هي أول الوحي، وهي أول شعاع أنوار النبوة،
جاءت هذه الكلمة للنبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع وصفه الله بأنه مجتمع "الأُمِّيّين"
فأحدثت فيه نقلة اجتماعية نوعية، وتطوراً فكرياً هائلاً لم يشهد له التأريخ مثيلاً ؛
نقلت العرب من دركات الجهل إلى آفاق المعرفة،
وتطوروا من مجتمع بدائي التفكير إلى مجتمع يستشرف المستقبل البعيد ويتطلّع إلى ما وراء المحسوس.
اقترنت هذه الكلمة "اقْرَأْ" بتتابع نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم،
فلم تعد مجرد عادة بشرية، بل أصبحت القراءة عبادة تتطلب المزيد من الفهم والتدبر
واقترنت بالعمل، ليتحول الإنسان من مجرد وعاء للعلوم والمعارف
"كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا "(الجمعة: 5)،
إلى نموذج حي لتأثير العلم عليه في سلوكه وأخلاقه "كان خلقه القرآن" (رواه الإمام مسلم).
فالقراءة هي اللبنة الأولى في بناء الشخصية البشرية،
وهي الأداة لصقل العقل البشري،
وهي الخطوة الأولى في بناء المجتمعات الراقية والدول المتقدمة؛
لأنها تتضمن الاستفادة من الجهود البشرية المتراكمة على مرّ العصور،
فضلاً عن كونها الطريقة الأولى في استشعار خطاب الله عزّ وجلّ للبشر،
عبر قراءة نصوص الوحي الذي جاء موجهاً لتصرفات البشر،
وتأطيرها في مسارها الصحيح الذي خُلقت من أجله.
القراءة تمثل حلقة الوصل بين الإنسان والمصادر التي ينهل منها علمه وثقافته،
وتزيد من قدرته على التفكير والنقد، وتثري خبراته وتعينه على التعامل مع المشكلات المختلفة
بما تمده من حقائق وأفكار، وبما تقدمه له من خلاصات تجارب الآخرين وبحوثهم؛
ليشكل من ذلك كله مفاهيمه الخاصة وتصوراته الصحيحة وتعطيه الأدوات التي من خلالها
يستطيع أن يفسِّر ما يدور حوله، ويقارن وينقد ويحلّل ليدرك الصواب من الخطأ،
ليصل في نهاية المطاف لقناعات صحيحة مبنية على أسس سليمة بعيداً عن تجاذبات العاطفة،
أو مؤثرات الآخرين التي بُنيت على مصالحهم و قناعاتهم.
مرّت القراءة وملحقاتها بمراحل متعددة – عند العرب- بدءاً من "اقرأ" في مجتمع أمي،
إلى ما نشاهده اليوم من انفجار معرفي، وإذا كانت الطباعة قد غيّرت نمط القراءة،
وأتاحت للجميع الحصول على المعلومات واقتناء الكتب والاحتفاظ بها ؛
فإن ما نشاهده اليوم من التقنية الحديثة عبر الإنترنت يشكّل منعطفاً حاداّ في نمط القراءة
ومصادر الثقافة، وقد يكون هذا المنعطف عند بعض الناس رجوعاً للوراء.
الحاجة للقراءة ليست مقرونة بتواجد الكتاب، فوجود الكتاب حالياً لا يعني قراءته،
كما أن وجود التقنيات الحديثة لا يعني انعدام القراءة، لقد تغيّر نمط القراءة فقط،
من قراءة كتاب مطبوع إلى قراءة أخرى على صفحات الإنترنت، وقد تكون القراءة عبر الإنترنت
أنسب للبعض من قراءة الكتب، من حيث قدرتهم على التحكم في الألوان وحجم الخط وسهولة الحمل ويسر الوصول للمعلومة.
القراءة عبر صفحات الإنترنت بإطلاق ليست كافية لبناء الشخصية المرموقة،
وليست وسيلة لرقي المجتمع، فكثير مما ينشر عبر هذه الصفحات هو من الغث
الذي إن لم يضرّ فإنه لن ينفع، خصوصاً وأن المحتوى العربي الأصيل على صفحات
الإنترنت لا يُشكّل نسبة تذكر، وكثير منه عبارة عن كتابات وترجمات مجهولة المصدر أحياناً،
وتحوي معلومات مغلوطة لا أحد يستطيع أن ينسبها لأحد كما لا يمكن الرد عليها،
لذا تبقى الحاجة إلى الكتاب الرصين الموثّق أو صفحات الإنترنت المعتمدة التي
تتبع لجهات تتحمل مسؤوليتها ملحّة لبناء الشخصية السوية، وضرورة لصقل العقل البشري.
في وقتنا الحالي أصبحت صفحات الإنترنت هي الوسيلة الأولى للمعلومات لكثير من
شرائح المجتمع، وأصبح كثيرون يأخذونها كمسلّمات لا تقبل النقاش، مع أن كثيراً
منها مجهول المصدر- وهنا تكمن الخطورة - وخصوصاً في أوساط الشباب الذي يتلقّفها،
ويبني عليها مواقفه سلباً وإيجاباً، ومن خلالها يبني تصوراته عن الأحداث، لينطلق في
تفسيرها وتحليلها ونقدها من خلال ما يقرأه أيضاً عبر تلك الصفحات من تفسيرات
وتحليلات ونقد، مما قد يشكّل انحرافاً في التفكير الجمعي الذي تساهم وسائل
التواصل الحديثة وبرامج التواصل الاجتماعي كالتويتر والواتس أب والفيس بوك وغيرها
القراءة كانت مصدر رقي هذه الأمة الأمية يوم أن نزلت "اقْرَأْ"
مقرونة بـ "بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق:1)، و كلما حادت القراءة عن جادة الوحي،
وابتعدت عن طريق الرسالة انحدرت هذه الأمة، ومَن لا يقرأ التاريخ ولا يفتخر بماضيه
حريٌ أن لا يكون له مستقبل زاهر.
حاجتنا للقراءة ليست لمجرد القراءة أو المفاخرة بعدد الكتب الموجودة في المكتبات،
أو التباهي بكمية المحتوى الإلكتروني على صفحات الإنترنت،
بل هي حاجة لتلمّس مواطن القوة ومكامن الضعف، وإخراج جيل يمتلك أدوات المعرفة،
ويستشرف مستقبل الأمة ويبني تصوراته ويضبط تصرفاته وفق المنهج الرباني
الذي ارتضاه لنا خالقنا، وامتنّ علينا بأن أكمله لنا و أتم علينا النعمة به،
وارتضاه لنا }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا{ (المائدة:3).
فأي رقي أعظم مما اختاره الله عزّ وجلّ وأكمله وأتمه ورضيه لنا؟