عرض مشاركة واحدة
قديم 03 Apr 2007, 10:11 AM [ 27 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Nov 2006
رقم العضوية : 1994
الإقامة : qatar
الهواية : كتابة الخواطر
مواضيع : 1901
الردود : 9766
مجموع المشاركات : 11,667
معدل التقييم : 25بسمة is on a distinguished road

بسمة غير متصل




تداعي الفصول .......رواية للكاتبة مريم آل سعد الحلقة العاشرة)


الحياة الجميلة كانت صداقتها لعائشة وتماضر اكثر من رائعة ، على الأقل كانت تضمن السند الذي تعتمد عليه ، والملجأ الذي تطرقه عندما يخطر ببالها اي سؤال او تريد أي خدمة.
فعائشة مرتبطة بالجالية العمانية والخليجية ولها معارف كثيرون يديرون مجتمعا متكاملا لا يشعر المرء فيه انه فارق وطنه.. تحكمه نفس القيم والأعراف وحتى التقاليد والعادات المعاشة بالوطن. فمن العادي رؤية الطلبة يطبخون اكلاتهم الشعبية ويزاولون جلساتهم المعهودة في بيوت بعضهم او في المسجد حيث تدار الفعاليات الاجتماعية ويتبادل الطلبة المعلومات والخبرات والخدمات. كذلك كان زوج تماضر متصلاً بهذه الرابطة من الأصدقاء.
وهذا المجتمع متكاتف جدا لمقاومة الغربة فما أن يأتي طالب جديد فإنه لا داعي ان تربطه علاقات متينة بالموجودين. فقط يوصي به احد ولو كان من خارج الولاية ليجد بانتظاره اشخاص لم يرهم في حياته يستقبلونه ويستضيفونه ويحلون مشاكله ويذوب معهم ويصبح نسيجا واحدا مع محيطه الجديد.
انهم قد لا يتلاقون في اوطانهم ولكنهم هنا يأكلون من طبق واحد ويحتمون ببعضهم ويسهرون على راحة زملائهم ويتحملون مسئولياتهم حتى يستطيعوا التأقلم في غربتهم. انهم يعودون مراهقين من جديد.. تعني لهم الصداقات الكثير ، ويجعلون اولويات اصدقائهم جزءا من اولوياتهم. لقد وجدت مجتمعا فريدا ذابت فيه الشخصيات الخليجية واصبحت كيانا واحدا يلوذون ببعضهم ويدعمون بعضهم الآخر.
حتى لهجاتهم اختلطت فأخذوا يتأثرون ببعضهم البعض ويتلفظون العبارات التي تبقى عالقة في ذاكرتهم اثناء احاديثهم مع زملائهم ، يتبادلون الذكريات والشوق عن اوطانهم واحبائهم ، يطفئون ظمأ البعد برواية القصص والحكايات عن مسقط رأسهم ومعارفهم.
كانت عائشة تصر على تناولهم الغداء معا في المول كل سبت. فقد كانت تجد في التسوق في المول الكبير ذي المتاجر المتعددة متعة كبيرة مصطحبة اطفالها الاثنين. ينثرون تعليقاتهم في كل مكان ويستوقفون بعض معارفهم للتحية والسلام ولا تخجل ولا تمل ان تكون معهم سارة وهي تتحرك على كرسيها بهدوء ولا تعتبره ضياعا للوقت واهدارا له. وكانت رحابة صدرها تتسع للمرور على سارة واصطحابها وتحميل كرسيها بصبر ومعاونتها على ذلك.
اما تماضر فقد كانت ودودة وخدومة الى اقصى درجة وما تسمح به قدراتها كحامل لأول مرة وطالبة في نفس الوقت عليها الكثير من الالتزامات الدراسية والبيتية.
كان احساس سارة بأنها قريبة منها ، تستطيع محادثتها تليفونيا والاستنجاد بها اي وقت يهبها الشعور بالأمان والأطمئنان ويخفف عنها آلام الغربة وظروفها كمقعدة.
كانت ترى الاشفاق بأبلغ صوره بأعين معارف تماضر وزوجها ، وبعضهم يقولون صراحة بتعجب.. كيف تخاطر بحالتها على القدوم هنا لوحدها بدون ان يرعاها احد...؟؟ انها حياة قاسية على الشاب العادي فكيف بفتاة بمثل ظروفها..؟؟
كانت تغالب المناخ القاسي عندما تتحول الممرات الى قطعة صقيع متماسكة عملاقة.. كأنها صالة تزلج ملتوية الأطراف والمسافات ، والخطورة هنا ليس في كون الثلوج مجرد حبيبات هشة تتكسر وتذوب تحت وطأة الاقدام ، انها صقيع جامد يزحلق بلا رحمة الناس والسيارات ويسبب الحوادث والإصابات. لذلك تقوم الشركات المتخصصة في المجمعات السكنية او افراد الأمن والبلديات باذابة الجليد برش الملح المخصص لذلك في الشوارع وممرات البيوت وامام الكراجات ، ويبدأ الجميع العمل منذ الصباح الباكر لتهيئة الطريق للناس ليواصلوا حياتهم.
كانت مدرستها للغة الموجودة بالحرم الجامعي تبدأ في التاسعة صباحا وتستمر الى الثالثة عصرا مع ساعة راحة لفترة الغداء داخل كفتيريا الجامعة. كان المشوار صعبا من سكنها الجامعي الى المدرسة في الأجواء القارسة البرودة. وقد عرضت عليها عائشة توصيلها فقط في مثل هذه الأيام الصعبة وكانت تحس بالاحراج والذنب لأن على عائشة مسئولية ابنائها وكانت ترد عليها بأريحية زائدة. سلمى في العاشرة من عمرها وزياد في الثانية عشرة ويستطيعان الاهتمام بنفسيهما واستقلال حافلة المدرسة التي تلتقط ابناء الحي قرب بيتهم. بالفعل كانت الخدمات المدرسية راقية جدا لأن المجتمع وصل مرحلة متقدمة من الرقي والتحضر.
تتذكر عندما كانت تعود في موطنها من العمل ظهرا وتضطر الى المرور في الشارع المؤدي الى منزلها والذي يمر باحدى المدارس ، كانت السيارات مصطفة في الشمس المحرقة الواحدة تلو الاخرى تسد الشارع في صفوف طويلة غير منتظمة لا تسمح بالخروج والدخول وخصوصا عند التقاطها التلاميذ وقد عطلت حركة السير وأوقفتها تقريبا ، واحتبست السيارات القادمة بفعل الاخرى المعاكسة وتبدأ الأبواق والشتائم بالتناثر.
يتكرر نفس الموقف امام كل مدرسة والشوارع المؤدية اليها في الدوحة ويبدو من المألوف رؤية رؤوس الخادمات تطل من السيارات التي يقودها السائقون وقد لوحت الشمس وجوههم واحرقتها تماما. يبدو ان الحافلات الحكومية فقدت تأثيرها ويرفضها الاهالي وابناؤهم ويفضلون الوضع الحالي ولا يستنكرونه او يحاولون معالجته.
لقد فوجئت عندما ذهبت مع زملائها في مدرسة اللغة لتقديم محاضرة لطلبة المدارس الابتدائية عن اوطانهم وتراثهم. كل مجموعة من اثنية متشابهة تتكلم عن بلادها كتمرين للطلبة وكواجب مدرسي يبين قدرتهم اللغوية على التعبير واستخدام الكلمات في جمل ، اسلوب النطق ، وسلامة القواعد ، مما يستوجب التحضير له بالأسلوب المناسب مع الحث على كسب انتباه الأطفال واهتمامهم باحضار ملابس واغراض وصور للشرح عليها وتقريب الصور الكلامية. كانت المدرسة الحكومية التي اختاروها لهم تحفة رائعة لم تستطع سارة مقاومة اعجابها ومقارنتها بالمدرسة التي يدرس بها اولاد اخوتها بالوطن.
كانت المدرسة الامريكية من دور واحد تمتد لتشمل فصولا واسعة تصطف بها الكراسي بشكل عشوائي محبب تتوسط احد الحوائط سبورة كبيرة بينما في الزوايا اقفاص الحيوانات الأليفة وربما السامة ولكن بدون سم كالثعابين.. وفي زاوية اخرى مغاسل لغسل اليدين بمستوى حجم الأطفال وخزائن لحفظ أغراضهم ، وقد انتشرت الصور في الزوايا والحوائط. لم تحس انها في غرفة دراسية بقدر صالة جميلة للهو والمرح.. !! وليس لديهم خدم او سعاة فالإدارة تستطيع مخاطبة كل فصل وغرفة من خلال الميكرفون المثبت بكل منها ، ونقل رسائلهم الصوتية اليومية او اخبار المعلمة بقدوم ولي الأمر لأخذ طفلهم للطبيب أو لأي موعد طارىء.
وفي الممرات الواسعة في المدرسة المسقوفة كلها كقطعة متماسكة توجد في جوانب منها بين الفصول غرف التواليت المنفصلة للبنين والبنات النظيفة المعقمة والخزائن التي تسمح لكل طفل في المدرسة بخزانته الخاصة التي يحمل مفتاحها الشخصي ، ويتعلم الحفاظ على اغراضه ويكون مسئولا عنها ثم المطبخ الموصول بقاعة الطعام الضخمة التي تتغذى فيها كل المدرسة بنظام تغيير الشفتات. كأنها مطعم منظم لا يتعارك فيه الصغار عند المقصف للحصول على ساندويش او كيس شيبس او علبة بيبسي. كل طالب وطالبة يسيرون بنظام في خط متتابع لأخذ صينيتهم واختيار وجبتهم التي يكون ضمنها علبة الحليب او العصير ثم يدفعون الثمن الرمزي دولارا واحدا لها ويعودون الى الطاولات المخصصة للأكل. كانت التجربة الامريكية مؤثرة جدا لسارة وهي تحضر الحفل الموسيقي لمدرسة سلمى ابنة عائشة في قاعة المدرسة ذات المسرح الضخم والإمكانيات الهائلة وهي بالأصل قاعة الرياضة الداخلية التي تتحول الى مسرح أو قاعة اجتماعات عند المناسبات بينما هناك ملعب خارجي في الهواء الطلق وذلك اثناء الفصول الجوية الملائمة.
اما ما زاد عجبها اكثر عندما قالت لها احدى امهات الطالبات اربعينية العمر بأنها درست في هذه المدرسة في طفولتها.. وكانت المدرسة العريقة الحكومية التي يدرس بها جميع الأطفال من امريكيين أو وافدين كأبناء عائشة بالمجان ، تبدو كأنها جديدة وتتلألأ وتصغر عمرا وتبدو اجمل من مدارس يقل عمرها الكثير ولكنها تهاوت وعتقت في الوطن.. !!
كان منظر الصغار مجتمعين في نقطة التجمع لكل حي بانتظار قدوم الحافلة الأنيقة التي لا تدمر البيئة بدخانها الأسود ولا تراكم الأجساد الصغيرة في تكدس حانق ولا تدور بهم بالأحياء البعيدة قبل توصيلهم بيوتهم.. جميل وحافل وهم يدخلون الحافلة ملقين التحية على السائقة التي غالبا ما تكون انثى وعلى بعضهم البعض وهم يتلاقون اثناء خروجهم من بيوتهم والتقاءهم في محطة تجمعهم.
لقد جاءت بفكرة امريكا الخطرة العنيفة التي لا امان فيها.. ووجدت بلا مبالغة ان ونيسها اهازيج الأطفال وضحكاتهم البريئة وهم يلعبون ويمارسون التزحلق على العجلات الصغيرة او يلعبون مع اولياء امورهم في الحديقة المقابلة للسكن الطلابي حيث تمتد الخضرة والجداول والبحيرة التي تسبح وسطها البط والبجع.
كلما رأتهم على عجلاتهم يتسابقون او يتسامرون بمرح احست بصوت الحياة وبهجتها وانتشت من موسيقى اصواتهم واحست بالأمان والرغبة بالأغفاء على هذه الأصوات الملائكية الضاحكة حينا الزاعقة احايين اخرى.. !!
كان يحلو لها في ايام الربيع الجميلة ومع دخول الصيف التمشي بواسطة كرسيها المتحرك مع تماضر في هذه الطبيعة الساحرة والجلوس في الحديقة العامة واستنشاق رائحة الحياة والناس يرتدون الملابس الخفيفة وقد تحرروا من ملابس الشتاء الرهيبة وانطلقوا يتريضون ويركضون ويلعبون.

الثالث والثلاثون
لا يأس مع الحياة

نصحتها مس سميث الدكتورة المشرفة على مركز مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة بالجامعة على رؤية الطبيب بداية لتشخيص حالتها لمساعدة الطلبة المتدربين بالمركز على فهم اسلوب مساعدتها وتقديم الخدمات المناسبة لها. وذهبت لرؤية الطبيب بالعيادة الطبية الجامعية. ربما كان يوما سعيدا ومخيفا بآن واحد ، لقد تقبلت سارة وضعها لدرجة الاستسلام له والتعلق به لذلك فعندما قامت بعمل الفحوصات التي طلبها الطبيب قبل الكشف عليها لم تتوقع ما قال ، بل كان كالحلم : قال الدكتور وقد كان وجهه جامدا وعيناه الزرقاوان ككرتين زجاجتين ملونتين تعكسان جديته:
منذ متى الحادث.. ؟؟
ردت سارة :
تقريبا عاما ونصف.. !
- هل قمت بعلاج طبيعي في هذه الفترة.. ؟؟ وما هو.. ؟؟
كأنها سمعت شيئا غريبا قالت ساره بإنكار :
لا.. لا علاج طبيعياً ، تعودت فقط على تسيير اموري ، وساعدني برنامج الدكتورة سميث مع التكيف مع حالتي.
قال لها ببرود :
لم تقتعدين كرسيا متحركا.. ؟؟
قالت له بتهكم :
حتى اتحرك واستطيع قضاء احتياجاتي. وكيف اتنقل يا دكتور.. ؟؟
قال لها بنفاد صبر :
هل تدركين بأنك تفسدين على نفسك علاجك.. ؟؟ ان من الغباء ما تفعلين.. ؟؟ هيا اتركي هذا الكرسي وحاولي تمرين رجليك.. ؟؟
- ماذا تقول يا دكتور وهل كنت سأتأخر.. ؟ هل انا مدمنة على الجلوس على هذا الكرسي.. ؟؟ هل هو خيار مطروح.. ؟؟ إنه غصب عني..
- الم يقل لك اطباؤك إن مشكلتك في العصب وليس غير ، وعندما ينمو ستحل مشكلتك ، ونموه يختلف من شخص لآخر ولكن العلاج الطبيعي يساهم كثيرا في سرعة نموه. وجلوسك بهمود على هذا الكرسي يعطلك ويؤخر علاجك.
لم تستوعب سارة كلامه ، شيئا جديدا يطرح امامها لم تكن تضع حسابه ولم يخطر لها على بال.
تابع الدكتور وقد تحجرت عيناه الزرقاوان اللتان تضيئان وجهه البارد الخالي من الانفعالات ، والذي يتوجه رأسا نحيلا يقترب من الصلع ولكن باجلال :
هيا انهضي واستندي بيدك اليسرى على الممرضة بدون أن أن تتمسكي بشيء باليمنى. ألم تلاحظي إن رجلك اليمنى التي كانت رخوة سابقا بدأت تتماسك وتقوى. لقد عطلت علاجها وكانت تحتاج الى العلاج الطبيعي لتكون أكثر ثباتا وتجلدا.
وبصوت غاضب نهرها عندما لاحظ ترددها :
هيا انهضي ولن تستعملي هذا الكرسي ابدا ، هل تريدين أن تصبحي عاجزة.. ؟؟ ما هي مشكلتك.. ؟؟
تلعثمت سارة وكانت تريد أن تقوله له ، انها تكره الكرسي ولكنها اقنعت نفسها بقبوله ليس ككرسي بل كقدر ولم تكن تريد أن تفر من قدرها بل أن تتقبله ولم تكن تعلم بأن المسألة برمتها مختلفة فلم تفهم بشكل اساسي ما أصابها وكانت غلطتها الكبرى انها احتضنت فكرة ما طيلة مدة اصابتها وعاشت بها ولم تعلم انها تضلل نفسها. كانت تريد أن تقول له انها لم تذهب لرؤية طبيب منذ خروجها من المستشفى بعد الحادث وكانت ما زالت مروعة مما اصابها وقد اقنعتها سوء حالتها انذاك بأنها النهاية وقد حمدت الله وتقبلتها صابرة.
ما زالت مذهولة من هول الموقف ولم تستوعب بعد كلام محدثها أو أن تستوعب أن يخبرها أحد بلحظة ما إنك تستطيعين المشي ، وعليها التصديق.
وفجأة صرخت متسائلة :
هل تعني يا دكتور انني استطيع المشي مثلك ومثلها ، بشكل طبيعي.
هز الدكتور رأسه نافيا :
لا.. ليس مثلي أو مثلها ولكن تستطيعين ذلك ربما بعد سنة ، او خمس أو عشر ، لا أدري فمن يحدد ذلك جسمك وقدرته على التماسك وسرعة نمو العصب. ولكن مما أرى ورغم إنك كنت مريضة سيئة لم تمرني رجليك ابدا إلا إن هناك تطورا عجيبا فيهما وخصوصا اليمنى التى يمكنها التلاحم بشكل رائع خلال سنة من الآن ربما أما اليسرى فهي التي تحتاج الوقت الذي حددته لك للشفاء التام. الذي اريدك أن تقومي به ترك هذا الكرسي بالحال واستعمال عكازتين اثنين وتداومين على التمرينات بالعلاج الطبيعي هنا بالمستشفى ولا مانع من استمرارك مع الدكتورة سميث لأن لديهم برامجا أخرى مكملة للعلاج الطبيعي. هناك ايضا فيتامينات ومقويات تحتاجينها والاهتمام بنوع الغذاء وستعطيك الممرضة خطة غذائية تتبعينها. سأراك بعد ثلاثة اسابيع ومن يدري ربما تتحسن رجلك اليمنى بالقدر الذي لا تستعملين به إلا عكازة واحدة.
هل ستقف من جديد ، هل ستلامس الأرض ويمتد طولها في الأفق ، هل ستتخلص من تقرحات الكرسي وجلسته المؤذية ، هل سيتنفس ظهرها الهواء ولن يحجبه ظهر المقعد ، هل ستسمع وقع خطواتها بالأرض ، وهل ستتوقف عند محلات الأحذية مع صديقاتها وتشتري احذيتها الخاصة ، هل ستسير وتشعر بأنها حرة ولا يجرها مقعد لا تتسع الأمكنة اليه ويحجبها عن الوصول لمعظم الأمور.
لا يدري الطبيب انها قد تلقت المفاجأة الحلوة الأقرب الى الصدمة بحيث انها عندما خرجت من مكتبه توقفت وضمت كفيها بيديها ودفنت وجهها به وقد بدأت اعصابها تتشنج من الانفعال ، هرعت اليها موظفة الاستقبال وقد خشيت انها تلقت خبرا سيئا من الطبيب لم تستطع استحماله. كانت تريد أن تمد لها يد العون المناسبة وتخبر الطبيب اذا كانت مقدمة على انهيار ، جلست الى جوار سارة وقالت لها بحنو:
هل هناك ما يضايقك. ؟؟ هل استطيع مساعدتك.. ؟؟
قالت لها سارة ببراءة :
هل تستطيعين أن تفسري لي لماذا جررت بجسدي المتعب هذا الكرسي المتحرك لمدة عام ونصف وأكثر دون أن ادرك انني استطيع المشي بالعكازتين.. هكذا فحسب. ؟؟ ولم اخرت شفاء رجلي بجلوسي عليه لانني كنت حينها احتاج للمشي بالعكازتين لتمرينهما والعمل على نمو العصب فيهما ، هل تستطيعين أن تعرفي لماذا.. ؟؟

لم تتوقع سارة أن تتغير الفصول وتشرق الشمس وتنثر عليها رشات الأمل من حيث لا تتوقع ، ومن رحم انينها وتوجعها ويأسها. لم يصدق زملاؤها في الفصل دخولها عليهم واقفة هذه المرة بالعكازتين ، كانت فرحتهم غامرة.. لقد ضمتها الفتيات مجتمعات بينما تقافز الشباب صارخين بأماكنتهم. بينما جلست مدرستهم العجوز على كرسيها من هول الصدمة.
لم لم تخبرينا بأنك ستمشين ، الا ترين انها صدمة ، صدمة فرح.
كان زملاء سارة في معهد اللغة يتراوح اعمارهم بين التاسعة عشرة وأواخر العشرينات ، من جنسيات اسيوية مختلفة وجلهم من اليابان والصين وبعض الخليجيين. وكانت معاناة الدراسة وارهاقها وشجونها وتحديها قد ربطت بينهم برابط الأخوة والتعاضد.
كانوا يرون وجوه بعضهم البعض قادمة كل صباح بشيء من التعب والإرهاق ومشاعر شتى تتضارب بهم اهمها تحديد مصيرهم وقبول الجامعة بهم سواء للدراسة الجامعية أو العليا أو الاضطرار للترحال الى ولايات اخرى ومراسلة جامعاتها فدراسة اللغة ما هي إلا الخطوة الأولى للقبول بالجامعة وبدأت الدراسة الفعلية. كانوا نسيجاً تجمعه الغربة رغم اختلاف ثقافاتهم الكاملة إلا انهم هنا مجتمعون لهدف ومصير واحد.
أما تماضر وعائشة فقد انهمرت الدموع من اعينهما وضموها اليهم غير مصدقين بانها واقفة بطولها امامهم. يحيي العظام وهي رميم ، ولكن بين يوم وليلة وبدون توقع هذا ما ادهشهن تماما.
لم يتخيلن إن زيارة عادية لطبيب ستحدث هذا التغيير. وقد خشيت سارة من اعين زملائها في معهد التأهيل عندما تدخل عليهم فجأة وهي على رجليها وحتى ولو كانت مستعينة بمساعدة العكازين التامة إلا إنه تطور وخصوصا وإن معظمهم لا يستطيعون ذلك. ولكنها رددت في نفسها صحيح إن الأمريكان يحسدون ولكن عيونهم لا تضرب بمقتل.. على الأقل اتمنى ذلك.. !
فرح بها زملاؤها وجمعت الدكتورة سميث كل طلاب المركز لرؤيتها وفهم سبب تبدلها التام والتذكير بجهلها الاهتمام برؤية التطورات التي تحدث لها وأهمية مزاولة العلاج الطبيعي المناسب.
وقالت سارة تخبر الدكتورة سميث بانفعال :
إنه ساحر ، الدكتور باركر ، كيف جعلني امشي ، كيف استطاع بلمحة بصر أن يحولني من مقعدة الى فتاة واثقة من نفسها تستطيع المشي بعكازتين محترمتين.
ضحكت الدكتورة سميث ، وقالت :
يا لك من طفلة غريرة لا عجب أن يقع في هواك من يعرفك ، إنه عمله يا عزيزتي ، إنه مدرس في الجامعة وله ابحاث في هذا المجال ، وأنت حالة من العالم الثالث لا بد إنك لم تخضعي لإشراف علاجي جيد.
قالت سارة بفرح يطربها :
المهم انني امشي يا دكتورة ولم اعتقد يوما انني سأفعل.. لذلك فهو بطلي ولا استطيع أتصور ما فعله سوى معجزة.
ضحكت الدكتورة وقالت :
سأراه في مجلس الجامعة هذا الأسبوع وسأقول له إنك سحرت مريضتنا وحولتها إلى مخلوقة فضائية لا نكاد نعرفها اليوم.
وكانت سارة قد وزعت عليهم الحلويات العربية ذلك اليوم احتفالا بهذه المناسبة ، وقد احضرتها من المطعم العربي الوحيد في المدينة ، وددت لو تأخذ الدكتورة بالمناسبة بعضا منها للدكتور باركرعندما تراه في اجتماعهما المزمع ولكنها قررت اخذ صندوقا جديدا معها عند موعد معاينتها بعد اسبوعين.
عندما رآها الدكتور لم يخف اعجابه بتطورها.
أمم.. شيء عجيب فعلا يفسر انبهارك وحماستك كما وصفت الدكتورة سميث ، هل تتذكرين مجيئك هنا محطمة ومنكمشة على كرسيك المتحرك كأنك نازحة من بقايا حصار ما.
لم يعجب سارة سخرية الدكتور الواضحة التي لم تتوقعها منه وهو يحمل هاتين العينين الزرقاوين الباردتين ، ولكنه اردف ضاحكا :
فعلا. لا تعبسي بوجهك ، هذه الشابة المفعمة بالحياة التي اراها امامي تختلف تماما عن تلك البائسة الاخرى ، انظري لقد اشرت هنا في ملفك الى حاجتك ربما لعلاج مواز لنفسيتك التي اراها بحاجة إلى مساعدة ، ولكن الآن بما اراه امامي من تحسن قدرتك على المشي قد عوضت خسارتك السابقة بدون تمرين وحققت سحرك الخاص بحيث اثرت اعجابي فلم اتوقع أن يكون التحسن بعد مزاولتك المشي بالعكازتين أكبر كثيرا من توقعاتي.
ابتسمت سارة واحست انها بالفعل تغيرت من الداخل ، وتخففت من ثقلها ولم ينطلق ذلك من قدرتها على المشي قليلا فقليلا فحسب بل ومن تحرير نفسيتها وتخلصها من تراث ماض محمل بالألم والعتاب.
كانت تحمل للدكتور علبة فيها بعض الحلويات العربية وفوجئت بالدكتور يقول مبتهجا :
بقلاوة.. إنه احتفال مدهش بشفائك.
قالت له سارة بتعجب :
هل تعرف البقلاوة يا دكتور.. ؟؟
لقد تذوقتها مرارا في المطاعم ذات الأصول الشرقية اسرائيل ، تركيا ، اليونان. كذلك الفلافل والكباب ، إن هذا الطعام يعتمد على توابل غريبة بعض الشيء.
تضايقت سارة لانه لم يقل مطعما عربيا بينها وهي التي تعتقد طول عمرها إن هذه الأطعمة ثقافة عربية مئة بالمئة ، والآن اندثر التراث العربي والتقطه الآخرون وازيح تماما من الصورة.
وبعناد طفلة ، قالت بإصرار :
انه طعام عربي بالأساس. ولا بد أن تعرفوا بأمريكا فضل العرب ودورهم وليس فقط الثقافات الاخرى التي تأخذ الصدارة وتهمش غيرها.
لم يستوعب الدكتور انفعالها وغضبها بسبب تاريخ البقلاوة وانتمائها.
وازاح الصندوق الصغير الأنيق من امامه وقال لها يتابع عمله :
مما ارى إنك تسيرين بالطريق الصحيح. وأود أن اراك بعد ستة اسابيع.



الرابع والثلاثون
الحوار مع كريستين

كانت من تقاليد معهد اللغة تعريف الطلبة بمواطنين امريكيين لهدفين التدرب على المخاطبة والكلام مع اصدقاء عاديين من اهل اللغة التي يدرسونها عوضا عن زملائهم ذوي الألسن المعوجة والقواعد الركيكة والثاني للتعرف على الثقافة الامريكية بالاحتكاك بأهلها ، ويكون الشريك مناسبا للطالب حسب المواصفات التي يطلبها.
وكان نصيب سارة مع سيدة مهتمة بالحضارات الثقافية للشعوب وقد قابلتها سارة بادىء الأمر في كافتيريا الجامعة ثم اتفقت معها على ان تجعلها تلتقي ايضا مع سيدات مسلمات لتتطلع على الجانب الحقيقي لحياتهن.
وعندما حدثت سارة صديقتها عائشة ليقمن بترتيب لقاء لها بحضورهن في المركز الاسلامي بالمدينة ، اخبرتها عائشة عن تجربتهم السابقة مع إحدى الشريكات عندما كانت تدرس اللغة منذ سنوات. لقد اختار المعهد لها سيدة لها عائلة واولاد بما إن عائشة متزوجة ولديها اسرة ، ولقد فوجئت عائشة بأن هذه العائلة ركزت على اطفالها وقد اهدوهم كتبا من ضمنها الانجيل للصغار.. !! لقد صعقت عائشة واخفته عنهم وعندما تصفحته وجدت فيه كراهية عجيبة للفلسطينيين الذين يقطنون الاماكن المقدسة في فلسطين ويصفهم بالغوغائية وسفك الدماء ، وتساءلت ما دام رأيهم فينا كعرب كذلك فلم يصادقونا إلا لاذا كانوا يهدفون الى احتوائنا وخصوصا اطفالنا ما دام الحديث عن الدين ممنوعا في المدارس.
تدخل عبدالله زوجها وحذر سارة من الوقوع في حبائل هذه السيدة ، فربما لها اهداف أخرى.
ضحكت سارة وقالت :
انني كبيرة بما فيه الكفاية لئلا أقع في حبائلها ، وما رأيكم لو نرد السحر على الساحر ونكسبها لمعسكرنا ، على الأقل تغير نظرتها المسبقة عنا لتنقلها للآخرين.
كانت متعة التحاور مع كريستين بلا حدود وخصوصا وهي تسأل وتسأل وتبحث وكانت سارة مسرورة لانها تريد ان تعرف لا ان تفرض ما تعرفه. تناقشتا بالدين الاسلامي وكانتا قد لبيتا دعوة تماضر وزوجها وعائشة وعائلتها في البارك القريب من منزلهم وقد اعدوا الشواء ودعوا الأطفال يلعبون بالألعاب المخصصة لهم هناك بينما الرجال زوجي تماضر وعائشة يلعبان كرة السلة وتماضر وعائشة تراقبان الشواء وسارة وكريستين اقتعدتا كراسي المتنزه تتحدثان ، قالت كريستين :
إن دينكم صعب جدا على اتباعه. انظري الى ملابس الرجال المتزمتة في بلادكم العربية بالأثواب الطويلة والعباءة واللحية وكذلك النسوة اللاتي يخببن بملابس غير عملية و لا يكتفين بغطاء الرأس بل تغطية الوجه كاملا ، عدا عن التعاليم والفروض الكثيرة التي على المسلم القيام بها بشكل مزدحم وكبير.
قالت سارة :
سأقول لك الدين كما افهمه.. اعتقد بأن الله سيحاسبنا على احساسنا بهذا الدين وهذا يختلف من شخص لآخر ، مثلا.. هل تذكرين السيدات المنقبات التي رأيتيهن في المركز الاسلامي وانظري الآن الى تماضر التي ترتدي الحجاب فقط مع ملابس عصرية مكونة من بلوزة وتنورة وليس جلباباً أوعباءة ثم انظري الى عائشة وهي ترتدي تي شيرت بنصف كم وبنطلون جينز بينما لم تغط شعرها وتركته ظاهرا للعيان. كل هؤلاء مسلمات ونظريتي إن كل واحدة منهن سيحاسبها ربها بتفسيرها الخاص لمعنى الاسلام وتعاليمه حسب فهمها إياه وإنما الأعمال بالنيات ، بمعنى إن سيدة ما تكون مقتنعة بداخلها بأن الاسلام هو تغطية الرأس والوجه والجسم ثم لا تقوى على فعل ذلك وتخرج سافرة ،هنا اعتقد انها خالفت عقيدتها لانها تعرف بأعماقها انها تغضب ربها ومع ذلك تفعله. وواحدة اخرى تخرج سافرة ولكنها تفهم الدين بأنه علاقتها الروحية مع ربها ولا علاقة بالملابس وغطاء الرأس بالموضوع ، إنه تواصل بين العبد وربه فهنا في اعتقادي إن ذلك لا يخالف شيئا غير موجود لديها ، انها حسب العلاقة التي يشعر بها الانسان مع إلهه ولا يمكن ان يدينها احد ، لأن الله وحده الذي سيدين كل إنسان منا وهذا من خصائص الله ولا يحق للبشر الفتوى بها.
قالت كريستن :
ولكن هناك الكثير من المتعصبين الذين يدينون غيرهم لدرجة القتل بحجة إنهم كفار.
قالت سارة :
الذي اعرفه إن الله يقول لكم دينكم ولي دين ولو شاء الله لآمن من في الأرض جميعا إنك لن تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء لو كنت فض القلب لانفضوا من حولك.
كن يتكلمن ويتكلمن بالساعات ولم تستطع كريستين أن ترد عندما سألتها سارة كيف يكون المسيح جيسس هو الله في عرفهم اذا كان قد ولد طفلا فكيف يكون الأب اذا في نفس الوقت.. ؟
كانت الكنيسة تؤثر على حياة كريستين ، فمن خلالها استطاعت الحصول على منحة لمتابعة دراستها العليا بالجامعة ، وعندما تزوجت ساعدتها الكنيسة باقامة الحفل في قاعة احتفالاتها وما زالت الكنيسة تربطها بأنشطتها الاجتماعية التي تحل اوضاعها الاقتصادية وفي نفس الوقت تجندها لتكون منبرها ورسولها كالحال بتعرفها على المسلمين لسبر غورهم والتغلغل داخلهم وتحويلهم عن عقيدتهم إن امكن.
وقد كنت كريستين اعجابا شديدا للمسلمين جعلها تعيد التفكير في ما كانت تستنكره سابقا بسبب تربيتها الامريكية ، فقد فهمت لم التواعد بالاسلام يعتبر حراما وزنى لانها هزت رأسها وقالت انني افهم ذلك بعدما ارى المآسي التي تنتج من هذه العلاقات من حمل المراهقات في امريكا وانتشار الامراض بالمجتمع والتهتك في العلاقات وانهيار الأسر.

الخامس والثلاثون
الإجازة للوطن

كانت سارة قد انهت دراسة اللغة وتم قبولها في برنامج الماجستير حيث انهت ايضا ثلاثة فصول دراسية للخريف والشتاء والربيع وقطعت شوطا لابأس به من برنامجها الدراسي قبل ان يحين موعدها للسفر باجازة للوطن.
لذلك كانت عودتها بعد عامين الى الوطن وقد استطاعت المشي بعكازة واحدة حدثا فريدا مفرحا وله دلالاته على اسرتها الذين حمدوا الله في قرارة نفوسهم انهم اخطأوا التقدير وها هي تحقق ما يرفع معنوياتها ويهبها بعض العزاء..
فجعت سارة عندما وجدت حياة وضحة كما هي.. لم تتغير ، وخالد مازال طريح الفراش بالمستشفى بغيبوبته الممتدة التي تثور احيانا باضطرابات تخلع قلب والديه ليعتقدوا انها النهاية وبفترات هدوء يتمنون ان ينهيها الله بالشفاء والصحوة.
وجدت إن عبدالرحمن بعد زواجه من اخرى قد زاد توتر بيتهم ولم يزد دفئه وحميمته.
لقد تحولت فاطمة الى إنسانة اخرى هدفها فقط مراقبة ضرتها ، تحولت تلك الانسانة الرقيقة الى اخرى عصبية تعتقد بأنها اصبحت اقل مستوى وضعفت شخصيتها بنفسها واخذت تحارب بالجهة الخطأ.
وكما قال شقيقها غانم عندما جاء للسلام عليها :
إن عبدالرحمن مجنون.. إنه ككل الرجال يتزوجون طمعا بإضافة الجديد لحياتهم ويكتشفون بالنهاية انها نسخة اخرى مما لديه وربما اسوأ ، والأنكى إنه يفقد للأبد صفاء حياته السابقة التي بدل أن يحسنها يدمرها.
هكذا انتقل التوتر الى سارة وهي تعيش ببيتهم وتدخل بتفاصيل حياتهم التافهة التي يخلقون منها قضايا وهي لا تستحق الذكر. احست بالكآبة تعاودها ومن حولها بائس ومطحون بآلام داخلية كتب عليهم دمغها على جباههم ولا مهرب. وزادها عندما فتحت دولابها لتجد فستان زفافها وقد شمعته وضحة بالبلاستيك بعد ان نقلوا اغراضها بعد الحادث ووفاة والدهم من بيتهم الى بيت عبدالرحمن حيث إقامتها الجديدة.
عندما فكت البلاستيك عنه وظهر فستانها الجميل الذي لم تلبسه قط انفجرت آلامها الماضية وخيبتها بقدرها. هل يمكن ان يتم تفسير القدر.. ؟؟
وهل من سبيل لتقبل مفاجأته واستيعابها.. وهذه هي المشكلة.. ؟؟ فقسوته احيانا تشوش على فهمه وتبين الحكمة المختزلة فيه ، وتنشطر حياة الانسان وتتصدع رغما عنه ويصعب عليه فهم نفسه مرة أخرى.. !!
ولقد وقعت في فخ القدر عندما لطمها بصاعقة تخلى سالم عنها بدون توقع وحذر بل وفي وقت كانت في امس الحاجة اليه والى حنانه ودعمه. يا الله كم حطمها ذلك وقد اذلها امام الاخرين وقد احست انها منبوذة ومن من.. ؟؟ من سيكون زوجها بعد فترة محدودة كما هو متوقع.. !!! كم سحقها الاحساس بالنبذ والهجر وكم احست بالخوف والوحدة والخوف والكراهية لنفسها لانها ادانتها بلا رحمة وكانت تردد في هستيريا في سرها.. لو كان فيه خير ما تركه الطير.. !
وقعت من يومها في دائرة الذهول فالصدمة قوية وحتى لو لم تدر انها تواجهها وواقعة بدوامتها ، هل تستطيع ان تدعي انها تختبر مشاعر طبيعية. ؟؟
ابتعدت عن الاخرين وغاصت بالداخل وكانت دموعها تهطل في داخلها ولا تدري بأن ذلك سيظهر عليها بأعراض مرضية لن ترضاها. لقد خرجت من المستشفى وهي لا تعرف نفسها ، لا تعرف من هي وسط الناس..؟؟ لقد وضعت نفسها في قفص المحاكمة واخذت تجلد نفسها دون رحمة.. !!
هل نفهم انفسنا.. ؟؟ لو كنا كذلك لم يزدهر علم ثائر يتجدد كل يوم اسمه الطب النفسي ، ولما سجنت الأرواح في اقفاص وهمية وتأرجحت بين العقل والجنون..!!
من طرق التحايل على المشكلة تجاهلها وعدم الاعتراف بوجودها ولكن هل ينجح تجاهلها ويبطل ذلك تداعياتها وآلامها..؟؟ عندما يظهر دمل مزعج في الجسم ويتجاهله الانسان فهل يخفي ذلك وجوده وهل بالتغاضى عنه لن يحس بآلامه وتزايد حجمه وتصلبه قبل أن يأتي الحول وينفجر وينزف قيحه وصديده ، وهل عدم الاعتراف بوجوده سيعفي من الحاجة الى تطهيره وتنظيفه وعلاجه..؟؟
لقد حملت آلامها معها وهربتها عن العيون ولم يهتم مفتشو المطارات بما تحمله داخلها من احباطات وتوترات وانهيار.
إن تجاهلها للأزمة بداية حدوثها وتماسكها الغريب فاقم من المشكلة.. !! عدم مبالاتها أو تظاهرها بذلك كأن الموضوع لا يعنيها وكأنه تصرف طبيعي قابل للحدث ضخم تصدعها الداخلي وانبت سرطانات من الضبابية والضياع والفجيعة الموؤودة التي تم اخراسها بالقوة ولم تفسح لنفسها المجال الصحي للتفريغ والفهم والاستيعاب. كانت ردة فعلها لا ارادية لانها فزعت ولم تدر كيف تتصرف وقد احست بالوحدة فجأة بانحسار عالمها من جهة ومن جهة أخرى لانه لم يترك لها تفسيرا سوى إنه ينبذها وكانت لا تستطيع مواجهة النبذ بصراحة والاعتراف به أو طرحه على بساط النقاش لانها لم تعرف اسبابه ولم تستوعبها ولم تدرك بأن هناك غدراً ولؤماً وبحثاً عن فرص أخرى ، لم تصدق بقدرة الانسان على تجاوز العلاقات كأنها لم تكن وتبديل المشاعر بسهولة وتغيير العواطف والتنقل بالأحاسيس كان الموضوع استبدال سيارة بأخرى وملابس بغيرها وليس خلع ارواح وتهويم نفوس. كان كبرياؤها يفرض عليها ان ترسم ابتسامة عريضة وأن تواجه زائراتها من الانساب والأهل وهي في عز اناقتها وتجملها ، كانت لا تسمح للعيون بأن تنظر اليها بعطف وشفقة وكانت تقتلها تلك النظرات وتشعرها بالضعة والضعف وقلة الحيلة والبؤس. لا تطيق تفسير عيون الاخرين.. وكم تكرهها.. هل هي تساؤل ، فضول ، ام شفقة.. وكانت اسرتها فوق الخوض في مثل هذا التصرف ، وكانوا انبل من أن يناقشوه امامها او حتى يجرحوا احساسها بكلمة تعاطف ، بكل صمت لم يعلق احدهم امامها ابدا بكلمة عنه وكأنه لم يكن يوما قد وجد.. !!
في زخم الافكار وتتابعها رمت سارة الفستان من بين يديها كأنها تتخلص من آثار كل الماضي الأليم ، ونادت الخادمة لتبعث بأثر زوجة اخيها وعندما اتت ، قالت وهي تقلب الفستان بين يديها
اتذكرين هذا الفستان.. ؟
وتلعثمت فاطمة وقد عرفته ولم تعرف ما تقول عنه ، وتابعت سارة تكفيها شر الحرج :
هل تزوجت شقيقتك حصة أم لا.. ؟؟
جلست فاطمة قربها جنب الفراش وقالت: تقدم لها متزوج منذ فترة ورفضته وهي ترعى امنا الآن.
قالت سارة :
اتمنى ان يليق هذا الفستان على حصة عندما يأتي نصيبها ويكون عليها فأل خير، ولا يكون حظها كحظي. إنه كما ترين جديد وباهظ الثمن ولايهون علي التفريط به إلا لمن تستاهله وليس هناك اعز من حصة.
تمتمت فاطمة بالدعاء لأختها ولسارة وأن يفك الله نحسهما.
وللأحداث بقية





توقيع : بسمة
اللهم ارحم أبي و أمي وجدتي و أختي واغفر لهم واجعل قبرهم روضة من رياض الجنة لا حفرة من حفر النار
اللهم اجزهم عن الإحسان إحسانا وعن الإساءة عفواً وغفراناً
الأعلى رد مع اقتباس