهوته. رأت فيها نساء عاريات الصدر، جميلات جدا. متى صورهن على تلك الزجاجات، وأين؟ لم تسأله أبدا. فاحترق بغمه. ويوم حمل ابنها إحدى تلك الصور التي وجدها في السقيفة بعد عقود من السنوات وسألها: ماهذا؟ قالت له في برود: كان أصحابنا يتركون أغراضهم عندنا عندما يرحلون كما تركنا أغراضنا عندهم عندما تنقلنا من مدينة إلى أخرى! بقي في ذاكرتها حبه فقط. لم يرفع صوته عليها في عمره. لم يحجب عنها زيارة رغبت بها. مع أنه كان يغار عليها حتى الألم. لمحته مرات يتبعها متخفيا. لمحته مرة في زاوية شارع بثوب شحاذ. ولم تذكر ذلك أبدا له. لكنها ابتسمت مرة وقالت له: رأيت اليوم مجنونا منبوش الشعر، يشبهك تماما! بعد تلك الملاحظة لم يتبعها متخفيا أبدا.

عاد من فلسطين بعد عشرين يوما. فوجئت واحمر وجهها. أتت حرب فلسطين كي تكشف حبها؟ قال لها: لدي يوم فقط. اليوم الثاني للطريق. تحدث عن شعوره بجمال بيته، وعن اكتشافه ليونة فراشه، واستمتع بنكهة الطعام. فتلفت ولداه إلى البيت الذي تعوداه ولحقا نظرته الجديدة. تصورت زوجته أنه سيغرق في النوم حتى الصباح التالي. لكنه بعد الاستحمام لم ينم. حاول أن يرفع ليلى كما كان يرفعها وهي صغيرة، مع أنها تكاد تكون في طوله. وعانق ابنه. تعشى معهم وانصرف لينام. لكن ولداه ناما والضوء مايزال مضاء في غرفته.

لم يصل إلى عكا! تنقل حيث طلبوا نجدات فإذا هو في محيط القدس. وفي كل زيارة من زياراته كانت منور تسمع تنقلاته. وكأنها تسير معه في ماسماه الناس حرب فلسطين. وتقرأ أوضاع الحرب من حماسته أو فتوره مع أنه كان حريصا على ملامحه. لكن الخيبة لاتخفى. ورأت أنه يكسب عمرا لم يكسبه أبدا من قبل في حياته العادية. الخطر يهدد العمر؟ الخطر يضيف إليه مسافات لاتقاس! حكى لها عن البرد الذي ارتجف فيه. عن الصداقة التي يستنبتها الخطر بين المجموعات. عن القهر كلما تدخل الإنكليز لأن اليهود يتراجعون. حكى لها عن الشجاعة التي تنسي الخوف وتوصل إلى النصر. لاتفهم المعارك التي خاضوها بمقاييس الحروب العادية التي تحسب العتاد والأسلحة. لأن تلك الحسابات لاتضيف الحب والحقد والجموح لاسترداد الأرض التي سرقها اليهود. قال لها: قوى كبرى ضدنا. أعطتهم دبابات وطائرات ومدافع ليس لدينا مثلها. ورسم لها صورة ملوك ورؤساء يخاف أحدهم الآخر، بعضهم يائس. فأحبت رياض الصلح لأنه أرسل للمتطوعين ذخائر وأسلحة ومابخل، وكرهت آخرين. وفي برهة قالت له وهو يحكي عن ترشيحا التي ضاعت واستردوها: أعرف اليهود. سيظلون يهاجمونها لأنهم سينفذون حدود دولتهم! كانت تضطرب كلما سقطت بلدة من البلاد التي يحكي عنها. تعرفها كلها. الناصرة؟ ياويلي! هناك تزوجت أختها زوجها الأول! وإلى هناك ذهب أخوها سعيد ليهرّب أخته من زوجها! بدا له أن الناصرة تسقط في تلك البرهة التي حكى لها عنها. مشت مع جميع القوات في الطرقات التي ذكرها. شهقت عندما ذكر طبرية، والقدس، ويافا، وترشيحا. اكتشف علاقتها بتلك القرى والمدن، التي ظن أنه يعرفها. كان لحيفا مكانها الخاص. ففي يوم سقوط حيفا لبست منور ثوبا أسود، ولم تأكل في ذلك اليوم لقمة، وغصت بالماء. خرجت من البيت واختفت حتى المساء.

فسر لها مرة لماذا يتوجس من مصير الحرب. قال: يخشى القوتلي أن ينفذ الملك عبد الله مشروع سورية الكبرى خلال حرب فلسطين. ويخشى الملك أن يكون السوريون قد اتفقوا مع السعوديين ولذلك طلب الملك سعود أن تحدد له منطقة في الأردن يدخل إليها. تصور أن السعوديين سيحتلون جنوب الأردن بينما تحتل سورية شماله. منذ البداية اتصل المفتي بالمتطوعين الفلسطينيين في معسكر قطنا وطلب منهم الفرار بأسلحتهم. وحول المفتي إليه بعض المساعدات التي خصصتها العراق والسعودية ومصر للمتطوعين. ويخشى الملك من حكومة يعلنها المفتي في فلسطين التي ينوي الملك أن يلحق بقاياها بالأردن.

رسمت منور في هواء غرفتها، على جدرانها، على طاولة طعامها، على بابها وثيابها، مسارات المتطوعين منذ بداياتها. وأوصلتهم على الجسور الموجودة والمقطوعة. عبرت معهم نهر الشريعة الذي تعرفه. يحتاجون الإذن لهم بالعبور؟ يحتاج الدفاع عن فلسطين إلى إذن؟!

نعم، يرتبط الملك بمعاهدة مع الإنكليز. ومع ذلك يجب أن تمر قواتنا في الأردن! جاء إلى دمشق في 30 كانون الثاني 1948 قائد الجيش الأردني اللواء عبد القادر الجندي. قال لدينا معاهدة مع الإنكليز. لذلك اتصلوا بنا لندبر دخولكم دون أن نغضب البريطانيين. نخبرهم مسبقا؟ من يضمن ألا ينقل الإنكليز الخبر لليهود؟ لذلك لم يخبرهم القاوقجي أن رتل المدفعية والإمدادات والمشاة تحرك في آذار 1948 من الضمير وقطنا إلا عندما وصل إلى درعا. اتصل من درعا باللواء عبد القادر الجندي فأخذه ليقابل الملك. قال له الملك إنه سيوحد سورية. سينقذ فلسطين ويضمها إلى شرق الأردن. وإنه يحتاج إلى مرفأ حيفا! وانتقد القوتلي لأنه ضد وحدة سورية. لذلك اتصل القاوقجي بالحرس الأردني على جسر اللنبي من وراء ظهر الملك وغلوب، فنصحوه أن يعبر الجسر في الثانية صباحا كقافلة أردنية. وعبره. قبل ذلك كان فوج المقدم صفا قد وصل إلى درعا في 21 كانون الثاني، ورفض الأردن عبوره. وبعد الاتصالات وافق شرط عبوره جسر دامية ليلا. مع ذلك احتجت بريطانيا وفكك البريطانيون جسر دامية. فانقطع التموين عن القوة التي عبرته.

تجاوزنا الأيام التي شوشنا فيها جماعة الحاج أمين. في 21 كانون الثاني 1948 طلب صفا من القاوقجي المفرزة الشركسية من قطنا لأن جماعات الحاج أمين تزعجه. فعبرت بالقوارب لأن نهر الأردن مرتفع وجسر دامية مفكك. وفي 27 كانون الثاني 1948 أعلمتنا الحكومة الأردنية بأنها لن تسمح إلا بمجموعات لاتثير الانتباه.

لكن هذا الوضع العام جانب فقط من الحرب. قال لها: أسلحتنا ألمانية وايطالية وفرنسية وإنكليزية. قد توجد ذخيرة لهذه ولاتوجد لتلك. نحارب دون ذخيرة لائقة في جبهة واسعة! لكنه لم يكن حزينا. كان يحارب. والنصر والهزيمة احتمالان متكافئان.

ظن أنه باح لزوجته بما في قلبه. لكنه انتقى التفاصيل التي حكاها لأولاده. فتحدث فقط عن المعارك بما فيها من نصر ومن هزيمة. وعن ضرورة التناسق بين الجبهة السياسية العربية وبين المقاتلين. بين القوات المتطوعة غير النظامية وبين الجيوش العربية. قال: لاتظنوا أن اليهود يستطيعون أن ينتصروا بآلاتهم فقط. بل بوحدة منظماتهم السياسية والعسكرية وبمساعدة العالم لهم. وقال لهم بتأن كأنه يترك وصية: يتدخل الجيش البريطاني دائما ليحمي اليهود كلما رآنا ننتصر عليهم. منع البريطانيون اتصال القرى العربية بحيفا وغيرها، فيسروا سقوطها. سهلوا نجدات اليهود. وحرسوا مستعمراتهم منا. عندما طاردناهم باتجاه زرعين - العفولة ظهرت الدبابات البريطانية وأوقفت الاشتباك فانسحب اليهود بحمايتهم. عندما اشتبك الشيشكلي مع اليهود في معركة جدين قرب ترشيحا ليشغلهم عن قوات صفوة، أنجد البريطانيون اليهود. كلما تضايق اليهود من قصفنا طلب البريطانيون وقف القصف لينقل اليهود جرحاهم وقتلاهم ويعيدوا ترتيب قواتهم ويطلبوا النجدة. تفرض الهدنة ليعيد اليهود ترتيب قواتهم ولتصلهم بواخر الأسلحة. تذكروا ذلك! لأن هذه الحرب ستكتب بشكل آخر. سيبالغ العرب بوضعهم الذي منع الانتصار فيها. وسيبالغ اليهود في انتصاراتهم ولن يذكروا هزائمهم. تذكري ياليلى، تذكر يامعتصم، أن أباكم هزمهم مرات وأرجعهم عن ترشيحا! واسترد منهم المالكية. واستعاد التلال التي احتلوها! سألته منور: تتحدث كأن الحرب انتهت وخسرناها! رد: لم تنته. ولن أقول خسرناها حتى يحدث ذلك. لكن تذكري أننا لن نخسرها لأننا لم نندفع فيها ولم ننتصر فيها. بل لأن سلاحا جديدا من الطائرات والدبابات وصل إلى اليهود. سلاحا موحدا لم نصادف مثله من قبل لديهم. ولأن العالم يفرض الهدنة وسيجعلها هدنة طويلة! ياليلى، يامعتصم، اكرهوا الإنكليز الذين صاغوا وعد بلفور ونفذوه! اكرهوا أمريكا التي تدافع عن سارقي فلسطين! لكن ميزوا دائما بين الشعوب وبين حكامها! أنت ياليلى أصغر من أخيك لذلك أقول لك: لاتصدقي أن فلسطين يهودية إذا كرروا ذلك ذات يوم! كانت في فلسطين مستوطنات عسكرية لكن المدن والقرى بقيت عربية حتى هجموا عليها في هذه الحرب وهجّروا أهلها. لجأ سكان القدس إلى بلاد فلسطين التي لم تسقط بعد!

كانت معركة القدس جرحا في قلبه. وخيل لزوجته وهي تضع كفها على صدره تلك الليلة أنها تلمس ذلك الجرح. وأرعشها نبض قلبه السريع. شعرت أن دير ياسين والقسطل ليست علامة فقط في الحرب بل ندبة في روحه. أفقدته الفرح بانتصارات بعدها فصار يرويها كحدث يجب أن تعرفه. ولاحظت تحت حماسته نزفا هادئا لايتوقف. توجه فوج من فوجين أرسلتهما القيادة العامة إلى القدس. أكدت توصية رياض الصلح وجميل مردم: يجب ألا تسقط القدس! مع أن يافا كانت تطلب النجدة.. لكن الهدنة قررت ليرتب اليهود قواتهم ويفكوا الحصار عنهم. بعد الهدنة هجموا فورا على التلال المحيطة بباب الواد. فأرسلنا إليها السرية اليمنية ومن بقي من الشراكسة، واستقدمت المدفعية. استعدنا المرتفعات والأحراش، صدنا مصفحات يهودية. ومنعنا سقوط القدس قبل دخول الجيوش العربية! حاول اليهود العودة فحمينا باب الواد بسرية من المتطوعين الأردنيين وبالمسلحين الفلسطينيين. هجم اليهود على اللطرون وأخرجناهم منها! خيل لمنور أنها ترى بريق النار على وجه زوجها المتوهج. كان منتصرا! لكنها استنتجت أن الهزائم ليست له فقط موقتة. بل موقتة أيضا لليهود الذين يملكون البحر والسفن التي تحمل لهم السلاح والمتطوعين! وكادت تقول له فيما بعد وهو يروي هزيمته: كنت أعرف أن الحالة ستصبح سيئة في القدس! قال: حاول اليهود أن يصلوا تل أبيب بالقدس باحتلال قرية القسطل. فوصلنا نجدة إلى القدس. لكن القسطل كانت قد سقطت قبيل وصولنا. استشهد عبد القادر الحسيني وتشتت المقاتلون الفلسطينيون. حاولنا استعادتها. أخرجنااليهود منها وأعدنا القوات الفلسطينية إليها. ولكن.. ولكن..

كان متطوعو جيش الإنقاذ ينفذون أمر القيادة بالانسحاب، لأن الجيوش العربية صارت مسؤولة عن الدفاع عن فلسطين، عندما طلب الأردنيون أن ينجدهم جيش الإنقاذ في القدس. وصلت برقيات تشبه نداء امرأة عربية إلى المعتصم: اليهود يقصفون الحرم. واأسفاه على المدينة المقدسة! فاستعاد القاوقجي المدفعية المنسحبة إلى نابلس، وفوج غسان جديد والمتطوعين الأردنيين والمسلحين الفلسطينيين. استخدم عفيف البزري مدفعيته، وتقدم المتطوعون إلى الشيخ جراح.

لاتحتاج منور إلى ترتيب التفاصيل. أمسكت بالنتيجة. قالت له كأنها تستعيد كلماته التي قالها وقت كان الانتصار والهزيمة متكافئين، وكان لديه أمل في التموين والأسلحة: لكنكم أثبتم أن السلاح ليس وحده القوة الفاصلة! فرد في ألم: وأثبتوا لنا أنه القوة الفاصلة! وقال كأنه يتذوق المرارة ليعذب نفسه: منعنا اليهود من القدس. لكننا نجدة لاتستطيع أن تبقى! انسحبنا فهجم اليهود على القسطل وذبحوا أهل دير ياسين! دير ياسين عقدت اتفاقا مع اليهود بعد انتشار الذعر وإجلاء العرب عن المدخل الغربي إلى القدس. لكن الهاغاناة وقت شنت الهجوم الكبير لتحرير الطريق إلى القدس قررت الهجوم على دير ياسين.

في زياراته كان بهاء يعود إلى القدس بأحاديثه. وستظل دير ياسين جرحا مفتوحا يستعيدها العرب ليبينوا وحشية الصهيونية. فهمت منور أن دير ياسين والقسطل صارت كالأوجاع المزمنة التي يحركها البرد والحر. "القسطل طريق القدس! استعادها عبد القادر الحسيني. لكنه قتل فصدم رفاقه وانسحبوا. فسقطت مرة ثانية في 9/4/1948 في الليلة نفسها سقطت دير ياسين! حاصروها في الليل وهجموا عليها في الفجر. دافعت عن نفسها. عندما قتل محمد الحاج عايش زغردت أمه حلوة زيدان، فنزل والده فقتل. نزلت حلوة زيدان وقتلت. ذبحوا بعض أهلها وأخذوا الباقين أسرى فطافوا بهم حفاة في شوارع القدس في موكب نصر وسط هتافات الجماهير اليهودية، ثم أعادوهم إلى القرية وقتلوهم. عدد الضحايا 245 شخصا. قتل اليهود أهل القرية". في تلك الزيارة قال لولديه: "ستقدم لكم صور المقاومين العرب مغطاة بكوفيات. وستقدم صور اليهود بملابس عسكرية مرتبة. فلاتظنوا أن المقاومين العرب حملوا بارودة جاهلين بفنون الحرب. عبد القادر الحسيني تخرج من الجامعة الأميركية، اشترك في ثورة 1936، لجأ إلى العراق، تخرج من الكلية العسكرية، واشترك في ثورة الكيلاني، ترك العراق إلى ايران مشيا، اعتقل في بغداد سنة 1944 وسجن ثم نفي".

وقت خرج بهاء من أحزانه المكتومة أمام أولاده، وأخفاها بوصية جديدة تؤكد وصاياه الماضية فقال لهم: اكرهوا الإنكليز لكن لاتخلطوا بين الحكومات وشعوبها، قالت له: بكرت على الوصايا! قد تجعلك الانتصارات تغير رأيك! رد في هدوء: سقطت أكثر المدن العربية، حيفا ويافا وعكا وصفد وطبرية! نحن الآن نقاتل في الجليل! نقاتل كيلا يسقط الجليل الخصب، ذو التلال والمرتفعات، المتصل بسورية ولبنان، المشرف على منبسطات فلسطين. ويقاتلنا اليهود كي يحتلوه كله! يبدو لي أننا في خطنا الأخير!

فهمت أساه. وبدت لها روحه مشروخة كروح أخيها سعيد يوم باح له رفيق أخيه نوري: كنت مع نوري في العراق. جرحنا معا. ثم رأيته مقتولا! منذ تلك البرهة لم يعد الأمل حلما يجدلون خيوطه العنكبوتية كأنها حبال المراسي! نهضت منور. ترفض هذه الهزيمة! قالت لزوجها: ليس التقدم من الخط الأخير إلى الخط الأول معجزة! قلت إن الأسلحة لاتحارب وحدها. التفت إليها: لكن الرجال لايحاربون دون أسلحة! أيحدثها عن برقية محمد صفا الغاضبة إلى المفتش العام ورئيسيّ الجمهورية اللبنانية والسورية.. "لاعتاد نستغرب تسليمكم أرواح الناس وأنتم وراء مكاتبكم.. تفضلوا وأرونا عبقريتكم.. البرقية باسم جنودي وباسم خمسين ألف فلسطيني في منطقتي..ألم تتعلموا من مأساة الناصرة؟ إذا لم تصل هذه البرقية إلى رئيسيّ الجمهورية نشرت مضمونها في الجرائد.."

في الحمّام وهو مستسلم للماء الدافئ المنهمر عليه، بدا له أنه بالغ في التعبير عن أساه أمام منور. قال لها عندما خرج: لاتفكري بكل ماقلته كأنه حقيقة مطلقة. سألته: هذا تأثير الماء عليك، أم تريد أن أطمئن عليك؟ ابتسم. لايمكن أن يراوغ أمام هذه المرأة أبدا. قال: هذا وذاك معا. لكن من يملك الحقيقة عن جبهة تتحرك كل يوم؟! في تلك الليلة غنى لها. قال: سهرنا سهرة رائعة في القمر. هل لاحظت أن قمر الشتاء أكبر من قمر الصيف؟ بيننا متطوعون فلسطينيون غنوا أغنياتهم. أعجبتني أغنية عن فلسطيني شنقه الإنكليز في انتفاضة 1936 وقد يكون نوح ابراهيم هو الذي أنشدها. لاتفهمي منها الحزن فقط. انتبهي فقط إلى جمالها ودفئها. خيل إلي أنها وهبتنا قوة إضافية في دفاعنا عن ترشيحا. اسمعي!

ياليل، خلي الأسير تايكمل نواحو

راح يفيق الفجر ويرفرف جناحو

تايتمرجح المشنوق في هبة رياحو

شمل الحبايب ضاع وتكسروا قداحو

***

ياليل وقّف تامضّي كل حسراتي

يمكن نسيت مين أنا ونسيت آهاتي

ياحيف كيف انقضت بايديك ساعاتي

***

لاتظن دمعي خوف، دمعي على وطاني

وعاكمشة زغاليل في البيت جوعاني

مين راح يطعمها بعدي

وإخواني قبلي شباب عل مشنقة راحو

***

وبكره مرتي كيف راح تقضي نهارها

ويلها علي أو ويلها على صغارها

ياريتني خليت في إيدها سوارها

يوم دعتني الحرب تاإشتري سلاحها

لم تسأله فكرت في؟ سألته: كرهت الإنكليز بعد الأغنية أكثر مما كرهتهم قبلها؟ نعم! بعدها بدا لي الأمريكي الذي يتصل بنا كعضو في لجنة مراقبة الهدنة عفريتا أسود! قالت: لكنه ليس إنكليزيا! رد: أصله من هناك! قالت: صحيح! خرب الإنكليز بيوتنا! فتحوا فلسطين للمستوطنين! قال: لكننا لانخلط بين الشعوب وبين حكامها! ذكّرته: وصيتك لأولادك! لكن، لو أني أرى ذلك الشعب الذي يقبل اولئك الحكام!

هل خافت عليه عندما ودعته في ذلك اليوم؟ أم كان غضبها أكبر من خوفها؟ لو كان الجيش يقبل نساء لتطوعت ولكانت مفيدة في بلد تعرفه. لكن النساء العربيات اللواتي حاربن في الماضي البعيد وكانت منهن عائشة التي ركبت الجمل وقادت آلاف الرجال، وكانت منهن أسماء التي قالت في ترفّع: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، وكانت منهن غزالة الخارجية، حبسن منذ زمن طويل في البيوت. نازك العابد، الجميلة الشقراء التي حاربت في ميسلون مع يوسف العظمة، نسيها الناس. ليست سامية المدرس التي لبست ثياب الجيش غير مثل للفرجة. والفتيات اللبنانيات والفلسطينيات، سناء محيدلي ولولا عبود ودلال المغربي، اللواتي سيفجرن أنفسهن في المحتلين، لازلن بعيدات!

كان بهاء يحارب في أرض محددة بينما كانت منور تضع في بيتها الحرب كلها! لذلك لاحظت ليلى أن أمها ضيعت نكهة الطعام الذي تطبخه. وأن غرفتها تبقى مضاءة حتى تغفو ليلى. شق معتصم بابها عندما استيقظ صدفة في الفجر، فبدا له أنها غفت منذ برهة. كانت تعيش وسط هزائم الحرب، ولم تكن انتصاراتها غير حقد المظلومين المكتوم الذي يتوعد بالعدالة ذات يوم بعيد. وفي تلك الأيام قطعت صلتها الأخيرة بالسماء.

كانت دمشق تغلي. وحديث الناس في البيوت عن مؤامرة الدول على العرب. لكن أكثر غضبهم على خيانة الحكام. كان الغضب أسهل من الإحاطة بالظروف المعقدة. قرر منذ ذلك الوقت أن تكون إسرائيل أقوى دولة في المنطقة. وستبتدع صيغ جديدة لسيادتها عليها.

غاب بهاء في الخط الذي سماه خط الدفاع الأخير. في أيار اصطدم الجيش اللبناني بقوات يهودية داخل الحدود اللبنانية. فطلبت لبنان قوات الإنقاذ. أرسل فوج حطين إلى بنت جبيل وفوج اليرموك إلى سمخ. في 29 أيار وصل بهاء إلى لبنان. أمامه المالكية التي سيقاتل ليستعيدها! تشرف المالكية على طريق عيترون - قدس. تحمي سهل الحولة الممتد بين الحدود السورية واللبنانية. لذلك أخرج اليهود الشيشكلي منها. " تبعد المالكية نصف كيلومتر عن الحدود اللبنانية. بقيت لبنانية حتى رسمت الحدود سنة 1923 فوضعت في فلسطين. مهمتنا أن نحمي أيضا الحدود اللبنانية! لذلك قال الجنرال شهاب للقاوقجي يوم وصلنا: هذه الليلة سأنام بالبيجاما!"

كان يخيل لأبي ليلى في كل اشتباك، أن الانتصار في فلسطين كلها معلق بتلك البرهة. نفض ألمه أمام زوجته وتركه عندها. وهو الآن يأمل أن يرجح الانتصار على الهزيمة. صب قلبه كله في معركة المالكية. قصف الجيش السوري تحصينات اليهود فيها. فرفع بهاء يده تحية للطيارين الذين لم يروه. قصفها آمر المدفعية عفيف البزري. وتقدم بهاء مع مجموعته. كانوا فوجا لبنانيا معه شوكت شقير، وفوج البادية، وسرية بدوية، وسرية درزية، لجموا النجدات اليهودية. واستعيدت المالكية! كان القتلى اليهود فيها إشارة إلى الانتصار العربي. هؤلاء القتلى هم الذين أخرجوا الشيشكلي منها وقتلوا كثيرا من العرب! لكن بهاء التفت عنهم. ربما كان قاتل أحدهم! لكن ذلك لايمتعه. اضطره هؤلاء القتلى إلى الحرب لأنهم استوطنوا بلاده! "تقدمنا إلى قدس ودخلناها. وأصبحت الحدود اللبنانية في أمان". قال بهاء لمنور: " قدس في سهل في طرف واد. فيها ينابيع وحمام ومسجد فيه نخلة. مبنية بالحجر. كانت لبنانية حتى جعلتها الحدود التي رسمت سنة 1923 من فلسطين". حكى فيما بعد لمنور عن حيلة اليهود لاحتلال المالكية. في ليلة 14 - 15 أيار سقطت المالكية وقدس. لكن العرب استعادوها. تسلل طابور يهودي مدرع إلى المنارة، كأنه قافلة تموين. عبر أرضا مكشوفة بين المنارة وطريق مرجعيون - المالكية دون أنوار. ظنت المالكية الطابور نجدة لبنانية. فوجئت وسقطت. لم تتوقف منور عند المكر: يوم وصلتهم الأسلحة تحت السكر والرز، ويوم وصلتهم معامل السلاح إلى بيروت كآلات صناعية وساعدهم الإنكليز في نقلها، كان ذلك مكرا! سيحتالون حتى يخطفوا فلسطين. أنتم لاتحتالون كي تستردّوها، لأنها بلادنا! لم يفهم بهاء عندما استعاد كلماتها هل قالت ذلك في سخرية أم في مرارة!

استوقفتها معركة المالكية وقدس. قالت: يتقاتلون على خط الحياة! على الموقع الأخير الذي يخرجون العرب منه. والموقع الأخير الذي يريد العرب أن يتقدموا منه. لاتعرف القريتين. لكن حدسها كان صحيحا. أخذ البالماخ المالكية من فرقة اليرموك الثانية في منتصف أيار واستعادها العرب في اليوم التالي. في 20 أيار اخترقت إسرائيل منطقة المالكية. وحاولت أن تحتلها. بعد أسبوعين تسلل كوماندوس يهودي إلى لبنان وتقدم إلى المالكية من الخلف كأنه النجدة المطلوبة، فعبر القرى اللبنانية في سلام وترحاب. التقى في طريقه بالنجدة اللبنانية وهاجمها. وصل إلى المالكية واحتلها في 29 أيار. في 7 حزيران استعادها اللبنانيون وبقيت معهم الصيف. في عملية حيرام احتلتها أربع فرق إسرائيلية. كانت محصنة من الشرق، لكن الإسرائيليين هاجموها من الجنوب وغطاهم الطيران، واحتلوها في تشرين الأول 1948. سقطت قدس مع المالكية. فصرخت منور: انتبهوا! يأتونكم من الشرق عندما تتوقعونهم من الغرب، ومن الجنوب عندما تتوقعونهم من الشمال! صرخت لتنبه من لن يسمعها، أم صرخت لأنها خمنت أن مصيرها كان هناك؟

قبل المالكية كانت في كل زيارة تعيد زوجها إلى حيفا. هل كانت حيفا وجع منور؟ كانت الناصرة وجع بهاء! كشف جرح روحه لمنور، وكانت مثله موجوعة. بقيا إلى مابعد منتصف الليل يتحدثان عن الناصرة.

طلب الإنكليز والأمريكيون من أمين الجامعة العربية عبد الرحمن عزام هدنة بين العرب واليهود. قال المتطوعون: لأن بواخر الأسلحة قادمة في البحر إلى اليهود! وأنجدوا لوبيا ومجد الكروم، وردوا الهجوم على الناصرة. كان اليهود يقطعون طريق الناصرة عند مستعمرة الشجرة. الشجرة لليهود طريق تافور طبريا. وللعرب طريق الناصرة المغار. إذا أخذها اليهود عزلوا الناصرة عن محيطها العربي.

أرسل بهاء مع مجموعة مشت إلى الرامة ومنطقة الناصرة. يجب إبعاد اليهود من التلال ليصبح الطريق إلى الناصرة مفتوحا! أتى وزير الدفاع اللبناني الأمير مجيد أرسلان نفسه ورأى ضرورة ذلك، وأمّن الذخيرة. مشى بهاء مع المتطوعين إلى الشجرة في 10 حزيران. سندتهم مدفعية عفيف البزري. كان الهجوم صعبا حتى علقت أقدامهم بالمرتفعات. فانسحب اليهود إلى داخل مستعمرة الشجرة، ووصل المتطوعون إلى الناصرة ودخلوها. مع ذلك لاتوجد حدود على الأرض بعد، ولاحدود بعد بين النصر والهزيمة! اشتبك اليهود بقوات الإنقاذ في قرية الشجرة وهاجموا شفا عمرو والبروة. دعم المتطوعون البروة وشفا عمرو. وكان الجيش السوري قد احتل مشمار هايردن. لكن اليهود هجموا على البروة في 11 حزيران 1948 بعد قصف جوي واحتلوها. استردها الإنقاذ. وعندئذ طلب وسطاء الهدنة الغاضبون إخلاءها. لم يلب طلبهم. هجم اليهود على قرية الشجرة والبروة والمالكية ورد هجومهم. عادوا فهجموا على البروة بمصفحات ومدافع ظهرت لأول مرة، واحتلوا البروة. وقت كاد الإنقاذ يستردها ظهرت بارجة في ميناء حيفا قصفتهم بمدافعها وردتهم. وفي تلك الأيام عرف المقاتلون أن الطائرات اليهودية قصفت القاهرة في منطقة قصر عابدين، وقصفت دمشق مرتين.

حمل رجل أتى من عند بهاء رسالة لمنور تطمئنها. لكن حديثه كان يناقض الرسالة. حدثها عن آخر مارآه. استمرت المعارك في البروة يومين كأنهما شهران. وحقق فيها مراقبو الهدنة. دخلها الإسرائيليون في صباح 11 حزيران، فلجأ أهلها إلى القرى المجاورة عشرة أيام ثم قرروا أن يعودوا ليحصدوا قمحهم. تجمع الرجال في المقدمة وخلفهم النساء، وفاجأوا بهجومهم اليهود فانسحبوا. حصد الفلاحون بقية القمح وبقوا في القرية حتى 24 حزيران. دخلت قوات الإنقاذ القرية وفي اليوم نفسه دخلها اليهود وأخرجوهم. تسلل أهل القرية فيما بعد وأخذوا بعض أغراضهم منها. قالت له منور: إذن سقطت! أطرق الرجل وزفر زفرة طويلة. كان قد شرب قهوته فنهض: يجب أن أعود إلى هناك بسرعة! كادت تقول له: وهل بقي لذلك وقت؟ شعرت بالحقيقة في روحها. ففي منتصف تموز أصبحت البروة التي تحدث عنها خلف الخطوط الإسرائيلية. ولن يبقى منها فيما بعد غير ثلاثة بيوت وضريحان ومدرسة وسط الصبار والشوك.

فهم المجتمعون في خيمة بهاء تلك الليلة أن الحرب ترسم آخر خطوطها. ظهرت في المعارك فوق تلال الشجرة مدفعية يهودية ثقيلة. يريد اليهود أن يقطعوا طريق الناصرة، ويطمئنوا على العفولة وطبريا! قصفت طائرات يهودية الناصرة. ظهرت طائرات يهودية فوق ترشيحا. دخل اليهود اللد والرملة. أنقذ العراقيون جنين لكن المنطقة بقيت بيد اليهود. ردد بهاء تلك الليلة: الجليل!

استعادت منور كل ماقاله وجربت أن تصنف المدن الساقطة والمدن التي لم تسقط بعد. وبدا لها أن تنقله ليس دليل قوة بل دليل ضعف. في آخر زيارة قال لها: كم كلفنا الجليل! قاتل فوج غسان جديد في جبهة صفد. هاجم عين زيتيم وصفد وقصفها. وحاول أن يسترد ماأخذه اليهود من الشجرة. كان أديب الشيشكلي يومذاك في الرامة مسؤولا عن تموين جبهة الشجرة. "ضقنا بمستعمرة الشجرة التي تهدد طريق الناصرة". اعتمدت المغامرة في الهجوم على مستعمرة الشجرة، بالبنادق والرشاشات وأربع مصفحات! "دخلنا مستعمرة الشجرة الخطرة وصار طريق العفولة مفتوحا. لكن لم يبق من السرية كلها وهي 129 إلا 16 فقط كنت منهم".

كانت في الناصرة قوة رئيسها أبو ابراهيم، تابعة للهيئة العربية العليا. وكان في صفورية، على بعد خمس كيلومترات شمال الناصرة، قوة محلية رئيسها أبو محمود الصفوري، تابعة للهيئة العربية العليا. وفي شفا عمرو فصيل من الإنقاذ. هل يصمدون للمصفحات والطائرات والمدفعية التي وصلت إلى اليهود خلال الهدنة؟

في 16/7/1948 صباحا طوق صفورية رتل من الدبابات على بعد كيلومتر من الناصرة. وفي الساعة التاسعة وصلت برقية من اسماعيل الصفوري تعلن: دخل اليهود بدباباتهم الثقيلة تشرتشل صفورية والمعركة حامية على أبواب الناصرة. تقدمت قوات يهودية من جهة طبريا إلى المغار.

لاتستطيع المصفحات أن ترد الدبابات! وحيث هجم اليهود بالمصفحات والدبابات لاتوجد غير بنادق عربية! دخل اليهود الناصرة! يجب إذن أن ينسحب المتطوعون من الشجرة قبل أن يطوقوا! "انسحبنا تحت القصف الجوي، مشيا!" سيرتبون خط الدفاع عن سهل البطوف شمال صفورية، وباتجاه شعب غرب مجد الكروم! خط يبعد عن صفورية 4 كيلومترات.

سيعرف من بقي حيا بعض الأسرار: بينما كان جيش الإنقاذ مشغولا بالشجرة وترشيحا نفذ اليهود عملية ديكل. احتلال قرى سفوح الجليل الغربي من الكابري إلى البروة إلى شفا عمرو. هاجم اليهود شفا عمرو ودخلوها بحيلة. في ليل 14-15 بينما كان القاوقجي مشغولا بالشجرة سارت الآليات اليهودية لاحتلال الناصرة. في مساء 15 تموز عبرت 15 كيلومترا داخل المنطقة العربية، مطفأة الأنوار، ووصلت إلى ضواحي صفورية وهاجمتها في الليلة نفسها. عرف عن عرب صفورية في الجليل كله أنهم محاربون أشداء، لكن القرية سقطت بالمفاجأة دون قتال تقريبا. وتقدمت الآليات لاحتلال الناصرة. أرسل قائد المدينة مصفحات. أصيب منها ست من تسع. سقطت الناصرة في الساعة 20,40 سقطت الناصرة! سقطت! بعد سقوطها انسحبت قوات القاوقجي من الشجرة. وسقطت دبورية ولوبيا، وفتح الطريق إلى طبريا.

كتب بهاء في مفكرته: "قبل أن نستريح هاجم اليهود بالدبابات والطائرات ميرون في جبهة صفد، ومجد الكروم، لينجزوا احتلال الجليل كله. في 23/7/1948 قاومتهم مجموعات صفا في معارك سخنين، شعب، وردتهم. ولاحظ صفا مما كسبه من الاشتباك أن السلاح اليهودي صار موحدا، مصنوعا في تشيكوسلوفاكيا. في 31/8/1948 هجم اليهود من مستعمرة المنارة على القرى اللبنانية. هجموا على قرية الحولة وميس الجبل ورددناهم. رد شقير الهجوم عن المنارة. ودافعنا مع أهل شعب عنها. وحاول اليهود التسرب إلى داخل لبنان من مستعمرة المنارة". في 7/9/1948 هاجم اليهود جبهة فوج غسان جديد في منطقة صفد. أرادوا مرتفعات عموقة على بعد كيلومتر من صفد، التي تشرف على سهل الحولة وطريق طبريا - صفد. ثم هجموا على ماروس في جبهة غسان جديد، التي تقابل موقع الجيش السوري في مشمار هايردن. واشتبكوا مع غسان جديد قرب عين التينة في ضواحي صفد. وفي الوقت نفسه تقدمت قوات يهودية إلى ترشيحا. بخط مائل في الحاشية كتب بهاء مافاته أن يسجله: يامنور لو تعرفين ماروس! على سفح الجليل الأعلى الشرقي. تطل على سهل الحولة. قربها نبع وحولها شجر الفواكه. ايغال ألون قائد البالماخ أرهقها بحرب نفسية. هاجمها مرات وأذيع على أهلها: انجوا بأنفسكم وإلا لن تجدوا الرحمة! لكنها لم تحتل إلا في نهاية تشرين الثاني.

في الصفحة التالية كتب: أتى حسني الزعيم قائد الجيش السوري ولمس بنفسه أهمية ماروس. ومع ذلك لم يصل إليها الدعم. وصلتنا برقية من غسان جديد: احتل اليهود ماروس وجبل المخبي والتلال فاسترجعنا ماروس. كان غسان يحتاج دعما ليسحب الاحتياطي إلى ميرون والصفصاف. في 11/10/1948 هاجم اليهود كفرمندة بالمصفحات وهاجموا عيلبون وردهم المتطوعون فانسحبوا باتجاه صفورية. وتحصنوا في المنطقة الحرام في قطاع ترشيحا.

اختلط على بهاء في الأسابيع الأخيرة مارواه لزوجته وماسجله في مفكرته ليرويه لها. كانت الأيام سريعة خاطفة، مع أن دقائقها أطول من دهر. بدت له منور في تلك الأسابيع مأوى يتخيله في فترات الهدوء في الليل. ألأنه شعر بأنه لن يعود أبدا؟ سجل في مفكرته: في 21 تشرين الأول رأينا طائرات يهودية تستطلع مواقعنا في منطقة المنارة. هجم اليهود بمدافع الهاون على قرية الحولة في لبنان. رددناهم. دمرنا مصفحات يهودية. زارنا مراقبو الهدنة، بلجيكي وأمريكي وفرنسي. طمأننا الأمريكي: لن يهاجمكم اليهود! فهمس الفرنسي: كل شيء محتمل! فهمنا أن الهجوم قريب! أمر القاوقجي بإبعادهم لأنه شك في أنهم، عدا الفرنسي، يتجسسون علينا. بدأت معارك المنارة.

في صفحات مفكرته قرأت منور فيما بعد أسابيعه الأخيرة. لم تر فقط المعارك التي أخبرها عنها، بل رأت روحه، وتصورت مالم يبح به لأنه حسب أن مفكرته قد تسقط في يد اليهود إذا بقي كالمقتولين اليهود الذين عبرهم في الشجرة. كم كان محتاجا لأن يبوح ويصرخ في تلك الأيام الأخيرة! لكنه خنق تلك العواطف كلها كأنها أسرار لايجوز أن تسقط إلا في يد محبة!

كتب في المفكرة: قصفت طائرات يهودية منطقة ترشيحا والمغار وميرون والصفصاف والجشّ ودير القاسي. قتلت من السكان أكثر مما قتلت من جنودنا. تدفقت القوات اليهودية من حيفا ونهاريا. وصل الفوج الثامن الذي أرسله حسني الزعيم بقيادة عدنان المالكي ودخل المعركة في جبهة المنارة. دارت معارك في الليل في ميرون والجشّ. دافع فوج غسان جديد عن الجشّ أمام قوات مجهزة بآليات تتفوق عليه. وصل الفوج التاسع الذي أرسله حسني الزعيم فرفد غسان جديد الذي يدافع عن الجشّ. في الحاشية كتب: ليتك تعرفين دير القاسي. أحببتها وهي معلقة على تل صخري في الجليل الأعلى. على بعد خمسة كيلومترات فقط من الحدود اللبنانية. أحببتها بحارتها الشرقية وحارتها الغربية، وأشجار التين والزيتون حولها. أحببت بحرتها الواسعة التي تجمع ماء المطر، وزاوية المتصوفة الشاذلية. هل يقدر لنا أن نزورها معا ذات يوم؟!! تتساءل يابهاء تساؤل العارف لأنك أكثرت من إشارات التعجب. ستسقط دير القاسي مع ترشيحا في 30 تشرين الأول في عملية حيرام لتصفية الجليل! انسحب المدافعون عن ترشيحا بطريق خلفي وعبروا دير القاسي إلى الرميش اللبنانية، على الطريق الذي تسميه الهاغاناه طريق القاوقجي. لو تعرف يابهاء أي ألم سينفجر في منور يوم تعرف أن المستوطنين سيسكنون "القرى المهجورة" في دير القاسي في أيار 1949.

احتل اليهود الجشّ كلها. المعارك في مجد الكروم وشعب وسخنين وعيلبون. يستعمل اليهود مدفعية الميدان. مدفعيتنا غطت المنسحبين من الجشّ. عطلنا مدفعية العدو في الصفصاف. وقصفنا اليهود في سعسع. نظمنا هجوما معاكسا على ترشيحا والجشّ بمساعدة المدفعية. تقدم رتل من المصفحات والدبابات اليهودية من نهاريا إلى ترشيحا ليستعيدها منا. احتل اليهود الجشّ مرة أخرى.

في ليل 29 وصباح 30 تراجعنا ونحن تقاتل. عند الظهر دخل اليهود ترشيحا. هذه ليست معركة بل مجزرة! خلال ذلك طوقنا لواء يهوديا وأخذنا علمه.

تأملت منور الدم على غلاف المفكرة الأبيض. شمّته. لم يجف بعد. خيل إليها أنه لن يجف أبدا. لاتوجد في صفحات المفكرة بقع دم. لكنه يقطر من كلماتها الأخيرة.

قصفت طائرات اليهود قواتنا في المالكية وقدس. أمرتنا القيادة اللبنانية بأن نترك المالكية وقدس وبليدة تجنبا للقتال على الحدود اللبنانية. سنتركها دون قتال! يامنور، سنعود إليها معا. تذكري ذلك! سنعود إليها! وعد!

سألت منور الرجل الذي سلمها مفكرة زوجها: أين؟ لم تتح له أن يطرق لأنها نظرت إلى عينيه. قال: ماأهمية أين؟ مشى في الجليل وأحبه كله! لنقل، في قدس! سألته: كيف؟ رد: بالقصف! عبر معركة الجليل كلها دون جرح. فلماذا يقتل على حافتها؟ كانت آخر أسطر في المفكرة:

حمت معركة الجليل الكبيرة غزة من السقوط وخففت عن الجيش المصري الحصار. كنا في برد الجبال والتلال دون ثياب تدفئنا. وكنا أحيانا دون تموين. وصلتنا ذخيرة فرنسية وقت كنا نحتاج ذخيرة ألمانية! حاربنا بما كسبناه من اليهود. لم تكن لدينا سيارات لنقل الجرحى. ولم تكن لدينا خيام كافية. تقديم خيمة لفوج غسان جديد حدث أعلن ببرقية عسكرية! لم تدفع رواتب الجنود منذ أشهر! قرار الجامعة: تخفيض جيش الإنقاذ، لتقليص الأعباء المالية!

كانت منور وحدها في البيت عندما طرق الباب. لماذا التهب قلبها؟ عندما رأت أمامها رجلا يملأ بابها فهمت فورا أنه يحمل لها نعي زوجها. لم تصرخ. امتقع وجهها وحدقت في الرجل دون كلمة. لم تقل له تفضل بل مشت فتبعها صامتا متهيبا. وجلس صامتا. أخرج المفكرة ومدها إليها فتناولتها. تركتها في كفها المفتوحة وحدقت في غلافها المدبوغ بالدم. سألته: كيف، وأين؟ واستمعت إليه جامدة الوجه، ثم تركته لتحضّر له القهوة. أكانت تحتاج أن تبتعد بنفسها برهة؟ وتتصور أنها تنشغل بالبن والسكر والماء؟ بقيت المفكرة في قبضتها. وعندما كان يشرب قهوته أو يتظاهر بأنه يشربها، قلّبت المفكرة بسرعة. وأراحه أنها لم تسأله: أين هو الآن؟ هل فهمت أنه كان يجب أن يدفن هناك؟ قالت له: يوم نستطيع أن نذهب إلى هناك ستدلّني؟ هز رأسه. لكنها همست لنفسها: إذا بقيت "هناك"!

حكى لها كأنه يقدم تقريرا عن وضعهم هناك، مكررا رسالة القاوقجي إلى الأمين العام للجامعة العربية: حاربنا على جبهة طولها 143 كيلومترا تتصل بها 11 طريقا رئيسية وسبع قواعد يهودية كبيرة، في أرض خصبة من أراضي الجليل، دون عتاد. انسحابنا إلى قرب الحدود اللبنانية أفقدنا الجليل كله وقدمه لليهود. قال لها: ووراء ظهرنا كانت مشكلة فرار المفتي من القاهرة إلى غزة ليعلن نفسه رئيس حكومة عموم فلسطين، وغضب الملك عبد الله من ذلك وتهديده بالانسحاب من القتال في فلسطين. باح لها أيضا أن مجموعته التي كان فيها زوجها وجدت في سيارة يهودية تحرسها مصفحتان بريطانيتان، هاجمتها المجموعة، وثائق مرسلة إلى الوكالة اليهودية والهاغاناه وبن غوريون، منها نسخة من تقرير اللواء اسماعيل صفوة إلى اللجنة العسكرية في الجامعة العربية عن حالة الجيوش العربية والوضع العسكري في فلسطين.

هل قصد أن يشغلها عن صدمتها بهموم أكبر منها؟ وأن يضع موتا فرديا، كان يمكن أن يكون موته هو، وسط كارثة كبرى؟ مع أنه شعر بأنها تتوقع مقتل زوجها! أم وجد إنسانا قويا يكشف له جرحه؟ وأكبر جروحه أن فلسطين سقطت وعليه أن يتفرج على ذلك من بيته! قالت كأنها تحدث نفسها: زمن سيء!

ودّعته في هدوء. وعندئذ أدركت أن حزنها الطويل لم يبدأ بعد. بلّغت بماحدث، لكنها لم تفهمه بعد. مع أنها شعرت بأنها عاشت من قبل كل ماحدث. دخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب. يجب أن تبكي قبل أن يعود ولداها. ضربت بقبضتها الحائط. لاتستطيع البكاء! لماذا تستعجلينه يامنور؟ الوقت متسع للبكاء في الليالي الطويلة. أضيف دم جديد ستتأملينه وتبكينه.

هل تكرر منور أمها فاطمة التي منعت البكاء في مأتم زوجها يوسف في حيفا؟ حقدت عليها منور يومذاك لأنها لم تبك زوجها! ولم تنحن حتى الأرض أمام الحزن على العزيز! الآن فقط تفهمها. بعد عقود من السنوات تفهمينها؟ لاتحتاج فاطمة أن تفهميها اليوم يامنور! لأنها منذ زمن طويل أغلقت حزنها وفرحها. ولن تسمعك إذا ناديتها! قبرها في طبرية التي قرر لها أن تكون من إسرائيل. لكن ابكي على فاطمة التي حرمت، رغم قوتها، أن تجاور محبوبها يوسف المدفون في حيفا! ولاتحلمي بزيارة أي منهما يامنور! صار بلدك أرضا عدوة! ربما كان زوجك يقاتل كي يبقي ممرا لك وله إليهما! لكن الذكرى والذاكرة كانت مواقع، واتفاقيات دولية.

سمع معتصم في صمت البيت هديرا أرعشه. لم يجد على الطاولة صحون الغداء. لمح أمه جالسة على طرف فراشها محدقة في الأرض، فاندفع إليها. وعندئذ لمح دفترا صغيرا مخضبا بالدم. صرخ: لا، لا! لاتقولي ذلك! نظرت إليه عينان دون بريق حيّ أكدتا له: بل، نعم! وقتذاك وصلت ليلى. لم يستطع أحد أن يمنعها من البكاء كما منعت منور ذات يوم. فانشغل بها معتصم. احتضنها بالقوة. وعندما لمس شعرها زاد صراخها فسحب يده. ثم غسل وجهها بالماء، وكاد يقول لها: ماأجملك وأنت باكية! ومسح بأصابعه أهدابها الطويلة المبتلة بالدموع. في ذلك اليوم خرجت منور ولم تعد حتى الليل. اختفت بقية اليوم كما اختفت يوم سقطت حيفا. تصورت منور أنها دفعت للموت حصتها كلها؟! لم تحسب أنها ستسدد له ضحايا أخرى!

خرجت ليلى في مظاهرات المدارس التي مشت إلى القصر الجمهوري بعد تقسيم فلسطين. وهتفت مع الطالبات: "نريد أعمالا لاأقوالا". اختيرت على عجل في الوفد الذي انتقي من المظاهرة الكبيرة ليقابل القوتلي. ولم تدر لم اختاروها. ألأنها شاطرة في المدرسة أم لأن الجمال ضرورة حتى في مثل تلك الوفود! تلفتت في حديقة القصر المزروعة بالصنوبر. أذلك هو القصر الذي باعه أخو خالد آغا من الغضب؟ استقبل القوتلي الوفد واقفا في صدر القاعة. وصفت ليلى ذلك اليوم لأمها من أوله إلى آخره.

معتصم هو الذي خرج في مظاهرات تشرين الثاني 1948 التي ماجت بها دمشق عندما اكتملت الهزيمة في فلسطين. كان الجيش السوري الذي اشترك كالجيوش العربية في الحرب، هو الجيش العربي الوحيد الذي احتل مستعمرة صهيونية هي مشمار هايردن، وبقي فيها. اشترك بضباطه المتطوعين في جيش الإنقاذ. وحارب في إخلاص. لكن بدا له أن العلة في السياسيين الذين لم يؤمّنوا للجيش مايدافع به. كان الناس أيضا غاضبين على حكومة مردم التي فشلت في تأمين السلاح. ورددوا أن باخرة السلاح التي اشترتها سوريا من فرنسا سيقت إلى إسرائيل. من ساقها؟ من باح بسرها؟ لم ينتبه العرب بعد إلى النفوذ الصهيوني في الغرب الذي يوصل إلى إسرائيل جميع الأسرار. ولم يعرفوا بعد أن السلاح الصهيوني انتقل في فرنسا سرا وأبحر منها إلى إسرائيل. خرج طلاب الجامعة في مظاهرات صاخبة في صدرها معتصم. لم يخطر للطلاب أن حكومة جميل مردم ستأمر بإطلاق أول رصاص يطلق بعد الاستقلال على السوريين!

أنهى ذلك الرصاص حكومة جميل مردم. وأنسى الناس مجده الماضي كله. لم يتذكر أحد أنه كان من جمعية الفتاة. وفي 30 آذار سينزل الجيش إلى الشوارع في أول انقلاب عسكري. لكن معتصما، ابن بهاء المقتول في فلسطين، لن يحلم بزمن جديد. لأنه قتل لأجل فلسطين في دمشق.

نقل الهلال الأحمر الجرحى إلى المستشفيات. بدا كأن الهواء نفسه منسوج من الغضب. ساعد الناس متطوعي الهلال الأحمر في حمل الجرحى، وتدفقوا إلى المستشفيات. فبدت الحكومة التي تملك النار هي المحاصرة بمدينة غاضبة. قيل إن الحكومة دفنت قتلى المظاهرة في الليل في مقبرة الدحداح! وقيل إن الطلاب الغاضبين حملوا توابيت الشهداء ومشوا إلى المقبرة، لكنهم في الطريق فتحوا التوابيت وتناولوا منها الحجارة وضربوا الشرطة. وقيل إن الشرطة لم تجسر على التدخل لأن الناس على الأرصفة شتموها. في المساء الذي أطلق فيه النار على الطلاب صادفت ليلى بنت الجيران بمريول أبيض ملطخ بالدم. توقفت بنت الجيران أمام ليلى، تأملتها، ثم عانقتها في قوة وابتعدت كالهاربة وخيل لليلى أنها لمحت دموعها.

في أول المساء طرق الباب زملاء معتصم، وطلبوا من ليلى وأمها أن ترافقاهما. في الطريق قالوا: معتصم مجروح، في المستشفى. أين الجرح؟ في صدره! لم تلتفت إليهم منور. في صدره؟ يعني قتل! يلعبون لعبة معروفة! قالوا لها قرب باب المستشفى: جرحه خطر! سمعتهم؟ لم تكن نفسها. كأنها امرأة أخرى تراقب حياة آخرين منهم منور وبنتها وابنها. كانت امرأة أخرى من أزمنة بعيدة، وكل ماتراه ماض يعرض أمامها لذلك لايحمل حزنا ولايثير قلقا.

ترددت برهة أمام الباب. هل تترك ليلى؟ لا! فلتره! دخلت. لماذا يرمون الشرشف على وجهه؟ كيلا يرى الأحياء الصفرة التي لايرى مثلها إلا في وجوه الموتى؟ كيلا يفجعون بالفرق بين الوجه الذي عرفوه والوجه الذي يرونه الآن؟ تفقدت الملامح التي تعرفها. لمست أنفه وشفتيه وجبهته. ثم كشفت قميصه. القلب! حيث سيصوب الإسرائيليون فيما بعد على الشباب الفلسطينيين تماما! القلب! لمست يده وأصابعه واحدا، واحدا. وفجأة استدارت، أمسكت بيد ليلى وخرجتا.

اكتشفت في تلك الليلة أن ابنة الجيران، المتطوعة في الهلال الأحمر، تحب معتصما. رأتها مقهورة، مفتتة. آلام الشباب حادة، صارخة، لكن الشباب مفتوح لسنوات حياة مديدة ستعمّرها عواطف متنوعة. سيأتي حب آخر، وأهواء أخرى! لكن لن يكون لمنور ابن آخر وزوج آخر!

فكرت منور في أيام المأتم أن هدف توهج الجنائز أن يفلت الحزين بكاءه وصراخه كله. وهدف الصمت الوقور في عصرية النساء وتمساية الرجال أن يقضم الحزين حزنه في هدوء. وأن حشد الجيران والأصحاب والأقرباء حتى الأربعين في يوم الوفاة من كل أسبوع، يقصد ألا يخلو الحزين إلى نفسه ليجلدها بالحزن. وتمردت على ذلك فحبست حزنها في قلبها وفكرت فيه في كل برهة. في الأسبوع الأول لم تنم. تجولت في البيت في العتمة. وضايقها أنها ليست حرة في حزنها لأنها الآن مسؤولة عن ليلى. كأنها محبوسة في زاوية لاتستطيع أن تتحرر منها! ثم لاحظت أنها بقيت هامدة أياما. تبع هدوءها هيجان من الغضب والقلق. وخطرت لها هواجس متنوعة: إذا مت الآن ماذا سيكون مصير ليلى؟ وهل ستندفع ليلى انتقاما لموت أخيها وأبيها، ويطلق عليها أيضا الرصاص ذات يوم؟ حاولت أن تسجل الأيام التي تعاني فيها من الهمود والأيام التي تعاني فيها من الهيجان، وقررت: روحي مريضة! ولاقت جيرانها بسخرية: يرون الجسم الصحيح ولايرون الروح المريضة! قررت أن تقصد صيدلية بعيدة لتستشير الصيدلي. ثم استبعدت ذلك. ستداوي نفسها! رأتها ليلى في تلك الأيام تشرب اليانسون، وحشيشة القطة. سألتها: كيف تتحملين رائحة حشيشة القطة؟ في تلك الليلة رأت ليلى حشيشة القطة في سطل القمامة. لكنها لم تر الكمد في وجه أمها التي قررت أن ليلى بعيدة بروحها عنها "كانت على كل حال قريبة من أبيها. معتصم هو الذي كان قريبا مني". سقطت منور في شعور بالوحدة لن يستطيع أحد أن يخترقه إليها. اقترب منها في تلك الأيام ابن عم معتصم. كان في عمره، عاقلا ورقيقا مثله. وكان يحبه. فقبلته وشمت فيه عبق ابنها. وعندما ستعبر شهور اضطرابها ستدعوه في كل يوم جمعة إلى الغداء، وستحفظ الأطعمة التي يحبها. وستلاحظ أنه يحبها كأنه يستعيض بها عن أمه الميتة. وستخفي عن نفسها أن ليلى تستهويه. عندما بدأت تعود إلى نظامها القديم في النوم في ساعات معينة، تذكرت كلمة كانت ترددها أمها: كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر، إلا الحزن. يبدأ كبيرا ثم يصغر! وقالت: ذلك خطأ في التعبير! يجب أن يقال إننا نخبئ حزننا في الخوابي كي يصبح معتقا! نشارك من يشربه معنا قبل أن يتخمر، لكننا نخزن خوابيه العتيقة لأنفسنا فقط‍ !





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:07 AM [ 23 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






- 13 -


بعد عودة قيس من صفد، ألح على أبيه: أريد أن تشتري لي "ستن"! يتسلح الشباب في صفد، ويلزمنا هنا أيضا سلاح! اشترى له أبوه "ستن" وقنابل يدوية أيضا! لكنه لم يجد تجمعا للشباب ينتظم فيه. لم يتخيل كيف سيكون الهجوم على بلده وكيف سيكون الدفاع عنها. هل تصور أنه يحميها بحقه فيها؟ بعد عقود من السنوات قرأ قيس شهادة شاب في منظمة الشباب في الهاغاناه، قتل في معارك أبو كبير في 1948، ففهم الجيش المنظم الذي احتل بلده. "بعد حلول الظلام توجهنا إلى مكان إجراء الطقس داخل غابة هيرتسل. إلى جانب قبر الحارسين الذي كان مغطى بالأعلام الزرقاء - البيضاء ومحاطا بالمشاعل، انتصبت وحدة حرس من ستة شبان، ثلاثة من كل جانب وبنادقهم في أيديهم.. وانتظمنا في مربع مواجه للقبر. وبعد أن جاءت القيادة وبعد شرح قصير تلي القسم ورددناه كلمة، كلمة.. أقسم أن أكون مخلصا للمنظمة .. حتى مماتي.. وأن أكون مستعدا لكل خدمة فعلية في أي وقت أدعى إلى ذلك. كانت تلك لحظة لن أنساها: الغابة الموحشة وفي مواجهك قمر باهت يظهر أحيانا وتحجبه الغيوم الداكنة أحيانا أخرى، وأمامك ستة شبان يختفون أحيانا وراء لهب المشاعل، وبنادقهم في أيديهم. ملأني المشهد ذو الروعة والجلال، في تلك اللحظة، بإحساس عظيم. في لحظة ترديد القسم، شعرت بأنني مفعم بالقوة والعزيمة، ومستعد لأداء كل مايطلب مني حتى آخر يوم في حياتي." تساءل قيس هل خطر لذلك الشاب أن المهمة التي اندفع إليها قد تكون نسف بيت شاب في مثل عمره اسمه قيس، قتل سكان قرى، وسحب بلاد من أهلها؟! كان ذلك الشاب مدربا ومستعدا لكل مايؤمر به!

قرر قيس أن يقصد شفا عمرو لأنه سمع أن الشباب هناك ينظمون مجموعة مسلحة. فقال لأبيه: سأمشي إلى شفا عمرو! غضب أبوه: ياقيس، بماذا وسوس لك الشيطان؟ تمشي إلى شفا عمرو اليوم، والبلاد تسقط واحدة بعد واحدة؟ افهم، يقصف اليهود بالمدافع شفا عمرو منذ نهاية الهدنة الاولى في 7 تموز حتى اليوم! لم يفسر قيس لأبيه أنه لذلك يقصد شفا عمرو! بل تحدث عن رغبة في السفر إلى القرى التي مر بها أو زارها مع أبيه، أو قصد فيها رفاقه في المدرسة. تساءل أبو قيس: يريد أن يودعها؟ أن يطمئن عليها؟ شفا عمرو جارة تلال الناصرة وجبل الكرمل وسهول عكا والبطوف ومرج ابن عامر تستحق الزيارة! فيها روافد نهر النعامين، ووادي الملك، أكبر روافد نهر المقطع. شفا عمرو بين عكا وحيفا والناصرة. تمتد أراضيها من الشرق حتى طريق صفورية والناصرة. وتتمطى حتى وادي الملك، ووادي الحلزون، وسهل البطوّف، والسهل الساحلي، ومرج ابن عامر! نعم، يستحق هذا البلد من الجليل الأعلى الزيارة! لتتخيل القائد الروماني أبيتيوس وهو يطارد من تلاله الغربية ثوار يوسيفوس في القرن الأول الميلادي. وترى على الخروبية صلاح الدين الأيوبي مواجه ريشار قلب الأسد. وتتذكر كلمة نابليون: لابد من احتلال شفا عمرو للتحكم في وسط فلسطين! تريد أن ترى شفا عمرو الهاجعة تحت قلعتها، وتمشي في أزقتها الكورسيكية! لكني أعرف أنك لاتقصدها لذلك! بل لأن أحد أصحابك همس في أذنك منذ أيام تعال مع سلاحك! تريد أن توهمني بأن حدسك كالشوق إليها؟! هنا أيضا يمكنك أن تدافع عن بلدك! ابق! لو غاب قيس عن أبيه في ذلك اليوم لسار إلى شفا عمرو. لكن أباه أبقاه قربه. وكان حدس كل منهما صحيحا فمصير شفا عمرو اتصل في اليوم التالي بمصير صفورية. في فجر 14 تموز دخل رتل طويل شفا عمرو من غربها، دبابات ومصفحات وسيارات تحمل جنودا. سبقه قصف بالمدافع ورش بالرصاص. وسقطت شفا عمرو!

في ليلة الخامس عشر من تموز كان القاوقجي قد وصل إلى صفورية لتنظيم الدفاع عنها. رآه قيس في صفورية في مضافة رئيس البلدية صالح السليم. فجأة دخل رجل لاهث إلى المضافة وقال: تتحرك دبابات يهودية من شفا عمرو في اتجاه صفورية! تعرفون أن المسافة بينهما كيلومترات فقط! خرج القاوقجي من المضافة وانصرف! هل يشعر الآن أيضا بأن القوات اليهودية نظامية لاتصدها إلا قوات نظامية مسلحة مثلها؟ هل يصرخ أين السلاح والرجال، ويردد ماقاله يوسف العظمة على بوابة ميسلون: أريد الزمن؟

في الساعة السابعة من صباح 16/7/1948 وصلت برقية إلى فوزي القاوقجي: مهم ومستعجل جدا من مساعد حطين إلى فوزي. صفورية مطوقة، على وشك السقوط، أنقذوا الموقف.

في الساعة الثامنة والنصف مساء قصفت طائرة يهودية صفورية. رمت أربع قنابل، قتلت الشيخ الأعمى عبد المجيد الذي درس في الأزهر، قتلته مع زوجته وأولاده، وهدمت بيته قرب الجامع الكبير. بعد القصف خرج الناس من بيوتهم إلى وادي النصارى. بقوا في حقول الزيتون الواسعة. وتركوا المقاتلين في صفورية ليدافعوا عنها. ظنوا أنهم سيعودون إلى بيوتهم في الصباح، فلم يتناولوا منها إلا مايحتاجون إليه ليلة.

قال قيس لأبيه: سأبقى مع المقاتلين. رد أبوه: لست منهم بعد! أمسكه بالقوة أعمامه، وجروه إلى وادي النصارى. وأخذوا منه "الستن". قبل أن يوصلوه إلى وادي النصارى أفلت منهم وعاد إلى صفورية. جرى وحده راجعا عكس اتجاه الناس السائرين إلى وادي النصارى، وهو يصرخ: ارجعوا، دافعوا عن قريتكم.. ارجعوا!

رجع قيس إلى بيته في السدر. قربه في المدرسة مركز قيادة المدافعين عن البلد. أطل، فلم يجد في المدرسة إلا محمد سعيد الشيخ ابراهيم السعدي. الشيخ مسؤول عن السلاح الموجود في المركز. رفع رأسه فرأى قيسا: ماذا جئت تعمل؟ أجابه قيس: أخذوني فتركتهم وعدت. قال له: يابنيّي الناس انهزمت فشو تعمل وحدك؟ رد قيس: أنا لم أنهزم! فجأة دخل شاب آخر في عمر قيس. هذا محمود أحد زملائه في مدرسة صفورية! كان إطلاق النار يسمع من جهات متنوعة. قال الشيخ: في غرب البلد خنادق، خذ ياقيس احمل هاتين القفتين من الرصاص للمدافعين فيها! وخذ يامحمود احمل رشاش برن! خرج الشابان. صوت رصاص. عتمة. لم يصادفا إنسانا في طريقهما. لاأحد! نادى أحدهما الرجال. صاح الآخر. لاأحد! ياللخيبة! ماالعمل؟ رجعا بعد ساعات إلى الشيخ السعدي وقالا له: لاأحد! وضع قيس قفة الرصاص على الأرض والتفت إلى محمود. أين اختفى؟ معه البرن! سيقاتل وحده؟ أين؟ استغرق بحث الشابين عن الرجال والخنادق ثلاث ساعات تقريبا. المدرسة المركز في خلة الوتد تطل على طريق المطلّة، على الدرب من المطلّة إلى القسطل. بدأ إطلاق النار كثيفا من طريق المطلّة. قال الشيخ: معناها دخلوا! إلحق أهلك ياقيس! الهجوم إذن من طريق المطلّة. من شفا عمر إلى الناصرة يتفرع طريق معبد إلى صفورية. قال قيس للشيخ السعدي: ياعمي مع من أقاتل؟! رد الشيخ: يابنيّي، قلت لك اطلع لعند أهلك. اسرع! سأله قيس: وأنت ياعمي؟ قال: عندي أمانة لاأتركها. الحق أهلك! تركه قيس ونزل إلى صفورية. من السدر عبر الحارة الغربية كلها كي يصل إلى وادي النصارى حيث الناس تحت الزيتون. بدأ الفجر وقيس يمشي إلى هناك. وصل. سأل الناس المتجمعين تحت الزيتون عائلة، عائلة: أين أبي؟ دلوه إلى أهله. جلس الناس في انتظار النهار وانتهاء المعارك للعودة إلى بيوتهم! وادي النصارى تحت القلعة. طلع الضوء! رفعوا رؤوسهم فرأوا اليهود في القلعة فوقهم. قاموا واتجهوا إلى الشمال.

في يوم 16/7/1948 في الساعة 9,30 صباحا وصلت برقية من اسماعيل الصفوري إلى فوزي القاوقجي: دخل اليهود صفورية.. على أبواب الناصرة.. أنقذوا..

حاول فوزي القاوقجي إقامة خط دفاع على محور يشرف على سهل البطوف شمال صفورية ليحفظ قلب الجليل. لكن الهاغاناه اخترقته في يوم 18/7 وأعلنت الهدنة الثانية في 18 تموز.

أول قرية وصلها أهل صفورية عرّابة البطّوف. ناموا في عرّابة تلك الليلة. أطعم أهل عرّابة الناس. بدأ بعض الناس يبيعون أسلحتهم ليشتروا مايحتاجون إليه.. مد عدس وكيس طحين. أكمل أكثر أهل صفورية طريقهم. الرامة ثم شعب. شعب بلد زميل قيس في المدرسة. بعد شعب، دير القاسي بلد زميل قيس الآخر في المدرسة، صبري الحمود. نزل مع أسرته ضيوفا عنده. دير القاسي على الحدود اللبنانية. مع قيس ستن ومع أبيه مسدس ومع عمه روسية تسمى أم فشكة، ومع عمه الآخر بارودة. قال لهم أبو صبري الحمود: لاتأخذوا السلاح معكم لأن العسكر اللبنانيين يصادرون من الفلسطينيين أسلحتهم. فتركوا السلاح عنده! في اليوم التالي ترك قيس وأهله دير القاسي إلى الرميش اللبنانية. ومنها انتقلوا إلى بنت جبيل. بقي الناس هناك تحت زيتون بنت جبيل. مايزالون يتوهمون أنهم سيعودون. يجلسون حلقات تحت الزيتون ويتناقلون الأخبار التي تأتيهم من فلسطين. عرفوا من تلك الأخبار أن اليهود دخلوا إلى صفورية ونسفوها بيتا، بيتا. أول بيت نسف بيت قيس في صفورية الجديدة في السدر.

وزعت بلدية بنت جبيل على الفلسطينيين يوميا خبزا وحلاوة وجبنا وزيتونا أسود. وقف قيس في الصف. في الصف أيضا محمد الموعد الغني، زعيم حمولة كبيرة، ضخم الجسم. أمامه وقف الشيخ حسن الذي كان خطيبا في الجامع. ينتظر كلاهما حصته من المعونة! كان الشيخ يدعو في خطبه خلال الاشتباكات بين اليهود والعرب: اللهم رمّل نساءهم، اللهم يتّم أطفالهم، اللهم اجعل أموالهم غنيمة للمسلمين! أمسك محمد الموعد برقبة الشيخ حسن وصرخ: كنت إذن تدعو الله علينا، كي ييتّم أولادنا ويرمّل نساءنا ويجعل أموالنا غنيمة لهم! في اليوم التالي وقف قيس في الصف أيضا ينتظر حصة أهله من الخبز والجبن والزيتون والحلاوة، فأعلن أن مايأخذونه هبة من المطران مبارك. كان المطران مبارك قد بقي في حيفا واتهم بالتعاون مع اليهود. محمد الموعد واقف أيضا في الصف! صرخ: يطعمنا الآن المطران مبارك؟! أين الحاج أمين الحسيني الذي كنا نقول فيه "سيف الدين الحاج أمين"؟! أيجب أن نقول الآن سيف الدين المطران مبارك؟!

في بنت جبيل أدرك الناس أنهم لن يعودوا خلال أيام إلى بيوتهم! لذلك تسللوا إليها ليأتوا بما يحتاجونه. خلال ذلك كان اليهود يصيدونهم. فقتل منهم في التسلل إلى بيوتهم أكثر مما قتل منهم في الدفاع عنها.

قرر أهل قيس السفر إلى سورية بانتظار الفرج. البقاء تحت زيتون بنت جبيل مستحيل! ذهبوا إلى رياق، وأخذوا القطار من رياق إلى الشام. وصلوا إلى دمشق مع مجموعة من أهل صفورية. وجدوا مخيما جاهزا لهم قرب التجهيز فنزلوا فيه أسبوعا. ثم استأجر أبو قيس وإخوته بيتا عربيا في المزة، فيه خمس غرف، نزلوا فيه.

راحت صفد، ولكن هل تروح البلاد كلها؟ هل تضيع أيضا صفورية؟ تذكر أبو قيس كلام صاحبه التاجر اليهودي الذي كان يشتري منه الغنم ويبيعه للجيش البريطاني: ياأبا قيس، بع كل شيء وارحل! صفورية ستكون لنا!

تجمع وفد من رجال العرب بينهم أبو قيس وقابلوا الملك عبد الله. شكوا؟ طلبوا؟ توجه العرب كلهم إلى قياداتهم وهم يعرفون أن القيادات لاتستطيع أن تخرج "الزير من البير". قال لهم الملك عبد الله: اخرجوا من بلدكم وستعودون إليه بعد أن يهدأ القتال! كلها أيام!

من نشر في تلك الأيام الدعوة إلى الخروج؟ اليهود الذين أذاعوا أخبار المذابح ونادوا: اهربوا! والعرب الذين قالوا يومذاك: الأرض ولاالعرض! عكس ماستقوله فاطمة البرناوي فيما بعد: لايوجد شرف شخصي في وطن مغتصب! والسياسيون العرب الذين همسوا: اخرجوا، كلها أسبوع أو أسبوعان.. ستدخل الجيوش العربية في 15 أيار وتحرر فلسطين من اليهود! وسترجعون إلى بيوتكم بعد التحرير. ومع ذلك رجع أهل القرى متسللين إليها وبقوا حتى طردوا منها. ولم ينس أحد من أهل فلسطين الذين تركوها مفتاح بيته! أقفلوا الأبواب جيدا وحملوا المفاتيح معهم!

كتب رابين قائد القوات التي احتلت اللد والرملة في مذكراته عن تهجير أهل اللد والرملة اللتين لاتوجد فيهما أية قوات مسلحة عربية. قال إن بن غوريون أمره ويغال ألون بطرد سكانهما الخمسين ألفا، فاستعمل الإرهاب. لذلك كانت العملية مأساوية واضطرت القيادة فيما بعد إلى دعاية تشرح فيها الأسباب التي "أجبرتنا على القيام بمثل هذا العمل القاسي الوحشي". لكن السلطة الإسرائيلية لم تسمح بنشر هذا المقطع من مذكرات رابين.

في المزة التقى أبو قيس بملحم الذي يزوده بدخان فلسطين. يهرّب ملحم الدخان من ترشيحا وشعب وشمال فلسطين المشهورة بتبغها إلى لبنان ودمشق. ويعيش بذلك من بقي في تلك القرى. ملحم من قرية جبّ جنين في البقاع. حكى له أبو قيس عن السلاح الذي تركه في دير القاسي في فلسطين. فقال له ملحم: آتيك به بأجر. عظيم! قال قيس لأبيه: لن يعطيه أبو صبري الحمود السلاح إذا لم يرافقه واحد منا! سأذهب معه! ألح قيس على أبيه حتى وافق: رافقه. لكن افهم أن الفوضى أخطر من الحرب!

ركب قيس وملحم الباص المسافر من الشام إلى بيروت. من بيروت أخذا باصا إلى جبّ جنين. بقي قيس في القرية عند ملحم أسبوعا حتى اكتملت مجموعة المهربين وجهزت المهربات. في النهار كان قيس يخرج إلى البساتين. هناك رأى فتاة على شجرة جوز ضخمة. رفع رأسه إليها. ابتسمت له. بين يديها شيء تأكله. جوز؟ قالت له: أرمي لك؟ ماذا ترمي له؟ تذكر شجرة التوت في كرم ابن عم أبيه وغزالة على الشجرة. سألته غزالة: أرمي لك التوت؟ فنشر ذراعيه. فضحكت. فهمت أنه يريد أن ترمي نفسها عليه. نادته: أنت اصعد! من يرى الآن، غزالة أم هذه الفتاة التي لايعرفها؟ أين أنت الآن ياغزالة؟

وقت اكتمل التحضير خرج قيس وملحم وأخواه وآخران من جبّ جنين ظهرا باتجاه فلسطين، مروا في المساء من الرميش على الحدود اللبنانية. عينهم على دير القاسي الفلسطينية. يفصل بين القريتين طريق معبد للسيارات. هناك تعلم قيس كلمة كروسّه. قال ملحم هامسا: لبنانيون.. بس تقطع الكروسّه.. سأله قيس: عمي ماهي الكروسّه؟ ظن قيس أن ملحم قال له: الطريق. وسيظل يحتفظ بذلك الخطأ في ذاكرته. ماالفرق على كل حال بين الطريق وبين العربة التي تقطعه؟ لامرور للمهربين إلا عندما يخلو الطريق من العربات والناس! احتموا بشجيرات شوكية وهم يراقبون الطريق. مرت دوريات، ومرت سيارات. خوفهم من الدوريات اللبنانية، فإسرائيل ليست لها بعد دوريات تجوب ذلك الطريق. لاتزال مشغولة بما احتلته من فلسطين! قطعوا الطريق مسرعين. وفي الساعة الثامنة مساء تقريبا وصلوا إلى دير القاسي. تركوا قيسا في بيت زميله صبري الحمود، وذهبوا ليبيعوا ويشتروا في شعب. "في عودتنا نأخذك معنا". بقي قيس أربعة أيام في دير القاسي. في اليوم الخامس مساء أتى ملحم وقال له: اليوم! فودع صبري الحمود، وتناول من أبيه الأسلحة: مسدس أبو نقطة حمراء، عيار 8 مم، حمله قيس. ستن حمله ملحم. بندقية حملها أخوه محمد، وبندقية حملها أخوه الثاني. طلعوا من شعب في الثامنة مساء تقريبا. للمهربين وقت دقيق يحسبون فيه زمن الوصول وزمن العبور وزمن الدوريات المحتملة! على الحدود الفلسطينية اللبنانية ربضوا يراقبون الطريق من الجهتين. كانوا في منخفض يمكن أن يلاحظوا منه أية سيارة. عبروا الطريق الفاصل ركضا. ودخلوا لبنان. بعد مئة متر تقريبا دوى صوت: قف! ودوت عدة طلقات. فركض كل منهم في اتجاه. ركض قيس خمسين مترا إلى الوراء. عائدا إلى فلسطين؟! لايشعر أنها لم تعد بلده؟ ركض في اتجاه فلسطين! ثم قبع وانطوى على نفسه جالسا قرب بلاّنة. في السماء قمر ضعيف أقرب إلى الهلال، لكن الرؤية ممكنة. سحب المسدس من جيبه وجهزه. تقتل من ياقيس؟ لا! لم يفكر إلا في الهرب! مرت عشر دقائق كعشر ساعات.. ثم، هاهو دركي يمر قرب قيس تماما. يكاد يدعس قدمه! حبس قيس نفسه. خيل إليه أن صوت تنفسه يمكن أن يسمع. غطته البلاّنة. مر الدركي اللبناني! أف! سمعه قيس بعد فترة يقول لزملائه: ركضوا إلى الأمام! الكلاب! هربوا! تركوا المهربات والبغلين! بقي قيس مكانه حتى ابتعدوا مئتي متر تقريبا. عندئذ وقف وركض باتجاه فلسطين. أطلقوا النار. ركض، لم يتوقف. وجد نفسه في كرم تين. كان متعبا وجائعا. أفطر تينا! وفي ضوء الفجر شعر بأنه في فلسطين. لم يعرف ماحدث له إلا بعد أن وصل إلى دير القاسي. قال له صبري الحمود في لهفة: تعال! وقال أبوه: عرفنا أن "الإخبارية" راحت إلى الرميش عن المهربين وهم مايزالون هنا يشترون مهرباتهم. انتظروهم وحضروا لهم مصيدة! عرفوا الوقت المتوقع لوصولكم. لم يبق في جسم قيس مكان مكشوف دون جروح. جرحته البلاّنة التي لطي قربها! قال له أبو صبري الحمود: تريد أن تعود إلى أهلك الآن؟ جروحك تفضحك. ستبقى حتى تشفى جروح وجهك على الأقل! البيت بيتك وأنت مثل صبري!

وقت شفيت جروح قيس رافق أهل الضيعة إلى الرميش في النهار. ماتزال بعض القرى في فلسطين غير محتلة، والناس يشترون حاجاتهم من لبنان فيذهبون من دير القاسي إلى الرميش. ذهب قيس مع الناس إلى الرميش، ومنها قصد بيروت. ومن ساحة البرج ركب باصا إلى جبّ جنين.

عندما رآه ملحم ومحمد هتفا: حي؟ راحت البغال ومااشتروه من مواد، ونجا السلاح لأنه على أكتاف الرجال. قال له ملحم: لم أعد بعد إلى الشام. ماذا أقول لأبيك؟ كان ملحم يبعث يوميا إلى المخفر من يشم الأخبار: "حدا انمسك، حدا انقتل؟" لم يأته خبر يقين. قال: اختفى الصبي! ولم يجرؤ على السفر إلى الشام. فرح ملحم ومحمد: رغم الخسارة، أنت حي! بقي قيس أربعة أيام في جب جنين. في الساعة الثالثة بعد الظهر، بعد الغداء قال له ملحم: هيا! وحمّله السلاح. خرج المهربون من جبّ جنين التي تطل على البقاع، ومشوا، مشوا.. عندما طلعت الشمس كان سجن المزة خلفهم. عبروا حتى المزة الحدود السرية للمهربين، الذين لاتوقفهم بعد الحدود بين بلاد الشام!

أعطى أبو قيس ملحم أجره، وتعويضا عما خسره. وكتب قيس في سجل حياته: هذه أول مرة رجعت فيها إلى فلسطين!





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:08 AM [ 24 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






- 14 -


عجت دمشق بالفلسطينيين. انتقل من حمل بعض ماله معه إلى بيوت استأجرها. ودبر المتعلمون عملا. تحتاج سورية إلى مدرسين. كانت تطلبهم من مصر، وهاهم الفلسطينيون، متعلمون ومختصون بالتدريس. سيعاملون كالسوري. وسيساعد الهلال الأحمر وأغنياء دمشق الفلسطينيين الذين خرجوا بملابسهم فقط. صار العرب أصحاب البيوت والمدن والأراضي والأعمال لاجئين يحتاجون مساعدة. تصل إليهم مساعدات غذائية، ولكن لن تأتي أبدا مساعدة عالمية تفرض عودتهم إلى بيوتهم التي خطفتها منهم إسرائيل!

وصلت أميرة مع أسرتها من بيروت إلى دمشق. كانت أسرة محظوظة فلم تنزل في المدارس والجوامع، بل تنقلت بين بيوت لم تعجبها ثم استأجرت بيتا في شارع بغداد. يخترق الشارع البساتين حتى القصاع، تعبره عربات الخيل بالمتنزهين في الليالي المقمرة. في أوله بساتين كانت تسمى "وراء الدور"، خصّ بها خالد آغا أولاد زوجته الثانية رابية خانم فبعثروها بالقمار كما بعثر أولاد عبد الرحمن باشا اليوسف أراضي أبيهم وبيوته. تمتد البساتين حتى قاسيون وسوقساروجا والقصاع، مسيجة بالبيلسان والزيزفون والورد الجوري، مزروعة بالخضار وأشجار الفواكه. على جانب شارع بغداد أبنية متفرقة من الحجر من ثلاثة طوابق. استأجر أحدها أبو أميرة وأهله. إلى جانبه بيت ديبو أحد رجال الثورة السورية. ومقابله بيت بهاء، ابن خالد آغا. في الأمسيات يعبر ديبو الشارع إلى بيت بهاء ليلعبا "دق" طاولة زهر. بينهما مباراة أخرى في زراعة الزهور. يوم وصلت أسرة أميرة كانت حديقة بهاء مزروعة بالمارغريت، فيها أقفاص عصافير الكنار معلقة على شجرة فراسكين، والسمك الأحمر يسبح في البحرة، والبط في الساقية التي تمر غزيرة وسط الحديقة. في تلك الجنة جلس بهاء مع ديبو قبل أن يتطوع في حرب فلسطين، وضحكا من زوجة ديبو: خرجت إلى الشرفة و"غسّلت" المؤذن الذي مر داعيا أصحاب البيوت القليلة إلى صلاة الفجر. صرخت، تلحقنا إلى طرف البلد؟! من قال لك إن الصلاة خير من النوم! روى ديبو لصاحبه أن زوجته الأولى كانت عكس هذه تماما. فسرقت منها بنتها في الباخرة وهي راجعة من استنبول! كانت تلك آخر قطرة في الكأس! أم تسرق منها ابنتها وهي في باخرة تستطيع أن تنبشها وتفتش كل من ينزل منها؟! لكن هل كنت أتصور أنني سأقع في النقيض؟ لامأخذ على هذه المرأة إلا المنصب! يناسبها أن تكون حاكما عاما لازوجة في بيت! بعد تلك الجلسة غاب بهاء في حرب فلسطين، ولم تفتح طاولة الزهر. وصارت ليلى هي التي تطعم السمك والبط، ومعتصم هو الذي يسقي الحديقة كابحا ضيقه بالممرات التي نثر فيها أبوه البحص.

بيت أميرة في شرق دمشق وبيت قيس في غربها. لكن ماأسهل أن يعرف قيس مكان أميرة وإخوتها! يتناقل الفلسطينيون العناوين فكل منهم يبحث عن الآخر! التقى الأصدقاء قيس ويسار ويحيى، وتحدثوا ساعات، عابرين المدينة مشيا من بساتين شارع بغداد إلى بيوت ومخازن شارع العابد إلى بساتين الربوة والمزة. واستمتعوا بطريق الربوة الظليل، وسحر صداقة الفتيان. تتنظر أميرة زيارة قيس واقفة في الشرفة. تطل من الطابق الثالث على البساتين المزروعة بالأرضي شوكي. وتراه من بعد على الرصيف العريض. يرفع نظرته إلى الطابق الثالث مستطلعا منذ يقترب من بيتها. يراها واقفة في الشرفة، فيبتسم لها، ويتبادل معها من بعد الإشارات. يبطئ في مشيته قدر مايستطيع، ويتمنى أن يبقى ثابتا على الرصيف العريض. ثم يدخل إلى البناء الأبيض، فتدخل أميرة منتظرة أن يدق الباب لتفتحه له كأنها لاتعرف من الطارق. هل تنقل له كفها المسترخية في كفه فرحها بزيارته؟ هل تنقل لها نظرة عينيه شوقه إليها؟ يترك أحيانا في كفها ورقة مطوية عدة طيات، فتسرع إلى غرفتها وتقرأ قصيدته. لاشيء غير ذلك! لاكلمة عزيزتي ولاكلمة حبيبتي! تقرأها مرات وتحاول أن تستخرج منها أكثر مما تعني. ينصرف قيس إلى أخيها حتى تدخل حاملة لهما القهوة. قال لها: تلبس نساء المزة الملاءة الصفدية. ماأحلى اللون البرتقالي! كأن الدنيا دائما في الربيع! يذكّرها بأنها كانت تكشف له ملاءتها أمام الدكان في صفد؟ ابتسمت: لكني هنا لاألبس العباءة الصفدية. أخرج كما تراني! هل أميرة حب قيس الأول! لعله شعر بالحب أول مرة يوم أحبها! ولعل أول قصائده كانت لها!

عندما تحمل أميرة له ولأخيها القهوة تبقى قليلا معهما. يتشاغل عنهما يسار قليلا. فيحمّل كل منهما نظرته قدر مايستطيع من الوجد. يرفّ القلب الفتي، وتمر السعادة كالبرق متوهجة ومسرعة. ثم يأتي يحيى وأصدقاؤه أبناء صفد، فتعود أميرة إلى الشرفة. وتتابع قيسا وهو بينهم يمشي نحو المدينة.

نزلت ليلى خمس درجات إلى الساقية وأطعمت البط. واستمتعت بتزاحمه قربها. ماأرشق سباحته وماأقبح مشيته! يجب أن يعرف الإنسان المكان المناسب له كي يسبح كالبط ولايمشي مثله! فكيف ستعرف ليلى مكانها في هذه الحياة الواسعة؟ أطعمت العصافير ثم جلست قرب المارغريت. مقابلها أميرة. نظرت كل منهما إلى الأخرى وابتسمتا. جارة جديدة؟ قطفت ليلى زهرة مارغريت ومدتها نحو أميرة. نعم سآتي! بعد دقائق عبرت أميرة الشارع إلى ليلى، فأطعمت ليلى البط مرة أخرى مع أميرة، ووقفت معها قرب أقفاص الكنار، ثم قطفت لها باقة من زهر المارغريت. ماأخف الصبا! ماأسهل التعارف والصداقة والزيارات والحديث فيه! من يسبق الآخر، هي أم أميرة؟! أميرة أكبر منها؟ لابأس! كل منهما معجبة بالأخرى! ليلى مسحورة بضوء الرضا في وجه أميرة. وأميرة معجبة بما سيعجب قيس في ليلى. تجمعهما العوالم التي تفصلهما. حياتان إحداهما في صفد والأخرى في دمشق. في إحداهما شابة تلتف بعباءة صفدية، وفي الأخرى فتاة تلبس الجوارب القصيرة! هل قالت لها ليلى في اعتداد أم في أسى: أبي من المتطوعين، كان حول صفد، وقتل في الجليل! وصفت لها أميرة وقتذاك المدينة والقرى التي تحيط بصفد، وحكت لها عن الليلة الأخيرة فيها. فرصفت ليلى الصور التي رسمتها بحديث أميرة إلى جانب الصور التي رسمتها من حديث أبيها. لكنها لن تستطيع أبدا أن ترى تلك البلاد.

تستمتع ليلى بنقر حوافر عربات الخيل التي تنقل المتنزهين في شارع بغداد! تحب الرطوبة التي تهب من البساتين في الصيف. تصعد إلى السطح لتطل على الأشجار والنهر وتتابع أسراب الحمام التي تدور في السماء، ويخيل إليها من السعادة أن للقمر عبقا كعبق زهر الليمون. يوم صرخت زوجة ديبو غاضبة على المؤذن كانت ليلى تستمتع بصوته الحلو الذي تسرب بين الصحو والنوم. لكن كم هي حزينة اليوم! صعدت إلى السطح كي تبكي في حرية. عرفت أن إحسان كم ألماظ قتل في سمخ. قتل الشاب الوسيم الذي تناولها من أمها وحملها على ذراعيه من محطة الترام في البارلمان إلى البيت! قال لأمها يومذاك: ياخالتي لاتقلقي علي! لن نضيع الوقت في انتظار سيارة أو عربة. لو عرفت أن ليلى مريضة لدبرت سيارة انتظرتنا أمام الطبيب! مازح ليلى طول الطريق: مريضة وخداك كالوردتين؟! تتمارضين لتذكرينا بقصيدة ليلى المريضة في العراق! ليلى استمتعي بالسماء والشجر! ياخالتي، مدي يدك إلى جيبي، فيه قطعة شوكولا ضعيها في فم ليلى! ألذلك استمتعت ليلى بمرضها يومذاك؟ مع أن الطبيب قال لأمها، انتبهي! التهاب قصبات، قد يصبح ذات الجنب!

أخفت ليلى حزنها عن أميرة. كما أخفت أميرة حبها عن ليلى. تسعدهما الصداقة الجديدة. يسعدهما اختلاف لهجة إحداهما عن لهجة الأخرى والفرق في العمر بينهما. لماذا لم تبح لها أميرة بحب قيس؟ ماالفائدة؟ ذلك الحب مثل ربيع قصير فقد مروجه!

قال أبو قيس: ليست العودة إلى فلسطين مسألة أيام كما وعد الأمير عبد الله وفدنا! لم تعد فلسطين بدخول الجيوش العربية إليها، كما توهم العرب! احتلها اليهود قبيل دخول الجيوش العربية. وجهزوا أنفسهم لاستقبال تلك الجيوش. وحاربوها مجزأة، مرة هذه ومرة تلك! وهرع العالم كي يفرض الهدنة على العرب كلما لمح هزيمة اليهود! لن تعود فلسطين قريبا! قرر أبو قيس أن يلحق علاقاته التجارية التي نسجها منذ السنوات الثلاثين في شرق الأردن. سيفتح مخزنا للتجارة بالقمح والحبوب في إربد. وسيكون قريبا من نسيم بلاده. قال: كان اليهود مشتتين في البلاد؟ لسنا نحن الذين فرقناهم، لكنهم قدّروا علينا أن نكون مشتتين في الأرض! ودّع ياقيس أصحابك الذين درست معهم في صفورية وفي صفد ثم رحلت معهم إلى دمشق!

في أواخر أيلول 1949 ودع أبو قيس إخوته، وودع قيس أصدقاءه وأميرة. لن يراها أبدا! ستتزوج أميرة فيما بعد ممن يستطيع أن يتزوج. وستقول ليلى لنفسها وهي تبكي على إحسان كم ألماظ على السطح: تغري الدنيا بما هو أوسع من الحب!

بعد عقود من السنوات التقت أميرة بليلى في حي لاتوجد فيه بساتين. كانت ليلى قد فقدت زوجها في آخر الحروب بين العرب وإسرائيل. ولم يكن لها منه أولاد. وكانت أميرة قد اشتغلت مع زوجها في الخليج، وتفرق أولادها في البلاد التي قبلت أن يدرسوا أو يشتغلوا فيها. دفعت كل منهما بطريقتها ثمن فلسطين. لم يكن عندهما وقت للحديث. لكن نسيم البساتين القديمة هب عليهما. تجولت أميرة مرة أخرى في صفد كأنها في تلك البرهة تركتها. وتخيلت ليلى البلاد التي بقي فيها أبوها.

في إربد، استأجر أبو قيس دكانا بدأ فيها تجارة بالحبوب. واستأجر شقة في بيت عربي مفتوح على باحة. يشترك بالباحة جيران آخرون. كان ذلك البيت معبرا إلى بيت آخر سيستقر فيه. لكن قيسا وجد في ذلك المعبر حبا رائعا. كان قد بدأ يصبح هاوي كتب، كأنه يبحث فيها عن جوهر الحياة، ويطلب الجواب على لماذا وكيف! قطع عليه قراءة كتاب في يده صوت نجيبة بنت الجيران. رفع رأسه ورآها في الباحة أمام الطابون تخبز الخبز. كانت جالسة على كرسي منخفض متباعدة الساقين، ترقّ العجين وتدوّره وتضعه على الطراحة المستديرة، ثم تلصقه على جدار الفرن وهي تغني: يابو الحلق، ياعود ريحاني، يبلاك بصربة عرب، والكل عزباني، وتكون ليلة عتمة، والسرج مطفية!

استمع قيس ذاهلا إليها. ياللشعر الجميل! وياللأمنية! انتبه وقتذاك فقط إلى الفتاة. كانت حلوة! ظل يستمع إليها حتى سكتت وتكوم الخبز الساخن قربها. فعبر الباحة إليها: يانجيبة، مارأيك في واحد بدلا من "صربة" عرب؟ جفلت. كان وجهها متوهجا من حرارة الجمر. تناول قيس قطعة من رغيف ساخن! ومن هناك بدأ بينه وبينها حب رقيق. صارا يلتقيان بين سنابل القمح على بعد خطوات من البيت. ذات يوم علا صراخها. رأى قيس أخاها يضربها، وهي تصرخ: أحبه! أحبه! هب قيس نحو الصوت، وأمسك بيد أخيها. التفت إليه أخوها وقال: سافلة! ففهم قيس أن الشتيمة له!

انتقل أبو قيس بأسرته إلى بيت آخر. وصار يصعب على قيس أن يقصد نجيبة! ذهبت مرات إلى الحقل فلم تجده، وذهب مرات إلى الحقل فلم يجدها. كانت نجيبة أنعم من الحرير، وأطرى من الخسّ. ثم شغلت المدرسة قيسا، وشغلته فتاة أخرى، محطة أخرى في بحثه القلق عن محور حياته.

يوم عاد إلى لبنان بعد عقود من الزمن سأل عن غزالة التي كان يلتقي بها في الكرم ويراها من شرفته قادمة من العين ويسمعها أغنية أسمهان. عرف أنها في مخيم النهر البارد. فتساءل هل يزورها؟ ليعرف هل بقيت تلك القطعة من العمر كما تركها؟ خشي من اللقاء. ويوم رجع إلى بلده استبعد البحث عن نجيبة، كي يستبقي نجيبة القديمة التي كان يلقاها في حقول القمح. هي التي طلبت أن تراه فأرسلت زوجها إليه. زارها فرأى امرأة حلوة مرحة سمينة. نادت أولادها وقالت لهم أمام زوجها: هذا هو الرجل الذي أحببته لكن الله حرمني منه! قال زوجها مداعبا: لانعرف يانجيبة، هل ذلك من حظي أم من رضا الله عليه؟

تذكر قيس قصة قرأها مرة. أولاد يلتمون بعضهم على بعض وهم يسمعون أباهم يضرب أمهم في الغرفة الأخرى. يدينها بحبها القديم ويحاكمها عليه. يتحلقون حولها عندما يبتعد أبوهم ويسألونها من ذلك الرجل الذي أحبته؟ تقول: فان لودفيغ.. ويكملون هم في فرح: بيتهوفن! كان الرجل الشرقي، زوج نجيبة أكثر حضارة من زوج تلك المرأة. ولعله أيضا أكثر رحابة من قيس الذي ماكان ليتحمل رجلا أحبته زوجته قبله!

سيسرح قيس فيما بعد في ذكرياته. لماذا سيتمنى أن يعرف مصير من عبر حياته! ليطمئن عليه؟ أم ليسوق الصور إلى آخرها ويضعها في مكانها الملائم منه؟ ليرتب سنوات عمره في رفوفها ودروجها، ويتركها منظمة مثل خزانة ملابسه؟

يوم أحب نجيبة لم يكن قد اعتمد مقاييس ليلى معيارا يقرّب منه النساء أو يبعدهن عنه. فيحسب المسافة بين رسغ القدم وبين الركبة، واستدارة الوجه، وينتقي بمقياسها.





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:09 AM [ 25 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






- 15 -


في تشرين الثاني سنة 1949 مر قيس بدكان أبيه. من أرى؟! شاكر سليمان من دبورية، وحمد الصبيح من قبيلة الصبيح في سفح جبل طابور! زيارة؟ بل تجارة ياقيس! شاكر، من دبورية المحتلة. يتسلل العرب، يشترون من إربد الطحين والرز والسكر، يحمّلونهاعلى البغال ويهرّبونها إلى بلادهم المحتلة. ماتزال الدوريات اليهودية التي تحرس الحدود قليلة. لم يخنق الإسرائيليون بعد الحدود!

من أين ستسيرون ياشاكر؟ لماذا تسألني ياقيس؟ لأرافقك! واجب الأهل! لاتمزح ياقيس! ستكون مع شاكر قافلة من أحد عشر شخصا تنطلق في المساء من قرب "بيت راس"، تمر قرب "أم قيس"، تنزل في اتجاه الغور، وتعبر المخاضة على الشريعة جنوبي الباقورة. لنمش معا قليلا! مشى قيس مع شاكر. قال له: خذني معك! معي؟! ياشاكر، أريد أن أرى صفورية! لاآخذك معي دون إذن أبيك! بل سـتأخذني معك ياشاكر! ماذا سيقول أبوك؟ سأدعي أني لحقتك رغما عنك! وهو الواقع تقريبا! كان قيس قد سمع أن لأبيه دينا في الناصرة عند شريكه عبد الله فقال لنفسه في طريقي سأساعد أبي فأستعيد له الدين!

التقى قيس بالقافلة في "بيت راس" في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر. مشى مع الرجال. انزلقوا قرب "أم قيس" نازلين إلى الباقورة في الغور. اتجهوا إلى مخاضة الشريعة. هنا قبيلة الغزاوية. تحرس المخاضة وتأخذ من المهربين خوّة! هل يتجاوزونها دون أن تنتبه إليهم؟ مشى قيس مع شاكر وحمد. كان المهربون يمشون مجموعات صغيرة كيلا يلتقطوا معا. يتقدمهم اثنان. قرب المخاضة سمعوا صيحة: قف! لامفر إذن من قبيلة الغزاوية! أخذ الرجل حصته وترك قافلة المهربين تتابع طريقها. لكن من هذا معها؟! قف ياقيس، قف! هم يهرّبون التموين، وأنت إلى أين؟ هل يعرف أبوك إلى أين تمشي؟ قال قيس: أمشي إلى صفورية! قال الرجل: تعال ياقيس، نم عندنا وفي الصباح نوصلك إلى أبيك! رد قيس: لاياعمي، سأذهب إلى صفورية! إذن، انتبه! والله معك!

قطعت القافلة المخاضة. طريقهم: سولم إلى جانب مرهافيا، أندور، جبل طابور حيث عرب الصبيح، دبورية بلدة شاكر، الناصرة، الرينة، صفورية التي كانت من قضاء الناصرة! مازال اثنان يتقدمان المجموعة. بدأ الليل! أية عتمة واسعة في الفلاة! تحاول عينا قيس أن تخترقا الظلام. يحاول أن يقرأ في العتمة خطوط الأشياء الخارجية. يلتقط حفيف الأوراق ويسبره. الريح أم حركة إنسان؟ همس لشاكر: هناك على الصخرة رجل! نظر شاكر إلى حيث أشار قيس. لم يتبين أحدا. ولاحركة. رغم المسافة بين المجموعة والأخرى تشعر كل منها بحركة الأخرى. توقفوا كلهم. لاأحد! أنت ياقيس جديد في اختراق الليل لذلك تنوهم في النسمة خطرا وتتوجس منه! سيتكرر مع قيس الأمر نفسه! سيلمح في الحياة أخطارا تخفيها العتمة وسيخبر من حوله عنها، لكنهم لن يصدّقوه حتى تقع! بعد خطوات دوت صيحة: قف! وقع الرجلان اللذان يتقدمان القافلة! كنت على حق ياقيس! ليتني كنت مخطئا ياشاكر! حقا، كان ذلك شبح رجل يقف على صخرة قرب قرية كوكب العربية المهجورة التي تحيط بها صخور ومنحدرات.

وقع رجلان من القافلة، وحادت البقية عن مسارها بعيدا عنهما. سيأخذ "قاطع الطريق" من المهربين حصته من التموين! بعد فترة من المشي دوت مرة أخرى: قف! هنا قرية سيرين العربية المهجورة! سقط الرجلان اللذان يتقدمان بقية القافلة! قال شاكر: قطاع الطرق العرب فلاحون هجّروا من قراهم ولم يتركوا فلسطين إلى البلاد العربية! يأخذون جزءا مما يحمله المهربون يعيشون به. لكن اليهود لايصرخون "قف"، بل يطلقون الرصاص! التفت قيس إلى شاكر وسقطت قطعة من قلبه. هل شعر بأن جميع المهربين الذين رافقهم سيقتلون فيما بعد برصاص الإسرائيليين؟ هل بدأ هنا حدسه الذي يصور له كاليقين ماسيحدث؟ سأل قيس شاكرا: من سيتقدمنا الآن؟ قال شاكر: الآن لاأحد! اتجهت القافلة إلى قبيلة الصبيح في جبل طابور. ودّعه هناك شاكر: ابق مع حمد! سألقاك اليوم!

في الرابعة صباحا وصل قيس مع حمد الصبيح إلى مضارب الصبيح في سفح طابور. تلفت قيس. "تبحث ياقيس في الهواء عن أثر معارك الصبيح؟ في كانون الثاني 1948 قبل الفجر اصدمت قبيلة الصبيح باليهود. سندتهم نجدات من المستعمرات والعفولة. فقصف اليهود قبيلة الصبيح بمدافع المرتر. كان المطر غزيرا فعبر اليهود الوحل بالتراكتورات. ساعد أبناء الشجرة قبيلة الصبيح فردت اليهود. وتوسط الصليب الأحمر كي ينقل اليهود قتلاهم. لكن البلاد سقطت بعد ذلك. وصارت علاقتنا ببلاد الشام كأنها تهريب!"

انتقل مع حمد قبل الظهر إلى دبورية التي تبعد ثلاثة كيلومترات تقريبا. والتقى بشاكر هناك. في دبورية استقبل أهل شاكر قيسا في ترحاب. كيف أبوك؟ وأهلك؟ وإخوتك؟ كيف تعيشون؟ أبو شاكر صديق أبي قيس. بلاد واحدة، ومصالح واحدة! ناموا الآن، استريحوا من تعب الطريق! الصباح رباح!

بقي قيس أربعة أيام في دبورية. استراح من الطريق، استعاد الناس. وبعد؟ ياشاكر، يجب أن أذهب إلى الناصرة! ماذا في بالك ياقيس؟ دين لأبي أريد أن أحصّله! في الغد اذهب مع قافلة الطحّانة ياقيس، في القافلة أخي محمد أبو صالح. ينجزون الطحن في الناصرة في يوم واحد! اذهب معهم وعد معهم في آخر النهار!

مشى قيس مع قافلة الطحّانة الثلاثة الكيلومترات بين دبورية والناصرة. عند مدخل الناصرة اتفق مع محمد أبو صالح على اللقاء به بعد الطحن في المكان نفسه وقت عودة القافلة إلى دبورية. مشى قيس إلى دكان شريك أبيه عبد الله. بين عبد الله المسيحي وبين أبي قيس ودّ وصداقة. مرحبا ياعمي! مئة مرحبا! كيف وصلت إلينا ياإبني؟ وصلت مع المهربين، ياعمي! تريد الناس أن تأكل، ياإبني! ياعمي جئت لأسترد دين أبي، ستمائة جنيه! أبوك طلب منك ذلك ياولدي؟ سكت قيس. أين الورقة التي تحملها منه لي؟ أرسلك هذه المسافة الطويلة لتأخذ هذا المبلغ الكبير، ولم يحملك ورقة؟! اسمع ياولدي! سأعطيك عشرين جنيها كي تعود إلى أهلك. وقل لأبيك أن يرسل لي ورقة مع أي شخص يختاره. دينه جاهز عندي!

آه، فشل قيس! ضاع منه تفصيل صغير! وستضيع منه في حياته تفاصيل أخرى صغيرة، رغم انتباهه الدقيق إلى التفاصيل!

في مدخل الناصرة التقى بقافلة الطحّانة وعاد معها إلى دبورية. فشلت مهمته في الناصرة! بقيت زيارة بيته في صفورية! سأل: متى تعود القافلة إلى إربد؟ لن تكون القافلة جاهزة قبل ثمانية أيام ياقيس! قال أبو شاكر لقيس: أبوك صاحبي وأنت عندي مثل شاكر! ستبقى ضيفنا حتى عودة القافلة!

في الرابعة صباحا في ذلك اليوم هزّه أخو شاكر: قيس، قم! القرية مطوقة! سيجمع اليهود أهل القرية في البيادر ليفتشوا البيوت بحثا عن المتسللين! تعال إلى البئر! تبعه قيس. البئر تحت المزراب، تجمع فيها مياه المطر. ضيقة في فوهتها، عريضة في أسفلها. أنزل أخو شاكر السلم إلى البئر فاستند طرفه إلى الجزء العريض من البئر. لايمكن أن يرى من الفوهة الضيقة! دلى قيسا بالحبل إلى السلم. نزل قيس إلى البئر فغاص في مائها حتى وسطه مستندا إلى الحائط الذي لايرى من الفوهة. وقف ساكنا زمنا طويلا. ثم سمع أصواتا، وشعر بأشخاص يطلّون من البئر ويتوقفون هناك. ثم ابتعدوا وعاد السكون. ظل قيس ساكنا في مكانه حتى الساعة الثامنة والنصف صباحا. وقتئذ أتى أهل شاكر وأخرجوه. أشعلوا نارا أجلسوه قربها ولفوه بالحرامات. وبدأ يرتجف. قالوا له: التقط الإسرائيليون بعض المتسللين العرب! كل عربي دون بطاقة متسلل! المتسللون أهل البلاد! ياحيف على الزمان!

قال قيس: ياعمي، أريد أن أرى صفورية! ياإبني، ينقصك وجع القلب؟! يجب أن أراها ياعمي! بيننا وبينها رمية حجر! إذن انزل إلى الرينة! في الرينة يعيش من بقي من أهل صفورية في البلاد. منهم الشيخ صالح سليم المحمد رئيس بلدية صفورية. ياعمي، هذا صديق أبي. سأنزل عنده! نزل قيس إلى الرينة ضيفا على الشيخ صالح سليم المحمد. ابن الشيخ صالح زميل قيس في المدرسة، في صفورية وفي صفد. رحب به صالح سليم المحمد. أهلا ياابني! كيف رجعت؟ مع المهربين! ياعمي أريد أن أنزل إلى صفورية لأرى بيتنا! تأمله الرجل. أتيت من هناك كي ترى بيتك؟ من ينكر الحنين على شاب في عمر قيس!

استمتع صالح سليم المحمد بمجد حياته. عاش في قرية غنية، انتخب رئيسا للمجلس المحلي في صفورية عدة دورات، حتى سنة 1948. أشرف مع أعضاء المجلس البلدي المنتخبين على الثقافة والمياه والضرائب والمدارس والبناء والتموين. قدم باسم المجلس مساعدات للدير والراهبات في صفورية مكافأة على خدمات عيادة الدير الطبية المجانية. في سنة 1946 قدم للدير خمسين جنيها وكمية من زيت الزيتون.

لكن صالح سليم المحمد حسم قرار حياته. لن يترك البلاد! سيظل يحوم حول قريته. وفي سبيل ذلك هيأ نفسه كي يتحمل المرّ. فهل يفوته مادفع بقيس إلى قريته؟ فلير قيس بيته المنسوف! يعرف صالح سليم مصير صفورية. لم يخربها قصف الطائرات الذي قتل امرأة مع أولادها وهدم بيتها. خرب صفورية النسف الذي تناولها بيتا بيتا ليمحوها من وجه الأرض. لايعرف صالح ذنب صفورية التاريخي. سيعرف ذلك قيس.

قال صالح سليم المحمد لقيس: اسمع، يطلب اليهود قطّافين يقطفون لهم زيتون صفورية. انزل مع القطّافين! لكن انتبه! يشرف العسكر الإسرائيليون على القطّافين! هل خبأ صالح سليم نقطة ضوء في قلبه وهو يحنو على قيس، حتى وهو يعرف أنه سيصل إلى صداقة بن غوريون فيما بعد ويصبح مرات نائبا في الكنيست عن حزب العمل؟

نزل قيس مع محمد إبن رئيس البلدية، ومع أهل صفورية ليقطف معهم زيتونهم الذي أصبح للإسرائيليين. عبر معهم مرج الذهب في صفورية، ثم دخل إلى صفورية المنسوفة. على عمود بازلتي قديم بجانب العين في وسط صفورية جلس عسكري إسرائيلي مع زميل قيس في المدرسة! هذا محمد عبد المجيد! مايزال العمود القديم مكانه قرب النبع! مايزال بناء عين صفورية الذي أنشأته البلدية مكانه في وسط البلد قرب الشارع الرئيسي الذي يعبر القرية على "رأس البيادر"! مايزال الماء يجري إليه من القسطل! ماتزال الحنفيات التي يستقي منها أهل صفورية موجودة، قربها مستودع ضخم ومكان تشرب منه المواشي والخيل! ولكن أين أهل القرية؟ أين النساء الراجعات من العين؟ أين الجالسون في استرخاء على المصيطبة؟ نهض محمد عبد المجيد عندما لمح قيسا وتقدم منه في لهفة. قبّله: أنت هنا؟! تناول قيس منه التحية والقبلة. ابتسم له؟ هل يستطيع قيس أن يرد الابتسامة؟! ودّعه ومشى في طريقه. يجب أن يخفي قهره! يجب أن يظهر فرحه برفيق المدرسة! ولايستطيع قيس هذا أو ذاك! وفي حياته كلها سيكون مقتله انفجار عواطفه في ملامحه! ياربي! كل مايشير إلى معرفة سابقة رعتها هذه القرية ومدرستها وحقولها وشجرها يمكن أن يكون خطرا على قيس الآن! مشى مع "قطّافي الزيتون" أصحاب أراضي صفورية التي لم تعد لهم ولم يعودوا سكانها! قال له محمد بن صالح سليم المحمد: انتبه! زميلك هذا يعمل مع الاسرائيليين!

أكمل "القطّافون" طريقهم إلى كروم الزيتون الواسعة في وادي النصارى. هناك القطاف. انتشر أهل صفورية في الحقول التي يجب أن يقطفوا زيتونها. وانتشر حولهم الجنود لكن هؤلاء لم يكونوا كثرة. ترى هل سيحمي محمد عبد المجيد ذكرى زمالة المدرسة؟ أم سيشي بقيس فيلتقط الإسرائيليون متسللا؟! هل في قلب من خان أهل بلده شيء من القهر يدفعه إلى التستر على زميله؟ قال قيس لمحمد بن صالح: سأتسلل لأرى بيتي! سألقاكم في طريق العودة! ياقيس، انتبه! ينتهي القطاف في الساعة الرابعة! سنعبر في العودة مرج الذهب! إذن أنتظركم في مرج الذهب!

تسلل قيس في اتجاه السدر جنوب بيته. الطريق أسفل بيته. رفع عينيه فرأى كومة من الأنقاض، لمح على قمتها كلبا. نعم، الكلب الذي رباه منذ كان جروا صغيرا! في النظرة الاولى لم ير إلا رأس الكلب. لابد أن الكلب أيضا لم ير إلا قمة رأس قيس. من منهما ركض إلى الآخر؟ همهم الكلب، نبح، بكى، فرح، هز ذيله من طرف إلى طرف. هس! ولاصرخة! الفضاء، الفلاة، الهواء، الحاكورة، الشجر الباقي، الزيتونة التي ربطني أبي إليها ذات يوم، ركام البيت، أرض حرام! هس! ولاهمسة! لكننا سنبقى معا! سيحمل كلبه من صفورية إلى إربد! سيعبر به أرضا محتلة إلى أرض لم تحتل! سينقله من بيت الأمس المنسوف إلى بيت اليوم! هل كنت تحرس الأنقاض؟ هل شعرت بأني سأعود؟ اهدأ، اهدأ! سنبقى معا! ستكون الدليل إلى أني وصلت حقا إلى صفورية، إلى أني زرت بلدتي المسروقة، المهجورة، المنسوفة! لا، بل سيبحث عن دليل آخر! بدأ ينقب بأصابعه تحت الأنقاض. أزاح الحجارة والتراب. وجد قطعة من المرآة الجميلة التي حملها أبوه من استنبول وقت كان يعيش في صفورية ويتاجر بالغنم. وهذه قطعة أخرى! دسّ قطعتي المرآة في جيبه. حمل كلبه ومشى إلى مكان اللقاء بأهل صفورية الذين أصبحوا قطّافي زيتون في أراضيهم عند الإسرائيليين! من قريته، من بيته، من بساتين أبيه، من البيت المرفوع على عقود، المطل على طريق العين، من الشرفة التي كان يطلق فيها صوت أسمهان "اسقنيها بأبي أنت وأمي" فتلتفت إليه غزالة الراجعة من العين مع الصبايا.. من حياته كلها في صفورية يحمل هذه القطعة الممزقة من مرآة كانت كبيرة وجميلة!

التقى بأهل صفورية في مرج الذهب، وعاد معهم إلى الرينة. لكن إياك أن تبقى في الرينة ياقيس! لاتنم فيها! الرينة ملتقى الطريق بين طبريا والناصرة. فيها مخفر شرطة. يؤهلها موقعها لجولات دوريات اليهود. لاتبق فيها! تعشى قيس في الرينة، وفي الساعة الثامنة مساء ودّع الشيخ صالح. احتضنه الشيخ صالح. يعلم الله ياإبني إن كنا سنلتقي! سلم على أبيك وقل له عسى الله يجمع الشمل!

في دبورية تأمل أبو شاكر وجه قيس، ونظر إلى الكلب. حضّروا الشاي لقيس! ياابني، يكبر الهمّ إذا فكرت فيه! أنت شاب والعمر أمامك، فماذا نقول نحن؟ قد تتحرر البلاد في حياتك، لكن هل نرى ذلك نحن؟ تسأل عن القافلة؟ اشتقت إلى أهلك؟ أنت ضيفنا في دبورية حتى عودة القافلة إلى إربد. باع المهربون الطحين والرز والسكر للعرب، واشتروا بدلا منها السلاح. بالطحين يباع الآن السلاح الذي اشتراه أهل فلسطين بالذهب! يحمل المهربون خارج البلاد السلاح الذي أدخله أهل فلسطين بشق النفس وبالمغامرة بالحياة! أغلقت البوابات! إذا أتى التحرير ذات يوم فلن يكون إلا من خارج البلاد! هل يأتي؟ متى؟ متى؟ هل ضاعت البلاد؟ هل يضيع الحق في هذه الدنيا علنا، هكذا؟! تفو أيتها الدنيا! تفـــــــو!

أصبحت القافلة جاهزة! لكن المطر ينزل كأنه ينسكب من القرب. لابأس! ذلك أكثر أمنا للمهربين! المطر طقس لايلائم الدوريات! ودّع قيس أهل شاكر، ودّع دبورية. هل سيلتقي بهم مرة أخرى؟ أين؟ هل يستطيعون أن يكونوا كلهم مهربين كي يصادفهم في دكان أبيه؟ وهل يصلون دائما أحياء؟ نحن أهل البلاد الذين ننقل التموين بين عرب وعرب أصبحنا مهربين! نحن أهل البلاد أصبحنا متسللين! نحن العرب الذين شلّحنا اليهود أرزاقنا أصبحنا مشلحين وقطاع طرق نقتات مما نصادره من إخوتنا العرب المهربين! مع ذلك احبس ياقيس القهر!

مشى قيس مع القافلة. كان فيها رجال جدد وبعض الذين صادهم قطاع الطرق في طريق الذهاب! الترتيب نفسه: في المقدمة اثنان، ثم مجموعات من ثلاثة أشخاص. وقيس يسير مع شاكر. مطر وظلمة ووحل، وصوت الريح! همس شاكر: قفوا! فهجعت المجموعة ساكنة. سكن أيضا كلب قيس! صوت لاسلكي! الدورية قريبة إذن. ظلوا ساكنين حتى ابتعد الصوت.

وصلت القافلة أخيرا إلى المخاضة على الشريعة. لكن المخاضة ليست للعبور! تيار الماء جارف هادر. يتدفق المطر في النهر! ولكن لامجال للانتظار أو الرجوع! قال شاكر لقيس تمسك بذيل الفرس بكل قوتك! التفت قيس إلى الكلب: أنت، اسبح! وقف الكلب على الضفة مترددا! ناداه قيس: تعال! هز الكلب ذنبه وبقي في مكانه. ثم تقدم خطوة وتراجع! لامجال للتردد! لامجال! عبر الرجال والدواب المخاضة بصعوبة. ووقفوا مبللين على الضفة الأخرى. قال قيس لشاكر: يجب أن نعود لنأتي بالكلب! نعود؟! مجنون! اسمع ياقيس! ماصدقنا أننا عبرنا المخاضة. لانستطيع العودة! نظر قيس إلى الكلب، ثم بدأ يبتعد مع الرجال. هاجر قيس مرة أخرى، وبقي الكلب على ضفة الوطن! هل خاف كلب قيس النهر أم خاف الغربة؟

ترك قيس المهربين في القبيبات عند الباقورة. أخذ باص الشونة إربد. لماذا ردد بينه وبين نفسه طول الطريق: "عذب الجمّال قلبي حين نادى بالرحيل"؟ من أين التقط هذه الكلمات؟ وصل إلى إربد بعد 17 يوما من الغياب. فتحت أمه الباب.. وزغردت. فعرف الجيران أن المفقود عاد. كان الرجل الذي رآه عند المخاضة قد أخبر أباه بأنه قطع الشريعة إلى الأرض المحتلة. فبلغ أبوه القوات العراقية في المنطقة ورجاها أن تعرف مصيره. تعرف مصيره؟ يعود الناس إلى قراهم. يقتلون على مشارفها. يقتلون قبل أن يروها. في أحسن الأحوال يعتقلون في السجون. فهل نستطيع أن نعرف مصير اولئك كلهم! آه، صحيح، لايعرفون مصير القرى نفسها!

أخرج قيس قطع المرآة من جيبه وقدمها لأبيه: من بيتنا في صفورية! أطرق الأب. هل يحتفل بابنه الشجاع؟ هل يحتفي بابنه الذي يخترق المستحيل؟ هل يفرح بذكرى من بيته المنسوف؟ بشهادة على دمار ماأنشأه قشة، قشة؟ بحريق عمر لن يعود؟

في القافلة التالية عاد شاكر. لماذا تبدو مرتبكا ياشاكر؟ اقعد! استرح واشرب هذا الشاي! لم يعاتبه أبو قيس. فالرحلة كشفت له وجها جامحا وصلبا في ابنه. وأعادت له المشهد الأخير من صفورية. والصورة الأخيرة من بيته وأصحابه وبلاده. قال لشاكر: ألا تريد أن ترى قيسا؟ بلى ياعمي! بلى! روى شاكر أن الكلب عاد إلى دبورية.. لم يعد إلى صفورية ياعمي، بل عاد إلى دبورية! ولكن ياعمي.. لاتقل لقيس.. لاتخبره. أتى اليهود قرب الفجر، وطوقوا دبورية. نبح وهجم عليهم.. ظل ينبح عليهم حتى أطلقوا عليه الرصاص!

بقي قيس مضطربا أسبوعا. لن يخرجه من بحرانه غير المرأة! ناداه أبوه: خذ ياقيس! انزل إلى عمان وابق فيها يوما، يومين! يكافئه أم يعزيه أم يقول له صرت شابا والبلد صغيرة عليك؟ نزل قيس مع رفيقه فائز إلى عمان. ومنذ خرج من البلد امتد المدى واستعاد قيس جموحه. معه صديقه المحبوب. فائز ابن عشيرة كبيرة، مثل قيس على شاطئ الشباب. الحلم لهما معا أكثر سعة من الواقع المرئي. الحلم هو المستقبل المفتوح والمغلق! هو الغيب الذي يظنان أنه لايجسر أن يعاندهما، ويتمردان لأنهما لم يمسكا بعد مفتاحه. تجرفهما معا الأشواق فيمشيان كالمتنزهين مساء على طريق "الكمب"، يتحدثان أحيانا عن النساء، وأحيانا يعودان إلى كارثة فلسطين الموجودة على مرمى حجر ومسافة قرن! لم يتزوج فائز بعد ابنة عمه هندا ويهواها ويقتلها. ومازال قيس متنقلا بين هوى وآخر. نزلا إلى عمان ليجلسا في مقهى لايعرفهما فيه أحد، ليقصدا نساء لايعرفنهما، ليشعرا بأنهما شابين ناضجين حرّين. مع أن المال الذي سينفقانه مال أبويهما.

هل بدأ قيس منذ ذلك اليوم يؤمن بحدسه؟ ستزيده المصادفات ايمانا ببصيرته وبأن مايراه في نومه أو يتصوره، يقع! جلسا في مقهى السمرا في عمان. تحدث قيس خليّ البال مع صديقه فائز. رمضان والوقت وقت الإفطار. سمعا طلقة المدفع وأذّن المؤذن. فجأة بدأ قيس يبكي في مرارة. ذهل صديقه. لماذا؟ تسألني عما لاأعرفه أنا نفسي؟! حدث أمر لايدري بعد ماهو. بكى قيس حتى ارتوى من البكاء. ناوله فائز منديله ليجفف دموعه، ونهض: فلنمش ياقيس في الشوارع التي فرغت من الناس! البلد لنا! لن نفسد مشروع هذه الليلة!

في الصباح ركبا السيارة وعادا إلى البلد. قرب بيته صادف ساعي البريد: هذه البرقية لوالدك. أخذها قيس منه وناولها لأبيه. فتحها أبوه. من عمك ابراهيم في دمشق. "احضر حالا. توفي أبونا"! قال أبو قيس: قم! أخذا تاكسي ونزلا إلى دمشق. في الطريق بكى أبو قيس في حرقة حتى وصلا إلى الشيخ مسكين. عندما هدأ قال له قيس: "سيدي" مات البارحة وقت أذان المغرب! سأله أبوه: كيف عرفت؟ فهز كتفيه. وصلا إلى دمشق فوجدا الجنازة حاضرة. ودع أبو قيس أباه. وسارت الجنازة إلى مقبرة المزّة. في البيت سأل أبو قيس أخاه ابراهيم: متى مات أبي؟ رد: جهزنا الإفطار وجلسنا على الحصير ننتظر الأذان. قال لي أبي هات مخدة لأضع رأسي عليها. قدمت له فخذي. وضع رأسه عليه. عندما قال المؤذن الله أكبر شهق أبي ومات. وقت خلا قيس بأبيه في الليل روى له كيف بكى في مقهى السمرا في عمان في البرهة التي مات فيها جده.

سجلت لقيس مغامرته وعودته حيا من فلسطين، إعجابا بين أصحاب أهله وزملائه، انتشر في بلدته. جلس في المقهى كالرجال وقصده رجال أرادوا أن يصف لهم مارآه. لعله مر بقريتهم، لعله التقى بأهلهم أو أقربائهم! وكأن فيه بركاناً هاج بعد رحلته مع المتسللين. لم يعد يخاف شيئا! لكن القلق والشوق والأسى تهده فيفتح الباب في الليل ويخرج إلى الحاكورة ليدخن. يصحو أبوه ويتظاهر بأنه لم ينتبه إليه. صار يهدئ أشواقه بكتابة الشعر. وكأنما نضجت فجأة الخواطر التي كان يسجلها على قصاصات من الورق، وعلى الهوامش البيضاء في المجلات، فأصبحت قصائد يسكبها في جموح ثم يعود إليها ليضبطها وينقلها إلى دفتر ويثبت في نهايتها تاريخ اليوم الذي أنجزت فيه. لم يستنتج أن الشعراء والسياسيين الذين ينشد التلاميذ كلماتهم قد أكملوا صفحتهم التاريخية وأصبحوا بخلودهم تراثا وحنينا ومستندات مستمرة. وأن الحياة تطلب الجديد الذي يتصل بهم وهو يختلف عنهم. لكنه بحدسه تبين أن قدره ومسؤوليته أن يصوغ كلمات زمنه، يفاجأ بها الناس ثم يتبينون أنها كلماتهم.

أعجب المستمعين إلى قصائده الشوق المدثر بالأسى، والعنفوان الجامح، والأمل الذي يشف في نهاياتها مرة عن عناد ومرة عن رومانسية رقيقة. كان قد أنهى السنة الأخيرة من المدرسة، والمدرسة وجه البلد، ومعلموها مثقفوه، ولها مجلة ينشر فيها كتاب العاصمة المعروفون مؤلفاتهم. ومع ذلك اعترف لقيس بأنه تجاوز ماأهّلته له المدرسة، وأنه أكثر نضجا من عمره. بل قيل: في قيس نسمة من عمر الخيام! سمع قيس ذلك فبحث عن الخيام، وجده فخيل إليه أنه وجد كنزا. بدأ ولعه بالخيام. وتمنى أن يقرأه بلغته!

في البلد الصغير العيون على الجوهرة المكتشفة! اتصل المتصرف بأبي قيس: أرسله لنا! فبحثوا عنه ووجدوه مستلقيا في حقل يتأمل السماء، وبين أصابعه زهرة من شقائق النعمان! قال له المتصرف: ستلقي قصيدة أمام الملك! لم يرتجف قيس فالملك كان في ذلك الزمان يجلس بين الناس، ويلتقي حتى بالطلاب المشاغبين ويؤنبهم كأنهم أولاده.

وصل الملك وجلس بين أهل البلد. قدمت المناسف وقدم قيس كي يقرأ قصيدته الطويلة. استمع إليه الملك: بارك الله، بارك الله! كان يزهو بمعرفته دقائق اللغة العربية والشعر. فسأل وزير المعارف الشيخ محمد أمين الشنقيطي: ماذا تقول ياشنقيطي في القصيدة؟ فيها أغلاط؟ رد الشنقيطي: لم ألاحظ فيها غلطا في النحو، لكن فيها كلمات غير عربية مثل زغرد. التفت الملك إلى قيس: أنت، ماذا تقول؟ رد قيس: زغرد كلمة من أصل عربي. سأل الملك: ماذا تقول ياشنقيطي؟ رد: ليس صحيحا.. قاطعه الملك: والله هذا الصغير على حق وأنت مخطئ ياشنقيطي! أدار قيس ظهره للملك لينسحب فركض المتصرف ليعلّمه كيف يتراجع في حضرة ملك. اعترض الملك: اتركه، اتركه! واعطوه طقم باركر، وخمسة عشر دينارا!

بعد يومين من رحيل الملك وصل خبر من المتصرف: طلب القصر قيسا. يجب أن يحضر فورا! القصر؟! منذ البوابة رحبوا به. منتظر! ثم استقبله شاب وسيم: انتظر هنا! قدمت له قهوة. قدمت القهوة، ثم قدمت القهوة.

- لايستطيع جلالته أن يقابلك اليوم!

- هو الذي حدد الموعد!

رجع قيس إلى بلده فرحا بعودته إليها! في اليوم التالي أرسل المتصرف خبرا آخر: القصر يسأل لماذا لم يلب قيس دعوة الأمس، عين لقيس موعدا غدا! استمع قيس إلى المتصرف. وقال: لن أذهب! عاد إلى الحقل واستلقى على الأرض ووجهه إلى السماء! لم تكن عادته أن يتأمل زرقة السماء بل نجوم الليل، لكن ذلك كان هواه في ذلك الإسبوع!

هل أكدت تلك التجارب المرفوضة لقيس أنه مكلف بمهمة لايدري بعد ماهي؟ لاسكون في روحه كالسكون في روح زملائه! كأنه ورث حزنا عميقا من زمن قديم كان يعيش فيه قبل هذا الزمان! هل خمن أنه يجب أن يدفع الثمن، فالتميز ليس للفخر فقط، بل للعذاب!

طلبه المتصرف. صار قيس وهو بعد فتى، من المهمين في البلد؟! سيزور الملك الجديد البلد! نريد قيسا في الاستقبال! كان الملك الجديد ذا مزاج غريب. ربما لذلك أيضا كان محبوبا. يبدو أنه يحب الشعر.. جلس مستمعا إلى قيس. ثم ركب حصانا أبيض وخرج الأولاد خلفه يهللون.. ذهب ليزور النّور! كان ملكا متمردا. سجل الناس أنه نزل إلى الشعب، لكنه لايمكن أن يكون ملكا.

قال المتصرف لقيس: إذا رغبت يمكنك أن تكون من موظفي القصر! قيس يتحمل الحياة في قصر؟ وهل يتحمل قصر مزاجه الهائج؟ لايستطيع قلبه المتلاطم أن ينبض بانتظام! لن يتبين ثمن ذلك إلا في قمة العمر، وقت يأوي زملاؤه إلى حياة مستوية، وتصور قمة العمر للإنسان أن الركود استقرار وأمن، فيعتد بما لديه من مال وبيوت وأولاد مطيعين، ويبدو صخب الحياة ترفا ضيع العمر، وتكون الأيام الجميلة الماضية قد تسربت من الأصابع ولايستطيع الإنسان أن يكرر الجنون. عندما سيفتح زملاؤه صفحات حياتهم لن تكون فيها إلا كلمات قليلة. وسيضيع هو بين الألوان. لكن زملاءه العاديين سيتناولون وجباتهم في أوانها، وسيأوون إلى الفراش في وقت معين، سيستقبلون أولادهم ويستمعون إلى لغو أحفادهم، ويتوهمون أن تلك الدعة جني سنوات العمر. وسيبقى هو جوّالا في الليل والنهار بين مروجه البعيدة، وبين مروجه الممنوعة.





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:09 AM [ 26 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل





- 16 -


جلس قيس أمام مكتبة صقر على كرسي منخفض من القش، واستعرض مع صاحب المكتبة بنات المدرسة اللواتي تدفقن إلى الطريق. ميز منهن شابة أعجبته. قال لصاحبه: هي! أتعرفها؟ رد صاحبه مداعبا: اسمها شهرزاد! لكنك لن تكون شهريار لأنها غنية، أبوها طبيب سوري ترك دمشق يوم خرج منها فيصل سنة 1920.

كان قيس يومذاك على التخوم. يشعر بقوة تصور له أنه قادر أن يفتت الصخر. ويجرفه شوق عاجز إلى كل شيء. يرسل قصائده إلى الإذاعة فتقرأ منها، وينشرها في الجرائد. ومع ذلك يشعر بأنه على التخوم. لايجد بعد عملا يمسك بحياته.

صار ينهض من كرسيه ويتبع شهرزاد، يعبر الطرقات خلفها ثم يتسرب إلى درب بيتها، ويتركها أمام بوابة حديقة واسعة. قدم له صاحب المكتبة المعلومات التي تجعلها أسطورة بعيدة عن قيس: عمها طبيب الأمير! لكنه في بداية هواه لم ينتبه إلى إشارة تلك المعلومات إلى حب يائس. لم يتساءل هل تنتظر فتاة مثلها فتى مثله حتى يصبح شخصا ذا مكان؟!

مشت شهرزاد أمامه حتى بيتها. عند الباب التفتت وقالت له: ماذا تريد؟ لم يخف عليه أنها قالت ذلك دون لوم. يعجبها؟ رد: أريد أن أراك! قالت: في حديقتنا مساء اليوم. ياللخبر العظيم! لايعرف كيف وصل المساء! دفع الدقائق كأنه يدفع الدجاج إلى القنّ ليحبسها فيه. تسلل إلى حديقتها وأتت إليه، فاندفع وعانقها. ولاحظ أن أختها تحرسهما من النافذة. صارت حديقتها مكان اللقاء. حديقة كثيفة الأشجار. وزادت من إهمالهما الخطر براءة الشباب.

اقترحت شهرزاد عليه: "اقطع" تذاكر للسينما! قطع تذاكر له ولزميله ولأختها. في العتمة لمسها، وصديقه يجلس مواربا ليحميه وأختها تجلس مواربة لتحميها. بعد ذلك اللقاء أرسل قيس إلى الإذاعة، قصيدة يتغزل فيها بشهرزاد. أذيعت قصيدة "الشاعر الشاب" مرات! ونشرت في الجريدة مع مقدمة طويلة عن سيمفونية كورساكوف "شهرزاد". وسجل الكاتب أن قصيدة قيس ليست أدنى من تلك السيمفونية، لأنها استمدت ألوانها من بلاد شهرزاد وحضارتها العظيمة. وختم مقاله: لدينا جميع الإشارات إلى مولد شاعر لن يقل عن شاعر البادية القديم، مجنون ليلى!

في ذلك اليوم همس قيس لشهرزاد: افتحي الراديو في الساعة العاشرة! فجمعت صديقاتها حول الراديو. وجلس قيس في المقهى بين أصحابه يستمع إلى الراديو الموضوع على رف مرتفع. استمعت شهرزاد ورفيقاتها إلى قصيدته التي تفنن المذيع في قراءتها. كرر أحد المقاطع مرتين! محظوظة ياشهرزاد! فلنستعره منها يابنات ليقول قصيدة فينا! نهضن وقبّلنها. هنّأنها. محظوظة! كم من الناس استمع إلى القصيدة اليوم! سيتساءلون من شهرزاد التي يهواها الشاعر الشاب!

عندما التقى قيس بها كانت كلماته ماتزال تخفق في روحها. فانهمرت عليه لينة، ناعمة. وخيل لقيس أنه يتسرب من جلدها. لكنه لم يتبين ثقتها بأن ماقاله لايمكن إلا أن يقال فيها، وأنها تتوقع أن يحبها آخرون أيضا لأنها جميلة وغنية. أتت له قصيدة شهرزاد برسائل من معجبات أرسلنها مع أولاد إلى المكتبة التي يجلس فيها. طمعن في أن يحبهن كما أحبها، أم طمحن أن يلهمنه كلمات كالتي ألهمته إياها شهرزاد؟ تحب المرأة أن تكون ملهمة؟! لايدري قيس حتى اليوم سبب السحر الذي يجذب إليه النساء كلما شعرن بأنه مغرم بإحداهن!

اندفع قيس في حب شهرزاد كطالب يمتحن ويجب أن ينجح. كبطل ذي سمعة رائعة يجب أن يحافظ عليها. كمغامر راغب في كشف مجهول جديد. ولم تكن هي في عمر الزواج لتتفادى مغامرة لن تثمر. ولم يفكر قيس الذي جرفه الهوى بما يباعد بينهما.

هل سبب انتحاره أنه فكر في الفرق بين فتاة من أسرة مستقرة غنية وبين فتى لاجئ ضيع احتلال فلسطين أراضيه؟ حبه اليائس؟ وهل كان قيس يتصور حقا أن هذا الحب سيمسك بيده إلى حياة رتيبة هادئة مع زوجة؟ يأبى عليه كبرياؤه أن يضع بالزواج حدودا لحياته! لن تقفل عليه حياته امرأة! كان على التخوم. أنهى المدرسة ولم يجد عملا. تبين موهبته وفهم رغم حفاوة من حوله بها أن طريق النضج طويل. كان قلقه يشويه، والسور المغلق حوله يضغط عليه، والمسافة واسعة بين طموح لاحدود له إلى مجهول لايدركه بعد، وبين واقع كالخاتم الضيق! تموج فيه قوى عاصفة يلمسها الذين يقدمون قصائده، وتضيق بالمسارب الممكنة لها في الواقع! والفضاء الممتد حوله فراغ لاأمل فيه ولامخرج منه. نسي الحدس الذي صور له يوم حاول الانتحار قرب شجرة الزيتون أنه يجب أن يعيش كي يحمل أمرا لايعرفه بعد!

أقفل قيس الباب بالمفتاح، وجزّ شريانه فتدفق الدم وجرى من الباب. مر أبوه صدفة فرأى خيطا من الدم. صرخ: قيس! ناداه: افتح! لم يجبه. قرر الموت! ياللمجنون! قرر الموت لأنه يحب الحياة! كسر أبوه الباب، وحمله إلى طبيب البلد، أبي شهرزاد. ضمده وأنقذه. لكن الشرطة سجلت ذلك في سجلات يمكن أن تواجه بها قيسا ذات يوم. فتعاقبه على الجريمة الوحيدة التي يعاقب عليها إذا لم تنفذ!

قال أبو قيس لصاحبه شكري: ليس السبب أنه يحب شهرزاد! المسألة أنه يجب أن يشتغل أو أن يسافر إلى الشام أو بيروت ليتعلم! ياشكري ساعده! رد شكري: سأعطيه رسالة إلى المكرّم! الرجل مقتدر، ذو نفوذ، سيجد له وظيفة. فشلت ثورة 1936 لكن بعض الذين شاركوا فيها أصبحوا أبطالا بعيدا عن الثورة التي صدّرتهم!

وصل قيس إلى عمان ظهرا. فتحت له الباب شابة جميلة. فقال بينه وبين نفسه: ماأكثر الجمال في هذه البلاد! وتساءل لماذا تكون الفتيات على هذا المقدار من الحسن وينطفئن بعد زمن من الزواج؟ لكنه لم يشعر بالأسى الذي تشعر به النساء عندما يصحون برهة فيتذكرن أن أجسامهن لم تكن مترهلة، وأرواحهن لم تكن كقماش غسل كثيرا في مياه مالحة. قالت له الشابة بصوت عذب: المكرّم غائب، لن يأتي حتى المساء.

لو كان لديه ذلك الوقت بعد سنوات لتنقل بين بيوت أصحابه. لكن لم تكن لديه وقتذاك العلاقات التي توسعها السياسة والعمل. جلس في المقهى حتى المساء وعاد إلى بيت المكرّم، وهو يعرف أن وقت اللقاء به سيكون مقتضبا لأن قيسا لن يجد إذا تأخر سيارة تعيده إلى بلده.

استقبلته مرة أخرى الصبية الحلوة، وأجلسته في الصالون. ودخل المكرّم. تترك حتى الثورات الفاشلة أثرها على قامات الرجال! وتترك السلطة أثرها الأكبر! المكرّم، عضو الاتحاد والترقي، الذي رافق حملة الترعة داعية وواعظا، ثم أخذ مكان أسعد الشقيري، ثم التحق بالملك فيصل وصار رئيس النادي العربي في دمشق، وجمع التبرعات من الهند لإصلاح الصخرة المشرفة، وتظاهر في يافا ضد الإنكليز وسجن ستة أشهر، الخطيب القدير! هاهو نفسه بهيبته أمام قيس!.

تأمل المكرّم قيسا من باب الغرفة، تناول الرسالة وقرأها، ثم مد التهذيب دون أن يسحب السطوة. لكن قيسا لمح عواطف أخرى توقد عينيه وهما يشربان القهوة. برقت فيهما أشواق رمت السطوة بعيدا عنه فخفض نظره إلى الأرض كي يخفيها، وكأنه غير راض عليها. قال لقيس: سأسعى لنجد لك عملا! ونادى بنت أخيه: ياصبا! هرعت صبا فظهرت القسوة التي يعامل بها أهل بيته. قال: هاتي فواكه وحلويات! نهض قيس: أشكرك. يجب أن أسرع لأجد سيارة تنقلني إلى بلدي! قال المكرّم: لن تجد سيارة الآن. ستنام عندنا، البيت واسع وفي الصباح اخرج على بركة الله!

مايزال قيس غضا، لايستطيع رغم عنفوانه أن يفرض قراره وينفض عنه التهيب من السطوة. نهض مرة أخرى: سأجد فندقا! رده المكرّم: ترفض ضيافتنا؟ ياصبا، افرشي له في الصالون! انحنى قيس أمام الثقة التي تراكمت على المكرّم الذي اشترك في الثورة الكبرى وجنى مهابته منها ومن مركزه اليوم.

بعد العشاء غفا قيس كما يغفو الإنسان في بيت غريب. عين نائمة وعين صاحية. فراش غريب، مكان الباب والاتجاهات غريبة.. المقاييس كلها غريبة. لابأس، نم! لايتقلب الشباب طويلا! هكذا غفت العينان. وفجأة شعر بيد تلمسه. منام؟ لا! انتفض. المكرّم، الشيخ الجليل، راكع قرب فراشه. انتفض: ابتعد! أين سطوة المكرّم وهو يتوسل إليه: أرجوك! عصف قيس، وكشف له البرق والوهج ظهر الصورة، مسوّدتها، العواطف التي تذل حتى ذا السطوة. لم يكن قيس سياسيا لكنه قال لنفسه: لم يسقط المكرّم سياسيا فقط! راح زمانه. وربما كان مقتل انتفاضة 1936 أن قيادتها متنافرة ومتنوعة. ولكن لاحق لرجال الانتفاضة في أن يسقطوا هكذا! ربما انتبه بحدسه إلى المكانة التي تأسر الرموز بمقدار علوّها، وتفرض عليها الاستقامة حتى التصوف. لكنه انشغل فقط باكتشافه عالما متآكلا يختبئ بالأساطير. هذا هو الرجل الذي اشترك في الانتفاضة الكبرى؟ كان قيس شابا غضا. لايعرف بعد أن تلك الأخطاء ترصد في الرجال، ويمرّغون بها، ويجرّون بها إلى الخيانة أو إلى الانتحار. يعيش في عالم لم تنشر فيه بعد قضايا التجسس الكبرى والفضائح التي تواكبها. في عالمه لاتزال الأسرار والفضائح تغطى بالوقار! قال بصدق الشباب وجموحه: يجب أن يقتلع هذا المجتمع من جذوره لينبت آخر مختلف عنه! دون ذلك لن نستعيد بلادنا المحتلة! لمس نتيجة صحيحة لكنه بالغ فيها، بجهل العمر الغض وجهل الفتى البعيد عن السياسة. وأوغل في استنتاجه كلما أوغل المكرّم في انهياره أمامه. قال له المكرّم: أعطيك مقابل ذلك بنت أخي! ألم تعجبك؟ لايوجد إغراء يمكن أن يستبقي قيسا. فالغثيان والقرف والغضب، دفعته كي يخرج إلى الهواء النظيف. قرف قيس من الشذوذ الذي سيكون حقا طبيعيا في اوربا بعد عقود من الزمن. لكنه لم يفكر بالنساء اللواتي قبلن اغتصابهن كي يخلصن أزواجهن أو أبناءهن، أو كي يدفعن ثمن عمل يدفع عنهن الجوع. ولم يفكر بصبا التي يمكن أن يقدمها عمها.

لبس ثيابه مستعجلا، فتح الباب وخرج إلى الليل. مشى مسرعا حتى ابتعد. في السفح جلس على حافة سياج حتى طلع الفجر. وصل إلى بلده كما يصل الضائع في البحر إلى البر. وصل إلى البيت قبل أن يخرج أبوه إلى دكانه: يابا، تعال! لكن ليس هنا! مشيا إلى البستان وهناك روى له مافوجئ به. أخرج من جيبه رسالة المكرّم إلى المتصرف ومزقها. فحص أبو قيس هيجان ابنه، وهاج هو أيضا، لكنه استمع إليه في هدوء حتى غسل روحه. قال: لايطلب الثمن من الفتيات الجميلات فقط، بل من الشاب الوسيم أيضا! خذ هذه الشهادة فقط ياقيس وانس المكرّم! لاتتحدى السلطة فقط الرجال. يتحداهم أيضا العمر! لم يصمد المكرّم لاأمام السلطة ولاأمام العمر! لم تسقط ثورة 1936 لأن ملوك العرب ورؤساءهم تدخلوا فنفذوا طلب بريطانيا. بل لأن في قيادة الثورة أشخاص مثل هذا المكرّم!

مزق قيس رسالة المكرّم وقدم طلبا لوظيفة معلم وانتظر الجواب. لايريد أن يكون موظفا، ولايستطيع أن يكون تاجرا، ولايملك أن يكون مزارعا. كان البهائيون يبحثون عن مدرس لمدرستهم في العدسية. ووسطوا لذلك المشرف على التعليم. وكان بين يديه طلب قيس.





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:11 AM [ 27 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






- 17 -


قال مدير التربية لقيس: هذا مختار العدسية، يطلب معلما لمدرسة الذكور. هل تقبل العدسية؟ الشروط؟ خمسة عشر دينارا، وبيت، والطعام! شروط ممتازة، وحظ عظيم، فأهل العدسية بهائيون يقدّرون العلم! وافق قيس على شروط المختار البهائي. وأصبح في سنة 1950 معلما في العدسية.

الطريق إلى العدسية ترابي معبد. إلى يمينه شرقا جبال يخيم فيها البدو الذين يعمل بعضهم عمالا زراعيين في العدسية. وإلى يساره غربا، تنحدر الأرض نحو الغور والعدسية. في أول القرية غابة صغيرة من أشجار الكينا، تجري بينها قناة ماء تخيم حولها مجموعة العاملين في مصلحة المياه. بيكوفسكي روسي أبيض كان ضابطا في الجيش القيصري، هرب بعد ثورة اكتوبر، ويشار الشركسي، ورياض ذو الصوت الرخيم ومحمد المهجر من يافا. تمتد الدرب بعد المخيم المظلل بشجر الكينا إلى الغرب، تعبر بيت هوية، أخت سكرتير شوقي أفندي زعيم البهائيين. بيتها كبيوت العدسية، من الحجر الأسود، وسط أرض مزروعة بالحمضيات، في الواجهة مدخل البيت، إلى جانبه مدخل السيارة. في شمال المخيم درب يوازي الدرب الذي يعبر بيت هوية، يوصل إلى مزرعة واسعة ذات بوابة جميلة من الحديد المزخرف وسط سور من الحجر يعلوه سياج من الحديد بزخرفة شرقية. مزرعة أسرة بهية وغولروخ، فيها وسط بيارة الحمضيات بيت من الحجر الأسود أمام بوابته نخلتان. على مرمى النظر منه مدرسة الذكور، بناء من طابقين، بينه وبين مزرعة بهية وغولروخ بيت من الحجر الأسود، فيه غرفة المعلم. إلى الجهة المقابلة من المخيم، يسارا، بيارات حمضيات في وسطها مدرسة البنات. في الطابق الأول منها قاعة واسعة للدراسة، وغرفة المعلمة لور. وتحت الدرج الداخلي غرفة السنترال. في الطابق الثاني المحفل البهائي. في البيوت الأربعين أو الخمسين في العدسية، كلها، تلفونات.

وجد قيس في غرفته طاولة ملأى بصحون الطعام. ماذا أفعل بكل هذا؟! قال للمختار: شكرا، ذلك كثير! ومشى معه إلى سيدة العدسية.

استقبلته هوية أخت سكرتير شوقي أفندي رأس البهائيين في شرفة مدخل بيتها. قالت له: مني تطلب مايلزمك! خمّن أنه أمام حاكمة العدسية. فهمس لنفسه: لكنها لن تحكمني! قالت له: ستكون دائما ضيفي على الغداء! وافهمت المختار أن أسر العدسية تستطيع أن تدعوه فقط إلى العشاء في دورها.

بدت العدسية لقيس جمهورية مستقلة. مستعمرة زراعية، يسوّق الرجال منها الفواكه بسياراتهم. لكل عائلة فيها مزرعة، تراكتور وسيارة وتلفون، والطرقات بين المزارع مزفتة. فيها أربعون أو خمسون أسرة فقط، ومع ذلك فيها مدرستان واحدة للذكور وواحدة للفتيات. يجتمع أهلها كلهم في احتفالات أسبوعية في قاعة مدرسة البنات، يلتقون بشخصيات، يستمعون إلى محاضرات. هناك عرف قيس أول مرة عجاج نويهض، مدير الإذاعة، الذي دعي إلى المحفل البهائي في العدسية. قرأ قصيدة قيس وطلبها منه كي يذيعها.

استمتع قيس براتبه الكبير. كدّس الكتب في غرفته. أفاده أنه حفظ القرآن واستهواه الشعر العربي، وبدأ يفتتن بالخيام. يفتتن؟ بل بدا متيما به! هل ذلك صدفة كالصدف التي صاغت حياته فيما بعد، فكان يفاجأ مرة بفتاة مقابله تضع في عنقها برج محبوبته، أو يلتقي بامرأة يحزر قبل أن يكلمها أنها تحمل اسمها! استهواه الخيام قبل انتقاله إلى العدسية بأشهر، كأنه كان يستشف أنه مقبل على من سيعلمه لغة الخيام بين زهر الليمون وشجر البرتقال في العدسية.

بهرته هوية بسطوتها. وعندما جرّها إلى الثقافة ليصغّرها نافسته بالكتب التي قرأتها، وقابلته برؤية كاملة إلى الدنيا. هل اندفع إليها من الغيرة منها أم ليثبت أنها لاتحكمه؟ أم استهوته حقا بقوتها؟ صار يتغدى معها من الطعام الذي تحضره خادمتها الغورية. بعد الغداء دعت بنتها لتعزف له على البيانو. استمع إلى العزف وعيناه على هوية. لم تكن جميلة، لكن ضوءها كان يغمر الغرفة. التفتت إليه وقرأت شوقه إليها. هو أيضا يستهويها لكنها تنتظر أن يرجوها! ورجاها: اطلبي من بنتك أن تخرج!..

في تلك الليلة عاد إليها، ومشى في الطريق الذي دلّته إليه. عبر الحديقة بين أشجار البرتقال، وصعد على درج من الحجر إلى شرفة غرفتها. شعر بيديها مغروستين في ظهره. وسحره أنها تقبض عليه في نشوتها. وألف الطريق إليها.

أحبته هوية؟ كانت أكبر منه بعشر سنوات. أعطته كتب البهائيين التي يمكن أن يقرأها. حدثته وهما جالسان في الشرفة عن وحدة الخالق والمخلوق. فسحب ذلك إلى الصوفية، ووصف لها أنه يشعر بوحدته مع أشجار الكينا والليمون، بل يشعر عندما يعود من مخيم أصحابه في مصلحة المياه بأنه الكون. قالت: هذا شعر! ماأقصده ياقيس غير ذلك. لكنك مؤهل للوصول إليه! الكون مفتوح، لايغلق بنبي أخير. تجلى الإله في البهاء ويتجلى في آخرين بعده. لم تقفل النبوة!

أدهشته الجرأة التي تخالف بها مايؤمن به الناس. لكنه كان وقتذاك في أيام فحص الأسس ومناقشتها. تعجبه القيمة التي يضعها البهائيون للعلم، والمساواة بين المرأة والرجل، تعليم المرأة، وحدة الخالق والمخلوق. ولكن ياهوية لاتعجبني وحدة الأديان. لاشيء يجمعني بالتلمود! "شعب الله المختار" ينفي تلك الوحدة. لايستوقفني حجّكم إلى البهجة في عكا. لكن لماذا جعلتم القدس قبلتكم؟ ولماذا يرى عباس أفندي أن خلاص البشر لن يكون إلا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد؟ معنى ذلك.. أغلقت هوية فمه بكفها. اسكت! أشار لها إلى أنه سيقول شيئا آخر، فأطلقته. قال: إذا كان شوقي أفندي كالله فكيف رسب في الجامعة الأمريكية؟ لماذا لم يساعده الله؟ قالت هوية في ثقة: رسوبه دليل إلى أن الله لايساعد حتى شوقي أفندي إذا لم يعمل! بهرته هوية المفكرة. وربما أغراه بها في تلك الليلة أنه لايستطيع أن يهزم ايمانها.

كانت الليلة مقمرة، وعبق زهر الليمون يغمر غرفتها. ترك قيس قمر آخر الليل على فراشها وخرج. كان زوجها قد ذهب ليسوّق الفواكه في عمان. عاد متأخرا. وجدها نائمة فلمسها. قالت له مغمضة العينين: قيس، عدت؟ وعندئذ صحت فوجدت زوجها جامدا ينظر إليها. سألها قيس: وبعد؟ ردت: لاقبل ولابعد! لكن قيسا لاحظ الضغينة في عيني الزوج منذ ذلك اليوم. فاعتمد ذلك كي يجعل زياراته متباعدة.

بالأمان الذي شعر به، وبالوقت الممتد في فسحة خضراء، وبالحوار مع البهائيين، اندفع يفكر في الكون. تحتاج الظواهر البراقة والكامدة محورا ينظمها! تحتاج مطلا عليها! وكانت البهائية التي تعرف إليها في العدسية منظومة أفكار، ومنظومة رجال ونساء. مجموعة مشدودة برابطة حميمة، زرعت هذه الجنة. فاخضرت فيها الأشجار وعبق فيها زهر الليمون. بقيت جنة العدسية جنة البهائيين حتى قبيل حرب حزيران 1967 بستة أشهر وقت اتفقوا على الهجرة.

في المساء يجلس قيس بين مجموعة العاملين في مصلحة المياه، تحت أشجار الكينا قرب قناة الماء. يتناولون الزجاجات التي وضعوها في القناة لتبرد ويصبون له النبيذ. فتتندى أصابعه بالكأس. الشراب ممكن هنا في الليل، وهؤلاء ليسوا بهائيين! يستمع قيس، إلى الضابط الروسي الأبيض بيكوفسكي. يواجه منظومة فكرية متماسكة. ليست لديه معلومات مضادة. لكن الهجوم على "البلشفية" يستفزه. يتفرج قيس على لوبا حبيبة الضابط الروسية. الضابط في الستين تقريبا، وهي فتية، شقراء، تحب الخيل، تركب فرس حبيبها وتتجول به طول النهار والضابط ينتظرها. تختفي زمنا ثم تعود إليه أياما. فيتأمل قيس عالما غريبا من الفراق واللقاء. ويتساءل أيكون الحب أحيانا كالأبوة، ويسعده أن تكون المرأة كالوردة التي تعلق على الصدر؟ يسكت الضابط الروسي ويبدأ رياض بالغناء. "سجى الليل حتى هاج بي الشوق". والليل دائما هادئ ساج هناك! ينتشي قيس من الخمر والقمر والغناء، فيلحق مدى يهرب منه، ويتقلب بين الفرح والأسى. يترك في منتصف الليل بيكوفسكي ورياض ومحمدا المهجّر من يافا، ويمشي إلى بيته في درب صغير بين شجرات الكينا وبين بستان بهية وغولروخ.

صادف قيس غولروخ واقفة أمام مدخل بستانها، محاطة بزخرفة البوابة، وبزهر الجهنمية الحمراء. من أية أسطورة حطت تلك الشقراء وسط الربيع؟ التفت إليها سعيدا بلقيته. وانشغل بسعادته حتى أنه لم يلمح ابتسامتها له. تعرفه، أستاذ المدرسة! لكنه لايعرفها! في اللقاء الأسبوعي وجدها مع أختها. فرح كما يفرح شاب وجد زملاء في عمره. واحدة شعرها حالك، وعيناها سوداوان سوادا عميقا. والأخرى بيضاء شقراء. خرج معهما من قاعة مدرسة البنات ومشوا متأنين في الطريق الضيق حتى معسكر مصلحة المياه. تحدثوا كأن كلا منهم يعرف الآخر حتى أن أحدهم نسي أن يقدم للآخر اسمه. هاهو بيتهما! بعد أيام دعته أسرتهما إلى العشاء، ورأى طول المساء بريق شعر غولروخ الأشقر تحت الثريا الكبيرة. صار يختار إلى بيته الطريق الذي يمر بمزرعتهما. هل كانتا تنتظرانه قرب البوابة؟ دعتاه إلى البستان، وجلسوا تحت شجرة برتقال. صار بعد السهرة قرب قناة الماء، يعبر الحاجز إلى بستانهما ويتقدم بين أشجار البرتقال من بوابة البيت الداخلية. يتجاوز النخلتين ويرمي حصاة على نافذة الغرفة التي تنام فيها الأختان. فترفعان قضبان الحديد التي فكّتاها، وتقفزان منها إلى بستان البرتقال. لولاه لما استمتعن بالليل. فالليل للفتيات نوم أو سهر وسط مجموعة. هاهن يذقن سحر الليل مع شاب في عمرهما. أنشدوا تحت شجر البرتقال شعر الخيام بالعربية والفارسية، وتأملوا القمر، وثرثروا، استمتعوا بسعادة لاتسمى. عم تحدثوا؟ يتذكر فقط أن كلا منهم حكى عما يشعر به في تلك الليلة، ونشر روحه صافية كثيرة العواطف دون أحداث كبرى في الحياة. وأنهم ضحكوا وكان سعيدا كأنه يركض في مرج. وانساق قيس وراء عيني بهية وشقرة غولروخ.

من روى كل ذلك لهوية؟ من تبين أنه اختار غولروخ؟ قالت له: إذا سمعت أن العاهرة غولروخ تقابلك سأكسر رجلها وأعيدها إلى ايران! هاهي إذن هوية حاكمة العدسية! وهو إذن سجينها! في حياته كلها لم يكبح غضبه، لكنه كبحه يومذاك كي يحمي غولروخ. رد: لاتسعى إلي، أنا الذي أقصدها! قالت: لاتدافع عنها! ليست عذراء! لسنا راضين أيضا عن أخيها! يقامر ويشرب الخمر في الشونة!

روى قيس لغولروخ حديث هوية. فارتجفت من الخوف: تستطيع أن تعيدنا إلى ايران! سألها: والقصة الأخرى؟ أحبها ثري من أثرياء العدسية وعدها بالزواج. لم يف بوعده. أسرتها أفقر سكان العدسية وهو من أغناها. لكن كيف تعرف هوية تلك التفاصيل؟!

خيل لقيس في البداية أنه يحب بهية، الحنطية، ذات العينين الكبيرتين السوداوين. لكنه تبين أنه يحب غولروخ. بررت انصرافه إليها معرفتها الخيام، ودروس الفارسية! بدأ يقرأ عمر الخيام بلغته معها. وبالخيام اكتمل زمن العدسية. ترنم مع غولروخ بالرباعيات التي سيقرأها فيما بعد بترجمة فيتزجيرالد إلى الإنكليزية. تعلم الفارسية، كما تعلم بعدها اللغات الأخرى، من النساء! صدق من قال، اللغة تحت عباءة المرأة! تعرف المرأة دقائقها، تفاصيلها، خفاياها ونكهتها. فتعلّم الشاب كما تعلم الطفل. لاتهب المرأة الحياة فقط! تهب النطق، الوعي، رموز الأشياء، أسماءها وصفاتها، جوهرها! تفتح كف الولد والرجل وتضع فيها الخيط ليطلق طائرته ويرتفع بها!.

صارت غولروخ تخرج إليه وتحرسهما بهية. هل توجد شجرة ليمون لم يجلس تحتها في القمر وفي العتمة، والزهر يعبق في الجو، والهواء نفسه يفوح! آه ياشجر البرتقال! هل كنت ترش عطرك على امرأة معينة أم على جنس النساء المقدس، آلهة البشر القديمة، وكل من عاش من النساء ومن لم يأت بعد منهن؟!

ربما أخذته غولروخ لأنها بيضاء شقراء. فهل كان ذلك حبا؟ أم كان دهشة التعرف إلى المرأة، افتتانا يجمع شعر الخيام وعبق البيارات وأفراح الحياة المستترة، ويحاول أن يمتد منها إلى المستحيل ويستشف المجهول الممكن؟ قالت له غولروخ والقمر يفوح بشذى الزهر: اذهب إلى محفل عمان لتصبح بهائيا كي نتزوج! يصبح بهائيا؟ تحدثا مرة أخرى عن البهائية. قيس معجب بمكانة التعليم عند البهائيين. معجب بنشاطهم وتضامنهم. لكنه مايزال يبحث في فكرهم. أوصلت له غولروخ كتبهم لكنها لم تعطه قرآنهم. كان الحوار عن البهائية مخلوطا بالحب. أراد قيس أن يسألها عن شوقي أفندي فوضعت كفها على فمه. سألها: لماذا؟ قالت: سيسمعك! سألها: يسمعني؟ كيف؟ قالت: يعرف كل شيء، ويسمع كل شيء! قال لها: إذا كان يسمعني فهو يعرف إذن أننا معا الآن؟ يعرف أني أحبك؟ هس! لاتكفر! أكفر؟ بمن؟ بدأت البهائية تنزلق عن كتفيه قبل أن يرتدي رداءها. لكن ظلت أمام عينيه المستوطنة الصغيرة الخضراء التي أنجزها البهائيون.

نزل المطر في ذلك اليوم. فجرّته غولروخ إلى الإسطبل. تحسسا في الظلمة قناة التبن التي يأكل منها البقر. واختلط التبن بجسميهما. دامت تلك السعادة حتى سمعت خطوات أخيها عائدا من الشونة. صادف المطر فساق البقرات إلى الإسطبل. وضعت غولروخ كفها على فم قيس! لا، لم يشعر بهما! أدخل أخوها البقر في الظلمة، أغلق الباب وخرج. وعنذئذ انفجر توترهما ضحكا. ضحكا، ضحكا. قد يخطر لبقرة أن تأكل التبن من القناة! فهل تعضهما؟ افترقا تلك الليلة في صعوبة. فهسهسة التبن وصوت المطر ورباعيات الخيام اختلطت بسعادتهما. نظفت غولروخ نفسها من التبن تحت شجرة برتقال ثم نقرت الزجاج لأختها فرفعت لها قضبان النافذة. وتمهل قيس في طريقه إلى غرفته. يعرف أن الرجل الهرم الذي يسكن معه في البناء نفسه سيفتح الباب منذ يسمع خطوته على الدرج، وسينظر إليه نظرة تقول إنه يعرف مغامرته. كان ذلك الرجل دون عمل، ينفق عليه المجمع البهائي. عاد قيس ببعض القش على شعره وقميصه، جمعها كما يجمع زهر البرية وصفّها على طاولته.

بعد تلك الليلة قالت له غولروخ: يبدو أني حامل! لم يكن في كلماتها أسى. لايزال الشباب في أوله، والمدى أمام العينين! هل كانت تخمّن أنها ستهاجر وستصبح محامية مشهورة في نيويورك؟! رتبت هي موعدا مع طبيب في إربد وأخبرت قيسا. طبعا، لن يرافقها إلى الطبيب! سيلتقي بها بعد الإجهاض. التقى بها في ظاهر البلد. مشيا وذراعه في ذراعها. ثم ذهبا إلى مصور صورهما معا. هبت الخمسينيات على كل شيء، فتّحت العلاقات بين الشباب والشابات. لم يستطع التزمت أن يلجم العشاق، أو يغلق المساقي والمقاهي. كانت تلك سنوات الحلم للأفراد وللشعوب! فشلت المظاهرات أحيانا، طوقت أحيانا، لكن روح الزمن خفقت في الشوارع والمدن والبيوت وفي علاقات الشباب.

بعد خروج قيس من العدسية زار مرات غولروخ. انتظره سائق التاكسي في الشونة حتى الساعة الثانية في الليل. لكن هوية هي التي استطاعت أن تتبعه إلى بلده، وتستعيده أحيانا. كانت الأقوى والأغنى! فمن أحب منهما؟ لعله أحب جميع النساء اللواتي عرفهن. استبقى من كل منهن ذكرى جميلة. كان محظوظا بالنساء، كما تنبأت له الغجرية على شاطئ بحيرة طبرية! وكان الفراق في حياته قدرا، كاللقاء. ينهي العلاقة، لكنه لايطوي الذكرى. لم يقل كالرجال: لماذا سلمتني نفسها؟ قال: أحبتني! لم يقل: أريد أن آخذ منها! قال: أريد أن أعطيها! وكان يستمتع وهو يعطي السعادة لنسائه ويفتتن بذلك. فتميز عن رجال الشرق الذين يدينون المرأة التي يأخذونها. ويتصورون أنهم قنصوها. لكنه مثلهم قرر بينه وبين نفسه أنه يجب أن يكون أول رجل وآخر رجل تعرفه المرأة التي سيتزوجها.

قبل حرب 1967 بستة أشهر تقريبا، قرر البهائيون الهجرة من العدسية باعوا أملاكهم وهاجر بعضهم إلى أمريكا. هاجرت غولروخ إلى نيويورك. خلال الحرب ركز القصف على بيوت العدسية المبنية من الحجر الأسود. فلم يبق من بيت بهية وغولروخ سوى مدخل البيت الداخلي وإلى جانبه النخلتان وسط بستان الحمضيات، والمدخل الخارجي وقطعتان من السور على جانبيه، حيث رأى قيس غولروخ أول مرة. بقي سليما بيت هوية، ومدرسة الذكور ومدرسة البنات وبعض البيوت الأخرى. بقي من البيت الذي سكن فيه قيس جدار. وبساتين الحمضيات.

يأتي البهائيون اليوم من محفلهم الكبير في حيفا ليزورا العدسية. من أمريكا يأتي بعض من عاشوا في العدسية. لكن غولروخ لم تأت أبدا. يملك العدسية الآن بيت واكد بحق الشفعة. يستقبلون الزوار في البناء الذي كان مدرسة للبنات ومحفلا بهائيا. ويروون لهم مصائر سكانها القدماء. رووا لقيس: توفيت بهية، سيدة العدسية، وتزوج زوجها امرأة أخرى، ودرست بنتاها الموسيقى في ايطاليا وبقيتا هناك. أصبحت غولروخ محامية مشهورة وغنية. وهاجرت لور إلى أمريكا.

وصل قيس بعد أربعين سنة، كالزوار إلى العدسية. كان الربيع يفرش الجبال بخضرة رقيقة مرقشة بأزهار "زر الذهب" الصفراء. أثار فيه جمال الجبال طول الطريق بهجة تختلط بالدهشة. في هذه الأمكنة مسارات حياته! انحدرت السيارة في طرقات جديدة. هاهو الآن في منطقة حدودية! قف! جوازات السفر! فتش الجنود صندوق السيارة. ثم: سر! في مدخل العدسية مخفر آخر، فالعدسية تلاصق الأرض المحتلة. سأله المخفر: إلى أين؟ واستبقى عنده جواز سفره ضمانة لعودته! يقول أراغون: لايوجد حب سعيد! لكن هذا الحب المخلوط بالحزن غير ذلك!

تفرج على العدسية، وهتف: ياللجمال! هذه هي القرية الحلم! البيوت من حجر البلد الأسود. تحت أشجار الكينا الباسقة على حافة الطريق ظل كثيف ومجرى نهر جف. مدى من أشجار الحمضيات! مدى من الهدوء والنضرة! حياة بعيدة عن حضارة الإسمنت. هاجعة عند الحدود بين مخفرين. في المخفر الأول جوازك رهينة، وبعد المخفر الثاني يمنع العبور: الأرض المحتلة!

خيل لقيس أن ليلى معه، يكشف لها صباه كي تكون قريبة منه يتحادثان كزميلين، يبحث معها عن بيوت محبوباته القديمات وأصحابه. ويضع على كفها تلك القطعة من عمره. فرحه بأن قرية بقيت كما كانت في زمن يتبدل وينزلق فيه كل شيء، وتعاد فيه حتى صياغة الخرائط! ياللنظافة والجمال! ياللحضارة! جلس على جذوع الكينا الضخمة وأصغى لتغريد شحرور. وعندما ابتعد الشحرور نهض ليتجول. لم يتبدل الصالون الواسع في مدرسة البنات. تسرب الضوء الواهن من نوافذه الطويلة، ودثرته الرطوبة. كم يناسب هذا النمط من البناء بيئته. تتقدم بيت هوية ذا الحجر الأسود الدرجات نفسها! غطى العشب بوابة مزرعة غولروخ وبانت منه قطعة حديد مزخرف. لكن مدخل بيتها وسط البستان يجذب النظر: مدخل من الحجر إلى جانبه نخلتان باسقتان، مدخل إلى لاشيء! كأن البيت تبدد في الهواء! بقيت الإشارة والذكرى وسط أشجار الحمضيات! من سياج بيت بهية قطف قيس غصن جهنمية حمراء سيجففها ليقدمها لليلى يوم يلتقيان. وستقول له شكرا ياقيس! سأحتفظ بهذه الأزهار من بيت حبيبة قديمة، من قرية سنوات الشباب!

قال قيس لأصحابه في ذلك المساء: نتهم أحيانا بأن ذكرياتنا عزيزة علينا لذلك تصور لنا البلاد أجمل مما كانت حقيقة! لا! كانت الدنيا نظيفة وخضراء أكثر مما هي اليوم. في ذلك الزمان كانت الرغبة بالعلم والجدة جارفة، دون أن تقتلع التراث الجميل. كان الناس أكثر رحابة وتسامحا، وأقل تزمتا. كان الوقت للحب والغناء وتذوق الحياة. من يسهر اليوم في القمر تحت شجر الكينا ويغني "سجى الليل"؟

لور، المعلمة في مدرسة البنات في العدسية، في عمر قيس. بيضاء، شقراء، رائقة، ناعمة. غرفتها في الطابق الأول خلف القاعة الواسعة، تحت المحفل البهائي. تحيط بالمدرسة أشجار البرتقال والليمون واليوسف أفندي. في منتصف المسافة تقريبا بينها وبين مدرسة الذكور في الجهة الشمالية أشجار الكينا الباسقة حيث تخيم مصلحة المياه حول النهر. في غرفة لور فونوغراف و"كوانات". تستطيع لور براتبها السخي من البهائيين في العدسية أن تساعد أهلها، وتشتري أسطوانات، وأن تحلم. هل يساعدها قيس على الحلم؟ رأته أول مرة ماشيا تحت أشجار الكينا الباسقة. في المرة الثانية رأت تلك القامة الرشيقة أمامها عند باب المدرسة. شعرت أنه قاس قامتها بقامته. فاحمر وجهها وخفضت عينيها، وهمست لنفسها: احمني يارب من الحب! تعرف أن هوية تهواه! من يمنع نفسه عن حبه؟! شاب في العشرين، لاتسنده عشيرة أو غنى، لكنه يخفق معتدا بنفسه، وينشد الشعر.

صادفته مرة أخرى أمام مدرستها. صادفته؟ دعاها لتمشي معه. ارتعشت لكنها قالت لنفسها: نمشي في الضوء! ثم زارها بعد الدروس وتفرج على فونوغرافها وكواناتها، وأسمعته بيتهوفن. مشت مرة في الدرب مبتعدة بين أشجار الليمون والبرتقال، واجفة القلب. شعرت بأنها ستصادفه. وصادفته. مشيا معا والعتمة تهبط. كان فرحا بلقائها؟ كان متوهجا. حكى لها عن زمن الحضارة العظيم، تقمص شعراء الماضي فكأنه عمر بن أبي ربيعة، وقيس ليلى، والأحنف. حكى لها عن سلاّمة المظلومة التي لم ينسب إليها القسّ رغم مافعلت بناسك متعبد! التفتت إليه. أحقا يستطيع أن يعيش حياتهم؟ أنشد أبياتهم المؤثرة، ولحقهم في مصائرهم. كاد يبكيها على عمر بن أبي ربيعة. فصرخت: نفوه لأنه تغزل بامرأة؟! قال لها: انتبهي! مع ذلك كان زمنه زمن الشعراء العشاق، كان الحب علنيا، وفي المدينة كانت مجالس الغناء!

مدت لور كفيها فلفحتهما النار التي تجعله عاشقا طائرا. قالت له وهما يمشيان بين أشجار البرتقال: لم أكن أحب عمر بن أبي ربيعة لأنه تنقل بين النساء! مست قلبه رقتها وحلمها بالحب، فأنشد لها شعر الأحنف:

نام من أهدى لي الأرقا مستريحا زادني قلقا

كان لي قلب أعيش به فاصطلى بالحب فاحترقا

أنا لم أرزق مودتكم إنما للعبد مارزقا

هل يضع القصيدة على كفها كي ترددها إذا أرقت؟ سألته بينها وبين نفسها: أنت ياقيس، من منهم؟ عمر بن أبي ربيع الهائم في النساء؟ أم قيس ليلى الذي مات من الهوى؟ أم الأحنف الذي لم يعشق إلا حبيبة واحدة؟ هل سمع همسها؟ استدار إليها وأنشد:

إن المحبين قوم بين أعينهم وسم من الحب لايخفى على أحد

أجابها؟! عاشق، فمن المعشوقة؟ قرب شجرة برتقال خيل إليها أنه عانقها. أغمضت عينيها وفاح الزهر. قال: يفوح زهر البرتقال في الليالي المقمرة أكثر مما يفوح في الليالي المعتمة! خمنت أنه يسهر في الليالي المقمرة مع أخريات. رفعت رأسها نحو القمر، وهمست لنفسها: يكفي أننا الآن معا، وفي الدنيا زهر البرتقال وهذا القمر! وفي ألم ناعم تورد في قلبها حب رائق يغفر لقيس أن يعشق غولروخ تحت شجرة برتقال. ونسيت هوية. تبحثين يالور عن مبرر للذل؟ لو عانقها لاستكانت بين ذراعيه وأصغت لحركة ذراعيه على ظهرها ولحرارة شفتيه على وجهها. ولشدته إلى صدرها، ولمست بكفها ظهره لتشعر بجسمه كله! ولتساءل: تودعه؟! ولأبعدها عنه برهة وتأملها مشفقا. سيراها غدا وبعد غد! أين المهرب منه؟! نظرت إليه صامتة. لايفهم أنها تقص هذه البرهة عن كل ماقبلها ومابعدها! شغله بريق القمر على بشرتها فقال لنفسه: فيها شيء ليس فيهن! وقالت لنفسها: يرحل المحب أحيانا ياقيس، يودع حبيبه وهو بين يديه! أمس جلست قرب النافذة، تنوس بين متعة الاستسلام لحبه، وبين الأسى لأنها ليست إلا واحدة ممن يعرف. وعندئذ مر الشحرور الذي يمر كل يوم. استمعت إليه. وقالت لنفسها: لايغرد الشحرور إلا حرا! هذه السماء الرحبة فضاء قيس!

هل ماتزال لور قريبة من المراهقة؟ رفعت رأسها إلى القمر. هذه اللحظة المدهشة عابرة فلتمسك بها! أليس غريبا أنها لن تفكر في أن الحياة ومض، عندما ستصبح زوجة رجل أعمال غني في أمريكا، والحياة تقترب من مغربها، وتفكر في ذلك الآن؟

في غرفة لور، صار قيس يسمع موسيقاها، ويقرأ لها شعرا. هل انتبه يومذاك إلى أوجه الإنسان المتنوعة، الشفافة والجامحة، وهو يستمتع بصداقة صافية في غرفة لور، وبحب متوهج في بستان غولروخ؟ فيعود رائقا وهو يستمع إلى خطواته على الطريق بين مدرسة البنات وبين مخيم العاملين في مصلحة المياه، ويعود مرتويا سعيدا من بستان غولروخ. تساءل قيس: للور أيضا وجه آخر يشبه هوية؟! تستمتع بسطوة حلاوتها! يحمل لها رجال العدسية صناديق الفواكه من مزارعهم، ويدعونها إلى بيوتهم، ويسألها الذاهبون منهم إلى عمان أو إربد، ماذا تريدين من هناك؟ واستعاد كلمات هوية: تريد لور أن تسحر رجال البهائيين!

بعد الاحتفال الذي حضره عجاج نويهض وأنشد فيه قيس شعرا، عاد قيس مع لور إلى غرفتها. وجلسا إلى أمها التي تزورها. استمعوا إلى الكوانات صامتين. شعرت لور بإعجاب أمها بقيس، كأنها تلمس بأصابعها المخمل. وفهمت أن قيسا سيبقى زمنا وسط أسرتها كبركة ماء وسط بيت شامي.

خرج قيس من غرفة لور نشوان بذلك اليوم. به شوق لأن يعيش قرنا من الزمان، ومستعد أن يموت في تلك البرهة نفسها. كان صاحيا كأن الليل في أوله. لكنه تساءل: هل يسكره عبق زهر البرتقال؟ عبر السكون إلى صوت رياض يغني "سجى الليل" وانسكبت على خديه دموع. مسحها وهو يقترب من مخيم مصلحة المياه. جلس مع الساهرين. تناولوا من الماء زجاجة نبيذ يبردونها وسكبوا له قدحا. شرب، ورافق المغني بصوته الرخيم، وتأخر المغني عنه حينا ليبقى فقط صوت قيس تحت أشجار الكينا يتسرب في الليل كشعاع القمر. على بعد خطوتين كانت غولروخ ساهرة في غرفتها تنتظر أن يرمي على النافذة حجرا صغيرا، لتنزل من النافذة إليه!

في الطريق إلى غرفته مر قيس ببستان الفتاتين. كان القمر في السماء وعلى أشجار البرتقال والسياج والنخلتين قرب مدخل البيت. بدت زخارف حديد السياج واضحة في ضوء القمر. لكنه عبر البستان، ومشى وظهره إلى القمر. ثم التفت، وعاد. عبر السياج والبستان. وقف في ظل شجرة برتقال ورمى حجرا على النافذة فارتفعت. كيف يستطيع أن يميز بين حبه النساء وبين حبه نفسه، والحياة، وهذه القرية، وهذه الدنيا؟ آه لايستطيع! ليس حبه المرأة إلا تجلي هذا الحب المترامي الأطراف! لو توجد امرأة تستطيع أن تجمع له النساء والدنيا!

كان الاحتفال الذي أقيم في ذلك اليوم في العدسية براقا. حضره عجاج نويهض مدير الإذاعة، الحنطي، المهيب، المقرب من الأمير. في القاعة الواسعة في مدرسة البنات، أمام غرفة لور، وقف قيس وألقى قصيدة. فنهض عجاج نويهض إليه بقامته الضخمة وعانقه: اكتب للإذاعة كل أسبوع! عدني بذلك! أخذه من يده وكانت لور جالسة بين المجموعة. في جريدة ذلك اليوم نشرت قصيدة قيس وفي أعلاها إهداء: إلى لور! تناول عجاج نويهض الجريدة وقرأ بيتا من قصيدة قيس:

أنا النسر المحلق لست أرضى بتحليق على غير الأعالي

وقال: لايمكن أن تقال هذه القصيدة إلا في هذا المكان الجميل، ولايمكن أن تكون إلا لهذه الآنسة الجميلة! فاحمر وجه لور، واصفر وجه هوية. في تلك البرهة حسمت هوية قرارها؟

قرأت أم لور قصيدة قيس جالسة إلى طاولة بنتها. يالهذا الشاب الرائع! يالقوامه الممشوق، ورشاقة إلقائه، واعتداده بنفسه! فرح بشبابه، بجماله، بشعره، بأنه محبوب، بأنه محب! كالطفل المدلل، يعرف أنه معشوق! وبدا لها أنه المثل الذي يتعلق به الإنسان، والحقيقة التي تجسد الرجل للنساء. وبعين امرأة في الخمسين رأت كرمه بنفسه، بقلبه وعواطفه، وبماله! وكادت تقول له: لاتستنفد روحك وشبابك! لكنها انبهرت بأنه يسكب نفسه على البرهة التي يعيش فيها، غير مبال بما بعدها!

تعيش أم لور في بيت صغير في إربد: غرفة نوم وصالة ومطبخ وحمام، لها ولبنتيها وابنيها. كانت مثل بنتها لور، شقراء بيضاء، لكنها ممتلئة. فهل قيس هو الذي مد نظرتها لتطال سعة كالعدسية؟ فكتبت مقالة عن التفاؤل للمجلة التي تصدرها المدرسة الثانوية في إربد: "ابتعد عن التكلف والتلفيق واتبع البساطة والراحة تجد كل اللذة في الحياة". هل كانت تعبّر دون بوح عن حبها قيسا وبنتها لور والعدسية وتلك الأمسية هناك؟ أم عن شفافية أمّ مثقفة وفقيرة؟

زارت هوية مدرسة البنات وأنّبت لور: لست ناجحة في التدريس! انتقمت من تلك الأمسية مع عجاج نويهض؟ قال قيس لهوية في ذلك المساء: فكري في أسرتها! تعيش على راتبها! لكن هوية أصرت: هذه آخر سنوات لور في العدسية! لكن لور التي تحب الشعر والموسيقى تستطيع الحزن ولاتستطيع الحقد. قرب النافذة كتبت مقالة عن العدسية لمجلة إربد الثانوية: "بقعة من الأرض غناء بأشجارها ومياهها. وحي من الخيال يصدح به الشعر والفن. من الوحدة الأليمة التي تصقل النفس وتهذبها. جو من الهدوء والسكون العميق يثير المشاعر الدفينة ويزيل مرارة العيش، تلك هي العدسية.. إن في علو أشجارها لعظمة الحياة والكون. يؤثر ويأخذ بلبك تناسق مزروعاتها وأزهارها اليافعة. يؤنسك خرير مياهها المتدفقة بين نهرين عظيمين يضمان تلك القرية هما اليرموك والأردن.

إن في نظافة مبانيها وحقولها الخضراء المديدة مايجعلك تكبر أهلها ويدفعك لتقتبس أسلوبهم. بيوتهم مبنية على أحدث طراز ومفروشاتها منسقة بترتيب وأناقة. تنال من اللطف والكرم والعناية منهم ماينسيك الحسد والأنانية اللتين تطغيان على البشرية بأكملها.. إن في كثرة مواشيهم مايوفر عليهم شراء الألبان واللحوم من الخارج. وتتوفر لديهم جميع اللوازم التي يحتاجها الإنسان في كل حين من علاج وسيارة وهاتف ومذياع في كل بيت. وقلما تجد أحدهم يلجأ إلى ملذات الحياة التافهة من مسكر أو ميسر أو لهو وغيره".

خبأت قيسا يالور؟ لم تذكريه! لكنه هناك قرب أشجار البرتقال! يمشي نحيلا ممشوقا تحت أشجار الكينا الباسقة كما رأيته أول مرة! وهو هناك قرب الفونوغراف في غرفتك يستمع معك إلى بيتهوفن. "جلست أستمع لبعض المتنوعات من القطع الموسيقية، وكان الجو هادئا حالما، فحلقت في سماء خيالي واستسلمت لخواطري ونزعات عقلي الباطن، الذي قادني دون أن أدري في رحلة طويلة ملذة، مارجعت منها إلا شاردة اللب متوترة الأعصاب، إلى عالم الحقيقة المرة. وجدتني في كوخ صغير وسط غابة من غابات ألمانيا، رأسي مخبأ بين يدي وإذا بي أسمع صوتا شجيا خلفي.." قالت لقيس: أحب بيتهوفن! أحلم بأنه يحدثني! لاتعرف أن بنتيّ هوية هما اللتان ستدرسان الموسيقى في ايطاليا وستحادثان بيتهوفن! للور الفقيرة الكوانات والحلم!

في إربد أصبح قيس ابن الأسرة. عرف أخت لور الصغيرة سوسن، وأخاها وليم. سوسن، شعر فاحم طويل، بياض صاف، عينان سوداوان. وليم يجلس في حضن قيس. تمد سوسن رأسها من السرير وتضعه على حضنه فيسيل شعرها على ركبتيه. تتأوه من الحمى. ويهبّ قيس إلى صديقه الطبيب. تنظر أم لور إليه. لايلام أولادها! كيف تميز في حبهم له بين التعلق بالمثل وبين العشق؟! زارته لور في بيته، وجلست مع أهله. وفي اللحظة التي كانت فيها موجودة لم ير قيس سواها. قال له أبوه بعد انصرافها: الحقني إلى المخزن! هناك سأله: ستتزوجها؟ رد قيس دهشا: لا، يابا! لماذا تسألني؟ أبوه الذي فهمه منذ طفولته وعرضه أمام أصدقائه فخورا به: احك قصة أبي زيد الهلالي! اقرأ سورة مريم! غن سجى الليل! انشد الشعر.. أبوه الذي فهم انتحاره، لايفهمه الآن! لايفهم أن المرأة الموجودة أمام قيس الآن هي التي تستهويه، لكنها ليست معشوقته! قيس مبهور فقط بأجمل المخلوقات وأكملها: المرأة! يتمنى أن يعرف جوهرها الموزع بين النساء!

كان قيس تحت سماء دمشق عندما رحلت أسرة لور إلى الولايات المتحدة. هل كانت الحياة في البلد ضيقة إلى ذلك الحد يالور؟ هل قلت مايقول الإنسان أحيانا: لم يبق شيء، وطويت الذكرى في حقائبك وأدرت ظهرك؟ وهل خمنت أن قيسا سيعود بعد نصف قرن إلى العدسية ويمشي خطواته نفسها إلى غرفتك، ويبحث عن عبق البرتقال، ويستعيد صوتك ولون شعرك وموسيقى كواناتك؟ ثم يعبر الطريق إلى أشجار الكينا الباسقة حيث رأيته أول مرة، ويمر ببيت هوية، ويتوقف عند مابقي من بيت بهية وغولروخ بعد القصف الإسرائيلي؟ وذات مساء سيجد المجلة التي كانت تنشرها ثانوية إربد ويقرأ مقالتك عن العدسية؟

لم يفقد قيس هوية فقط. فقد أيضا لور وأسرتها. رحلت إلى أمريكا. كما رحلت غولروخ إلى أمريكا فيما بعد. هل كانت العزيزات على قيس من "الأدمغة" التي امتصتها الولايات المتحدة، عدوته! فكان كمن يوزع ثماره على أعدائه وهو يبشر بمشروعه المناقض!





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:11 AM [ 28 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل





- 18 -


لاتنجد البهائية العرب من نكبة فلسطين! لاتقنع قيسا ولاترويه! يبدأ من نكبة فلسطين. جرح من عاصرها، ومقياس من عاش نتائجها. لم ينفد بعد المال الذي كسبه من العدسية! حمل من مكتبة صقر رزمة من الكتب الدينية والتاريخية، والكتب المترجمة، والقصص، والشعر. يبحث عن رؤية يقابل بها البهائية؟ يبحث عما يروي روحه العطشى إلى محور عظيم يعيش به! أمتعه الطبري. أمسك بمحاور الخلاف بين الاتجاهات القديمة. وأذهلته رحابة الحوار بين الرسول محمد وبين النساء والرجال. رفع رأسه عن الكتاب وقال: قدرتنا على فهم النص تتناسب مع ثقافتنا! لذلك يجهل كثير من المتدينين جوهر الدين! يخاطب الإسلام العقل! أبطل عمر الحدّ في سنة القحط لأنه فهم روح النص! عاد قيس إلى القرآن مدققا، وترنم بسورة مريم، وسيظل دائما يتذوقها في متعة. وأدهشه حتى غنى عصور الانحطاط في الحضارة العربية! وقرر: كان الانحطاط سياسيا لكن صناع الثقافة والحضارة وصلوا إلى قممهم!

دكان الحلاق كمكتبة صقر، من أماكن اللقاء بين الشباب. لكن قيسا تبين فيما بعد، عندما حاور الحلاق أن الآخرين سبقوه إليه. فجعلوه يراقب من يرتاد دكانه! ياللمسافة إذن بين الفضاء الذي يتجول فيه قيس وبين هذا الواقع الصغير! ولكن هل يلغي مكان اللقاء؟ بقي يعبر الطريق نفسه إلى الحلاق. يمر بدكان النابلسي، فيدعوه: تفضل ياابني! يجلس قليلا على الكرسي أمام الدكان، يتحدث عما يقرأه، ويشرب كأسا من اللبن. كان النابلسي جميل الطلعة، نظيفا، يبيع الألبان. عرض على قيس ماقاله له ابن أخيه، فرد قيس ووضح وفسر، فقال النابلسي: فهمت أنت، ياابني، الجوهر الذي لم يفهمه ابن أخي!

قرأ قيس حتى الفجر. ورأى نفسه في نومه في مغارة بابها كالقوس، وهو قاعد في الصدر. دخل رجلان وسيمان سأله أحدهما: ألم تعرفني؟ أنا محمد بن عبد الله، وهذا صديقي أبو بكر الصديق. أفاق قيس مرتعشا من الرهبة. في النهار استوقفه النابلسي. فروى قيس له منامه. جمد الرجل. رجاه: ارو لي الحلم مرة أخرى! رواه. فوضع الرجل يده على كتف قيس وقبّله: يابنيّي، يستطيع الشيطان أن يتقمص من الشخصيات ماشاء إلا شخصية محمد. جاءك حقا سيدنا محمد في المنام! سيرى مثيل تلك الأحلام كثير من الشباب بعد قيس. وسيقول لهم من حولهم الكلمات نفسها. فروح الباحث عن اليقين تنشغل به في النوم والصحو.

انتشر حلم قيس، وصار النابلسي يسقي قيسا كلما مر به كأسا من اللبن، ويسأله هل رأيت حلما جديدا؟ لكن قيسا انصرف إلى بقية الكتب التي اشتراها. فقرأ عن المعتزلة، وقرأ كتب غوته ونيتشه المترجمة. وبدأ يكتب قصيدة عن الايمان والشك قرأها لأصحابه في دكان الحلاق. كم كان الناس قادرين على حفظ الشعر!

في الليلة التي أنهى فيها قصيدته رأى في الحلم أنه مع صديقه صبري الحمود في غرفته في "المنزل" في صفد. من النافذة التي تطل على وادي الطواحين، بدت لهما جموع من الناس تملأ الطريق والسفح في القرب وفي البعد. نزلا راكضين. سأل: ماهذا؟ فقيل له: لاتعرف ماالخبر؟ مات جبريل اليوم! ورأى أشخاصا يحملون شرشفا أبيض، إلى مغارة تشبه المغارة التي رآها في منامه الأول. استيقظ مرتعشا. في النهار روى للنابلسي منامه. فأبعد الرجل كرسيه عنه: أعوذ بالله! يابنيّي مات الايمان في قلبك! في يسر ترمي حكمك علي؟ في ذلك المساء تحدث قيس في النادي الثقافي عن سعة العصور الاولى من الحضارة العربية، وفحص الظواهر بمعيار العقل، وبين أن الجهل هو سبب التقصير في فهم الحلاج وفي قتله. وتلا بعض مقاطع من كتاب الشيخ خالد محمد خالد.

استمع الأستاذ عزيز إلى قيس من مكانه في الصف الأول في النادي الثقافي. وبدا له أنه الوحيد من الحاضرين الذي يتابع تأرجح قيس بين اليقين والشك، ويفهم تنقيبه في الكتب. يبحث هذا الشاب عن قضية حياته! فهل يستطيع أن يوقفه في نقطة لاشك بعدها ولابحث؟ كيف يستطيع أن يكسبه؟ سيسلك إلى ذلك المباح وغير المباح!

بعد المحاضرة، أضيف الحلم إلى قصيدة قيس التي أنشدها في دكان الحلاق. فصاغت مجموعة من الرجال عريضة قدمتها للمتصرف تتهم فيها قيسا بأنه يدّعي النبوة. سأله المتصرف: تدعي النبوة؟! رد قيس: لم يخطر على بالي حتى أن أكون قائد حزب! قال المتصرف: لاتتواضع! قبلت أن تكون نائب رئيس النادي الثقافي! نريد القصيدة! القصيدة؟ لم تنشر بعد! لو كنا أصدقاء لقرأتها لك!

غير قيس طريقه إلى دكان الحلاق، فصار يمشي على الطرف الآخر من الطريق. يلمحه النابلسي ويقول: خسرناه! أودى به المعتزلة! وبقي قيس يقرأ الشعر في النادي الثقافي. ويستمع إليه الأستاذ عزيز! هل يتنافسان على الشباب الذين يحضرون الندوة الأسبوعية؟

صفق الأستاذ عزيز لقيس وطلب منه قصيدته "الحرية الحمراء". لم يستوح قيس أمير الشعراء إلا في العنوان! أخذها من قيس ونشرها في مجلته. قيس مشروع كبير للأستاذ عزيز الذي يشكل حزبا جديدا يريده أن يكون قوميا ودينيا يجمع الشباب. قيس متفتح، قارئ، متوقد، متبحر، يحفظ شعر القدماء. تستوقف الأستاذ صفتان فيه: نشاط لاينفد، وموهبة في تقريب من يعرفه! تكسب الحركة إذا جذب إليها قيسا! لكن في قيس دودة البحث! يسعى إلى فهم الأفكار الأخرى! صادق البهائيين، ويصادق اليوم القوميين السوريين ومجموعة من الفلسطينيين والأردنيين تسمى نفسها أنصار السلام! أوحى الأستاذ بالعريضة التي رفعت إلى المتصرف لأنها قد توصله إلى قيس. لكن طريقه المباشر إليه يجب أن يكون الحوار! يعرف الأستاذ زملاء قيس وزملاء أخيه في المدرسة. يشغله الصراع على الشباب بين الماركسيين والإخوان المسلمين والقوميين السوريين والقوميين العرب والبعثيين. الشباب قوة إذا اهتدى! يتفادى عزيز في حواره الوعظ. يقول: أسلوب لايناسب شباب هذه الأيام المسحورين بشعارات الأحزاب. يلاحظ الشباب غنى الفاسدين وفقر الموهوبين ويرغبون في كسر ذلك الواقع، فليقدم لهم الحل! يحتاج الشباب المثل، فليقل لهم هاهي، مستمدة من التراث الوطني! يحتاج الشباب التجمع فليقل لهم هاهو، رابطة الشباب القومي المتدين! يدرك عزيز أن مالديه من الفصاحة والمعلومات أكثر مما لدى محاوريه. فإذا وجد محاوره مستندا إلى منظومة فكرية أخرى جره إلى باب مغلق: النص!

جلس الأستاذ عزيز وسط حلقة من الشباب. قال: شبابنا اليوم حائر لايستبين الطريق، شاك لاتسعفه روح اليقين، متطلع لاتواتيه وسائل الطموح... وللشباب عذره في ذلك فقد نشأ في جو موبوء. فهم الدين على وجه معكوس، وعرفه طقوسا تتلى ورسوما تتعبد. وفهم القومية كرداء فضفاض. وأحاط به مجتمع منحل، رجاله منغمسون في ماديتهم، ملوثون في أفكارهم، طبقة مستبدة تتحكم في طبقات، واقتصاديات متدهورة، وأراض مهملة لاتتعاون فئات الأمة على استغلالها، ومعاملات بنيت على الغش والخداع، وإغفال عناصر الرقي، وتنكب عن طريق المجد السوي، فأورثته كل ذلك الشك القاتل ومن ثم ألحت عليه عوامل اليأس من المحيط الخامل والأمة الغافلة.

ولو نظر الشباب إلى مابين يديه من مقومات المجد لانسربت الطمأنينة إلى جوانبه.. ولن يستطيع أن يطمح إلى مجد أو يرقى إلى عز إلا إذا آمن واعتمد على قادته.. فأزيلوا ياشباب عن القلوب ظلمة الشك في مقدرتكم وهيئوا أنفسكم لتحققوا وعد الله "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض". وإن نكصتم وجبنتم عن رفع مشعل النور فاسمعوا نذير السماء!

في النادي الثقافي قال قيس للأستاذ عزيز: لاتتقدم اوربا علينا وتقتحم بلادنا واقتصادنا لأنها مؤمنة بديننا أو بدينها. انقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء يحسم بالصراع! أرضنا دون مشاريع الري ومدننا دون مصانع كبرى لأننا بلاد اقتسمها الغرب. ردّ هذا القدر عنا يحسم بالصراع! ولذلك توجد أحزاب ومنظمات تتبنى منظومات فكرية وتضع برامج. هذا الواقع هو الذي تموهه ياأستاذنا! وصفت بعض مانعرفه في الواقع الفاسد، لكنك لم تبين الحل!

تأمل عزيز قيسا. هذا الشاب انتصار أو هزيمة لنا في هذا البلد! قال: لاوقت للحوار هنا! سأتصل بك! طلب اللقاء بقيس بعيدا عن النادي والمستمعين. والتقيا في بيت يزيد. هما الآن قطبان في مدينة! عزيز قوة بين مريدين يسحرهم ببلاغته ولغته ومشروعه. وقيس يجر شباب النادي بقصيدته ومسوّدة مشروعه! سيجري حتى الكهول فيما بعد إلى المظاهرة التي يخطب فيها ليستمعوا إليه! لأنه سيصوغ مايستهويهم، وسيبهرهم برشاقته وجرأته! سيصفه الآباء لأبنائهم بعد عقود من السنوات، وهم يحكون كيف كانوا يركضون إلى أي تجمع يدعو إليه. وسيقول أحد أصدقائه بعد أربعة عقود لرجلين من زواره عندما يدخل قيس: أتعرفون من هذا؟ قيس! فينهضان: أنت؟! كنا نتبعك مسحورين، مع أن ذلك كان يعني الضرب أو السجن! كيف سيكون اللقاء بين القطبين؟ عزيز قومي، فقيه، مطلع على التيارات الفكرية، عارف بمشاريع الأحزاب، قارئ دؤوب. وقيس يحفظ القرآن والحديث، ويعجب بالمعتزلة وبالحلاج والمتصوفين. سيقول الفلاحون لمن يردهم عنه: يعرف القرآن أكثر منكم ومنا! وسيقول زملاؤه مازحين: يعرف التاريخ العربي أكثر من المستشرقين!

في الغرفة المغلقة بينهما فقط يزيد، الطالب الشاب، زميل أخي قيس في المدرسة، أحد مريدي الأستاذ. الحوار صريح لاتقيده الضرورات التي تمنع قيسا عن موضوع، أو تمنع اعتراف عزيز باجتهادات السياسيين والمفكرين وبسحر المسرات الدنيوية. يريد عزيز أن يكسب قيسا! لو استطاع لملك داعية إلى حزبه الجديد! لذلك اندفع في مناقشة لايمكن أن يجري مثلها خارج الغرفة. لاعزيز يريد أن تسمعه جماعته، ولاقيس يريد أن يسمعه أصحابه. أحدهما مقابل الآخر، ويزيد بين قمتين. قال عزيز أخيرا: ياابني، كن معي على الأقل لتربح الجنة! ياأستاذي، يمنع ديننا الحنيف أن يمثل الله عبد من عباده! وكيف تعرف أنها لك والعمر مايزال ممتدا للخطأ والصواب؟ لن يستسلم عزيز مع أن الحوار كان يبعد كلا منهما عن الآخر.

عصفت الريح خارج غرفة يزيد. سلخ المطر النافذة. كان الليل قد تجاوز منتصفه. وعوت كلاب بعيدة. نهض عزيز: لم يقنع أحد منا الآخر هذه المرة. لكننا سنلتقي مرة أخرى إذا وافقت. أعترف بأنك مطلع على مايهمني! أتمنى أن أكسبك إلى طريقي! رد قيس: سنلتقي. لكن لاتبحر في الأحلام ياأستاذي!

فتح عزيز الباب فتدفقت الريح ولمع البرق. استعد قيس للخروج بعد عزيز. قال له يزيد: ستذهب في هذه العاصفة؟ فلتبق الليلة هنا! قيس ويزيد في عمر واحد تقريبا، من جيل واحد، أبناء مدينة صغيرة واحدة. لم يتكلم يزيد خلال حوار عزيز وقيس. لكن صوته يلعلع بين الشباب، فيقولون: حامل أختام عزيز! إذا قلنا اللبن أبيض قال أسود!

يمكنك أن تبقى! فكر قيس برهة. وومض البرق في الغرفة. لاتوجد في البلدة طرقات مزفتة. يعود قيس من زياراته عادة محملا بالوحل. ففي أي وحل سيغوص الليلة إذا خرج من بيت يزيد؟! وإذا بقي؟

أضاء الغرفة برق خاطف. وفي البرهة نفسها ومض برق آخر. قال ليزيد: سأبقى! ابتهج يزيد؟

في الغرفة نافذة، كراس، وسرير واحد. لبس يزيد بيجامته، واستلقى في طرف سريره. وخلع قيس قميصه. ومض البرق مرة أخرى في الغرفة. اقترب قيس من يزيد، لمسه، فابتسم يزيد له.

في الكتب القديمة: تروى حكاية رجل أخذ من السبايا "جارية" بعد المعركة. قبل أن يطأها استعيدت منه. في المعركة الثانية لم يترك "الجارية" التي سباها للغد. وطئها خوف أن تستعاد منه! كان الوطء يرسخ الانتصار؟ انتصار من يرسخ في هذه الليلة العاصفة؟ لماذا لايوجد شريكان بل آخذ ومأخوذ؟ يفتل شاربه من يطأ، ويداعب من يختار صبيه! دخل البارودي إلى جمع من الناس بينهم صبي جميل. استحلاه فقبّل الجميع واحدا واحدا حتى وصل إلى الصبي. نفر الصبي منه فقال البارودي: تحملت لأجلك كل هؤلاء البشعين! فضحك الحاضرون. يزور البارودي في حارة قولي في سوقساروجا، رفيقا الذي يعزف على العود، فيضحك أهل الحارة: يستحليه! يترقرق الشعر العربي في الغلمان. تسحر أبا نواس فتاة تحمل الخمر في زي صبي. لكن ذلك بعيد عن الصراع السياسي! ذلك بعيد عن العسكري الأسود الذي وطئ في السجن بعض الإخوان المسلمين. فمشت في دمشق مظاهرة جامعية أدانت تعذيبهم في سجون مصر! في هذه الليلة العاصفة سجل قيس انتصارا على منافسه بالمعايير السائدة في بلده. "كسر عين" خصمه! انتصرت ياقيس؟! لماذا لم تعلن انتصارك إذا كنت تزهو به؟

تأوه يزيد كالفتيات تحت البرق ودقات المطر في الليلة العاصفة. سأله قيس: لازلت مؤمنا بالأستاذ عزيز يايزيد؟ رد يزيد: نعم! ياقيس، هل تعجبك أختي؟ رد قيس: من لاتعجبه! جمالها حديث البلد! قال يزيد: تزوجها إذن! زلزلت روح قيس: تريدني لأختك كي أبقى معك؟! أم معكم؟ منذ هذه الليلة لن يرفع يزيد عينيه إذا صادف قيسا! لكن رسائله ستصل إلى قيس في برهة حاسمة في ظروف أخرى!

بقي ماجرى بين قيس ويزيد سرا. لكن قيسا لم يتساءل: هل كانت تلك الليلة مشروعه فقط أم مشروع يزيد والأستاذ؟ ولم يتساءل أيضا هل يجوز أن يكون الصراع بين المتنافسين دون معايير الفروسية؟

في سأل قيس أباه: مارأيك في يزيد؟ رد أبوه: شاب متبحر في العلم، رغم وقاحته. يمتعه أن يضيّق الايمان كلما وسّعته. اعترف قيس لأبيه فقط بماحدث بينه وبين يزيد. ذهل أبوه ثم أشعل سيجارة: حدث ذلك؟! نعم يابا! ولاأفخر به! تاه أبو قيس بين "زلة" ابنه، وبين فجيعته بيزيد. سأله قيس: غضبت علي؟ بعد زمن أجابه: ليحمك الله من مثلها! كانت عادة يزيد أن يتلو آراءه في مضافة أهله كأنها أحكام قاطعة لاتحتمل المناقشة. وكان تطاوله على الكبار يغضب أبا قيس. انتهى ذلك الزمن يايزيد! قال له أبو قيس وهو ينظر في عينيه: اسمع، قلت لك ذلك غلط! فهمت؟ ذهل يزيد من قسوة أبي قيس عليه. ثم فهمه، فخفض عينيه. رجع أبو قيس إلى بيته مستمتعا بخلاص المضافة من غطرسة يزيد. في برهة انتصاره، فقط، قال لنفسه: أحسنت ياقيس!





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:13 AM [ 29 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






- 19 -



مشروع الأستاذ عزيز صغير على قيس الذي يلوب كالشباب منذ نكبة فلسطين متسائلا لماذا ضاعت من العرب أراضيهم وهم كثرة؟ لماذا وقف العالم ضدهم؟ لماذا.. ولماذا .. ولماذا؟ كيف يؤسس مجتمع جديد وقيادات جديدة؟ استعادة مجد العرب؟ كيف؟ لايكفي استيحاء الماضي! بالماضي نقاوم إسرائيل التي تزرع مستوطناتها بآلات حديثة وتبني مدنا معاصرة وتستخدم بنوكا اوربية؟ سيبقى قيس مفتونا بالشعر العربي القديم وشذى القرآن. لكن كيف يفسر كارثة معاصرة بعقل معاصر؟ وبأية معاصرة يقابلها؟ ماالعمل؟

هل يوحي كل زمن بأجوبة كما يوحي بأسئلة؟ هب نسيم من سوريا! وهب من مصر. بيّنت أول مذكرة للقيادة المشتركة أهمية الأردن وصعوبة الجبهة السورية وبعد المصرية. يجب أن تنضم الأردن للقيادة المشتركة. كيف؟ وهل يمكن ألا تهب على الأردن ريح الخمسينيات، وهو استمرار حوران، جنوب سوريا، ونصف عائلاته في الشمال ونصفها في الجنوب؟

في مقهى في عمان عرفه رفيقه فائز بمجموعة من الفلسطينيين. بحث مثل بحثك ياقيس هز عصبة العمل الوطني في فلسطين. نحن مجموعة صغيرة تقاوم استكمال هزيمة العرب بالقواعد العسكرية. نكتب نشرات ونوزعها. ممنوعة طبعا! نقاوم القواعد والأحلاف العسكرية التي يقترحها من خلق إسرائيل! بدأ مشروع سوريا الكبرى من هنا ليفقد سوريا استقلالها! سقط مشروع الهلال الخصيب الذي رعته العراق. والآن يجب أن يسقط حلف بغداد! خلال هذا الصراع يتغير الناس والمجتمع والقيادات. لاقيمة للفرد وحيدا ياقيس، البركة في الجماعة! هل كانت تلك المجموعة تحتاج فردا مثل قيس، ماهرا في خطاب الناس، يجمع حوله جمهور النادي الثقافي في بلده، وأصدقاء من أحزاب واتجاهات متنوعة!

لم يعد العالم مغلقا في صراع لاأفق له. بل أصبح للصراع ناظم تتحرك به المجتمعات من شكل إلى شكل. الإنسان هو صاحب هذا الكون وهو الذي يجب أن يقرر مصير مجتمعه. لكن الإنسان فردا لايبدل الوضع الراهن. تبدله الحركة الواعية التي تقودها الطليعة إلى مجتمع متقدم، فيه حريات سياسية واجتماعية وفكرية، والثقافة فيه حق الناس! هذا مايريده قيس! وجد الجوهر الذي يبحث عنه! هل كان ذلك كله ساذجا وبسيطا؟ لماذا يجب أن تسلك الحقائق الطرق المعقدة؟! سيعرف فيما بعد أكثر مما عرفه الذين حدثوه عن خفايا الأحلاف وعن الحرية والقومية والاشتراكية وتطور المجتمعات البشرية. لكنه اكتفى بالجوهر! وجد قضية يرتمي فيها بروحه كلها. سلم قيس مصيره للخمسينيات المجيدة والدامية. وخيل إليه أن بلده سيتبدل قريبا في حياته نفسها. وبدا له أنه هو نفسه أصبح جديدا، مختلفا. لكنه لن يعرف إلا فيما بعد أن المجتمع الذي رفضه أسس جزءا من روحه وطباعه.

تدفق قيس متحمسا. يريد أن يشرك من حوله باكتشافاته؟ قال في محاضرته: لن يرد الحق إنجيل ولامصحف، جرنا للبؤس الغرب الذي شيد على أشلاء موتانا دويلة السلب. ولن نرده إلا بمقاومتنا قواعده العسكرية! صفق له الجالسون والواقفون. جروه أو جرهم إلى مظاهرة كبيرة تضامنت مع المصريين الذين تظاهروا ضد المعاهدة البريطانية.

يقصدون المعاهدة البريطانية في مصر أم يقصدون المعاهدة البريطانية هنا؟! في اليوم التالي فتشت الشرطة بيت قيس. فوجدت نشرات ضد القواعد العسكرية، وكتاب أندريه جيد "مات الله". مات الله؟ أنت ياقيس إذن أكثر مما نعرف! أنت عضو في حزب سري!

لكن لايوجد "حزب الشعب الديمقراطي" بعد! توجد مجموعات "الديمقراطية" من فلسطينيين لجؤوا بعد سنة 1948، وأردنيين درسوا في الجامعة الأمريكية في بيروت وفي الجامعة السورية في دمشق لمّتهم مقاومة الأحلاف. لايعرفهم قيس، لكنهم سيرتبون الدفاع عنه!

حوكم قيس بعد ثلاثة أشهر مرت عليه في السجن. رئيس المحكمة بهجت التلهوني، الذي صار فيما بعد رئيس وزراء وعضوا في مجلس الأعيان. محاميا الدفاع شفيق رشيد، الذي أصبح فيما بعد وزير عدل ثم سكرتيرا عاما للمحامين العرب. وصلاح الدين ، الفلسطيني. بين يدي القاضي المستمسكات التي ضبطتها الشرطة عند قيس.

قال المحاميان المدافعان عن قيس: أولا، لايمكن أن يكون موكلنا عضوا في حزب الشعب الديمقراطي لأن هذا الحزب غير موجود! ثانيا، كتاب "مات الله"، المستمسك ضد موكلنا، كتبه أندريه جيد ليبيّن فيه أن مثله الأعلى، الاشتراكية، مات. الكتاب إذن ليس كتابا دينيا، وليس دليلا ضد موكلنا، بل معه. يالحرج المحكمة! كان قيس قد أنهى ثلاثة أشهر في السجن. فحكمت عليه المحكمة بالسجن ثلاثة أشهر. نقل من المحكمة إلى السجن مباشرة، سلموه أشياءه وأطلقوه. لكن الشرطة ليست المحكمة! أفلت منها اليوم لكنه لن يفلت غدا! يهددونه؟ لايبالي بهم! وجد محور حياته، ولتعصف العواصف! ولن تكون المرأة، المخلوق الجميل، غير عنصر فقط يواكب هاجسه الكبير، الوطن، حتى يمتنع عليه!

استقبل قيس المهنئين بخروجه من السجن. احتفى به غرباء لايعرفهم. وتفرج عليه شباب كما يتفرجون على بطل. عبق في بيت قيس انتصار بدا كأنه انتصار على حلف بغداد نفسه. تحدث رجل حديثا هادئا عن حركة التحرر الوطني التي تحرك آسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية، وتتوهج في الآرض العربية. قال في نشوة: لكل زمن سمة. وسمة الخمسينيات أنها للأستاذ عزيز مجموعة مريدين، ومشروع حزب، لكنها لنا ولقيس فضاء! اكتشفت الشرطة علاقة شيخ الجامع في قرية قرب إربد بالشيوعيين، وقيل بالبعثيين، فربطت رقبته بلفته وجرته في الشوارع. مع ذلك وقف المختار وقال للشيخ البديل الذي شتم البعثيين والشيوعيين في صلاة الجمعة: اسمع! نصف هذه الضيعة شيوعي ونصفها بعثي، فالزم حدّك! وعندما تحدث الشيخ عن الملائكة التي تنقل الأخبار وقف رجل من المصلين وقال له: تجعل الملائكة كالمخبرين؟! عيب، ياشيخ! سمى السياسيون هذه الأيام زمن نهضة حركة التحرر الوطني! يجب أن يسموها سنوات البريق!

وقت كنت في السجن ياقيس، لم يكن لدى مصطفى الذي أرسل إلى الإتحاد السوفييتي سنة 1917 برقية باسم "الحراثين"، بطاريات راديو. فاخترق الطريق الموحل ودق الباب على جاره: نمت؟ لا! خير؟ يجب أن أسمع الراديو! أضاء جاره الفانوس وجلسا يبحثان عن المحطات. هاهي! استمع الزائر إلى الأخبار. بعد الأخبار نهض لينصرف. سأله صاحب البيت دهشا: أذاعوا ماأتيت لأجله؟ نعم! لاتزال الأحلاف العسكرية معروضة لكنها لم تنتصر! ظنه أتى في الليلة العاصفة ليسمع خبرا عن نجاح ابنه في الشهادة! نسي أن الرعيان يحملون في هذه السنوات الخمسينيات الترانزيستور ليسمعوا الأخبار.

روى رجل آخر أن ابن عم مخلص، الذي فصله عرفان من عصبة التحرر، وسيقتل في السجن فيما بعد، ضابط الشرطة، صادفه في الطريق: اعطني نشرة جماعتك ضد القواعد العسكرية! فرد: تجرؤ؟! قال له الضابط: الله يسامحك! مقبولة منك! خذ هذا الدينار مساعدة لهم! فرد في كبرياء: آخذ منك مساعدة!! وعندئذ روى قيس أن أحد رجال الشرطة الذين فتشوا بيته طلب أخته للزواج "كي يكون لأولاده خال شجاع"!

عند الباب همس الرجل الذي أتى بوفد المهنئين: كن حذرا! نريدك خارج السجن لاداخله! البطولة أيضا أن تحمي نفسك منه! لكنه كلفه بتنظيم مظاهرة يمكن أن توصله إلى السجن. فهمس قيس مرحا: توصل الدروب كلها اليوم إلى هناك!

كشف قيس موهبة منظم ماهر ودقيق. فكانت المظاهرات تتجمع هادرة وتذوب كالملح عندما تتفرق. لكن قيسا وسط حماسته لم يستطع أن يجمع الرحمة إلى الحزم! كلف شابا بأن يبدأ الهتاف في المظاهرة التي ستتجمع وقت خروج المصلين من المسجد ضد القواعد العسكرية. لاحظ الشاب أن الشرطة سبقت المتظاهرين فقدر أن سر المظاهرة أفشي. لم يهتف فلم تتجمع المظاهرة. قال له قيس: هذا جبن! بكى الشاب، وهاجر من البلد.

كانت هوية يومذاك قد أتت من العدسية واستأجرت بيتا تمضي فيه الصيف بعيدا عن حر الغور. تركت بيتها وسلطانها وأتت إليه؟ نام تحت ناموسيتها. ومع ذلك تبينت مسافات أخرى بينهما ليست البعد بين بلدتين. عاد إليها متأخرا. لماذا؟ كان يجمع التواقيع على عريضة ضد القواعد العسكرية والقنابل الذرية! جفلت هوية: هذا كلام شيوعيين! ماعلاقتنا بالقنابل الذرية والقواعد العسكرية؟ هذه شعارات مستوردة! قال لها: كلامك كلام أميركان! أكدت له: الاشتراكية هي الخطر الأكبر علينا، لاالاستعمار! رد: لاأرى غير القواعد العسكرية والمعاهدة البريطانية هنا! رجته: اترك السياسة ياقيس! رد: ليت السياسة تتركنا! هي في كل شيء. كلامك نفسه سياسة! البهائية سياسة! موقف! لم تكمل هوية الحوار معه. ستنتظر يوما آخر.

طلب منها أن توقظه باكرا كي يجد سيارة توصله إلى عمان ليراقب المظاهرة التي لن تنطلق لأن الشاب لم يعطها الإشارة بهتافه. أيقظته. حضرت له الفطور. سألته: أخذت ماوضعته لك تحت المخدة؟ ماذا وضعت له؟ رسالة حب؟ وجد ثلاثين دينارا. فرفع ذراعه وصفعها وخرج. تشتريه؟ رأى مرة أخرى حاكمة العدسية ولم ير المحبة.

في المساء رجع إلى بيته. فوجدها جالسة مع أبيه. كيف اهتدت إلى بيته؟ بعد القهوة انصرفت. وتبين قيس أنها تركت له هدية: ثيابا. قال له أبوه: بهائية! احذرها! لم يتساءل قيس: ماالفرق بين ثلاثين دينارا وبين هدية أغلى منها؟ ولماذا يقبل منها جسمها وروحها ويرفض مالها؟

حسب قيس عودته إليها اعتذارا. ولم يذكر أحدهما الصفعة. قالت له: أنت الآن دون عمل. قدم طلبا للمحفل البهائي لتأخذ حقك. من يعلّم البهائيين له حق الوارث! تحدثه امرأة عن حاجته؟ يرفض ذلك! فهم كل منهما أنه سيترك الآخر. كانا ينتظران فقط سببا خارجا عنهما كأنهما يغاران على حرمة الذكرى. عادت هوية إلى العدسية. وفهم قيس أن زمن العدسية انتهى. فهل يستطيع ألا يودعه؟

نزل إلى الشونة موجوع القلب. اتفق مع سائق تاكسي انتظره في المقهى ومشى إلى العدسية. ليست العدسية بحاكمتها! بل بالمسكينة فيها! عبر الدرب كأنه ذاهب إلى غرفته القديمة. ثم دخل مزرعة غولروخ. رآها من تحت شجرة البرتقال تسند رأسها إلى زجاج النافذة كأنها تبحث عن شيء في العتمة خارجها. هبّ قلبه. تتوقعينني ياوردة؟ وقف يستمتع بها وهي في إطار النافذة، نجمة مضاءة في عتمة البستان. ظل واقفا حتى استدارت لتبتعد فركض إليها. رمى حجرا صغيرا على النافذة، ورآها تسرع في لهفة إليها. فتحتها وتلفتت فخطر له أن يصفّر لها. ثم خرج من الظلام حذرا. لم تتكلم، عانقته صامتة، شدته إليها، وضعت رأسها بين كتفه ورأسه وسكنت زمنا. أنت؟ كم كان اللقاء مبهرا! لكنه لايمكن أن يستمر!

بقيت هوية في العدسية، وعبرت أسرة لور معه بعض سنواته الحاسمة. ليست المسافة فقط، ياهوية، مايقرر الفراق واللقاء! للعدسية في قلبي أشواق! لكن البهائية ابتعدت والعدسية صارت بعيدة!

تابعت أسرة لور قيسا في المحاكمة. استمعت إلى اكتشافاته. وقرأت النشرات التي حملها لها. استهوتها العدالة التي يتحدث عنها كما كان يستهويها الشعر؟ لاتستطيع لور أن تندفع إلى هناك! ستكون من مريديه الصامتين! سالم، أخوها، هو الذي كاد ينجرف بقيس! وكان ذلك في عمان.

اشتغل قيس في دائرة الأراضي في جبل اللويبدة في عمان. وانتقلت لور لتشتغل في عمان. فجمعتهما المصادفة مرة أخرى. بيت لور في طريقه! غرفتان وسط بستان، بينهما شجر وأحواض زهور وفي نهاية البستان حمام. يلمح لور أو أمها أو إخوتها. ينادونه: تفضل! هناك التقى أول مرة بسالم الذي نزل من قطعته ليزور أهله.

تنقل قيس وسالم بين نادي التعاون الذي يلتقي فيه الشيوعيون وبين المنتدى العربي الذي يجتمع فيه البعثيون والقوميون العرب. ثم فضلا المنتدى العربي لأنهما يستطيعان هناك أن يشربا كأسا من البيرة. تعليمات حزب الشعب الديمقراطي، ومنظمة مناهضة القواعد العسكرية، صارمة: لاتقربوا الجيش! أول أسئلتهم: هل لك أقرباء في الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل أنت منتسب للجيش؟ لماذا خطر لقيس إذن أن يحدّث سالماً عن القواعد العسكرية والمعاهدة البريطانية؟ طبعا، يجب أن يحدثه عنها! في الأيام التالية قصده شباب قالوا له: حكى لنا سالم عنك، اعطنا النشرات التي أخذ مثلها منك!

صحا قيس؟ لعل اعتقاله أنقذه من خطر أكبر! مر في طريقه في جبل اللويبدة ببيت لور. تفضل! رد: سأعود! لديه موعد مع خليل الذي سيحمل له منشورات. أتى خليل على دراجة، سلمه حزمة المنشورات وانصرف. على بعد خمسة أمتار رأى الشرطة تنتظره في أسفل الدرج. سلّمه خليل إذن ودليل إدانته في يديه! صرخ قيس: ياناس، خليل جاسوووس، خليل جاسووووس! سمع المارون قيسا، وسمعته لور. سيصل الخبر لمن يجب أن يصل إليه! لكن قيسا لم يعرف أنه حمى نفسه! لم تقدمه الشرطة للمحاكمة، كي تستر خليلا. فنقل دون محاكمة إلى معتقل الجفر. اصرخ ياقيس في الصحراء كما تشاء! أسس هناك مع أصحابك جمهورية، واكتب لها دستورا أيضا! تسخرون؟ ستكون تلك الجمهورية على مدّ العين، وسيكون لها دستور!

بعد الطريق الطويل في سيارة قفزت وترنحت في ليل بارد، احتفل قيس بوصوله سالما إلى معتقل الجفر. وبدا له هدوء الصحراء مخمليا بعد هدير السيارة طول الليل. أليس الممتع أن يرحب المعتقلون بالضيف الجديد؟ قال لمن عانقه: كأنكم تمنيتم حضوري وانتظرتموه! من قال شر البلية مايضحك؟ افتتح ياقيس الأشهر التي ستعيشها هنا، وقصّ الشريط الحرير! وماأكثر ماستقصّ في بلادك الأشرطة الحريرية فيما بعد! رأى قاووشين، واحدا للمحكومين وآخر للمعتقلين، بينهما شريط يتحادثون من خلاله. رأى في أقدام المحكومين سلاسل. فتساءل: في أي عصر نحن؟ رد عليه طبيب معتقل: تكتشف بلدك؟ اكتشفه، لكن لاتبالغ! في اليوم الأول يبدو كل شيء صعبا وغريبا! احتفل بأنك دون سلاسل، مع المعتقلين! صدم قيسا هدوء الطبيب أمير تصور أن ربط إنسان بالسلاسل يجب أن يثير تمردا، إضرابا، عصيانا! قال له الطبيب: لكل تعبير حسابات سياسية دقيقة، كيلا تفشل أو تفجع! تأمله قيس فابتسم الطبيب: ذات يوم كنت مندفعا مثلك. ثم تعلمت الحكمة! سأله قيس: كم عمرك؟ عمره ثلاثون سنة، متخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت. وكم هو وسيم! قال: وصلت ياقيس عشية الاحتفال! غدا يوم الجمعة. يسمح للمحكومين بأن يتغدوا عند المعتقلين. ويمتد احتفال الغداء من الصباح حتى الساعة الرابعة تقريبا. يقرأ المحكومون والمعتقلون ماترجموه أو كتبوه من مقالات وخواطر وشعر وقصة! صدقوا إذن! جمهورية في الصحراء!

انظر! هذا هو عرفان! الرجل الأسطورة أمام قيس! سمع قيس تفاصيل حياته! فهل تستطيع المثل أن تعيش حياة شخصية؟ لاحق لها في حياة عادية! يعرف قيس أن عرفان ولد في بلودان في سورية، ورجع إلى الناصرة سنة 1922 درس حتى الصف الرابع فقط، وترك المدرسة فاشتغل عاملا في صناعة الأحذية. اشترك في انتفاضة البراق 1929 وفي انتفاضة 1936 نفي وحكم بالإقامة الجبرية في الخليل. سجن في سجن عكا. بعد السجن بقي في الإقامة الجبرية في الناصرة. هرب إلى الثوار في الخليل. وقاد الانتفاضة المسلحة في سنة 1939 في منطقة القدس والخليل خلفا لعبد القادر الحسيني الذي جرح. من اشتباكاته مع الإنكليز في كسار وعرطوف وأم الروس كسب شعبيته. جرح ووصل مشيا إلى بغداد. دخل الكلية العسكرية وتخرج منها بعد أشهر. واشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني. بعد فشل الثورة انتقل إلى ايران. رفضته ايران فنقلته السلطة العراقية إلى كردستان، ثم اعتقلته. بعد العفو العام في أواخر 1943 رجع إلى فلسطين وفرضت عليه الإقامة الجبرية.

أتعرف ماالفرق بيننا وبين اوربا ياقيس؟ تعتد اوربا برموزها. وقت يصل الفرد فيها إلى مستوى الرمز تمدّه في الولاء العام وتجعله تراثا وطنيا لتعتد به أمام الهوية الأخرى! نحن، قد نستطيع ذلك عندما نقلّب تراثا قديما. فنعترف للغزالي ولابن رشد بالمكان التاريخي. لكننا في الصراع المعاصر نحبس الخصم الفكري في سجن حقيقي أو معنوي. لانعي أن الوطن يغتني برموزه المتنوعة!

أعد الغداء احتفالا بعيد ميلاد عرفان. كتب قيس متحمسا، مسرعا، متدفقا قصيدة له. ألقاها بصوته الذي يصبح عذبا شجيا وقت يلقي الشعر. كان المعتقلون والمحكومون ملتفين بالحرامات من البرد. فهبّ عليهم دفء من شعر قيس ومن صوته. وقف عرفان، رفع يديه المقيدتين بالسلاسل وعانقه. رفّ قلب قيس. تأثر الحاضرون. دمعت عيون بعضهم. لاشيء يمنع هؤلاء المرتجفين من الصقيع، المحرومين من دفء البيوت، من فوران العواطف وحرارة الايمان! ستمر السنوات والمحكومون يرددون كل يوم لايمكن أن تبقى الدنيا كما هي الآن! فأي حلم مبهر يرون! أية ألوان؟

أصبح قيس نجم المعتقل! زاده حنان رفاقه توهجا. استمتع بالحب وسيظل طول حياته عطشان إليه. ياللشاعر! توقده المحبة، وتطير به! في لقاء المعتقلين والمحكومين التالي أنشد قيس قصيدة طفح فيها حبه على فلسطين حتى الشفقة، فقبل في شهامة أن يبقي فيها، يوم يستعيدها، بعض الغرباء الذين يحبونها، شرط أن يعترفوا بالدولة الفلسطينية الديمقراطية! يحلم؟! ياقيس لم تتبين بعد مشروعهم! لو كان مشروعا صغيرا لما طردوا شعبك! وسيظلون يلاحقونه!

نهض عرفان، عانقه وقال: هذه قصيدة تنضح بالأممية! أطرب قيسا أن يعانقه قائد ويمدحه! أطربه أن يصبح مركز الحب! الاتفاق مع المجموعة مريح ياقيس، والخلاف معها يشقي. لكن الصراع مع الضمير هو التعاسة. لن تهنأ زمنا طويلا بالرضا وستضحي به!

وجد قيس في المعتقل مجتمعا منظما. سيدين له كثير منهم بكشف مالم ينتبه إليه في روحه من خير وشر، وبتقويم طباعه، وبدفء الصداقة في المرض والبرد. تمثل المعتقلين مجموعة تتصل بالحرس، توزع مجموعة الأعمال من طبخ وتنظيف، وتكتب مجموعة دفاتر الثقافة التي يتداولها المعتقلون. قرأ قيس في أحدها مقالة عرفان: "تاريخ الحركة الوطنية في فلسطين". جفل؟ همس: خطأ! شتيرن والأرغون ساهمتا في طرد الاستعمار الإنكليزي من فلسطين؟! لا! خرج الإنكليز من فلسطين لأنهم استكملوا تنفيذ الوطن الصهيوني الذي تعهدوا به في صك الانتداب! قتلت العصابات الصهيونية المتطرفة من العرب أكثر مما قتلت من الإنكليز! حاربت الإنكليز لتخرجهم من فلسطين؟ كان مشروعها الأول أن تخرجني من بلادي! هل يعلن هو الشاب رأيه أمام رجال يكبرونه في العمر وفي التجربة؟ هل الوقت مناسب لذلك؟ مال إلى جاره الطبيب أمير وأشار بإصبعه إلى المقالة: يمكن أن يفهم منها أن الصهيونية حركة تحرير! رد الطبيب: تعبر مقالته عن اجتهاده الخاص! قصة اليساريين الصهيونيين قصة طويلة. بان أنهم كانوا صهيونيين ونكلوا برفاقهم العرب. حوسب بعضهم وأعدم. اقرأ فيما بعد عن بورغر! فهم اولئك اليساريون اليهود الجبهة الشعبية بأنها تعني دعم المعتدلين، وايزمان وبن غوريون، ضد المتطرفين، جابوتنسكي والأرغون! وأكدوا في عنصرية أن العرب غير مؤهلين للقيادة والتنظيم. كانت الحلقة محكمة فالمسؤولون في الاتحاد السوفييتي عن منطقتنا كانوا صهيونيين، مدير جامعة الشرق للكادحين، ومسؤول الصلة بين الجامعة والكومنترن، والذين أعطوا الشهادات بالعرب الفلسطينيين. اعتقل اولئك مع جوزيف برغر في حملة التطهير في الاتحاد السوفييتي. ولتتذكر كلمتي ياقيس: سيدفع ستالين طول عمره ثمن هذا التطهير الذي أبعد به الصهيونيين عن قدر بلاده وعن صلتها ببلادنا! ادرس تلك التناقضات المتلاطمة بعين باحث واسع لتكون استنتاجاتك واسعة. قدّر وزن الوقائع وقدّر أيضا وزن الأوهام! امسك السمة العامة لتحكم حكما صحيحا، كيلا تجنح بالتفصيل الذي لايعبر عن الجوهر. ياقيس، أعترف لك بأن قصيدتك الماضية لم تعجبني! كنت مجروفا بعاطفة خيالية! لاتستطيع أن تمارس قتل أعدائك الذين سرقوا بلدك، لأنك متحضر ورحيم. لكن خيارهم: أنت أو هم! ذكرتني قصيدتك بموضوعات إخوتنا في فلسطين. دعوا إلى دولة عربية حرة تحمى فيها حقوق الأقلية اليهودية. ذلك صحيح نظريا. لكن في الواقع كان اليهود "اليساريون" أولا قلة لاوزن لها، وكانوا ثانيا يرفضون تحديد الهجرة الصهيونية أو منعها، وثالثا يرفضون أن يكونوا أقلية في دولة عربية! تمييز عصبة التحرر بين الصهيونية وبين يهود البلاد صحيح نظريا. لكن الصهيونية كانت تجرف أكثرية اليهود في فلسطين. استند يهود صفد إلى ثقة العرب فيهم واشتروا باسمهم بعض الأراضي للمؤسسة الصهيونية! وضح عرفان سنة 1946 أن كسب الجماهير اليهودية في فلسطين وإبعادها عن الصهيونية ممكن، وأن هذا النضال يجب أن يكون هدفا استراتيجيا للحركة الوطنية العربية. فهل هذه الموضوعة واقعية؟ كانت المنظمة الصهيونية العالمية تبتلع اليهود وتنظّمهم وهي التي تؤمن لهم العمل والسكن. تشهد أحداث مصفاة حيفا على هذه الشبكة من التناقضات. قررت مصير حيفا نفسها المؤسسة العسكرية اليهودية لامجموعة تنادي بدولة فيها حقوق متساوية للعرب واليهود. ولذلك انتبه إلى تحفظ غروميكو في الجمعية العامة وقت قال "إذا" استحالت دولة واحدة.. فدولتان. رأى كديبلوماسي مشكلة لاتحل. مصفاة حيفا مثل على امتناع واحات التفاهم بين العرب واليهود في زمن تحكمه الصهيونية. كان عدد العمال العرب في المصفاة 1700 عامل، ثلاثون في المئة منهم أعضاء في عصبة التحرر الوطني، وعدد العمال اليهود 270 عاملا، نصفهم أعضاء في الهستدروت. وكان الإداريون 190 يهوديا و110 عربيا و60 إنكليزيا. بعد قرار التقسيم انفجرت الصدامات بين العرب واليهود. وكان من أولها مذبحة مصفاة حيفا. رمت عصابة الإرغون في 30 كانون الأول 1947 قنابل من سيارة مسرعة على العمال العرب الذين ينتظرون عملا يوميا أمام باب المصفاة. فقتلت ستة عمال وجرحت 42 عاملا. فانعكس ذلك فورا في صدام بين العمال العرب والعمال اليهود داخل المصفاة، وقتل أربعون عاملا يهوديا. أدانت الوكالة اليهودية هجوم الإرغون لكنها وجهت الهاغاناه إلى الهجوم على بلد الشيخ، حيث ضريح القسام، فقتلت ستين شخصا من عمال المصفاة ونسائهم وأطفالهم ونسفت عشرات البيوت. مع أن لجنة التحقيق بينت أن هجوم الإرغون عند باب المصفاة سبب الصدام في المصفاة، وبينت أن كثيرا من العمال العرب حمى العمال اليهود. عندما أعلنت دولة إسرائيل في أيار أخذ المهاجرون اليهود الاوربيون مكان العمال العرب في المصفاة وأخذوا بيوتهم ووطنهم! فهل كانت نداءات سحب الجماهير اليهودية من نفوذ الصهيونية موضوعة واقعية؟! لتكن تلك مهمة اليهود الذين تتاجر بهم الصهيونية وتفصلهم عن الشعوب التي يعيشون بينها! لكن لاتظن ياقيس أن المخطئين أو الواهمين فقط يدفعون الثمن! رتّب مؤتمر أريحا سنة 1948 لتعلن الشخصيات الفلسطينية المجتمعة فيه رغبتها في الانضمام إلى شرق الأردن فتطوى حكومة عموم فلسطين التي قررها مؤتمر غزة. عارضت عصبة التحرر الوطني قرار مؤتمر أريحا، فاعتقل بعض أعضائها. جرتهم قوات البادية مربوطين بالحبال خلف الخيل من نابلس إلى عمان، فمات في الطريق من العطش روحي زيد الكيلاني وجروه مقتولا، ووضع الباقون الأحياء في الجفر. لكن لماذا نذكر الأحزان فقط! سأروي لك مايضحكك. في تلك الأيام كسبت "حكومة عموم فلسطين" أحمد حلمي باشا، المقرب من الملك عبد الله. فلجأ إلى القاهرة. فأرسل إليه الملك برقية كتب فيها: ماعهدناك ياأحمد كبش نطاح! فرد أحمد باشا ببرقية قال فيها: ماعهدناك إلا نعجة لقاح! ضحك قيس والطبيب أمير. ضحكا أكثر مما تستحق البرقيتان. فهل كانا يردان عنهما صورة الرجال الذين جروا بالحبال خلف الخيول في حرّ تموز؟

وضع الطبيب كفه على كتف قيس: إذا انقلبت الدنيا ذات يوم فألغي الاتحاد السوفييتي سيرى أعداؤه انتصاراته خطايا، لكن أحدا لن يعترف بأن قرار تقسيم فلسطين ظلم، أريد به أن يفتتح اجتياح المستوطنين الغرباء القرى والمدن العربية. ولن يقال إن الاعتراف بإسرائيل، فورا بعد إعلان نفسها دولة، خطأ حقوقي لأنه يشترط الاعتراف بدولة فلسطينية قررها قرار التقسيم لكنه لم يتضمن ولم يرغب أن تنشأ! مع ذلك لاتبحث ذلك هنا، الآن! واسمع نصيحتي لك كإبن: رموزنا ياقيس من تراب بلدنا. نتمنى أن نراها صافية، كأنها غير بشرية. وربما يوجد اولئك الناس المنزهون كالملائكة. لكن ليست مهمتنا فقط أن نكون، في مستوانا، رموزا فنضبط غضبنا، ونقمع أشواقنا، ونزن كلماتنا وخطواتنا. مهمتنا أيضا أن نحرس رموزنا الكبرى بحكمتنا. فلا نبالغ عندما نزن أخطاءها. تذكر أن الحركة الوطنية لاتعتمد رموزا مصنوعة في الغيب تحميها قدسيتها. بل تصنع رموزها بالحياة. ويوم تدمر هذه الرموز ويبدد الايمان بها سيعود الإنسان إلى زمن وحشي، وستنطلق شروره، وستصبح المجموعة البشرية دون معايير ومثل! وستكون تلك الحرب على الإنسان أبشع الحروب!

جلس قيس بعد حديث الطبيب صامتا. إقامته في الجفر، محاكمته، سجنه، خطاباته تجعله هو أيضا رمزا؟! فهل يستطيع أن يحمل ذلك الثقل؟ فيقيس عواطفه، ويكبح نزواته، ويزن كلماته، ويلجم حبه وكرهه؟ عاد إلى الطبيب. وقال له: لاأستطيع أن أكون رمزا! ضحك الطبيب: وأنا أيضا! لاتقرر الرموز لنفسها ذلك. يقرر لها الزمان! لك ياقيس مزاج شاعر، وسيقسمك إلى شطرين الحرية التي تحتاجها والالتزام بأن تسوس نفسك كرمز! لكن أليست للحرية التي نحتاجها وللتمرد على الركود معايير؟ المهم ياقيس أن يكون لنا وجه واحد لاوجهين! وأن نضع أنفسنا بين الناس لافوقهم. ففي المتمردين والثوريين والسياسيين ضبع يأكل روحهم إذا توهموا أن خدماتهم تفرض لهم على الناس ضريبة، وأن تضحيتهم تلزم مريديهم بأن يخدموهم. لاتظن أن السياسيين الحاكمين فقط يتصورون أنهم متميزون عن الناس! السياسيون غير الحاكمين قد يتوهمون ذلك أيضا! وهم أيضا قد ينحازون إلى أولادهم وأحفادهم ويقدمونهم على أولاد شعبهم.

لم تمنع صداقة الطبيب وحب المعتقلين والمحكومين عن قيس التدرن الرئوي. نزف دما. تساءل مازحا: هل كان العرب يرسلون أطفالهم إلى الصحراء ليتنفسوا الهواء النظيف؟ والصقيع؟! اقتطع له المعتقلون أحسن طعامهم ليغذوه. ولكن حتى قيس يرفع رأسه إلى السماء ويرمي مصيره على القدر! لم يترك التدخين إلا يوم نزف أول مرة. من حظه أن حكومة توفيق أبو الهدى سقطت وأن فوزي الملقي، كلف برئاسة الوزارة. اختار الملقي شفيق رشيد وزير عدل. فأعلن رشيد عفوا عاما عن المعتقلين. وخرج قيس من الجفر مع المعتقلين. حاملا مرض الرئتين، ونفورا من عرفان دفنه في قلبه سيكون أساس خلاف طويل بينهما فيما بعد، ولن ينفذ نصائح الطبيب!





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 18 Nov 2005, 05:14 AM [ 30 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






- 20 -

بعد أسبوع من استقبالات المهنئين بعودة المعتقلين من الجفر، اشتغل قيس كاتبا في دائرة الأشغال في إربد. مكتبه في غرفة ساري الفنيش. في غرفة واحدة مع الفنيش المتهم بتسليم صفد لليهود؟ لاترفع صوتك! هذه وظيفة لابيت! ابتكرت لساري وظيفة لزيادة دخله! ثمن المدينة الجبلية الجميلة وظيفة تملأها من الصباح إلى الظهر كؤوس الشاي والتدخين والكلام؟ راقبه قيسا وهو يتساءل عن الحدود الفاصلة بين الخيانة وبين تنفيذ الأوامر. لايتحمل قلبه الشاب أن يكون هذا المكان الصغير والراتب الصغير ثمن مدينة صفد، ثمن مدرسته و"المنزل"، وبيت أميرة، ودروب نزهته مع أصحابه! في البداية لم يسلّم قيس عليه. ثم تعود أن يتأمله. ثم بدأ يحاول أن يفهم الرجل الذي يكرهه. قال له ذات يوم: أنت سلّمت صفد! رفع الفنيش رأسه ونظر إلى عيني قيس. يتهمه؟ بل ينقل مايقوله الناس من دمشق إلى عمان! رد: ياحبيبي، أنا سلّمتها؟ من أنا كي أسلّم مدينة؟ جاءتني أوامر: انسحب، فانسحبت. هكذا راحت صفد! وقف قيس: لكن الأوامر التي أتتك لم تكن من المسؤول عن الأوامر! هل يقول الفنيش، أتت ممن أعلى منه! سكت. يجر أمثال الفنيش مستمعيهم بعيدا عن البقع السوداء في حياتهم، ليظهروا أن فيهم جوانب أخرى جذابة وحيّة. يأملون أن يبدلوا حكم الناس عليهم؟! بدا الفنيش ظريفا وهو يحكي لقيس: في العشرينيات كان عندنا ضابط إنكليزي، مسؤول عن المخابرات، اسمه سومرست. وقتها طلب الإنكليز من الأمير عبد الله قواعد أو اتفاقية توجس منها الأمير فتلكأ في الرد عليهم. أوعزوا لأحد رجالهم من منطقة الكورة من مشايخ الشريّدة كي يثور على الأمير. قالوا له: من هذا! جاء إلى شرق الأردن على جمل! ثر عليه وخذ مكانه! "ساوي" ثورة في الكورة!

عمل الرجل تمردا في الكورة. فهم الأمير المراد منه وصفّى الجو بينه وبين الإنكليز. فانتهى التمرد. لكن الشيخ أتى قبل نهاية ثورته إلى الضابط سومرست وقال له: ثورة وعملنا، قل لي ياسيدي ياصورم سيد، كم نجمة أعلق؟ رد عليه سومرست: علق قدر ماتشاء! لم يستطع قيس إلا أن يضحك. هل أراد ساري الفنيش أن يصور له كيف ينفذ الموظفون الأوامر؟ قيل له، هو أيضا، انسحب من صفد فانسحب! مطلوب أن تسقط صفد قبل الخامس عشر من أيار!

انتهت أيام دوام قيس في وظيفته الهادئة، بمظاهرات عاصفة. بين سنة 1953 وسنة 1955 هل مر شهر دون مظاهرة؟ انقطعت مفاوضات الجلاء عن القنال بين إنكلترا وبين مصر في أيار 1953 وسحبت إنكلترا رعاياها المدنيين من مصر. فردت مصر على التهديد بغارات فدائية في منطقة القنال. نظم الجيش والمخابرات العمل الفدائي فسدده لكنه أفقده صيغته الشعبية. وكانت قيادات الأحزاب في السجون، والوضع يشبه ماسيتكرر فيما بعد. فالأحزاب الوطنية ستسند الحكم نظريا، لكنها لن تكون قادرة على مده بقوتها لأنها مراقبة أو مسجونة. وصل دالاس في تلك الأيام المتوترة في أيار 1953 إلى القاهرة واقترح حلفا عسكريا "يحمي مصر من الشيوعية والاتحاد السوفييتي". الدفاع المشترك؟! البلاد العربية كلها ضد أمريكا التي خلقت إسرائيل ودعمتها! دالاس وسيط بين مصر وإنكلترا، وجلاء إنكلترا مقابل حلف مع أمريكا وإنكلترا؟ قال له عبد الناصر: يبعد الاتحاد السوفييتي عنا خمسة آلاف ميل. ليست بيننا وبينه مشاكل أبدا. لم يحتل أرضنا ولم يهاجمنا وليست له قاعدة في مصر، بينما لاتزال بريطانيا تحتل القنال! في 20 كانون الثاني 1954 أطلق الإنكليز الرصاص على جنود مصريين فاشتدت المقاومة المصرية المسلحة، ونزلت المظاهرات إلى الشوارع في مدن سوريا والأردن تعلن التضامن مع مصر. سجن قيس، وقال الفنيش لمن جلس إلى طاولته: سكة قيس لاتوصل إلى السلامة!

لم تصل إلى جماهير البلاد العربية تفاصيل الصراع بين المنظمات وبين قيادة الثورة في مصر. وسط الصدام الكبير بالغرب، وصلت تصريحات عبد الناصر: "الجلاء عن القنال أو القتال حتى الموت!".. "على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل!" فرفعت في المظاهرات أمام القادة العرب الهادئين تمرد جمال عبد الناصر على الغرب. وستظل الشوارع العربية تردد تمرده مختارة حتى سنة 1959. وستتصل مصائر أجيال بمسار عبد الناصر وقراره السياسي.

صدحت الخمسينيات! احتشد فيها الأمل والأحلام. شباب في أول العمر تصوروا أنهم يحكمون القدر! "إذا الشعب أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"! وسددوا ثمنها من الأفراح والأحزان. في اتفاقية جلاء الإنكليز عن القنال حق الإنكليز في العودة إذا هوجمت تركيا، لكن فيها أن القنال جزء من مصر. وستغطي محاولة اغتيال عبد الناصر الخيبة بالشرط في المعاهدة.

قال قيس لأصحابه في السجن: أخرج الإنكليز من القناة في سنة 1954. وفي سوريا سقط الشيشكلي، وكانت الانتخابات سنة 1954 تصويتا ضد الأحلاف. نجحت كتلة نيابية وطنية يدعمها الضباط الوطنيون. واجتمع مؤتمر للشخصيات السياسية الوطنية العربية في بيروت. وقع نوري السعيد ومندريس في 24 شباط 1955 حلف بغداد، وانضمت إليه إنكلترا. لكن ريح الخمسينيات تهب على العرب. ياللسنة المجيدة! رفضت الحكومة السورية الأحلاف، وعقدت اتفاق القيادة العسكرية المشتركة مع مصر والسعودية. اشترت أول صفقة من الأسلحة التشيكية سنة 1954 والصفقة الثانية من الاتحاد السوفييتي سنة 1955. ووصل أول سلاح سوفييتي لمصر في أيلول 1955. حشدت تركيا والعراق حشودا عسكرية على حدود سوريا في 21 آذار ووجهتا مذكرتين استفزازيتين تدعيان قلقهما من الخطر الشيوعي. قدمت الولايات المتحدة مذكرة وقحة لسوريا. فأعلن الاتحاد السوفييتي في 23 آذار أنه يؤيد سوريا وسيساعدها في حماية استقلالها. وفي نيسان 1955 جمع مؤتمر باندونغ رؤساء الدول الآسيوية الإفريقية وأعلن رفض الأحلاف العسكرية، والحياد الايجابي، والمبادئ الخمسة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

كان قيس واقفا وهو يتحدث كخطيب. ابتسم أحد المسجونين المستمعين إليه. ابتسم لأن قيسا توهج في خطابه كأنه تحت سماء واسعة، كأنه حر! وغمره شعور قيس بالحرية والقوة. وعندما انغمر بوهج قيس لم يعد هو أيضا ينتبه إلى جدران السجن القاتمة. لذلك رفع يده كيلا يقاطع أحد قيسا. لكن رجلا قال: ردت إسرائيل بغارة على المخافر السورية وقتلت 41 عسكريا سوريا، وبغارة على غزة! تناول قيس الحديث فورا: أغارت إسرائيل؟ ملأت الجماهير الشوارع: تفضلوا! سنصيدكم إذا نزلتم من الجو، وسنخرج إليكم إذا أتيم من البر! عقدت سوريا اتفاقية تجارية مع الصين، واتفاقية مع ألمانيا الديمقراطية. وشيعت دمشق شهداء العدوان الإسرائيلي. يتجمع العرب في هبّة التحرر. عقد من 31 آذار إلى 1 نيسان التلاقي الوطني الشعبي للبلدان العربية في دمشق، فكان "تظاهرة عربية كبرى ضد الأحلاف". حضرته شخصيات دينية وسياسية ونواب وصحفيون وأنصار سلام. كشف بيان التلاقي الشعبي أن هدف التدخل الاستعماري "ترتيب صلح بين الدول العربية وإسرائيل لإدخال إسرائيل في كتلة عسكرية تشمل منطقة الشرق الأوسط. الاتفاق الإنكليزي العراقي الأخير صك عبودية يحلل استعمال مطارات العراق .. نؤكد مطالب إخواننا اللاجئين العرب في استعادة حقوقهم السليبة في فلسطين والعودة إلى ديارهم ونحيي التضامن ضد حلف تركيا العراق".

هل يمكن ألا تهب على الأردن ريح الخمسينيات، وهو جنوب سوريا واستمرار حوران، نصف عائلاته في الشمال ونصفها في الجنوب؟ بينت أول مذكرة للقيادة المشتركة أهمية الأردن. يجب أن تنضم الأردن للقيادة المشتركة! قال قيس: سنخرج من السجن خلال أيام! وخرج المعتقلون من السجن حقا بعد أيام.

انشغلت الأحزاب بالانتخابات في الأردن في تشرين الأول 1954. لكن الجبهة بين الوطنيين لن تنضج إلا بعد أن يذوقوا الدم. مع ذلك تجمعت جبهة من الشخصيات الوطنية، برنامجها تعريب الجيش وإلغاء المعاهدة، وإطلاق الحريات.. وقائمة مرشحين. فلتلغ المعاهدة البريطانية مع الأردن! لم ننس دور غلوب في حرب فلسطين! يسّرت الاجتماعات الانتخابية للمرشحين الوطنيين أن يشعروا بقوتهم، وبخوف السلطة منهم، وضغطها على الناس كيلا ينتخبوهم، وبغفلة القوى التي لاتعي ضرورة الجبهة الوطنية لرد حلف بغداد. قال قيس في أحد الاجتماعات: جرت الانتخابات لأنها طلب الزمن!

لكنها لم تكن صوته! لذلك عاد الناس إلى الشوارع! في مظاهرات القدس، حاولت الطالبة رجاء أبو عماشة أن تنزل العلم الإنكليزي فقتلها الإنكليز بالرصاص. فنشرت صورتها في الصفحة الاولى في الجرائد السورية، وتصدرت صورها المظاهرات في سوريا وفي الأردن. خطب قيس في مظاهرة كبيرة. صفق الناس له، ومنعوا الشرطة أن تقطع خطبته. لكنها وصلت إليه، ضربته وضربت المتظاهرين. بين المتظاهرين شابة مستديرة الوجه، بيضاء، لم تشترك في المظاهرة لأنها فقط تقاوم حلف بغداد، ولأنها فقط تكره الإنكليز الذين يحكمون جيش بلدها، ولأنها فقط متحمسة كالطالبات بعد مقتل رجاء أبو عماشة، حالمة بأن تكون مثلها، بل أيضا لأنها مسحورة بقيس. وهاهي ترى الشرطة تضربه والدم يسيل من وجهه ورأسه! هتفت: عاش قيس، ولتسقط الحكومة! هل تحتاج الشرطة إلى آذان كي تسمع الهتاف الفظيع؟ اعتقلتها كما اعتقلت قيسا. لم تنتبه إليهم. انتبهت إلى نظرته الضاحكة لها تحت الدم الذي غطى وجهه.

أخوها وزير. ذهبت أمها إليه: ياإبني، أخرج أختك من السجن! تطلب وساطته ليخرجها من السجن؟ "أخرجها؟ تسب الحكومة وأنا أخوها وزير فيها، وأخرجها؟ فلتنتظر في السجن ريثما يستلم قيس الوزارة ويخرجها من السجن!"

هل كان قيس يخمن أنه سيلتقي بجورية بعد غربته الطويلة، وستجلس أمامه واضعة ساقا فوق أخرى كما تجلس بنت عائلة كبيرة، مزينة بماض ثمين وهيبة عشيرة؟ لاتزال عزباء. مرت الأيام الجميلة. لاتوجد أية أيام أخرى يمكن أن تمحوها! في دفتر حياتها أنها هتفت وسط مجموعة كبيرة باسم حبيبها. هل يحدث مثل ذلك كثيرا؟ بقي ذلك الهتاف كالوردة التي رمتها لحب انقطع، ولامجال لأن يعود، ولامجال لأن يستبدل بأصغر منه. فلتملأ الحياة أمور أخرى كبيرة وصغيرة، لكنها ليست الحب.. أبدا ليست الحب! هل يفهم ذلك قيس الجالس أمامها، مكللا بشعره الأبيض، مشغولا بهواجسه؟! أهذا حقا قيس الذي أحبته، وقاست به الرجال، ووهبته عمرها؟





الأعلى رد مع اقتباس
إضافة رد
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
شيئا واحدا بسمة القسم العام 15 10 Jun 2014 06:38 AM
من سلسلة تعلم كيف تعيش ناجحا....(الدرس الأول). خوي الذيب النقاشات والمواضيع الهادفة 7 22 Feb 2008 04:15 AM
اثنا و عشرون سؤالا من قسيس لمسلم وسؤالا واحدا من مسلم...!!! خالد بن سعود المنتدى الاسلامي 12 19 Jun 2007 07:36 AM
أول مذيعة محجبة في تليفزيون الدانمارك ss سحر ss القسم العام 18 20 Apr 2006 03:26 AM
® نصف محجبة ® الصـــقار المنتدى الاسلامي 10 05 May 2005 02:45 PM
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

09:37 AM
Powered by vBulletin® developed by Tar3q.com