..:.. مرحباً بك في شبكة الشدادين الرسمية ، ضيفنا الكريم يسعدنا دعوتك للانضمام والمشاركة معنا .. اضغط هنا لتسجيل عضوية جديدة ..:..


العودة   شبكة الشدادين > المنتديات الأدبية > مكتبة الشدادين لروائع الكتب
 
أدوات الموضوع
إضافة رد
  [ 1 ]
قديم 03 Nov 2005, 09:28 PM

sanaa غير متصل

تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
الإقامة :
الهواية :
المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108
الملف الشخصي للكاتب
إضافة تقييم
الرد على الموضوع
ارسال الموضوع لصديق
طباعه الموضوع
تبليغ عن الموضوع
الأديب أمل دنقل ... وسوداوية الألم ...





الأديب أمل دنقل


توقيع : sanaa


...je ne veux ni cadeau ..ni fleur..ni promesse
seulement
!!... le don de ton coeur
sanaa

رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:29 PM [ 2 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل




سيرة الأديب أمل دنقل ...


ولد في عام 1940 بقرية "القلعة", مركز "قفط" على مسافة قريبة من مدينة "قنا" في صعيد مصر.
كان والده عالماً من علماء الأزهر, حصل على "إجازة العالمية" عام 1940, فأطلق اسم "أمل" على مولوده الأول تيمناً بالنجاح الذي أدركه في ذلك العام. وكان يكتب الشعر العمودي, ويملك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي, التي كانت المصدر الأول لثقافة الشاعر.
فقد أمل دنقل والده وهو في العاشرة, فأصبح, وهو في هذا السن, مسؤولاً عن أمه وشقيقيه.
أنهى دراسته الثانوية بمدينة قنا, والتحق بكلية الآداب في القاهرة لكنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول ليعمل موظفاً بمحكمة "قنا" وجمارك السويس والإسكندرية ثم موظفاً بمنظمة التضامن الأفرو آسيوي, لكنه كان دائم "الفرار" من الوظيفة لينصرف إلى "الشعر".
عرف بالتزامه القومي وقصيدته السياسية الرافضة ولكن أهمية شعر دنقل تكمن في خروجها على الميثولوجيا اليونانية والغربية السائدة في شعر الخمسينات, وفي استيحاء رموز التراث العربي تأكيداً لهويته القومية وسعياً إلى تثوير القصيدة وتحديثها.
عرف القارىء العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (1969) الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارىء ووجدانه.


صدرت له ست مجموعات شعرية هي:

* البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" - بيروت 1969,

* تعليق على ما حدث" - بيروت 1971,

* مقتل القمر" - بيروت 1974,

* العهد الآتي" - بيروت 1975,

* أقوال جديدة عن حرب البسوس" - القاهرة 1983,

* أوراق الغرفة 8" - القاهرة 1983.

لازمه مرض السرطان لأكثر من ثلاث سنوات صارع خلالها الموت دون أن يكفّ عن حديث الشعر, ليجعل هذا الصراع "بين متكافئين: الموت والشعر" كما كتب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي.

توفي إثر مرض في أيار / مايو عام 1983 في القاهرة.



.


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:30 PM [ 3 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل





مقالات
أمل دنقل كما يراه الآخرين ...
*
*
*
نوع من التطهر الأرسطي

محمود أمين العالم
(مصر)


أمل دنقل من أعمق وأفعل وأكثر شعراء الرفض في أدبنا المعاصر، أكثرهم جدارة ووضوحا وحسما، وهذا ما دفع بعض الكتاب إلي اعتبار أن أشعاره يغلب عليها الجانب السياسي والإيديولوجي، وقد يكون هذا صحيحا ولكن في تقديري لم تكن هذه المضامين السياسية انعكاسا مباشرا لوقائع ولكنها كانت تعبيرا فنيا، والرفض في شعره كان معالجا معالجة شعرية رفيعة.
وقد وجه إلي أمل دنقل في أواخر المرحلة الناصرية وبدايات المرحلة الساداتية اتهامات بكون شعره ذا طابع سياسي صرف، وفي تلك الفترة يبرز الاتجاه إلي (الحداثة الجديدة) التي تغلب الطابع الفني الخالص وأبرز ممثليها أدونيس ولكني أزعم أن شعر أمل رغم طابعه السياسي كان مصاغا صياغة فنية رفيعة، ولهذا ففي هذه المرحلة انطبع النقد الحاد والرفض الحاد الذي وجهه أمل إلي الواقع ليس حتى إلي الواقع المباشر، بل إلي الرؤية المستقبلية إلي الواقع المباشر، الواقع البعيد الذي كان يحذر منه.
أكاد أقول إن عيونه الشعرية أقرب إلي عيون زرقاء اليمامة، كان يري البعيد في مأساته ويحذر منه في شعره سواء في أواخر مرحلة عبدالناصر فضلا عن مرحلة السادات. ولو تأملنا أهم قصائده سنجد فيها هذا النذير لما سوف يحدث ويتفاقم مستقبلا. (كلمات سبارتاكوس الأخيرة)، (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، (تعليقا على ما حدث)، (أغنية الكعكة الحجرية)، وأخيرا.، (لا تصالح).
كان الصوت في هذا الوقت جهيرا حادا قاطعا ضد ما يحدث ونذيرا لما سوف تتفاقم إليه الأوضاع في المستقبل، كان يقول هذا الشعر وسط تيارات الحداثة التشكيلية الجديدة، والكثير من الأصوات الحداثية التي لن تكن تدرك فداحة المأساة القائمة وتفاقمهم في المستقبل، وكل هذا استطاع ان يغطي علي شعر أمل دنقل.. أتذكر انه في تلك الفترة كان هناك مؤتمر للشعر في بيروت وكان هناك هجوم من جانب شعراء الحداثة الجديدة على أشعار أمل باعتبارها ذات طبيعة حادة، ولهذا لم يبرز أمل بشكل كاف رغم الاحترام والتقدير الذي يكنه له الشعراء والنقاد.
أما اليوم فقد برزت المأساة بشكل بارز، وهي المأساة التي تنبأ بها وحذر منها.. فعندما رفض الصلح مع إسرائيل في لا تصالح.. لم نصغ إلى رفضه، اعترفنا بإسرائيل فضاعت فلسطين، وفي هذه المرحلة التي تحققت فيها نبوءات أمل في ابرز صورها فمن الطبيعي ان يبرز هذا الصوت النذير والنبوءة.. الى جانب أيضا بعض الأصوات الأخرى، وقد يكون هذا الاهتمام كنزع من 'التطهر الارسطي' كما في المسرح، كما انه يعيد الجدل حول الصراع القديم حول الشكل والمضمون ويبين أن الشعر معركة وقضية ومعجون بحركة الحياة والتاريخ ومنشغل بالقضايا الكبرى.
واتمني ألا نجعل من الاحتفال به وبشعره مجرد مرثية لمرحلة ولمأساة تحققت ونحاول ان نواجهها الآن بحثا عن إجابة.


ذكريات أمل دنقل

جابر عصفور
(مصر)


مات أمل دنقل في الصباح الباكر من اليوم الحادي والعشرين من أيار (مايو) سنة 1983. مضت تسع عشرة سنة على وفاته, ولكنه باقٍ بشعره الذي تتوهج معانيه, خصوصاً في تلك الأيام التي تعربد فيها إسرائيل كما يحلو لها, فتستعيد ذاكرتي ما كتبه من (تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات) وأدرك معنى أن (سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس) وأكاد أصرخ في انتظار السيف:

انظري أمتك الأولى العظيمة
أصبحت شرذمة من جثث القتلى
وشحاذين يستجدون عطف السيف.

وأستعيد ما كتبه أمل عن فلسطين, والقدس, وعن صديقه مازن جودت أبي غزالة الذي رحل مع العاصفة, والذي كتب من أجله أمل (بكائية ليلية) استهلها بقوله:

للوهلة الأولى
قرأتُ في عينيه يومَه الذي يموتُ فيه.
رأيتُه في صحراء (النقب) مقتولاً...
منكفئاً.. يغرز فيها شفتيه
وهي لا تردُ قبلةً لفيه!
نتوه في القاهرة العجوز, ننسى الزمنا
نفلت من ضجيج سياراتها, وأغنيات المتسولين
تُظلُّنا محطةُ المترو مع المساء... متعبين.
وكان يبكي وطناً... وكنت أبكي وطنا
نبكي إلى أن تنضب الأشعار
نسألها: أين خطوط النار?
وهل ترى الرصاصة الأولى هناك... أم هنا?

ولا أعرف هل هي مصادفات الزمان, أم علاقة جيلنا بشرط التاريخ, هي التي جعلتني أعرف أمل دنقل في سياق من الهزائم والانكسارات القومية. وكانت البداية هزيمة العام السابع والستين التي استجاب إليها بقصيدته (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التي كانت بكاءنا جميعاً على ما حدث, ثم جاءت مرثية جمال عبدالناصر (1918-1970) بعنوان (لا وقت للبكاء) تعبيراً عن رغبة مقاومة الانحدار, والتطلع من جديد صوب الأماني القومية التي بدت بعيدة. ودخلنا أيام السادات التي واصل فيها أمل دنقل أقسى درجات رفضه الاجتماعي والسياسي, خصوصاً في ما سمي عام الضباب, ذلك العام الذي اقترب فيه أمل الشاعر من الحركة الطالبية الغاضبة, وصاغ بقصيدته (أغنية الكعكة الحجرية) ذروة تعبيرها الاحتجاجي الذي تمثل في الاعتصام بميدان التحرير حول النصب الذي كان قائماً فيه, وهو الاعتصام الذي فضّته أجهزة الأمن بالقوة خوفاً من تفاقم نتائجه, فسقط بعض الطلاب ضحية الاصطدام. وانطلق صوت أمل دنقل يسجّل (الإصحاح الأول) من (سفر الخروج):

أيها الواقفون على حافّة المذبحه
أشهروا الأسلحه!
سقط الموتُ; وانْفَرَطَ القلبُ كالمسبحهْ
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحَه,
والزنازن أضْرحَهْ
فارفعوا الأسلحه
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحه
رايتي: عظمتان... وجُمجُمَه
وشعاري: الصباح.

وقد نشر أمل دنقل قصيدته للمرة الأولى في مجلة (سنابل) التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر من محافظة كفر الشيخ, أيام المحافظ إبراهيم بغدادي الذي اتصل به يوسف السباعي, وطلب منه إغلاق المجلة بعد أن نشرت قصيدة (الكعكة الحجرية). لكن القصيدة ظلّتْ تُقرأ في المحافل الطالبية التي حضرها أمل دنقل الذي أصبح أكثر الأصوات الشعرية المتمردة تجاوباً مع وجدان الطلاب الساخطين. والغريب أن حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 لم تقلل من أهمية هذه القصيدة, وإنما شحذت الهمم لاستكمال الانتصار على العدو الإسرائيلي وتحرير الأرض العربية.
ولكن مضت الأشهر, ودخلنا في مباحثات فصّل القوات التي تحولت في النهاية إلى استهلال لمباحثات السلام. وكانت اللحظة الحاسمة هي اليوم الذي ذهب فيه السادات إلى القدس ليعرض الصلح على إسرائيل, وندخل فعلياً في مباحثات السلام التي رفضها أمل دنقل, كما رفضها غاضبون كثيرون غيره, أملاً في موقف قومي صلب يتأسس به سلام عادل.
وكان ذلك هو السياق الذي بدأ بالاتفاق الأول لفصل القوات بين مصر وإسرائيل في كانون الثاني (يناير) 1974, وتصاعد مع الاتفاق الثاني في أيلول (سبتمبر) 1975, وازداد تصاعداً مع إلغاء السادات معاهدة الصداقة المصرية - السوفياتية في آذار (مارس) 1976, كما ازداد تفاقماً بثورة الخبز في كانون الثاني (يناير) 1977, وزيارة السادات للقدس في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه. لكن هذه الزيارة لم تمنع إسرائيل من اجتياح الجنوب اللبناني في آذار 1978, ولم تمنع السادات من المضيّ في محاولات السلام, تلك التي مضت في مسارها الذي انتهي بتوقيع السادات وبيغن اتفاقات كامب ديفيد التي شهد عليها الرئيس الأميركي كارتر بصفته الوسيط.
وكان أمل بدأ يكتب (لا تصالح) من قبل توقيع الاتفاق النهائي, لا لأنه يرفض السلام وإنما لأنه يرفض الاستسلام, ويتطلع إلى سلام عادل يعيد جميع الحقوق لأصحابها, وإلا فلا لزوم له, ولا مفر من مواصلة الكفاح من أجل استعادة الأراضي السليبة كلها. وما أسرع ما تحولت (لا تصالح) إلى قصيدة قومية يرددها كل الرافضين للتنازلات التي قدمها السادات ثمناً للصلح مع إسرائيل. وكانت حِدَّة رفضه السياسي في ذلك الوقت مقرونة بالسخرية التي كانت تدفعه إلى كتابة أسطر من قبيل:

أيها السادة: لم يبقَ انتظارْ
قد منعنا جزيةَ الصمت لمملوكٍ وعَبْدْ
وقطعنا شعرةَ الوالي (ابن هند)
ليس ما نخسره الآنَ...
سوى الرحلة من مقهى لمقهى
ومن عارٍ لعَارْ!!

وقد عرفت أمل شخصياً مع نهاية الستينات, شدتني إليه قصائده التي كان ينشرها في مجلة (الكاتب) القاهرية, ومنها قصيدة (أشياء تحدث في الليل) التي كانت تعرية للفساد المتقنع في زمن عبدالناصر, وجاءت قصائد الهزيمة التي تركت في نفسي أعمق الأثر, ونكأت الجراح التي ظلت مفتوحة, فاقتربنا بعد أن تعارفنا بواسطة أصدقاء مشتركين, وأصبحنا صديقين نزداد قرباً يوماً بعد يوم, ويكتشف كل منا في صاحبه ما يزيده احتراماً له واقتناعاً بقيمته. وأسهمت (الجمعية الأدبية المصرية) التي كانت تضم صلاح عبدالصبور وفاروق خورشيد وعز الدين إسماعيل وعبدالرحمن فهمي وأحمد زكي في ترسيخ جذور هذه الصداقة, فقد كنا نلتقي في لقاءات الجمعية الأدبية, ونخرج سوياً بعد انتهاء الندوة أو الأمسية الشعرية التي غدونا طرفاً فيها, أمل بشعره وأنا بنقدي, وننطلق إلى وسط القاهرة, نتصعلك إلى اقتراب الصباح.
وقد جذبتني صفات أمل الشخصية: الحس العالي بالرجولة, الكرامة التي لا تقبل التنازل مهما كان هيناً, الاعتزاز بالنفس إلى أبعد حد, الترفع عن الصغائر, الوفاء النادر, الإخلاص الحقيقي, المحبة الخالصة, النهم المعرفي الذي لا يهدأ, روح الانطلاق التي لا تعرف السكون, رغبة المغامرة التي لا تخشى شيئاً, الوعي السياسي القومي الذي لا يقبل المهادنة ويرفض الاستسلام, احتقار المال على رغم الحاجة إليه, تقديس الشعر بصفته الفرح المختلس الذي يمنح الحياة معنى, الجسارة المتناهية في كتابته, والشجاعة القصوى في التعبير عن الرأي أو السلوك مهما كانت العقبات.
وكنت أجد في أمل ما افتقده في تكويني الأكاديمي العقلاني الذي كشف لي عن بعض انغلاقه, خصوصاً حين كان لا يكف عن مشاكستي لإيثاري العزلة بين كتبي, مؤكداً لي أن لا نجاح حقيقياً للناقد الذي أَنْطَوي عليه إلا بخوض نار التجربة الحية للدنيا التي تدعونا إلى مواجهتها والمغامرة فيها. ولم يكن يتردد في انتزاعي من عملي العلمي, قبل مشغلة المناصب والعمل العام, خصوصاً إذا لاحظ إرهاقي من القراءة أو الكتابة, فيصحبني في جولاته الليلية التي لا تنتهي, كاشفاً لي عن خبايا القاهرة التي عرفتها معه, وعن المعادن المختلفة للبشر الذين خبرت منهم الكثير بفضله.
أما هو فكان يجد في شخصيتي - في ما يبدو - بعض ما افتقد هو إليه, فتعمقت صداقتنا التي لم تعرف الخصام يوماً, ولا المشاجرة, الأمر الذي كان يثير عجب من حولنا, ودفع بعض أصدقائنا المشتركين إلى حسدي على أنني الوحيد الذي لم يتعارك معه أمل, أو يصطدم به, أو يختلف معه اختلاف مقاطعة. وما أكثر ما كان أمل يتعارك ويصطدم ويختلف ويقاطع, وما أكثر الذين خاصمهم وخاصموه, والذين ناصبوه العداء بسبب حِدَّته الجارحة في التعامل معهم. وكان ذلك بسبب طبعه الناري وحدِّية شخصيته التي لم تكن تقبل أنصاف الحلول, أو تتسامح مع المناطق الرمادية, فمع أمل إما أن تكون منتسباً إلى اللون الأبيض الناصع فكرياً وإنسانياً وإبداعياً وسياسياً أو إلى اللون الأسود القاتم, ولا وسائط أو مناطق وسطى, ولا تسامح مع البين بين أو المواقف المترددة, فالجنوبيّ الذي انطوى عليه أمل كان أشبه في صلابة حدِّيته بغرانيت المعابد الفرعونية التي تجوّل بينها, صبيّاً, في أقصى الجنوب.
لقد اختار الكتابة, وأدرك أن كتابة الشعر هي الفرح المختلس في الواقع المختل, وآمن أن الفرح المختلس لا يكتمل إلا بالصدق الجارح, حتى لو صادرت العسس ما كتبه, أو غضب الغاضبون, فالخيانة للنفس هي التخلّي عن حَدِّية الصِّدْق من أجل المجاملة, أو من أجل مكسب سريع. وكان عليه - كي يحافظ على صلابته الداخلية - أن يستغني عن الكثير من الضروريات, فلم يمتلك سكناً, أو يعرف منزلاً دائماً, ولم يؤثّث بيتاً, ولم يستعبد نفسه بوظيفة تفرض عليه تنازلاً أو مهادنة, ولم يسع وراء المال الذي لم يكن يتحصّل منه إلا على ما يقيم الأوَد, ولم يكن يخجل من الاقتراض من أصدقائه القريبين مع علمه وعلمهم أن القرض لن يردّ, ولم يستطع أن يقدم هدية متواضعة لخطيبته إلا بعد أن باع قطعة أرض ورثها عن أبيه في بلدته, وظل على حذر دائم من الأغنياء, معتزّاً بفقره والفقراء, شعاره:

هذه الأرض حسناء, زينتها الفقراء, لهم تتطيبُ
يعطونها الحُبَّ, تعطيهم النسل والكبرياء

فكان أحد الفقراء الذين يعيشون مغتربـين, أو يتكدّسـون - في صرخة الجوع - فوق الفراش الخشن.
ولذلك تعاطف مع شخصية أبي نواس الشاعر العباسي في قصيدته الشهيرة (من أوراق أبي نواس). ورأى فيه بعض الوجه القديم لتمرده, وبعض المعاناة القديمة للوضع الهامشي المعاصر, وبعض التمرد في كتابة الشعر - الفرح المختلس الذي كانت تصادره العسس.
ولكن أمل دنقل لم يؤمن بتقية أبي نواس, حتى وان شاركه بعض الخصال, فقد كان قادراً على أن يقول ما لا يقال, وما لا يجرؤ غيره أن يقوله. وكنت أسأل نفسي, أحياناً, من أين تأتيه كل هذه الجسارة? وكانت الإجابة سهلة: من توهج الروح الأَبِيَّة, وشجاعة القلب الذي لا يعرف الخوف, واستغنائه عن الحرص الذي أذلّ أعناق الرجال, ومن حب مصر الذي ظل يتدفق بين الشرايين والأفئدة, الحب الذي دفعه إلى رفض النزوح, أيام الهجرة الكبيرة للمثقفين المصريين الذين تركوا مصر في زمن السادات, إيثاراً للسلامة, أو طلباً للأمان, أو بحثاً عن المال. وظل هو في مصر التي لم يفارقها إلا مرة واحدة في حياته, لحضور مؤتمر شعري في بيروت سنة 1981, إن لم تخن الذاكرة, وظل متمسكاً بالبقاء, معلناً أن البقاء في ذاته مقاومة لفساد العصر الساداتي, وأنه لا معنى لأي فعل من أفعال الرفض خارج الوطن, فمن يريد تغيير الوطن عليه البدء من داخل شبكة العلاقات المعقدة لواقعه.
ولذلك جاءت قصيدته (مقابلة خاصة مع ابن نوح) تجسيداً لموقفه المصرِّ على البقاء في الوطن, ومحاولة تغييره من داخله, من دون التخلّي عنه بالنزوح منه.
وانبنت القصيدة على قطبين متضادين, كعادته في الكثير من شعره, قطب النزوح الذي اختار ممثلوه النجاة من الطوفان بسفينة نوح, وقطب البقاء الذي اختار أصحابه محاربة الطوفان, وعدم التخلي عن الوطن حتى لو فقدوا حياتهم. -

جريدة (الحياة) لندن (15/5/2002 )


دنقل كموضوع للشعر

حلمي سالم


لماذا لم أكتب شعرا عن أمل دنقل؟ راودني هذا السؤال بغتة أثناء تحضيري كتاب 'عم صباحا أيها الصقر المجنح' الذي يصدر عن المجلس الأعلى للثقافة محتويا علي القصائد التي كتبها الشعراء (المصريون والعرب) في رثاء أمل دنقل بعد رحيله الأليم في مايو عام.1983
والحق أنني اكتشفت أثناء إعدادي هذا الكتاب أن هذا الشاعر (دنقل) الذي تصور الكثيرون انه كان أثناء حياته ¬نفورا من الآخرين وعدوانيا إنما كان يحظى بطاقة محبة هائلة للآخرين، ومن الآخرين.
وحيث 'ان المعاصرة حجاب' كما يقولون فقد حرر رحيله طاقة حب الآخرين له من قيودها، لتنكشف عن مودة واحترام غامرين للرجل ولتجربته الشعرية علي السواء.
وقد تنوعت قصائد الشعراء في رثاء أمل دنقل بين قصائد تقوم علي عرض مرتكزات شعر دنقل من الحرية والعدل وكرامة الإنسان وتحرير الفرد والوطن، ونصوص تقوم علي عرض صاحبها بمناسبة أمل دنقل، ونصوص تقوم علي المقارعة الجمالية بين نظريتين فنيتين:
نظرية الراثي ونظرية المرثي (الكاتب والمكتوب عنه(.
يجمع بين هذه القصائد جميعا: مرارة فقد الراحل وصدق الشعور بأن الشعر (والوطن) قد خسرا ركنا ركينا ورثاء النفس في قناع من رثاء الآخر.
إذن، لماذا لم أكتب شعرا في رثاء أمل دنقل، لأكون ضمن هذه النخبة المميزة¬ من الأجيال والتيارات المختلفة¬ التي بكت الرجل الذي قال: 'أيها الشعر، يا أيها الفرح المختلس'؟
صحيح ان أمل دنقل ورد عندي في إشارتين عبر نصين صغيرين، داخل سياق أعم. كانت الأولي في قصيدة طويلة بعنوان 'أجمل مريضة سرطان' ضمن ديوان 'يوجد هنا عميان' إذ تقول قطعة من قطع هذه القصيدة الطويلة:

هكذا نري فوارق بينها وبين أمل دنقل:
فهو مخلوق من القافية،
بينما هي موقنة ان سورة يوسف كلام عادي.
صحيح ان الفروق مؤثرة في علاقة المخ بالمخ
غير ان الورقة التي ارتطمت بإسفلت إسكندرية
جعلتهما يتوجسان من خدعة الذين قالوا: نعم
فلا لزوم لأن تلح المرأة في السؤال.
عن الحي الذي يقع فيه معهد الأورام.
حيث الثقافة المغطاة بالدم،
وحيث بات ممكنا امتلاك العالم
بحاسة السمع.

وكانت الثانية ضمن قصائد ديوان 'الثناء علي الضعف 'تحت الطبع في 'ميريت') في قصيدة قصيرة بعنوان 'السرطان' تقول:


بالأمس حلمت به
وبدأت أستعد لأوضاعي في حضوره:
قررت ان استمتع بالشفقة في عيون الأصدقاء
وانتويت ألا أسجل نموذجا لإرادة الحياة
فقط: دموع سيدة بعينها
هي مالم أستقر علي طريقة لمواجهتها
خاصة إذا تحدثت عن ضياع الليلة الأولي
لامرأة لم يقبلها في فمها احد.
لم أتبين أين سيكون موقعه مني:
هل الحنجرة مثل محمد عناني؟
هل المثانة مثل أمل دنقل؟
هل الرئة مثل أم فاطمة قنديل؟
عموما: المعلومات في الأحلام
عادة ما تكون مضببة
فلا داعي للميلودراما
ثم ان السيدة التي رفعت ثوبها
لكي أشاهد شامة البطن
ليست بحاجة الى مزيد من الحسرة.
هون عليك يا سيد
هوني عليك يا سيدة'.

هاتان كانتا الإشارتين اللتين انصرفتا الى أمل دنقل في شعري، لكنني لم أكتب قصيدة كاملة تتعلق من بابها برثاء أمل دنقل فلماذا لم أفعل؟

أ¬ يبدو ان خوفي من 'السرطان' الذي انتشر في الهواء، والذي أخذ مني مجموعة من أعز الناس جعلني أجفل من رثاء دنقل، حتى لا أكون في مواجهة مباشرة مع السرطان.

ب¬ يبدو أنني شعرت بأنني لن أستطيع التعبير شعرا عن تحول موقفي من شعر أمل دنقل من حال الى حال، ذلك التحول الذي عبرت عنه مرات طوال السنوات الماضية، نثرا.

ذلك أنني في سنوات السبعينات كنت¬ مع كثير من أبناء جيلي¬ أري أن شعر دنقل شعر مباشر زاعق لا يعيش، ومع اتساع رؤيتنا الشعرية في سنوات الثمانينات تعدل هذا الرأي المجحف، إذ تكشف لنا ان الشعر الواضح ذا الموقف السياسي الجلي ليس شرا في كل حال، وان شعر دنقل لم يكن كله مباشرا، وأنه يقيم تضافرا مركبا بين الموقف الفكري والتشكيل الجمالي، وان قصائده في سنواته الأخيرة (ديوان: أوراق الغرفة رقم8) بلغت من الصفاء الفني والإنساني مبلغا رفيعا، وأن الشعر عديد وكثير وليس له نبع واحد وحيد أوحد.
هل كان يمكنني أن أعبر عن ذلك التحول بالشعر، مثلما فعلت بالنثر؟ لعل ذلك كان صعبا، ولعله كان ممكنا لكنني جفلت، فلم أقدر علي ما قدر عليه رفيقي حسن طلب، حينما أقام قصيدته 'زبرجدة الى أمل دنقل' 'التي كتبها أثناء مرض أمل لا بعد رحيله' علي تساجل وجهتين في الشعر: وجهة تري ان القريض 'فيوض الجلال ومطلق آياته وغموض الجمال إذا شف عن ذاته، انه كالزبرجد في الرونق المحض، أو كالبنفسج في الروض، وهو الرياضة والمستراض' ووجهة تري ان 'القريض اعتراض وكلام من القلب يجنح للشعب' وصاحبها هو القناص وآلته الاشصاص، وشاعرها يمتاز على أقرانه 'بحاجة مباحة وديباحة مبيحة' فهو 'واحد الندي' إذ يرق 'لواحد القريحة'.
أقول: ربما أشفقت ان أدخل هذه المغامرة الشائكة التي لم يشفق منها حسن طلب، فخاض المغامرة بنجاح ليخرج لنا واحدة من أجمل ما قيل في دنقل وزاد من اشفاقي شعوري بوجوب الاعتراف شعرا بتحول موقفي من دنقل، فعللت نفسي بأن المقالات النثرية قد قامت بهذا الاعتراف وأعفتني من حرج الاعتراف شعرا، لاسيما إنني كنت حريصا في الشعر علي ان أوضح إننا مختلفون عن السابقين، حيث قلت مرة 'هل عاد لائقا لمثلي ان يقول: صافية أراك يا حبيبتي كأنما كبرت خارج الزمن'، وقلت مرة: 'أريد أن أكتب شعرا لعينيك، شريطة إلا أقول فيه: عيناك، يالكلمتين لم تقالا أبدا'، قاصدا إعلان اختلاف جيلي عن عبدالصبور وحجازي.

ح¬ يبدو أنني من صنف الشعراء الذين لا يجيدون إفراد قصائد كاملة في رثاء راحل أو راحلين، حيث أجد ميلي الرئيسي يتوجه إلي إحضار الراحل في النص كإشارة أو إحالة أو تيمة أو عنصر، ضمن المتن الأساسي للقصيدة كلها فعلت ذلك في حالة أمي وأبي وعبدالرحمن بن عمي (الذي رحل بسرطان المخ) وعلي قنديل وسعيد فراج وعدلي فخري ومحمد عيسي القيري وكثيرين من أعزاء حياتي. وهذا مع فعلته مع أمل دنقل.
والشاهد أنني أخاف رثاء النفس، وعندي ان رثائي أي شاعر هو رثاء للنفس وإذا كان شعر أمل دنقل قد ضمن له حياة طويلة في قلب الجماهير والقراء ومحبيه من الشعراء السابقين عليه والمجايلين له واللاحقين عليه، فإنني لا أضمن ذلك لنفسي، ولذا ابتعدت عن رثاء دنقل حتى لا أرثي نفسي فأموت مرتين: مرة قبل موتي ومرة بعد موتي.
ولأنني لم أرث أمل دنقل بقصيدة كاملة، ولأن عبدالمنعم رمضان صديقي، فإن عبدالمنعم سيسمح لي ان أستعير بعض سطور قصيدته 'المتاهة' لأقدمها لدنقل قائلا:

تشرق الآن على حشاي
أنت خائف
وأنت منتش
وأنت غفل
تفتح الباب الذي تطل منه ركبتاك
ثم لا تقول
علقي دمي يا أم في خطاي
أوصديني تجاه الريح
وابحثي عن قامتي في قبري المنسوب لي
تدف كالغبار فوق هذه الجهات
تحسب الحصى خطيئة
وتنتوي الرحيل
إليك شرفة الموتى
وغرفة المعزين
وخاتم العويل
تقدموا إليه إنه الجسد'

ولأن شعر أمل صار ملكا للجميع، فإنني سأسمح لنفسي بأن أستعير كلماته في رثاء الصقر (أليس دنقل هو الصقر؟) وأقدمها إليه، كأنني أرثيه وأرثي الصقر وأرثي نفسي، قائلا:

'عم صباحا أيها الصقر المجنح
عم صباحا
سنة تمضي
وأخري سوف تأتي
قبل ان أصبح، مثل الصقر،
صقرا مستباحا.


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:31 PM [ 4 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل




أمل دنقل تقديم الغضب... تأخير الشعر

عبدالمنعم رمضان
(مصر)


في أوائل السبعينات وفي السنة الثانية من دراستي الجامعية، حضرت للمرة الأولى اجتماع جمعية النشاط الأدبي في الكلية، وكان الأعضاء يقرأون قصائدهم تباعاً، ولكنني اخترت أن أعتمد على ذاكرتي وأقرأ "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" لأمل دنقل، و"خلف كل قيصر يموت، قيصر جديد، فعلموه الانحناء، علموه الانحناء". الطلبة في ذلك الوقت هائجون متذمرون من الهزيمة وآثارها وحال اللاسلم واللاحرب، واليسار بينهم في وضعية المد والنشاط، والطالبة التي أخشى أن أحبها وتحاول أن تقنعني بعقيدتها الثورية، كانت تملأ شراييني وعروقي بنار تجعل دمائي تغلي.
هذه الحال لا أنساها، ولا أنسـى معـها أنني تعرفت بعدها إلى الشاعر محمد خلاف، زميل دراستي، ولمحت في عينيه الملل والاستياء من محبة ذلك الشعر العابر، شعر التغنـي بالثـورة والذي ليس في حقيقته ثورياً. كان قلب مـحمد خلاف منجذباً في شدة إلى شعـر آخـر، شـعر أعمق وأقل ضجيجاً. في السنوات التالية كانت الروابط التي ربطتني بسبارتاكوس وزرقاء اليمامة بدأت في الانحلال. وفي سنة 1980 وعقب مقتل يوسف السبـاعي، شـارك أمـل بقصيـدة رثـاء عمودية قرأها في المسرح القومي بحسب ما أذكر وكنا أيامها نصدر مطبوعاتنا عن جماعة "أصوات"، وكنـا فـي صـدد إصـدار الكتــاب الثـانـي وهـو ديوان للشاعر محمد سليمان عنوانه "أعلن الفرح مولده".
واتفقنا على أن نذيّل الديوان ببيان يفضح موقف أمل دنقل. وحددنا أفكار البيان، وكلّفني زملائي صوغه، فجاء تحت عنوان "شاعر لكل العصور". واكتشفنا في "أصوات" إننا على رغم اختلافنا المسموح به، متفقون في تقويمنا الفني لشعر أمل، باستثناء أحدنا، كان الشاعر محمد عيد إبراهيم هو الأكثر استياء ورفضاً، وكان أحمد طه يعتبر أمل دنقل آخر الشعراء الجاهليين، أما محمد سليمان فقد راوح وأثناء مراوحته تجلّى انه أقرب إلى عدم الحفاوة والاعتبار.
وأكثر ما كان يثير ضيقنا آنذاك، هو تلك المقالات التي يكتبها الشاعر حلمي سالم بضمير الجمع وكأنه يعبر عن جيل لا عن شخص. وحلمي متسامح وحنون وعاطفي وصاحب بيرق من بيارق تجميع الشمل. وكنا في "أصوات" ننجذب أكثر إلى آليات التفريق، والمرات القليلة التي أتيحت لي بعد ذلك كي أجالس أمل دنقل في مقهى "ريش" في وسط القاهرة كانت أشبه بفيلم بطله ساديّ يمارس فنون ساديته على أحد الضحايا. وفي الوقت الذي بدأت تشيع قصائد المرض و"أوراق الغرفة رقم 8"، وتلفت نظرنا إلى ينبوع جديد في رئة أمل، أصرّ الموت على أن يأخذ أمل إلى الشاطئ الآخر، وألبسه ثوباً أبيض نظيفاً ورسم له صورة دائمة.
مات أمل في الأربعين، والموت الذي يصيب الشباب يجعلهم فاتنين أبداً، أبو القاسم الشابي، التيجاني يوسف، بشير عبدالسلام عيون السود، عبدالباسط الصوفي، بدر شاكر السيّاب، الخ الخ، ولن نعلم إجابة للسؤال الطاغي، ماذا كانوا سيفعلون لو أن حياتهم امتدت وبلغوا الشيخوخة. كان عبدالرحمن الأبنودي جميلاً أيضاً في السن التي كان فيها أمل على قدر عال من الفتوة، هما رفيقان ولن نعلم هل كان أمل سيشبه عبدالرحمن الآن؟ الموت بأسراره وجبروته لا يسمح بالإجابة. وأميل إلى القول ان يحيى حقي أكثر فتنة لأنه بلغ الشيخوخة وظل فاتناً. هذا هو الاختبار الأصوب، كذلك المازني وصلاح عبدالصبور وعبدالفتاح الجمل.
الديوان الأول لأمل دنقل "مقتل القمر" ديوان شاعر مبتدئ جداً، مبتدئ بحق، قصائده أغلبها عمودية ومصفوفة على هيئة الشعر الجديد. هذا الديوان له أهمية الكشف عن صفة أساسية سترافق أمل حتى بلوغه النهاية، وهي صفة الشاعر الراوية، أحب هنا أن أمايز بين الشاعر الراوية والشاعر المثقف. أمل يستظهر الكثير من عيون الشعر العربي ومن قصائد الشعر الأحدث، وصولاً إلى أحمد عبدالمعطي حجازي، شاعره المفضل الذي يسكن بقوة تحت جلده. الشاعر الراوية لا يجتهـد طويـلاً في سبيل تأسيس موقف متماسك من الشعر والعالم، موقف خاص وجديد، وهو غالباً يميل إلى المحافظة، وبمراجعة حوارات أمل وندواته ومشاركاته الثقافية سنكتشف انه لم يكن صاحب معطى ثقافي متميز.
في العدد الثاني من مجلة "الفكر المعاصر" (مجلة مصرية غير رسمية) التي كانت تصدر عن دار الفكر المعاصر يكتب أمل دنقل على هامش قصيدة "عرس المهدي" للشاعر حجازي، يكتب على سبيل التقديم، المقدمة ليست طويلة، إلا أنني سأوردها كاملة لتدل على ما سبق وأوردته عن المعطى الثقافي لأمل، يقول: "أحمد عبدالمعطي حجازي، ليس في حاجة إلى تقديم للقارئ العربي، وهذه القصيدة التي اخترناها من ديوانه الأخير "كائنات مملكة الليل" هي مرثية للكاتب والشاعر المغربي عمر بن جلون الذي كان رئيساً لاتحاد الكتّاب المغاربة، واغتيل عام 1978، ونحن لا نستطيع - أثناء قراءة القصيدة - أن نفرق بين حديث الشاعر عن الشهيد المغربي وحديثه عن نفسه. فالفرار بالوطن هو مأساة الاثنـين والبحـث عن حلم الفقراء المفقود هو جوهر القضية. ويستطيع ابن جلون ان يستريح من كل هذا الإحباط بالموت، عند ذلك يمكنه أن يعيش كما يعيش الآخرون - الميتون - وأن يلهو لهوهم وأن يستغرق في لذائذه اليومية.
أما الشاعر فإنه ينتظر الحلم الذي كان ينتظره ابن جلون وهو المهدي، المهدي بن بركة أو المهدي المنتظر. والقصيدة تنويعات على بحر واحد، هو بحر المتدارك، يستخدمه الشاعر كاملاً في بداية الأمر. لكنه عندما ينتقل إلى تذكرات عمر الخاصة فإنه يستخدمه مجنوناً فتتسارع إيقاعاته، ولا تتنافى هذه الإيقاعات شبه الراقصة مع التذكرات المؤلمة، لأن كل هذه التذكرات هي استعادة لحياة، والحياة على مرارتها أكثر بهجة من الموت. فالشاعر لا يجد الموت كراحة من النضال، فالموت الذي أراح ابن جلون هو راحة إجبارية في حقيقة الأمر. تبقى إشارتان: الأولى معروفة وهي تمكن حجازي من أسرار العربية وتبدو أوضح ما تبدو في لمحة لا تستوقف الانتباه. هي استخدامه لكلمة (الجامع) بدلاً من المسجد، لأن كل جامع مسجد وليس كل مسجد جامعاً، فالمجسد الجامع هو عاصمة مساجد المدينة، ففيه يجتمع المسلمون وتؤخذ البيعة ويدعى للجهاد، وهذا هو المعنى الذي أراده الشاعر من انتظار الشيخ على باب الجامع للمهدي لكي يفك الأسرى وينتصر على الروم، أما الإشارة الثانية فهي هذا الرعب الذي يسيطر على الشاعر في الآونة الأخيرة، والذي به - بقصد أو من دون قصد - في تصوير ابن جلون - أو نفسه على الأرجح - وقد صار غراباً بدلاً من أن يكون طائراً مغنياً يرثي القتلى ويودع كل صباح أصحاباً... في مقدمهم ابن جلون نفسه". انتهى كلام دنقل، لن ننتظر أمام تلك الشروح النثرية وملاحظات الفقهاء التي يعلمها طلاب اللغة الصغار، بعد ديوان "مقتل القمر"، لن تتوقف صفة الراوية عن الدأب والعمل في مجمل دواوينه الآتية: "العهد الآتي"، "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، "تعليق على ما حدث".
وفي كل هذه الدواوين سيكون أمل أيضاً - وهي خصيصة ثانية فيه - شاعراً موضوعياً يختلف في ذلك عن الشاعرين صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي. موضوعية أمل تتراجع وتشحب مع "أوراق الغرفة 8"، موضوعيته كان يمكن أن تكون باباً يُفضي إلى التزود برؤية ثقافية بدلاً من الاكتفاء بدور الراوية المعجب والسلبي. والغريب أن صلاح عبدالصبور هو الذي سلك هذا الباب وعبره ذاهباً إلى أماكن غير مأهولة أحياناً. لن نندهش إذا رأينا الراوية ينتبه كثيراً إلى النصوص التي يحبها ويتشبع بها فتشيع بعض سطورها داخل شعره أو تقوم عليها قصائد بكاملها. نذكر معاً الجزء الثاني من قصيدة "ميتة عصرية" وما أثير حول علاقته بقصيدة الماغوط الشهيرة عن "بردى".
ولا يمكن أن ننسى قصيدة "الأخضر بن يوسف" والتي ستظهر كخلفية ثقيلة عندما نقرأ قصيدة "وجه"، من "أوراق الغرفة 8". كان يسكن قلبي وأسكن غرفته، نتقاسم نصف السرير ونصف الرغيف ونصف اللفافة والكتب المستعارة. يكاد ديوانه "مقتل القمر" أن يكون استرجاعات محضة لشعراء آخرين، ولكنه الديوان الأول.
الغريب ان شعر أمل في مجموعه يحفظ لنا كل سمات الشعر الشائعة في زمنه، وتغيراتها، من طرائق التعامل مع التراث، ومع الأساطير، ومع اللغة، وفي تقسيم القصيدة وترقيم أجزائها. ولكن الراوية الذي يختلف عن المثقف في كون معرفته غالباً ما تكون معرفة أفقية، هذا الراوية سيطاردنا ونحن نقرأ أشهر قصائده: "لا تصالح"، والتي يحملها بعض المناضلين في جيوبهم كتعويذة. إنها تتكون من 11 جزءاً أو فقرة. يكفي أن تختار فقرة ما وتعتبرها الفقرة الأساس، وستكتشف أن بقية الفقرات لا تضيف إليك معرفة جمالية أو فكرية جديدة. إنها تعيد إنتاج ما سبق ان أنتجته الفقرة الأساس.
يمكننا أن نتخيل أن أمل فكّر في صناعة تراجيديا عربية على غرار "أنتيغون"، ولكنه اصطدم بقيم قبلية وآنية وفنية أوقفت ذلك الحس، وعاقته، مثل قيمة الأخذ بالثأر، والإلحاح على الإسقاط السياسي المباشر، وعدم تنامي المشهد ونموه. "اليمامة" كبرى بنات كليب رفضت الدية في ابنها واختصمت مع أمها لأنها أخت قاتل كليب. ولم تستطع القصيدة ان تفتح ثقوباً في سور الزمن الذي يحاصرها، لتطل على أزمنة أخرى. "لا تصالح" قصيدة أفقية مشابهة تماماً لمعارف الراوية التي تقوم على الاسِّ ذاته. نذكر جميعاً أن حركة الشعر الجديد خرجت في أولها من رحم الرومانسية، بدر السياب ونازك وبلند والبياتي وصلاح عبدالصبور في ما بعد، كانوا يلهثون داخل رحم الرومانسية، ولكنهم أحدثوا كسراً في الشكل، ومع الوقت أخذت رؤاهم في التمايز، لتتشكل عند السياب ونازك الملائكة دون سواهما من الرواد ملامح الكلاسيكية الجديدة.
إنها ثورة محافظة، ثورة غريبة تعيد إحياء الماضي، ولكنها تقدم نفسها كثورة تقدمية، ارتداد يحوّل نفسه إلى شكل من أشكال التقدم، وهي تجيد فعل ذلك، وتجيد أن تجعل كل من يعترض طريقها مرتداً منبوذاً. قوة الكلاسيكية الجديدة تكمن في واقع أنها ظهرت كآلة رؤية على يد شعراء يصنفون أنفسهم على أنهم اشتراكيون غالباً. سلالة الكلاسيكيين الجدد ستضم إلى جوار السياب ونازك الشعراء أحمد حجازي وأمل دنقل وآخرين. ليس غريباً أن تكون دورة حياة كل شاعر منهم تقريباً تنتهي داخل أفق كلاسيكي كامل، هكذا السياب ونازك وحجازي.
وليس غريباً أن تناقص الحسِّ الحداثي عند كلٍّ منهم مع التقدم في التجربة والعمر، يقابله تناقص في الحس الحداثي عند الانتقال من جيل إلى جيل. حداثة السياب أعلى من حداثة حجازي، والأخيرة أعلى من حداثة أمل. وليس غريباً أن أكثر شعرهم شفاهي وأن السلالة متعارفة وتتبادل التقريظ والمدح. عندما مات السياب، كتب حجازي، مات أعظم شاعر عربي معاصر، وقال أمل كلاماً مماثلاً عن حجازي. الفعل الفطن الماكر الذي قام به أمل دنقل، هو موته المبكر، حماقة أحمد حجازي في التشبث بالحياة أدّت به إلى أن يقرأ نصوص الشباب ويرفضها على أنها ليست شعراً فيعتبره الشباب عدواً كبيراً. كذلك حماقة عفيفي مطر. فطنة أمل جعلتهم يلتمسون فيه ان يكون أحد الأسلاف، خصوصاً أن شعر أمل الواضح، وحيد الاتجاه والدلالة قابل لأن يقرأه محدودو الثقافة من جيله والأجيال التالية، وأن شعره أيضاً أصبح تعويضاً عن حال التراجع والسقوط وعدم الفعل.
يقول جورج طرابيشي: "عندما تفرض أسطورة ما نفسها كعقيدة قويمة على مستوى الجمهور العام، كما على مستوى أهل الاختصاص، فإن مقاومتها لا بد ستكون أشبه بالهرطقة"، انتهى كلام جورج، وأمل دنقل أسطورة شاركت عوامل كثيرة في صناعتها، ولذا أنتظر من دون اهتمام ما سيجود به مجمع الشتائم وهو يشمل كثيرين. كلنا يعرف أن الثقافة في مصر يحكمها جيل الستينات، وكلنا يعرف ولا يصرِّح بأن أكثريتهم كُتّاب فطريون يأنفون من الثقافة المكتسبة، وكلنا يعرف حماستهم لشعر أمل دنقل، الشاعر المتمكن القدير حتى وهو في قبره، رحمه الله رحمة واسعة.

الحياة 2003/05/17


دراما في العمق ولكن لانهاية لها

علاء خالد
(الإسكندرية/مصر)


عندما بدأت تتكون أحاسيس الرفض للواقع الذي أعيش فيه، وبدون أن أكون مؤدلجاً سياسيا، حدث هذا في أول سنوات الجامعة، وبالتحديد عقب زيارة السادات للقدس.. في ذلك الوقت كان الفكر المسيطر علي الجامعة هو الفكر الديني والذي أسس رفضه لنظام السادات من منطلق أحادي، داخل هذا الرفض الديني كان المجال خصبا فقط لا ثبات الخطأ علي النظام وليس إبداع مقاومة فكرية له. ربما أسالسنوات.خطباء المساجد بالإسكندرية، كانوا يؤسسون للعلاقة الطبيعية بين الدين وبين الرفض للنظام عبر خصائص ذاتية لهم، عبر موهبتهم الخاصة، أتذكر منهم الشيخ المحلاوي والشيخ محمود عيد.
في تلك السنوات .. بدأت بالتعرف علي أمل دنقل وقصيدته 'لا تصالح' كانت القصيدة مزيجا من مواجهة شعرية للحظة السياسية وفي نفس الوقت لها مرجع تاريخي عربي، هل هناك تراوح بين اللحظتين، ربما هو السبب الذي جعل القصيدة تلتف حول مأزق المباشرة السياسية، كنت أشعر في شعر أمل دنقل موهبة خاصة، قدرة علي الارتجال الشعري، علي تمثل ذات جماعية كانت هي هدف تلك المرحلة التاريخية.. وأندهش ان قصيدته 'الكعكة الحجرية'.. كانت هي أغنية مظاهرات الطلبة عام..72 بالتأكيد هي لحظة فريدة يجب ان يؤرخ لها، لحظة التحام الشعر بالناس، ان يجد الناس في الشعر ذواتهم الرافضة، الرفض الموقع بالموسيقي.
في نفس الوقت كان الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم يشكلان ظاهرة غنائية، كان شعر أمل دنقل جزءا من شفاهة تلك اللحظة التاريخية، سريع التحول والتبني والتمثل من سياقات ثقافية واجتماعية، ويحتوي داخله علي ما يوحده مع الذاكرة الجماعية، لحظة الشفاهة هي لحظة فرح عارم بالتعاضد، وشعر أمل دنقل كان يقف، مع غيره، وراء هذا الفرح.
داخل هذه الذات التي كان يتحرك فيها أمل دنقل، ستجد أشخاصا ومواقف ملتبسة وغموضا وكلاما مؤجلا وأماكن وتفصيلات وخيبات، ستجد ذاتا تتراوح بين الانكسار والسمو، هذه الذات لا تخدم فقط علي فكرة الرفض أو التمرد وإنما تفسح المجال أمام أدوات التمثيل الأخرى للوعي الإنساني، الحب، التعاطف، الحزن تلمح رقة ما وراء هذا الرفض، لقد جمع أمل بين المباشرة والعمق وأظن أنها موهبته الخاصة التي تسبق أي وعي سياسي، انخرط فيه، الموهبة تظل قلقة وتتنافر مع أي وعي مضاد لها، تتجاوزه.
لا يمكن ان أنسي في هذا السياق الشاعر السوري محمد الماغوط، واعتقد أنه أيضا كان مرجعا شعريا للرفض، لتمرد جذري سياسي وديني، ولكنه يحتفظ بشجن رومانسي لتلك الذات المقهورة، أو المطاردة التي يحملها. مسرحه ودواوينه يؤسسان اللحظة الشفاهة نفسها، القصيدة عنده كلام ممتد لا آخر له، وكل قصيدة ترتبط بغيرها لاشيء عنده اسمه وحدة القصيدة، وكذلك أفكار مسرحه تتناقل من مسرحية لأخرى، حول السلطة والحرية والدات الوحيدة التي تقف أمام شيء في غاية القسوة.. كأننا أمام سياق، دراما في العمق ولكن لانهاية أو أطراف لها. وربما هي جدارة محمد الماغوط وكذلك أمل دنقل، ان المأساة متشعبة وليست أحادية.
ثم يأتي الديوان الأخير لأمل دنقل 'أوراق الغرفة 8'، وهو الأثير بالنسبة لي، ليؤرخ لشيء مختلف لتصادم الذات مع الموت، بنفس تقنيته اللغوية التي يستخدمها من قبل، السطح الشفاف للغة والتراكيب القليلة، ولكنها ماسة في العمق، كأن هذه اللغة وليدة عمق إنساني كما يحتوي الرفض يحتوي أيضا الموت، بكلام آخر لم يعطل الرفض أدوات الوعي الأخرى.
أي لحظة إيديولوجية، بشكل ما، هي لحظة شفاهة، ان نراهن علي كل ما بداخلنا ونرتجله سريعا، بدون حساب للمستقبل، كل هذا يحدث أمام إغراء التغيير، التحول، أو اليأس الذات تريد ان تقول كل ما عندها قبل ان تختفي أو يتغير السياق من حولها، لذا تكون هذا الذات فاجعة وسقوطها مدويا
كل هذا حدث في مصر، بمعني ان الذات السياسية كانت هي المسيطرة، وان التمرد والتمثل له لم يكونا كاملين، ربما اقتطع أمل دنقل لذاته الخاصة مكانا داخل هذه الذات السياسية، صنع مكانا بقدر عمره وبقدر موهبته وبقدر السياق الثقافي الذي عاش فيه.. دائما كان هناك سقف للأحزان وللموهبة وللتمرد وللتفرد والاختراق والتحليق خارج هذا السقف.
ربما يكتب، أمل دنقل أهمية أخرى، ليست نابعة من شخصه ولكن من التاريخ الذي جاء بعده، هناك تحول جذري للذات الشعرية التالية علي أمل دنقل، أصبح هو وقلة من الشعراء آخر صوت خاص في تلك السلسلة من الشعراء الرافضين في الشعر العربي، الذين لهم تصور صادم مع السلطة السياسية، وصنعوا غنائيتهم عبر هذا. لذا سيتحول الي 'أثر' هام مع توالي السنوات وإيغال موته.. هناك إحساس عام الآن بصعوبة استعادة مثل هذا الصوت مرة أخرى


أمل دنقل الذي لا يموت

سيد البحراوي
(مصر)


حينما طلبت هيئة قصور الثقافة من الصديقة عبلة الرويني ومني إعداد كتيب صغير عن أمل دنقل تضمن مقدمة عن حياته وشعره وبعض القصائد التي لم تنشر، اقترحت أن ينشر الكتاب تحت هذا العنوان.
"أمل دنقل الذي لا يموت" لكنهم لم يتحمسوا كثيرا، ونشروا الكتاب سنة
1990 بعنوان 'أمل دنقل كلمة تقهر الموت' وهاأنذا ذا بعد ثلاثة عشر عاما أجد نفسي ما أزال أذكر العبارة، وما أزال مدفوعا لاستخدامها عنوانا لهذه المقالة فأنا لم أكن أقصد تعزية نفسي أو تعزية الآخرين كما يفهم من العنوان الذي صدر به الكتاب، وإنما كنت أقصد تقرير حقيقة عملية تقول أن الفن الجيد لا يموت وكنت ومازلت أري أن شعر أمل دنقل من أجود ما أنتجه شعراؤنا المحدثون.
مثل شعر أمل دنقل أزمة الإنسان العربي المعاصر في لحظتيها القاسيتين: هزيمة 1967 وتوقيع كامب ديفيد بأعلى درجة من الفنية التي كانت اللحظتان تقتضيانها وخاصة الإيقاع الحاد الذي وشي بالمباشرة والشعارية وقد كان إيقاعا ضروريا لإعلان رفض انتظرته الشعوب العربية وهرب منه الكثيرون أو أعلنوا التسليم بالهزيمة مبكرا ورغم هذا الإيقاع الحاد، فإن التحليل العميق لقصائد هاتين اللحظتين يستطيع أن يكتشف خصائص الحداثة الدنقلية أو التي سميتها من قبل بالحداثة العربية والتي تتمثل أساسا في المفارقة فلسفة وتقنيات كما يستطيع أيضا أن يلمس الذات الشاعرة كامنة بتمردها وبألمها، وهي نفس الذات التي سيطرت بوضوح علي قصائد الغرفة رقم (8) التي هدأ إيقاعها قبل أن يموت.
لم يكن موت أمل دنقل إذن هو الذي أوقف قصيدة المقاومة، بل إن موت حركة التحرر الوطني عند فاصل 1967 هو الذي أوقفها لنفسح الطريق أمام طريق آخر، لا يعيش فيه الشعراء سوي تجاربهم الشخصية (الفردية) ذهنية كانت أو جسدية.. ولهذا كان من الطبيعي أن يتم الهجوم علي النموذج الشعري لأمل دنقل، وأن تتجاهله المؤسسات الرسمية طوال هذا الوقت..
غير أن الشعر الجيد لا يموت.. ولذلك حينما استيقظ الإنسان العربي، وأدرك أنه مازال قادرا علي الاستمرار في التاريخ، وعلي الفعل، بعد طرد إسرائيل من جنوب لبنان، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية.
عاد الشعراء لهذا النموذج الشعري.. بل إن المتظاهرين العرب في كل مكان ضد إسرائيل وضد الحرب الأمريكية علي العراق، لم يجدوا سوي هذا النموذج سلاحا يرفعونه في وجه الأعداء. وأنا علي يقين أن الشعراء العرب يعيشون في هذه اللحظات حالة قاسية من الارتباك المركب والقلق أكثر من جميع شعوبهم..
فنحن جميعا نعيش الألم والأسى وعدم الفهم وعدم القدرة علي التوقيع لما حدث وما سيحدث.. أما الشعراء الذين كتبوا قصيدة المقاومة أو الذين لم يكتبوا.. وقد رأوا بأعينهم ماذا تنتظر منهم شعوبهم فلاشك لدي أنهم يعيدون التفكير في أنفسهم.. وفي أمل دنقل.


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:32 PM [ 5 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل




القصيدة السياسية منذ لاتصالح!
من يقول 'لا' بعد أمل دنقل ؟

يحيي وجدي
(مصر)


عندما كتب عبدالرحمن الشرقاوي قصيدته الشهيرة (من أب مصري إلي الرئيس ترومان' في بداية الخمسينات رأي النقاد فيها تجديدا لشكل ومعني القصيدة السياسية أو قصيدة الموقف الرافض حتى جاء أمل دنقل بديوانه (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) ليشكل تحولا هاما وجذريا في مجري تلك القصيدة.. رفض كامل لما حدث.. للأعداء والمسئولين عن الهزيمة معا هؤلاء الذين لم يصدقوا نبوءة (زرقاء اليمامة) فاستحقوا الهزيمة واستحق (أمل) بعدها ان يكون نبي القصيدة الجديدة وأمير شعراء الرفض السياسي علي حد وصف لويس عوض في الأهرام عام.1972
ولم يقف الشاعر الرافض المرفوض عند حد التجديد في القصيدة بل قدم أيضا نموذجا مختلفا عن الشاعر ذاته عندما خرج إلي الطلاب المعتصمين في ميدان التحرير (قبيلة الرافضين) بقصيدة لهم وعنهم هي (الكعكة الحجرية).. نموذج لم يكن موجودا عند سابقيه أو أكثر مجايليه.. الشاعر العضوي.. شاعر القبيلة الثائرة.
كانت قصائد أمل دنقل السياسية تحديدا رد فعل شعري فوري ومباشر علي الأحداث من داخلها بجمل قوية مباشرة وساخنة كان أمل في قصائده منشغلا تماما بالحدث يتابعه وينطلق منه ويكتب عنه في الوقت ذاته.. كان (أمل) بحاجة إلي ان يكون مشاركا بشكل أو بآخر ليكتب ما يفهمه المتلقي وما يتجاوب معه بشكل مباشر وصريح'.
هكذا يري الشاعر محمد سليمان ملامح القصيدة السياسية عند (أمل دنقل) في معرض إجابته علي السؤال.. أين القصيدة السياسية بعد (أمل)، وماذا عن ملامحها؟ يقول:
'اختلفت القصيدة السياسية بعد أمل دنقل اختلافا كبيرا، فالقصائد السياسية عند أمل كانت في أغلبها تعتمد علي الخطابية والمباشرة وتتكيء علي متابعة الحدث وهو ساخن لدرجة ان بعضهم يتوهم أن 'أمل' كان يتنبأ بالكوارث والنوازل القادمة.. سنكتشف أن قصيدة 'زرقاء اليمامة' كتبت في 16/6/1967 أي بعد النكسة بأسبوع وهي تعتمد كما نعرف جميعا علي أسطورة زرقاء اليمامة التي تري الجيوش القادمة والتي تحذر والتي لا يأبه بها أحد فتكون الكارثة.. لكن قصيدة أمل كانت رد فعل للهزيمة لأنها كتبت بعد وقوعها، أيضا قصيدة 'سفر الخروج' التي تعرف باسم الكعكة الحجرية كتبت في السبعينيات كرد فعل لمظاهرات الطلبة وهي في ديوانه الثالث (العهد الآتي) 'لاتصالح' هي أيضا كرد فعل شعري رافض لمعاهدة السلام المعروفة باسم كامب ديفيد أو هكذا علي الأقل اعتبرها لان هناك ديوانا كاملا كتبه (أمل) أيضا كرد فعل هو تعليق علي ما حدث، ومن العنوان نفسه نجد ان قصائد الديوان تعليق سياسي علي الأحداث بجمل قوية مباشرة وساخنة'.
ويضيف 'سليمان': 'المباشرة هنا والخطابية غلبت علي معظم أشعاره السياسية وحجبت في الوقت ذاته أجمل قصائده غير السياسية مثل أوراق الغرفة 8، العهد الآتي، حديث مع أبي موسي الأشعري وقصائد جميلة عديدة أعتمد فيها أمل علي الذات ووظف تجاربه الشخصية واتكأ علي جماليات السرد واللغة الحميمة والصور الأبسط والنغميات الأهدأ، كما أنه اتجه إلي الملحمي والتوظيف الأسطوري والتراثي، بينما تغيب هذه المعطيات التي تصنع من أمل شاعرا كبيرا.. هذه القصائد و كما قلت حجبت قصائده الأهم'.
قاطعته: لكنها كانت الأعلى صوتا والأوسع شهرة وارتبطت بأمل أكثر في الوقت الذي لم تكتب فيه قصيدة سياسية مختلفة تحوز نفس الشهرة والتأثير؟،
أجاب: علي مدي ربع قرن نحارب بقصيدة (أمل) لاتصالح وننخرط في الصلح مع إسرائيل في الوقت نفسه وكأننا نعتذر لأنفسنا عن تخاذلنا وانهيارات الواقع السياسي العربي والتردي الذي نعيشه.
نقدم التنازل بعد التنازل ثم نصيح لاتصالح، لم يقف أحد عند مغزى بعض السطور في قصيدة لاتصالح.. لم يقف أحد عند 'لاتصالح وليمنحوك الذهب، لاتصالح علي الدم حتى بدم.. لم يفهم أحد معني رفض التعويض أو الدية رفض الصلح القائم حتى علي القصاص الذي تحول إلي صراع عبثي لا معني له، لم يسأل أحد نفسه لماذا استلهم أمل التراث.. كان يسخر من الواقع العربي ويقصد الحكايات القديمة وحروبنا العبيطة، وبداوتنا وحكاية كليب وجساس بن مرة والناقة البسوس والحروب التي دامت أربعين سنة وأبيدت فيها بشكل تقريبي القبيلتان.
أمل اتكأ علي التراث وحاول ان يطرح أسئلة بحدة لكنهم تعاموا مع الشكل الظاهري، مع السطح،
سألته: هذه كانت مميزات قصيدة أمل السياسية فماذا عن ملامح القصيدة السياسية بعد لاتصالح والكعكة الحجرية وغيرها؟
معظم القصائد السياسية ما بعد أمل خصوصا تأخذ شكلا مختلفا، القصيدة في جيلي تختلف كثيرا في أنها قصيدة تتعامل مع الواقع ككل، لم تعد تعلق علي ما حدث ولم نعد نضع فأس المسئولية في عنق حاكم أو نظام بعينه.
المسئولية هنا تقع علينا جميعا، علي الشعوب العربية كلها.. لأننا نظن أن كل شعب يستحق حاكمه كما يقول الاسبانيون.. ستجد لي قصائد عديدة (كالعجائز)، (في مديح القطيع)، (شيء هناك وهنا خطأ).. قصائد تتعامل مع الواقع ككل، ككتلة واحدة لتري في أعماقه كل أشكال الجمود والركود والخراب هنا تصبح القصيدة أكثر عمقا وبحاجة إلي الكثير من التأمل الذي يبذله الشاعر والقارئ لكي يتجاوب معه وفي الوقت نفسه لن تصل إلي القارئ المتسرع، ما نشرناه من قصائد في السنوات الماضية كان يتنبأ بما نعيشه الآن.. لم نكن نعلق علي الأحداث، كنا نرصد ونري المقدمات والنتائج التي ستترتب عليها.. القصائد السياسية عند حسن طلب وعبدالمنعم رمضان وحلمي سالم وآخرين وعند شعراء العامية اتخذت منحي مختلف لقد عشنا مرحلة عبدالناصر والسادات وأعوام الثمانينيات لنكتشف ان هناك خطأ في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع العربي وان هذا المجتمع هو الذي يولد الطغاة والفراعنة والظلمة وهو الذي يفسح الطريق للفاسدين والمفسدين'.
سألته: لكن ألا تري ان اللحظة الحالية تحتاج إلي قصيدة سياسية كقصيدة أمل دنقل بشكلها الذي رصدته..الساخن المباشر؟
كان السؤال الذي لاحقنا أثناء الغزو الأمريكي البريطاني للعراق لماذا لم يتابع الشعر الحدث ولماذا لم يكن علي نفس مستواه، هذا السؤال ينطلق من نفس الذهنية القديمة التي تربت علي الحرب بالكلام فقط.. يريدون من الشعراء ان يساقوا إلي جبهات القتال.. الشعراء وليس الجيوش.. الكلام وليس الفعل وفرق كبير بين الكلام والفعل.
ويستطرد سليمان:لكن هذا ليس معناه ان تكون القصيدة السياسية معقدة وبالغة العمق وبعيدة عن الحدث، هناك تيارات شعرية مختلفة وهناك أيضا شعر العامية وهي قصيدة لها جمهور أوسع وأعرض، وهناك أيضا القصيدة المباشرة وهي مطلوبة ومداها أكثر تأثيرا لكنها توجه للجمهور المظاهرات هذا الذي تحركه الهتافات وأي جمل موزونة مقفاة، هنا القصيدة تقوم بدور الفرقة العسكرية وليس الجمالي والفني وهو الدور الحقيقي للقصيدة'.
يتفق الشاعر محمد صالح مع 'سليمان' في أن قصائد أمل دنقل السياسية برغم شهرتها إلا أنها ليست أجمل أعماله، ويري في دواوينه غير السياسية 'كأوراق الغرفة 8' وغيرها جماليات أعمق من الأخرى، لكنه يختلف حول الظروف الموضوعية التي أنتجت قصيدة (أمل) السياسية.. يقول: 'أمل دنقل كان نموذجا للشاعر الطرف.. فقصيدته السياسية لم تكن تواكب فقط حركة الشارع وتعبر عنها أو تتنبأ بها كما في 'زرقاء اليمامة' بل كانت طرفا أساسيا.. لأن مثقف مرحلة (أمل دنقل) كان هو نفسه المحرك السياسي للأحداث التي كتب عنها الشاعر.. مرحلة كان للشاعر فيها موقع ووظيفة لم تعد موجودة الآن.. وظيفة الشاعر النبي أو شاعر القبيلة هذا النموذج اختفي الآن لاختفاء الظروف الذي أنتجت هذا النموذج، وهذا يجعلنا نتساءل أين الحركة السياسية المنظمة أو شبه المنظمة في الشارع والتي لها موقف واضح ومحدد وبرنامج عملي للرفض يواكبه الشاعر بقصيدته.. إذن جمهور قصيدة أمل دنقل السياسية كان موجودا وجاهزا ومعدا لاستقبالها. هذا ليس معناه ان القصيدة السياسية انتهت أو لم تعد موجودة بل اختلفت مع اختلاف الظرف. لأن الكتابة أصلا تنطوي في جوهرها علي ثورة ورفض.. أي كتابة حقيقية تنطلق من رغبة في تغير الواقع والتأثير فيه.. الواقع هو ما اختلف الآن وبالتالي اختلفت القصيدة وشكلها وبنيتها وجمالياتها هناك بالطبع فرق بين شاعر وشاعر.. هناك شاعر كبير وموهوب مثل (أمل) يتعاطى المناسبة أو الحدث فتظهر موهبته عن عشرات آخرين كتبوا عن نفس المناسبة أو الحدث ومن هنا تأتي قيمة القصيدة وتأثيرها، لكن هذا لا يساوي انه لم يعد هناك شاعر يكتب القصيدة السياسية بنفس القوة والتأثير.. نحن نعيش حالة جذر واضحة علي المستوي السياسي والاجتماعي ومن الطبيعي ان ينعكس هذا علي شكل القصيدة الحالية وليس من العدل ان نقارنها بقصائد أمل دنقل أو غيرها وإلا فعلينا ان نعيد السياق الذي كتب فيه أمل قصائده وهذا مستحيل'.

انتهى إذن الظرف التاريخي الذي أنتج أمل دنقل وقصائده ولم يعد واردا بحسب رؤية كثيرين عودة نموذج الشاعر الرافض المحرض وشعره باعتبار ان ما كان كان، ولن تعود بالطبع للقصيدة السياسية قوتها ولا تأثيرها لكنه ورغم اختفاء الظرف أو تغيره استمرت قصيدة أمل.. قصيدة الظرف القديم إلي الآن ومازال ل (لاتصالح) وغيرها حضورها القوي وسط جمهور ربما لم يعاصر شاعرها أو يره، ألا يعني هنا احتياجا لتلك القصيدة وجوهرها بما يتناسب مع الظرف الجديد؟، سألت الشاعر فتحي عبدالله:
لم يصل أمل جماهيريا وهذه احدي الأكاذيب التي تروج عن شعر أمل، وكل ما حدث في مظاهرات الجامعة أو غيرها من مظاهرات أن استعادت بعض النخب الثقافية أو التي لها تماس مع الثقافة بعض قصائد أمل وهذا لا يمثل استهلاكا جماهيريا، لأن المؤسسة الثقافية والإعلامية لم تلعب الدور المطلوب للتوصيل، ثانيا: لأن الجماعات المستهلكة للشعر علي مر العصور ضيقة ومحدودة'.
قاطعته: ولماذا لم يكن ذلك بسبب غياب هذا الشكل عند الذين جاءوا بعد أمل دنقل؟
لم تخل الشعرية المصرية من اعتماد السياسة كجزء أساسي في إنتاج هذه الشعرية وما مشروع حسن طلب بارستقراطيته اللغوية التي فصلته عن الجماهير ولا ابتذال وسوقية حلمي سالم حققت النجاح المطلوب جماهيريا وفي ظني ان أحمد طه هو الشاعر الوحيد الذي يعد استمرارا لظاهرة الشعر السياسي بعد تجربة أمل دنقل.. إلا إنه تحت هواجس عقلية واضطرابات اجتماعية انفصل عن تجربته هو الآخر.
أما الحلقات الأخرى (الثمانينيات والتسعينيات) فقد ولدت مع التغير النوعي لمفهوم الشعر ودور السياسة فيه قد وقعوا في الابتذال والانفصال كليا عما يحدث في المجتمع من تغيرات حادة وعنيفة وانشغلوا بتجديد النوع اعتمادا علي الذات المحصورة والضيقة التي أنتجت متشابهات شعرية، لم ينج منها إلا الذين عاشوا مع المجتمع وما يحدث فيه. قد حدث ذلك بصحبة فساد المؤسسات السياسية والثقافية التي أخرجت الشعر من حسابها وأصبحت تعمل ليل نهار لتدميره وهذه ظاهرة لم تحدث في مصر منذ ان عرفت الشعر خاصة وان هذا النوع قد تحرر من الغرض القديم كالهجاء والمديح للسلطة'.
إذا أنت تتفق معي في ان القصيدة السياسية الحديثة أو الجديدة عاجزة عن التعبير والتأثير لأسباب كثيرة ذكرت أنت بعضا منها، وهذا يعني إننا نحتاج لقصيدة سياسية مختلفة؟
'بالطبع، ولكن ليس بطريقة أمل... لا لسبب شعري وإنما لسبب سياسي، نحتاج إلي نص آخر... مختلف، وتكتب هذه القصيدة الآن وربما تكون نصوص عماد أو صالح، وحسن خضر وجرجس شكري ومحمود قرني تعبر عن ذلك أما أنها لم تؤثر نفس التأثير فهذا لأنها لم تقرأ ولم تستهلك'.
إذن ما الذي يعطي 'لاتصالح' مثلا هذه الديمومة رغم اختلاف الظرف الذي تتحدث عنه؟
لاتصالح شعرية نادرة واستثنائية وليعود ذلك إلي ما هو قبلي أو سياسي بها وإنما يعود لعبقرية أمل في اكتشاف العواطف. وانفعالات الإخوة فيما يحدث لهم في الحياة وهذا ما يعطيه الديمومة، أما ما هو سياسي فعابر وفي ظني انه احدي مميزات الكتابة لدي أمل وليست الكتابة كلها'.

'الشعر السياسي ليس تابعا بالضرورة لحدث سياسي بعينه أو ظرف متفجر لأن هناك أحداثا اكبر وأعمق لا تواكبها قصائد سياسية بالمعني المباشر كما كان يحدث سابقا.
هكذا يبدأ الشاعر أحمد طه إجابته على نفس السؤال مضيفا.. 'الشعر السياسي المباشر يلزمه منظمات سياسية تدفع بسخاء وتنشر هذا النوع من الشعر وتمجد الشاعر وتروج له كل هذا لم يعد موجودا الآن، اختفي تماما.. ثانيا جمهور الشعر نفسه تغير ولم يعد هو نفسه جمهور أمل دنقل.. جمهور لاتصالح كان جمهور الأبيض والأسود جمهور القيم المتقابلة.. الرجعية والتقدمية.. الإمبريالية والتحرر الوطن، لكن الآن لا الحدث ولا التفاصيل اليومية تتناسب مع هذه المفاهيم التي تغيرت لم يعد الأبيض والأسود موجودا، هناك..
الآن¬ ألوان متعددة في زمن أمل كانت السياسة هي المدخل الوحيد للثقافة تماما مثلما كانت العسكرية هي الطريق الوحيد للسلطة.. عالم 'أمل' كان ذروة الإيديولوجيات قبل ان تموت نهائيا.. عالم أحلام وبرامج الأبيض والأسود¬ كما قلت¬ القادرة علي بناء قصيدة بلونين فقط، أمل كان آخر الشعراء الجاهليين.. الآن تغيرت القبيلة التي كان يمثلها لم يعد نفس المجتمع البسيط موجودا وما يجد من أحداث كبيرة ومتشابكة يحتاج هضمها الي شاعر مختلف بأدوات جديدة وصوت مفارق يحلل لا يقرر ويتجادل ولا يحرض وكما نري فالقصيدة المباشرة ليس لها أي صوت أو قيمة.. المناخ المختلف ينتج شعرا مختلفا وشعراء مختلفين، أقول انه لو عاد أمل دنقل للحياة الآن في هذا المناخ بنفس أدواته القديمة فسيكون مدعاة للسخرية'.. ويضيف طه 'وجود واستمرار بعض قصائد أمل دنقل السياسية لا يرجع الي القصائد نفسها ولكن الي جيل 'أمل' الموجود حتى هذه اللحظة علي سدة المناصب الثقافية والإعلامية.. الجيل الذي يحكم ويتحكم في الثقافة الرسمية نحن نعيش ثقافة ستينيه بدون 'ناصر' هذه الثقافة الذي أنتجت شعر أمل ومن مصلحتها أن تروج له ولشعره هذه الثقافة تحتضر في العالم كله لكنها مازالت تقاوم الموت هنا واستمرار شعر 'أمل دنقل' وجيله يعطيها¬ كما تتوهم بعض الحياة، أما القصيدة الجديدة بعد أمل أو المختلفة عن أمل فهي لقارئ لابد وان يكون لديه رؤية تحليلية يشرح القصيدة ويتفاعل معها وهذا ضد الترجيع والترداد'.
يختلف حسن طلب بداية مع مفهوم وتوصيف القصيدة السياسية مؤكدا علي انه لم يعد هذا التصنيف موجودا ضمن الحس النقدي الحديث والتطور الذي لحق بالقصيدة 'لأن الشاعر عندما يكتب فانه يمارس فعلا سياسيا بالأساس بغض النظر عن الغرض هذا الذي اختلف تماما في لحظتنا الحالية، فالقصيدة التي كان يكتبها الشاعر بقصد سياسي كقصائد أمل ومظفر النواب ونزار قباني في أشعاره السياسية أصبحت تاريخا والشعر التابع لهذه القسمة شعر ينتمي الي المدارس النقدية التي عفا عليها الزمن.. القصيدة لم تعد تكتب لغرض معين ولذوق محدد سلفا القصيدة الحديثة والتي يمكن اعتبارها سياسية أيضا هي التي تبحث عن توكيد الذات في عصر القطيع وزمن الحريات المفقودة والشعارات السلطوية، لكن السياسة بشكل عام عندما تكون معيارا فنيا فأنها تبحث عن الشعار لاعن الشعر، كذلك لم تعد الإمبريالية مثلا هي العدو الوحيد لو طبقنا هذا علي ما حدث ويحدث في العراق الآن.. الوضع اختلف وكذلك ما نسميه بالقصيدة السياسية'.
ربما كانت التحليلات من نوع انتفاء الظرف السابق واختلاف الجمهور حجة مثقفة منطقية أو دفاعا متماسكا.. لكنها لن تغير من الواقع شيء.. واقع غابت فيه 'لا' السياسية الجمالية والفنية منذ أن قالها أمل واضحة قوية فأعطاها وأعطته الديمومة والخلود.


أمل دنقل كوّن "جماهيريته" بشعره الصادق

حلمي سالم


باشرت الأوساط الأدبية المصرية الاحتفال بالذكرى العشرين لغياب الشاعر أمل دنقل، ويحيي المجلس الأعلى للثقافة احتفالاً مصرياً وعربياً بالشاعر الذي كان رحل في الثالث والعشرين من أيار العام 1983. حينذاك صرخ يوسف إدريس: "لن أطلب منكم الوقوف حداداً، فنحن إذا وقفنا حداداً، سيكون الحداد على عصر طويل مقبل".
ولعلّ ما يلفت عشية هذه الذكرى هو اتساع جماهيرية شعر أمل دنقل في الحياة الثقافية المصرية والعربية. فما هي أسباب هذا الاتساع؟ علاقة شعر أمل دنقل بالجماهير العريضة هي واحدة من أوسع (وأعمق) العلاقات التي كوّنها الشعراء العرب بجماهيرهم طوال تاريخنا الشعري الحديث، حتى ليمكن أن نضعه (على المستوى المصري على الأقل) إلى جانب بيرم التونسي وأحمد شوقي، في دائرة واحدة هي دائرة الشعراء ذوي "الجماهيرية" الواسعة.
وإذا كان بيرم التونسي ساعدته في تكوين هذه "الجماهيرية العريضة" اللغة العامية التي كانت أداته في الإنشاء الشعري، قاطعة له خطوات عدة في شوط الاتصال الجماهيري، فضلاً عن "وسيط الغناء" (أم كلثوم وغيرها) الذي حمل شعره على بساط الريح إلى كل أذن عربية.
وإذا كان أحمد شوقي ساعدته صلته بالقصر وبالنظام السياسي الاجتماعي والإعلامي والتعليمي (كانت "الأهرام" تنشر قصيدته في الصفحة الأولى صبيحة كتابتها، وكان شعره مقرراً في سائر مراحل التعليم)، فضلاً عن "وسيط الغناء" (أم كلثوم وغيرها) الذي حمل شعره على بساط الريح إلى كل أذن عربية، فإن أمل دنقل كوّن "جماهيرته العريضة" وهو خالي الوفاض من هذه العوامل المساعدة أو المؤثرات الخارجية التي عاونت بيرم وشوقي. بل كان على الضد من بعض هذه العوامل: لم يكتب بالعامية، إنما كتب بالعربية الفصحى، بل والفصحى المكينة والمتينة. ولم يكن متوائماً مع النظام السياسي والاجتماعي والإعلامي والتعليمي، بل كان معارضاً له متمرداً عليه، محجوباً وممنوعاً من الإعلام والتلفزيون والتعليم.
ذلك يعني أن دنقل كوّن "جماهيريته العريضة" من دون عوامل مساعدة، أي بمحض القدرة الذاتية لشعره.
كيف، إذاً، كوّن شعر أمل دنقل جماهيريته العريضة؟
يستطيع النقاد المتخصصون (وأنا لست منهم) أن يرصدوا خصائص كثيرة شكلت هذه الجماهيرية العريضة، لكنني، كشاعر سأكتفي بوضع اليد على ثلاث خصائص أراها لعبت الدور الأساس في تكوين جماهيرية دنقل العريضة:
أولى هذه الخصائص: اتكاء دنقل على التراث القديم (لا سيما العربي الإسلامي) ما وفرّ أرضية عمومية أولية مشتركة بينه وبين القارئ. وعلى هذه الأرضية المشتركة يستطيع أن ينوع الشاعر المتمرد أشكال اتكائه على التراث: استلهاماً أو نقداً، تناصاً أو تعارضاً، قطعاً أو وصلاً، معاكسة أو عصرنة، وكلها أشكال من الاتكاء توفر - على تباينها - هذه الأرضية المشتركة للشاعر الحديث، الذي لن تخفى على القارئ الحصيف مقامرته الجريئة: الانطلاق من ماضيين (هما اللغة المكينة والتراث القديم) لصنع قصيدة معاصرة مشتبكة مع اللحظة الراهنة اشتباكاً مشتعلاً.
ثانية هذه الخصائص: اتصال دنقل بهموم وطنه ومواطنيه، الماسة المباشرة، وتعبيره الصادق الصادم عن أشواق شعبه: في الحرية التي تخلصه من ربقة المستعمر الخارجي ومن ربقة المستبد الداخلي على السواء، وفي العدل الذي يقيه ذل لقمة العيش ويمنح الإنسان كرامته. ووصل ذلك التماس الحار بهموم الوطن وأشواق المواطن إلى لحظات ذروة عدة بلغ فيها مبلغ "التنبؤ" الذي ينتج من نفاذ البصيرة وصدقية الرؤية، على النحو الذي جعله يحذر من الجيوش الغازية، بلسان (وعيون) زرقاء اليمامة، وجعله ينبه شعبه مراراً إلى أن الطوابير التي تصطف في عيد الجلاء لا تصنع انتصاراً، وأن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الدواء لا تقتل الأعداء، إنما تقتلنا نحن إن رفعنا صوتنا جهاراً، وجعله يحذر قادته السياسيين ومواطنيه العاديين من أن "يصالحوا" العدو، لأن في مصالحته الموت والهوان والخراب. وكل ما حذر منه الشاعر قد حدث، وشواهدنا على ذلك أكبر من الإحصاء.
ثالثة هذه الخصائص: التضفيرة الموفقة التي نسجها الشاعر بين "الموقف السياسي الاجتماعي الناصع" و"التشكيل الفني الجمالي القيّم"، متفادياً بذلك الوقوع في أحد المزلقين الشهيرين: مزلق إعلاء المضمون السياسي الثوري المضيء. وقد نجح الشاعر في تلك الموازنة الرهيفة بين الموقف الناصع والتقنية العالية، النجاح الذي يعزُّ على الكثيرين.
ولعل في هذه التضفيرة الموفقة سراً من أسرار بقاء قصيدة دنقل ودوام إشعاعها المؤثر، إذ لم يستسلم للواقعة الجزئية العابرة - كما فعل بعض الشعراء الثوريين - فتزول القصيدة بزوال الواقعة العابرة. ولم يستسلم لغواية التشكيل الجمالي وحده - كما فعل بعض الشعراء الجماليين - فترفرف القصيدة منعزلة عن الحياة الأرضية الموّارة.
ويطيب لي أن أقرر - مجدداً - أنني (مع كثير من أبناء جيلي) في بدء حياتي الشعرية كنت أتخذ موقفاً سلبياً من شعر دنقل متهماً إياه بالمباشرة والزعيق الساخن، لكنني مع اتساع الرؤية ورحابة النظر صرت أرى أن الشعر متعدد وكثير، وبدأت أدرك ما في شعر أمل من جمال فني لا يطمس الرؤية الفكرية، ومن رؤية فكرية لا تجور على الجمال الفني.
نحن، إذاً، في حاجة إلى أمل دنقل، الشاعر الذي قال:

"لا تصالح
ولو توّجوكَ بتاج الإمارة
كيف تنظر في يد من صافحوكَ
فلا تبصرُ الدمَ في كل كَفْ
إن سهماً أتاني من الخلفِ...".


ثنائية المدينة والثأر في شعر أمل دنقل

أحمد فضل شبلول
(مصر)


كلما تعقدت عملية السلام مع (العدو) نلوذ بقصائد المقاومة، وقصائد أمل دنقل على وجه التحديد التي تعبر خير تعبير عن تلك المرحلة الدقيقة التي يمر بها الوطن العربي. وقد كثرت في السنوات الأخيرة، الكتابات حول أعمال أمل دنقل الشعرية، فصدر كتاب "النزعة الإنسانية في شعر أمل دنقل" للشاعر الدكتور جابر قميحة، وكتاب "صورة الدم في شعر أمل دنقل" للباحث مصطفى بيومي، وكتاب "لغة الشعر الحديث ـ دراسة تطبيقية في ديوان زرقاء اليمامة لأمل دنقل" للدكتور مصطفى رجب، وغيرها من الكتب، بالإضافة إلى فصول عن أعمال أمل في العديد من الكتب، مثل كتاب "أصوات من الشعر المعاصر" لصاحب هذه السطور. هذا عدا ما يكتب من دراسات وأبحاث ومقالات في المجلات والجرائد اليومية والأسبوعية والشهرية، وقد قامت الكاتبة الصحفية عبلة الرويني، أرملة الشاعر الراحل، بتجميع معظم ما كتب عن أمل وأعماله الشعرية، في كتاب صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، بعنوان "سفر أمل دنقل"، وقع في أكثر من 750 صفحة من القطع الكبير.
ومن أحدث الكتابات التي صدرت عن الشاعر كتاب "ثنائية المدينة والثأر في شعر أمل دنقل ـ الاتصال والانفصال" للشاعر الدكتور عبد الناصر هلال، وصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إقليم القاهرة الكبرى، فرع ثقافة القاهرة. والكتاب على صغر حجمه (96 صفحة) إلا أنه تناول زوايا مهمة في شعر أمل دنقل، من أهمها تأثير المدينة السلبي على أمل الإنسان والشاعر، حيث تختلف المدينة اختلافا بينا عن بيئة الصعيد التي عاش فيها أمل صباه الأول، حيث "تبدأ الرحلة عندما تطأ قدم الشاعر القروي أرض المدينة، ويقف على أبوابها، يريد أن يلقي أحماله وأحلامه القروية البسيطة، وتشوقه للعالم الجديد الذي يتسم بالحركية، ويحقق فيه ذاته الطامحة للمجد والشهرة والأضواء".
ويتنقل أمل بين القاهرة والسويس والإسكندرية، لكنه يستقر أخيرا في القاهرة التي مارس فيه حياة الصعلكة، إلى أن أقعده المرض في الحجرة رقم (8) بمعهد الأورام.
يتناول المؤلف المدينة في شعر أمل دنقل بين الواقع والحلم والأسطورة، وجدلية القرية/المدينة، وجدلية المدينة/المدينة، وجدلية المكان/الزمان، وقسم المكان إلى المكان الفعلي، والمكان الضمني، حيث "كشفت نصوص أمل بوضوح عن أثر المكان وفاعليته في رؤيته للعالم، من خلال جدلية ذاته مع المدينة، وفي الوقت نفسه استطاعت هذه الجدلية أن تكشف لنا موقفه من المدينة، وموقفه من القرية التي لم تصبح بديلا للمدينة، لكنها أداة من أدوات مواجهة المدينة الجافية، الطاردة، التي جعلته يخلق من نفسه قانونا خاصا للتعامل مع معطياتها، فأصبح كائنا ليليا يمارس طقوسه في أحيائها وأزقتها حتى الفناء، فتجمع القرية على حال التذكر ليعيش مكانين في آن وزمانين في آن كذلك".
أما الجزء الخاص بالثأر في تجربة أمل دنقل، فقد ارتبط الثأر لديه بالواقع المعيش من خلال المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فتشكل في اتجاهين: الأول داخلي، والثاني خارجي. ففي الداخل تأرق أمل دنقل بالفروق الطبقية، وعانى من ويلاتها، فترددت في خطابه ثنائية الطبقية: سادة وعبيد، ووقف منها موقف الرفض والنفور والتمرد. أما على المستوى الخارجي، فقد ارتبط الثأر بمحاولة استرجاع حق مسلوب، وأرض مغتصبة من يد العدو الإسرائيلي، الذي شكل صراعا بينه وبين المجتمع العربي عامة، والمصري خاصة، ولهذا أصبح الثأر ـ في هذا الاتجاه ـ ميثاقا عربيا، حرص عليه أمل دنقل لأنه يشعر أنه لسان أمته، وأصبح مسئولا عن استرداد الحق في الداخل أو الخارج، أو من الأخر.
وعلى هذا يقدم المؤلف تحليلا ذكيا وجيدا للوصايا العشر (لا تصالح)، ومراثي اليمامة، حيث تأتي قصيدة "لا تصالح" أو "الوصايا العشر" متضمنة وصايا كليب المقتول، وتحريض أخيه المهلهل بن ربيعة/سالم الزير، حتى يرفض الصلح، ويستمر في الحرب، حتى يتحقق الثأر له، وبه يمحو عار العرب. وينتهي الجزء الأول من "أقوال جديدة عن حرب البسوس" بالرفض القاطع، خصوصا الوصايا الأولى التي اشتملت على مبررات الرفض وعدم التصالح، ولذا تضيق البنية النصية لتختزل رؤية الذات للعالم، فلا تتجاوز سوى الرفض بالفعل. أما الجزء الثاني "أقوال اليمامة ومراثيها" فيواجه أمل القضية مواجهة أكثر حسما وفاعلية، ويتحول من خطابه مع المهلهل بن ربيعة المعول عليه أخذ ثأر أخيه كليب إلى استخدام شخصية اليمامة ابنة كليب، ليكشف من خلالها رغبته الوحيدة في تحقيق مبدأ العدالة، ووضع الأمور في نصابها. وتقول الرواية إن اليمامة رفضت الدية في أبيها كليب، وكانت تقول: "أنا لا أصالح حتى يقوم والدي، ونراه راكبا يريد لقاكم". يقول أمل دنقل في "مراثي اليمامة":

صار ميراثنا في يد الغرباء
وصارت سيوف العدو: سقوف منازلنا
نحن عباد شمس يشير بأوراقه نحو أروقة الظل
إن التويج الذي يتطاول:
يخرق هامته السقف
يخرط قامته السيف
إن التويج الذي يتطاول
يسقط في دمه المنسكب
نستقي ـ بعد خيل الأجانب ـ من ماء آبارنا
صوف حملاننا ليس يلتف إلا على مغزل الجزية
النار لا تتوهج بين مضاربنا
بالعيون الخفيضة نستقبل الضيف
أبكارنا ثيبات
وأولادنا للفراش
ودراهمنا فوقها صورة الملك المغتصب

هكذا تظل أعمال أمل دنقل حية بيننا، تزداد أهميتها يوما بعد يوم، ولعل زيادة الدراسات حول هذه الأعمال يؤكد عظم الأثر الفني الذي تركه أمل للأجيال بعده.


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:33 PM [ 6 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل






قراءة في قصيدة
"لا تصالح" أمل دنقل

حمد فضل شبلول
(الإسكندرية/مصر)


احتوت الأعمال الكاملة للشاعر الراحل أمل دنقل على ستة دواوين شعرية كاملة هي:
مقتل القمر - البكاء بين يدي زرقاء اليمامة - تعليق على ما حدث - العهد الآتي - أقوال جديدة عن حرب البسوس - أوراق الغرفة (8) - بالإضافة إلى سبع قصائد متفرقة ترجع كتابتها إلى تواريخ مختلفة وهذه القصائد هي: إلى صديقة دمشقية (أيلول 1966) عشاء - البطاقة السوداء "إلى أنور المعداوي" - لا أبكيه (1973) وهي من الشعر العمودي "بحر الرمل" وكتبت في وفاة "طه حسين" - العراف الأعمى (1974) - نجمة السراب - وأخيرًا قصيدة أيدوم النهر؟ (1980).
ومن أحدث الدواوين التي ظهرت قبيل ظهور هذه الطبعة الكاملة لأعمال الشاعر، ديوان "أقوال جديدة عن حرب البسوس" الذي قامت بطبعه مكتبة المستقبل العربي للنشر والتوزيع بالقاهرة، والذي ضم بين دفتيه قصيدتين فقط هما مقتل كليب "الوصايا العشر" التي اشتهرت بـ (لا تصالح) ومراثي اليمامة.
وقد اكتسبت قصيدة مقتل كليب أو "لا تصالح" المكتوبة في نوفمبر "تشرين الثاني 1976م" شهرتها قبل اتفاقيات كامب ديفيد وبعدها، وعلى وجه التحديد بعد توقيع اتفاقيات فضّ الاشتباك بعد حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر 1973م - المجيدة.
لذا فإننا نرى أن الفعل "لا تصالح" تكرر عشرين مرة في المقاطع العشرة أو الوصايا العشر لهذه القصيدة.
تكرر هذا الفعل مرتين في كل وصية، عدا الوصية الخامسة التي تكرر فيها ثلاث مرات في السطر الأول، والسطر السابع والسطر السادس عشر؛ لذا فإننا نراه يجيّء مرة واحدة في الوصية السابعة في أول سطر فقط، بينما احتوت الوصية العاشرة أو الأخيرة على هذا الفعل فقط مكررا مرتين.
لا تصالح
لا تصالح
وكأن الشاعر مع نهاية القصيدة يريد أن يؤكد تأكيدًا نهائيًّا - مع إسدال الستار على وصاياه - على هذا الفعل الذي كان محور القصيدة منذ أول حروفها وحتى نهايتها.
والمتأمل لتكرار هذا الفعل المسبوق بـ "لا" الناهية سيكتشف أن الشاعر استخدمه بكل أبعاد أو طاقات فعل الأمر الموجود في لغتنا العربية، فهو يستخدمه مرة بغرض التوسُّل، ومرة بغرض الأمر الفعلي أو الحقيقي، ومرة بغرض الرجاء أو النصح، ومرة تُحِسُّ أن الشاعر مجرد طفل صغير يتوسل لأخيه الكبير أو لأبيه، أو يستعطفه كي لا يُقْدِم على هذا الأمر الجلل وهو الصلح مع العدو، ومرة تحس بأنه هو الكبير والمدرك للأمور كلها، أو هو الراوي العليم الذي لديه حاسة الرؤية المستقبلية؛ لذا فإنه يملك الأمر والنهي في قوله "لا تصالح"، ومرة تحس بأنه نِدُّ لمن يأمره وبأنه يتساوى معه في الرتبة أو في المقام؛ لذا فإنه يقدم الرأي الواثق، ومرة تحس بأنه رجل عجوز خبر العراك وخبر النفوس البشرية؛ لذا فإنه يقدم نصيحته للطرف الآخر بأن لا يصالح.
والشاعر في استخدامه في كل مرة لهذا الفعل "لا تصالح" يأتي بمبررات عدم الصلح حتى تكون مسألة الإقناع أكثر إفادة وأكثر تأثيرًا على الطرف الآخر.

-1-

في المقطع الأول أو في الوصية الأولى يأتي الشاعر بصورة منطقية يقبلها كل إنسان عاقل، هذه الصورة عبارة عن معادلة رياضية طرفها الأول يقول:
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما .. ..
وطرفها الثاني يقول: هل ترى ؟؟؟؟
وهو لا يذكر لنا النتيجة المترتبة على هذه المعادلة أو إجابة هذا السؤال - ولكننا نعرفها من خلال خبرتنا بالحياة، ومن خلال تعاملنا مع البشر ومع الأحياء، ومن خلال ملاحظاتنا لما حولنا، تلك النتيجة - أو الإجابة - التي ستكون بالنفي قطعًا - لأن الجوهرة التي ستثبت مكان العين لن تعطينا الرؤية على الإطلاق رغم قيمتها المادية الكبيرة.
إنه بهذه المعادلة التي ترك لنا مهمة استخراج نتيجتها، يضع الطرف الآخر الذي يقول له "لا تصالح" أمام حالة منطقية عقلانية بحتة لعله يعي ما سوف يترتب من آثار على هذا الصلح.
وكأن الشاعر يعرف أن الطرف الآخر لن يستجيب له أو لن يعي نتيجة المعادلة أو إجابة السؤال الذي طرحه على هيئة معادلة؛ لذا فإنه يلجأ إلى وسيلة أخرى للتأثير وهي الرجوع إلى الوراء (فلاش باك) حيث الذكريات، إنه يذكر الطرف الآخر بأيام الطفولة.
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك
حسُّكما - فجأة - بالرجولة،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق .. حين تعانقه
الصمت .. - مبتسمين - لتأنيب أمكما ..
وكأنكما
ما تزالان طفلين !
لعل هذا الطرف يتذكر أحلى أيام العمر، أيام الطفولة والنقاء والطهارة والصدق، لعله يتذكر ويتراجع عن قراره الذي اتخذه بشأن الصلح مع العدو، وحينما يحس أيضًا أن ليست هناك استجابة من قِبَلِ هذا الطرف، يلجأ إلى استخدام طريقة أخرى للتأثير وهي طريقة ربما تكون أيضًا عقلانية، ولكنها تمس وترًا من نوع آخر وهي الاستهانة بهذا الطرف الذي يعتقد أنه وصي على الأبناء:
إنك إن مت:
للبيت رب
وللطفل أب
ثم يلجأ لوسيلة أخرى، هي استثارة النخوة العربية عن طريق توظيف الأمثلة العربية أو الشعبية في هذا التساؤل الاستنكاري أيضًا:
أتنسى ردائي الملطخ .. ..
تلبس - فوق دمائي - ثيابًا مطرزة بالقصب ؟؟
ثم ينهي الشاعر هذه الوصية الأولى بسطور أشبه ما تكون بالتحذير لهذا الطرف أو لهذا "الآخر" الذي لا يريد أن ينصت إليه رغم كل التوسلات، ورغم كل الأساليب التي لجأ إليها في السطور السابقة بهدف التأثير:
إنها الحرب !
قد تثقل القلبَ .. ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالح .. ..
ولا تتوخَّ الهرب !
ويتضح منذ البداية أن الشاعر يستخدم تفعيلة بحر المتدارك "فاعلن" الخماسية، وأحيانًا يستخدم مخبونها فَعِلُن (بتحريك العين) وهي التفعيلة التي أكثر الشاعر من استخدامها في مراحله الشعرية الأخيرة، وديوانه أوراق الغرفة (8) خير شاهد على ذلك.
ويلاحظ على المقطع الأول - أو الوصية الأولى - أن الشاعر تحلل في كثير من الأحيان من التقفية، ومن المعروف أن أمل دنقل من أكثر الشعراء المعاصرين (المحدثين) لعبًا بالقافية التي كثيرًا ما يجيد استخدامها في الشعر التفعيلي، إلا أنه بقليل من التدقيق سنجد أنه في السطور الأخيرة يستخدم قافية الباء الساكنة مع فتح الحرفين السابقين لها (القصب - العرب - الهرب)، وقد كانت هناك إرهاصة لهذه القافية في السطر الثاني من القصيدة في كلمة الذهب في قوله (ولو منحوك الذهب)، ويطلق على هذا النوع من القافية اسم (المتدارك)، أيضًا يلاحظ أن هذه القافية تكررت في السطر الثامن عشر في قول الشاعر (وللطفل أب)، مما يدل على أن الشاعر حاول أن يقيم هذا البناء الموسيقي الخارجي في بعض سطور هذه الوصية ونجح في ذلك خمس مرات، بالإضافة إلى تنويعه الداخلي لهذا النوع من الموسيقى مثل (هل ترى - لا تشترى) و(كأنكما - بينكما)، وربما هذه الموسيقى تستخدم كنوع من التأثير على الطرف الآخر، بالإضافة إلى الوسائل الأخرى التي ذكرناها من قبل.

-2-

أما المقطع الثاني أو الوصية الثانية فقد وقعت في عشرين سطرًا استخدم فيها الشاعر الفعل "لا تصالح"، كما ذكرنا من قبل مرتين في السطرين الأول والثاني فقط:
لا تصالح على الدم.. حتى بدم !
لا تصالح ولو قيل رأس برأس،
وهنا يلجأ الشاعر إلى صيغة السؤال، تلك الصيغة التي استخدمها أربع مرات تمثلت في السطور:
أقلب الغريب كقلب أخيك ؟؟؟
أعيناه عينا أخيك ؟؟!
وهل تتساوى يد.. سيفها كان لك
بِيَدٍ سيفها أَثْكَلك ؟؟؟
وصيغة السؤال هنا - أيضا - تفيد الاستنكار، خاصة أن ثلاثة أسئلة من الأسئلة الأربعة بدأت بالهمزة.
إن السؤال هنا يحمل في طياته إجابته، ويحس بأن مثل هذه الأسئلة السابقة تلقي بظلال من التوبيخ فضلاً عن الاستنكار.
وإذا كان الشاعر في وصيته الأولى استخدم ذكريات الطفولة - عن طريق التركيز على الماضي كنوع من أنواع التأثير - فإنه في وصيته الثانية يستخدم الصيغة المستقبلية عن طريق تكرار "سيقولون" مرتين.
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم
جئناكْ .. كن - يا أمير - الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم
وهذا نوع جديد من التأثير، أي إنه يقول للآخر: إنه أعلم منه بالعدو وبخباياه النفسية وبطواياه وبطرائقه في التعامل وبمنطقه في الإقناع، فلا يغرنك هذا كله، لأنه ما هو إلا أساليب وحيل مكشوفة ومعروفة ومفهومة.
وهنا يبرز فعلاً أمران جديدان غير "لا تصالح" وهما: قل لهم - اغرس، في قوله:
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيف في جبهة الصحراء ..
إلى أن يجيب العدم
وبقدر ما تفيد أفعال الأمر في النصح والإرشاد، بقدر ما تدلنا على أن الشاعر كان أكثر حكمة وأكثر إدراكًا وأكثر فهمًا لما يجري من حولنا ويتعلق بمصيرنا، إنه يقدم نصحه وإرشاده للآخر الذي يوجه إليه الأمر منذ مطلع القصيدة، والذي يوجه إليه الفعل المسبوق ب "لا تصالح" خلال القصيدة ككل.
ونلاحظ في هذه الوصية الثانية أن الشاعر يعزف على نوعين من القافية، الأولى رويها الميم الساكنة في (بدم - الحكم - عم - العدم) والثانية رويها الكاف الساكنة في (كان لك - أثكلك - فيمن هلك - كنت لك - وملك) مع ملاحظة أن الكاف الساكنة تغلبت - في العدد - على الميم الساكنة.
ومن الصور الشعرية البارزة جدًا في هذا المقطع قول الشاعر:
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
وهي من الصور الشعرية التي من الممكن أن يقال عنها إنها "مستحيلة" لأن العدم من المستحيل أن يجيب، ومن هنا يظل السيف مغروسًا في جبهة الصحراء استعدادًا للنزال والحرب التي ستظل إلى أن يجيب العدم.
وأعتقد أن سر بروز هذه الصورة في هذا المقطع، أنه جاء مفرغًا من أية صورة شعرية عدا هذه الصورة الجميلة المستحيلة.

-3-

أما الوصية الثالثة فقد وقعت في تسعة وعشرين سطرًا رجع الشاعر خلالها مرتين إلى استدعاء صور وذكريات للطفولة عله يستطيع التأثير بهذه الطريقة على الآخر وذلك في قوله:
وتذكرْ .. .. .. .. ..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن
الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنت أخيك "اليمامة"
زهرة تتسربل - في سنوات الصبا -
بثياب الحداد
كنت، إن عدتُ:
تعدو على درج القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي .. ..
فأرفعها - وهي ضاحكة - ..
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن صامتة
حرمتها يد الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداء الثياب الجديدة
من أن يكون لها - ذات يوم - أخ
من أب يتبسَّم في عرسها
وتعود إليه إذا الزوج أغضبها
وإذا زارها .. يتسابق أحفاده نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا .. ..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلم)
ويشدُّوا العمامة
إلا أننا نقول: إن الشاعر استخدم أسلوب النصح في مطلع هذه الوصية في قوله:
لا تصالح .. .. ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخات الندامة
ولأول مرة يستخدم الشاعر فعل الأمر (تذكر) صراحة في القصيدة والمعطوف على الفعل لا تصالح.. وهنا نلاحظ أن الشاعر يستخدم (إذا) التي تفيد عدم التأكد من وقوع هذا الأمر، وأنه ما زال في شك من أمر الآخر.
يلاحظ في هذا المقطع أن الشاعر يعتمد في موسيقاه على نوعين من القافية مثلما لاحظنا في المقطع السابق، النوع الأول رويه الدال الساكنة في قوله: (الرقاد - السواد - الحداد - الجواد - الرماد)، أما النوع الثاني الميم المفتوحة فالهاء الساكنة في قوله: (الندامة - ابتسامة - اليمامة - العمامة - اليمامة "مرة أخرى").
ويلاحظ أن عدد كل من القافيتين جاء متساويًا في هذه الوصية.

-4-

وفي الوصية الرابعة يعود الشاعر مرة أخرى لاستخدام صيغة السؤال ثلاث مرات، في هذا المقطع الذي وقع في سبعة عشر سطرًا، حيث يقول الشاعر:
كيف تخطو على جثة ابن أبيك ؟
وكيف تصير المليك .. .. ..
على أوجه البهجة المستعارة ؟
كيف تنظر في يد من صافحوك .. ..
فلا تبصر الدم .. .. ..
في كل كف .. .. ؟
إن هذه الأسئلة تفيد الاستنكار وتؤكد على استحالة أن يحدث مثل هذا، وبمثل هذه الكيفية، التي جاء ذكرها في الأسئلة؛ لذا نرى الشاعر يبدأ أسئلته الثلاثة بـ "كيف".
في هذه الوصية يلاحظ كثرة استخدام القافية، وكثرة تنوعها:
1- (الأمارة - المستعارة - شارة - الأمارة "مرة أخرى").
2- (أبيك - المليك - صافحوك).
3- (كل كف - من الخلف - ألف خلف).
4- (سيف - زيف).
5- (الشرف - الترف).
وكما لوحظ فإن النوع الأول من القافية كان أكثر انتشارًا وأكثر توزيعًا بين سطور هذه الوصية، حيث انتشرت هذه القافية في أواخر السطور (الثاني - الخامس - الحادي عشر - الثالث عشر).


-5-

في الوصية الخامسة - كما سبق أن أوضحنا - يستخدم الشاعر "لا تصالح" ثلاث مرات في السطر الأول - السطر السابع - السطر السادس عشر، في حين أن هذه الوصية تكونت من واحد وعشرين سطرًا.
وهو يستخدم الصيغة (ولو قال - ولو قيل) مرتين في هذا المقطع في قوله:
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدام
".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام .."
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
إن الغائب يصبح حاضرًا في هذا الجزء من الوصية؛ لأننا سنعرف - أو أننا نعرف بالفعل - من هو الذي يمكن أن يقول ما بنا طاقة لامتشاق الحسام، ومن الذي يداعبنا بكلمات عن السلام أو بكلمات من السلام.
إن القافية في هذا الجزء تتراوح بين الميم الساكنة المسبوقة بألف المد والسين الساكنة، وذلك في قوله (الصدام - الحسام - السلام - الغرام - ينام - الطعام - الفطام) و (تتنفس - بخرس - المدنس - منكس - المقدس).
كما يلاحظ أن الشاعر يعود إلى استخدام صيغة التساؤل في هذه الوصية بالإضافة إلى صيغة الأمر، فعلى حين تجد أن الشاعر يستخدم التساؤل خمس مرات في قوله:
1- كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس ؟
2- كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟
3- كيف تصبح فارسها في الغرام ؟
4- كيف ترجو غدًا .. لوليد ينام ؟
5- كيف تحلم أو تتغنى بمستقبل لغلام وهو يكبر بين يديك - بقلب منكس ؟
نجد أنه يستخدم النهي في: لا تقتسم، والأمر في: ارو (تكررت ثلاث مرات) خلافًا للنهي في: لا تصالح الذي تكرر ثلاث مرات أيضًا، أي أن الشاعر استخدم صيغة الأمر سبع مرات في هذه الوصية.
وربما يكون هذا الجزء هو أكثر الأجزاء استخدامًا لصيغة التساؤل وفعل الأمر معًا، إن التساؤلات السابقة التي تفيد الاستنكار والتعجب تفيد أيضًا معرفة الشاعر لخصوصية الشخصية التي يخاطبها، بل معرفة الخصائص النفسية، وهنا يلاحظ على هذه التساؤلات:
إن الشاعر يستخدم الصيغة التي تبدأ بـ "كيف" التي ربما تفيد التعجب، ولكن طرحها خمس مرات على هذا النحو يدل على أن الشاعر يريد الوصول إلى الكيفية التي يفكر بها هذا الآخر الذي يخاطبه أو يوجه إليه التساؤلات، إنه يريد أن يتخطى الطريقة التي يفكر بها الآخر نظريًّا إلى الطريقة العملية، عن طريق تكرار هذه الصيغة التي بدأت بـ "كيف"، وربما أنه يستنكر على هذا الآخر أن يفعل مثل هذه الأفعال، فإنه بطريقة غير مباشرة يقول لنا إنه عرف أو يعرف خصائص شخصيته، بل إنه في التساؤل:
كيف تنظر في عين امرأة
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟
يضع الآخر في مواجهة مع النفس، وتكون المواجهة عنيفة جدًا أو أعنف ما يكون؛ لأنه يطعنه في رجولته، ويطعنه فيما يتعارف عليه الرجل الشرقي من حمايته للضعيف، خاصة إذا كان هذا التساؤل على هذا النحو، إنه يأتي كصفعة قوية لعلَّ الآخر يفيق من غفوته ويعمل بنصيحة الشاعر في قوله "لا تصالح" التي هي سر كتابة هذه الوصايا، أيضًا يأتي التساؤل الثاني:
كيف تصبح فارسها في الغرام ؟؟؟
مؤكدًا على هذا المعنى.
وإذا كان الشاعر قد لجأ إلى ما أسميناه بالصورة الشعرية المستحيلة في قوله:
واغرس السيف في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
وذلك في الوصية الثانية، فإنه يلجأ مرة أخرى إلى مثل هذه الصورة الشعرية المستحيلة في هذه الوصية الخامسة في قوله - في نهايتها:
واروِ قلبك بالدم .. ..
واروِ التراب المقدس .. ..
واروِ أسلافك الراقدين .. ..
إلى أن ترد عليك العظام !
وتكمن الاستحالة في هذه الصورة في السطر الأخير "إلى أن ترد عليك العظام"، وكما قلنا إنه من المستحيل أن يجيب العدم في الوصية الثانية، فإننا نؤكد أيضًا على استحالة أن ترد العظام، ومن هنا يظل الآخر عاكفًا على إرواء قلبه بالدم وعاكفًا على إرواء التراب المقدس من هذا الدم، وعاكفًا على إرواء الأسلاف الراقدين إلى أن ترد عليه العظام، أي إلى أن تحدث معجزة وترد العظام أو إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

-6-

الوصية السادسة تتكون من خمسة وعشرين سطرًا، وهنا نلاحظ أن الشاعر يلجأ إلى الحكمة في قوله:
إنه الثأر
تبهت شعلته في الضلوع .. ..
إذا ما توالت عليه الفصول
وتأتي الحكمة من نفس بيئة القصيدة، ومن نفس البناء المعماري والبناء النفسي الذي اعتمدت عليه القصيدة كلها.
ويلاحظ أيضًا أن صيغ التساؤل التي تكررت في الوصايا السابقة تنعدم في هذه الوصية، وأن فعل الأمر الذي تعودنا على أن نراه في الوصايا السابقة ينخفض عدده ليصبح فعلاً واحدًا هو "خذ" في قوله:
فخذ - الآن - ما تستطيع
هذا خلافًا للفعل "لا تصالح" الذي تكرر مرتين في السطر الأول، والسطر التاسع عشر، ويلاحظ على هذا الجزء السادس أن الشاعر يلجأ إلى نوعين من القافية تراوحت بين اللام فالهاء الساكنة في قوله: (القبيلة - الجليلة - القليلة - حيلة - الذليلة)، وقافية الواو أو الياء فاللام الساكنة في قوله: (القبول - يطول - جيل - المستحيل - الفصول).

-7-

أما في الوصية السابعة فإن الشاعر يستخدم الفعل "لا تصالح" مرة واحدة فقط في السطر الأول من الوصية، وهنا يلجأ الشاعر مرة أخرى إلى أسلوب النصيحة في قوله:
لا تصالح، ولو حذَّرتك النجوم
ويلاحظ استخدامه لصورة من حياة الأقدمين في قراءاتهم للنجوم واستشارتهم للكهان، وهذه الوصية تتكون من 23 سطرًا، كما يلاحظ أيضًا على هذه الوصية أن عنصر الحكي أو القص واضح فيها، بالرغم من أنها بدأت بالفعل "لا تصالح":
لم يصح قاتلي انتبه
كان يمشي معي
ثم صافحني
ثم سار قليلاً
ولكنه في الغصون اختبأ
فجأة
ثقبتني قشعريرة بين ضلعين ..
واهتز قلبي كفقاعة - وانْفَثَأ !
وتحاملت حتى احتملت على ساعدي
فرأيت: ابن عمي الزنيم
واقفًا يتشفى بوجهٍ لئيم
لم يكن في يدي حربة
أو سلاح قديم
لم يكن غير غيظي الذي يشتكي الظمأ !

ويلاحظ في هذه الوصية أن الفعل الماضي نسبته قد ارتفعت كثيرًا؛ لأن هذا الفعل يتناسب مع عملية الحكي أو القص أو السرد، ومن هذه الأفعال الماضية التي لاحظنا وجودها (حذرتك - رمى - صافحني - سار - اختبأ - ثقبتني - اهتز - انفثأ - تحاملت - احتملت - رأيت)، هذا بالإضافة إلى الصيغ أو التعبيرات المركبة التي تدل على الزمن الماضي مثل: (لم أمد - لم يصح - كان يمشي - لم أكن).
أما عن القافية فقد تراوحت بين استخدام الهمزة الساكنة مع فتح ما قبلها والتي تكررت ست مرات (النبأ - الخطأ - لم أطأ - اختبأ - انفثأ - الظمأ) واستخدام الياء أو الواو فالميم الساكنة، والتي تكررت أيضًا ست مرات في قوله: (النجوم - التخوم - الكروم - الزنيم - لئيم - قديم).

-8-

الوصية الثامنة تتكون من 23 سطرًا، أيضًا استخدم الشاعر فيها الفعل "لا تصالح" مرتين كعادته، كما أتى بكلمة "الصلح" مرة واحدة منفردة في قوله:
فما الصلح إلا معاهدة بين ندين
وهو في هذه الوصية ينصح الآخر بأن لا يصالح حتى تستقيم الأشياء وتستقر ويعود كل شيء إلى موضعه الطبيعي، ذلك أن كل شيء تحطم في لحظة عابرة، كل شيء تحطم في نزوة فاجرة:
لا تصالح
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة
النجوم .. .. .. .. . لميقاتها
والطيور .. .. .. .. لأصواتها
والرمال .. .. .. .. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة

إن الأشياء التي تحطمت في لحظة عابرة وفي نزوة فاجرة هي:
1- الصبا
2- بهجة الأهل
3- صوت الحصان
4- التعرف بالضيف
5- همهمة القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي
6- الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي
7- مراوغة القلب حين يرى طائر الموت وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة.
إنه عالم من الطفولة والبهجة والأصالة والكرم والحب والنقاء والطهر قد افتقدناه، فكيف تأتي عملية المصالحة وكل هذه الأشياء غائبة عنا؟ إن الموجود حاليًا في عالمنا هو نقيض هذه الأشياء، الموجود هو (الشيخوخة - الحزن - الخديعة والمكر والقشور - الشح والتقتير - الكراهية والنجاسة - والبغضاء والشَّحناء ..).
كيف تأتي مسألة الصلح والطرف الآخر (العدو) الذي سأتصالح معه ليس أنبل وليس أمهر مني، بل إنه محض لص، كيف يسرقني ويسلبني وأذهب إليه وأتفاوض معه من أجل الصلح؟
لا تصالح
فما الصلح إلا معاهدة بين ندين ..
(في شرف القلب)
لا تنتقص
والذي اغتالني محض لص
سرق الأرض من بين عيني
والصمت يطلق ضحكته الساخرة !

أما عن استعمال الشاعر للقافية فقد تكررت الراء فالهاء الساكنة سبع مرات في قوله: (الدائرة - الناظرة - عابرة - الكاسرة - الماكرة - فاجرة - الساخرة)، مع إدخال بعض القوافي الأخرى لكسر رتابة هذه القافية مثل التاء فالهاء الممدودة (ميقاتها - أصواتها - ذراتها)، والتاء فالهاء المكسورة (بمشيئتهِ - بسكينتهِ)، والصاد الساكنة (لا تنتقص - محض لص).

-9-

تتكون الوصية التاسعة من 11 سطرًا استخدم الشاعر فيها الفعل "لا تصالح" مرتين في السطر الأول والسطر الثامن، وهنا يستخدم هذا الفعل بغرض التحذير:
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كلُّ الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
إنه يحذره من أبناء قبيلته فربما يجد هذا التصالح هوى في نفوسهم؛ لذا فإن الشاعر يكشف له الحقيقة في هذه الوصية لأن مثل هؤلاء ما هم إلا رجال ملأتهم الشروخ:
هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد
وامتطاء العبيد
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
إن الشاعر يلجأ إلى أسلوب جديد في هذه الوصية يعزف عليه، وهو أسلوب الترغيب والمدح، فربما يستطيع بواسطة هذا الطريق التأثير على الآخر، إنه يقول له:
لا تصالح
أنت فارس هذا الزمان الوحيد
وسواك .. .. .. المسوخ
إنها المرة الأولى التي يستخدم فيها الشاعر هذا الأسلوب في الإقناع والتأثير وربما يكون قد لجأ إليه لإحساسه بأنه استنفد كل وسائله من النصح والإرشاد والأمر والاستعطاف والرجاء والتوسل … إلخ؛ لذا فإنه يلجأ أخيرًا إلى أسلوب المدح فربما يستطيع الوصول إلى منطقة نفسية لم يطرقها من قبل عن طريق المدح والثناء على غرار ما كان يفعل شعراؤنا الأقدمون.
ويلاحظ على هذا المقطع أن الشاعر استخدم قافية الواو فالخاء الساكنة في قوله: (الشيوخ - الشروخ - الشموخ - المسوخ)، وأيضًا استخدم قافية الياء فالدال الساكنة في قوله: (الثريد - العبيد - أن تريد - الوحيد).

-10-

أما في الوصية الأخيرة فإن الشاعر مع إسدال الستار على كل وصاياه لا يملك إلا أن يكرر الفعل "لا تصالح" مرتين:
لا تصالح
لا تصالح
ليؤكد على أهمية هذا الفعل المحوري الذي جاءت من أجله كل القصيدة، إنه لا يملك إلا ترديد لا تصالح مرتين بكل ما في هذا الفعل من طاقة وتأثير وإيحاء ومقدرة على الفعل سبق للشاعر أن نثرها في كل الوصايا السابقة؛ لذا فإنه لا يستطيع أن يقول في النهاية شيئًا أكثر من:
لا تصالح
لا تصالح

*****

الوثبة الفنية في قصيدة "لا تصالح":
يقول د. مصطفى سويف في مقال له بعنوان "النقد الأدبي ماذا يمكن أن يفيد في العلوم النفسية الحديثة" - (مجلة فصول - المجلد الرابع - العدد الأول - أكتوبر/ نوفمبر/ ديسمبر 1983م): "لقد كشفت النتائج التي أمكن الوصول إليها من دراسة العمليات النفسية في إبداع الشعر عن أن الوحدة الأولية للقصيدة هي "الوثبة"، وهذا بناء مغاير للوحدة الفنية المعتادة التي هي البيت، والوثبة مجموعة من الأبيات تليها دفقة واحدة من دفقات النشاط الفكري الإنتاجي، وبالتالي فإن التفكير الإبداعي في الشعر يتقدم في خطوات تتخذ شكل وثبات، أي أن فكر الشاعر لا يتقدم من بيت إلى بيت ولكن من وثبة إلى وثبة، وليس للوثبة طول ثابت، فقد تكون ثلاثة أبيات وقد تكون سبعة أو أكثر أو أقل ....".
ونحن إذا قمنا بتطبيق هذا المفهوم النقدي النظري على القصيدة التي نحن بصدد دراستها فسنجد أن هذه القصيدة تحتوي على عدد هائل من "الوثبات"، وعلى سبيل المثال سنجد أن الوصية الأولى التي تكونت من 26 سطرًا قد احتوت على تسع وثبات يمكننا طرحها على النحو التالي بغرض تقريب هذا المفهوم النقدي من الأذهان:
1- لا تصالح !
ولو منحوك الذهب
2ـ أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما ..
هل ترى .. .. ؟
3ـ هي أشياء لا تشترى
4ـ ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسكما - فجأة - بالرجولة،
هذا الحياء الذي يكبت الشوقَ ,, حين تعانقه،
الصمت - مبتسمين - لتأنيب أمكما ..
وكأنكما
ما تزالان طفلين !
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أن سيفان سيفك ..
صوتان صوتك
5ـ أنك إن مت:
للبيت رب
وللطفل أب
6- هل يصير دمي - بين عينيك - ماء ؟؟؟
7- أتنسى ردائي الملطخ .. ..
تلبس - فوق - دمائي - ثيابًا مطرزة بالقصب ؟؟؟
8- إنها الحرب !
قد تثقل القلب .. ..
لكن خلفك عار العرب
9- لا تصالح .. .. ..
ولا تتوخَّ الهرب
وبهذا المفهوم التطبيقي سيتضح أن كل وصية تحتوي على عدد من الوثبات، وقد رأينا بالفعل أنه ليس للوثبة طول ثابت فقد تكون سطرًا أو أكثر.
وما من شك في أن هذا المفهوم النقدي الجديد نحن في حاجة إليه، وفي حاجة إلى مفاهيم نقدية مماثلة تمكننا من الاقتراب أكثر من مفاهيم وجماليات الشعر العربي المعاصر، وهذا لن يتأتَّى إلا بمعانقة المفهوم النظري للمفهوم التطبيقي للشعر بعامة.


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:34 PM [ 7 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل





في ذكرى أمل دنقل

جابر عصفور


أمل دنقل (1940 - 1983) واحد من أبرز الشعراء العرب في عالم ما بعد كارثة العالم السابع والستين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها، فأعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بما تنطوي عليه من إنجاز ودلالة، ابتداء من ديوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) الذي لفت إليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى إلى هزيمة يونية 1967، مرورا بديوان (تعليق على ما حدث) عام 1971 الذي كان استمرارا لاتجاه الديوان الأول،
وكذلك ديوان (العهد الآتي) الذي صدر عام 1975 والذي وصلت فيه تقنية الشاعر إلى ذروة اكتمالها. وأخيرا ديوان (أوراق الغرفة 8) في عام 1983 وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، وأشرفت على طباعته بنفسي في (هيئة الكتاب) مع تقديمي له، وصدر بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته، وتولت عبلة الرويني الإشراف على طباعة ما أتمه من (أقوال جديدة عن حرب البسوس) الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة التي أشرفت عبلة الرويني على أكثر من طبعة لها.
هذه الأعمال القليلة، نسبيا، تنطوي على عالم توازى خصوصيته وأهميته في تاريخ الشعر العربي المعاصر، فهي أعمال شاعر وصل بالمحتوى السياسي للشعر إلى درجة عالية من التقنية الفنية والقيمة الفكرية، وذلك إلى الحد الذي يمكن أن نقول معه أن شعر أمل دنقل هو المجلي الحداثي للتمرد السياسي في الشعر العربي المعاصر. هذا التمرد قرين رؤية قومية دفعته إلى اختيار رموزه من التراث العربي، والتعبير بها عن هموم العرب المحدثين، وذلك بما يجعل من هذه الرموز مرايا ينعكس عليها التاريخ الحديث بما يبين عن هزائمه خصوصا من الزاوية التي تبرز تضاده مع أمجاد الزمن العربي القديم، أو من الزاوية التي تبرز المشابهة بين انكسارات الحاضر وانهيارات الماضي وفجائعه. وقد اقترنت هذه العودة إلى الرموز التراثية بصياغة أقنعته من الشخصيات التاريخية ذات الدلالات المضيئة في هذا التراث القادرة على إثارة الشعور واللاشعور القومي لجماهير القراء العرب.
ويتميز شعر أمل دنقل بخاصية بارزة تتصل بمحتواه القومي من هذا المنظور، فهو شعر يتحدث - في جوانبه الحاسمة - عن الصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي يجعله شعرا صالحا لهذه الأيام التي نعيشها في ظل الهيمنة الأمريكية والغطرسة الإسرائيلية، كما يجعل منه شعرا جديرا بأن نسترجعه ونستعيده مع شعورنا الغالب بالوجع الفلسطيني، ومع إحساسنا بالعجز عن الدفاع عن حقوقنا العربية واسترداد ما سلب منها. والحق أن شعر أمل دنقل تتكشف قيمته على نحو إضافي مع ما نعانيه،
ومع كل ما يؤكد لنا صدق هذا الشعر في تعبيره عن الهزائم المتلاحقة التي يمر بها العرب، خصوصا بعد أن استغلت اسرائيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وأقنعت أمريكا بمساعدتها في محاربة الإرهابيين الفلسطينيين. وأقبلت أمريكا على مساعدتها، غير عائبة بالتفرقة بين الإرهاب الذي يقوم على دعاوى باطلة، وينتهي بتدمير كل شيء، والكفاح الوطني من أجل الاستقلال. وكانت النتيجة أن أصبح الفلسطينيون الذين يقاتلون من أجل استقلال وطنهم، ومن أجل استعادة حقوقهم السليبة، ارهابيين مطاردين من إسرائيل ومن راعيتها الكبرى أميركا.
هكذا، نعاني نحن العرب في هذه الأيام حالاً أشبه بحال الهزيمة، فإسرائيل تعربد في الأراضي المحتلة، وترتكب من المذابح ما يندى له جبين الإنسانية، وما من قوة عربية تستطيع أن تواجهها، أو ترد على عدوانها، الأمر الذي ترك مرارة الهزيمة العربية على كل الألسنة. ولذلك لا يملك المرء سوى تذكر قصائد أمل دنقل عن الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصا أن ذكراه التاسعة عشرة تلح في هذه الأيام، فقد توفى في الحادي والعشرين من مايو سنة 1983.
وأتصور أن القصيدة الأولى التي ترد على الذهن من شعر أمل، في هذا السياق هي قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) وهي قصيدة دالة في إدانتها للأنظمة التي أوقعت الهزيمة بشعوبها، ودالة على أن الهزيمة تتخلق في الداخل قبل أن تأتي كالعاصفة الجائعة من الخارج، ودالة على أن الشعوب المحكومة لا تملك سوى البكاء عندما تشعر بهوان وضعها، ولكن من الزاوية التي تجعل من بكائها تمردا على كل من تسببوا في هزيمتها.
والواقع أن قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) أهم قصائد أمل بعد هزيمة العام السابع والستين. جذبت الأنظار إليها والى شاعرها، وذلك عندما أعادت إلى الأذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الإبداع الذي كان يحذر من الخطر القادم في العام السابع والستين فلم يصدقه أحد الا بعد أن حدثت الكارثة. وإذ أكد (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر، فإنه أكد الهوية القومية لشعر أمل دنقل من حيث وصل الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى امكانا للمستقبل الا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات وتتجاوز ما في الحاضر من ثغرات.
ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع إلى طبيعة الصوت الذي ينطقه القناع بها، فهو صوت المواطن العربي البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، يصمت كي ينال فضلة الأمان، كأنه عبد من عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة. وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد سوى التوجه إلى (زرقاء اليمامة) التي هي مثله بمعنى من المعاني، كي ينفجر في حضرتها بالكلمات التي تقول:

أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
اسأل يا زرقاء
... ...
كيف حملت العار
ثم مشيت، دون أن أقتل نفسي، دون أن أنهار
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة.
هذا العبد الذي ينطق في القصيدة كان يجسد صوت الشاعر من ناحية، وصوت المواطن العربي المسكين الذي مزقته الهزيمة من ناحية ثانية. ولذلك اتحدت جماهير القراء بصوت هذا العبد العبسي البائس الذي دعي إلى الميدان والذي لا حول له ولا شأن، فانهزم وخرج من جحيم هزيمته عاجزا، عاريا، مهانا، صارخا، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه. وإذا كان صوت هذا العبد العبسي شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة، العرافة المقدسة،
شاهد على ما يمكن أن يفعله الشعر في زمن الهزيمة، خصوصا من حيث هي صورة أخرى من هذه العرافة: يرى ما لا يراه الآخرون ويرهص بالكارثة قبل وقوعها، وينطق شهادته عليها وقوعها، ويتولى تعرية الأسباب التي أدت إليها، غير مقتصر على الإدانة السلبية في سعيه إلى استشراف أفق الوعد بالمستقبل الذي يأتي بالخلاص.
ولذلك كان بكاء هذا العبد في حضرة زرقاء اليمامة، مثل شهادته، علامة على أسباب الهزيمة التي ترتبت على غياب الحرية والديموقراطية عن قبائل (عبس) العربية، من العصر الجاهلي إلى العام السابع والستين، حين كتبت هذه القصيدة، كما كان هذا البكاء تأبينا لزمن مضى، وإدانة لأخطاء زمن لم يخلف سوى الكارثة، وبحثا عن زمن يأتي بخلاص من هذه الكارثة.
وأعترف أنني كلما طالعت شاشات التليفزيون الأجنبية والعربية، ورأيت المذابح البشعة التي ارتكبها الإسرائيليون في حق الشعب العربي الفلسطيني، في رام الله أو نابلس أو جنين أو طولكرم وغيرها من الأماكن الفلسطينية العزيزة، شعرت بالهزيمة والانكسار والعجز ووجدت نفسي استعيد الصوت الصارخ في قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) من عجزه ومحنته، ومضيت مثله أسأل عن السواعد المقطوعة التي ظلت ممسكة بالرايات العربية المنكسة، وعن جثث الأطفال ملقاه بين الخيام، وعن وقفة المرأة الفلسطينية بينما الدبابات الإسرائيلية تمضي فوق حطام منازلهم التي هدمتها القذائف الغادرة، فأقول لنفسي إلى متى نحمل - نحن العرب - هذا العار؟ إلى متى؟!

البيان الثقافي-الأحد 26 مايو 2002


حق الشعر

جابر عصفور


لم تنس الصلة بالجماهير قصيدة أمل دنقل ما عليها من حق للشعر في تقنيات شعريته. أن الصنعة تتجاور مع العفوية، والأصالة تقترن بالمعاصرة، والحرص على النغمة الإيقاعية يتناغم مع الحرص على التجديد، وعين الشاعر التي لا تمل من النظر إلى عالم المدينة تتضافر مع إذنه التي لا تمل من الاستماع إلى النغمات والأصوات في هذا العالم.
ولذلك فإننا نستطيع أن نلمح في شعر أمل دنقل تجاورا لافتا بين الحداثة والتقاليد، خصوصية الرؤية الشعرية الفردية وجماعية الوجدان الجماهيري، الاستغراق في التقنية والعفوية التي تخفي هذه التقنية.
ومن المؤكد أن شعر أمل دنقل لا يدخل في باب المناسبات بالمعنى الذي تنتهي به القصيدة بانتهاء المناسبة أن غوص هذا الشعر في تجاربه، وتجسيده اللحظات الجوهرية في الواقع، وصياغته الأقنعة النموذجية التي تتحول إلى موازيات رمزية، وخلقه شخصيات إبداعية لا يمكن نسيانها، على نحو ما نجد في (يوميات كهل صغير السن)و( سفر ألف دال) وقدرة هذا الشعر على صياغة جداريات بالغة الحيوية لمشاهد المدينة ومفردات عالمها، وأناسها الهامشيين، ولغة هذا الشعر المنسوجة باقتدار، والأحكام البنائي الذي يخلف لذة عقلية في ذهن المتلقي، كلها خصائص تتجاوز المناسبة أو المناسبات، وتضع أمل دنقل في مصاف الشعراء الكبار الذين يتجاوز شعرهم اللحظة التاريخية التي أوجدته لأنه عثر على العناصر الباقية في هذه اللحظة.
وأضيف إلى ذلك عذوبة التعبير عن المشاعر الفردية ورهافتها.وذلك بعد يستحق الإشارة إليه في شعر أمل دنقل على الأقل لأنه بعد يختفي هونا نتيجة غلبة الشعر السياسي والقضايا القومية على شعر أمل دنقل والواقع أن الوجه القومي العام مسئول عن تهميش الوجه الخاص من شعر أمل دنقل. ولذلك لمن أستغرب عندما سألني الشاعر عبد المنعم رمضان ذات مرة، بوصفي صديق أمل دنقل، قائلا : هل توجد في شعر أمل دنقل صور امرأة أحبها؟ وكان السؤال يعني : أين الجانب الخاص من شعر أمل دنقل الفرد؟ وتحدثت طويلا عن الجوانب الخاصة الفردية من شعر أمل دنقل، سواء في قصائد العامة التي يتسلل إليها الخاص وسط العام، أو قصائده التي هي أقرب إلى السيرة الذاتية، وعلى رأسها قصيدة (يوميات كهل صغير السن) التي هي نوع من الموازاة لقصيدة الشاعر تي. اس. اليوت (أغنية العاشق الفريد بروفروك). ولكن قصيدة أمل كانت أكثر تعبيرا عن همومه الفردية في مصريتها الخالصة من ناحية، وفي انتمائه إلى الشريحة الصغرى من البرجوازية الصغيرة من ناحية مقابلة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك عند دنقل، فقد كان صوته الخاص يتخذ نبرة تدل عليه من وراء أقنعة الشعراء الذين أختارهم لقربهم من نفسه، وأخص بذلك قناع المتنبي وقناع أبي نواس، وكان الصوت الخاص للشاعر المعاصر المتخفي وراء قناع للشاعر قديم يسعى إلى التعبير المباشر عن نفسه، وهو الأمر الذي حدث في سفر (ألف. دال) وهما الرمزان الدالان على أمل دنقل نفسه، في موازاة الانحدار العام لوطنه. والطريف أن قراء هذه القصيدة لفتهم الجانب العام، ولم ينتبهوا إلى أنها سيرة ذاتية تستبطن مشاعر فرد يرى من خلال مأساته الشخصية مأساة وطنه. والعكس صحيح بالقدر نفسه.
ولكن الجانب الخاص لا يختلط بالعام على هذا النحو، في كل الأحوال، فهناك أحوال التوحد الذاتي وأحوال الحب على السواء، في الأحوال الأولى، كان أمل يستدعى من الذاكرة مخزونها الوجداني الحميم، حيث تغدو الشهور زهورا تنمو على حافة القلب : زهرة في إناء تتوهج في أول الحب بين محبوبين، وزهرة من غناء تتورد فوق كمنجات صوت المحبوبة حين تفاجئها القبلة الدافئة، وزهرة من بكاء تتجمد فوق شجيرة العينين في لحظات الشجار الأخيرة وقد تنقلب الشهور الزهور إلى أصوات، منها صوت الكمان الذي أحبه أمل دنقل كثيرا ومنحه مكانة خاصة في وجدانه، مكانة دفعته إلى أن يقول :
لماذا يتبعني أينما سرت صوتُ الكمان ؟ أسافر في القاطرات العتيقة ـــ
أرفع صوتي ليطغى على ضجَة العجلات وأغفو على نبضات القطار الحديدية القلب
لكنها بغتة. تتباعد شيئا فشيئا ويصحو نداء الكمان .

أما في الأحوال الثانية فكان شعر أمل يقترن دائما بتوهج لحظات الحب القليلة التي مر بها، والتي جعلته يدرك أهمية المرأة في حياته، ويخلص لها ويغفر لها زلاتها، ما ظل مقتنعا بطيب عنصرها، ومؤمنا بالامكانات الخلاقة التي تنطوي عليها. ولذلك كانت المرأة التي أحبها - بعيدا عن تحولاتها الرامزة إلى مجالات غير ذاتية - هي الحضور الدائم الذي يمنح الحياة بهجتها، رغم كل عذاب
الحياة، وكل إخفاقات الحب في الوقت نفسه :
دائما أنت في المنتصف أنت بيني وبين كتابي
وبيني وبين فراشي وبيني وبين هدوئي
وبيني وبين الكلام ذكريات سجني، وصوتك يجلدني ودمي قطرة ـ بين عينيك ـ ليست تجف فامنحيني السلام فامنحيني السلام نضيف إلى الخصائص السابقة ما تميز به شعر أمل دنقل من تراكيب حدية، وعوالم تجمع بين المتقابلات في صياغات لافتة. وذلك هو السبب في أن المفارقة والتضاد خاصيتان أثيرتان في هذا الشعر. أقصد إلى التضاد الذي يضع الأشياء في علاقات متدابرة : تدابر الأنا.
والآخر تنافر الشرق والغرب، الحاضر والماضي تناقض السلطة والمحكومين، التمرد والخنوع، الشرف والخيانة وكلها متقابلات تؤسس لنزعة حدية لم تفارق شعر أمل دنقل، ونطقتها قصائد المؤسسة على التضاد الرأسي أو الأفقي من مثل قصيدة ( الخيول ) التي تجسد التقابل بين الماضي العربي المجيد والحاضر العربي المهين، كما نطقتها قصائده المبنية على التضاد المكاني، وذلك من مثل قصيدة ( إسكندرية ) التي تجسد التقابل بين الجنوب والشمال الأنا والآخر العرب وأوروبا.
أما المفارقة فإنها - مثل التضاد - تستقطر السخرية من التقابلات المفاجئة، خصوصا حين تتجاور الأشياء، بغتة ويبرز التقابل بين العناصر على نحو ساخر، موجع، نقرأ معه سخريته الشهرية من رمز السلطة، وذلك في قصيدته عن مذكرات المتنبي في مصر، حيث يتحول الحاكم إلى صورة أخرى من كافور الإخشيدي الذي سخر منه المتنبي قديما ويتحول الشاعر المعاصر إلى صورة أخرى من المتنبي القديم خصوصا في دائرة السخرية التي لا يكف فيها عن الاستهزاء بالحاكم الذي لا يعرف واجباته، ولا يؤدي دوره. وتصل الذروة إلى الحوار بين المتنبي وجاريته على النحو التالي :
تسألني جاريتي أن أكتري للبيت حراّسا فقد طغى اللصوصُ في مصر. بلا رادعْ
فقلتُ : هذا سيفيَ القاطع ، ضعيه خلف الباب متراسا ! ما حاجتي للسيف مشهورا
مادمت قد جاورت كافورا ؟ ودلالة الحوار الساخر أبرز من أن نلفت الانتباه إليها وهي تمثيل لأشكال أخرى من الحوار، أبرزها الحوار الذي يدور بين النيل العجوز والحاكم المستبد، وذلك في قصيدة يتكئ فيها أمل اتكاءة كبيرة على محمد الماغوط الشاعر السوري الكبير. وإذا تركنا سخرية الحوارات ومفارقاتها، فإننا نلحظ بقاء السخرية ممتدا في شعر أمل، وذلك على نحو لم يخل منه ديوانه كما نجد في ديوان "العهد الآتي " على سبيل المثال. وهو الديوان الذي نقرأ فيه ما يلي: لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا لا تسألي.. أبدا أني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا لقد كان شعر أمل، بهذه اللغة التي تؤكد السخرية من خلال المفارقة، والمفارقة التي تعمل في موازاة التقابل الحدًي، يجسًد بموازيات رمزية أنواع التضاد الذي تنبني عليه علاقات واقع مختل، لم يتردد الشاعر في الكشف عن اختلاله، ولا في تعرية علاقات فساده، مؤمنا كل الإيمان بأن دوره بوصفه شاعرا لا يمكن أن يدفعه إلى المهادنة، وأن أداء حق الشعر يبدأ من أداء واجب الالتزام السياسي والاجتماعي بوصفه التزاما بالفن الشعري في معناه القومي.

بيان الثقافة-الأحد 16 يونيو 2002 -



سيف في الصدر ، جدار في الظهر

تشبثوا بآمالكم، فان أمل دنقل قد مات ومن لديه أمل فليعض عليه بالنواجذ.
ها ه يآما لالشعر العربي تغادر، وتتسرب من بين ايدينا واحدا بعد الآخر. ÷ل أمل دنقل آخره/ أول الذين/ (لا وقت للبكاء. فالعلم الذي تنكسينه على سرادق العزاء، منكس فس الشاطئ الآخر، والابناء يستشهدون كي يقيمون .. على تبة العلم المنسوج من حلاوة النصر ومن ماررة النكبة، خيطاً من الحب .. وخيطين من الدماء).

قال ذلك عند وفاة عبدالناصر/ كأنه يقولها الآن لنا. فهو لم ينس الحياة حتى وهو بين فكي الموت. عندما مات، انهالت مئات المقالات بسرعة البرق للحديث عن شاعر مات حتى نكاد نشعر بأن بعض هذه المقالات كانت فرحة لأنه مات. لماذا الآن يصير الشارع جديرا ويسمعه الناس؟

ها نحن ةندخل في واحدة من محن الشاعر العربي الجديد. أمل دنقل لم يعرفه طوال تجربته ربع عدد الذين عرفوه الآن .. بعد.

نحن ا/ة تقدس الموتى. موتاها خاصة. بل أننا أمة تقتل مبدعيها لتقدسهم. ان المفارقة بين اهمال الشاعر و محاصرته الى درجة الحرب لأثناء حياته، وبين الاهتمام و الاحتفاء الى درجة التقديس بعد موته، مسالة مثيرة وجدية باكتشاف النفسية العربية تجاه المبدعين الأحياء/ الأموات.
أمل دنقل، جاء. صرخ في العالم المستكين. لم يعبأ بصوته أحد، ما همه أحد، كتب أجمل الاشعار ومات.


(أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور
ليطمئن قلبه، فما يزال طيره الماسور
لا يترك السجن ولا يطير
أبصر تكل الشفة المثقوبة
ووجهه المسود، والرجولة المسلوبة
ابكي على العروبة )

الصعيد المصري/ محافظة قنا/ قرية القلعة/ 1941.
ولد أمل دنقل.
كيف نتخيل طفلاً يرى النور للمرة الأولى في (قلعة)؟.
حمل الشاعر قلعته معه. في دمه / كلماته. واشتغل طوال الوقت على كسر هذه القلعة. بدون ضجيج جاء الى الشعر العربي من صعيد، وكتب قصيدته المختلفة. كسر جدران قلعته في القصيدة كما لم يعهد الشعر المصري القصائد على هذه الشاكلة، ولم يعهد مثل هذ الكسور ايضاً.
قصيدته تكتظ بالواقع، بالعذاب الذي رآه في المدينة أكثر تعقيدا من عذا القرية. هناك صورة العذاب واضحة، مباشرة حتى البساطكة. في المدينة بدا لصراع على درجة من التعقيد الى الحد الذي يتطلب قوة اسطورية لدى الشاعر لكي يعبر الجحيم. يحترق فيه دون أن يتلاشى. كان فلاحاً هادئا يمكن أت لمس هدوءه في موسيقى القصيدة. في قافيتها خاصة، و المدينة صاخبة:

( كنت لا أحمل الا قلماً بين ضلوعي
كنت لا احلم الا قلمي
\في يدي : خمس مرايا
تعكس الضوء (الذي يسري اليها من دمي)
"افتحوا الباب"
فما رد الحرس
- "افتحوا الباب . أنا أطلب ظلا .."
- قيل : "كلا"

1958 دخل كلية الآداب. جامعة القاهرة لمدة عام واحد فقط. كأنهليس مهيئاً لشي سوى الشعر. المهمات و الوزاجبات التي تتطلب جلوساً في المقعد لا تليق به. عاد الى محافظ قنا. عمل موظفاً في المحكمة. لكنه انشغل بالشعر و الحياة. ترك الوظيفة.
(ملك أم كتابة) صاح بي صاحبي وهو يلقي بدرهمه في الهواء
ثم يلقفه
...
(ملك أم كتابة)
صحت فيه بدوري
فرفر في مقليته الصي=با و النجابة
وأجاب : (ملك)
دون أن يتلعثم , يرتبك
وفتحت يدي كان نقش الكتابة
بارزأً في صلابة )

انفجر أمل في الشعر الحديث بهدوء. لكن بنوع مرير من السخرية لم تتوفر كثيرؤا في هذا الشعر. كان الفن عنده يسخر في الجرح ويسخر به معاً ، وصارت هذه الخصيصة من ارقى ملامح شعره. وربما وصلت في أحيان كثيرة الى ذروة الماساة الانسانية الت تنطوي على قدر كبير من درامية الحياة البشرية. ويستطيع أمل دنقل بجمالية شعره البالغ الشفافية أن يباغت القارئ بصورة يومية تصعد الى مستوى الصورة الشعرية الراقية. يحدث هذا من غير أن تفقد الصورة اليومية الشعبية بساطتها، و دون أن يقع في المبالغة الكلاسيكية المعتمة. و التي يحيط الضجيج البلاغي بها. فاللمحة الساخرة عنده تفجر في ذهن القارئ ما لايقاس من المعاني و الىفاق الشعرية.

(قيل لي أخرس)
فخرست، وعميت وائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد "عبس" أحرس القطعان
أجز صوفها
أرد نوقها
أنام في حضائر النسيان
طعامي: الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة و الرماة و الفرسان
دعيت للميدا
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شان
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان:
أدعى الى الموت .. ولم أدع الى المجالسه)

انها قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التي كبتها في الاسبوع الأول من هزيمة 1967، والتي انتشرت في مصر بالدرجة الألوى، تماما كما اشتهرت (هوامش) نهزار قباني في البلاد العربية. مع أن الشعر غند أمل دنقل وصل الى مراحل فنية تأخرت (الهوامش) عنها.
هنا السخرية تصير نوعاً من الطقس الحزين الذي يفضح صلاة كانت، من أجل صلاة جديدة. لقد اختصر الشاعر هنا تاريخا عميقاً من القمع و الجوع، فكل كلمة تشتمل على مدلولاتها الواقعية. فالانسان الذي لم يكن يتمتع بالحربة و الديمقراطية هو المطلوب للدفاع عن الوطن، والذي يعرف عمق الاشارة ال الواقع الاقتصادي، سيكتشف بشاعة الاشارة الى (لحم الضان). ان أمل هنا يوظف السخريبة الشعبية في تفجير الجذور.

الناظر الى قصيدة أمل دنقل للوهلة الأولى يعتقد ببساطتها البنائية، لكن المتأمل فيها سيكتشف درجة التعقيد الايحائي و العلاقات الجمالية التي لا تزركشها المبالغات اللغوية. لكن بساطتها نكمن في حساسية خاصة يمتلكها الشاعر تجاه اللغة، لغة بذاكرة غير مقموعة ولا موروثة.

( حين سرت في الشارع الضوضاء
واندفعت سيارة مجنونة الستائق
تطلق صوت بوقها الزاعق
في كبد الاشياء:
تفزعت حمامة بيضاء
(كانت على تمثال نهضة مصر
تحلم ف ياسترخاء)
طارت وحطت فوق قبة الجامعة النحاس
لاهثة، تلتقط لاأنفاس
وفجأة: دندنت الساعة
ودقت الاجراس
فحلقت في الأفق .. مرتاعة)

عند أمل دنقل تجد المفردات التي لا تتوقع أن تكون بهذا الجمال وهذه الطاقة الشعرية. انه يتشبث ببساطة المفردة ويشحنها باءماءة جديدة. كانت الروح الشعبية لديه تتعرض لعذاب الحجر الكريم في طريق الصقل و البريق. المفردة عنده تلمع وتطلع.
أمل لا يخلق لغة شعريى ساخرة. بل يحول المناخ المفاجئ الذي نعتاده ببساطة لكي يبرق أمامنا بشجن ومرارة ويبدو لا معقولاً، غرابته الساخرة تنبع من العذاب الكبير الذي تجسده المفارقة ف يالصورة، ومن طاقة المعنى التي تفيض من اطلاق اللغة من اسارها. انه يدخل اللغة في الحرية:

( أبانا الذي في المباحث ، نحن رعاياك
باق لك الجبروت، باق لنا الملكوت
وباق لمن ترحس الرهبوت.
تفردت وحدك باليسر
ان اليمين لفي الخسر
أما اليسار ففي العسر
الا الذين يماشون
الا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة العيون
فيعشون
الا الذين يشون
والا الذين يوشون ياقات قمصامنهم برباط السكوت
الصمت وشمك
والصمت وسمك
والصمت، انى التفت ، يرون ويسمك
والصمت
بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين
يلف الفراشة و العتكبوت)

القراءة. والقراءة. ثم القراءة. تجعل الشعر يصير أكثر جمالا وتجعله أفقا لكشف الشعر الذي لا يدعوك لذلك/ ليس كذلك.


ذكريات أمل دنقل

جابر عصفور
(مصر)


مات أمل دنقل في الصباح الباكر من اليوم الحادي والعشرين من أيار (مايو) سنة 1983. مضت تسع عشرة سنة على وفاته, ولكنه باقٍ بشعره الذي تتوهج معانيه, خصوصاً في تلك الأيام التي تعربد فيها إسرائيل كما يحلو لها, فتستعيد ذاكرتي ما كتبه من (تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات) وأدرك معنى أن (سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس) وأكاد أصرخ في انتظار السيف:

انظري أمتك الأولى العظيمة
أصبحت شرذمة من جثث القتلى
وشحاذين يستجدون عطف السيف.

وأستعيد ما كتبه أمل عن فلسطين, والقدس, وعن صديقه مازن جودت أبي غزالة الذي رحل مع العاصفة, والذي كتب من أجله أمل (بكائية ليلية) استهلها بقوله:

للوهلة الأولى
قرأتُ في عينيه يومَه الذي يموتُ فيه.
رأيتُه في صحراء (النقب) مقتولاً...
منكفئاً.. يغرز فيها شفتيه
وهي لا تردُ قبلةً لفيه!
نتوه في القاهرة العجوز, ننسى الزمنا
نفلت من ضجيج سياراتها, وأغنيات المتسولين
تُظلُّنا محطةُ المترو مع المساء... متعبين.
وكان يبكي وطناً... وكنت أبكي وطنا
نبكي إلى أن تنضب الأشعار
نسألها: أين خطوط النار?
وهل ترى الرصاصة الأولى هناك... أم هنا?

ولا أعرف هل هي مصادفات الزمان, أم علاقة جيلنا بشرط التاريخ, هي التي جعلتني أعرف أمل دنقل في سياق من الهزائم والانكسارات القومية. وكانت البداية هزيمة العام السابع والستين التي استجاب إليها بقصيدته (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التي كانت بكاءنا جميعاً على ما حدث, ثم جاءت مرثية جمال عبدالناصر (1918-1970) بعنوان (لا وقت للبكاء) تعبيراً عن رغبة مقاومة الانحدار, والتطلع من جديد صوب الأماني القومية التي بدت بعيدة. ودخلنا أيام السادات التي واصل فيها أمل دنقل أقسى درجات رفضه الاجتماعي والسياسي, خصوصاً في ما سمي عام الضباب, ذلك العام الذي اقترب فيه أمل الشاعر من الحركة الطالبية الغاضبة, وصاغ بقصيدته (أغنية الكعكة الحجرية) ذروة تعبيرها الاحتجاجي الذي تمثل في الاعتصام بميدان التحرير حول النصب الذي كان قائماً فيه, وهو الاعتصام الذي فضّته أجهزة الأمن بالقوة خوفاً من تفاقم نتائجه, فسقط بعض الطلاب ضحية الاصطدام. وانطلق صوت أمل دنقل يسجّل (الإصحاح الأول) من (سفر الخروج):

أيها الواقفون على حافّة المذبحه
أشهروا الأسلحه!
سقط الموتُ; وانْفَرَطَ القلبُ كالمسبحهْ
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحَه,
والزنازن أضْرحَهْ
فارفعوا الأسلحه
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحه
رايتي: عظمتان... وجُمجُمَه
وشعاري: الصباح.

وقد نشر أمل دنقل قصيدته للمرة الأولى في مجلة (سنابل) التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر من محافظة كفر الشيخ, أيام المحافظ إبراهيم بغدادي الذي اتصل به يوسف السباعي, وطلب منه إغلاق المجلة بعد أن نشرت قصيدة (الكعكة الحجرية). لكن القصيدة ظلّتْ تُقرأ في المحافل الطالبية التي حضرها أمل دنقل الذي أصبح أكثر الأصوات الشعرية المتمردة تجاوباً مع وجدان الطلاب الساخطين. والغريب أن حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 لم تقلل من أهمية هذه القصيدة, وإنما شحذت الهمم لاستكمال الانتصار على العدو الإسرائيلي وتحرير الأرض العربية.
ولكن مضت الأشهر, ودخلنا في مباحثات فصّل القوات التي تحولت في النهاية إلى استهلال لمباحثات السلام. وكانت اللحظة الحاسمة هي اليوم الذي ذهب فيه السادات إلى القدس ليعرض الصلح على إسرائيل, وندخل فعلياً في مباحثات السلام التي رفضها أمل دنقل, كما رفضها غاضبون كثيرون غيره, أملاً في موقف قومي صلب يتأسس به سلام عادل.
وكان ذلك هو السياق الذي بدأ بالاتفاق الأول لفصل القوات بين مصر وإسرائيل في كانون الثاني (يناير) 1974, وتصاعد مع الاتفاق الثاني في أيلول (سبتمبر) 1975, وازداد تصاعداً مع إلغاء السادات معاهدة الصداقة المصرية - السوفياتية في آذار (مارس) 1976, كما ازداد تفاقماً بثورة الخبز في كانون الثاني (يناير) 1977, وزيارة السادات للقدس في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه. لكن هذه الزيارة لم تمنع إسرائيل من اجتياح الجنوب اللبناني في آذار 1978, ولم تمنع السادات من المضيّ في محاولات السلام, تلك التي مضت في مسارها الذي انتهي بتوقيع السادات وبيغن اتفاقات كامب ديفيد التي شهد عليها الرئيس الأميركي كارتر بصفته الوسيط.
وكان أمل بدأ يكتب (لا تصالح) من قبل توقيع الاتفاق النهائي, لا لأنه يرفض السلام وإنما لأنه يرفض الاستسلام, ويتطلع إلى سلام عادل يعيد جميع الحقوق لأصحابها, وإلا فلا لزوم له, ولا مفر من مواصلة الكفاح من أجل استعادة الأراضي السليبة كلها. وما أسرع ما تحولت (لا تصالح) إلى قصيدة قومية يرددها كل الرافضين للتنازلات التي قدمها السادات ثمناً للصلح مع إسرائيل. وكانت حِدَّة رفضه السياسي في ذلك الوقت مقرونة بالسخرية التي كانت تدفعه إلى كتابة أسطر من قبيل:

أيها السادة: لم يبقَ انتظارْ
قد منعنا جزيةَ الصمت لمملوكٍ وعَبْدْ
وقطعنا شعرةَ الوالي (ابن هند)
ليس ما نخسره الآنَ...
سوى الرحلة من مقهى لمقهى
ومن عارٍ لعَارْ!!

وقد عرفت أمل شخصياً مع نهاية الستينات, شدتني إليه قصائده التي كان ينشرها في مجلة (الكاتب) القاهرية, ومنها قصيدة (أشياء تحدث في الليل) التي كانت تعرية للفساد المتقنع في زمن عبدالناصر, وجاءت قصائد الهزيمة التي تركت في نفسي أعمق الأثر, ونكأت الجراح التي ظلت مفتوحة, فاقتربنا بعد أن تعارفنا بواسطة أصدقاء مشتركين, وأصبحنا صديقين نزداد قرباً يوماً بعد يوم, ويكتشف كل منا في صاحبه ما يزيده احتراماً له واقتناعاً بقيمته. وأسهمت (الجمعية الأدبية المصرية) التي كانت تضم صلاح عبدالصبور وفاروق خورشيد وعز الدين إسماعيل وعبدالرحمن فهمي وأحمد زكي في ترسيخ جذور هذه الصداقة, فقد كنا نلتقي في لقاءات الجمعية الأدبية, ونخرج سوياً بعد انتهاء الندوة أو الأمسية الشعرية التي غدونا طرفاً فيها, أمل بشعره وأنا بنقدي, وننطلق إلى وسط القاهرة, نتصعلك إلى اقتراب الصباح.
وقد جذبتني صفات أمل الشخصية: الحس العالي بالرجولة, الكرامة التي لا تقبل التنازل مهما كان هيناً, الاعتزاز بالنفس إلى أبعد حد, الترفع عن الصغائر, الوفاء النادر, الإخلاص الحقيقي, المحبة الخالصة, النهم المعرفي الذي لا يهدأ, روح الانطلاق التي لا تعرف السكون, رغبة المغامرة التي لا تخشى شيئاً, الوعي السياسي القومي الذي لا يقبل المهادنة ويرفض الاستسلام, احتقار المال على رغم الحاجة إليه, تقديس الشعر بصفته الفرح المختلس الذي يمنح الحياة معنى, الجسارة المتناهية في كتابته, والشجاعة القصوى في التعبير عن الرأي أو السلوك مهما كانت العقبات.
وكنت أجد في أمل ما افتقده في تكويني الأكاديمي العقلاني الذي كشف لي عن بعض انغلاقه, خصوصاً حين كان لا يكف عن مشاكستي لإيثاري العزلة بين كتبي, مؤكداً لي أن لا نجاح حقيقياً للناقد الذي أَنْطَوي عليه إلا بخوض نار التجربة الحية للدنيا التي تدعونا إلى مواجهتها والمغامرة فيها. ولم يكن يتردد في انتزاعي من عملي العلمي, قبل مشغلة المناصب والعمل العام, خصوصاً إذا لاحظ إرهاقي من القراءة أو الكتابة, فيصحبني في جولاته الليلية التي لا تنتهي, كاشفاً لي عن خبايا القاهرة التي عرفتها معه, وعن المعادن المختلفة للبشر الذين خبرت منهم الكثير بفضله.
أما هو فكان يجد في شخصيتي - في ما يبدو - بعض ما افتقد هو إليه, فتعمقت صداقتنا التي لم تعرف الخصام يوماً, ولا المشاجرة, الأمر الذي كان يثير عجب من حولنا, ودفع بعض أصدقائنا المشتركين إلى حسدي على أنني الوحيد الذي لم يتعارك معه أمل, أو يصطدم به, أو يختلف معه اختلاف مقاطعة. وما أكثر ما كان أمل يتعارك ويصطدم ويختلف ويقاطع, وما أكثر الذين خاصمهم وخاصموه, والذين ناصبوه العداء بسبب حِدَّته الجارحة في التعامل معهم. وكان ذلك بسبب طبعه الناري وحدِّية شخصيته التي لم تكن تقبل أنصاف الحلول, أو تتسامح مع المناطق الرمادية, فمع أمل إما أن تكون منتسباً إلى اللون الأبيض الناصع فكرياً وإنسانياً وإبداعياً وسياسياً أو إلى اللون الأسود القاتم, ولا وسائط أو مناطق وسطى, ولا تسامح مع البين بين أو المواقف المترددة, فالجنوبيّ الذي انطوى عليه أمل كان أشبه في صلابة حدِّيته بغرانيت المعابد الفرعونية التي تجوّل بينها, صبيّاً, في أقصى الجنوب.
لقد اختار الكتابة, وأدرك أن كتابة الشعر هي الفرح المختلس في الواقع المختل, وآمن أن الفرح المختلس لا يكتمل إلا بالصدق الجارح, حتى لو صادرت العسس ما كتبه, أو غضب الغاضبون, فالخيانة للنفس هي التخلّي عن حَدِّية الصِّدْق من أجل المجاملة, أو من أجل مكسب سريع. وكان عليه - كي يحافظ على صلابته الداخلية - أن يستغني عن الكثير من الضروريات, فلم يمتلك سكناً, أو يعرف منزلاً دائماً, ولم يؤثّث بيتاً, ولم يستعبد نفسه بوظيفة تفرض عليه تنازلاً أو مهادنة, ولم يسع وراء المال الذي لم يكن يتحصّل منه إلا على ما يقيم الأوَد, ولم يكن يخجل من الاقتراض من أصدقائه القريبين مع علمه وعلمهم أن القرض لن يردّ, ولم يستطع أن يقدم هدية متواضعة لخطيبته إلا بعد أن باع قطعة أرض ورثها عن أبيه في بلدته, وظل على حذر دائم من الأغنياء, معتزّاً بفقره والفقراء, شعاره:

هذه الأرض حسناء, زينتها الفقراء, لهم تتطيبُ
يعطونها الحُبَّ, تعطيهم النسل والكبرياء

فكان أحد الفقراء الذين يعيشون مغتربـين, أو يتكدّسـون - في صرخة الجوع - فوق الفراش الخشن.
ولذلك تعاطف مع شخصية أبي نواس الشاعر العباسي في قصيدته الشهيرة (من أوراق أبي نواس). ورأى فيه بعض الوجه القديم لتمرده, وبعض المعاناة القديمة للوضع الهامشي المعاصر, وبعض التمرد في كتابة الشعر - الفرح المختلس الذي كانت تصادره العسس.
ولكن أمل دنقل لم يؤمن بتقية أبي نواس, حتى وان شاركه بعض الخصال, فقد كان قادراً على أن يقول ما لا يقال, وما لا يجرؤ غيره أن يقوله. وكنت أسأل نفسي, أحياناً, من أين تأتيه كل هذه الجسارة? وكانت الإجابة سهلة: من توهج الروح الأَبِيَّة, وشجاعة القلب الذي لا يعرف الخوف, واستغنائه عن الحرص الذي أذلّ أعناق الرجال, ومن حب مصر الذي ظل يتدفق بين الشرايين والأفئدة, الحب الذي دفعه إلى رفض النزوح, أيام الهجرة الكبيرة للمثقفين المصريين الذين تركوا مصر في زمن السادات, إيثاراً للسلامة, أو طلباً للأمان, أو بحثاً عن المال. وظل هو في مصر التي لم يفارقها إلا مرة واحدة في حياته, لحضور مؤتمر شعري في بيروت سنة 1981, إن لم تخن الذاكرة, وظل متمسكاً بالبقاء, معلناً أن البقاء في ذاته مقاومة لفساد العصر الساداتي, وأنه لا معنى لأي فعل من أفعال الرفض خارج الوطن, فمن يريد تغيير الوطن عليه البدء من داخل شبكة العلاقات المعقدة لواقعه.
ولذلك جاءت قصيدته (مقابلة خاصة مع ابن نوح) تجسيداً لموقفه المصرِّ على البقاء في الوطن, ومحاولة تغييره من داخله, من دون التخلّي عنه بالنزوح منه.
وانبنت القصيدة على قطبين متضادين, كعادته في الكثير من شعره, قطب النزوح الذي اختار ممثلوه النجاة من الطوفان بسفينة نوح, وقطب البقاء الذي اختار أصحابه محاربة الطوفان, وعدم التخلي عن الوطن حتى لو فقدوا حياتهم. -

جريدة (الحياة) لندن (15/5/2002 )


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:35 PM [ 8 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل





قصائد للشاعر ...

العرافة المقدسة

جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة

عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاة علي الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء
فيثقب الرصاص رأسه .. في لحظة الملامسة
عن الفم المحشو بالرمال والدماء
أسأل يا زرقاء
عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدار
عن صرخة المرأة بين السبي والفرار
كيف حملت العار
ثم مشيت؟ دون أن أقتل نفسي؟ دون أن أنهار؟
ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة؟
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي بالله باللعنة بالشيطان
لا تغمضي عينيك، فالجرذان
تلعق من دمي حساءها .. ولا أردها
تكلمي لشد ما أنا مهان
لا الليل يخفي عورتي .. ولا الجدران
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدها
ولا احتمائي في سحائب الدخان
.. تقفز حولي طفلة واسعة العينين.. عذبة المشاكسة
كان يقص عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادق
فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادق
وحين مات عطشا في الصحراء المشمسة
رطب باسمك الشفاه اليابسة
وارتخت العينان
فأين أخفي وجهي المتهم المدان؟
والضحكة الطروب: ضحكته ..
والوجه .. والغمازتان

***

أيتها النبية المقدسة
لا تسكتي .. فقد سكت سنة فسنة لكي أنال فضلة الأمان
قيل لي اخرس
فخرست وعميت ائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان
أجتز صوفها
أرد نوقها
أنام في حظائر النسيان
طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دعيت للميدان
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شأن
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان
أدعي الى الموت ولم أدعَ الى المجالسة
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي تكلمي
فها أنا علي التراب سائل دمي
وهو ظمئ يطلب المزيدا
أسائل الصمت الذي يخنقني
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلا يحملن أم حديدا
فمن تري يصدقني؟
أسائل الركع والسجودا
أسائل القيودا
ما للجمال مشيها ويدا
ما للجمال مشيها وئيدا؟

***

أيتها العرافة المقدسة
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار
فاتهموا عينيك، يا زرقاء بالبوار
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار
فاستضحكوا من وهمك الثرثار
وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا
والتمسوا النجاة والفرار
ونحن جرحي القلب
جرحي الروح والفم
لم يبقي الا الموت
والحطام
والدمار
وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار
ونسوة يسقن في سلاسل الأسر
وفي ثياب العار
مطاطئات الرأس، لا يملكن الا الصرخات التاعسة

* * *

ها أنت يا زرقاء
وحيدة، عمياء
وما تزال أغنيات الحب، والأضواء
والعربات الفارهات، والأزياء
فأين أخفي وجهي المشوها
كي لا أعكر الصفاء الأبله المموها
في أعين الرجال والنساء
وأنت يا زرقاء
وحيدة عمياء
وحيدة عمياء

يونيو 1967


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:36 PM [ 9 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل





تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات


-1-

قلت لكم مرارا
إن الطوابير التي تمر..
في استعراض عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ انبهارا)
لا تصنع انتصارا.
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحارى
لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء.
إن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء:
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا !

-2-

قلت لكم في السنة البعيدة
عن خطر الجندي
عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدة
يحرس من يمنحه راتبه الشهري
وزيه الرسمي
ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء
والقعقعة الشديدة
لكنه.. إن يحن الموت..
فداء الوطن المقهور والعقيدة:
فر من الميدان
وحاصر السلطان
واغتصب الكرسي
وأعلن "الثورة" في المذياع والجريدة!

-3-

قلت لكم كثيراً
إن كان لابد من هذه الذرية اللعينة
فليسكنوا الخنادقَ الحصينة
(متخذين من مخافر الحدود.. دوُرا)
لو دخل الواحدُ منهم هذه المدينة:
يدخلها.. حسيرا
يلقى سلاحه.. على أبوابها الأمينة
لأنه.. لا يستقيم مَرَحُ الطفل..
وحكمة الأب الرزينة..
مع المُسَدسّ المدلّى من حزام الخصر..
في السوق..
وفى مجالس الشورى

* * *

قلت لكم..

لكنكم..
لم تسمعوا هذا العبث
ففاضت النار على المخيمات
وفاضت.. الجثث!
وفاضت الخوذات والمدرعات.

سبتمبر


1970


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Nov 2005, 09:38 PM [ 10 ]


تاريخ التسجيل : Oct 2005
رقم العضوية : 549
مواضيع : 131
الردود : 1331
مجموع المشاركات : 1,462
معدل التقييم : 108sanaa will become famous soon enoughsanaa will become famous soon enough

sanaa غير متصل




سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس


بكائيات


(الإصحاح الأول)


عائدون؛
وأصغر إخوتهم (ذو العيون الحزينة)
يتقلب في الجب،!
أجمل إخوتهم.. لا يعود!
وعجوز هي القدس (يشتعل الرأس شيبا)
تشم القميص. فتبيض أعينها بالبكاء ،
ولا تخلع الثوب حتى يجئ لها نبأ عن فتاها البعيد
أرض كنعان - إن لم تكن أنت فيها - مراع من الشوك!
يورثها الله من شاء من أمم،
فالذي يحرس الأرض ليس الصيارف،
إن الذي يحرس الأرض رب الجنود!
آه من في غد سوف يرفع هامته؟
غير من طأطأوا حين أزَّ الرصاص؟!
ومن سوف يخطب - في ساحة الشهداء -
سوى الجبناء؟
ومن سوف يغوى الأرامل؟
إلا الذي
سيؤول إليه خراج المدينة!!؟


(الإصحاح الثاني)


أرشق في الحائط حد المطواة
والموت يهب من الصحف الملقاة
أتجزأ في المرآة..
يصفعني وجهي المتخفي خلف قناع النفط
"من يجرؤ أن يضع الجرس الأول.. في عنق القط؟"


(الإصحاح الثالث)


منظر جانبي لفيروز
(وهى تطل على البحر من شرفة الفجر)
لبنان فوق الخريطة:
منظر جانبي لفيروز،..
والبندقية تدخل كل بيوت (الجنوب)
مطر النار يهطل، يثقب قلباً.. فقلبا
ويترك فوق الخريطة ثقباً.. فثقباً..
وفيروز في أغنيات الرعاة البسيطة
تستعيد المراثي لمن سقطوا في الحروب
تستعيد.. الجنوب!


(الإصحاح الرابع)


البسمة حلم
والشمس هي الدينار الزائف
في طبق اليوم
(من يمسح عنى عرقي.. في هذا اليوم الصائف؟)
والظل الخائف..
يتمدد من تحتي؛
يفصل بين الأرض.. وبيني!
وتضاءلت كحرف مات بأرض الخوف
(حاء.. باء)
(حاء.. راء.. ياء.. هاء)
الحرف: السيف
مازلت أرود بلاد اللون الداكن
أبحث عنه بين الأحياء الموتى والموتى الأحياء
حتى يرتد النبض إلى القلب الساكن
لكن..!!


(الإصحاح الخامس)


منظر جانبي لعمان عام البكاء
والحوائط مرشوشة ببقايا دم لعقته الكلاب
ونهود الصبايا مصابيح مطفأة..
فوق أعمدة الكهرباء..
منظر جانبي لعمان؛
والحرس الملكى يفتش ثوب الخلفية
وهى يسير إلى "إيلياء"
وتغيب البيوت وراء الدخان
وتغيب عيون الضحايا وراء النجوم الصغيرة
في العلم الأجنبي،
ويعلو وراء نوافذ "بسمان" عزف البيان!


(الإصحاح السادس)


اشترى في المساء
قهوة، وشطيرة.
واشترى شمعتين. وغدارة؛ وذخيرة.
وزجاجة ماء!

… … …

عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد
(ويد الله تخلع عن جسد القدس ثوب الحداد)
ليس من أجل أن يتفجر نفط الجزيرة
ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض..
من حول مائدة مستديرة.
ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء.


(الإصحاح السابع)


ليغفر الرصاص من ذنبك ما تأخر!
ليغفر الرصاص.. يا كيسنجر!!


الأعلى رد مع اقتباس
إضافة رد
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أمل دنقل \ الشعر حتى الموت بندر النايف أعلام ورجال 9 20 Mar 2012 07:35 PM
ليس الألم في رحيل من تحب ولكن الألم في .... غالية الأثمان القسم العام 10 12 Jun 2010 11:53 PM
الأمم المغلوبة تقلد الأمم الغالبة... محمد الحوالي القسم العام 11 04 Apr 2010 12:07 PM
الأديب : محمد حسن عواد السفير مرافئ البوح 2 29 Aug 2005 09:34 PM
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

06:32 PM
Powered by vBulletin® developed by Tar3q.com