..:.. مرحباً بك في شبكة الشدادين الرسمية ، ضيفنا الكريم يسعدنا دعوتك للانضمام والمشاركة معنا .. اضغط هنا لتسجيل عضوية جديدة ..:..


العودة   شبكة الشدادين > المنتديات الأدبية > منتدى القصص والحكايات
 
أدوات الموضوع
إضافة رد
قديم 03 Apr 2007, 07:56 AM [ 21 ]
مؤسس شبكة الشدادين


تاريخ التسجيل : Jan 2005
رقم العضوية : 1
الإقامة : saudi arabia
الهواية : رياضة + كمبيوتر وبس
مواضيع : 2071
الردود : 91524
مجموع المشاركات : 93,595
معدل التقييم : 4981السلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond repute

السلطان غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
فعالية ضوء عدسة

فعالية طلباتك أوامر

شكر وتقدير

فعالية مجموعات المنتدى

يوميات الأعضاء

التميز في دورة الفوتوشوب

شكر وتقدير

أجمل خط 1434 هـ




أرى أن في هذا الفصل تحاملاً كبيراً على الملتزمين

ووصفهم بالارهابيين

نسأل الله أن ينتقم من كل من شوه صورة المسلمين

ووصفهم بأنهم ارهابيين وذوو فكر قتل وترويع

بارك الله فيك أختي بسمة


توقيع : السلطان
الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 08:30 AM [ 22 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Sep 2006
رقم العضوية : 1850
الإقامة : saudi arabia
مواضيع : 86
الردود : 2423
مجموع المشاركات : 2,509
معدل التقييم : 25أسيل الحب is on a distinguished road

أسيل الحب غير متصل




بسمه


يعطيك العافيه


اكملي فنحن نترقب البقيه


واتمنى ان يسعفني الوقت لقراءة جميع الاجزاء


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 10:04 AM [ 23 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Nov 2006
رقم العضوية : 1994
الإقامة : qatar
الهواية : كتابة الخواطر
مواضيع : 1901
الردود : 9766
مجموع المشاركات : 11,667
معدل التقييم : 25بسمة is on a distinguished road

بسمة غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 3
العضو المميز

الحضور المميز

عضو مخلص





تداعي الفصول:-الحلقة السادسة-رواية للكاتبة مريم آل سعد:

الثامن عشر
الأحزان

انتقل الوالد علي الى رحمة الله.. .. وسارة وخالد والسائق يعانون من اصابات خطيرة ويخضعون لعمليات متفرقة ولم تتبين حالتهم الصحية بعد. عندما وقع الحادث كانت سارة صامتة وهي تحدق في نافذة السيارة ساهمة، كانت تشعر بأن حياتها فراغ صامت، جردت من نشاطها من العمل وأعيدت الى المكتب الذي يعلوه الغبار تحت ادارة رئيس قسم تشفى منها جيدا بلا سبب تعرفه، أم انها لا تفهم ان حركتها التصحيحية أساءت للكثيرين بمفهومهم وأغضبتهم فعلا وجردتهم من صلاحياتهم المطلقة وفوضاهم المصلحية التي لا يعرفون غيرها..؟؟ ان البعض موتورون منها ويحسون بأنها لطمتهم بالتعديلات التي احدثتها اثناء نشاطها في العمل ولم تكتف بذلك بل وصل بها الأمر الى تبليغ شكوى للادعاء العام..؟؟ انها جرأة تصل للوقاحة بنظرهم واستعد الكل لتوجيه لفت نظر اليها من نوع خاص، لطمات من هنا وهناك، بأسلوب ينم عن المضايقة واستباحة شئونها وامورها الخاصة، انها احيانا تشعر بأن لا خصوصية لها فالأضواء الكاشفة تندس حتى في تفكيرها وان ترجمته بصورة خاطئة لانهم لو فكروا بعقلها ومسهم تيار قلبها لما نسوا بشريتهم واستحالوا ذئابا مقنعة.
كان الوالد علي يسبح ويهلل كعادته، وقال يحث السائق :
لم يبق عن الصلاة سوى القليل يا كومار، لا تأخرنا عنها
وفجأة ظهرت سيارة مسرعة في المنعطف الذي على يسارهم حاولت السيارة القادمة في الطريق الآخر الموازي لهم تفاديها ولكنها دخلت فيهم في تصادم مروع.
كان في تلك السيارة ابنهم خالد بينما كانت السيارة الأخرى التي اعترضت الطريق ولم يصبها ضرر وتابعت طريقها مسرعة بعدما رأت الدمار الذي تسببت به سيارة تخص بعض الشباب الذين كانوا مختلفين مع خالد وأرادوا مضايقته بهذه الطريقة.
لم تفق وضحة من صدمتها وهي مدفونة وسط افواج النسوة المتوافدات للتعزية ببيت والدها الكبير وقد تنقلت بينهن زوجات اشقائها وبعض نسوة العائلة..
كانت تريد ان تتجاهل الهمسات..
ولدهم هو السائق المتهور
خالته في الأنعاش، وهو أيضا والله يعلم هل يعيش ام لا..؟؟
هل يدرس او يعمل..؟؟
ماذا عنه..؟؟
هذه فرصتهن للشماتة.. للانتقام من ظروفهن التعسة للاحساس بالانتصار ولو على حساب مآسي غيرهن. يلذ لهن الطعن بالآخرين و كشف مآسيهم و نقاط ضعفهم ومشاكلهم، كأنهم مصاصي الدماء، ايحب احدكم أكل لحم أخيه ميتا، للأسف انهم يحبون اكله حيا.. !! ، عندما يجدون شيئا في حياة احدهم ينتشون ويبتسمون بتشفي وتغمر وجوههم الفرحة كأنهم اكتشفوا ما يبهجهم بنقطة ضعف صديقهم.. !! يا لهؤلاء البشر، ان كانوا لا يرحمون غيرهم، فكيف يسألون ربهم الرحمة لانفسهم.. ؟
لماذا لا يتقون الله بالسلوك وليس بالقول فحسب، ويبتعدون عن نبش اسرار وخصوصيات من حولهم غير آبهين ان كانوا من اهلهم واقاربهم أو جيرانهم أو اصدقاءهم. انهم يتركون للفضول والتهيؤات والاسقاطات تحدد معايير تدخلهم بحياة الآخرين. فهم يسألون ويسألون ولا يدرون بأن هناك مناطق محرمة ليست لان بها ما يخجل وما يسيء بل لانهم لن يفهموها بشكلها الحقيقي ولن يروا الا الظاهر منها، وهل يلمون بكل شيء..؟؟ ولم يعرضوا انفسهم للاثم عندما يكشفوا المستور ويفهمونه حينئذ خطأ ويصدرون الأحكام عليه ظلما .؟؟ لم يوقعوا انفسهم بين براثن مرض اخلاقي شنيع اسمه سوء الظن..؟؟ انه جهل الناس وضعف ايمانهم وسوء وجدانهم واستخفافهم بحياة الآخرين وبحثهم عن الثغرات والبؤر وتلصصهم وارضاء نزعاتهم للشر واشباع كبتهم الموجوع. ان خضوعهم لأزماتهم الخاصة يضللهم ويدخلهم في متاهات الخوض في شئون غيرهم وارتكاب الاثم الأكبر بتسقط عيوبهم.
حتى عبارات العطف والمواساة التي ترددها تلك النسوة تشعر وضحة بأن بعضها مزيف ومغلف بمشاعر متناقضة، يقولونها من جهة بينما يبدون وكأنهم يحسون بالراحة بأن الزمن ينصفهم وهو يوزع مآسيه هنا وهناك بعيدا عنهم.
اخذت زيارات المستشفى من وضحة الكثير وهي تجرجر ضميرها المثقل
هل قتل ابنها اباها.. هل يغفر له جده ويسامحه..؟؟
وسارة المسكينة الا يكفيها حظها العاثر وخطبتها الفاشلة التي ضربتها بمقتل حتى تتسبب لها يا خالد بهذا المصير.؟؟
كانت مشاعرها نحو ابنها مملوءة بالغضب.. الغضب العاتي
هل ضروري ان تأخذ روح جدك معك، وتكاد تتسبب بمقتل خالتك التي لا يدركون للآن حجم اصابتها..؟؟
والروح البريئة الأخرى لسائقهم الذي امضى خمسة وعشرين عاما في خدمتهم والذي كان محظوظا عندما اصابته رضوضا وبعض الكسور، والذي بتماثله للشفاء مع تحسن حالة سارة واستعادتها لتفاؤلها وتحملها المصاب بايمان تام وطمأنتها لأختها بأنها ارادة الله وعندما اتضحت الخطوط والمعالم للحادث وتبين دور الغوغائيين الذين كانوا يكيدون لخالد بهدف ترويعه ومشاكسته، وعندما مضت ايام العزاء، وعندما خفت فجيعتها بوالدها حينها فقط استيقظت مشاعر أمومتها الحبيسة التي تراكمت عليها نفثات الغضب وتأنيب الضمير والخجل من مصاب الآخرين، حينها انجلى الغبار والتداعيات وخرجت المشاعر الحبيسة واخذت تبكي على ابنها ولم يكن بكاء.. كان نواحا واقرب الى الصياح.. !!
اغلقت ابواب حجرتها وتركت العنان لحنجرتها لتندب ابنا لم تبكه بعد.. !!
لقد نجا خالد من تهتكات في ضلوعه وساقيه وذراعه الأيمن واحتاج الى نقل كميات كبيرة من الدم.. الا انه دخل في غيبوبة لم يفق منها ابدا..!!
واصبح موجودا وغير موجود حاضر الجسد غائب الروح.
كما قال والده ملتاعا عندما اخبروه بالنبأ المفجع :. الأمر الايجابي اننا نعرف مكانه الآن
ولكن أي مكان.. !!

التاسع عشر
المكتوب على الجبين

عندما افاقت سارة من العملية بعد الحادث وجدت ابنتي اختها واخيها بجوارها حيث انشغلت امهاتهن وأباؤهن بالعزاء، وقد اتفق الجميع على اخفاء خبر وفاة والدها عنها وكذلك اصابة خالد حتى تتماثل للشفاء وتستوعب الوضع. كل الذي تتذكره سارة من الحادث انهم كانوا يسيرون بهدوء وفجأة كانت سيارة قادمة في الشارع المقابل لهم حينما انحرفت فجأة نحوهم لتتفادى سيارة اخرى انشقت الأرض عنها في المنعطف الآخر للشارع، ووقع تصادم مروع.
ثم صرخت فجأة كأنها تذكرت امرا : أبوي علي كيف حاله..؟؟ ماذا حدث له..؟؟
لم تستطع الفتاتان ذوات الأربعة عشر ربيعا الاجابة دون ان يتطلعن الى بعضهن بارتباك ويرددن بكلمات تلقينية : انه بخير، تعب قليلا وهو بخير، انه في المنزل الآن.
نظرت سارة اليهن بضعف، وقلبها غير مصدق، كانت ستطلب منهن الاتصال بالمنزل ولكنها ترددت لانها خافت أن تكتشف الأمر الذي تخشاه، وفضلت الصمت على مواجهة الحقيقة، فضلت أن تعيش الكذبة لانها غير مستعدة لمواجهة الواقع.
سألت مرة أخرى : وأين امهاتكن..؟؟
في بيت أبوي علي. سيأتون في المساء، لقد اخبرونا أن نهاتفهن عندما تفيقين.
لفتت فاطمة انتباه سارة الى وجود باقة ورد جميلة حملت ورودها الصفراء بهاء ذهبيا انعكس على لون الغرفة الأبيض ومنحه اشراقة متفائلة، تمتمت سارة :
انها باقة كبيرة حقا.
بتودد اخبرتها فاطمة : انها من سالم، انه يتصل للاطمئنان عليك منذ الأمس، وقال انه سيزورك عندما تفيقين.
ابتسمت سارة.. سالم، على الأقل احس اخيرا بأنها فعلا تحتاج اليه، ومثل ما يقول المثل.. القدوم متأخرا، أفضل من عدم المجيء بتاتا. كانت مستعدة لمسامحته على موقفه و هجره و ابتعاده، لا يستطيع الانسان محاسبة غيره على كل شيء، في النهاية انه بشر و يتعرض لتجارب كثيرة و مشاعر متعددة لا تكون واضحة من البداية للجميع.
تعودت سارة في الأيام التالية على البقاء برفقة البنات اللاتي يأتين اليها على فترات وعلى مجيء وضحة الخاطف للأطمئنان عليها ثم الخروج متعللة بالبقاء الى جوار والدهما وهي تداري انقباضها وحالتها العامة التي تنبأ بروح العزاء، كانت سارة تعلم بأن مكروها حل بوالدهم والجميع مشغولون حتى عن زيارتها، وكانت تتواطأ معهم على الصمت، وتدعهم يدارون عنها الحال لانها تعلم بأن انسكاب احزانها ليس جيدا لوضعها الصحي ، ولانها لا تريد التصديق بأن هناك احزانا أخرى سريعة ما زال يدخرها القدر.
وكلما سألت واستفسرت كان الجواب
ابوك علي بخير واخوانك والجميع.. كل احد بخير، فقط اهتمي بنفسك.
على الرغم من أن سالم اتصل مرة واحدة وهنأها بالسلامة وعرف منها تطورات وضعها الصحي ووعد بزيارتها قريبا ولكنه لم يحضر، ولم تر اخوتها الا بعد ايام مع اسرهم وقد كانوا واجمين نوعا ما، تعبين، مرهقين، كانت تحس بأن الأمور ليست بخير ولكنها لا تريد أن تعرفها وخصوصا والجبس في رجليها والأربطة حولها يشعرانها بالضيق والبؤس، ما بال رجليها الاثنتين مثقلتان بأطنان من الجبس والمسامير والحديد والأربطة، انها اوتاد تشدها الى سريرها وتحكم حصارها.
بالتدريج بدأت زيارت الأخوة وعائلاتهم تأخذ وضعها الطبيعي وأخذ اطفالهم يملأون المكان ضجة وصراخا وكان عبدالرحمن كعادته اكثرهم تماسكا ومرحا ولكنهم ما زالوا مصممين على عدم اخبارها بوفاة والدها، وقد اوجعهم بأن عليها ايضا تحمل اخبار غير جيدة عنها حيث ان رجليها ليستا على ما يرام والموضوع ليس بكسور وانتظار أن تلتئم فقط، انه اكبر من ذلك والأمر متروك لتقدير الأطباء الذين سيحددون قريبا حجم اصابتها.
في قمة ضيقها سألت سارة كأنها تتحرش بأخوتها وقد سئمت وضعها الصحي وبدأت تحس بالمخاوف التي تنقلها الأرواح المحيطة بها ونظرات العطف والألم التي تنطق بها وخصوصا وضحة التي انكسرت تماما وكبرت خلال هذه العشرة ايام سنوات عديدة.
قالت سارة بالحاح وصوت يمتزج بالغضب والبكاء :
اين ابوي علي.. ليس من المعقول الا يأتي لرؤيتي للان
قال عبدالرحمن وهو يطرد مخاوفها بلهجة عفوية سريعة :
لا نريده ان يراك وانت في حالتك وقلبه ضعيف لا يتحمل. شدي حالك وستدخلين عليه وانت في كامل عافيتك.
ثم غير الموضوع وهو يصفق بيديه لأبنائه يالله طابور واستعدوا للذهاب
قالت زوجته لا اله الا الله الذي يسمعك يقول عشرة.. كلهم ستة
قال عبدالرحمن : ومع عيال وضحة لاتنسين انهم سيبيتون عندنا الليلة.. سبحان الله عشرة
تذكرت سارة ان واحدا ناقصا من اولاد وضحة : وخالد لم اره معكم.. كيف حاله
حتى لا تخونها دموعها تسابق الجميع للرد عن وضحة
بخير. لا شيء.. إن شاء الله بخير
وبقي اثر دمدمات غير مفهومة بددها صراخ عبدالرحمن للجمع بالتحرك حيث ستظل وضحة لدى اختها في المستشفى حيث ستطل من جهة اخرى بين الفينة والأخرى على ابنها المسجى في غرفته بالمستشفى بلا حراك.
حان موعد معرفة ماذا حل بها وما تأثير العملية وما هي مضاعفات الحادث، ومن رؤية تجهم الأطباء ثم مناقشتهم التي وصلت لحد الجدل لم ترتح وضحة لما تسمع وترى بينما سارة وان كانت مطمئنة وتحمد الله على ما اصابها ولكنها تهيم احيانا بالتفكير، تشعر بالقلق احيانا ولكنها تكبحه باحساسها بغياب والدها وهي لا تصدق ما يقال حولها بأنه يتعافى من رضوض بسيطة وانه لا يقوى على رؤيتها على فراش المرض والجميع يمنعونه من التليفون حتى لا تتأثر مشاعره.
كانت تحس بأن هناك شيئاً اكبر مختبئاً بين دموع وضحة التي تعجز عن مداراتها، واحساسها بالذنب لمصابها، كانت نادمة لانها دعتهم ذلك اليوم لبيتها، وقالت لها سارة :
انه القدر.. !!
وبعد تردد وشعور بالذنب، اخبرتها وضحة كأنها تشي بنفسها :
لقد اخفينا الأمر عنك ولكن.. هل تدرين من الذي صدمكم..؟؟ سيارة من..؟؟
خالد.. ابني.
صدمت سارة بوقع الخبر وليس كما اعتقدت وضحة، بأنه تسبب بالحادث بل لانه ايضا تضرر منه.
وماذا حدث لخالد. ؟
بكت وضحة وغطت كفيها بيديها واخذت تنشج بالبكاء.
لم يكن سهلا على سارة تقبل الخبر ورؤية شقيقتها تنتحب امامها . لقد اخذن يبكين على كل شيء على خالد ووالدهما وحالهما واصابتها وكل مآسي حياتهما، تجمع كل الشقاء لحظتها وكان البكاء الحاد المنطلق من الجوف حادا وبدائيا وغير قابل للتوقف.
كان صباحا كئيبا بعد ليلة حزن مشوبة بالدموع.
تذكرت سارة خالد وهو الحفيد الأول لوالديها وكيف كانت فرحة الأسرة به، وكيف كان ملاكها وملكها المتوج حيث كانت براءته وحركاته وكلماته اكسير العائلة، لم يأخذ العمى عيني والدها تماما حينها وكان يستطيع الرؤية فكان يرافقه خالد ذو السنوات الأربع ويضفي على حياته رونقا تراه في حيوية والدها ومرحه. كانت تحبه وساعدت في تربيته حيث كانت تجلس معه اذا احتاجت والدته الذهاب بمشوار ما أو عندما انشغلت بحملها لفاطمة وولادتها، كان عزيزا عليها وجزءا من مراهقتها وشبابها.
يوما بعد يوم يزداد القلق ولا يوجد ما يؤجل معرفة المصير.
لا بد أن نعرف حالتها بالضبط يا دكتور..؟؟ ؟
بعد ان خرج رهط الأطباء لحقتهم وضحة مستفسرة ووجيب قلبها يتعالى والأنقباض يكاد يلجم انفاسها. كانت متوترة ولم تعد ترضى بقدومهم ورحيلهم وعدم مشاركتهم ما يرون لهم.
لا يبدو الأمر بخير..؟؟ ماذا بها..؟؟
بضيق قال لها الطبيب وهو غير راضي بالنتيجة
لن تمشي بعد الآن، هذا ما حصل.. . هناك اصابة بالأعصاب بكلتا الرجلين بنسب متفاوته.
- هل هناك علاج معين.. . عملية ما، نستطيع أخذها للخارج.!
- أي عملية لن تستطيع اعادة الأعصاب الميتة.
مادت الأرض بوضحة وكادت تقع على الأرض ولم تجد ما تتمسك به سوى الجدار الأملس بجوارها.
وبخيبة امل تجاوزها الطبيب دون مواساة ليلحق بفريقه فقد كان متضايقا بنفسه ولم ترضه النتائج.
ودارت بها الدنيا :
لن تمشي سارة مرة اخرى، وابنها اذا لن يفيق مرة اخرى كما أن والدها ذهب بلا عودة.
كانت وضحة مكانها عندما اخذت تجهش بالبكاء المر، تبكي شقيقتها وابنها ووالدها ونفسها.
لم تع الا وسالم واقفا امامها يدعوها للنهوض من الأرض التي تداعت عليها لدرجة انها جلست القرفصاء على ارضية المستشفى وهي تبكي، وتكومت داخل نفسها.
ماذا حدث..؟؟
وسار معها الى غرفة خالد وباحت له بما سمعت
كانت الصدمة قوية على سالم بشكل لم يتوقعه اطلاقا
ماذا تقولين لقد كلمتها هذا الصباح وكانت مستبشرة وتنتظر فك الجبس والعودة للمنزل
قالت سارة وعينيها منتفختين من بكاء بدأ من اسابيع ولم يتوقف :
لم تكتشف بأن رجليها ميتة بلا احساس بسبب الجبس الذي تم وضعة للحم العظام المكسورة، وبعد ازالته ستكتشف كل شيء وانها لن تمشي بعد الآن
تهاوى سالم مذهولا على احد المقاعد، بينما اخذت وضحة تلوم نفسها
انني السبب الذي صممت وتشاجرت مع والده ليسوق السيارة وساعدته على ذلك لوانني منعته وشددت عليه، لو.. .
قاطعها سالم يكلم نفسه :
انت غلطانة، كيف لا تستطيع سارة المشي مستحيل انت تتكلمين عن واحدة اخرى، واحده مختلفة، أنا لا اتصورها سوى تطير ولا تمشي انها لا تطيق الجلوس لحظة، يقتلها الصمت لا بد ان تحدث ضجة تفاعل لا يمكن.. أن يكون حالها كذلك
بعيون زائغة وقلب مكلوم رددت وضحة :
انه امر الله.. انه قدر ومكتوب.. لا شيء مستحيلاً والا قتلت نفسي وأنا ارى ابني مسجى لا يتكلم لا يتحرك كالميت.
وخرج سالم بينما تمالكت وضحة نفسها و اسرعت باللحاق به لتوصيه بألا يخبر سارة، سوف يضيفون هذا السر الى الأسرار الأخرى وفاة والدها و غيبوبة ابن شقيقتها على الأقل يزيحون الستار قليلا قليلا عن المصاعب لتنسيها الواحدة الم الأخرى.
عندما لحقت به وجدت قد اختفى وسارة وحدها تنتظر وضحة لتخبرها ماذا قال لها الأطباء. واعتقدت وضحة بأن سالم سيتمالك نفسه ويعود، ولكنه ذهب ولم يعد في اليوم التالي اوالأيام التي تليه.

العشرون
العجز

بدأت وضحة في توصيل الأخبار المؤلمة بالتدريج لسارة، ولم تجد صعوبة في اخبارها بأن والدهما قد فارق الحياة في التو واللحظة حيث الضربة كانت في ناحيته بالسيارة، فقد كانت سارة تدري بذلك وتحس به من كلمات الصغار ومن زلات اللسان ومن غياب الوجه المطمئن والدعاء الذي يتغلغل في جنبات السكون. وعندما اخبرها الطبيب بأن عليها زيارة طبيب آخر بعد خروجها من المستشفى وعمل موعد معه في العيادة الصباحية وذلك لان عملهم انتهى هنا، وهناك خلل في رجليها فضمور العصب يتراوح بين السبعين والثمانين في واحدة وبين الثلاثين والأربعين في الأخرى بمنطقة الساقين من الركبتين وحتى القدمين، مما يعني بأنها ستجلس في الكرسي المتحرك طويلا لم يكن تقبلها للأمر جيدا.
فقد كان صدمة فاقت كل تصوراتها.. لقد انهارت بالفعل وتهاوت قدرتها الدفاعية وتحديها للمصاعب واستسلمت للعجز.
تخاذلت وتقبلت مصيرها كأنه عقوبة ما ، ولم تحاول التمرد على المرض، البحث عن علاج، ورفض الأسلوب الذي اتبعه الأطباء، وطلب البديل.
فقط انكمشت مكانها بينما سارة تخبرها عن خالد وكيف هو ليس بالميت أو الحي، يذبل بين ايديهم دون أن يمدوا له ساكنا.
حال افضل من حال وقضاء احسن من قضاء
هل سهلا ان يتقبل المرء انه فقد فجأة القدرة على المشي والحركة
هل سهلا ان يبقى الانسان حبيس كرسي المقعدين
لا انه ليس سهلا والتعود عليه يحتاج قوة ضخمة وايماناً ثابتاً مبنياً على القناعة والرضى.
لا بد ان تجري تسوية مع الأقدار تهون عليها مصابها وتجعلها تقبل الواقع
من جهة عليها الامتنان بأن عمودها الفقري لم يكسر ولم تتهشم رقبتها او بمعنى عام نجت اجهزتها الحيوية وتمت معالجة الخدوش والاصابات الجانبية وكانت العمليات فيها ناجحة بصورة رائعة.
اعاقتها شكل طبيعي لقوة الحدث ويجب الا يعيقها عن مزاولة الحياة العادية ولتعتبر انها منحت28 عاما لتتمتع بنعمة المشي الطبيعية والآن حان موعد تجربة اخرى عليها خوضها.
لماذا لا نتوقع انه في يوم ما سنموت اونصاب بعاهة ولماذا نتكلم عن ذلك بالمجاز ونعتقد ان ذلك حقيقة بديهية معروفة ولكن.. وما ان تحدث لنا او لاحد أعزائنا صرخنا.. فجعين.. لماذا يا رب ما زال شابا.. وما زال هناك وقت
تبدو لنا الأحداث منطقية عندما تحدث للآخرين ولكنها لا تصدق ولا يمكن استيعابها ان حدثت لنا؟؟ هناك فرق كبير بين ما نعرفه وما نستوعبه بالفعل.. ما نوافق عليه وندعي القدرة على مواجهته وبين مواجهته بالفعل.
هاهي تنهار تماما ولا يمكنها التكيف مع هذه الحقيقة.. ان الحوادث تقع يوميا لآلاف الناس وهذا معروف ولكن ليس لها.. هذا كابوس.. لقد كانت تمشي وتركض وتشعر بهاتين الرجلين منذ اسابيع قليلة فقط والآن فقد فقدتهما الى الأبد..؟؟
كيف تتصرف.. كأنها ماتت وتمت ولادة شخصية اخرى مكانها.
المسألة ليست ان الأولى قادرة على المشي والأخرى عاجزة عنه.. بل ان الأولى كان لها طموح بالزواج وانجاب الأطفال والترقي بالعمل والنجاح بالحياة الاجتماعية. وقد كافحت طيلة 28 عاما الماضية على تكوين شخصيتها وذاتها، وكان امامها طيلة الوقت تصور معين لا يتجزأ منها خلق تلك الانسانة التي تجمدت وتفجرت حياتها يوم الحادث ولم تعد كما هي ولن تعود بينما الثانية.. لا يحق لها الزواج ومستحيل ان تنجب و سوف يقدم لها طلب التقاعد فور خروجها من المستشفى لأنها لا تستطيع بهذا الوضع والنفسية على الاستمرار بالعمل. !
فجأة اصبحت خارج اطار المخطط العام الذي يشكل حياتها.!
اصبح هذا المخطط خاليا فقد فارقته صاحبته وحلت محلها اخرى.. لا تملك سوى الحمد بأنها حية وتستطيع بالارادة والصبر والمثابرة ان تعيد المخطط الفارغ وتملؤه بصور واحلام جديدة كما قال طبيبها:
لم تبق الا مواعيد العلاج الطبيعي وتقرر خروجك من المستشفى.
ولم يعد بيت الأسرة بيت والدها موجودا فسرعان ما دخل في الإرث الذي تم الاستعداد لتوزيعه بين الورثة.. وتم الأتفاق بين اخوتها على اقامتها في بيت شقيقها الكبير على اعتبار ان بيته اكبر.
وتم تخصيص غرفة لها بالطابق الأسفل وتجهيزها لتكون مهيأة لاستقبال معوقة وتم نقل حاجياتها وملابسها واغراضها حتى الانسانة الجديدة لا تملك اختيار بيتها ولا ترتيب اغراضها.
ليس لديها اعتراض اوقدرة على المناقشة وهي ترى مصيرها يقرره غيرها بينما يتولون النقاش والخلاف والاختيار بدلا عنها.
اخرجوها من خانة اصحاب القرار وصناعه وتحولت الى الضحية المريضة التي عليها تقبل وصاية وشروط الأصحاء، لانهم بحكم قدرتهم على الحركة والمشي قادرون ايضا على التقرير واطلاق الأحكام.
كانت مستسلمة.. تشكر العطف بتقبل العاجز المحطم، وتريد ان تتعافى من جروحها وجبسها تماما وتتدرب على التعامل مع الوجه الآخر للعالم الذي لم تقابله من قبل.
بين فترة واخرى كانت تستقبل القادمين للتعزية بالمصاب أوالتهنئة بالنجاة.. يملأون الغرفة بالضجيج والورود والحلويات، وعندما يرحلون.. يبقى الفراغ موجودا يحتاج لمن يملؤه بالقوة والحكمة والتحمل.
ياالله ما كانت تحذرها أمها منه قد حل.. !! هذا هي بدون بيت وبدون عائلة خاصة بها وحدها، تحت رحمة كما كما كانت امها يرحمها الله تقول.. زوجة اخيها.. !!
كان اختفاء سالم مشينا بينما سارة في هذه الظروف، وقد استاء اخوتها منه لدرجة انهم تقبلوا في البداية حضوره للعزاء في والدهم وتماسكوا عن سؤاله سبب اختفائه المدة الماضية وعدم تبريره لتأجيل زواجه أو بالأحرى تصدده عن الكلام بالموضوع مما يشي بعدم احترامهم وتقديرهم. ليعود مرة اخرى للأختفاء والتسلل من المستشفى عندما علم بحالتها الصحية.
_ انه بلا قلب، بل انه نذل ليتصرف هكذا، كيف يتخلى عنها بهذه السهولة ويفر من المسئولية بلا أدنى حرج.
كانت وضحة حانقة اكثر من الجميع لانه جاء خاطبا عن طريق زوجها، ولانها لم تترك لسارة متنفسا للتفكير بأي رأي أو مراجعة لموقف بل ضغطت عليها نوعا ما لتقبل وكانت توصيها دائما بأن تغفر وتنسى وتتغاضى عن أي هفوات، فالزواج تنازل وتسوية وتسامح. وبعد كل صبرهم عليه وتجاوزهم لعثراته يتجاوزها ويرحل بدون حتى أن ينظر خلفه ويهتم لأمرها.. !!
كانت تفرغ ما بداخلها عندما يأتي أحد على ذكره بينما تقول ساره عندما يذكره أحد:
الحمدلله ان الأمور ظهرت من البداية، لقد كان من قبل الحادث وهو يناور، شيء في داخلي يقول ان ذلك في صالحي رغم بشاعة تصرفه. لم نخلق لبعض فنحن مختلفان وتزداد تناقضاتنا مع الوقت. ان ما يجرحني ليس تركي بل اسلوب هذا الترك.. !! لم لم يصارحني برغبته بالانفصال ولن اغصبه على البقاء..؟؟ لم لم يحرر وعده برجولة وشجاعة.. ؟ ولم اختار الهرب لو صارحني بالانفصال كنت سأحترمه لانه احترمني و نفترق كأخوة وأهل.
لقد اشعرها بهذا النبذ بنقصها، بمرضها، بعاهتها، بوحدتها، احست كأنها طفل يتخلى عنه ابويه، انه لن يلوم ابويه لعدم انسانيتهما وأنانيتهما ووحشيتهما بل سيلوم نفسه وسيعتقد بأنه طفل كريه لدرجة ان اهله لم يرغبوا بالاحتفاظ به.
لو فيه خير ما رماه الطير.
تتذكر المثل وتزداد بؤسا وكآبة، لم يكن اول من يفرط بها، ها هم في العمل استغنوا عنها ولم تشفع لها سنوات خدمتها ومشاريعها الطموحة واحلامها العريضة.. كل ذهب وبقيت مكانها.
بعد ان خلع الجميع رداء العزاء على والدهم البسوها اياه ولم تخلعه.
لم يكن تقبل واقعها الجديد سهلا انه اسوأ مما يمكن تخيله. هكذا انهارت سارة واعتقدت انها النهاية حينها..
عندما اصابتها الكآبة بعد الحادثة وهيضت كل شجونها ومتاعبها والبستها ثوب الشجن والأحزان.. احست بأنها تتفهم من يقدمون على الأنتحار لا شيء يشدهم للحياة. تعيش لأجل ماذا..؟؟ لا بهجة، لا متعة، لا مستقبل، وقد فقدت ما يملأها بالقدرة على فتح عينيها كل صباح والنهوض من الفراش.
انه احساس بفقد الانتماء للدنيا وبخوائها وبشاعتها.. هو احساس بالألم من مواصلة العيش.
ألهذا هي فريسة للقلق والهواجس. لأنها تقع باستسلام مذعور في فخها ولا تحاول المقاومة ولا تملك الأيمان الكافي بعدم حدوث ما تخشى. ؟ ولكن هناك دائما بصيصاً من نور.. فكثيرا ما تيأس من امرا ما بشكل مطلق وصارم لتكتشف بعد حين انها كانت تبالغ بقلقها وتزول الغمة ببساطة كانها لم تكن. في البداية لم تعتقد انها ستستعيد سلامة وجهها وبهاءه بعد الحادث واعتقدت ان الرضوض والخدوش ستترك آثارها عليه الى الأبد. ظلت مقتنعة بذلك بعناد شرس ونفسية محبطة تميل الى السوداوية واطلاق الأحكام المطلقة والركون الى الاستسلام والانهيار ثم شفت وتجددت وكأن جروحها لم تكن.
ان افتراضها اسوأ النتائج وتوقفها عند ذلك هو مشكلتها.. لا تعرف الا اسوأ التوقعات وتصديقها ربما عليها التوقف عن التمادي بالتفكير ولكن كيف وما هي الوسيلة.؟؟
باتت تعرف ان الايمان الحقيقي بالله لا يعني الصلاة والصيام وخوف الله وطاعته واداء فروضه فحسب.. بل امتلاك قدرة عجيبة سحرية أخاذة اسمها الايمان بوجوده ورحمته ومعجزاته ونصره ومساعدته وتغييره للحال للأفضل. تؤمن بالروح المقاتلة بأمل وعدم الأستسلام والرضا بالهزيمة.. تؤمن بالمحاولة تلو الأخرى والتحلي بالشجاعة للمجازفة والتغيير. رفض العجز ومحاربته وعدم السماح له بالانتصار.. بل مماحكته والأستهانة به. لم لا تستطيع ان تكون اقوى من هذا الكرسي ذي العجلات وهذه العصيات الحديدية؟؟ لم لا تكون اكثر مكرا من الاصابة وتهزمها بالاستهانة بها ولم تغمر حياتها بالكآبة والسوداوية..؟؟

الواحد والعشرون
القلب لا يخبر الخير

كانت وضحة تريد دفع الأيام للتحرك.. تريد استهلاكها بسرعة، تريد ان تنفض الرزنامة اوراقها وتتساقط الأيام والتواريخ عنها كما تتساقط اوراق الشجر
تريد للأيام ان تمضي وتسرع بالأنطواء
هل غريب هذا الأحساس.. تمني ان يمضي العمر بسرعة
لمذا تريد ان تطوي الأيام كبساط طويل ممدود الى ما لانهاية وتريد اعادة لفه..؟؟ هل تريد ان تكتشف الى ما يقود..؟؟
ام انها تريد انهاء مهمتها و تنفيذ كل المقدر عليها وعدم الانتظار.. الانها لا تطيق الانتظار، أم لأنه لا يوجد ما تتمسك به وتتمنى ألا تنقضي اوقاته من متعه وروعه..؟؟ أهي عادتها بضرورة انهاء المهمة المكلفة بها وعدم الراحة دون اكمالها.. هل هو التوتر الملازم لها والذي ازدادت حدته مع الأيام..؟؟ هل هو مرض خالد الطويل.. والرغبة في كسر ترقب الشفاء وعدم القدرة على المزيد من الانتظار..؟؟ لقد كان يملأ حياتها بالخوف والآن تعاني خواء المرارة والخيبة.
ام هو الدخول في مرحلة البحث عن كينونة الحياة.. البحث عن نفسها.. البحث عن معنى جديد للوجود وقد كبر الأبناء واصبح لهم عالمهم الخاص وشخصياتهم المميزة ورفض تدخل والديهم فيها، وقضاءهم معظم الوقت بعيدا عنها في مدارسهم او غرفهم او مع اصدقائهم وفي بيت اخوالهم، وانفراد زوجها في وحدته وقضائه معظم الوقت في العزبة التي يرعى بنفسه مع خدمه نخيلها واشجارها وحيواناتها مبتعدا عن ضجيج الأولاد والمدينة والناس.. !!
لا تدري سوى ان دقات الساعة الرتيبة انتقلت الى رأسها واعصابها وباتت تحس بها في عروقها.. تك.. تك.. تك..
انها تعلم ان كل شيء بأوانه.. الأمور تحدث في وقتها المناسب المكتوب لها
انه جزء من ايمانها العميق بالقدرية
ما يحدث لنا يحدث في وقت معلوم لا قبله ولابعده
لا يفيد الاستعجال ولا الدفع ولا فرض الاحداث والتسريع بها
لن تحدث الأمور الا في ميعادها الموقوت
تعلم كل ذلك ولكن لا تستطيع ببشريتها التوقف عنده وعدم السعي للاسراع به، لا تستطيع الشعور بالرضا التام عن كل شيء حولها والاطمئنان والاستقرار والنوم قريرة العين.. ان ذلك ليس من صفاتها.
ان هناك جلبة داخلية تضج بها اعماقها.. شعور بالفزع داخلها يصيبها بالتشنج كلما بحثت عن الهدوء والدعة. تحملها المسئولية ومحاولتها التستر على كل الأمور التي يمكن ان يسببها الأولاد والخدم وتثير توتر زوجها وعصبيته الجهنمية، يكفي انه ما زال يلسعها بين فترة واخرى بسياط اللوم على نصيب خالد، وينتقد زياراتها الطويلة له في المستشفى :
الآن فقط عرفت ان لك ابناً تضيعين النهار كله في المستشفى معه.. عندما كان موجودا.. لم لم تلزميه بالمنزل ما دمت تحبين رفقته.. انظري لمصيره.. انظري لتربيتك، نساء خفيفات العقل لديهم ابناء عقلاء صالحون، وانت.. هذه تربيتك
كان صوتا يصرخ في اعماقها يريد أن يرد عليه مؤنبا.. وانت..؟؟ اين كنت من حياة ابنك..؟؟ ولم لم تتواجد فيها..؟؟ لم لم تصادقه وتدخل حياته بدلا ان تبعده بالخوف والعصبية وتنفره منك وتدفعه الى الهرب للخارج..؟؟
لكن صوتها كان محبوسا ومذبوحا تشعر به يتقلص من الألم.. !!
كانت زياراتها اليومية لخالد ضرورية له مع دخوله في غيبوبته الطويله، لانهم اخبروها بالمستشفى بأنه يشعر بذبذبات الأرواح من حوله، لذلك تزوره و تقنع احيانا اخوته بزيارته للحديث معه ومخاطبته والتكلم عن أي امر يحلو لهم.
كانت تحس بالراحة النفسية بعد كل زيارة تقوم بها، عندما تحدثه كانت تكلم نفسها معه، وتفهم امورا عنها وعنه وعن حياتهم، كانت تذكره بطفولته وكيف عندما حملت به كانت بدون وعي منها لا تثق بقدرتها على انجاب طفل حقيقي. فكانت خائفة من التجربة، ومن الكائن الذي تحمله في بطنها. كانت صغيرة السن عندما تزوجت وحملت ولم تدرك بأن الامومة صنع الهي لا تستطيع تفسيره.
وعندما جاء الى النور ووضعته الممرضات بين ذراعيها لم تصدق ما تراه.. لم ترى ابدا طفلا في جماله..! عيناه السوداويتان ورموشه الطويلة وشعره الأسود الناعم المنسدل على وجهه وبشرته البيضاء المضيئة. هل كان ملاكا بين يديها، لم تسمح لأحد بمسه بعدها.. !! لقد تحولت الى جارية في بلاطه.. !! كان مركز الكون لديها، الآمر الناهي.. !!!
ولم تكن هذه ميزته الوحيدة بل كانت الأولى حيث كان ذكيا بشكل لا يصدق.. !! يسبق عمره وربما هذه مشكلته، انه نضج قبل الأوان وفي المرحلة الاعدادية اعتقد انه كبر وفي الثانوية قرر انه رجل عليه العمل وعدم تضييع وقته بالدراسة..!!
كانت تكلمه وتخبره عن الطرائف الجميلة في طفولته عندما كان في الرابعة من عمره وقد قررت جدته ذبح حمامة مصابة وجدوها في حوشهم، لقد جعل امه تكتب رسالة الى جدته تقول : لماذا ذبحتم الحمامة..؟؟ وما زال حنونا عطوفا على الحيوانات. انها تتذكر القطط والكلاب المصابة التي يصادفها في الحي ويحضرها لهم ويجبرهم على تمريضها واطعامها بينما لا يتفرغ لها ولا تطيق هي وخدمها مجالسة الحيوانات وتخاف على اطفالها الآخرين منها لانها قد تكون مريضة أوما شابه.
تظل تحدثه بالساعات، تبكي احيانا، وتضحك احيانا، وتلوم نفسها احايين اخرى، ولكنها تظل تتحدث وتتساءل وتفكر وتنظر اليه ويتقطع قلبها وهي لا تستطيع اطعامه أو رحمته من قسوة الأسلاك المعلقه حوله. كانت تقول للقدر :
انه ما زال طفلا مراهقا بسنواته السابعة عشرة، ما زال غضا يتصرف بحماقة لصغر سنه ولا يستحق ان يقضي عمره وشبابه مغيبا بسبب رعونة صبية وطيش مراهقة. انه ثمن أفدح مما يستحق وعقوبة أكبر من المفروض. انه اسئصال لمراحل من حياته وطيها بلا رحمة. لم يكن سوى طيشا ولكن الثمن فادح.!
لم يكن احمد يخرج كثيرا ولا يطيق الزيارات الاجتماعية أوقعدات المجالس ويعشق خلوته الخاصة وعالمه المثالي الذي يتناغم معه ولا يعرضه للاحتكاك بالآخرين. وكانت زياراته نادرة لخالد لانه لا يشعر بتغيير بوضعه ولانه مطمئن لقيام والدته بالواجب وأكثر.
لذلك فوجئت وضحة بدخوله المستشفى عليهما ذلك الضحى وكانت كعادتها جالسة بجوار خالد على السرير ممسكة بيده المسجاة بلا حراك تمسدها وتحكي له وتحكي بصوت هادىء يمتزج احيانا بالمرح او الحزن المشوبين معا باللوعة.
دخل احمد وتأثر من منظرهما، وآلمه غياب ابنه الذي طال والذي لا يعرف احد غير الله مداه، التقت نظراته بوضحة التي تنهدت كأنها تقول : هناك امور ليست بيد الانسان ولا يملك لها حولاً ولا قوة.
كأنها جلسة عزاء ادارها القدر بلا ترتيب سحب احمد كرسيا وجلس عليه قبالتهما، وساد صمت معبر لو كانت المشاعر تتكلم لفجع المستشفى من قوتها ولو كان قلباهما يتكلمان لدوت صرخة مدوية تحمل حرقة والدين فجعا بابنهما البكر الذي ارتشفا معه طفولته المزهرة وحكاياته العذبة ومقالبه الطريفة وقاسيا بدون رحمة لسلسلة من العذاب والقلق والحيرة.
وانحدرت دمعة حاول احمد مداراتها، وغصت وضحة بأسى:
انها المرة الثانية التي ترى دموع احمد وكانت الأولى بعد وفاة والدته، هل هناك ما يعاني منه خالد.؟؟ هل استدعوه المستشفى..؟؟ هل خالد يعاني من مضاعفات ما..؟؟

وللأحداث بقية



توقيع : بسمة
اللهم ارحم أبي و أمي وجدتي و أختي واغفر لهم واجعل قبرهم روضة من رياض الجنة لا حفرة من حفر النار
اللهم اجزهم عن الإحسان إحسانا وعن الإساءة عفواً وغفراناً
الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 10:06 AM [ 24 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Nov 2006
رقم العضوية : 1994
الإقامة : qatar
الهواية : كتابة الخواطر
مواضيع : 1901
الردود : 9766
مجموع المشاركات : 11,667
معدل التقييم : 25بسمة is on a distinguished road

بسمة غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 3
العضو المميز

الحضور المميز

عضو مخلص





تداعي الفصول الحلقة السابعة) رواية للكاتبة: مريم آل سعد ......

الثاني والعشرون
الهوة

لم تتغير حالة خالد الصحية و إن كانت تعرضت لانتكاسات بين الفترة الأخرى ولكن إيمان وضحة بالله يقوي عزمها وخصوصا وذلك الإحساس الذي يخامرها ويمدها بالأمن والسلام يهون عليها ويبشرها بأن الله موجود ويرعاه بوسائل لا يتبينها البشر.
وكانت سارة قد امضت ستة اشهر في بيت ( عبدالرحمن )، بدأت حالتها النفسية تسوء بالتدريج وخصوصا وقد بدأت تستوعب بأن وضعها الصحي كعاجزة قد يطول كل عمرها وعليها تقبل الأمر والعيش فيه. كانت كوابيس حياتها الماضية تنقض عليها مشحونة بالغضب من أناس ادانوها بلا سبب مفهوم. والبسوها رداء الشعور بالمهانة والضعة والدونية لجريمة تريدهم ان يفسروها لها..؟؟
قذفوها في قفص الذنب.. دون ان يبينوا لها ما هو بشريعتهم ومفهومهم لعلها تتفهمهم وتعطيهم مبررا لذلك العدوان والتآمر والدسائس.
ما اقسى ان يدفع الإنسان لشبكة التعذيب مع ايهامه بأنه اقترف ما يستحق ذلك، ويترك وهو يتخبط.. باحثا بصدق عما اقترفه..؟؟ هل هناك جريمة ابشع من اقناع الإنسان بأنه مخطئ ويستحق العقاب ويحاسب ويحاكم وهو لا يدري ما هي جريمته بالفعل..؟؟
لم تكن تعرف انها كانت قاسية على نفسها الا عندما بدأت تمرض. كانت اعراضها غريبة تقلصات تظهر واضحة على رجليها. العروق تبرز وتتضخم وتتصلب وتشعر كأنها تشنجات تحكم على ساقيها بمزيد من العجز والتهالك.
لم تكن تعلم بأن توترها وضيقها ينعكس على صحتها ايضا. لم تعتقد بأن الحزن عندما يكبر ويتشعب ويسكن النفس، وإن الإنسان عندما يفقد الأمل ويستسلم لمشاكله ولا يقاومها يكون عرضة للأمراض المرتدة. لم تكن تدرك انها استسلمت للظروف، وكم عاقبت نفسها دون ان تدري.. أوتراها تدري..؟؟ ولكن لِم تجاهلت عذابها وتركته يسيطر ويضغط عليها..؟؟ إنها في الواقع عاقبت نفسها لأنها شكت فيها والكل ضدها لا يمكن ان تكون وحدها على صواب وكل الآخرين الذين ضدها مخطئون..!! لقد كرهت نفسها ولامتها وحملتها سبب هذه العزلة التي تعيشها والتي لا تدري هل هي التي ابعدت الناس عن عالمها ام هم من ابتعدوا عنها..؟؟ لا اهمية لكونها محقة في ما فعلت او انها بالغت اواخطأت في ردود افعالها وتصوراتها وظنونها، النتيجة واحدة أنها وحيدة ولا يمكن ان ينجح الأداء بدون متفرجين..!! كيف تعرف الصدى إذا كانت في كهف مهجور مظلم لا يصلها سوى صوتها المشروخ..؟؟
ان المعاملة العجيبة التي احاطتها بالعمل تريد معاقبتها ومطاردتها بسبب ما تجرأت على كشفه وإزالة اللثام عنه، وإن تهجم العيون النهمة والألسنة المتحذلقة حطمت اعصابها وفصلتها عن المحيط الإنساني بما فيه الكفاية. اصبحت في حجرة متعددة المرايا تشاهد ملايين الصور المنعكسة عليها لصورة واحدة تشوهت بفعل التردد والانعكاس المتناسخ. اصبحت لا تعرف ما يحدث وكيف يحدث ومن معها ومن ضدها. وهم كثر يتناسلون فاتحين افواههم يترصدون ردود افعالها، منقبين عن فواتح للشهية يتناقلونها عنها دون رحمة بأزمتها ووضعها المتأرجح بين غيوم الخيبة والفجيعة..!! لم تعرف لم يخر الأحباب من بين اصابعها وقد ملئوا المحيط كله سابقا وكانوا كل عالمها. لم تكن تعرف كيف تفسر التحول في المعاني الذي قلب الصفحات واحال النهار المشرق الى ظلام والبيت المضاء الى سراب.
لم يكن هناك اشارة الى ان عريسها الذي حدد موعد زفافهما وتم تصميم بطاقات العرس وتطريز ثوب الزفاف سيتركها بدون احساس بالذنب ودون اقامة مأتم وندب الخدود. لم تكن هناك رحمة لتنتزع من معملها وترمى في مكتب ملئ بالغبار والأرفف لتتابع الأرشفة والجدولة ويجف نبع عطائها وسجل ابحاثها. لم يكن هناك رأفة ومواساة عندما صدمتها سيارة ابن شقيقتها وخطفت المنون روح والدها في حادث مروع شوه رجليها وقتل بذرة الأمل في اعماق شقيقتها حزنا على ابنها المغيب. لم تكن هناك بوادر الى انها ستغادر بيت طفولتها ليس الى بيت الزوجية المنتظر بل الى بيت شقيقها ضيفة دائمة في بيت لن يكون يوما بيتها..!! وهل هناك بلسم يشفي تداعيات الغربة التي اصابها الخرس ولم تعد تسمع اصوات الأحبة، وابتليت بالعمى ولم تعد ترى صورهم واشكالهم، وهل هناك اقسى من عويل الحنين في القلب الدامي وهو يشتط به الخيال هناك حيث الدفء والشمس ورائحة الطفولة والأهل.. هل هناك بصيص نور يوضح لها من كانت ومن تكون..؟؟ لا تريد ان تكون التي تركها خطيبها، لا تريد ان ترمى في دائرة النبذ.
إنه شعور مؤلم.. ووضع بائس لابد ان يدعو للشفقة ويبعث على الإحساس بالدونية والخذلان
لذلك.. لم تغفر لسالم ابدا. لم تغفر له ما فعله بها..
لأنه كان المعول الأساسي الذي اكمل تحطيمها بعد استفزازات العمل ومأساة الحادث والذي نجح في كسرها وزعزعتها وهز ثقتها بنفسها، واجاد تشويه احاسيسها، وتحويل الأمنيات الجميلة الى كذبة على الأقل بالنسبة اليها.. لا تصدق ان يحبها رجل يوما ما بإخلاص.. فما حدث لها يقض مضجعها ويفقد الصورة الرومانسية لمعانيها.
ان انتهاء علاقة صادقة حدث لا يمكن تجاوزه بسهولة ويسر بل إنه ينسف حياة الإنسان ويزلزلها، وهذا ماحدث لها.. لم تعد كما كانت ولن تعود. لقد اطفأت النجوم المتلألئة داخلها وتشوهت شفافيتها وطلاقتها وارتدى الإخلاص والحب رداء اسود من التقلب ورياح التغيير.
لا شيء سوى انها وقعت بدون حذر وربما باستسلام وخدر في هوة عميقة اخذت تدور وتدور بها وهي لاتقاوم بل بالعكس تمارس التعذيب بشكل مضاعف.. تقسوعلى نفسها كأنها تهيؤها للعذاب المنتظر او كأنها تخاف ان تتفاجأ بآلام قادمة فتستبق الأحداث وتدمي نفسها بالحزن والقنوط واليأس وتسد نوافذ الفرح وتتربسها بحيث فقدت شهية مشاركة الآخرين لسعادتهم لأنها باتت تتألم وتكاد تختنق بالوحدة والاكتئاب.
لم تتوقع ان يخذلها سالم وأن يتركها فجأة ليس بالموت وكان ارحم ولكن بنذالة وجبن وانانية..!! يا ليتها فهمت موقفه من البداية ولكنها لم تفهم لأنها لم تصدق ولم تتصور..!! فقد عقلها التركيز وتشوش وانفجر.. لا شيء امامها ينير الطريق..!! انها سكتت على هجره وحقده ولم تواجهه بغضب بل بانكسار وخجل، كأنها المذنبة كما تفعل المرأة عندما تغتصب.. إنها لا تشتكي المعتدي ولكن تذوب بعارها وكأنها شريكة الجريمة وهي الضحية..!!
انها لم تناقش حتى الموضوع مع اسرتها.. احست بأنها خذلتهم عندما نبذها خطيبها، وانها لم تنجح في بناء اسرة سعيدة، لم تقل ابدا انه السبب وانه التعيس وانه وانه.. بل خرست وصمتت ولم تشتكي ولم تنبذ حظها العاثر لم تفعل سوى ان سكتت وابتعدت وخزنت مشاعرها في اعماقها وتمادت وادعت بأنه لم يحدث شيء ذو قيمة. ولم يكن بيدها الا ان تكون متماسكة امام اخوتها فكانت تشعر انها مدينة لهم بتفسير يقدمونه لزوجاتهم ومحيطهم فهم هنا لا يمثلون انفسهم بقدر الآخرين او هل انها فقط لم تشعر بأنهم سيهبونها الحنان او يهبوا لمواساتها إذا ما شكت لهم وخففت لديهم متاعبها..؟؟ لا تدري هل ظلمتهم ام ظلمت نفسها ام فعلت الصواب..!! كل ذلك التماسك الغريب وذلك الإنكار والصلابة كانوا ضدها.. ضد احتياجاتها كإنسانة.. لا بد ان تشكي وتتألم وتطلب المساعدة والحنان من اسرتها.
وتصرفت كأنها لم تفقد جوهر حياتها ورونق وجودها وذاكرتها النابضة وآمالها العريضة. انها اكتفت بأن جرحه قد طغى على كل المشاعر وهجره احرق كل الجسور وقسوته اذابت كل التوقعات..!!!
عندما تتذكر شيئا عنه وتريد اخبار اختها لمجرد التفريغ قليلا ما بداخلها، لمجرد الشكوى والتنفيس عن الغضب العاتي داخلها كانت وضحة تغير الموضوع وترد باقتضاب غير سامحة لها بأن تنفس شيئا عما يعتمل داخلها، لم تكن تحاسب.. كانت فقط تتكلم..!!
كانت لا تريد إن تثقل على اختها من جهة اخرى فهي تغوص في ازمة بدأت تفصلها عمن حولها.. كانت تؤنب نفسها بنفسها وتلومها وتحملها مسئولية ما اصاب خالد، ولم تكن في وضع يؤهلها ان تتحمل معاناة شخص آخر.
اضطرت ان تبلع المها وان تمثل بأن شيئا لم يحدث، ولم يكن هذا طبيعيا..!!
ومتى كان الذي حدث لها طبيعيا..؟؟
كانت في صدمة مروعة افقدتها توازنها ففي عز صراعها في العمل وهي بين اتون الحساد والمغرضين وهي تصارع انياب الحيتان الدامية تنهشها وتتنازعها يتخلى عنها رجلها وسندها بأسلوب غير مفهوم ويتركها ضائعة وحيدة في صحراء متربة بلا تضاريس ولا ملامح..!!
لقد عانت من الضباب يلفها وتلاطمتها الحيرة وانقضت عليها الوحدة والوحشة والمخاوف من كل صوب.
لقد دفنت الموضوع كله في اعماقها وتداعيات الحادث ترسبه للداخل اكثر واكثر.. كان داخلها يمور ويتعذب يغضب ويتألم ولكنها تدعي ان كل شيء على ما يرام بينما لم يكن شيئا واحدا يسير بشكله الطبيعي..!! لقد فقدت في وقت قصير عملها ونجاحها وطموحها وخطيبها ورجليها ووالدها وبيت اسرتها واملها في حياة طبيعية بل فقدت كل رغبة في الحياة نفسها ولم يعد هناك شيء يدفعها للتمسك به، لا يوجد ما يبهجها لتتوقف عنده وتتمنى ان تحيا يوما آخر من اجله. فقدت الوهج الذي يشدها للحياة ويجعلها تناضل لتبقى حية والذي يجعل قلبها ينبض بسرعة وروحها تنتعش وانفاسها تتلاحق ويملأ محيطها ويمتد للكون كله.
كانت تشعر بأنها تسير في طريق الهذيان والجنون، ليست حياة التي تعيشها والتي اخذت تغلق عليها الترابيس وتفصلها عن الآخرين وهم موجودون معها وتبعدهم عنها لأنها لا تتكلم عن مشاعرها معهم ولا تسمح لهم بالولوج الى عالمها. وكانت فاطمة زوجة عبدالرحمن تعاملها كضيفة ببيتهم وتوصي اولادها بالهدوء والكياسة وهذا ما كان يزيد الم سارة بأنها تحت مظلة المجاملة. كأنهم يضعون ستارا بينها وبينهم، هذا لها وهذا لهم مع إنهم يخصونها بالتكريم ولكنها ما زالت تحت إطار الضيافة. كان داخلها يموج بأفكارها.. بمتاعبها.. بألمها بصراخها بحيرتها وما كانت تخنقه داخلها يرتد عليها بشكل ارق وعدم قدرة على التعايش بسلام ومشاركة الآخرين حياة قد تخفف من اوجاعها.
كانت روحها تعبة ومرهقة ومحملة بعواصف وانواء وغضب وانكسار وتناقضات لا يقوى على حملها جسد تعرض لحادث اليم وروح طعنت من اقرب الناس.
كان القرآن الكريم ملاذها منذ الحادث، بين آياته التي تسجلها في دفتر مخصص لذلك كانت تتذوق الحكمة والأمان وتسكب العلاج وتعويذة الصبر على روحها المعذبة، كانت تجد اجوبة اسئلتها الحائرة بين طيات الكتاب المبهر المعجز العظيم الذي يزلزل كيانها ويعيد بناءه من جديد، كانت الكلمات تضيء سراديب نفسها المظلمة، وتريها افقا لا تراه العين المجردة وعالما لا تتحسسه الجوارح المادية. كانت الأنوار الإلهية تنتشلها بين جناحي الطمأنينة والسلام والإيمان، هناك إله يسمعنا لذلك لا حاجة لنسأل الآخرين وهناك قدرة تشملنا بمحيطها فعلينا الا نخاف ولا نخشى سواه. كل الذي يصيبنا من رذاذ ما هو الا مجرد اذى لا يمس الجوهر لإن من يملكه هو سبحانه وتعالى، وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وبالعكس.
كانت الروحانية الشفافة التي تحيطها تحميها وتهبها الطمأنينة التي فقدتها وتربط على قلبها وتمنحه الأمن والدعة. واحست برغبة عارمة في الذهاب الى الديار المقدسة الى مكة المكرمة والمدينة المنورة برحلة عمرة لأول مرة في حياتها. رغبة روحية شديدة للتزود بالزاد الروحي والدعاء هناك في ذلك المكان الطاهر.
رغم إن وضحة قد حجت واعتمرت مرتين في حياة والديها الا إنها كانت بحاجة لتغسل تعبها وهمها وتطلب لابنها الشفاء فقد ايدت سارة وإن شاركت عبدالرحمن مخاوفه بخطر ذلك عليها وهي بحالتها الصحية الراهنة. ولكن سارة لم تجد بأسا بذلك وسألتهم لو أن سيدة مسنة تريد العمرة فهل ترفضون طلبها..؟؟

الثالث والعشرين
نور السماء

واستجاب شقيقها لرغبتهما وطاروا بداية الى المدينة المنورة وعندما وصل التاكسي مساء الى الفندق القريب من المسجد النبوي انبهرت اعينهم من جلال المسجد العظيم وهو يتحول الى نهار مضيء بقبابه وضيائه وانواره وساحاته وباحاته المقدسة البيضاء. كانت الأضواء الساطعة تخلب اللب وتخلع القلب رهبة وخشية وتبعث الرجفة في الأفئدة المؤمنة.
في الفجر والأذان يوقظهما هاتفت وضحة شقيقها تخبره بأنهما نازلتان بعد قليل للحاق بصلاة الفجر في المسجد النبوي. وهناك عندما تذكرت ان تختم صلاتها بالدعاء لله بأن يكون معها وان يمدها بالصبر والبصيرة وان يبعد عنها الأخطار، احست براحة لم تكن تحظى بها من قبل، احست فجأة بأن الله معها ويسمع دعاءها وانها ليست وحدها.. ! كيف تكون وحدها إذا كانت تؤمن بأن الله موجود وإذا كان موجودا فهو يعلم بكل شيء ويعرف كل شيء ولا يغفل شيئاً، فما دام هناك الله يستمع الى نجواها فكيف تفكر وتقلق وهل هناك افضل منه سبحانه تسعى لتوصيل شكواها اليه. وهل خاب من آمن بالله وتوكل عليه..؟؟ وهل تستهين بقدرة الراحة النفسية التي لو حظيت بها بالفعل فستتمكن من رفع معنوياتها ومدها بالأمل والثقة والقوة.
وقبل صلاة الظهر بوقت كاف عادوا مرة اخرى لقراءة القرآن.. وبعد الصلاة ارادوا الاقتراب من الروضة الخضراء عند قبر الرسول للصلاة والدعاء.
وسط الزحام وتدافع النسوة وجدن مكانا مناسبا للصلاة وكان شعورا جبارا يطغى عليهن بينما كانت دموع وضحة تنهمر وتنهمر.. كانت ترتجف وهي تصلي وتدعو
لقد كانت في عالم آخر كانت تخاطب النبي (صلى الله عليه وسلم).. يا حبيب الله.. .المصطفى.. اغفر لي انني لم اشعر بك ومكانتك العظيمة من قبل ولم ادرك لم انت حبيب الله
انني اشعر بك وبعظمتك اشعر بوجودك حاضرا تسمعني الآن وأكاد اقسم بذلك.. اشعر بعظمتك وجلالك تهيمنان على المكان وتتملكني فاغفر جهلي وسامحني
وارجوك ان تكون شفيعي عند ربك ارجوك ان تكون شفيعي عند ربك ارجوك ان تكون شفيعي عند ربك
يارب مغفرتك ورضوانك وعفوك
يارب تشفي ابني من غمامة الموت والعجز وتعيده بقدرتك يا الهي صحيحا معافى
يارب تغفر له وتهديه وتجعله بقدرتك سبحانك من عبيدك المخلصين التائبين
يارب عفوك وغفرانك
يارب.. يارب
يا الهي.. يا ملحم القلوب المتصدعة والنفوس المشروخة المهشمة.. يا معيد الخلق ومجبر النفوس المكسورة ومجير الخائفين والمذعورين اكشف عنا الغمامة وطهر صدورنا ويسر امورنا
كانت رحلتهم ليومين فقط في المدينة المنورة ثم تابعوا الرحلة بسيارة الى مكة المكرمة.
لم تشبع سارة من المدينة البيضاء بمسجدها وبنائه العريض واعمدته وحمائمها المسالمة التي تملأ المكان المقدس. احست بأنها تنتزع من هذا المكان المريح الذي يحمل كل سلام العالم بين جنباته. لكن برنامج الرحلة وحجز مكة المكرمة والتزامات مرافقيها اجبرتها على مغادرة هذا المكان الذي تعلم ان قلب شقيقتها تعلق به ايضا. ففي داخلها هي ايضا الكثير من الشجن لتسكبه في المسجد النبوي وكانت هناك مناجاة لم تكتمل كانت تود البوح بها لنبي الله (صلى الله عليه وسلم) تحدثه فيها عن ابنها وتتضرع الى الله بعودته من البعيد.
كانت سارة تشعر بأنها عالة عليهم في كرسيها المتحرك وكان جسدها النحيل يرتجف وهي تقرأ القرآن في رحاب المسجد العظيم وتحس برهبة المكان وصاحبه وتكاد تغشاها غيبوبة روحانية تفصلها عن الآخرين حولها.
وفي سيارة الأجرة المغادرة الى مكة المكرمة كان الطريق طويلا وكان الحزن مسيطرا على روح وضحة تستقبله على نفس الموجة روح سارة وكان الصمت مخيما يتخلله الحديث العابر الذي يتبادله عبدالرحمن مع السائق.
وفي منتصف الطريق توقفت السيارة لاستراحة قصيرة وترجل السائق وعبدالرحمن لأداء صلاة الظهر بينما صلت سارة وهي جالسة في السيارة حيث لا مكان نظيف في هذا المكان المقفر وقد شدت انتباه وضحة دورة مياه بائسة موجودة في هذا الطريق الخالي من العمران مع حيويته وربطه لأقدس مدينتين للمسلمين كافة، ولم تتأخر في العودة وهي تكاد تتقيأ من الروائح وتقول في انقباض لأختها :
لا استطيع أن اصف لك ما رأيت. انه شيء لا يصدق، هل تعجز المملكة عن بناء مراحيض نظيفة في استراحات مزودة باحتياجات الحجاج ولوازمهم وتوظف عمالا على مدار الساعة للتنظيف. هل تبخل رؤوس الأموال الخيرة عن تمويل هذا المشروع، وحتى لو دفع كل حاج لقاء استعمال الحمام، إن هذا يحدث في الدول الأوروبية والأحرى بالمسلمين أن يبادروا بذلك لأن دينهم دين النظافة والطهارة وليس ترك المكان نجسا والناس آتون من بلادهم للتعبد والصلاة.
اما سارة فقد فهمت اكثر عندما وصفوا لها موسم الحج وكيف تنتشر القذارة وتكاد تحول الطرق الى مرتع للزبالة وكيف إن أعدادا هائلة من البشر لا تتقيد بالنظافة ولا تملك حتى مأوى للإقامة وكيف تنام وتأكل في الطرقات والساحات بالأسابيع والأشهر..!!
وعلقت وضحة :
على الأقل عليهم إقامة استراحات حديثة مجهزة على طول الطريق لراحة المسافرين الذين لا ينقطعون. لا زلت لا استوعب المنظر الذي رأيته ولا اصدقه.
واحست سارة بالخجل عندما تذكرت المعتمرين القادمين من بريطانيا الذين ملأ فوجهم بهوالفندق في المدينة المنورة، وعندما رأتهم كانت تشعر وكأنها تتطاول في السماء زهوا وفخرا. وقد اصبح للإسلام مريدوه الذين لا يتكلمون لغته ولا يعيشون بيئته ويتكبدون عناء الحج اليه تحببا وتقربا وطاعة للرحمن. إذا استنكرنا نحن ابناء البيئة الواحدة ما رأينا ولم نستطع مسايرته، وعافت انفسنا التأقلم معه، فماذا يقول هؤلاء الذين دخلوا الإسلام مؤخرا.. هل هذا الإسلام..؟؟ وهل يعيش المسلمون بهذه الطريقة :..؟؟
وبدون وعي مسحت سارة دمعة كانت تتلألأ بين عينيها وقد مر ببالها من بحالتها الصحية وقالت لوضحة :
إذا كان الأصحاء يعانون ويتألمون ويشكون بأن لا أحد يهتم لآدميتهم ولا يحترم انسانيتهم فما بالك بالمعوقين والمرضى الذين تسحقهم آلة الازدراء والأهمال وقلة الوعي والاهتمام.
وهناك في البيت العتيق حيث اعتمر الأخوة، وقرأوا القرآن، وفاضت دموعهم وتحررت انفسهم من تبعاتها، وتخففت نفوسهم من اثقالها.
يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد يا مبدىء يا معيد يا فعالا لما يريد، اسألك بنور وجهك الذي ملأ اركان عرشك واسألك بقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك، واسألك برحمتك التي وسعت كل شيء، لا إله إلا انت، يا مغيث اغثني، يا مغيث اغثني، يا مغيث اغثني.

الرابع والعشرين
التواطأ مع الأوجاع

مرت الأيام وليس فيها سوى السقوط في العزلة والمزيد من الانطواء على الذات وكان ذلك ايذانا بدخول سارة مرحلة الوسوسة. لقد انفصلت عمن حولها وقد انشغلت وضحة بزيارات المستشفى وامور اطفالها وتدريسهم وشئون بيتها ولم تعد تزورهم سوى مرة بالأسبوع بينما كذلك حال فاطمة مع اولادها من جهة وارتباطها بزيارة اهلها من جهة.
واصبحت سارة حبيسة المقعد وجليسة المنزل والمسافرة بدنيا الأوهام. حتى الأحلام اصبحت مصدر رعب.. . لم تكن كوابيس بل كانت حكايات لأحداث مرعبة ولنفوس شريرة حاقدة. كانت تعزز الوحدة وتمعن في الغوص بقاع النفس لدرجة التوحد مع الأحلام وفهمها وفك طلاسمها. كانت تحكي الأحزان والآلام كأنها تأكدها مرات عديدة ، مرة في الواقع ومرة في المنام ومرة ثالثة ورابعة وخامسة في الإعادة والتفكير والتكرار.
عندما يفقد الإنسان شهيته للتواصل مع لعبة الحياة ينفصل عن الآخرين ويهوي في لجة النفس لتطويه تهيؤات بائسة وتسكنه روح خائرة، وتفقده صلاحيته نفسه الميتة. تصبح الدموع مستوطنة في حدقة العين لا يحتاج لمجهود ليدعها تجري في مسارها الصاخب.
وتصبح الغصة متوطنة الحنجرة، ليس هناك بمهرب من استعادة الأشياء المحملة بذكريات حياة نابضة سابقة لتبدأ الانقباضات المتوحشة بحجب التنفس وخنق النبض البائس وكسر الادعاء و التماسك..!!
تصبح الذاكرة حينها عبئا محملا بالألم فتبدأ رحلة الهرب من الماضي، كمحاولة لقهر الألم والذكريات ولتمحيه القدرة على تذكر الأحداث ومحاولة تغييبها تحررا منها وما تحمله من عذاب. انه شعور الخوف من القادم وفقدان الأمان وعدم الثقة بالآخرين.. هذا هو الإرث الذي التصق بها ولا تستطيع الفرار منه.
بعد غدر سالم.. وبعد تخليه عنها وبعد تحلل معادلات النجاح بين اصابعها وبعد ان عاجلها القدر باللطمة تلو اللطمة و الصفعة اثر الأخرى، بعد كل الذي حصل لها بحيث حاصرتها الأحداث في زاوية و امعنت في محاصرتها و الضغط عليها دون رحمة، بعد كل ذلك.. هل تتوقع كإنسانة مجروحة ومطعونة ومنبوذة ان تثق بالزمن والأيام والآخرين..!! بعد ان فقدت توازنها وتزعزعت ثقتها بنفسها بعد ان انهار عالمها بالكامل واضاعت آمالها واصبحت لا تفهم ما يدور حولها..!!
هل يمكن ان يكون حكمها سليما او تصورها عن الأشياء موزونا..؟؟
بالطبع كلا.. انها تعاني من ازمة حادة بحيث لا تصلح بأن تكون هي القيمة على تفكيرها وعلى رؤيتها للأمور. لقد تمادت في احزانها لدرجة انها غرقت فيها لدرجة الاختناق فما عادت بالفعل قادرة على التنفس انها لم تعد تستحمل هذه الكمية من الأحزان والسوداوية والعزلة. اعماقها ترفض ما تحاول روحها محاصرتها فيه غير راضية بما تسعى نفسها لسجنها داخله.
إذا طال أمد الأحزان وإذا تجذرت ذوائبها فإنها لا تقتل فقط ولكنها تعذب ايضا قبل الموت. عندما يفقد الإنسان ما يدفعه للبقاء وما يهبه السعادة والبهجة، عندما يستأصل هدفها منه ولا يبقى ما يعيش لأجله، وتموت رغباته فلا يبقى لديه هدف يدفعه للاستيقاظ صباحا واستقبال يومه، عندها يفقد القدرة على الارتباط بالحياة فإن قواه تضمحل وتضعف وفجأه يحس بأنه يكبر ويشيخ بسرعة، فجأة يضعف بصره وسمعه وبقية حواسه وتنتابه الآلام العضوية المتفرقة. ان احزانه النفسية تفتت بالفعل مقاومته وتضعفها فيصبح عرضة للإصابة بالأمراض والبكتريا والفيروسات وكل امراض الدنيا التي سمع بها واخترعها، واكثر تأثرا بالارتدادات المنعكسة من الداخل.. .!! وعندما يرفع وجهه بغتة في المرآة يجد وجها عبوسا تعلوه تقطيبة حادة بائسة تعكس وضعه الداخلي..!!
ها هي البئر تعمق وتغور وهي تسقط فيها باستسلام رغم الخوف والهلع والآلام.
انها بانسحابها من الحياة تتخلى عن اسلحتها ولا تقاوم الاندثار والتحلل، لذلك فهي تكبر وتمرض وتنهار، انه التسلسل الطبيعي لأعراض فقدان شهية الحياة..!!
فالحياة تمنح تجددها وشبابها وحيويتها للمقاومين المحاربين المتوهجين، تسقيهم اكسيرها المتلألىء، اما المنسحبون المنهارون من لعبتها فليس لهم سوى الذبول والانكسار والتهشم..!! كل حاسة لا نستخدمها تذبل وتموت، كذلك الذاكرة اذا كنا نهرب منها فإننا نئدها وندفنها في بئر سحيقة في قاع انفسنا المظلمة ونفشل بعدها في استعادتها مهما عصرنا الذهن واستجديناه. وإذا وضعنا الحواجز للبعد عن الآخرين وفقدنا بوصلة التواصل معهم نظل غرباء عنهم وتنبت غابة موحشة بالصمت والملل لا نفلح بتخطيها اوتجاوزها ابدا..!!
انها لم تكن تكابر وتدعي بأن الأمور تسير طبيعيا من فراغ بل لأنها لم تكن تعرف شيئا بالفعل، كانت متخبطة من المصائب التي حلت دون تفسير اواستئذان اواعتذار وتمهيد..!! وكان عليها ان تتبنى موقفا ما، منذ صراعها في العمل وضغط سالم عليها وهجره، كان عليها ان تنهض صباحا وتواجه الآخرين بشيء ما.. بنفسية ما وما كان بإمكانها سوى ان تضغط وتدوس على نفسها وتربط جرحها بحزمة ملح وتتابع طريقها..؟؟
كان عليها ان تبتسم وتجاري غيرها وتتابع مزاولة واجباتها والتزاماتها، اما تلك الفجوة المملوءة بالصخب والغضب والفوضى والتيه داخلها فلا تعرف كيف تروضها وتسكتها وتخدرها وتطفئ نيرانها المتوهجة..؟؟ عندما تختلط الأمور وتتخبط الدروب عندما يكون الناس متفرجين والمجروح صامداً. فإن الغصة المزروعة في الحلق تطمس كل ملامح التواصل مع الآخرين وتتفشى الوحشة في النفس وتعزلها وتفصلها بوادي سحيق بلا قرار.
كأنها ارتدت قناعا على وجهها طيلة ذلك الوقت العصيب، كأنها نهضت من نومها وقد التبست حالة دفاعية لمواجهة هذا العالم اختبأت خلاله روحها الأصلية التي اضاعت ثقتها بكل شيء ولم تعد تعرف كنه الأرض التي تقف عليها. عندما تفقد الثقة بنفسك وبالآخرين، ماذا يبقى..؟؟ وكان عليها اكتشاف هويتها المفقودة بعد زوبعة الصدمة، واجتلاء الحقيقة وليس اعتماد القناع كواقع..!!
هذا الماسك الذي ترتديه بدأت تشعر بزيفه وبدأت روحها الحقيقية تتشكل داخلها وتعيد بناء ذاتها، وبدأت براعمها بالتنفس والتفكير. لقد ادركت اخيرا ولم تكن تعطي الموضوع اهمية ولم ترغب بمنحه اكبر من قيمته ولكنها مضطرة للاعتراف بان اليد التي حطمتها بالفعل كانت يده، فما اصعب ان يتخلى عنها بهذه السهولة.. فعندما هجرها سالم وتخلى عنها فجأة بكل قسوة وجبروت تمكن من تحطيمها مئة مئة الف قطعة. الم يكن بإمكانه الانسحاب باعتذار واحساس بالذنب لعدم قدرته على التواصل معها لاختلاف شخصياتهما وهذا ليس عيبا فيه اوفيها فكل يعتز بكيانه وبقيمته وبأسلوبه واختلاف الرأي يجب الا يفسد وينسف للود قضية..!! هل عز عليه ان يكون ودودا حنونا ويطلب السماح والغفران لأن ليس بإمكانه متابعة الطريق معها ولا يعني ذلك عيبا فيها ولكن طباعهما ما عادت قادرة على الالتحام والتواصل والفوارق بدأت تطل من الثقوب الواسعة وتتسع آفاقها بينهما، وستتحول بعد حين الى صراع وتضارب عليهما عدم الوصول الى محطاته العقيمة..؟؟ لم لم يحاول ان يعتذر بأي عذر يكشف تعاطفه مع خسارتها ويهبها نوعا من التعاطف بفقدها..؟؟ هل يجب ان يبادر الى الهجوم واللؤم والتأنيب والترفع كأسلوب للتفكك من علاقتهما..؟؟ هل يستمرىء اسلوبه المعتاد بمهاجمة الآخرين حتى يتجنب لومهم ومساءلتهم واستجوابهم ويسبق حسابهم وشكواهم وينجو بفعلته ولا يصيبه ولا حتى عتابا واحدا..؟؟
انها لم تخسره فقط كخطيب وزوج مستقبلي ولكنها خسرت نفسها عندما تركها بهذا الأسلوب الغريب الذي حطمها نفسيا بمعاول التشكيك بأسبابه وثقتها بصفاتها كإنسانة..؟؟ ومثل عليها دور الغاضب والمنزعج لتصرفاتها التي لا تطاق ولم يكن احد بجوارها ليضيء لها عتمة هذا الجانب، ولم تمنح احدا تلك المساحة ليهبها الثقة بالنفس ويجعلها تؤمن بأنها لم تخطئ كما افهمها واوحى اليها وكل المسألة انه اكتشف انهما دربان متوازيان لا يمكنهما الالتقاء ولو حفرا السدود والقنوات، وكل تنازل من طرف سيكلفه غاليا من تكوينه النفسي والعصبي وقناعاته الفكرية.!!.
لم تفهم بأن كل المسألة انه يبحث له عن درب جديد بعد ان اكتشف ان دربها محفوف بالأخطار وانها شخصية مشاكسة سريعة الاشتعال. المسألة ببساطة انه يحلم بحياة اخرى ليست معها وان كان معجبا بها في السابق ولكنه تسرع بالخطوبة واعتقد إنها شريك يسهل التلاعب بمصيره، ولم يفهم الفرق بين ان تعجب بشخص وان تملك الثمن لتدفعه لمعاشرته. انها تعلم بانها شخصية غير عادية وتحتاج الى رجل غير عادي. انها نسيج بمفرده لا تتنازل ولا تحيد عن طريق مرسوم امامها وهو رجل يريد ان تكون له السيطرة ولو بالشكل ويحب ان تكون امرأته ضعيفه ولو بالتمثيل. ويحب ان يشعر بأنها تحتاجه وانها ليست بمستواه الفكري وانها اقل منه حنكة وتدبيرا، وإن تطورها فقط ليخدمه عندما يتشدق عن تطور المرأة وتحررها وإثبات وجودها امام أصدقائه وضيوفه.
لقد علم بأنها لن تتنازل قيد انملة عن قناعاتها ولو كان الثمن ابتعاده وفسخ خطوبته وخسارته، ولقد كانت مصالحه مع المؤسسة أهم وأثمن لديه وهو الذي يدير مكتبا هندسيا كبيرا يعتمد لتدفق شرايينه الحصول على مناقصات المؤسسة ومشاريعها، هل يفرط بكل ذلك من اجلها..؟؟ هل يقايض كل مستقبله واحلامه ودوره المهني بمغامرة العيش معها وخصوصا الآن بعد أن عرف بأمر الحادث وإنه تركها مقعدة..؟؟ لعله لم يواجهها ولم يخبرها ايا من هذه الأعذار والمخاوف لأنه قد يكون خشي من تأثيرها عليه، لعله اراد أن يحمي تفسه من محاولاتها الدفاعية وتغيير افكاره، لعله اراد ان الا يسقط في فخ رقتها الأنثوية ولا ان يضعف امام دموعها وتشكيكها بأنه مخطئ، خشي بأن تقنعه بآرائها ، لعله اراد فقط ان ينجو بجلده مهما يكون الثمن ولو كان تحطيمها ولا تدري هل ادرك تأثير ذلك عليها وهل حسب حسابه. .؟؟ هل فكر فيه..؟؟ هل آلمه..؟؟ ام انه لم يخطرعلى باله اوانه خطر ولكن لم يبال به..!! لذلك فقد كثف هجومه وسلح نفسه للاعودة ولإبادة اية محاولة لكسبه واستمالته، ولم يعلم بأنها ستصدقه ولن تحاول مجادلته في موقفه ولن تحاول تغييره أوالتمسك به..؟؟ لهذه الدرجة كانت مصدومة حتى من سؤاله.. لماذا..؟؟ لم يعلم بأنها ستتماهى معه ضد نفسها وانها ستتركه يمسك السياط لتعذيبها دون ان تردعه. هناك مستبدون حاربوا بشراسة ليثبتوا براءتهم وهناك طغاة لم يستكينوا ويستسلموا بل ارتدوا مسوح الأبرياء لآخر لحظة.
كان يقول لها دائما انها قوية ويا جبل ما يهزك ريح وكان يخشاها اكثر مما يتعاطف معها، ولم يدرك بأنها آنية عرضة للتهشم عندما يوقعها من بين يديه، وإن تلك الشرسة اللبؤة استحالت الى خرقة من الهشاشة و الضعف عندما تنكر لها وادار ظهره عنها، وان قوتها لم تحمها من الشفافية والانهيار، ولكنه محق في انها لن تتغير ولن تتنازل عن رأيها وإنها لن تتراجع قيد انملة عن قناعاتها، وحبها له لن يشفع له تخليها عن رأسها..!!
الا يقال بأن هناك عقدة تنشأ من كل ازمة، والعقدة تتفاقم وتصبح كابوسا.. ولقد اصيبت بعدم الشعور بالأمان وعدم الثقة بالزمان وبالآخرين، وترقب السيىء بتمهيد الأسوأ منه، وعدم السماح له بمفاجأتها مرة اخرى، بل هي كامنة متحفزة بحواسها بانتظاره بأقسى الاحتمالات المتوقعة، لقد تمادت وتمادت بتفكيرها وافترضت اسوأ الاحتمالات التي قد تصيبها، وتحصنت بها لقد اصبحت مثل الذي يحمل كفنه على كتفيه منتظرا موته في أي لحظة، لقد سقت نفسها العذاب واسوأ الاحتمالات كأنها تهزأ من القدر بأنه لن يصدمها ابدا مرة اخرى، فهي هناك بانتظاره مفتوحة العينين مصدوعة القلب، ومن مات مرة لن يموت مرتين..!!
قهر كامل مخزون داخلها كالبركان الذي يشتعل رويدا رويدا ويحرق ما في طريقه، البراعم والجذور والحواشي إيذانا بالانفجار الأكبر. انه شعور بالانقباض كأن يدا كونية تعصر وجدانها وتستمر بالضغط عليه كأن لوعة طاغية تملأ جوفها وتثقل رأسها وتكبس على عيناها ليتفجر الألم في عروقها.
يا لهذا الحزن المتدفق على العالم كغيمة عملاقة تظلل الوجود كله تهمي بأمطارها الرتيبة وتسقط وتسقط مجرد تساقط لا ينتهي ولا يمل ويقذف امطارا مستمرة.. مجرد استمرار، امطار متواصلة.. مجرد تواصل، انها متقوقعة في زاوية مهجورة داخل نفسها جالسة القرفصاء تؤنب ذاتها وتأكل في روحها وتأجج عذابها.
هكذا الأحزان ولكنها ايضا غصة في الجوف ودمعة متلألئة في الأحداق..!!
طالما تساءلت.. لماذا هذه الغصة..؟؟ وكيف تستطيع احالة الكون كله الى كتلة من الحزن والانسحاق..؟؟
استطاع الإنسان ان يكتشف الذرة ويحلل القضايا ويضع القوانين ويشرح الخفايا واصبح لكل مشكلة حل ولكل داء دواء الا النفس الإنسانية التي ظلت غابة بكرا تزداد تمنعا وغموضا كلما احس الإنسان بأنه اقترب منها. لا يمكن ان يكتشف طلاسمها مخلوق ولا ان يفك لغزها بشر.
لا يوجد اكسير لمداواة الأرواح المجروحة التي جبرها اصعب ملايين المرات من كسرها..!!
كل هذا الانهيار وهذا الغياب وهذه الصدمة ولدوا القنوط وقتلوا البهجة وخنقوا الفرحة في فؤادها المكلوم. ان هي خرجت من دوامتها الداخلية وجدت الدنيا المبطنة بالفقد تحيط بها. انها ببساطة لا تستطيع ان تكون صفحة بيضاء من المشاعر ولا تستطيع ايضا ان تساير الأوضاع بتجدد، ولا تستطيع ان تحول النفس الكسيرة الى اخرى طبيعية بتجرد.
هذه النفس لا تزال تئن وتتوجع من آثار الهدم والتحطيم من معاول التشكيك والكراهية، ما زالت مغيبة تذروها الرياح وقد احبطت كل مساعيها لتدرك ما يدور حولها.
مثلما لا ترى العين المجردة ملايين الذرات المتطايرة في الهواء التي لا تكشفها سوى الأشعة الدقيقة ومثلما لا يستطيع العقل البشري تفسير معرفة ساحر او مشعوذ غريب في بلد غريب لاسم والدته او يكشف له عن امر شخصي لا يمكن التكهن به، و مثلما تستطيع النفس خداع صاحبها و تمويهه فيمرض و لا يدري انه سبب الداء، مثلما رأت بأم عينها بأن التقلصات الجسدية التي كانت واضحة على جسدها والآلام التي تدفعها للدوار والرغبة بالتقيؤ ولم تكن بتاتا لأسباب عضوية بل نفسية كانت هي وراءها من شدة ضيقها وحزنها وكربها دون ان تدري..!! مثلما تتكلم عن امر وتجده يحدث اوتفكر به وإذا بها تسمع شيئا بحدوثه.. كل هذه الأمور دعتها الى الإيمان بأننا نسير حول قدر مكتوب.


وللأحداث بقية



الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 10:08 AM [ 25 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Nov 2006
رقم العضوية : 1994
الإقامة : qatar
الهواية : كتابة الخواطر
مواضيع : 1901
الردود : 9766
مجموع المشاركات : 11,667
معدل التقييم : 25بسمة is on a distinguished road

بسمة غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 3
العضو المميز

الحضور المميز

عضو مخلص





تداعي الفصول :للكاتبة: مريم آل سعد الحلقة الثامنة )

الخامس و العشرون

عبدالرحمن وفاطمة

لم يمض شهر علي عودتهم من العمرة مزهوين بحلتهم النفسية الجديدة وبالدعم الروحي الذي جدد خواءهم الداخلي، وانبت براعم مزهرة في حياتهم المنهارة حتي شهد المنزل شجارا بين عبدالرحمن وزوجه فاطمة ومغادرتها البيت بعيون دامعة مع اصغر طفلين لها بينما لم تستطع فاطمة قول شيء مفيد للأربعة الكبار الآخرين الذين كانوا ينظرون اليها بذهول وخوف فقد كانت عبراتها تخنقها وهي تضم الصغيرين وتطلب من الخادمة ان يجهز السائق السيارة لأخذها لبيت اهلها. كانت سارة تدور بالصالة بكرسيها المتحرك قلقة وهي تسمع صدي صراخ عبدالرحمن في الطابق الأول ولا تجد حولها سوي الخدم الذين طردتهم لئلا يتنصتوا علي ما يقال بينما تعالي بكاء الأطفال الأصغر سنا. في النهاية نزلت فاطمة تجرجر حقيبة ملأتها بشكل عشوائي بما تبادر لها وهي تنادي بعصبية الخادمات ليساعدنها بتوصيل الأغراض السيارة، قالت لها سارة بعطف وحنو:

ما هذا يا فاطمة، حقائب ومغادرة ودموع، خير إن شاء الله. بمرارة وبمداراة لئلا تسمع الخادمات اللاتي يجرجرن الأغراض من حولها، قالت فاطمة بضياع :لقد طردني يا سارة..!! هكذا بكل بساطة..!! ام اولاده ويطردني. هانت عليه العشرة. كأنها غير مصدقة ما تسمع، سألت سارة بتشكك :اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ما هذا الكلام..!! ماذا حدث حتي يطردك يا فاطمة.. أنها قصة طويلة.. اسأليه عنها ولا استطيع روايتها الآن، ارجوك خذي بالك من الأولاد. وعادت تجهش بالبكاء وتحمل احد الطفلين بيد وبالأخري تجذب الآخر. كانت سارة مندهشة وهي تضرب اخماسا بأسداسا، ما الذي يفعله عبدالرحمن وكيف يطردها من بيتها.. ماذا حدث بينهما.. يا ليتها تستطيع الهرولة لأسرعت لتري اخاها وتعرف ما به. وفكرت بالأتصال بوضحة وتمتمت: نعم يجب أن نعرف ماذا حدث. لا يمكن الصبر علي ذلك. كانت البنتان تبكيان والولدان جالسين دون حراك في وجوم. توجهت اليهم سارة ونادت البنتين وضمتهما بحنو وقالت لهما: سيكونان بخير. يتشاجر الوالدان ويقولان كلاما قد يندمان عليه بعد ذلك لكن يسامحان بعضهما البعض. مثلكم عندما تتشاجرون يضرب الواحد منكم اخاه بوحشية بل يقول له اتمني ان تموت اليس كذلك ولكن بعد لحظات يصفو الجو وتعودوا متحابين وعندما تذهبون الي الشارع ويحاول احدهم ايذاء شقيقك تتعارك معه وتدافع عنه وتحميه. أتعرفون السبب لأن الشيطان يدخل بين الأخ وأخيه لحظة الغضب فيعميه ويدفعه ليقول اشياء لا يعنيها ولا تعبر عنه. انه يقولها للتنفيس عن ضيقه ولأن ابليس يشجعه عليها. هذا فقط.. سيهدأ والدكم بعد قليل وسيذهب بنفسه ليعتذر من امكم وإن لم يفعل عمتكم سارة وعمتكم وضحة ستجبرانه علي ذلك. والآن ابتسموا واتركوا التجهم واذهبوا الي بيت عمتكم وضحة للعب هناك واحسنوا التصرف ودعوني معها نعيد الأمور الي نصابها. هيا انهضوا اغسلوا وجوهكم وغيروا ملابسكم ولا تدعوا احدا يري دموعكم. ستعود الأمور الي وضعها الطبيعي وربما افضل لأننا نتعلم دائما من كل خطأ. ثقوا بي. هيا يا شطار. هاتفت سارة شقيقتها علي عجل وبدأت تفكر. كانت الأفكار والتخرصات تأخذها والخيال يضع لها احتمالات عديدة للخلاف بين الزوجين حتي إنها اعتقدت إنه ربما بسببها وربما غير وجودها في البيت حياة ساكنيه وربما احتاجوا الي غرفتها، وربما طلبت منه أن تعيش عند اخوته الآخرين حيث إنهم عائلة كبيرة بينما حسن مثلا ليس لديه إلا طفلين وبيته كبير. وصلت وضحة بعد مكالمتها بساعة واحدة وقد اتت مهرولة لا تلوي علي شيء. كان قلبها مرواعا لا يحدثها بخير واحساسها المرهف بعد الحادثة وترقبها بكل لحظة عن خبر ما عن خالد سواء خيرا بأنه افاق من الغيبوبة اوشرا بأن حاله قد تدهور ومات يجعلها حساسة لدي رنين التليفون وايضا تعيش في توتر مسبق لا يجعلها تهدأ وتستقر. وبعد مخابرة شقيقتها لم تنتظر قدوم ابناء اخيها بل خالفتهم بالمجيء بعد أن اوصت اولادها بالرفق بهم وتسليتهم دون الإشارة الي ما حدث وعدم تذكيرهم بأي جوانب محزنة. وبدخول وضحة انتقلت الأنظار الي اعلي الدرج.. الي الطابق الأول حيث عبدالرحمن. قالت سارة بتوتر: لا اطيق صبرا عليك بالصعود اليه ودعوته لتوضيح ما حدث لنا.. - الا تعتقدين بأنه تسرع منا وعلينا انتظار قدومه.

- وضحة اعصابي تلفت والأفكار تأخذني يمنة ويسرة.. علي الأقل نساعده فلعله محتاج الي احد معه، ومن اجل اولاده ايضا يجب ان نتدخل.. بالخير طبعا. بنزول عبدالرحمن من السلم انتهي نقاش الشقيقتين وظلت انظارهما معلقة به تقيسان التغيرات عليه.. حزين او محطم، غاضب او حانق، عصبي أو متوتر ولكن عبدالرحمن بلا انعكاسات مختلفة، بل إنه خمن سبب وقوف شقيقتيه بوجوم وهما تتطلعان اليه فأخذ ينزل السلم الهويني دون ان يطبع اية انفعالات علي وجهه حتي لا يقرأن ما يودن أن يعرفن. و هتفن بلهفة في وقت واحد ماذا حصل.. ما بالكم.. ببرود جلس عبدالرحمن ونادي علي الخادمة التي جاءت مهرولة في خوف وطلب منها احضار شايه المعتاد، والتفت اليهن وقال بدعابة :اجتماع مجلس الأمن انعقد. تطلعت الأختان الي بعضهما البعض ثم عادتا الي النظر اليه لا تلعب بأعصابنا، ما بالك معها ماذا يحدث بينكما.. قال عبدالرحمن بأعصاب باردة لا تحمل ما توقعتاه من غضب وحنق : تواطأت مع شقيقتها حصة وشجعتها علي الإعلان عن نفسها لدي احدي الخاطبات علي شكل سيرة ذاتية تتكلم فيها عن نفسها وعن مواصفات التي تريد الزواج به. وسكت وشقيقتاه ما زالتا تنتظران البقية :هه.. وبعد ذلك رفع لهما عبدالرحمن عينين متسائلتين وردد : وهل فيها بعد ذلك.. هل هناك بنت محترمة تقدم علي هذا التصرف. طولي كذا ووزني كذا وهواياتي كذا واريد زوجا كذا وكذا. وأين أهلها أليس وراءها ولي.. بدون وعي صرخت وضحة في أخيها:وأنت، ما دخلك فيها.. لقد بالغت وكبرت الموضوع وهو لا يستاهل. ثم هي ليست اختك ولا ابنتك حتي يفور دمك وتظهر احتجاجك وتحس بالعار..

- يا سلام إنها اخت زوجتي.. نسيبتي وخالة اولادي، وإذا زوجتي كانت تعلم وتشجعها وتدافع عنها فهي مثلها ولا اريد لبناتي ان يتربوا علي يدها. تبادلت وضحة وسارة نظرات التعجب، وقالت وضحة وهي لا تصدق ما تسمع :تعوذ من الشيطان يا اخي، كيف تقول عن زوجتك هذا الكلام وهي الله من فضله سيدة متدينة وخلوقة وكذلك الشهادة لله حصة مثال البنت العالية الأخلاق والتهذيب. والذي نقل لك كلام أوحرضك عليهم لا يخاف الله وعليك ان تحكم عقلك ولا تتهور وتندفع مع الشعارات المتخلفة التي تهدم البيوت المستورة.

- لو كنت في المجلس معي تتكلمين مثلي منفوخ الصدر واثق الخطي عن الأصول والأسر المحافظة ثم يعترضك شخص لا يسوي شيئا بين الرجال ويقول بأسلوب فيه من الهمز واللمز الكثير وهل بنات العائلات يعرضن أنفسهن للذي يسوي ولا يسوي ويستعرضن سيرة حياتهن. ثم اخذ يتابع كلامه المسموم بينما كنت اصغر واصغر في مكاني واتضاءل من العرق والإحراج والخجل قالت وضحة باستهجان توقفه عن هجومه : حصة اولا ليست صغيرة وجاهلة ومتخلفة حتي تتكلم عنها بهذا الأسلوب، لقد تعدت الثلاثين بمراحل، وتعمل كمدرسة نشأ علي يدها جيل صالح منهم ابني محمد وهي علي كلامك لم تكن لتقبل ايا كان، الم تقل إنها وضعت مواصفات معينة لمن تريد الاقتران به..

تمسك عبدالرحمن باتجاهه :

ولكنها عرضت نفسها للجميع وكان هذا الصعلوك احدهم.

اكملت سارة :

ولما رفضته حقد عليها واراد تشويه سمعتها وانت اعطيته ما اراد وجاريته فيما يفعل ولم تضع اصبعك في عينيه وتخرس لسانه.

بتململ قال عبدالرحمن :

انا كنت مقتولا ومطعونا بخنجر من خديعة زوجتي وإخفائها الأمر عني لأسمعه من حثالة الأرض.

- لم تكن لتخفيه لو لمست فيك تفهما واحتراما لخصوصيات اختها.

- وأنا الم تضعني في اعتبارها، الم تكن تفكر في موقفي..

قالت سارة بلوم :

لو كنت تحبها لآمنت بها ودافعت عنها مع غضبك عليها ورفضك لتصرفها. لما تركت هذا الحقير يتقول علي اختها ولا حتي يسمح لنفسه بالإشارة اليها ولأفهمته إنه إذا كان من حقه ان يتخير بين البنات وهو صعلوك فهي من حقها ان تتخير بين الشباب وفي كل الظروف لن تختار إلا افضلهم ولن يكون هو مطلقا بينهم..!!

كان الهاتف يرن بإزعاج شديد وعندما انطلقت سارة بمقعدها للرد كانت علي الهاتف فاطمة الابنة الكبري لوضحة ذات الثالثة عشرة من العمر تخبر والدتها بأن عليها الحضور للمنزل لأن فاطمة زوجة شقيقها عبدالرحمن لديهم.

باستغراب شديد ودون تعليق اعطت سارة اختها السماعة التي استغربت هي الأخري ولم تستطع استيضاح الأمور من ابنتها بسبب وجود عبدالرحمن وطلبت منها ان تستبقيها فستحضر حالا.

وقالت وهي ترمق سارة وقد فهمت الأخيرة :

هناك امر عاجل في المنزل وسأعود قريبا.

وبخروجها ساد الصمت حيث اخذ عبدالرحمن يتجرع شايه بينما كانت سارة ترمقه باستغراب.. كيف تحول عبدالرحمن الهاديء الي شخص يسهل استفزازه ودفعه الي اتخاذ قرار غبي كهذا. وماذا تريد فاطمة من وضحة.. لا بد إنها تريد شرح الموضوع لها وتطلب تدخلها للمصالحة مع هذا الغاضب المتهور الذي يتحكم به مجلس الموتورين والحاقدين..!!


السادس والعشرون

الكيان والتابع

لم تكن حصة تدرك إنها قد خالفت نواميس المجتمع عندما تركت الخاطبة تأخذ صورتها ومواصفاتها وطباعها وشروطها بشريك حياتها وتزاول عملها بعرضها علي الخاطبين المحتملين. إنها مجرد صورة عادية كالتي لجواز السفر ومعلومات تشرف كل عائلة إن ابنتها تحوزها. ولم تخبر عائلتها سوي شقيقتها فاطمة لأن لا احد يتفهم الموضوع من جهة كوالدتها أو لا يهتم كبقية اشقائها. لقد وازنت الموضوع بحكمتها وهي يتيمة الأب وقد تعدت سن النضوج واصبحت في السابعة والثلاثين ومن حقها ان تجد شريك حياتها المأمول وأن تفرح بأبنائها، ولم تعرض نفسها في سوق النخاسة، ولم تقابل احدا أو حتي تكلمه شخصيا، إنها الي الآن رفضت خمسة ممن اتت بهم الخاطبة دون ان تراهم فقط بناء علي تاريخهم الشخصي أو بسؤالها عنهم وسط محيطها وقد وجدتهم غير مناسبين. ها هي اول الضحايا فاطمة وقد استثنت نفسها رغم إن امها اشعلت نارا لا تخمد ببيتهم وقد نعتتها بصفات كثيرة وطلبت منها ان تلازم غرفتها ولا تكلمها. سكتت حصة علي مضض فهي ليست طفلة صغيرة لتقفل علي نفسها غرفتها عقابا لها بل هي تقريبا ربة البيت التي تدير اموره رغم عملها صباحا ولكنها مسئولة عن كل شيء ولا تفهم امها سوي أن تأمر وتشترط وتطلب دون ان تكلف نفسها بجهد مجرد التفكير بكيفية تحقيق كل طلباتها..!! علي عجل اسرعت وضحة الي بيتها لتري فاطمة وقد كانت تكن لها معزة خاصة لطيبتها وحنانها وتواصلها الدائم معهم. التقت وضحة بفاطمة عند باب الصالة، حيث قامت اليها تعانقها لتجهش الأخري بالبكاء. تعوذي من الشيطان يا فاطمة واتركي فرصة لعبدالرحمن وسوف يأتيك بنفسه معتذرا

- أين يأتيني يا وضحة وقد طردتني امي

ماذا..!! امك طردتك.. ولماذا..

- لأنها لم تعلم بما اقدمت عليه حصة ولما علمته مني بعد ما حدث مع اخيك طردتني غير آبهة بأنني اصلا مطرودة من بيتي. لم تتمالك وضحة نفسها.. هل تضحك ام تغضب من هذا الموقف ولكن يا فاطمة.. كيف تبرر امك ذلك.. ما ذنبك انت في شيء اقدمت عليه اختك وهي في بيتها وأنت في بيتك.

- لأنني كنت اعلم وتكتمت طيلة هذا الوقت ولم أخبرها. أنت لا تعرفين امي.. لم تقبل سلام أخي لمدة سنتين لأنه تأخر في العيد ولم يأت للسلام عليها اولا وتغدي في بيت حماته ثم اتاها مسلما. لقد طردته وحرقت قلبه واهانته امام جميع اخوته وتركته كالذليل امام بابها كلما جاء معتذرا طالبا السماح اشاحت بوجهها وظلت تطرده.

اقشعر جسد وضحة اشمئزازا من هذا الأسلوب المجرد من الرحمة

لا يجوز ان تتلاعب امكم بعواطفكم وبالقوة الإلهية الممنوحة لها كأم.. هذا حرام

قالت فاطمة بوجع واحباط : انا في نارين الآن.. بين غضبها والأهم اين اذهب بهذين الطفلين وانا اعلم ان اشقائي وشقيقاتي ان تقبلوني فأنهم لن يتقبلوا اطفالي.

- عودي لبيتك يا فاطمة واخزي الشيطان

- لقد طردني اخوك يا وضحة اين كرامتي

- قد يطردك اخي من بيته وليس من بيتك وبيت اولادك.. ان جزءا منه لك ولأطفالك، وستعودين للذي يخصك، وهو اتركيه حتي يعتدل مزاجه.

- لا ادري يا وضحة لم اتصور ابدا ان امي بهذه الوحشية والقسوة، كيف تطردني وقد جئتها مطرودة.. الم تشفق علي حالي.. الم تأخذها النخوة وتجيرني وقد احتميت بها.. كيف يهون عليها ان تسبب الألم والقهر لأبنائها.. انني لا اصدق هذا الموقف منها.

- اسمعي مسألة امك لا تفكري بها ولا تدعيها تحطمك.. سامحها الله انها تريدك ان تشعري بالذنب وتنتقم منك في نفس الوقت لتجاهلها.. انت لم تخطئي وهذا امر بينها وبين ابنتها الأخري ولست سكرتيرة او جاسوسة لتنقلي اخبارها. وبعد الذي عرفته عن امك لن الوم اختك في البحث عن مستقبلها فلابد ان معاشرة مثل هذه المرأة واسمحيلي علي قول ذلك... يعتبر جحيما.. اختك لم تخطيء وفعلت ما شعرت بأنه الصواب.. وعلينا الا نضع كلام الناس مقياسا لما هو حق او باطل، الانسان عليه ان يحكم ضميره.. اما كان عليها ان تقف الي جانب ابنتها وتؤازرها بدلا من ان تجرحها هي الأخري وتكسر قلبها المكسور اصلا..!!

تنهدت فاطمة من اعماق قلبها ورددت :

انا ضائعة ومنقبضة القلب ولا ادري اي باب من اخوتي واخواتي الذي سأطرقه وآمل ان اجد الترحاب.

اسمعي يا فاطمة بيتي مفتوح لك وهؤلاء اولادنا.. اولاد اخي ولكن في المقابل سارة هناك في بيتك وحدها مع اولادك الآخرين وانت تعلمين ظروفها ولا تستطيع وحدها الإشراف عليهم ومتابعتهم وهم خارجين داخلين.. لديك اولاد في سن المراهقة يحتاجون امهم.. دوسي علي كبريائك وسأذهب معك الي بيتك وسأكلم عبدالرحمن وافهمه بأنني التي أقنعتك بالمجيء وجئت من اجل الأولاد. أما أمك فاتركيها.. نعم للوالدين حق.. ولكنك لم تذنبي وهي التي طردتك.. اتركيها فترة لتهدأ الأمور مع ابنتها الأخري وتراجع نفسها اذا الله اراد لها خيرا وبعد ذلك عاودي زيارتها.. لعل وعسي

كانت فاطمة تغطي وجهها بطرحتها وتجهش بالبكاء بينما الطفلان يلهوان حولها وعندما سمعا دموعها تشبثا بها بينما شاركها ابن الثالثة نحيبها وقد علاه الضيق والخوف.

انطلقت وضحة الي المطبخ وامرت الشغالة بإعداد العصير وبعض السندويتشات السريعة للطفلين ثم تفقدت ابناءها حيث انتهز الأولاد وجود فاطمة فاعتبروا انه لابد إنه حدث الصلح وانتهي الموضوع

فطلب محمد من امه السماح لهم بالخروج :

الخروج وعرفناه ولكن الي اين ستأخذ ابن خالك ونحن في ايام المدرسة وعليكم الدراسة والنوم مبكرا.

- وهل المدرسة يعني حرماننا من كل شيء.. المدرسة معظم شهور السنة، هل ندفن انفسنا احياء.

- لا.. يا حكيم العائلة و لكن لم تخبرني الي اين..

- سنذهب الي صديقي فهد وسنفكر ما نفعل.

اسمع لا اريد وجع رأس. أنا مشغولة مع خالتك فاطمة وايضا لدي زيارة خالد.

تململ محمد وقال بضيق :

اوه.. آذيتينا مع خالد.. ونحن ليس لنا مكان، متي ستعترفين بأنه مات خلاص.

انقبض قلب وضحة وتغيرت سحنة وجهها بينما لان قلب محمد واحس بالخوف ولكنه تماسك نفسه ولم يظهر ضعفه وعندما رآها تحاول النهوض من جديد غادر المطبخ.

كانت مفاجأة مفرحة للخدم عندما وطئت فاطمة عتبة بيتها فقد كانوا في هم عظيم من اسلوب التصرف مع اولادها وزوجها.

فهو لا يعرف شيئا في البيت ويريد منهم ادارته بنفس الطريقة والنظام الذي يتقيد به الجميع عندما كانت ربته موجوده. ولا يدري بأن اولاده غيروا القواعد وفرضوا اسلوبهم وهم لا يستطيعون سوي الشكوي لسارة التي ضاعت بينهم ولا تدري كيف تتصرف هي الأخري.

اما سارة فلم يدهشها دخول فاطمة اليهم بقدر ما ازاح ثقلا عن كاهلها. وصرخت منفعلة

هو يوم واحد منذ غادرت ولكنني احسه كأنه دهر.. الحمد لله علي رجوعك واستلمي عهدتك

قالت فاطمة شاكية :

ولكنني لا اعرف ردة فعل اخيك.. ربما لا يعجبه قدومي.

- لا يعجبه.. في هذه الحالة يأخذ شنطته ويغادر.. لا يا عزيزتي.. لا احد يدبر هذا البيت الا انت. واولادك يحتاجون الي حزمك. ان المسألة ليست عنادا او استعراضاً.

عادت فاطمة الي الشكوي من موقف امها. انها لا تستطيع ان تستحمل غضب احد والديها عليها. هذا يحملها عبئا لا تستطيع تحمله وفي هذه الظروف ايضا. وتابعت :

اشعر بأنني حزت علي كراهية الجميع.. اليس هذا فألا سيئا. الا يعني ان الله غاضب علي ولن يوفقني..

- لا تكدري نفسك بهذه الأفكار. ولا تخلطي المشاكل مع بعضها البعض. ما دمت لم تفعلي الا ما اقتنعت به فلا تتضايقي.

- اليس حراما ان اغضب زوجي وامي.

صاحت بها سارة : هل معني ذلك ان تتخلي عن قناعاتك وتصبحي ألعوبة في ايديهم فقط لتنالي رضاهم..

- انا ابحث عن رضي الله وهو مع رضي الوالدين.

-انت لم تتحدي امك ولم تفرضي عليها شيئا.. انت احترمت خصوصية اختك وسانديها بصمتك هل هذه جريمة..

- انا اتعذب ولن ارتاح حتي ترضي امي

- غدا يوم آخر.. اذهبي لها واطلبي السماح واعتذري لها لعلها تشفق عليك عندما طردتك مع طفليك و انت مقهورة من زوجك

زالت فرحة سارة من قدوم فاطمة و قد غصتها الهموم التي سمعتها.. هل يعقل ان تمحي المرأة وجودها وشخصيتها وتبطل مفعول معتقداتها وتختبيء بعباءة زوجها وامها وابوها طيلة حياتها وإلا اتهمت بالعقوق والنشوز والعصيان. وهددت بالغضب الإلهي الذي هو اعلي درجات العقاب. هل تخرس ضميرها وتخمد انفعالاتها الطبيعية لأنها لا تنسجم مع رغبات وتطلعات ومزاج اولياء امورها. هل هي انسان كامل ام مجرد تابع.. تابع.. تابع..!!

هل مشكلة فاطمة يفاقمها إنها كوضحة لم تكمل تعليمها ولم تعمل يوما ما لذلك فهي تحت رحمة زوجها أواهلها ولن يضمها أي طرف إلا تحت شروطه وينتزع منها اهليتها كإنسان له كرامة ورأي وموقف.

وبكت سارة وهي تشعر بموقف حصة الفتاة ذات السابعة والثلاثين التي تشهد ابناء اخوتها واخوانها يترعرعون امامها وهي ترقب النصيب الذي لم يأت. بل إن ابنتي شقيقتها الكبري تزوجتا وأنجبتا ولاعبت أحفاد شقيقتها، ولم تتمتع قط بأمومتها. ولقد ربت أبناء شقيقها الذي كانوا يسكنون معه هي وامها وشاركتهم افراحهم واحزانهم ومشاكلهم قبل ان ينتقلوا مؤخرا الي بيت خاص بهم وكم تمنت ان تعيش افراحها في بيتها ومع اولادها.

ما هذه الأنانية التي تتحكم بالبشر وبأقرب الناس اليهم ولم يستكثروا عليها التفكير بوسيلة لبدء حياتها قبل ان يفوتها قطار الأمومة وتكبر أكثر وأكثر ولا تستطيع الأنجاب. هل اذنبت.. هل ارتكبت المحرمات.. فقط لأنها لم تجعل كبرياءهم ورياءهم الإجتماعي عقبة في طريقها.. لأنها لم تتظاهر بأنه لا يهمها ان يهدر عمرها بين عينيها ولم تقتل احلامها ولم تجهض املها بأن تكون لها اسرة ما..

السابع والعشرون

المرأة والزواج

لم يكن زواج وضحة المبكر ليمنعها من الإحساس بوضع غيرها من الفتيات اللاتي مر عنهن قطار الزواج دون انذار..!! كانت تنظر الي حياتها الصاخبة كأم وزوجة ومسؤولة عن عائلة وتقارنها بحياة الأخريات وخصوصا من جيلها اللاتي لم يتزوجن..!! بعضهن يعمل والبعض الآخر جليسات البيوت وكانت تحاول ان تستشعر حياتهن الخاوية علي عروشها ومشاعرهن وهن ينظرن الي ساعة العمر وهي تمضي بسرعة، ويرقبن الصغار من اطفال العائلة الذين يكبرون بين اعينهن وهن يلطمن امومتهن العقيمة، بينما بين فترة واخري يحضرن زفاف احد هؤلاء الصغار الذين كبروا بينما ظللن واقفات محلهن وتحفر ليالي الفرح اخدودا من التذكير بنسيان الزمن وتجاهله وعبوره المجحف عن طريقهن، وبعد اعوام يكرر هؤلاء من كانوا اطفالا دورة التناسل والولادة بينما تبقي هؤلاء مكانهن كأنهن شجيرات يابسة وارواح بلا صدي..!! كانت تنظر الي الجفاف الذي لا يشعر به احد في حياته، روتين الحياة الذي لا يحمل مفاجآت وانفعالات وادوار ومراحل، يختزلن الحياة كلها في مرحلة الابنة التي تظل ابنة حتي تشيخ ولا تصبح امرأة وزوجة وأماً وحماة وجدة. لا تعيش تجارب الحياة بكل حقبة من مراياها المتعددة الانعكاسات بكل ما تحمل من معاناة وآلام وفرحة وترقب وخوف ومتابعة وفخر وانتظار. كذلك يلفت انتباهها ذلك التناقض المريع بين رموز الحياة وواقعها. بين الفطرة التي تجبر الانسان علي عيش حياته بأدوارها المختلفة وإلا عاني من الحرمان والضغوط والأمراض النفسية وبين المجتمع الذي لا ينتبه الي وضع حلول لهذه الحالات ويتركها تتابع حياتها كأن شيئا لا ينقصها ولا ينغص عيشها. فالزواج نصف الدين ليس كما يفهم البعض بأنه حماية الناس من الانحراف فحسب واشباع حاجاتهم الطبيعية بغطاء شرعي يحميهم ويحمي المجتمع من التفسخ والانحلال ولكنه يلبي ايضا حاجة الانسان الطبيعية الي تكوين حياة ووضع لبناتها، فمن امرأة ورجل تمتد عائلة كبيرة لها جذور وفروع وما يمثل ذلك من اغناء لنفسية المرأة خصوصا واشباع امكانياتها وقدراتها الفائضة ومخزون حنانها المتدفق. فالمرأة بحكم طبيعتها طاقة متفجرة بالعواطف والمشاعر الي متي تعيش علي الهامش الي متي تنام وتأكل وتجامل الآخرين وتواظب علي اداء الواجبات الإجتماعية، وتري اطفال غيرها يكبرون امامها.. الي متي ترقب افول العمر وهي صامتة تشهد جذوة انسانية تموت وتخمد داخلها.. وهل من السهل عليها ترقب انتهاء قدرتها البيولوجية وصلاحياتها لتكون اما الي الأبد.. هل يدركون انها تري حياتها علي الهامش تمضي الأحداث وكأنها فرد زائد في العائلة ولا مكان لها بصنع الأحداث أو تذوق طعم الأحاسيس البشرية المختلفة.. عندما قالوا لها ان احدي معارفهم تم طلاقها وقد تزوجت زواجا غير متكافيء أنتج ولدين. وانها الآن تعاني مشاكل مع طليقها واحتمال تشتت اطفالهما بينهما، لم تعتبر ذلك تجربة فاشلة وقالت لها : يجب الا تندمي علي زواجك من البداية ولو كان من الشخص غير المناسب. انه افضل الا تعيشي تجربة الزواج علي الأطلاق، ولولا هذا الزواج لم تكوني لتبتهجي برؤية هذين الملاكين في حياتك، وكنت لن تعيشي تجربة الأمومة ابدا، وايضا بزواجك تغيرت شخصية تلك الفتاة التي كنتها بلا مسئولية ولاتفكير وفهمت الحياة اكثر واصبحت لحياتك هدف ومعني. كانت وضحة تقارن بين شخصيتها قبل الزواج وبعده ووجدت انها تغيرت تماما بعد اشهر قليلة من الزواج، تعلمت اشياء كثيرة من شخصية احمد ومن طباعه وعلمت ان الفتاة تتربي في بيت اهلها ولكن تهذيبها وصقلها ونضجها لا يتم الا في بيت زوجها. فعند اهلها ستظل مدللة نوعا ما وابنة في نظر والديها ولكن في بيت رجل يعاملها كامرأة مسئولة ويطالبها بالظهور والتصرف بطريقة معينة يساعد علي اكتمال نموها وصقل شخصيتها بالإضافة الي التعامل مع اهله والدخول في اجواء حياة عائلة اخري مختلفة عنهم في بعض الرؤية والتجارب، ومحاولة كسب ودهم والتطبع بعاداتهم للتقرب منهم ونيل رضاهم. لذلك يعتبر الزواج حياة مليئة بالخبرات الأنسانية والتدفق الذي يجعل للحياة معني وقيمة، يكفي انه مسئولية وشجاعة لتأسيس اسرة وتحمل متطلباتها وجموح أبنائها ومتاعبهم. لذلك تعتبر وضحة المرأة اكثر مسئولية وشجاعة من الرجل لأنها تحلم بالزواج منذ طفولتها عندما تحمل العرائس وتؤدي دور الأم رغم ما يحمل معني الأمومة من مخاوف وآلام الحمل والولادة المروعة. وتعتبر الرجال الذين يضربون عن الزواج رغم تعديهم الثلاثين يعانون من متاعب نفسية وذلك لأنهم يخافون خوض التجربة لعدم استعدادهم لأداء دور فاعل وحقيقي والمشاركة في تحمل اعباء ومسئولية اسرة كاملة، وهم لا يريدون التورط في عملية المسئولية وتحمل تبعاتها والقلق من اجل حماية افراد آخرين وتوفير العيش الكريم لهم . والزواج لا يشبع غريزة الأمومة فقط لدي المرأة بل يجعلها تعيش عمرا آخر متجددا عندما تصبح جدة وتعيش مشاعر خلابة وعارمة لا تقل عن كونها اما، بل تكون ويا مفاجأة القدر اما من جديد لأجيال اخري يحملون الفرح والروعة لحياتها ولا اعز من الولد الا ولد الولد..!! كأن الزمن يعيد دورته المبهجة لها، فهي تنبت مزهرة في اوراقها من جديد، وتعيش تجارب ومخاوف الولادة مع عملية انجاب أبنائها وتربية احفادها برؤية ومعالجة جديدة. كانت وضحة تشعر بأن الجدات افضل حظا من جيلها لأنهن عشن حياتهن وتركن بصماتهن وكانت لهن لمساتهن الواضحة والجليلة علي حياة اولادهن واحفادهن من بعدهم. بل انها تعرف بعض النساء من كن متزوجات اكثر من مرة وابناءهن من هؤلاء الأزواج المختلفين رغم نموهم في اسر مختلفة في مراحل حياتهم اللاحقة الا انهم اكثر ارتباطا بأخوتهم من الأم عن اخوتهم من الأب..!! كانت هناك سلاسة وعفوية في امور الزواج والارتباط ولم يكن يعرفن العواطف واغاني الحب وافلام ومسلسلات الغرام ومع ذلك كانوا يعيشون حياتهم العاطفية بدون تعقيد، يتزوجن ويتطلقن ويتزوجن من جديد بلا حساسية وافكار ومواقف..!! وحينما ظهرت هذه الأشياء وبات الحب مفروضا علي المفاهيم العامة ومختوما في دفاتر المدارس وبين طيات احلام المراهقين، ظهرت القوالب الجامدة التي غلفت مفهوم الزواج واصبح صعبا وثقيلا خاليا من البساطة والفطرة. بل ان الحضارة كلما امتدت ونمت زادت من وحدة وانعزال الشخص فأصبح متطلبا لا يرتاح الا لنوعية معينة لا يمكن أن يجدها الا في خياله، وكلما كبر في السن محتفظا برغبته بالاختيار والتمييز بين من يرشحون للارتباط به، فقد اتصاله بالآخرين وقد زادته الوحدة امعانا في الغوص بعالمه وزاد تشوش اتصاله مع الغير لذلك فإن الكثير من الشباب الذين يتأخرون بالزواج يجدونه اصعب بعد ذلك بينما يمكن للشاب الصغير المتزوج مبكرا من خوض تجربة الزواج عدة مرات غير هيابا ولا مترددا ولا مفكرا بالنتائج..!! كذلك كلما قلت ثقافة الشخص وكان مستوي تعليمه بسيطا كلما اخذ الأمور ببساطة ودون تعقيد ولم ينسحب علي نفسه بل يكون اجتماعيا واكثر انفتاحا وكلما تعمق الشاب اوالفتاة في التفكير وحصد الشهادات كان انتقاؤه ملموسا ورفضه واردا لقبول أية حياة تعرض عليه دون اقتناع كبير.

الثامن والعشرون

غرور الرجال

بعد يومين قامت فاطمة بزيارة الي امها وقد زاد وجيب قلبها وهي تقترب من بوابة بيتهم. يا تري كيف ستستقبلها امها.. يكفي هجران زوجها ونبذه وشماتته فيها بعد ان علم بعودتها الي المنزل. لقد أخذ يرغي لكي يسمعها وهي صامتة في الطرف الآخر من الصالة.. كان يعيرها بأنه مادام ليس لها الا هذا البيت وان لا احد من اسرتها يريدها فعليها ان تحمد النعمة ولا ترفع رأسها وتخالف اوامره وتعتقد بأنها تستطيع فرض رأيها عليه..!! ياللإذلال والمهانة التي تشعر بهما وهي تحت رحمته..!! اين تذهب وتترك اطفالها وبالفعل من سيتحملهم من اسرتها وهي لا تملك المال لكي تعيش مستقلة ووظيفتها خدمته واولاده... حتي الخادمة تحتفظ بكرامتها واستقلالها وشخصيتها وتحصل علي راتبها بعرق جبينها الذي لا يعايرها احد عليه.. وها هو يعايرها وهي تعمل بوظيفة مدتها اربعة وعشرون ساعة وتنجب له اولاده ايضا وتدفع من صحتها وشبابها واعصابها وحياتها لهم انهمرت دموعها وقد احست بوحدتها وضعفها. ما ان رأتها والدتها حتي اشاحت بوجهها ونهرتها ساخطة، الم اقل لك لا تدخلي هذا البيت مادمت حية موجودة فيه.. هيا اخرجي ولا تريني وجهك. حاولت فاطمة الانكباب علي رأسها باكية طالبة السماح منها.. الا انها نفضتها واخذت تبعدها بذراعيها بهيستيريا منحتها قوة مخيفة استغربت لها فاطمة واثارت فزعها بالفعل. وما كان منها الا ان غادرت لئلا تثير امها اكثر وتسمح لها بالسباب والصراخ وقد جاء الخدم يتفرجون علي المشهد وهم يتساءلون بفضول عن التفاصيل. كانت سارة ترقب لوعة زوجة شقيقها وانفعالها لأتفه الأسباب علي اولادها حينما يكثرون الشغب والصراخ متابعين حياتهم الطبيعية ولا يشعرون باحباطات امهم، وترقب خيلاء شقيقها الذي صور له غروره بأن عودتها المكسورة الي البيت بينت كم انها مهيضة الجناح وكم إنه يملك مصيرها وكيف إنها تحت رحمته. وقد فوجئت من كلام شقيقها الأوسط غانم بأنه سمع بعض الأقاويل غير المؤكدة بأن عبدالرحمن يبحث له عن عروس هل معقول وقد اصبح اولاده في سن الجامعة سيتزوج من جديد.. يا لغروره و قلة مشاعره..!! والذي اصابها بالغثيان والغضب عندما قالت لها فاطمة وقد شحب وجهها كالطيف:اتدرين كيف علمت امي بعرض حصة طلب الزواج.. لقد اخفينا الأمر عنها وعن اخوتنا وبالطبع عن عبدالرحمن ايضا علما منا بأنهم حساسون ازاء هذا الوضع وسيضخمونه وسيصدعوننا بدعواهم ولغطهم حتي قبل أن نتخذ اية خطوة. وكنا لا نري بأسا من البحث عن الزوج المناسب ما دام بإمكان الرجل البحث عن الزوجة المناسبة وذلك في إطار العادات والتقاليد ولم نر بأسا من وجود صورة حصة لدي الخاطبة وهي صورة محتشمة بالحجاب والعباءة ولا تخرج عن اطار الحشمة والوقار ونتحدي أيا كان ان يتعرض بالسوء لأي كلمة كتبتها حصة عن نفسها اوبأسلوب عرض الصورة. ولا استطيع ان ارقب اختي تذبل مكانها وتربي اولادي معي وتربي اولاد اشقائها وتحرم هي من رؤية اولادها بينما يمكن ان يكون بالخارج شخصا مناسبا لها بل لقد تبين ان هناك من هو محتاج اليها بالفعل بعدما لمس عطفها وحنانها من خلال مساهمتها بتربية ابناء اختها وأشقائها. كانت الخاطبة تتصل بحصة بين فترة واخري لتعلمها بنتيجة العرض الذي قدمته وكان معظمهم شبه عاطلين طامعين براتبها او ذوي ظروف رفضتها جميع الأسر التي تقدموا لها لدرجة انها ندمت بالفعل علي تصرفها واحست بأن والدتي محقة برفضها هذا الأسلوب وان الجميع كانوا بعيدين النظر باعتراضهم.. الي ان اخبرتها عن مدرس يسكن في الشمال توفيت زوجته منذ عشر سنوات وتركت له ثلاثة أطفال تفرغ لتربيتهم مع والدته وتأمين مستقبلهم. لديه فيللا من كبار الموظفين راتبه جيد وقد فكر بالزواج بعد وفاة والدته منذ اشهر وكان يبحث عن الفتاة المناسبة التي تشاركه تربية الأيتام وعن طريق احد الأشقياء الذي يقرب لزوج شقيقته من الذين التقوا بالخاطبة ورفضتهم حصة سمع بها وعرف قصتها واحترم اسلوبها الجريء. وايضا وجدت فيه ضالتها بعدما ارفق سيرته الذاتية مع الخاطبة ووافقت علي العرض وبقي زف النبأ للوالدة لعلها تبارك الزواج وتصفح بهذه النهاية السعيدة عن كل المعاناة والترقب والقلق التي عشناها منذ وضعت حصة اعلانها لدي الخاطبة. منذ علمت امي إن الخاطب جاء بهذا الأسلوب استيقظت وحشيتها ولا ندري ما الذي اثارها اكثر.. تخطيطنا دون علمها.. رفضها زواج ابنتها عن طريق عرض طلب للزواج.. كون العريس يقطن في الشمال وهي تعودت علي حصة ورعايتها لها واستيقظ فيها حب الامتلاك.. لا أدري سوي إنها ارغت وازبدت ورفضت هذا العريس وحرقت قلب ابنتها بالفعل وانتقمت منها بوحشية علي تصرفها. إن ما فعلته بي لا يساوي شيئا وأنا اري حصة منطفئة وحزينة ومحطمة بعدما كانت متوهجة وطموحة ومتفائلة. وسقطت دموع صامتة منها ولم تكن وحدها فقد كانت الدموع والحرقة تخنق سارة، وهي تتمتم

لك الله يا حصة..!!


وللأحداث بقية



الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 10:09 AM [ 26 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Nov 2006
رقم العضوية : 1994
الإقامة : qatar
الهواية : كتابة الخواطر
مواضيع : 1901
الردود : 9766
مجموع المشاركات : 11,667
معدل التقييم : 25بسمة is on a distinguished road

بسمة غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 3
العضو المميز

الحضور المميز

عضو مخلص





تداعي الفصول:للكاتبة مريم آل سعد الحلقة التاسعة)

التاسع و العشرون

من يقرر المصير..

تأثرت سارة بما حدث لكل من فاطمة و حصة، انه لشيء مخيف أن لا تحس المرأة بالأمان والاستقرار بحياتها فهي مهددة دائما بمن يحرمها من حقوقها الطبيعية بحكم الزواج كحالة فاطمة و طاعة الوالدين كما هو حال حصة، وفي النهاية يكسرن وتغلق افواههن ويمنعن حتي من حق التعبير ولتمرض نفوسهن وليخزن غضبهن داخلهن ليصب علي انفسهن. هل تترك نفسها لهذا المصير، هل تغلق عليها صومعة الأحزان وتظلل نفسها بالشكوي وتذكر الماضي أم تكسر هذا الحاجز الوهمي الذي يقيدها بين اطاره.. كانت تدرك تمام الادراك بأن ما هو مقدر سيتم وأن الأمور ستطبق ولو علي النحو الذي تكرهه ولا تطيقه اذن لماذا تعذب نفسها أو بالأحري تلوم نفسها بأنه حدث هكذا.. هل تستطيع منعه وايقافه.. لا..!! اذن لم تحمل نفسها اكثر من طاقتها وتلومها وتحاسبها يبدو ان ذلك ضريبة لا بد من دفعها علي الرغم من ايمانها بأنه مقدر ومكتوب ومرسوم بخريطة المصائر وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم..!! عجيب امرها.. لم تحولت الي هذا الضعف ولم آمنت بأن قدرها أن تكون حبيسة مصيدة الوساوس وانه لا مفر من القدر وما هو مكتوب علي الجبين يجب ان تراه العين.. !!لم رضيت بمصيبتها بشللها باعاقتها ولم اعطت الآخرين الذين آذوها التبرير المناسب.. هل وصلت الي الدرجة التي سمحت لجلاديها بتعذيبها بموجب صك اعترافي منها.. لم لا ترد.. لا تدافع.. بل لم تدافع.. هل اذنبت في الدرجة الأولي. ألم تكن الضحية.. يعذبها تصديقها وتبريرها بأنه لو لم يكن الخلل بها لما تركها سالم، ولكن.. من يكون سالم.. ولم هو علي حق بينما هي علي باطل.. لم تزعزعت ثقتها بنفسها فقط لأن المصائب تزامنت وقد تعلقت بحبائل بعض. ولم لا يخطر ببالها ان تدينه لأنانيته وتفضيله مصلحته الخاصة علي انسانيته قبل مسئوليته نحوها.. !!كونها وحيدة وسط غابة من الظنون والنكبات والضغوط ضاعفت من تشويشها لدرجة انها صدقت انه قدرها، وعليها الرضي به، وكل الذي عليها هو الابتعاد والبحث عن السلامة والرضي الداخلي. ولكن أني يأتيها الرضي وداخلها غضب عاصف من ضعفها والظلم الذي قبلته والخنوع الذي ارتضته.. أي سلام داخلي وهي تحس بالضعة وعدم الرضي عن صمتها وانكسارها وتقبلها لأذي الظالمين من حولها. كانت تهرب ولكن ليس علي حساب جزء غاضب في نفسها يطلب رد الاعتبار ويريد الثأر ولا يرضي بالغبن. من قال لها انها ارادة الله ان تسقط في القاع وتلزم الأرضية الزلقة المتعثرة ولا تتخيل ذرة من فرح وسعادة. كيف اقتنعت ان مصيرها قد تحدد بالألم وعليها الرضي به . لم في الدرجة الأولي تعاقب نفسها لدرجة انها تسمح للآخرين بصفعها ومهاجمتها بكل اريحية وكرم... وما يصيبكم من خير فمن الله وما من شر الا من انفسكم.

اللة لا يأتي الا بالخير فكيف ندعي اننا نرضي بشيء اراده الله لنا. انه لا يفعل الا الخير ويريد لنا الخير واذا اصابتنا مصيبة منه فمعناها انها لصالحنا ولكن ليست كل المصائب منه سبحانه ولصالحنا بل احيانا ومعظمها تكون من صنعنا نحن البشر.. فهل هذه السلبية والتقاعس والانزواء والتضعضع هو الشر الذي ساقته لنفسها..

حتي لو رضت بالموت فهناك جزء منها لا يتوافق معها و لا يقتنع بما تحاول تجرعه من اندحار، وكذلك هل بيدها تمني الموت ساعة تشاء وتحصل علي مرادها..

ادركت حينها بأن الذين يكرهونها ويستهدفونها ونغصوا عليها دورة حياتها كانوا في الحقيقة يسيئون لانفسهم، ان الكراهية ابنة الحقد، والحقد مولود من رحم الغيرة، والغيرة شر ازلي وسبب اول جريمة في تاريخ البشرية.

الذين يكرهون يعرضون انفسهم لخطيئة الهية لا يغفرها الرب، لانهم يعتدون علي غيرهم ويطفأون منبع الصفاء والنقاء والشفافية في صدورهم، ولانهم يسمحون للغضب والحقد والانتقام والادانة بالسيطرة عليهم، وتشويه فطرتهم السمحة التي جبلها عليهم الرحمن.

انهم يلوحون بالسلطة ولا يستوعبون بأنها اداة خطيرة سيتمنون يوما ما انها ليست لديهم لانهم سيحاسبون عليها. الم يكن عمر بن الخطاب يرتجف خوفا من الحساب وهو امير المؤمنين، ولم يجعل صفته هذه عازلا وحاميا له لتبرير ما يقوم به. انه يدرك بأن السلطة مسئولية وربما شرك ظاهره جميل ونعيم وقدرة علي صنع الرغبات ولكن باطنه حساب عسير وامتحان غير متوقع.

ان القدرة علي المسامحة والغفران قوة لا يملكها الا من تجاوزوا مدارك عقلية كثيرة ووصلوا الي مرتبة فكرية وتأملية وروحية عظيمة.

انها منزلة لا تتأتي للكل ومرتبة لا يصلها الا المصطفون الذين ارتفعوا عن انانيتهم واحقادهم وكراهيتهم ورأوا النور الشفاف. انها صفة لا يتمتع بها الا من ارتقت نفوسهم، وهامت ارواحهم في الأعلي، ورأوا ما لا يراه البشر وعلموا ما لا يعلمون، واستشفوا طاقة المغفرة، وهي صفة من صفات الرحمن.

ومن يغفر للآخرين يغفر الله له، ومن يرق قلبه ترق السماء لندائه ومن يسمو عن صغائر الأمور تتواتر طمأنينته ويترسخ ايمانه. لانه سيدرك ان ما اصابه من ضر فهو في الحقيقة ليس بفعل كارهه وعدوه فهو لا يستطيع ايذاءه الا اذا شاءت قدرة الله ( ولو اجتمعت الجن والانس علي أن يضروك بشيء لن يضروك الا بما كتبه الله عليك)

هكذا ببساطة.. لن تضره هذه الكراهية لأنها مكتوبة عليه، ولكنها ستكون المعول الذي يلطخ صاحبها بالبشاعة الداخلية، ويشوه حسناته ويفسدها، ويشوش نواياه ويدمرها.

كلما حاولت التملص من قبضة هذا القدر وتحديه وعدم الاستسلام له وجدت ان هناك شعورا كالسحر يخدرها ويجعلها تتقبله ولا تحاول تغييره وخدر لذيذ للاستسلام للواقع ومراقبته دون مقاومة مع عدم الرضي عنه ولكن الاذعان فقط والمشاهدة..!!

الثلاثون

الهروب

اتصلت بها صديقتها تماضر من امريكا تطمئن عليها بعد ان وصلها خبر الحادث، تمنت سارة لو انها ايضا هناك تتابع دراستها العليا. كانت تماضر قد درست مع سارة المرحلتين الثانوية والجامعية ولكنها توظفت بمكان آخر وتزوجت بعد ذلك من ابن عمها وسافرت معه مباشرة الي امريكا حيث كان يواصل دراسته العليا هناك وحظيت ببعثة دراسية مماثلة من جهة عملها.

ظلت سارة تفكر في وحدتها بالمنزل بخيار السفر الي امريكا وتكملة دراستها هناك. وبدأ الموضوع يلح عليها أكثر وأكثر، هل تبقي ليأكلها الدود هنا، لتشهد عراك الزوجين ومشاكل اولادهما ومتاعب الخدم .

لا تستطيع الحياة مجمدة تتحرك من الغرفة للصالة وتبقي شاهدا علي احداث وتطورات حياة الآخرين بدون تأثير وفاعلية. اتصلت بتماضر وطلبت منها أن تبعث لها بالمعلومات عن الجامعة وطلب القبول والمتطلبات بأسرع ما يمكن واخذت تسألها عن الحياة الجامعية والسكن والحياة عموما، نسقت مع تماضر امر التحاقها بنفس الجامعة ونفس التخصص وطلبت منها ارسال اوراق الالتحاق وقد عزمت علي طلب بعثة مماثلة. وعندما ابدت مخاوفها لزميلتها بانها اصبحت الآن طالبة مختلفة تجلس علي كرسي متحرك.

طمأنتها تماضر بأن هذا القلق قد يكون مبررا في البلاد العربية ولكن امريكا اعترفت بحق المعوقين وساوتهم بالأصحاء وهيأت لهم المرافق والأدوات والأجهزة ليتابعوا حياتهم بدون أن يحسوا بالفرق عن غيرهم، وقالت لها وتغالب تأثرها :

وهل انت معوقة يا سارة.. كلها ايام وتعودين للمشي.

لم تستطع سارة مجادلة تماضر ولا استدار عطفها لانها تدرك انه لابد ان تتيح المجال للآخرين ليجاملوا ويخففوا ويقللوا من شأن الآلام.

كانت تماضر تقول لها بأن السكن الجامعي انسب لها حيث كان هناك غرف معينة بتواليتها مجهزة للطلبة المعوقين بنفس اعاقتها.. كاستديو صغير وتقع في الحرم الجامعي اقرب ما يكون للجامعة مما يوفر عليها مسألة التنقل بسهولة.. وعن اعاقتها طمأنتها تماضر الي وجود التسهيلات لأمثالها في الدخول والخروج والتنقل وفي استخدام الكرسي المتحرك في الجامعة.. ولا شيء يمكن ان يمنعها من مواصلة تعليمها.

وعندما اعلنت علي اخوتها الخبر بعدما جهزت اوراقها وحصلت علي موافقة البعثة من وزارة التربية والتعليم لم يرحب الجميع بقرار السفر.

هل جننت.. صرخ عبدالرحمن بحنق.. امريكا مرة واحدة.. !

كيف تفكرين.. انظري لحالتك..

تجاهلت تلميحه القاسي واردفت انا ادري بنفسي وحالتي. امريكا مجهزة للمقعدين ولا يواجهون مشكلة هناك كالتي نواجهها نحن في هذا المجتمع .

رد بنرفزة.. لا انت مجنونة خالصة.. طريقة تفكيرك غلط.. لن اتناقش معك.

أما وضحة فقد قالت :

اذا كنت متضايقة من الاقامة لدي شقيقك.. بيتي مفتوح وغرفة خالد حاضرة و..

وقاطعتها سارة بضيق :

لست متضايقة من بيت أحد.. بل من نفسي. لا اعيش حياة.. انا غير منسجمة مع الناس مع حياتي الفارغة بلا هدف.

قالت وضحة بحماس.. تستطيعين البحث عن وظيفة.. كاتبة كمبيوتر مثلا أو..

ردت سارة بعصبية. . وضحة.. لقد قررت وانتهي الأمر.

- انت لا تفكرين بطريقة صحيحة لابد ان هناك خللاً في مخك. لو ان والدي حي.. لو ان امي علي قيد الحياة ما فكرت كذلك.

تنهدت سارة وقالت :

اذا كان الموضوع يتعلق ( بلو ) فأشياء اخري كثيرة ايضا لو لم تحدث لما كنت هنا اقيم في هذا البيت اصلا.. لو انني وسالم لم ننفصل.. لو ان الحادث لم يحصل.. لو ان والدي لم يمت.. اليس كذلك... لتغيرت امور كثيرة ولكن ما حدث قد حدث.. وها أنا عاجزة ومحطمة ومعوقة ووحيدة وارجوك.. لا اريد مزيدا من المناقشة ما قد تم قد تم.. وعلي ان اواجه قدري.. !!

الواحد والثلاثون

أيها الآتي.. ما تكون..

كانت تريد واحدا من الاخوة مرافقا لها في سفرها لحين التحاقها بالسكن وخصوصا وان تماضر وزوجها سيكونان في البلاد لعطلة الميلاد ورأس السنة وقد يتأخرون قليلا وهي طالبة مستجدة ويجب ان ترتب امورها قبل بدء الدراسة في مكان جديد عليها تماما.

ولأنهم غير موافقين اساسا علي سفرها فقد كانوا غير متحمسين للسفر في الشتاء معها الي امريكا.. وقد طلبت تماضر المساعدة من صديقة لها من سلطنة عمان تدرس مع اسرتها هناك لاستقبال سارة بالنيابة عنهم وايصالها الي احد الموتيلات في المدينة ومرافقتها في اليوم التالي لاستكمال اوراقها في السكن الجامعي واتمام معاملاتها لحين قدوم تماضر وزوجها.

وفي المطار.. كانت وضحة هناك مع اطفالها يلوحون لسارة وفي قلب وضحة حزن وقلق ومخاوف حانقة علي عناد شقيقتها.. يا تري كيف ستغير مطار الي آخر ومن طائرة الي اخري وعليها النزول في ثلاثة مطارات وركوب ثلاث طائرات مختلفة للوصول لمحطتها الأخيرة.. يا لهذه المشاكسة العنيدة لم لم نحبسها فقط ونغلق عليها الأبواب ونوصدها كما المفروض ان نعمل مع خالد حتي نجنبه ما اصابه..

اما سارة فقد كانت مشتتة البال هي الأخري، يكاد ريقها يجف في حلقها وهي تعلم بأنها تسوق نفسها الي قدر مجهول الخطي وهي تعاند وضعها الصحي وتحاول الهرب منه بمواجهته وتحديه.

بدأ حزنها وشعورها بالغربة يستوليان عليها اكثر وأكثر وتفجر خوفها من المجهول.. فجأة.. كأنها افاقت.. كيف وصلت هنا.. ما الذي فعلته.. وهل هو خيار طبيعي.. لم عاندت اخوتها.. ولم تجاهلت تحذيرات شقيقتها.. هل كانت تريد معاقبتهم لانهم يتحركون ويمشون وهي طريحة الكرسي المتحرك.. هل تفسيرها لخوفهم من كلام الناس وتعليقات زوجاتهم اعماها عن رؤية خوفهم الحقيقي عليها..

لقد فات الأوان.. انها معلقة بين خياراتها ولا بد من المضي فيها..!!

عندما غادرت سارة مطار لندن متوجهة الي مطار شيكاغو.. كانت تداري غصة تختنق في حلقها ودموعاً تتلألأ في عينيها.

ها هي وحدها تسافر للغربة وللمجهول.. ليس من احد يعزيها ويخفف عنها ويشغل دنياها.

اخذت تتأمل المسافرين في الطائرة ولفت انتباهها وجود سيدة مع طفلها. كان الطفل يستحوذ انتباه والدته كله.. يشغلها ويلهيها ويضجرها حينا آخر بكاءه وتذمره.

شعرت بأن هذه السيدة قد انفصلت عن الكون وهمومه الأخري واستطاع هذا الصغير الكتلة اللحمية الضئيلة ان ينسيها كل شيء ما عداه.. يغضبها ويوترها احيانا ويبسط وجهها بابتسامة مضيئة احايين اخري. انكمشت سارة في مقعدها وانغمضت عيناها وتنهدت بصمت وكتمت اللوعة والاحساس بالغثيان..

انه الحزن والفراق والوحدة

انها الغربة الموحشة المخيفة.. التي تجعل الكون كله كآبة وظلمة وانكساراً.

في مطار شيكاغو كان الناس يتدافعون ليصلوا الي طابور الانتظار، يجهزون اوراقهم وينتظرون، وبعد ذلك يبدأ بحثهم عن الحقائب ليتابعوا من جديد سفرهم من مطار شيكاغو الدولي الي مطارات اخري في الولايات المتحدة.

كانوا يحثون الخطي مسرعين للحاق بطائراتهم والبحث عن صالات السفر.. كانوا يسرعون في اتجاهات مختلفة مدروسة يتتبعون العلامات المرسومة علي الأرض او معلقة في السقوف، يصعدون الي الأعلي وينزلون الي الأسفل يستقلون الحافلات الضخمة علي شكل قطار متعدد الأبواب لينقلهم من جانب الي المطار الدولي ومن جانب آخر الي المطار المحلي حيث تربض طائرات كل شركة طيران في موقع عملاق مخصص لها.

فكرت انها كرحلة الحياة، يسارع الناس الي اقدارهم بخطي مرسومة محددة حتي ولو ضل احدهم الطريق سيفوت رحلته ويخسر وقته ويعاني من التسكع في المطارات وميكرفوناتها التي تجعله في ترقب مستمر للآتي. ان المسافرين كما في الحياة الدنيا.. الذي كد وتعب حتي استطاع الحصول علي تذكرته وخطط ودبر حتي يلتحق بالمكان الذي يقصده، والذي حصل علي التذكرة وجاءته السفرة من حيث لا يحتسب، والذي اراد مكانا ولكن الظروف قادته الي مكان آخر لم يكن يريده ويأمل به.

يتدافعون ويهرولون باقدامهم ويركبون المركبات الصغيرة التي تنقل الركاب داخل الممرات، يجرون حقائبهم اويستأجرون عربات لحمل حقائبهم الصغيرة. انيقون متزينون كأنهم مدعوون الي حفلة مجهولة. بعضهم يهرع بفرح متشوقا لا يكاد يصبر للقاء احبته بعد طول انتظار وبعد فراق طويل وبعضهم يكفكف الدموع ويداري لوعة الفراق والمه وقد فارق للتو احبته وانطلق يداري لوعته، وهناك من يمرح مع أصدقائه وعائلته المرافقين له يستمتع باللحظة ويريد توثيقها بالصورة والبسمة والمرح، وهناك المهموم الذي يفكر بما خلف، وما ينتظره، وما نساه، وعليه تعويضه وبما يجب فعله لتدارك امر عليه معالجته.

عندما وصلت الي قاعة الانتظار واطمأنت الي جلوسها هناك علي الرغم من انها لم تفتح ابوابها للآن حتي اطلقت لاحزانها العنان، وتركت الغصة التي تخنقها تتنفس. اخذت تبكي وتبكي مع نشيج خافت وقد انتحلت مكانا قصيا في المكان الذي لم يصل رواده بعد.

بكت وبكت.. كانت تريد التخفيف عنها وافراغ ما في روحها من اوجاع وضيق وغصة.

احست باليتم.. لا يهم ان تتيتم وانت كبير فما زلت بحاجة الي الحنان والحب.

لو ان والدتها حية لكانت معها الآن ترافقها وتخفف عنها وتشغلها كما كان يشغل الطفل الذي في الطائرة والدته ويملأ حياتها. لو ان والدها علي قيد الحياة لما سافرت اصلا وظلت معه ترعاه ويرعاها وتؤنس وحشته وتستمتع بصحبته.

لو.. ولو.. شيء يجر شيئاً لينتهي الي ان حياتها اندحرت الي الأسفل، فقد كان لديها الخطيب الرائع والمستقبل الأسري مع عائلة، وكانت لديها قدماها وصحتها، وكان لديها الطموح والثقة والاندفاع.. هل تبكي خسارتها تلك أم تبكي علي ما سيواجهها من المجهول وهي الآن في مطار غريب وحيدة تبكي حظها العاثر وتنتظر طائرة تأخذها الي غربة ومعاناة جديدة.. !!

عندما نكون صغارا.. نشعر بأننا نملك المستقبل، نكون واثقين لدرجة الغرور ننظر الي اهلينا بأنهم لا يفهمون كيف تدار الأمور والا فكيف انهاروا واصبحوا بهذا الضعف والضعة.. لا نصدق انهم يوما ما كانوا يشبهوننا وكانوا اقوياء ومتهورين ومندفعين ويتحلون بالشجاعة وعدم الاهتمام بالعواقب..!! لا نري منهم الآن الا الشعور بأنهم متخلفون وجهلة وعاجزون بشكل مريع جدا. واننا مختلفون ولا يمكن ان نرتكب اخطاءهم ونشعر بأننا ندرك ما نهدف اليه وبيدنا المفاتيح وها هي الرؤية متضحة امامنا.. العالم ملك ايدينا.. ونملك القوة والذكاء والثقة.

اننا واثقون بانفسنا حتي التهور.. نستطيع المقامرة ونندفع للسقوط من اعلي ويمكننا النجاة. بامكاننا الذهاب في رحلة رغما عن البحر الهائج.. وسياقة سيارة في المطر المنهمر والبرق والرعد بأقصي سرعة واندفاع، والاشتراك بسباق والتشقلب بسيارتنا ونعيش. . ونتحدي زملاءنا بأن نندفع امامهم في طريق ذي اتجاه واحد ولا ننحرف ولا يهمنا ان كانوا عنيدين ومجانين وانتحاريين ايضا فلانه لا شيء امام قوتنا وتصورنا عن انفسنا وارادتنا..!!!

عندما نكون صغارا نكون اقوياء.. اصحاء.. نوابغ.. لدينا القدرة علي الحب وعلي الظلم

علي الحلم وعلي الايمان بالحلم

علي الفوز والرهان بامتلاك النجوم

لم تصفعنا السنون بعد.. لم تجرحنا التجارب.. ولم يطعننا من نحب ومن نأمن ونثق.

لم تتخل عنا صحتنا.. ولم يضحك علينا القدر ولم يكشف اوراقه الخبيئة

لم تظهر الأشباح والهواجس المحبوسة بالصناديق

لم يكشف الأعداء والحساد والمغرضون عن اقنعتهم الخبيثة

لم يكشف لنا القدر عن ابواب خلفية لطاقاته تنهمر منها المشاكل والبؤس والفواجع والأزمات

لم ندرك بأن مشاعرنا التي نملكها لم تعد ملكنا وانها تحولت الي مشاعر بديلة ومتناقضة واصبح ما كان بمتناول الأيدي سرابا تتحسر عليه النفوس

عندما تضيق الدنيا ونفقد القدرة علي المقاومة والصراع.. يبقي حلان لا ثالث لهما

الاستسلام او المواجهة وتقبل كل المخاوف والنتائج

لا مهرب بعد الآن والتدثر بالهواجس والترقب والوهم

مذا سيحدث ونحن خائفون منه.. دعه يحدث وسوف نكون هناك نراه ونرد عليه ولو بالصمت والتجاهل واللامبالاة ولكن لن نحرق نفوسنا ولن نستهلك طاقاتنا ونشحن مشاعرنا بالقلق والعذاب واستهلاك المزيد من الوقت

لقد بلغ الحيل مداه ولا توجد مساحة قادرة علي المقاومة والاستمرار باللعبة

لعبة الشد والجذب.. ارخاء الحبل وسحبه، لقد قررت مواجهة المخاوف والتحديات والذي يخبئه القدر سيظهر ولا يفيد الهرب منه..!!

الثاني والثلاثون

نحن نصنع اقدارنا

كانت عائشة وسلمي ابنتها ذات العشرة اعوام في المطار بانتظار سارة، رحبت بها وأقلتها بود ظاهر الي موتيل قريب في المدينة بعدما توقفت في احدي البقالات واشترت بعض الأغراض الخفيفة التي لابد ان تحتاجها سارة بعد أن اعتذرت عن قبول دعوتهما للعشاء لتعبها وارهاقها واحتياجها للراحة بعد السفرة المتعبة. وقد شكرت لعائشة لطفها وتبادلت معها ارقام الهواتف لتكونا علي اتصال في حين احتاجت لأي شيء ولتأكيد موعد الصباح للمرور للجامعة.

كم كرهت المدينة لحظتها وهي مدفونة بالثلج. كئيبة يظللها الحزن والبرودة والصمت.

ومن غرفتها في الموتيل وعندما جافاها النوم رغم تعبها لتغير المواعيد وصدمة السفر ورؤية امريكا الباردة المظلمة التي تنيرها الثلوج المجمدة علي ارفف المنازل وعلي الشجيرات الصامدة لهجمات الرياح الباردة القارسة التي تحول الأمطار الي قطع كريستالية مجمدة علي المنازل والأشجار يبدو بعضها كأقواس مدببة مستعدة للسقوط وايذاء من اسفلها... جلست ترقب من النافذة المدينة التي تحيطها الكآبة والوحشة.. وتبكي

نامت مكانها واستيقظت من الآم رقبتها وظهرها واعتقدت لوهلة بأنها ما زالت بالطائرة ولكن لا ازيز ولا ضجيج واستعدت للايواء لسريرها .

بدأ صباحها مبكرا بينما تغط المدينة بالنوم.. لاختلاف التوقيت مع الوطن.

وتذكرت اهلها وكيف انهم يعتقدون انها لن تستطيع العناية بنفسها مع اعاقتها ولا بد ان يكون احد معها لقد عرضت عليها زوجة شقيقها اصطحاب خادمتها معها ولكنها رفضت.. لا تريد تحمل مسئولية روح أخري يكفيها أن تحمل همها، وسيساعدها تصميمها وارادتها لا غير. وقد حان الوقت لتتدبر امورها وان لم تفعل الآن ستظل طول عمرها عالة علي غيرها.

هل يحس اخوتها بتأنيب الضمير بعد مغادرتها لان لا احد منهم رافقها علي الأقل لتوصيلها والاطمئان عليها.. هل كما قالت وضحة انهم ربما احجموا عن ذلك لكي تنثني عن رأيها عندما لا تجد احدا يشجعها ويطرح الحلول المساعدة لها.

عندما اتصلت بشقيقتها تطمئنها وتعطيها رقم الموتيل.. لم تستطع ان تخفي تشتتها وضياعها وحزنها وتمالكت نفسها لئلا تبكي وتصرخ.. انا مشتاقة اليكم واريد العودة الآن حالا.. !!

تماسكت وهي تريد طمأنة اختها وليس ترويعها وأيضا لا تريد الاستسلام من البداية والاعتراف لها.. كم كنت محقة ليتني اطعتك.

وكانت ردة فعلها لرؤية امريكا التي سيطرت علي اذهان العالم مخيبة للآمال، فقالت لعائشة وهي تأخذها في الصباح لتكمل مستلزمات التحاقها بمعهد اللغة في الجامعة ومن ضمن ذلك استلام السكن في الحرم الجامعي :

أهذه امريكا.. انني لا اري سوي مدينة صغيرة وبيوت متناثرة علي طول الطريق واعشاب واشجار مغطاة بالثلوج وشوارع بسيطة.. اين ناطحات السحاب اين الجسور والأنفاق اين الأضواء والضجيج.. ا

ضحكت عائشة وقالت لها : انت في مدينة امريكية عادية وادعة وهادئة.. اذا اردت الصخب فهو في الداون تاون..اما امريكا التي يسمع بها الناس فهي في نيويورك وشيكاغو ولاس فيجاس، وغيرها من المدن الكبري. !

سارت الأمور بشكل عادي وتسجيلها للمواد موجود ودفعت التكاليف المطلوبة ومن ضمنها التأمين الطبي وكان مهما لها لأنه جزء من مهمتها ايضا للعلاج واعادة الفحوص.

وبانتقالها الي السكن وشراء اغراضها المهمة ومساعدة عائشة الانسانية لها التي فاقت تصورها وبوصول تماضر وبدأ الدراسة والتعود علي الحياة في هذا المجتمع الغريب وكسر حاجز العزلة بالتعرف علي زملاء جدد اجانب مثلها، وقد بدأت دراسة اللغة اولا استعدادا لترشيحها لدخول الجامعة تحولت احزانها الداخلية الي مواجهة المعركة الخارجية لاثبات وجودها وعدم الفشل بمهمتها وقد اصبحت الفتاة المشهورة في كل المعهد التي تستعمل الكرسي المتحرك.

في البداية كانت محرجة من النظرات وخصوصا من الطلبة الأجانب الذين يستغربون جرأة معوقة علي قطع المحيط للقدوم للدراسة بكرسيها.. وكانت تتحاشي النظرات الفضولية وتبدو متماسكة وغير آبهة كأنها لا تشعر بنظراتهم المتسائلة التي تخلت عن التلصص وكشفت حيرتها وبحثها عن التفاصيل.. وبعد فترة احست انها اصبحت جزءا من المكان وقطعة لا تنفصل عنه.. تعود الجميع عليها وعلي كرسيها المتحرك، صادقت كل المجموعة في الفصل المؤلف من ستة عشر طالبا وطالبة وتميزت بجديتها وسرعة تعلمها وتأقلمها مع المجموعة.

لم تعتقد بأنها ستكون محبوبة من الجميع لا بدافع العطف والفضول ولكن للطفها وتعاونها ومساعدتها لهم حينما يتوزعون بمجموعات ويحاولون ان يحلوا الواجب الدراسي ويبسطوا الموضوع لمن لا يفهم او يستوعب خلال الدرس، وأحبها الأساتذة لهذا السبب ايضا وشعروا ان قوتها تكمن في شخصيتها وحضورها وكما قال لها احد الأساتذة.. لا يكون الفصل طبيعيا الا بوجودك.. انت تضفين عليه روحا ما لا يستطيع احد منهم استحضارها، برغبتك بالتعلم وانتباهك واسئلتك واجاباتك.

وبذلك لم تتوقع ان تكون الحياة الدراسية بهذه الكمية من التكيف والقبول، وتجري بهذه السلاسة والروعة وهي محاطة بالحب والرعاية والاهتمام في مدرستها من الصباح الي ما بعد الظهر، وبالاهتمام والمحبة من صديقاتها الرائعات تماضر وعائشة اللاتي احطن بها كملاكين من اليمين واليسار ومنحاها مساحة هائلة من الدعم والمحبة والعطاء.

لقد عادت شابة طبيعية تقوم بالتسوق بنفسها وتستقل الباص وتأخذ غسيلها للمغسلة وتحضره بنفسها، تعد طعامها وتغسل الأواني.. فالأستديو الصغير مجهز لحالتها ويمنحها الاعتراف بأنها سيدة بيت عادية وتشارك زميلاتها بالصف ساعة الغداء يوميا وتتبادل معهم الأحاديث ويتناقشون بالواجبات ويمرحون باحتفالات المدرسة التي تحرص علي تعريفهم بالمجتمع الأمريكي من خلال المشاركة بالمناسبات المعروفة كالهلوين والفالنتاين ديه والثانكس غيفينغ وراس السنة أو اقامة رحلات الي بعض الأماكن الترفيهية في المدينة.

ادركت حينها ان قرارها صائب بالقدوم الي هنا وانها لم تكن مغامرة نجحت بأعجوبة بل فرار الي الحياة الحقيقية التي تصنفها في عداد الآدميين المنتجين الطبيعيين. لا يعني ان حياتها خالية من الاحباط والفشل والاكتئاب.. كم مرة تزحلقت علي الجليد بكرسيها المتحرك وكادت تتسبب بحوادث للمشاة الآخرين، وكم مرت عليها مواقف محرجة ضايقتها اياما وثم استطاع الزمن ان ينسيها بالانشغال بغيرها.

حاولت تدريب نفسها علي التعامل ببساطة مع هذه المواقف وأن لا تعطيها ابعد من حجمها، وأن تستحملها ولا تدعها تحطم ثقتها بنفسها وذلك من خلال مركز ذوي الاحتياجات الخاصة بالجامعة الذي تشرف عليه الجامعة ويديرها اساتذتها ويتدرب فيه طلاب الطب المستقبليون. تعلمت منهم كيف تدير حياتها كمعوقة، وكيف تعالج مشاكلها سواء الجسدية اوالنفسية وكيف تحيا بشكل طبيعي.

كانت الدكتورة مس سميث المشرفة علي المجموعات الدراسية التي يأتي طلابها الي المركز ويعملون مع المعوقين المسجلين، فبينما ينال المشترك الرعاية والاهتمام والاجابة عن تساؤلاته وتهيئته للحياة العامة، فان ذلك يعتبر بمثابة مقرر عملي علي الطلبة المعالجين وقد كانت ضمن الذين استفادوا من خدمات هذا المركز وخصوصا وانها منذ الحادث لم تراجع المستشفي ولم تخضع لأي علاج طبيعي.

كانت الجلسات التدريبية التي تجريها الدكتورة سميث بمساعدة طلبتها ذات فائدة عظيمة لسارة وللمجموعة الحاضرة. مختلف الأعمار والألوان.. كانت الأجنبية الوحيدة بينما الباقون امريكان من اصول مختلفة. ولم يشعرها الآخرون بأنها غريبة وشخصية قادمة من ثقافة مغايرة تماما تبعث علي الفضول، لقد عاملها الجميع رغم لكنتها وملابسها وحجابها الذين يكشفون غربتها بشكل طبيعي ، فجزء من عظمة هذا البلد ان جميع الأجناس تعيش فيه وجميع الألوان والأشكال والملابس والسلوكيات دون حرج وخجل وغرابة.

فقط اذا احسوا.. ان الشخص يحس بالحرج والشك بهيئته والغرابة للهجته.. يتجرأون كي يسألوه ويكتشفوا ما وراءه. وقد كانت سارة كذلك في الجلسات الأولي.. مضطربة ومنفعلة وخصوصا وهي تنظر بغرابة الي اختلاف الموجودين وخصوصا شاب علي كرسيه المتحرك تملأ الأوشام ذراعيه المكتنزتين وقد ارتدي قميصاً بلا اكمام بينما شعره الأشعث الطويل منسدل علي وجهه وكتفيه. كانت تشعر انه لا بد ان هذا الشاب من بيئة قذرة.. خمور ومخدرات وعصابات وما الي ذلك

كانت تتحاشي النظر اليه خوفا من ان يلاحظ وجودها اصلا وربما قد يؤذيها اليست غريبة في البلاد وعاجزة.. ربما يدل العصابة عليها ويسرقوها.. ربما وربما.!!

تغير لونها عندما اشارت عليه الدكتورة سميث ليكون الي جوارها في الحلقة الخاصة بهم المكونة من ثلاثة مع الطالبة المسئولة عن تدريبهم وفي نفس الوقت تأخذ ملاحظاتها علي حالاتهم الصحية.

كانت غير مرتاحة بالمرة ومتضايقة ويبدو عليها النفور وعدم التجاوب وعزت ذلك عندما لاحظت الدكتورة سميث لاصابتها بالصداع. لذلك ما ان انتهت الجلسة حتي سارعت بالخروج وليس كعادتها تتبادل الأحاديث والمجاملات مع المجموعة المشاركة.

وعند الباب الخارجي وجدت سيدة نحيلة في الخمسينات من عمرها ترتدي الجينز الضيق والقميص الرجالي الخشن المضغوط تحت بنطالها بحزام عريض تدخن بشراهة ومستندة علي الجدار بينما تهز رجلها بعصبية ثم تسندها علي الحائط وهي تتابع تدخينها بنهم وصمت. وعندما وصلت سارة الي سيارة عائشة وهي تطوي كرسيها وتستند علي العصا لتدخل السيارة استدارت بالتفاتة للمدخل لتجد المرأة تستقبل الشاب الضخم ذا الشعر المنكوش وتسير الي جانبه الي سيارتها الجمس الكبيرة العتيقة وترمي بعقب السيجارة وتدوسه بقوة ثم تساعده علي الصعود.

لم تتذكر سارة هذا الموقف وتقريبا نسته حتي جاء موعدهم بعد أسبوعين مع المجموعة، وعندما دخل الشاب الي القاعة عاودتها الهواجس واختفي مرحها واحست بالفعل بالصداع هذه المرة.

كانت تتربص بالمكان الذي سيختاره الشاب لكي تذهب للمكان المعاكس حينما جاءها صوته وهو يمر امامها وهي منكسة الرأس

آنسة.. آنسة.. نظارتك مرمية علي الأرض.. لا تتحركي حتي لا تنكسر

كانت تستعد للتحرك بأقصي سرعة للابتعاد واذا كان يعتقد انه سيحمي نظارتها فقد كان مخطئا لانه سبب في فزعها اكثر واكثر.

لم تتبين ما قاله أو ان كان يخاطبها او لا الا بعد ان شهق جميع من في القاعة بعد ان حركت كرسيها مهرولة به وقد سحقت بلا رحمة نظارتها الشمسية. تراكض الأصحاء في الغرفة الطلبة الأربعة وهم يحاولون اكتشاف نتيجة الارتطام وكان لا يبشر بأي خير.

قال احد الطلبة.. قولي انها نظارة شمسية والا لن تتمكني من العودة الي البيت بسيارتك.

اجابت بابتسامة مغتصبة.. نعم... انها مجرد نظارة شمسية.

قال الشاب العملاق.. آسف.. كنت اود تحذيرك قبل...

وقاطعته بغضب مدفون.. لا عليك، كل شيء علي ما يرام.

وكأنها تقول له بحنق . . وكأنه لست انت السبب.. !!!

وفوجئت به يتبادل حديثا ودودا مع إحدي العجائز التي تعرضت للزحلقة وكسر فخذها مما سيجبرها علي الجلوس بقية عمرها علي الكرسي المتحرك لصعوبة التئام الكسر بمثل حالتها..!! كان يعطيها افضل طرق التصرف مما اثار انتباه الطالب المشارك بالحلقة وقال له من اين اتي بهذه المعلومات.. ومن هو طبيبه المعالج..

قال له الشاب بتفاخر.. انه جدي.. انه مجرد مزارع من الجنوب ولكنه داوي نفسه عندما كسر وركه مثل هذه السيدة والآن هو يمشي ويحرث ويقود شاحنته وعمره الخامسة والسبعون.

شهقت العجوز وقالت باعجاب.. يا الهي.. ولماذا لا يعالجك..

قال لها الشاب.. تعرفين ان اصابتي مختلفة ناتجة عن حادثة سيارة.. كما ان والدتي اصرت علي العلاج والتدريب هنا.. لا تنسي انني كنت في السنة الثانية طب قبل الحادث.

تنهدت العجوز.. اوه والآن ماذا سيكون مصير دراستك..

قال الشاب باستسلام.. لقد حولت التخصص.. انني الآن في الهندسة الزراعية.. كان حلم جدي ان اكون طبيبا بيطريا للمواشي والجياد لكن..

ربتت العجوز علي يده.. وقالت ستكون مهندسا عظيما... اراضي جدك ستكسبك ان لم يكن حيواناته.. ثق بذلك

لم تصدق سارة سمعها.. هل هذا الحيوان الكثيف الشعر غير المهندم التي ترتدي والدته ملابس الرجال طالب جامعي واهله يملكون مزرعة واراضي زراعية ومواشي وجياداً ويكدون في عملهم..

كم يخدع الشكل في امريكا.. وكم تبالغ الحرية الشخصية، وكم لا يبالي الناس بملابس غيرهم واشكالهم. . لكننا العرب نفعل ونحكم عليهم من خلالها.. !!

زال توتر سارة شيئا فشيئا وقد اكتشفت فيه ذكاءه وملاحظاته النبيهة ومساعدته للكبار في السن ورأفته بالصغار وقد احبوه ولا يخلو المكان من الابتسام لطرفاته ومساعدته للآخرين لدرجة تركيب الواح شاشة العرض وتثبيتها ورفع بعض الكراسي وتنظيمها.

كانت تعتقد بأن العرب ملوك العاطفة والمشاعر وغيرهم من الشعوب جامدون وباردو الوجدان، بل كانت تعتبر بأن النكتة والمرح من خصال العرب وجزء من تراثهم ولكنها اكتشفت ان بامكان الجاهل خلق عالمه الذي ليس من الضروري ان يكون صحيحا..!! من اول وهلة وطأت قدماها مطار شيكاغو استوقفتها الضحكات الصاخبة من رجال يبدو عليهم انهم من اصحاب الأعمال من شكل ملابسهم الأنيقة والحقائب الجلدية التي يحملونها بأيديهم. كانوا واقفين يتكلمون بصوت عال وتتطاير منهم في الهواء ضحكات صاخبة منطلقة من القلب. لم تر مثلها في وطنها..!!

وعندما احتكت بهم في الجامعة والأسواق والسوبر ماركت ومن خلال وسائل اعلامهم وبرامجهم التلفزيونية وجدت انهم شعب عاطفي ربما اكثر من اللازم، وربما ساذج اكثر من اللازم، ويجيد السخرية والنكتة ويعشق المرح اكثر من اللازم..!! بل احيانا كانت تتعجب ان تصدر حركات كوميدية من استاذ بروفسور محترم في الجامعة أو طبيب كبير.

لا دخل للهيبة والمركز العلمي والوظيفي والاجتماعي في قدرة الانسان علي المرح والرقص والتحول الي طفل سعيد بهيج في الوقت الذي يحسه.. ! اكتشفت ان العرب من يدعون بأنهم خزنوا الأصالة، وعبئوا المثل والحكم، وحصدوا القيم، يستأصلون مشاعرهم الحقيقية ويصادرونها ويكتمون انفعالاتهم، ويدعون الوقار والحزم في الوقت الذي يريد الطفل داخلهم بالانطلاق والتعبير. انهم لا يدركون بأنهم لا يؤذون غيرهم عندما يطلقون لمشاعرهم العنان، ولا يسيئون لاحد، ولا يخدشون هيبتهم ولا يقللون احترامهم ولا يحكمون علي انفسهم بالخبل والهبالة، انه جزء من تكوينهم وبنائهم النفسي الانساني العام يريد ان ينطلق ويريد المرح والرقص والحركة والتعبير عن اختلاجاته وانفعالاته، انه اسلوب صحي يحفظ للنفس اكسيرها ويجدد تفاؤلها وتقبلها للمواصلة والكفاح..!!

وللأحداث بقية




الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 10:11 AM [ 27 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Nov 2006
رقم العضوية : 1994
الإقامة : qatar
الهواية : كتابة الخواطر
مواضيع : 1901
الردود : 9766
مجموع المشاركات : 11,667
معدل التقييم : 25بسمة is on a distinguished road

بسمة غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 3
العضو المميز

الحضور المميز

عضو مخلص




تداعي الفصول .......رواية للكاتبة مريم آل سعد الحلقة العاشرة)


الحياة الجميلة كانت صداقتها لعائشة وتماضر اكثر من رائعة ، على الأقل كانت تضمن السند الذي تعتمد عليه ، والملجأ الذي تطرقه عندما يخطر ببالها اي سؤال او تريد أي خدمة.
فعائشة مرتبطة بالجالية العمانية والخليجية ولها معارف كثيرون يديرون مجتمعا متكاملا لا يشعر المرء فيه انه فارق وطنه.. تحكمه نفس القيم والأعراف وحتى التقاليد والعادات المعاشة بالوطن. فمن العادي رؤية الطلبة يطبخون اكلاتهم الشعبية ويزاولون جلساتهم المعهودة في بيوت بعضهم او في المسجد حيث تدار الفعاليات الاجتماعية ويتبادل الطلبة المعلومات والخبرات والخدمات. كذلك كان زوج تماضر متصلاً بهذه الرابطة من الأصدقاء.
وهذا المجتمع متكاتف جدا لمقاومة الغربة فما أن يأتي طالب جديد فإنه لا داعي ان تربطه علاقات متينة بالموجودين. فقط يوصي به احد ولو كان من خارج الولاية ليجد بانتظاره اشخاص لم يرهم في حياته يستقبلونه ويستضيفونه ويحلون مشاكله ويذوب معهم ويصبح نسيجا واحدا مع محيطه الجديد.
انهم قد لا يتلاقون في اوطانهم ولكنهم هنا يأكلون من طبق واحد ويحتمون ببعضهم ويسهرون على راحة زملائهم ويتحملون مسئولياتهم حتى يستطيعوا التأقلم في غربتهم. انهم يعودون مراهقين من جديد.. تعني لهم الصداقات الكثير ، ويجعلون اولويات اصدقائهم جزءا من اولوياتهم. لقد وجدت مجتمعا فريدا ذابت فيه الشخصيات الخليجية واصبحت كيانا واحدا يلوذون ببعضهم ويدعمون بعضهم الآخر.
حتى لهجاتهم اختلطت فأخذوا يتأثرون ببعضهم البعض ويتلفظون العبارات التي تبقى عالقة في ذاكرتهم اثناء احاديثهم مع زملائهم ، يتبادلون الذكريات والشوق عن اوطانهم واحبائهم ، يطفئون ظمأ البعد برواية القصص والحكايات عن مسقط رأسهم ومعارفهم.
كانت عائشة تصر على تناولهم الغداء معا في المول كل سبت. فقد كانت تجد في التسوق في المول الكبير ذي المتاجر المتعددة متعة كبيرة مصطحبة اطفالها الاثنين. ينثرون تعليقاتهم في كل مكان ويستوقفون بعض معارفهم للتحية والسلام ولا تخجل ولا تمل ان تكون معهم سارة وهي تتحرك على كرسيها بهدوء ولا تعتبره ضياعا للوقت واهدارا له. وكانت رحابة صدرها تتسع للمرور على سارة واصطحابها وتحميل كرسيها بصبر ومعاونتها على ذلك.
اما تماضر فقد كانت ودودة وخدومة الى اقصى درجة وما تسمح به قدراتها كحامل لأول مرة وطالبة في نفس الوقت عليها الكثير من الالتزامات الدراسية والبيتية.
كان احساس سارة بأنها قريبة منها ، تستطيع محادثتها تليفونيا والاستنجاد بها اي وقت يهبها الشعور بالأمان والأطمئنان ويخفف عنها آلام الغربة وظروفها كمقعدة.
كانت ترى الاشفاق بأبلغ صوره بأعين معارف تماضر وزوجها ، وبعضهم يقولون صراحة بتعجب.. كيف تخاطر بحالتها على القدوم هنا لوحدها بدون ان يرعاها احد...؟؟ انها حياة قاسية على الشاب العادي فكيف بفتاة بمثل ظروفها..؟؟
كانت تغالب المناخ القاسي عندما تتحول الممرات الى قطعة صقيع متماسكة عملاقة.. كأنها صالة تزلج ملتوية الأطراف والمسافات ، والخطورة هنا ليس في كون الثلوج مجرد حبيبات هشة تتكسر وتذوب تحت وطأة الاقدام ، انها صقيع جامد يزحلق بلا رحمة الناس والسيارات ويسبب الحوادث والإصابات. لذلك تقوم الشركات المتخصصة في المجمعات السكنية او افراد الأمن والبلديات باذابة الجليد برش الملح المخصص لذلك في الشوارع وممرات البيوت وامام الكراجات ، ويبدأ الجميع العمل منذ الصباح الباكر لتهيئة الطريق للناس ليواصلوا حياتهم.
كانت مدرستها للغة الموجودة بالحرم الجامعي تبدأ في التاسعة صباحا وتستمر الى الثالثة عصرا مع ساعة راحة لفترة الغداء داخل كفتيريا الجامعة. كان المشوار صعبا من سكنها الجامعي الى المدرسة في الأجواء القارسة البرودة. وقد عرضت عليها عائشة توصيلها فقط في مثل هذه الأيام الصعبة وكانت تحس بالاحراج والذنب لأن على عائشة مسئولية ابنائها وكانت ترد عليها بأريحية زائدة. سلمى في العاشرة من عمرها وزياد في الثانية عشرة ويستطيعان الاهتمام بنفسيهما واستقلال حافلة المدرسة التي تلتقط ابناء الحي قرب بيتهم. بالفعل كانت الخدمات المدرسية راقية جدا لأن المجتمع وصل مرحلة متقدمة من الرقي والتحضر.
تتذكر عندما كانت تعود في موطنها من العمل ظهرا وتضطر الى المرور في الشارع المؤدي الى منزلها والذي يمر باحدى المدارس ، كانت السيارات مصطفة في الشمس المحرقة الواحدة تلو الاخرى تسد الشارع في صفوف طويلة غير منتظمة لا تسمح بالخروج والدخول وخصوصا عند التقاطها التلاميذ وقد عطلت حركة السير وأوقفتها تقريبا ، واحتبست السيارات القادمة بفعل الاخرى المعاكسة وتبدأ الأبواق والشتائم بالتناثر.
يتكرر نفس الموقف امام كل مدرسة والشوارع المؤدية اليها في الدوحة ويبدو من المألوف رؤية رؤوس الخادمات تطل من السيارات التي يقودها السائقون وقد لوحت الشمس وجوههم واحرقتها تماما. يبدو ان الحافلات الحكومية فقدت تأثيرها ويرفضها الاهالي وابناؤهم ويفضلون الوضع الحالي ولا يستنكرونه او يحاولون معالجته.
لقد فوجئت عندما ذهبت مع زملائها في مدرسة اللغة لتقديم محاضرة لطلبة المدارس الابتدائية عن اوطانهم وتراثهم. كل مجموعة من اثنية متشابهة تتكلم عن بلادها كتمرين للطلبة وكواجب مدرسي يبين قدرتهم اللغوية على التعبير واستخدام الكلمات في جمل ، اسلوب النطق ، وسلامة القواعد ، مما يستوجب التحضير له بالأسلوب المناسب مع الحث على كسب انتباه الأطفال واهتمامهم باحضار ملابس واغراض وصور للشرح عليها وتقريب الصور الكلامية. كانت المدرسة الحكومية التي اختاروها لهم تحفة رائعة لم تستطع سارة مقاومة اعجابها ومقارنتها بالمدرسة التي يدرس بها اولاد اخوتها بالوطن.
كانت المدرسة الامريكية من دور واحد تمتد لتشمل فصولا واسعة تصطف بها الكراسي بشكل عشوائي محبب تتوسط احد الحوائط سبورة كبيرة بينما في الزوايا اقفاص الحيوانات الأليفة وربما السامة ولكن بدون سم كالثعابين.. وفي زاوية اخرى مغاسل لغسل اليدين بمستوى حجم الأطفال وخزائن لحفظ أغراضهم ، وقد انتشرت الصور في الزوايا والحوائط. لم تحس انها في غرفة دراسية بقدر صالة جميلة للهو والمرح.. !! وليس لديهم خدم او سعاة فالإدارة تستطيع مخاطبة كل فصل وغرفة من خلال الميكرفون المثبت بكل منها ، ونقل رسائلهم الصوتية اليومية او اخبار المعلمة بقدوم ولي الأمر لأخذ طفلهم للطبيب أو لأي موعد طارىء.
وفي الممرات الواسعة في المدرسة المسقوفة كلها كقطعة متماسكة توجد في جوانب منها بين الفصول غرف التواليت المنفصلة للبنين والبنات النظيفة المعقمة والخزائن التي تسمح لكل طفل في المدرسة بخزانته الخاصة التي يحمل مفتاحها الشخصي ، ويتعلم الحفاظ على اغراضه ويكون مسئولا عنها ثم المطبخ الموصول بقاعة الطعام الضخمة التي تتغذى فيها كل المدرسة بنظام تغيير الشفتات. كأنها مطعم منظم لا يتعارك فيه الصغار عند المقصف للحصول على ساندويش او كيس شيبس او علبة بيبسي. كل طالب وطالبة يسيرون بنظام في خط متتابع لأخذ صينيتهم واختيار وجبتهم التي يكون ضمنها علبة الحليب او العصير ثم يدفعون الثمن الرمزي دولارا واحدا لها ويعودون الى الطاولات المخصصة للأكل. كانت التجربة الامريكية مؤثرة جدا لسارة وهي تحضر الحفل الموسيقي لمدرسة سلمى ابنة عائشة في قاعة المدرسة ذات المسرح الضخم والإمكانيات الهائلة وهي بالأصل قاعة الرياضة الداخلية التي تتحول الى مسرح أو قاعة اجتماعات عند المناسبات بينما هناك ملعب خارجي في الهواء الطلق وذلك اثناء الفصول الجوية الملائمة.
اما ما زاد عجبها اكثر عندما قالت لها احدى امهات الطالبات اربعينية العمر بأنها درست في هذه المدرسة في طفولتها.. وكانت المدرسة العريقة الحكومية التي يدرس بها جميع الأطفال من امريكيين أو وافدين كأبناء عائشة بالمجان ، تبدو كأنها جديدة وتتلألأ وتصغر عمرا وتبدو اجمل من مدارس يقل عمرها الكثير ولكنها تهاوت وعتقت في الوطن.. !!
كان منظر الصغار مجتمعين في نقطة التجمع لكل حي بانتظار قدوم الحافلة الأنيقة التي لا تدمر البيئة بدخانها الأسود ولا تراكم الأجساد الصغيرة في تكدس حانق ولا تدور بهم بالأحياء البعيدة قبل توصيلهم بيوتهم.. جميل وحافل وهم يدخلون الحافلة ملقين التحية على السائقة التي غالبا ما تكون انثى وعلى بعضهم البعض وهم يتلاقون اثناء خروجهم من بيوتهم والتقاءهم في محطة تجمعهم.
لقد جاءت بفكرة امريكا الخطرة العنيفة التي لا امان فيها.. ووجدت بلا مبالغة ان ونيسها اهازيج الأطفال وضحكاتهم البريئة وهم يلعبون ويمارسون التزحلق على العجلات الصغيرة او يلعبون مع اولياء امورهم في الحديقة المقابلة للسكن الطلابي حيث تمتد الخضرة والجداول والبحيرة التي تسبح وسطها البط والبجع.
كلما رأتهم على عجلاتهم يتسابقون او يتسامرون بمرح احست بصوت الحياة وبهجتها وانتشت من موسيقى اصواتهم واحست بالأمان والرغبة بالأغفاء على هذه الأصوات الملائكية الضاحكة حينا الزاعقة احايين اخرى.. !!
كان يحلو لها في ايام الربيع الجميلة ومع دخول الصيف التمشي بواسطة كرسيها المتحرك مع تماضر في هذه الطبيعة الساحرة والجلوس في الحديقة العامة واستنشاق رائحة الحياة والناس يرتدون الملابس الخفيفة وقد تحرروا من ملابس الشتاء الرهيبة وانطلقوا يتريضون ويركضون ويلعبون.

الثالث والثلاثون
لا يأس مع الحياة

نصحتها مس سميث الدكتورة المشرفة على مركز مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة بالجامعة على رؤية الطبيب بداية لتشخيص حالتها لمساعدة الطلبة المتدربين بالمركز على فهم اسلوب مساعدتها وتقديم الخدمات المناسبة لها. وذهبت لرؤية الطبيب بالعيادة الطبية الجامعية. ربما كان يوما سعيدا ومخيفا بآن واحد ، لقد تقبلت سارة وضعها لدرجة الاستسلام له والتعلق به لذلك فعندما قامت بعمل الفحوصات التي طلبها الطبيب قبل الكشف عليها لم تتوقع ما قال ، بل كان كالحلم : قال الدكتور وقد كان وجهه جامدا وعيناه الزرقاوان ككرتين زجاجتين ملونتين تعكسان جديته:
منذ متى الحادث.. ؟؟
ردت سارة :
تقريبا عاما ونصف.. !
- هل قمت بعلاج طبيعي في هذه الفترة.. ؟؟ وما هو.. ؟؟
كأنها سمعت شيئا غريبا قالت ساره بإنكار :
لا.. لا علاج طبيعياً ، تعودت فقط على تسيير اموري ، وساعدني برنامج الدكتورة سميث مع التكيف مع حالتي.
قال لها ببرود :
لم تقتعدين كرسيا متحركا.. ؟؟
قالت له بتهكم :
حتى اتحرك واستطيع قضاء احتياجاتي. وكيف اتنقل يا دكتور.. ؟؟
قال لها بنفاد صبر :
هل تدركين بأنك تفسدين على نفسك علاجك.. ؟؟ ان من الغباء ما تفعلين.. ؟؟ هيا اتركي هذا الكرسي وحاولي تمرين رجليك.. ؟؟
- ماذا تقول يا دكتور وهل كنت سأتأخر.. ؟ هل انا مدمنة على الجلوس على هذا الكرسي.. ؟؟ هل هو خيار مطروح.. ؟؟ إنه غصب عني..
- الم يقل لك اطباؤك إن مشكلتك في العصب وليس غير ، وعندما ينمو ستحل مشكلتك ، ونموه يختلف من شخص لآخر ولكن العلاج الطبيعي يساهم كثيرا في سرعة نموه. وجلوسك بهمود على هذا الكرسي يعطلك ويؤخر علاجك.
لم تستوعب سارة كلامه ، شيئا جديدا يطرح امامها لم تكن تضع حسابه ولم يخطر لها على بال.
تابع الدكتور وقد تحجرت عيناه الزرقاوان اللتان تضيئان وجهه البارد الخالي من الانفعالات ، والذي يتوجه رأسا نحيلا يقترب من الصلع ولكن باجلال :
هيا انهضي واستندي بيدك اليسرى على الممرضة بدون أن أن تتمسكي بشيء باليمنى. ألم تلاحظي إن رجلك اليمنى التي كانت رخوة سابقا بدأت تتماسك وتقوى. لقد عطلت علاجها وكانت تحتاج الى العلاج الطبيعي لتكون أكثر ثباتا وتجلدا.
وبصوت غاضب نهرها عندما لاحظ ترددها :
هيا انهضي ولن تستعملي هذا الكرسي ابدا ، هل تريدين أن تصبحي عاجزة.. ؟؟ ما هي مشكلتك.. ؟؟
تلعثمت سارة وكانت تريد أن تقوله له ، انها تكره الكرسي ولكنها اقنعت نفسها بقبوله ليس ككرسي بل كقدر ولم تكن تريد أن تفر من قدرها بل أن تتقبله ولم تكن تعلم بأن المسألة برمتها مختلفة فلم تفهم بشكل اساسي ما أصابها وكانت غلطتها الكبرى انها احتضنت فكرة ما طيلة مدة اصابتها وعاشت بها ولم تعلم انها تضلل نفسها. كانت تريد أن تقول له انها لم تذهب لرؤية طبيب منذ خروجها من المستشفى بعد الحادث وكانت ما زالت مروعة مما اصابها وقد اقنعتها سوء حالتها انذاك بأنها النهاية وقد حمدت الله وتقبلتها صابرة.
ما زالت مذهولة من هول الموقف ولم تستوعب بعد كلام محدثها أو أن تستوعب أن يخبرها أحد بلحظة ما إنك تستطيعين المشي ، وعليها التصديق.
وفجأة صرخت متسائلة :
هل تعني يا دكتور انني استطيع المشي مثلك ومثلها ، بشكل طبيعي.
هز الدكتور رأسه نافيا :
لا.. ليس مثلي أو مثلها ولكن تستطيعين ذلك ربما بعد سنة ، او خمس أو عشر ، لا أدري فمن يحدد ذلك جسمك وقدرته على التماسك وسرعة نمو العصب. ولكن مما أرى ورغم إنك كنت مريضة سيئة لم تمرني رجليك ابدا إلا إن هناك تطورا عجيبا فيهما وخصوصا اليمنى التى يمكنها التلاحم بشكل رائع خلال سنة من الآن ربما أما اليسرى فهي التي تحتاج الوقت الذي حددته لك للشفاء التام. الذي اريدك أن تقومي به ترك هذا الكرسي بالحال واستعمال عكازتين اثنين وتداومين على التمرينات بالعلاج الطبيعي هنا بالمستشفى ولا مانع من استمرارك مع الدكتورة سميث لأن لديهم برامجا أخرى مكملة للعلاج الطبيعي. هناك ايضا فيتامينات ومقويات تحتاجينها والاهتمام بنوع الغذاء وستعطيك الممرضة خطة غذائية تتبعينها. سأراك بعد ثلاثة اسابيع ومن يدري ربما تتحسن رجلك اليمنى بالقدر الذي لا تستعملين به إلا عكازة واحدة.
هل ستقف من جديد ، هل ستلامس الأرض ويمتد طولها في الأفق ، هل ستتخلص من تقرحات الكرسي وجلسته المؤذية ، هل سيتنفس ظهرها الهواء ولن يحجبه ظهر المقعد ، هل ستسمع وقع خطواتها بالأرض ، وهل ستتوقف عند محلات الأحذية مع صديقاتها وتشتري احذيتها الخاصة ، هل ستسير وتشعر بأنها حرة ولا يجرها مقعد لا تتسع الأمكنة اليه ويحجبها عن الوصول لمعظم الأمور.
لا يدري الطبيب انها قد تلقت المفاجأة الحلوة الأقرب الى الصدمة بحيث انها عندما خرجت من مكتبه توقفت وضمت كفيها بيديها ودفنت وجهها به وقد بدأت اعصابها تتشنج من الانفعال ، هرعت اليها موظفة الاستقبال وقد خشيت انها تلقت خبرا سيئا من الطبيب لم تستطع استحماله. كانت تريد أن تمد لها يد العون المناسبة وتخبر الطبيب اذا كانت مقدمة على انهيار ، جلست الى جوار سارة وقالت لها بحنو:
هل هناك ما يضايقك. ؟؟ هل استطيع مساعدتك.. ؟؟
قالت لها سارة ببراءة :
هل تستطيعين أن تفسري لي لماذا جررت بجسدي المتعب هذا الكرسي المتحرك لمدة عام ونصف وأكثر دون أن ادرك انني استطيع المشي بالعكازتين.. هكذا فحسب. ؟؟ ولم اخرت شفاء رجلي بجلوسي عليه لانني كنت حينها احتاج للمشي بالعكازتين لتمرينهما والعمل على نمو العصب فيهما ، هل تستطيعين أن تعرفي لماذا.. ؟؟

لم تتوقع سارة أن تتغير الفصول وتشرق الشمس وتنثر عليها رشات الأمل من حيث لا تتوقع ، ومن رحم انينها وتوجعها ويأسها. لم يصدق زملاؤها في الفصل دخولها عليهم واقفة هذه المرة بالعكازتين ، كانت فرحتهم غامرة.. لقد ضمتها الفتيات مجتمعات بينما تقافز الشباب صارخين بأماكنتهم. بينما جلست مدرستهم العجوز على كرسيها من هول الصدمة.
لم لم تخبرينا بأنك ستمشين ، الا ترين انها صدمة ، صدمة فرح.
كان زملاء سارة في معهد اللغة يتراوح اعمارهم بين التاسعة عشرة وأواخر العشرينات ، من جنسيات اسيوية مختلفة وجلهم من اليابان والصين وبعض الخليجيين. وكانت معاناة الدراسة وارهاقها وشجونها وتحديها قد ربطت بينهم برابط الأخوة والتعاضد.
كانوا يرون وجوه بعضهم البعض قادمة كل صباح بشيء من التعب والإرهاق ومشاعر شتى تتضارب بهم اهمها تحديد مصيرهم وقبول الجامعة بهم سواء للدراسة الجامعية أو العليا أو الاضطرار للترحال الى ولايات اخرى ومراسلة جامعاتها فدراسة اللغة ما هي إلا الخطوة الأولى للقبول بالجامعة وبدأت الدراسة الفعلية. كانوا نسيجاً تجمعه الغربة رغم اختلاف ثقافاتهم الكاملة إلا انهم هنا مجتمعون لهدف ومصير واحد.
أما تماضر وعائشة فقد انهمرت الدموع من اعينهما وضموها اليهم غير مصدقين بانها واقفة بطولها امامهم. يحيي العظام وهي رميم ، ولكن بين يوم وليلة وبدون توقع هذا ما ادهشهن تماما.
لم يتخيلن إن زيارة عادية لطبيب ستحدث هذا التغيير. وقد خشيت سارة من اعين زملائها في معهد التأهيل عندما تدخل عليهم فجأة وهي على رجليها وحتى ولو كانت مستعينة بمساعدة العكازين التامة إلا إنه تطور وخصوصا وإن معظمهم لا يستطيعون ذلك. ولكنها رددت في نفسها صحيح إن الأمريكان يحسدون ولكن عيونهم لا تضرب بمقتل.. على الأقل اتمنى ذلك.. !
فرح بها زملاؤها وجمعت الدكتورة سميث كل طلاب المركز لرؤيتها وفهم سبب تبدلها التام والتذكير بجهلها الاهتمام برؤية التطورات التي تحدث لها وأهمية مزاولة العلاج الطبيعي المناسب.
وقالت سارة تخبر الدكتورة سميث بانفعال :
إنه ساحر ، الدكتور باركر ، كيف جعلني امشي ، كيف استطاع بلمحة بصر أن يحولني من مقعدة الى فتاة واثقة من نفسها تستطيع المشي بعكازتين محترمتين.
ضحكت الدكتورة سميث ، وقالت :
يا لك من طفلة غريرة لا عجب أن يقع في هواك من يعرفك ، إنه عمله يا عزيزتي ، إنه مدرس في الجامعة وله ابحاث في هذا المجال ، وأنت حالة من العالم الثالث لا بد إنك لم تخضعي لإشراف علاجي جيد.
قالت سارة بفرح يطربها :
المهم انني امشي يا دكتورة ولم اعتقد يوما انني سأفعل.. لذلك فهو بطلي ولا استطيع أتصور ما فعله سوى معجزة.
ضحكت الدكتورة وقالت :
سأراه في مجلس الجامعة هذا الأسبوع وسأقول له إنك سحرت مريضتنا وحولتها إلى مخلوقة فضائية لا نكاد نعرفها اليوم.
وكانت سارة قد وزعت عليهم الحلويات العربية ذلك اليوم احتفالا بهذه المناسبة ، وقد احضرتها من المطعم العربي الوحيد في المدينة ، وددت لو تأخذ الدكتورة بالمناسبة بعضا منها للدكتور باركرعندما تراه في اجتماعهما المزمع ولكنها قررت اخذ صندوقا جديدا معها عند موعد معاينتها بعد اسبوعين.
عندما رآها الدكتور لم يخف اعجابه بتطورها.
أمم.. شيء عجيب فعلا يفسر انبهارك وحماستك كما وصفت الدكتورة سميث ، هل تتذكرين مجيئك هنا محطمة ومنكمشة على كرسيك المتحرك كأنك نازحة من بقايا حصار ما.
لم يعجب سارة سخرية الدكتور الواضحة التي لم تتوقعها منه وهو يحمل هاتين العينين الزرقاوين الباردتين ، ولكنه اردف ضاحكا :
فعلا. لا تعبسي بوجهك ، هذه الشابة المفعمة بالحياة التي اراها امامي تختلف تماما عن تلك البائسة الاخرى ، انظري لقد اشرت هنا في ملفك الى حاجتك ربما لعلاج مواز لنفسيتك التي اراها بحاجة إلى مساعدة ، ولكن الآن بما اراه امامي من تحسن قدرتك على المشي قد عوضت خسارتك السابقة بدون تمرين وحققت سحرك الخاص بحيث اثرت اعجابي فلم اتوقع أن يكون التحسن بعد مزاولتك المشي بالعكازتين أكبر كثيرا من توقعاتي.
ابتسمت سارة واحست انها بالفعل تغيرت من الداخل ، وتخففت من ثقلها ولم ينطلق ذلك من قدرتها على المشي قليلا فقليلا فحسب بل ومن تحرير نفسيتها وتخلصها من تراث ماض محمل بالألم والعتاب.
كانت تحمل للدكتور علبة فيها بعض الحلويات العربية وفوجئت بالدكتور يقول مبتهجا :
بقلاوة.. إنه احتفال مدهش بشفائك.
قالت له سارة بتعجب :
هل تعرف البقلاوة يا دكتور.. ؟؟
لقد تذوقتها مرارا في المطاعم ذات الأصول الشرقية اسرائيل ، تركيا ، اليونان. كذلك الفلافل والكباب ، إن هذا الطعام يعتمد على توابل غريبة بعض الشيء.
تضايقت سارة لانه لم يقل مطعما عربيا بينها وهي التي تعتقد طول عمرها إن هذه الأطعمة ثقافة عربية مئة بالمئة ، والآن اندثر التراث العربي والتقطه الآخرون وازيح تماما من الصورة.
وبعناد طفلة ، قالت بإصرار :
انه طعام عربي بالأساس. ولا بد أن تعرفوا بأمريكا فضل العرب ودورهم وليس فقط الثقافات الاخرى التي تأخذ الصدارة وتهمش غيرها.
لم يستوعب الدكتور انفعالها وغضبها بسبب تاريخ البقلاوة وانتمائها.
وازاح الصندوق الصغير الأنيق من امامه وقال لها يتابع عمله :
مما ارى إنك تسيرين بالطريق الصحيح. وأود أن اراك بعد ستة اسابيع.



الرابع والثلاثون
الحوار مع كريستين

كانت من تقاليد معهد اللغة تعريف الطلبة بمواطنين امريكيين لهدفين التدرب على المخاطبة والكلام مع اصدقاء عاديين من اهل اللغة التي يدرسونها عوضا عن زملائهم ذوي الألسن المعوجة والقواعد الركيكة والثاني للتعرف على الثقافة الامريكية بالاحتكاك بأهلها ، ويكون الشريك مناسبا للطالب حسب المواصفات التي يطلبها.
وكان نصيب سارة مع سيدة مهتمة بالحضارات الثقافية للشعوب وقد قابلتها سارة بادىء الأمر في كافتيريا الجامعة ثم اتفقت معها على ان تجعلها تلتقي ايضا مع سيدات مسلمات لتتطلع على الجانب الحقيقي لحياتهن.
وعندما حدثت سارة صديقتها عائشة ليقمن بترتيب لقاء لها بحضورهن في المركز الاسلامي بالمدينة ، اخبرتها عائشة عن تجربتهم السابقة مع إحدى الشريكات عندما كانت تدرس اللغة منذ سنوات. لقد اختار المعهد لها سيدة لها عائلة واولاد بما إن عائشة متزوجة ولديها اسرة ، ولقد فوجئت عائشة بأن هذه العائلة ركزت على اطفالها وقد اهدوهم كتبا من ضمنها الانجيل للصغار.. !! لقد صعقت عائشة واخفته عنهم وعندما تصفحته وجدت فيه كراهية عجيبة للفلسطينيين الذين يقطنون الاماكن المقدسة في فلسطين ويصفهم بالغوغائية وسفك الدماء ، وتساءلت ما دام رأيهم فينا كعرب كذلك فلم يصادقونا إلا لاذا كانوا يهدفون الى احتوائنا وخصوصا اطفالنا ما دام الحديث عن الدين ممنوعا في المدارس.
تدخل عبدالله زوجها وحذر سارة من الوقوع في حبائل هذه السيدة ، فربما لها اهداف أخرى.
ضحكت سارة وقالت :
انني كبيرة بما فيه الكفاية لئلا أقع في حبائلها ، وما رأيكم لو نرد السحر على الساحر ونكسبها لمعسكرنا ، على الأقل تغير نظرتها المسبقة عنا لتنقلها للآخرين.
كانت متعة التحاور مع كريستين بلا حدود وخصوصا وهي تسأل وتسأل وتبحث وكانت سارة مسرورة لانها تريد ان تعرف لا ان تفرض ما تعرفه. تناقشتا بالدين الاسلامي وكانتا قد لبيتا دعوة تماضر وزوجها وعائشة وعائلتها في البارك القريب من منزلهم وقد اعدوا الشواء ودعوا الأطفال يلعبون بالألعاب المخصصة لهم هناك بينما الرجال زوجي تماضر وعائشة يلعبان كرة السلة وتماضر وعائشة تراقبان الشواء وسارة وكريستين اقتعدتا كراسي المتنزه تتحدثان ، قالت كريستين :
إن دينكم صعب جدا على اتباعه. انظري الى ملابس الرجال المتزمتة في بلادكم العربية بالأثواب الطويلة والعباءة واللحية وكذلك النسوة اللاتي يخببن بملابس غير عملية و لا يكتفين بغطاء الرأس بل تغطية الوجه كاملا ، عدا عن التعاليم والفروض الكثيرة التي على المسلم القيام بها بشكل مزدحم وكبير.
قالت سارة :
سأقول لك الدين كما افهمه.. اعتقد بأن الله سيحاسبنا على احساسنا بهذا الدين وهذا يختلف من شخص لآخر ، مثلا.. هل تذكرين السيدات المنقبات التي رأيتيهن في المركز الاسلامي وانظري الآن الى تماضر التي ترتدي الحجاب فقط مع ملابس عصرية مكونة من بلوزة وتنورة وليس جلباباً أوعباءة ثم انظري الى عائشة وهي ترتدي تي شيرت بنصف كم وبنطلون جينز بينما لم تغط شعرها وتركته ظاهرا للعيان. كل هؤلاء مسلمات ونظريتي إن كل واحدة منهن سيحاسبها ربها بتفسيرها الخاص لمعنى الاسلام وتعاليمه حسب فهمها إياه وإنما الأعمال بالنيات ، بمعنى إن سيدة ما تكون مقتنعة بداخلها بأن الاسلام هو تغطية الرأس والوجه والجسم ثم لا تقوى على فعل ذلك وتخرج سافرة ،هنا اعتقد انها خالفت عقيدتها لانها تعرف بأعماقها انها تغضب ربها ومع ذلك تفعله. وواحدة اخرى تخرج سافرة ولكنها تفهم الدين بأنه علاقتها الروحية مع ربها ولا علاقة بالملابس وغطاء الرأس بالموضوع ، إنه تواصل بين العبد وربه فهنا في اعتقادي إن ذلك لا يخالف شيئا غير موجود لديها ، انها حسب العلاقة التي يشعر بها الانسان مع إلهه ولا يمكن ان يدينها احد ، لأن الله وحده الذي سيدين كل إنسان منا وهذا من خصائص الله ولا يحق للبشر الفتوى بها.
قالت كريستن :
ولكن هناك الكثير من المتعصبين الذين يدينون غيرهم لدرجة القتل بحجة إنهم كفار.
قالت سارة :
الذي اعرفه إن الله يقول لكم دينكم ولي دين ولو شاء الله لآمن من في الأرض جميعا إنك لن تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء لو كنت فض القلب لانفضوا من حولك.
كن يتكلمن ويتكلمن بالساعات ولم تستطع كريستين أن ترد عندما سألتها سارة كيف يكون المسيح جيسس هو الله في عرفهم اذا كان قد ولد طفلا فكيف يكون الأب اذا في نفس الوقت.. ؟
كانت الكنيسة تؤثر على حياة كريستين ، فمن خلالها استطاعت الحصول على منحة لمتابعة دراستها العليا بالجامعة ، وعندما تزوجت ساعدتها الكنيسة باقامة الحفل في قاعة احتفالاتها وما زالت الكنيسة تربطها بأنشطتها الاجتماعية التي تحل اوضاعها الاقتصادية وفي نفس الوقت تجندها لتكون منبرها ورسولها كالحال بتعرفها على المسلمين لسبر غورهم والتغلغل داخلهم وتحويلهم عن عقيدتهم إن امكن.
وقد كنت كريستين اعجابا شديدا للمسلمين جعلها تعيد التفكير في ما كانت تستنكره سابقا بسبب تربيتها الامريكية ، فقد فهمت لم التواعد بالاسلام يعتبر حراما وزنى لانها هزت رأسها وقالت انني افهم ذلك بعدما ارى المآسي التي تنتج من هذه العلاقات من حمل المراهقات في امريكا وانتشار الامراض بالمجتمع والتهتك في العلاقات وانهيار الأسر.

الخامس والثلاثون
الإجازة للوطن

كانت سارة قد انهت دراسة اللغة وتم قبولها في برنامج الماجستير حيث انهت ايضا ثلاثة فصول دراسية للخريف والشتاء والربيع وقطعت شوطا لابأس به من برنامجها الدراسي قبل ان يحين موعدها للسفر باجازة للوطن.
لذلك كانت عودتها بعد عامين الى الوطن وقد استطاعت المشي بعكازة واحدة حدثا فريدا مفرحا وله دلالاته على اسرتها الذين حمدوا الله في قرارة نفوسهم انهم اخطأوا التقدير وها هي تحقق ما يرفع معنوياتها ويهبها بعض العزاء..
فجعت سارة عندما وجدت حياة وضحة كما هي.. لم تتغير ، وخالد مازال طريح الفراش بالمستشفى بغيبوبته الممتدة التي تثور احيانا باضطرابات تخلع قلب والديه ليعتقدوا انها النهاية وبفترات هدوء يتمنون ان ينهيها الله بالشفاء والصحوة.
وجدت إن عبدالرحمن بعد زواجه من اخرى قد زاد توتر بيتهم ولم يزد دفئه وحميمته.
لقد تحولت فاطمة الى إنسانة اخرى هدفها فقط مراقبة ضرتها ، تحولت تلك الانسانة الرقيقة الى اخرى عصبية تعتقد بأنها اصبحت اقل مستوى وضعفت شخصيتها بنفسها واخذت تحارب بالجهة الخطأ.
وكما قال شقيقها غانم عندما جاء للسلام عليها :
إن عبدالرحمن مجنون.. إنه ككل الرجال يتزوجون طمعا بإضافة الجديد لحياتهم ويكتشفون بالنهاية انها نسخة اخرى مما لديه وربما اسوأ ، والأنكى إنه يفقد للأبد صفاء حياته السابقة التي بدل أن يحسنها يدمرها.
هكذا انتقل التوتر الى سارة وهي تعيش ببيتهم وتدخل بتفاصيل حياتهم التافهة التي يخلقون منها قضايا وهي لا تستحق الذكر. احست بالكآبة تعاودها ومن حولها بائس ومطحون بآلام داخلية كتب عليهم دمغها على جباههم ولا مهرب. وزادها عندما فتحت دولابها لتجد فستان زفافها وقد شمعته وضحة بالبلاستيك بعد ان نقلوا اغراضها بعد الحادث ووفاة والدهم من بيتهم الى بيت عبدالرحمن حيث إقامتها الجديدة.
عندما فكت البلاستيك عنه وظهر فستانها الجميل الذي لم تلبسه قط انفجرت آلامها الماضية وخيبتها بقدرها. هل يمكن ان يتم تفسير القدر.. ؟؟
وهل من سبيل لتقبل مفاجأته واستيعابها.. وهذه هي المشكلة.. ؟؟ فقسوته احيانا تشوش على فهمه وتبين الحكمة المختزلة فيه ، وتنشطر حياة الانسان وتتصدع رغما عنه ويصعب عليه فهم نفسه مرة أخرى.. !!
ولقد وقعت في فخ القدر عندما لطمها بصاعقة تخلى سالم عنها بدون توقع وحذر بل وفي وقت كانت في امس الحاجة اليه والى حنانه ودعمه. يا الله كم حطمها ذلك وقد اذلها امام الاخرين وقد احست انها منبوذة ومن من.. ؟؟ من سيكون زوجها بعد فترة محدودة كما هو متوقع.. !!! كم سحقها الاحساس بالنبذ والهجر وكم احست بالخوف والوحدة والخوف والكراهية لنفسها لانها ادانتها بلا رحمة وكانت تردد في هستيريا في سرها.. لو كان فيه خير ما تركه الطير.. !
وقعت من يومها في دائرة الذهول فالصدمة قوية وحتى لو لم تدر انها تواجهها وواقعة بدوامتها ، هل تستطيع ان تدعي انها تختبر مشاعر طبيعية. ؟؟
ابتعدت عن الاخرين وغاصت بالداخل وكانت دموعها تهطل في داخلها ولا تدري بأن ذلك سيظهر عليها بأعراض مرضية لن ترضاها. لقد خرجت من المستشفى وهي لا تعرف نفسها ، لا تعرف من هي وسط الناس..؟؟ لقد وضعت نفسها في قفص المحاكمة واخذت تجلد نفسها دون رحمة.. !!
هل نفهم انفسنا.. ؟؟ لو كنا كذلك لم يزدهر علم ثائر يتجدد كل يوم اسمه الطب النفسي ، ولما سجنت الأرواح في اقفاص وهمية وتأرجحت بين العقل والجنون..!!
من طرق التحايل على المشكلة تجاهلها وعدم الاعتراف بوجودها ولكن هل ينجح تجاهلها ويبطل ذلك تداعياتها وآلامها..؟؟ عندما يظهر دمل مزعج في الجسم ويتجاهله الانسان فهل يخفي ذلك وجوده وهل بالتغاضى عنه لن يحس بآلامه وتزايد حجمه وتصلبه قبل أن يأتي الحول وينفجر وينزف قيحه وصديده ، وهل عدم الاعتراف بوجوده سيعفي من الحاجة الى تطهيره وتنظيفه وعلاجه..؟؟
لقد حملت آلامها معها وهربتها عن العيون ولم يهتم مفتشو المطارات بما تحمله داخلها من احباطات وتوترات وانهيار.
إن تجاهلها للأزمة بداية حدوثها وتماسكها الغريب فاقم من المشكلة.. !! عدم مبالاتها أو تظاهرها بذلك كأن الموضوع لا يعنيها وكأنه تصرف طبيعي قابل للحدث ضخم تصدعها الداخلي وانبت سرطانات من الضبابية والضياع والفجيعة الموؤودة التي تم اخراسها بالقوة ولم تفسح لنفسها المجال الصحي للتفريغ والفهم والاستيعاب. كانت ردة فعلها لا ارادية لانها فزعت ولم تدر كيف تتصرف وقد احست بالوحدة فجأة بانحسار عالمها من جهة ومن جهة أخرى لانه لم يترك لها تفسيرا سوى إنه ينبذها وكانت لا تستطيع مواجهة النبذ بصراحة والاعتراف به أو طرحه على بساط النقاش لانها لم تعرف اسبابه ولم تستوعبها ولم تدرك بأن هناك غدراً ولؤماً وبحثاً عن فرص أخرى ، لم تصدق بقدرة الانسان على تجاوز العلاقات كأنها لم تكن وتبديل المشاعر بسهولة وتغيير العواطف والتنقل بالأحاسيس كان الموضوع استبدال سيارة بأخرى وملابس بغيرها وليس خلع ارواح وتهويم نفوس. كان كبرياؤها يفرض عليها ان ترسم ابتسامة عريضة وأن تواجه زائراتها من الانساب والأهل وهي في عز اناقتها وتجملها ، كانت لا تسمح للعيون بأن تنظر اليها بعطف وشفقة وكانت تقتلها تلك النظرات وتشعرها بالضعة والضعف وقلة الحيلة والبؤس. لا تطيق تفسير عيون الاخرين.. وكم تكرهها.. هل هي تساؤل ، فضول ، ام شفقة.. وكانت اسرتها فوق الخوض في مثل هذا التصرف ، وكانوا انبل من أن يناقشوه امامها او حتى يجرحوا احساسها بكلمة تعاطف ، بكل صمت لم يعلق احدهم امامها ابدا بكلمة عنه وكأنه لم يكن يوما قد وجد.. !!
في زخم الافكار وتتابعها رمت سارة الفستان من بين يديها كأنها تتخلص من آثار كل الماضي الأليم ، ونادت الخادمة لتبعث بأثر زوجة اخيها وعندما اتت ، قالت وهي تقلب الفستان بين يديها
اتذكرين هذا الفستان.. ؟
وتلعثمت فاطمة وقد عرفته ولم تعرف ما تقول عنه ، وتابعت سارة تكفيها شر الحرج :
هل تزوجت شقيقتك حصة أم لا.. ؟؟
جلست فاطمة قربها جنب الفراش وقالت: تقدم لها متزوج منذ فترة ورفضته وهي ترعى امنا الآن.
قالت سارة :
اتمنى ان يليق هذا الفستان على حصة عندما يأتي نصيبها ويكون عليها فأل خير، ولا يكون حظها كحظي. إنه كما ترين جديد وباهظ الثمن ولايهون علي التفريط به إلا لمن تستاهله وليس هناك اعز من حصة.
تمتمت فاطمة بالدعاء لأختها ولسارة وأن يفك الله نحسهما.
وللأحداث بقية





الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 11:27 AM [ 28 ]
مؤسس شبكة الشدادين


تاريخ التسجيل : Jan 2005
رقم العضوية : 1
الإقامة : saudi arabia
الهواية : رياضة + كمبيوتر وبس
مواضيع : 2071
الردود : 91524
مجموع المشاركات : 93,595
معدل التقييم : 4981السلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond reputeالسلطان has a reputation beyond repute

السلطان غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 8
فعالية ضوء عدسة

فعالية طلباتك أوامر

شكر وتقدير

فعالية مجموعات المنتدى

يوميات الأعضاء

التميز في دورة الفوتوشوب

شكر وتقدير

أجمل خط 1434 هـ




أحسنتِ يا بسمة طرح الرواية

وفقك الله وننتظر جديدك القادم المختار

الله يحفظك


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 11:50 AM [ 29 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Nov 2006
رقم العضوية : 1994
الإقامة : qatar
الهواية : كتابة الخواطر
مواضيع : 1901
الردود : 9766
مجموع المشاركات : 11,667
معدل التقييم : 25بسمة is on a distinguished road

بسمة غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 3
العضو المميز

الحضور المميز

عضو مخلص





تداعي الفصول رواية للكاتبة مريم آل سعد (الحلقة الحادية عشرة)

السادس و الثلاثون .......ليس للاحزان زمن

كبر الابناء و لكن حياة وضحة ازدادت قتامة بتردي نفسيتها، اصبحت فاطمة في الرابعة عشرة ومحمد في الثانية عشرة وريم في السادسة ونواف في الرابعة من عمره، كان تفكيرها منصبا في ذلك الجسد المصلوب على سرير المستشفى منذ سنتين ونيف بلا ردة فعل.
قالت لها سارة تؤنبها. . لم تحبين الظلام ولا ترين النور.. وتتلمسين الاوجاع ولا تقدرين النعمة التي انت فيها.. ؟؟
كادت وضحة ان تخرج من طورها وهي ترد بانفعال.. ارجوك.. انك لا تعرفين النار التي تشب في صدري.. اي حياة تريدين ان اعيشها.. انني ارى بعينين مطمورتين بالدم والالم واتنفس بقلب مجروح ينزف مرارة ونشيجاً. انني مكتفية عن الدنيا ونعيمها.. انني في عزاء منذ دخل هذا الولد بدوامته.. وقد رضيت بقدري وحمدت الله عليه فلا تزيدي شجوني.
بلوم اكبر تابعت سارة :
فكري بأولادك غيره.. لماذا هو فقط.. هل تريدين ان يصيبهم مكروه حتى تحسي بقيمتهم.
فوجئت سارة بوضحة تقول، انك لا تحبين خالد لانه سبب لك اعاقتك، لا تستطيعين ان تفهمي انه لا يقصد ولو افاق وعلم بما سبب للآخرين لن يسامح نفسه ابدا و..
قاطعتها سارة وهي تحاول الامساك بيديها الاثنتين كمحاولة لبث الطمأنينة والدعم اليها :
ماذا تقولين يا وضحة.. خالد ابني ايضا، هو الوحيد من اولادك الذي تربى ببيتنا حيث تقيمين كلما سافر زوجك وكلما احتجت الى عون حيث لم تكن لديك خادمة او سائق او بيت ذو مسئوليات كما الآن، انا احبه واشتاق اليه مثلك تماما وكثيرا ما اراه في احلامي واحسه بقربي واكلمه ويكلمني، انت التي لا تفهمين.. لم اعامل خالد على انه السبب، ولم احمله المسئولية يوما ما وهو اكثرنا ضحية. . انها ارادة الله.. وجزء من اجري عنده هو قبول ما حدث لي برضى وصبر.. لكن الذي تفعلينه جريمة بحق أبنائك وزوجك، بيتك كئيب وممل.. وحياتكم موحشة يكاد الطير يختنق فيها.. حتى من لا يجد البهجة يختلقها. عودي الى ايمانك وابلعي ما انت فيه وتابعي الحياة.
قالت وضحة :
ليس بيدي.. اعتقد انني وصلت مرحلة ميئوساً منها.. اشبه بالانهيار انني استسلم لشبكة اليأس والقنوط.. وليعوض الله الاطفال الآخرين ، لقد انضب ما لدي من عطاء وبهجة.
وانخرطت في بكاء ذي نشيج.. كأنها لم تشبع من البكاء طيلة السنوات الماضية وتمتمت بلوعة:
انا فقط اشتقت له.. اشتقت لكلامه، لتعليقاته.. لاسلوبه في التعبير والحديث، لحضوره.
كانت وضحة تعبة ويائسة ومغيبة، استنفذتها مرحلة البكاء وتانيب النفس وتعذيب الذات والقلق والهواجس والتهيؤات والكوابيس والاجهاد والزيارات الطويلة للمستشفى والحديث لساعات للجسد المسجى بلا حراك.
الحياة تسير.. ولكنها لا ترى سوى السلبيات.. اهي لعنة تصيب البعض فتحرمهم من الاحساس بالتوازن وحساب بعض التقدير للنفس.. ؟
باتت لا ترى سوى الجوانب المظلمة وحرمت من طعم الفرحة ولذة النجاح
كانت تعيش مرحلة متوقدة من الترقب ترقب شيئا سيحدث او يجب ان يحدث.. ليس عدلا ان يسجى هذا الجسد امام عينيها في المستشفى حيا ولكن بلا حراك.
ليس بمقدورها الا تحس بوخزات وثقل وحدة وخربشة الاجهزة الحادة الصلبة التي تنغرز في جوفه وبين شرايينه.
ليس بيدها الحيلولة من العذاب والانهيار شيئا فشيئا وهي تجده لسنوات لا يأكل الطعام ويعيش فحسب على السوائل والادوية، انه تعذيب تام يقع امام اعينها.
ايتها السماء.. انه وضع اقوى مما احتمل او استطيع التحمل والجلد.
انه عقوبة اكبر من الذنب.. لم يكن سوى طيش ورعونة مراهقة وما اقسى المصير.. !
كانت تنحل بشكل غريب ويضعف جسمها.. كانت تريد ان تعاني مثله لكي تحمل المه ولا يتعبها ضميرها وكانت تريد ان تخف قدرتها على التركيز.
كلما انسحبت من العالم وغرقت في دنيا مخاوفها يزداد عذابها وتشعر بالانتماء الى الاستسلام لدائرة النسيان والتحرر من المزيد من الاعباء والمسئوليات التي تحطم قدرتها وتدفعها للوقوع في قاع الهاوية. ليس هناك شيء محدد جديد يدعوها للقلق والخوف
ولكنه عدم الثقة بالغيب وترقب القادم لم يفرحها يوما... ؟؟
اتراها تبالغ وقد طمست كعادتها فرحة اربعة اطفال يشبون حولها ويدخلون كهنوت المراهقة منطلقين يشقون طريقهم بطلاقة وخفة. تراهم ولا تراهم وهم يكبرون.. ويتشكلون وتتضح معالمهم وتنضج على نار هادئة شخصياتهم.
والم تعطها الاقدار درسا رهيبا.. فكلما امتعضت من امر ما وتقوقعت وتصورت انها نهاية العالم، وكلما شعرت بالحزن على نفسها وهي تشعر بأنها ضحية ولقمة سائغة لقدر الايام.. كأنها تريد ان تحنن المقادير عليها لترأف بها ولكأنها تريد كسر حدة القدر وتغيير وجهته، الم تدرك انها تثير غضب الله عليها اكثر لانها ناقمة وجاحدة لا ترى نعمة ولا تقدرها، لا تفعل سوى الشكوى والندب والاحزان.. لذلك يضاعف عليها جرعة العذاب وكلما شكت من امر جاءها الاشد وكلما انهارت من امر رأت ما هو اشد واعظم.
استغفر الله.. استغفر الله
لا يكفي ان نكون حزانى ومصابين في صميم ارواحنا لنكون ضحايا بل يجب ان نكون عادلين وحكماء، نرى الصورة بكاملها ولا نحكم على نصف الحقيقة.
ان الاستسلام للضيق والاكتئاب والتطير والقلق.. لعنة تساهم في جذب الحظ العاثر واصدار الاحكام الخاطئة التي تقود الى مزيد من ارتكاب الاخطاء والمشاكل. لا بد ان تبحث عن وسيلة لامتصاص كمية القلق والتوتر داخلها. لا بد من وسيلة لتفريغ المخاوف المجهولة التي تسكنها وتعصف بكيانها وتصفر بتهاويمها المزعجة داخلها.
هل هي مسكونة بلعنة تزلزل كيانها وتقض مضجعها وتمحي النوم عن عينيها. ؟؟
هل هذا القلق العاصف والنفس المنزعجة العديمة الرضى المتوترة ارهاص طبيعي لعدم قدرتها على التكيف مع واقعها الذي لم تتوقعه ابدا ولم تستطع تقبله.. ؟؟
هل فشلها مع خالد.. اوفشله مع نفسه، امر يتناقض مع طبيعتها المثالية وقناعتها الشخصية التي تؤمن ان واحد زائد واحد يساوي اثنان. انها ما دامت قد ربته بطريقة صالحة، وقدمت في سبيل هذه التربية انفاسها وصحتها وعمرها فلابد ان ينجح ويكون افضل الناس وليس مغيبا مرميا بلا حراك في المستشفى.
حتى تستطيع ان تساير الواقع، وطبيعة الحياة واسلوبها اللا مفهوم والمعتبر ولكي تستيقظ من القصص المطلقة المثالية التي تنتهي بانتصار الخير على الشر وعيش الناس بعدئذ بسعادة الى الابد.
هذه الاشكالية.. لقد صدقت وآمنت واعتنقت مبدأ الخير الذي يسود الى الابد.
لقد عاشت بمفهوم السعادة المأمولة للخيرين الابرار.. ومنذ طفولتها وهي تعمل الخير وتخاف الله وتراه امامها.
لم تؤذ انساناً او حيواناً.. حتى الحشرات كانت تتوخى الحذر في قتلهم وتحاول عدم ابادتهم بقدر الامكان الا اذا كانوا سبب الاذى والضرر.
واذا احست انها جرحت احدا وحتى ولو من غير قصد وبحسن نية تتعذب ويؤنبها ضميرها وتحاول اصلاح خطأها وتعويضه اضعافا مضاعفة فماذا يحدث لها.. ؟؟ هل تغيب نفسها بالاقراص المهدئة وتصبح لا فرق بينها وبين المدمنين.. ان اكبر جريمة اعتبار هذه الاقراص علاجا ولا يوصي بها سوى الاطباء الفاشلين.
تدرك الآن لماذا اصبح الطب النفسي في الخارج ضروريا لا يقل اهمية عن طبيب العائلة، فكما الجسد من السهل اصابته بفيروس الانفلونزا اوالحموضة وآلام المعدة وحساسية الجلد الخ الامراض وتسلسلها من البساطة الى التعقيد والخطورة فكذلك النفس... هناك توترات وحالات على بساطتها تحتاج الى طبيب والا ضايقت الانسان واثرت على حياته وفاعليته، فالتهاب اللوز اوالاذن اذا لم يعالج بطريقة صحيحة ترك مضاعفات خطيرة على الحواس والجسد، فكذلك امراض الروح.
فزيارة الطبيب النفسي اصبحت جزءا من الحياة الصحية العصرية، ولكنها مبهمة هنا و لا يمكن الاعتراف بها حتى من الاطباء انفسهم.. فأطباء المراكز الصحية يحولون مرضاهم على عيادات الجلد والعين والجراحة وهلم جرا ولكن من المستحيل ان يحولوهم الى الطب النفسي.. لانه لدينا للحالات المتفاقمة التي وصلت الى درجة الانهيار اوالجنون. انها ثقافة المجتمع ومفهومه من جهة.. وقصور دور الطب النفسي وعدم استعداد مستشفياتنا لمعالجة امور الحياة اليومية وطرحها من الاولويات.
لو كان هناك وعي لمثل هذه الجلسات النفسية.. ولو كان هناك وجود للطب النفسي لما وصلت عائلتها الى هذا الحد. ولاستمع خالد الى مخاوف والديه ولفهمهما ولعرفا هما ايضا كيف يتعاملان معه ويصححان اسلوبهما ، لو كان هناك شخص محايد يملك الادوات العلمية والاستعداد والتفرغ لهذا العمل لو جلس معهما وحاور ابنهما واستمع اليه وكان وسيطا بينهما. لترجم لهما وضعه ومعاناته واوضح تصرفاته. انها تشعر انها لم تفهم رسائله التي يوجهها اليهم بل بالعكس اساءت الفهم والرؤية، انها لارتباكها ورغبتها في اداء دورها المثالي خلطت بين الامور وعقدتها وساهمت في زيادة لجوء ابنها للتحايل والهرب والتيه. لقد كان خالد يحتاج الى مساعدتهما ولكنهما لم يعرفا كيف، واضاعاه.. !
مثل الفأر في المصيدة.. ما زالت سجينة الافكار المشوشة والمخاوف المطبقة على وجدانها، لقد اصبحت اسيرة تفكيرها.. مسلوبة الارادة لا ترى سوى الصورة الموجودة في دماغها، ولا ترى غيرها. تختلف الحقائق امامها وتوجد مناظر ورؤى ووقائع مختلفة لكنها لا تراها وبالتالي لا تتعامل الا مع الصورة المبرمجة عليها مع انها خيالية وغير موجودة الا في دماغها وحدها. جنون الواقع المرسوم بأسلوب خيالي في العقل.. تصدقه وتعيشه وتدفع ضريبته.

السابع والثلاثون
مسير الحي يتلاقى

عاش الاطفال بين والد عصبي يشتكي من مرضه وينفث سجائره، دائم الشكوى والتحسر واللوم ، وام دائمة الانتقاد والكآبة.. يتمنى اطفالها ان تضحك وتبتسم وتلعب معهم وتشاكسهم لجذب اهتمامها وتحويله من خالد الذي اصبح قديسا بعد الحادثة يذكر اسمه باحترام وتبجيل شديدين.. احتراما لمشاعر الام.
كانت ريم الابنة الصغرى اكثر الابناء حساسية ولم تحتمل اهمال ابويها العاطفي لها، فقد اصابتها نوبات الم في معدتها، لم تفد فيها الادوية واصبح اتصال المدرسة متوقعا وزيارات الاطباء واردة ومتكررة. لقد كتمت خيبة املها بوالديها بصدرها واستعاضت عنها بأحلام اليقظة بأنه ستكتشف يوما بأن والدها يمثل عليهم غضبه وعصبيته ولامبالاته لكي لا يدركوا اهتمامه الكبير ورغبته الجارفة باحتضانهم وسماع مشكلاتهم والانصات بعناية لافكارهم واخذهم معه في رحلاته التي يسافر فيها وحيدا عنهم. اما والدتهم فستدرك قريبا كم تضيع من فرحة ونعمة بزياراتها الغبية الى المستشفى وحديثها اليائس الى الغائب عن الوعي ونسيانها واهمالها الحياة النابضة بالبيت.
اما محمد الذي كانت تربيته مختلفة عن خالد فقد كان هادئا يجد ملاذه في بيت خالة مع صديقة وابن خاله مبارك الذي يماثله العمر. يذهبون الى نفس المدرسة وينتمون لنفس النادي ويمضون الاجازات وعطل الاسبوع معا.
بينما تبنت فاطمة المسئولية بصفتها الابنة الكبرى فقد ساهمت برعاية شقيقها اصغر العنقود نواف واخذت دور والدتها عند زيارتها الدائمة لخالد.
حاولت سارة اقناع اختها بأخذ الاولاد باجازة مع ابيهم كعائلة ليتذوقوا قليلا من المرح ويتمتعوا بروعة الحياة مع بعضهم البعض، ولا يحس بقيمة العائلة الا من حرم منها، قالت لها تحمسها :
سافروا.. اخرجوا.. تنفسوا.. هل انتم من عبدة تعذيب الذات.. ؟؟ هل انتم خفافيش تحب الظلام والاحزان وتأنيب النفس.. ؟؟ اصفحوا عن انفسكم وامنحوها اجازة قصيرة من القلق والترقب والتوتر. انني اتعجب منكم.. لم لا تكسروا الحواجز بينكم كعائلة ، ولم يسافر احمد وحده دوما ويترككم، لم لا تمرحون معا... انني لا افهم حقا حياتكم.. ؟؟ هل العيب فيكم اوفيه والى متى هذه العيشة النكدية.. ؟؟
وقفت البنات الى صف خالتهن وبالاتفاق مع بنات خوالهن.. تم العزم على سفرهم لدزني لاند وكالعادة رفض احمد السفر لانه لا يطيق ضجيج الاولاد وخصوصا ابناء اخوتها، واعتذر (عبدالرحمن ) لاضطراره للبقاء مع زوجته الثانية التي تنتظر مولودا، ولكن عائلته اتت معهم، نساء ومراهقين ودزينة اطفال.
واين الرجال.. ولم لا تمثل العائلة شيئا لهم.. ؟؟ الا يكفي النساء اعباء تدريس الابناء وتمريضهم ومتابعتهم والاهتمام بهم، والبيت واعباءه والازواج ونفسياتهم وتقلباتهم. اصبح هناك مجتمع خاص بالنساء ولو كن متزوجات، انهن يقمن بتدبير شئون المنزل وتصليحه والاتفاق مع النجار والصباغ ومقاول البناء واختيار الاثاث والستائر وتركيب خزانات المياه و.. و، والسؤال ماذا يؤدي الرجل في الاسرة وهل اصبح السائق اكثر فاعلية ودراية بامور عائلته، وهل هذه الادوار الجديدة على النساء لصالح العائلة ام انها توسع الهوة بين الزوجين وتضعف علاقتهما الحميمة.. ؟؟
كانت سارة سترافقهم الى فرنسا لمدة اسبوعين ثم تغادر الى امريكا من هناك لمتابعة دراستها بينما يعودون هم الى البلاد.
حان موعد السفر وكان الجميع يشعر بجو من الاثارة والتغيير والمرح وخصوصا الاطفال، اما وضحة فقد كانت كمن كانت ذاهبة بدون رغبة سوى مسايرة الجميع وتحت ضغطهم ولعلمها بأنه لا مبرر لتراجعها الذي يعني افشال الرحلة لصغارها، فقلبها معلق لدى خالد واحساسها بأن لا يوجد هناك ما يستدعي المرح كانا السبب وراء عدم استمتاعها باللحظة وبهجتها. وكانت سارة تستعد بالاصل لسفرتها لامريكا وقد اشترت هدايا مميزة لصديقاتها عائشة وعائلتها وتماضر وطفلها الذي رزقت به مؤخرا، والى الدكتورة سميث والدكتور باركر والى كريستين.
وفي المطار وبين جلبة المسافرين وقلق الكبار من ان يكونوا قد نسوا شيئا اوتركوا شيئا بدون تدبير ارتطمت عصا سارة بدون تفكير بشنطة احد العابرين امامها، وعندما رفعت بصرها للاعتذار التقت بوجه خطيبها السابق سالم وهو يجر حقيبته الانيقة بيده وتقف الى جواره شابة مبتسمة الوجه.
عندما يرى الانسان ما لا يتوقعه تكون ردة فعله غير ادراكية ولا تعبر بتاتا عن مشاعره الداخليه، رفعت سارة عينيها لتعتذر للسائرين عن ارتطامها غير المقصود بشنطتهم ولذلك اعتذرت برأسها وبتمتمة بشفتيها واشاحت بوجهها كما كانت تخطط قبل ان يخبرها عقلها.. انه سالم.. !!
وتابعت سيرها دون ان تلتفت بينما تسمر سالم مكانه.
وقفت حيث اختها وقالت لها وهي تهمس :
لا تلتفتي ولكن سالم موجود هنا في المطار.
واتى محمد مع ابن خاله مبارك الذي يقاربه بالسن والذي يعرف سالم عندما كان خطيب عمته ويزورهم بالبيت، وقال لعماته :
لقد سلم علي العم سالم، وسألني عن سفرتنا واذا كنا نحتاج مساعدة.
قالت له وضحة بعصبية :
ابتعدوا عنه.. ولا تنظروا اليه.
قال لها محمد بضيق :
انظري اليه.. انه لا يكاد يرفع عينيه عن مكاننا، ماذا نفعل. . ؟؟
قالت فاطمة :
لقد لفت انتباهي من قبل وقد عرفته قبل ان تراه خالتي سارة وكان يضحك مع هذه الفتاة.
قاطعتها وضحة :
انها عروسة، لقد تزوجا البارحة ولم أشأ اخبارك يا سارة لانه ليس له داع، ولكن ها انت رايتي ولينتهي الموضوع.
تابعت فاطمة بشماتة:
منذ رأى خالتي سارة تغير حاله، لقد ترك عروسه ولم يعرها اهتماما وكما قال محمد انه لا يرفع عينه عنا.
قالت وضحة بحزم :
هل انهيتم كل الاجراءات. . ؟؟ فعلينا الدخول اذن الى قاعة المسافرين، وليتحرك كل منكم اولادا وبناتا، وانت يا فاطمة بالذات لا ترفعي عينك بأحد.
رات سارة كيف كان سعيدا قد زاول حياته كأنه لم يفقدها، وها هو قد تزوج، وايضا يأخذ عروسه الى شهر عسلها، يعطيها فرحه واستبشاره كانت مئات من قنوات الالم المؤجلة او المسدودة او الصدئة او المخدرة قد انفجرت وتيقظت واخذت بالنزف بل الانفجار كبركان اخذ يفرغ حممه وشظاياه بوحشية بدون انذار، غشتها حالة من الكآبة الداخلية كمطر يهمي من الداخل، كغابة شوكية موحشة تمد ظلالها العميقة واشباحها المستوحدة في الاعماق، كانت دموعها غصات لم تكتف بالسيلان بل كانت لا تستطيع منع نفسها من الرغبة بالانفراد بنفسها للبكاء بحرقة ونشيج كان هناك عواء داخلي يريد تمزيق صدرها والخروج ولا يستطيع وقد تم اعتقاله وحبسه بالداخل.
تفجرت الذكريات في قلبها وتملكتها الرؤى ولم تصدق خيانة الزمن.. !! لو مات ربما يكون المها مختلفا.. !! لو تشجارا ووصلا الى طريق مسدود ربما تكون التهيؤات النفسية اخذت ابعادها وصلت الى مرحلة مقنعة ولكن.. ان يخذلها ويهجرها لانه اكتشف بأنها تعيق طموحه وتقف بطريق انطلاقه، ولان لها عقلا وشخصية وقناعات عليها الاطاحة بها لتصبح مرافقة ومؤدية فقط لادوار عليها مجاراتها. لو انه حاول ان يشرح لها ظروفه وانسحب مقدرا عواطفها وتفكيرها وكرامتها ربما سستتفهم اعذاره واضطراره للانفصال والبحث عن اخرى ولكن باسلوب يراعي مشاعرها ويحترم احاسيسها.. يا لانانية الانسان انها تطغى على انسانيته.. !
كانت الغصات تخنقها وبذلك فسدت رحلتها الى ديزني لاند المبهجة، وبدلا من ان تكون في حزب الشلة المرحة التي تتسلق الطوابير لكي تركب الالعاب وتدخل في مغامرات الالعاب الخطيرة والمرعبة والتي تضحك وتتمتع شاركت وضحة احزانها.
وعند الاصيل قبل الذهاب الى فندقهم بالقرية السياحية كن يجلسن على الكراسي المواجهة للبحيرة التي تتكسر الامواج الذهبية عليها المتوهجة بانعكاسات ضوء الشمس يرقبن الخضرة الممتدة بألوان ربانية يخشع لها القلب وهي تختلط بالبحيرة الممتدة الاطراف التي تسبح فيها ذوائب السحب الصافية ذات الاطراف الخرافية البعد، ويتمادين بالتيه والغرق بالداخل بينما تصلهم صرخات الاطفال ومشاكساتهم.. !!
كانت تخب في عباب صدمة مروعة افقدتها توازنها ففي عز صراعها في العمل وهي بين اتون الحساد والمغرضين وهي تصارع انياب الحيتان الدامية تنهشها وتتنازعها يتخلى عنها رجلها وسندها بأسلوب غير مفهوم ويتركها ضائعة وحيدة في صحراء متربة بلا تضاريس ولا ملامح.. !!
لقد عانت من الضباب يلفها وتلاطمتها الحيرة وانقضت عليها الوحدة والوحشة والمخاوف من كل صوب. لقد حوصرت وحدها فلم تستطع ان تكلم شقيقتها وقد كانت الاخرى مذهولة بتخبط ابنها في الدروب الضائعة، تحتاج الى من يعيد عقلها وقد اضاعه ابنها. كل ذلك التماسك الغريب وذلك الانكار والصلابة كانوا ضدها.. ضد احتياجاتها كانسانة.. لا بد ان تشكي وتتألم وتطلب المساعدة والحنان.
لقد دفنت الموضوع كله في اعماقها وتداعيات الحادث ترسبه للداخل اكثر واكثر.. كان داخلها يمور ويتعذب يغضب ويتألم ولكنها تدعي ان كل شيء على ما يرام بينما لم يكن شيئا واحدا يسير بشكله الطبيعي.. !! لقد فقدت في وقت قصير عملها ونجاحها وطموحها وخطيبها وقدميها ووالدها وبيت اسرتها واملها في حياة طبيعية بل فقدت كل رغبة في الحياة نفسها ولم يعد هناك شيء يدفعها للتمسك به، لا يوجد ما يبهجها لتتوقف عنده وتتمنى ان تحيا يوما آخر من اجله. فقدت الوهج الذي يشدها للحياة ويجعلها تناضل لتبقى حية والذي يجعل قلبها ينبض بسرعة وروحها تنتعش وانفاسها تتلاحق ويملأ محيطها ويمتد للكون كله.
كانت مشكلتها الاساسية الصدمة التي تلقتها من سالم بعد توترها مع جهة عملها مباشرة وقد تزامن ذلك مع الحادث الذي احكم دائرة الذهول عليها. تلقى الانسان ازمة في حياته قد يكون واردا ويحدث كل يوم ولكن ان تكون الصدمة غير متوقعة ومن اقرب الناس فانها حينئذ تفصل تركيز العقل وتفسد نظام التفكير بأكمله.. ! معنى تلقي صدمة غير متوقعة هو الكفر وتكذيب كل ما يتناقض معها، فهل معنى ذلك ان ارتباطها وايمانها بسالم طيلة الفترة الماضية كان كذبة ؟؟ هل حياتها السابقة كانت مضللة ولا تحمل الاخلاص والصدق.. ؟؟ هذه هي المشكلة.. ؟؟ ان تنقلب المعايير كلها فأما ان تكون كلها حقيقية وكيف يتواءم بذلك الاخلاص مع الغدر.. ؟؟ والمحبة مع الانانية والحقارة.. ؟؟ ذلك ما هزها وشوش حياتها وادخلها دوامة الضياع.. ؟ ان لا يعرف الانسان شيئا لانه اختلط ببعضه وهذه هي الصدمة ودخولها مفجع وقاتل والخروج منها ولادة جديدة ولكن كيف.. ؟؟
الذي لا يعرفه الانسان ولا يمكن لعقله استيعابه انه يمكن ان يحيا برضى واتزان وانسيابية حتى ولو فشل في تحقيق ما كان يعد نفسه له طول حياته. كان يعد نفسه للوصول الى مرحلة معينة تحت اطر عامة تحفظ تناسقه وفق خطة يبذل جهده لتحقيقها. وتمر التجارب وكلها تنبأ بفشل وعدم قابلية المصير الذي اختاره لنفسه. لا يمكن ان يتحقق ما اعتقد به.. وشيئا فشيئا تتضح امور كانت خافية عنه توضح اسباب عدم نجاحه واخفاقه بالوصول الى هدفه. وبفعل الحماس والرغبة في تحقيق المامول يتم التغاضي عنها كان دفنها يعني بانتهائها او بالحكم بعدم وجودها. لا يفيد التحايل او التغاضي باخفائها وتبدأ السنون بكشف المستور وطرح الواقع الذي لا يمكن تغييره.
يعتقد الانسان لحظتها انه انتهى.. كل حساباته مبنية على امر واحد، وعدم الوصول اليه ينبئ بتحطم الهرم وانهيار كل ما بني عليه. ولكن الواقع.. ليس كذلك في حالة واحدة اذا احب الانسان عالمه الجديد وفهمه وقبل به وتعايش معه..!! بكل بساطة وتعقيد في نفس الوقت.!! ان الاحكام القاطعة تعني الياس عند عدم تحقيقها.. ولا ييأس من رحمة الله الا القوم الكافرون..!! صدق الله العظيم.
لو انصفنا اقدارنا وتواضعنا وكنا اكثر حكمة لاستطعنا رؤية ابوابا مضيئة حتى في الفشل وعلى ضفة اخرى من حدوده الواسعة لم نتوقع وجودها ولكن يحرمنا احباطنا وتهاوينا السريع من منح انفسنا فرصة لتفقد ما لدينا وما حولنا او اننا لم نستطع رؤيتها وذلك بكل بساطة لضعف قدراتنا البشرية المحدودة.. !! وقد يكون ذلك الفشل لخيرنا ولكننا لا نصدقه لاننا لا نملك دليلا محسوسا لذلك.

الثامن والثلاثون
وجع الذاكرة

حصلت سارة على الماجستير ودخلت مباشرة في برنامج الدكتوراة. كان وجود تماضر وعائشة فعالا لدرجة انها لم تشعر بالغربة او الملل او الرغبة بالعودة للوطن حيث قد هربت بالاساس من ذكريات ومواجهات وتحديات لا تود الخوض فيها بعد معاناتها لها. لقد وجدت الراحة النفسية والهدوء والتجدد في سفرتها.
استطاعت ان تتصالح مع نفسها ومع الآخرين، وتشفى من فشل خطبتها وايضا تستقبل انباء تحسنها وقدرتها المتزايدة على المشي والتلاؤم مع وضعها الجديد بعد الحادثة، وامتلأت حياتها بحصولها على صداقة فريدة مع عائشة وتماضر عوضتها عن عائلتها وعن حاجتها الطبيعية للحنان والدعم.
وفي الاجازات القصيرة بين الفصول الدراسية كانت الصديقات وعائلاتهن يزرن الاصدقاء في الولايات الاخرى ويستأجرون سيارة (فان) تكفيهم جميعا، حيث يتبادل زوجا عائشة وتماضر السياقة في دروب الهاي ويه الممهدة السريعة التي تربط كل امريكا بشبكة طرق معبدة وميسرة ومزدانة بالاستراحات ومحطات الوقود والخدمات التي تجعل السفر آمنا وممتعا وعفويا. كانت سارة وعائشة وتماضر مع مولودها الرضيع يجلسن في المقعد الخلفي بينما جلس طفليا عائشة سلمى وزياد بالمقعد الخلفي الثاني يلعبون بألعابهم الالكترونية الصغيرة.
وطول الرحلة يتسامرون ويتناقشون ويضحكون او فقط يستمعون الى صوت ام كلثوم ويبحرون في عوالم جميلة حالمة الى ازمان سابقة لا يدركون ان عاشوها فعلا ام تخيلوها فقط، ام اعتقدوا انها عاشوها بهذا الشكل.
وعندما يصلون لوجهتهم يستقبلهم اصدقاء ربما لم يقابلوهم مطلقا من قبل ولكن حادثوهم تليفونيا قبلها مرات عديدة للاستفسار عن اشياء تتعلق بالدراسة والمعيشة ونظام الجامعات عن طريق اصدقاء مشتركين، والآن حانت فرصة اللقاء في الاجازات الجامعية القصيرة للتعارف والاستجمام.
وكعادة الطلبة العزاب يتركون شققهم للمتزوجين، وفي حالة ضيوفهم الحاليين تركوا شقة لاقامة السيدات واطفالهن معا بينما انتقل الازواج للاقامة في بيت احد الشباب.
كان المضيفون رائعين بحيث طبخوا لهم واكرموهم وعرفوهم على اصدقاء جدد والتقوا بالارواح اكثر مما رأوا المدن والطبيعة والاسواق. وعندما يعودون الى دراستهم يكونوا محملين باحداث صاخبة ومعارف جديدة ومعلومات مثيرة عن الطباع والاذواق والافكار والتجارب.
في يوم كانت في زيارة لتماضر ولفت انتباهها وجود جرائد مرسلة من الوطن بالبريد لزوجها عيسى وتصفحتها بشكل سريع لتتوقف امام خبر عن تغيير في المؤسسة التي كانت تعمل بها وقد توسطت صورة الوزير سلطان الخبر بينما توزعت صور المديرين الجدد وسيرتهم الذاتية.
الشيء الذي آلمها بالفعل بأنها تضايقت لرؤيتها صورة سلطان. احست انها لم تبرأ من جرحه بعد.. !!
ما لها وله.. ؟؟ لم يهمها الى الآن.. ؟؟ ولم تشعر بمشاعر غامضة نحوه.. ؟؟ والاخطر لم لا تستطيع ان تكرهه.. ؟؟ اوعلى الاٌقل تفكر فيه ببرود ولا مبالاة.. لم لا تزال تحمل له نوعا من المشاعر التي تغفر له رغما عنها كل الاساءات التي سببها لها.. ؟؟ ولم لا تؤثر بها وضعيته الوظيفية وسط هؤلاء الرعاع وتوفير سقف لحمايتهم.. ؟؟ لم لا تحنق عليه على الاقل وتحاسبه وتحمله المسئولية للتستر عليهم وعدم معاقبتهم.. ؟؟
اخيرا خامرها هذا الاحساس.. لابد وانها تحبه. !
لا بد ذلك والا ما قصة هذه البلاده في الشعور وهي لا تحرك ساكنا وهو يطعنها بحقده وغضبه وانتقامه. !
كيف تواجه كل هذه الامور ببرودة منقطعة النظير.. ؟؟ وكيف لا ينتقل اليها الاحساس بالكراهية لما فعله بحياتها.. ؟؟
انها محقة عندما تتساءل.. لماذا تحبه.. ؟؟ لا شيء فيه يستحق الحب ولكنه لا بد ان السبب انها كانت تحبه قبل ان تثور الزوبعة.
كانت تحبه واحبته لسنوات وهو ماثل امامها بشخصيته ذات البساطة والطيبة والشخصية الفاتنة العظيمة، الذي احبته كان شخصا مختلفا واصبح من الصعب عليها استيعاب هذا التغيير، انها لا تصدقه الآن.. لذلك فقد كان لزاما عليها مواجهة نفسها وتذكيرها ولومها وتوبيخها لعلها تفيق على الواقع.
الانه يذكرها بالوطن.. بالوجه الآخر له حيث يعشقه المخلصون ويهبونه حياتهم بينما هو لا يشعر بهم وان احس ابعدهم وصنفهم وخشاهم.
يا للمفارقة.. !! بينما يتطلعون اليه كمنارتهم المضيئة يسحقهم ويحولهم الى بقايا طموح والى فتات تطلع والى آليات معطلة مستلبة مشوهة. !
يا للقسوة عندما يفسر هذا الحب بالبغض وعندما يعامل التفاني كالدسائس والاجتهاد يحاكم بالقطيعة والنبذ.
انه انسان مختلف.. شخصية اخرى ترتكن الى وسطاء الانانية والانتهازية والغيرة والشماتة. ان بينها وبينه ارتالاً من المنافقين الحاقدين الانتهازيين الذين لا يطيقون نموذجها ولايستحملون ان يكون لها دور في حياته. انها عندما تتمسك به وتغفر له تنسى المصالح التي يؤمن الحماية لها وتتجاهل معابر الفساد التي ما كانت ستفرخ بيضها وتزهر اعشاشها لولا مباركته لها وتكون كالطماع الذي يبرر تكالبه لنفسه، وكما يزين الفساد لمريديه ويطرح لهم الاسباب والاعذار لارتكابه، هل تحاول الآن التغاضي عن ماهية سلطان وتتقبله وتؤيده وتسحق بذلك مثلها ومبادئها.. ؟؟ هل اصبح ارضاء النفس وتلبية الرغبات هو الفيصل الحقيقي والحكم الفعلي للاختباء عن رؤية الوضع الفعلي للشخصية.. ؟؟ هل تخدر ضميرها وتتجاهل الحقيقة لمجرد الانحياز لعواطفها. ؟؟
كل ما يقال هراء ان لم يطبق وان لم يجتز امتحان التجربة.. !! ها هي تدافع عنه ولا تشعر بالغضب بتاتا منه وكما يقول المثل.. ضرب الحبيب مثل اكل الزبيب، ولكن.. اليس هذا خيانة لمبادئها وهل يمكن ان ينجح اصلا تقربها منه.. ؟؟ هل يمكنها الاستمرار اكثر وتقبل نمط تفكيره واسلوب حياته..؟؟
هل ستتغاضى وتملك هذه القابلية وماذا يبقى منها في النهاية.. ؟؟
انها تفكر بأن المسألة ليست في ارضاء جانب من عواطفها يميل الى شخص معين ويسامحه ويرى عيوبه جواهر.. ولكن في امكانية استمرار هذا الود طويلا وان يطول تخدير عواطفها، صحيح انها مجرد افكار تخامرها ولم تمر ببالها منذ البعيد ولكنها مترسبة بأعماقها كحقيقة معترف بها ولكن السؤال.. لم تسمح لها بالترسب داخلها اكثر. ؟ ولم تبح لها احتلالها وتشويه وجدانها لدرجة ان اوهامها البحتة اصبح لها وجود وتاريخ وهي بالاساس سراب وهلوسات. ! لم يحس بها سلطان ابدا الا في تفكيرها الذي لا يريد الاعتراف ابدا بأنها مجرد خيالية كبيرة تؤمن لها اسقاطاتها الذهنية عالما واسعا من الاحلام ربما تخلقها لنفسها لانها لا تريد تصديق بشاعة الواقع.. فان صدقته فكيف تتطيق مواصلة الحياة.. ؟ وكيف تتجرع هذه الضحالة كلها ولا تختنق وتموت.. ؟؟
كانت تماضر قد نسخت لها اغنيات خليجية طالما سمعتها سارة تغنيها وهما في السيارة معا اوهن يتريضن في البارك ايام الصحو المشمسة. ولم تكن الاغنيات فأل خير لسارة، اصابها الاكتئاب ليومين وهي تسمع اغاني الحنين والشوق وتتذكر شبه حبيبا كان لها وخلفها مع اللوعة. وبعد ذلك قررت ان تخرج هذه الاشرطة من حياتها بالكامل وان لا تسمح للمشاعر باستغلالها وان تنسى تماما ما يفجر الاحزان في قلبها ويذكرها بقلبها المكسور. حنقت بشدة على صناع الاغاني الذين يتلاعبون بالمشاعر ويتبارون بتسجيل الاغنيات عن اللوعة والهجر والبعاد ولا يدركون بأنهم يفتحون جراحا مطمورة ويفجرون ينابيع جافة، ولا يعلمون بأنهم يفسدون حيوات مختلفة تحيل اغانيهم واقعهم الى عذاب.
قالت لتماضر وهي تعيد لها اشرطتها، من يسمع هذه الاشرطة عليه ان يدرك انها واحة سحرية فقط للانفصال عن واقعه والعيش في دنيا الاحلام الجميلة لساعتين اونيف ثم العودة الى الواقع ومن ينسى نفسه ويندمج بها فستسوء ايامه ويصيبه الاكتئاب كما اصابني.
تضحك تماضر جذلى وهي تقول :
ماذا تقولين. ؟؟ انا اعيش على هذه الالحان والشعور الجميل الذي تمدني به لاتجدد يوميا واستقبل الحياة بامل.
تتنهد سارة وتقول بسرها، ربما لانك لا تخنقين مشاعر خيالية في داخلك ولاتريدين لها بالنمو والتشعب اكثر مما هي فيه من جنون.. !!
كانت سارة تتحسن وكان الطبيب يراها على فترات متباعدة وكانت الثقة تزداد في نفسها واحساسها الداخلي بقدرتها على الصمود والمجابهة يكبر كلما احست انها خرجت من منطقة الخطر والعقبات وصنعت شيئا جميلا بحياتها. ولم تنقطع كذلك عن مركز تأهيل المعوقين لانها تستمد منهم الثقة وتعيش نوعا من الصداقات مع المشتركين هناك يقدمون لبعضهم السند والدعم وكذلك تعيش حياة اجتماعية جميلة كانهم اسرة واحدة يجمعهم العامل الانساني المشترك.
وكان اجمل ما سمعته كان من رجل في الستين من عمره حوله حادث الى مقعد مؤخرا قال لها :
اننا كائنات روحية نمر بتجارب انسانية ولسنا بكائنات بشرية نمر بتجارب روحية.
نعم صدق هذا الرجل. عرف الانسان معظم الاشياء عن نفسه والكون والكائنات حوله الا الروح انها من علم الله والسنا ارواحا وهذه الحياة التي نعيشها انسانية محضة علينا الا ننسى خلالها مكوناتنا الروحيه السماوية.
وكانت الدكتورة مس سميث تستعين بها للسؤال عن المطبخ العربي الذي بدأ يتأثر به من يحتك بالعرب أو يأكل بمطعم عربي كالموجود في مدينتهم مع صغر حجمه ولكن له رواده من العرب واصدقائهم، وقد سألتها يوما عن اعداد التبولة فأحضرت لها سارة كيسا من البرغل مع طريقة الاعداد اخذتهما من تماضر ولكن لم تستطع مس سميث تقدير الطريقة الصحيحة ولم تساعدها سارة بالشرح الصحيح وهي التي لم يكن المطبخ هوايتها يوما مما دعا الدكتورة الى افساد التبولة تماما وكانت قد دعت حماتها للعشاء، وكانت شديدة الحماس لتقديم الطبق كما اكلته في المطعم.
احست سارة بالخجل والشعور بالذنب عندما اخبرتها الدكتورة بالموقف الحرج الذي صادفها امام ضيوفها وهي المتحمسة لها.. فقالت لها بسرعة وهي تداري حرجها.. لا عليك.. سأعوض عليك عند ضيوفك واعد لك التبولة مع اطباق اخرى شهية. لا تقلقي سأدع صديقاتي يساعدنني بذلك.. فقط قولي متى..؟؟ ارجوك
انتقل الحرج للدكتورة سميث فضغطت على يد سارة وقالت بتاثر:
.. لا لا ارجوك.. لم اقصد ذلك.
قاطعتها سارة قائلة بأريحية وثقة:
كلام نهائي دكتورة... لا يقبل المناقشة، لا يمكنك مجادلة عربية على الطعام. لقد تم، واذا لم تحددي موعدا سأحضره اي يوم.
التمعت عينا الدكتورة وقالت برجاء.. اوكي.. الشهر القادم سيكون عيد الشكر.. هل يمكنك.. اقصد في ذلك اليوم. ؟
قاطعتها سارة بفرح.. اجل يمكنني ذلك ومع دواعي سروري.. ولن تكون التبولة فقط بل سيكون هناك الكثير من الاطباق العربية الشهية، فقط اعلميني بالعنوان.. وسيكون لديك.
قالت الدكتورة بامتنان.. لا لا، انا من سيأتي ليقلك والاطباق.
قالت سارة مصححة : لا لم اقصد نفسي.. فأنا اتفهم الوضع.. انا غريبة كليا على ضيوفك وانشاءالله اراك وعائلتك الصغيرة بمناسبة اخرى.
قالت الدكتورة باسمة.. ان مناسبة عيد الشكر للغرباء اصلا. اقصد ان يجتمع الغرباء على وجبة طعام مع اهل البلد الاصليين.. هذا اساس هذا التقليد، فيسرنا سارا ان تكوني معنا هذا اليوم مع انك لست غريبة.. فانا اعرفك جيدا اكثر مما تعتقدين.
ضحكت سارة وقالت بمرح.. وانا يسعدني ان تعرفيني.. لانني لا اعرف نفسي، على الاقل يعرفني احد والا ضعت.. !!
لان سارة استعانت بمطبخ عائشة الكبير لاعداد الوجبات التي ارادت ان تتجمل بها لضيوف الدكتورة من جهة ومن جهة اخرى لان هناك ديناً عليها تجاه انتمائها العربي بحيث تكشف حضارة هذا الشعب وتراثه وثقافته من خلال طعامه. فقد آلمها في الصميم ان يستولي اليهود على التراث الفلسطيني بحيث نسبوا الاكلات والدبكة والموسيقى الشامية اليهم في سطو وتشويه واضح للتاريخ.
على الرغم من انشغال تماضر مع طفلها الا انها طمأنتها بأن زوجها سيساعدها في اعداد مجبوس الدجاج الذي يشتهر بين الطلبه بطهوة.
اما الحلويات فقد اوصت بها المطعم العربي في المدينة قبل يوم من موعد الحفل. اما المقبلات المتضمنة التبولة والحمص بالطحينة والمتبل والفتوش والكبة وورق العنب فقد عملت بجهد عليها مع عائشة واستغرق التحضير اليوم السابق.

وللأحداث بقية



الأعلى رد مع اقتباس
قديم 03 Apr 2007, 11:51 AM [ 30 ]
عضوة متميزة


تاريخ التسجيل : Nov 2006
رقم العضوية : 1994
الإقامة : qatar
الهواية : كتابة الخواطر
مواضيع : 1901
الردود : 9766
مجموع المشاركات : 11,667
معدل التقييم : 25بسمة is on a distinguished road

بسمة غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 3
العضو المميز

الحضور المميز

عضو مخلص




تداعي الفصول ...رواية للكاتبة مريم آل سعد (الحلقة الثانية عشرة)

التاسع والثلاثون

عيد الشكر

كان موعد الغداء الواحدة ظهرا... وكانت سارشة قد استعدت للحفل وارتدت فستانا من التراث الشعبي المطرز بخيوط الزينة الملونة.. كان لونه الأحمر يضيف عليها شيئا من الحيوية والمرح ويتناسق مع لون وشاحها الأسود الذي يلف شعرها ويبرز وجهها المريح وعينيها الواسعتين اللتين يميزهما الكحل العربي المحدد ببراعة فائقة تتميز بهما الخليجيات بالذات، ربما باحت عينا عائشة بالكثير وهي التي لا تكاد تخفي حسرتها وتألمها ان تكون هذه الانسانة التي امامها تلازم عكازة لتسندها.. كانت تبذل جهدا لكي لا تقول... هل يعقل ان تكون صاحبة هذا البهاء مقعدة نوعا ما، محكوم عليها بملازمة عكازتها..
وعلى الجانب الآخر كانت سارة تحس بالذنب لأنها استخدمت عائشة في هذا اليوم واجهدتها معها منذ الأمس في التبضع والاعداد والطبخ وشغلت مطبخها وبيتها وحرمتها من اسرتها وشتت انتباه الموجودين.. على الرغم انها تعلم ان جزءا من الطعام سيكون لحفلة اخرى للغداء في بيت عائشة لنفس المناسبة.. انهم وان كانوا عربا الا انهم يتأثرون بثقافة المجتمع الذي يعاشرون، وستشارك فيها تماضر وزوجها وسيحضران نصيب الجميع من الكبسة بينما سيحضر شقيق عائشة وصديقته الأمريكية معهما الديك الرومي المشوي بالفرن الذي يشكل العمود الفقري لهذه المناسبة..
وفور وصول تماضر بطبق الكبسة الكبير الموعود كانت الأطباق تهيأ عند مدخل بيت عائشة بانتظار الدكتورة سميث..
ساعدت الدكتورة بعد وصولها بحمل الأطباق الى السيارة والتأكد من سلامتهم وعدم اندلاقهم، وودعت سارة الجميع وانطلقت مع مضيفتها المذهولة من هذه الأطباق العديدة والكميات الرهيبة من الأطعمة..
هناك استقبلهم زوج الدكتورة وهو يشعر بالارتباك كردة فعل الأشخاص بالغي التهذيب ازاء كيفية التعامل مع اناس من ثقافات مختلفة. تركته سارة يساعد زوجته وحاولت ان تعتمد على نفسها في النزول لئلا تزيد من احراجهم..
كانت عائلة الدكتورة تتكون من أبنائها طالبي الجامعة وابنتها وزوجها وطفلتها الصغيرة وشقيقتها وزوجها واولادهما الأربعة ووالدها وحماتها.. وقد كانوا منتشرين بين الصالة وغرفة الطعام والمطبخ..
كان منزل الدكتورة مشرقا وواسعا بينما يحيط الزجاج بالصالة مما يكشف جمال الطبيعة الخارجية.. وكعادة الأجانب كانت الصور والبراويز والشموع والأيقونات واللوحات والورود والتحف تزين المكان وتصنع ديكورا رائعا من الألفة والجمال..
احتاجت سارة وقتا كي تعتاد على المكان وعلى الناس الكثيرين المنتشرين حولها الذين يتصرفون على سجيتهم، وكأنهم وحدهم ولا يشعرون بقيود لوجود غرباء اوضيوف وسطهم.. اعطاها هذا السلوك راحة داخلية لتتخفف من توترها واحساسها بالغربة.. كان مستر كينغ والد الدكتورة اكثر الموجودين دماثة واهتماما.. فقد اشار ضاحكا الى انشغال ابنتيه بالمطبخ واعداد الغداء الشهي الذي يذكره بولائم زوجته التي انتقلت الى رحمة الله منذ سبعة عشر عاما.. وقال ضاحكا:
سبعة عشر عاما بدونها ولكنني اميز طبخها واحس به في فمي الى الآن واجامل ابنتيها وامدح طبيخهما، واقول لهما انه يذكرني بها، وانا اعلم بأنهن يعرفن بأنني كاذب كبير.!
قالت له سارة بتعاطف: لا بد انك تفتقدها كثيرا..
قال بألم: وخصوصا في مثل هذه المناسبات.. اتمنى ان تكون موجودة.. بالفعل اشعر بمكانها فارغا..
التقط الحديث مسز سميث، الذي كان يزود المدفأة بالحطب وقال مشاكسا: اذا سمعتك ابنتك فستندم على عدم دعوة جارتنا على الغداء..
والتفت شارحا لسارة:
انها جارتنا وحدثتها كارين عن والدها ويبدو ان هناك نية للخروج من قبلها في موعد معه..
اشاح مستر كينغ ذو الثمانين عاما بيده متعففا: مع احترامي فان لا اطيق ثرثرة هؤلاء النسوة..
كان الضحك يرتفع عاليا ليملأ الصالة ويشد الحضور ليشاركوا بالحوار بينما قال احد ابناء الدكتورة سميث الذي يلعب بلعبة الكترونية بحجم الكف بين اصابعه:
لا بد يا جدي ان تواعد مدرسة البيولوجي لدينا.. على الأٌقل لآخذ الدرجة واتخرج وبعد ذلك افعل بها ما تريد..
هز الجد رأسه يائسا منهم وقال لها بصوت مهموم:
انظري لهذا الجيل يتلاعب بالعلاقات الانسانية.. العلاقات اصبحت تمضية فراغ ومصالح لا غير...!
قالت سارة بنوع من الاعتزاز: نحن في مجتمعاتنا العربية ليس لدينا التفكير ذاته.. هناك احترام للعلاقة بين الطرفين وقدسية لها..
وتابعت..اتدري... سأقول لك موقفاً شهدته هنا لم استطع استيعابه بحكم تربيتي.. كنت مع عائلة صديقتي لزيارة شقيقها العربي وصديقته الأمريكية التي تعيش معه.. لقد اصبت بصدمة عندما وجدنا هناك شقيقها مستلقياً على الأريكة في بيت اخته وصديقها وكأن كل شيء عادي.. في موطني يقتل الأخ اخته في موقف هكذا ويقضي بقية عمره في السجن مرفوع الرأس لانه انتقم لشرفه وهنا...في الحقيقة... لقد صدمت بالفعل يومها ولم استوعب الموقف..
شعر مستر كينغ بالدهشة والاستغراب من ردة فعلها على امر عادي للغاية في حياتهم، وقال:
ان هذا مثير للاهتمام.. مدهش...ان تقاليدكم تستحق التفكير بالفعل.. ولكن اليس هناك مواعدة والا يخرج الشباب مع بعضهم البعض... اقصد جميع الناس، اليس في نمط حياتهم هذا السلوك الاجتماعي.. ,؟؟
- لا... هذا ضد ديننا.. انه يفسد المجتمع ويجعل العلاقات بين الجنسين حيوانية.. واعني بذلك انه يجعل المرأة مستهلكة وهي تتنقل من شخص الى آخر، انه عدم احترام لها.. ثم اننا كمجتمع حللنا ذلك في اطار الزواج وليس لدينا امهات عازبات بل ان القانون يلزم الرجل بتربية أبنائه في حال انفصال الزوجين لانه يعترف بزواجهما..
هز مستر كينغ رأسه مفكرا وقال: انا افهم ما تقولين لانني محام متقاعد وايضا من جيل مختلف كان لديه بعض الاحترام للعائلة وللتقاليد..
سألته: هل لامريكا عادات وتقاليد..؟
وقال متراجعا: لا ادري... هل لامريكا قيم خفية تعيش في هذا الجيل وتظهر عند اللزوم اوانها تسير في طريق الاباحية والشواذ والحرية اللامحدودة للأفراد..
جاءت الدكتورة سميث تطمئن على سارة: هل تعرفت على المجموعة..؟؟ هل انت بخير..؟؟
قال لها والدها: هي افضل حالا من كثيرين موجودين هنا.. انها شخصية تثير الأسئلة..!
قالت الدكتورة سميث:
واو.. اذا نلت اعجاب والدي فهذا يعني انك شخصية مدهشة..
تأملت ساره الرجل الثمانيني واصراره على استقلاليته وتمسكه بوحدته. تذكرت اباها بعد وفاة امها... لا بد انه كان يفتقدها بشدة هو ايضا ولكنه الآن لحق بها ولن يشعر بالألم..
كان هناك شراب البيض وعصير الليمون وكانت د. سميث تستعد للتقديم عندما دق الجرس وقالت بارتياح... اخيرا جاء آخر ضيفين كنا في انتظارهما.. الجميع هنا انكم تعرفون د. جيمس باركر وزوجته الدكتورة سوزن باركر.
فرحت سارة بمقدم طبيبها فقد كانت تحمل له معزة خاصة لاهتمامه بها ولانتباهه لحالتها، الم تسمه منقذها...؟؟؟
وبعد الغداء... انشغل المدعوون بمساعدة د. سميث وزوجها في تنظيف المائدة وعملية حفظ بقية الأطعمة وهي تسأل الجميع بما يحب ان يأخذ معه من الطعام الكثير المتبقي..
وكانت سارة محظوظة نوعا ما لانها استبعدت من عملية التنظيف باقناعها بأنها ادت دورها واكثر بعملية طبخ الكثير من هذه الأطعمة بينما فاجأها د. باركر وهو يقدم لها القهوة بقوله:
اعترفي هناك فضيلة عليك اغتنامها من اصابة رجليك... ها انت مرتاحة وها هم يعملون..
سألته سارة بلؤم: وانت لم لا تعمل وليس لديك اصابة بقدميك... اذن المسألة نسبية وليس لها علاقة...؟
قال الدكتور متفاخرا: كيف من خبز الكيكة التي غطيت عليها بحلوياتك العربية.؟
قالت سارة: بالطبع زوجتك من طهتها... هل تريدني ان اصدق انه انت..
- اسأليها...انت لا تعرفين انني متخصص ببعض الطبخات التقليدية..
- دكتور صعب علي التصديق انك تبتسم وليس تطبخ فقط، انك جاد أكثر من اللازم، ولم اصدقك وأنت تقول لي عندما ذهبت لرؤيتك بالعيادة.. ماذا تفعلين بهذا الكرسي المتحرك..؟ ألا ترين تحسن قدميك.. ؟ هيا انهضي.. ؟ كنت انظر الى عينيك الزرقاوين اللتين تنظران الي ببرود واحاول الاستيعاب، هل تريد مساعدتي أم تعنيفي...؟؟ بصراحة انك تخيف مرضاك..
ضحك مستر كينغ عاليا بينما دافع الدكتور باركر عن نفسه:
ومن اطلق علي لقب الدكتور الساحر يا ناكرة الجميل، مشكلتك يا سارة بأنك ترفضين تقبل وضعك وذلك بعدم السماح لنفسك والآخرين بمنح البدائل لتغييره.. عندما تحبين نفسك كما أنت ستتوقفين عن رؤية نفسك كمختلفة أوضحية وحينها ستسمحين للتطورات بالحدوث وقد تكون غير ما تحتسبين.. الاعاقة ليست النهاية... انت شابة وجميلة وذكية... الكثيرون سيكونون سعداء معك..
انتهزت سارة فرصة انضمام المدعوين الواحد اثر الآخر للجلسة دون أن يقاطعوا المتحدثين لتحكي لهم حادثة مرت ببالها:
في ليلة كنت مع صديقاتي نتعشى في مطعم فاخر وذلك قبل أن اترك الكرسي المتحرك لاستعمل العكازتين.. انتبهت الى صوت احداهن وهي تهمس في اذني... هل ترين الشاب الأنيق الذي في الطاولة المقابلة لنا..؟؟؟ يبدو من ملامحه انه خليجي... لقد ظل يرمقك بإعجاب منذ فترة طويلة.. تابعت سارة... لا ادري لم فعلت ذلك ولكنني قلت لها... قولي للنادل ان يحضر الكرسي المتحرك... رفعت لي نظرة متسائلة وقالت... ماذا هل سنغادر الآن...؟؟ ولكنني قلت لها... اسمعي كلامي واخبريه وستفهمين.. وعندما جاء النادل بالكرسي... قلت لها انظري لهذا الشاب الآن وانا انتقل الى هذا المقعد.. انزعجت نظراتها وكانت متألمة بالفعل لانني سأفسد لحظات جميلة كانت تعتقد بأنها ستسعدني..
تساءل الدكتور... وبعد تصرفك السادي المتعمد ذلك... ماذا كان رد فعل الشاب...؟؟
- وماذا تتوقع...؟؟ لقد اشاح بوجهه وغادر حتى قبل ان انهي جلوسي في مقعدي.
- اعلم انه من الصعب تحمل الارتباط بشخص بمثل حالتك ولكن الحب يفعل المعجزات..
- اتعتقد ذلك...؟؟ كنت مرتبطة قبل الحادث بشخص ما، كنا مخطوبين وعلى وشك الزواج وتخلى عني حتى قبل ان يدرك مدى اصابتي وتقول لي انه يوجد حب..؟؟
- لا اعرف كيف اشرح لك... لكنه يوجد حمقى كثيرون قد يتركون كل شيء ليكونوا معك يا سارا..
احمر وجهها بشكل لا ارادي... وفهمت ان هناك اختلافات في ردود الأفعال، وكما أن هناك وجوها مختلفة للناس فهناك أيضا أرواح مختلفة لهم، والمشاعر الانسانية الجميلة لا تكون لدى الجميع ولكن عدم رؤيتها لدى بعضهم لا يعني عدم وجودها المطلق، انها تتناثر هنا وهناك ويعبق بها الجو ولكننا احيانا لا نراها ولا نتمكن من رصدها لأسباب عديدة اهمها ينطلق من داخلنا، وخصوصا اذا كونا فكرة مطلقة عن انفسنا وعن الآخرين وعن الوجود وصدقناها فنعمى بذلك عن رؤية ما عداها.
وحان موعد التخرج وقد منحتها امريكا شهادة الدكتورة وشهادة الثقة بالنفس وعالجت روحها واستطاعت رجليها أن تمس الأرض وتسير بمساعدة عصا واحدة فقط بينما تحتاج لمزيد من الوقت لتترك هذه العكازة ايضا مع تحسنها الملموس..
لذلك لا تستطيع اخفاء حبها لأمريكا التي آوتها عندما احست بالنبذ، وضمتها عندما كادت تتحلل في غرفتها بوطنها بلا مستقبل ولا حياة...!! امريكا الانسانية وليست امريكا السياسية وهناك فرق شاسع بين الاثنين...امريكا الانسانية لا تفرق باللون والدين والعرق وتعيش فيها الطوائف بسلام تمارس شعائرها، وتلبس ملابسها، وتأكل طعامها، وتفرض تقاليدها.. امريكا النموذج لحضارة البشرية وبساطتها وجمالها ونظامها وروعتها.. امريكا التي تحبها هي امريكا احترام الانسان وتقديره والاعتراف به.. امريكا التي يمشي فيها الانسان رافعا رأسه يستطيع مقاضاة رئيس الجمهورية دون أن تنغص حياته اجهزة المخابرات وتصطاده اجهزة الأمن..
امريكا التي تحبها تضمن لها العيش بكرامة وانفة دون ان تخاف المرض والعجز والبطالة والقهر..!! امريكا التي تحبها تجعلها تفتح عينيها على جمال الطبيعة وسلامة الطرقات وحرية التحرك والتصرف الشخصي..! ! امريكا التي تحبها تجعلها تدفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف والمشتروات والمرور وسائر المعاملات هي جالسة ببيتها بالبريد بيسر وسهولة والتي تعني احترام الوقت والمواعيد والنظام والترتيب وكل الأمور بمكانها دون ان يضيع الانسان لاجراء معاملة يوما كاملا اويأخذ البحث عن موقف للسيارة يوما اضافيا...!!
لذلك وهي في امريكا لم تواجه سوى وجه شعبها البسيط الذي يأسرها بتسامحه وتقبله لهذا الخليط المهجن الذي يتناسل في محيطها بشرعية دون ان يسمح القانون للعنصريين بالاعتراض والرفض وحماية الجنس اللاري الأبيض...!!! عندما ترى جميع الألوان والأجناس تذوب تحت لواء الجنسية الأمريكية التي تكتسب قوة ومناعة من ولاء وحب وتفاني هذه العرقيات والأصول التي لم تتوحد وتندمج بقوة وشفافية الا في مثل هذه الأمم التي صنعت عراقتها بثقتها في الانسانية جمعاء واحترامها لثقافاتهم وخلفياتهم وانتماءاتهم..
كيف لا يحب الخليط المقيم فيها امريكا وقد اعطته الهوية والكسب المادي والكرامة والسمعة الطيبة بين الأمم لدرجة انه يستطيع ان يرفع رأسه بفخر ويقول انني امريكي حتى ولوتورط سياسيوها في استعمار الشعوب فما زالت امريكا يانعة بأسلوبها الأممي الفذ في مجال الانسانية والرعاية الاجتماعية وبناء المؤسسات واحترام القانون ! ! كيف يمكن تجاهل نظامها التعليمي الراقي ومؤسساتها الدستورية وقانونها المتماشي مع المنطق والعقل والفطرة.... ؟؟ كيف يمكن للمرء ان يرفس الأمن والنظام والحقوق المدنية للأفراد والجماعات للمقيمين داخل حدودها...؟؟ كيف يكفر بالقيم التي يعيشها هناك كالاحترام والنظافة والأمانة والذي تحترم آدميته وتتفق وديانته وحرياته ومكتسباته وخلفياته اينما جاء ومن اي بيئة ولد...؟؟ كذلك لا تستطيع اخفاء تقززها من الوجه الآخر الذي يغض النظر بدون ان يشعر بالخجل والذنب والمسئولية فعلى الرغم من اسلوبها الاستعماري الا ان امريكا تدعي امام العالم اجمع بأنها تراهن على العدالة والسلام والديمقراطية.. لا تجعل شعبها يعتقد يوما واحدا بأن امريكا تخوض حربا ضد مبادئها المثالية بينما تختبئ القذارة والفساد في الجيوب الخلفية لسياسيها الذين ينتحرون سياسيا ويخرجون من اللعبة ما ان ينكشف تورطهم دون ان يؤثروا على النظام اويهددوا شرعيته ويقلبوا مؤسساته ويحدثوا ازمة في ممثليه ويدمروا البلد بكامله..!!
امريكا الاستعمارية القذرة التي تلوي اعناق الشعوب، وتستخدم حكام العالم لتحقيق مآربها البغيضة، وتزرع اسرائيل كجرثومة سرطانية قاتلة في الجسد العربي الاسلامي المهلهل غير آبهة بالعدالة والشرعية والكفاح الوطني العادل... هي صورة اخرى ربما لا يواجهها المتواجد فيها كمقيم يحظى بامتيازاته التي لا تفرق بينه وبين المواطنين الآخرين ولكنها تصفعه عندما يواجهها كأجنبي تتضارب مصالح بلاده الوطنية مع نواياها التوسعية الامبريالية..

الأربعون
أمريكا... وداعاً

حان الوقت للتخرج والعودة الى الوطن وبحصولها على الدكتوراة اصبحت الدكتورة سارة، وقبل ذلك استطاعت تحطيم اعاقتها والمشي وان لم يكن تماما بل بمساعدة العكاز ولكنها تسير بالاسلوب الصحيح وتدرك في قرارة نفسها انه كما الحادث حصل دون خطأ منها و نتيجة لأمر لا يد لها فيه، فان الشفاء ايضا لم يتم بسبب العلاج أوغيره بل كأن الأمور مخطط لها أن تحدث في وقتها المقرر لها وشفاءها تم عندما اراد الله لها ذلك، انها تؤمن بأن لكل شيء سبباً لا يعلمه الا الله وربما احيانا من الخير حدوث الألم وهناك حكمة لموعد انتهائه بزمن يقرره الله..
مع نهاية العام الدراسي ومع قدوم الربيع وظهور الشمس المشرقة وخضرة الأشجار وبهاء الطبيعة استيقظت سارة وكانت صور قدومها الى امريكا تتواتر في ذهنها..
تذكرت رقدتها في المستشفى عندما حادثتها تماضر لتهنئها بالسلامة بعد اصابتها بالحادث وكيف تمنت يومها أن تكمل هي الأخرى دراستها بالخارج وتبتعد عن محيطها المعبأ بالذكريات المؤلمة.. تتذكر علاجها الطويل أواستسلامها بالأحرى لوضعها الصحي ودفنها نفسها حية كتعذيب ذاتي لا تجد مبررا له اليوم.. وكيف جاء السفر الى امريكا ومرحلة التأقلم والتحرر من الذهول والصدمة وسجن النفس الداخلي والتغلب على الاصابة والقدرة على المشي من جديد، وكيف كانت تجربة الدراسة في امريكا تجربة ثقافية بالدرجة الأولى حيث جاءت وهي خريجة المناهج العربية التي طبعت في ذهنها امجاد المسلمين وسنوات ازدهارهم في العصور الذهبية الأموية والعباسية والأندلس وامجاد خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، لقد اتت من عبق التاريخ مزهوة بتراثها لتكتشف منذ دراستها بمعهد اللغة واحتكاكها بالطلبة وخصوصا اليابانيين والصينيين والكوريين بثقافات أخرى موغلة بالتاريخ هي ايضا لها خصوصيتها وانبهارها واستطاعت أن توسع تصوراتها واحساسها بالعالم حولها الى صورة شمولية أكبر.. وبعد ذلك وجدت ان لدى الامريكيين مع جميع الجنسيات الأخرى قواسم انسانية لم تشعرها احيانا بأن كريستين امريكية فقد كانت تأكل وتشرب وتحلم وتفكر مثلها، وكانت احيانا كصديقتيها عائشة وتماضر وقد زالت الفروق الثقافية كلها ليتكلموا جميعا بلغة الوجع والهم الانساني الواحد وتجلت الآيات القرآنية ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) وفي الحديث: (لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى )... يا سبحان الله التقوى هي الكلمة الفاصلة، وهي التي تحدد الانسان وافضليته عند ربه وليس بكل المسلمين تقاه وليس بكل غيرهم فاسقين..
عادت سارة الى الوطن تحمل درجة الدكتوراة، وقدمين تتماثلان للشفاء، وعصا تعتكز عليها بدون الكرسي المتحرك، ونفسا برأت من خيبات الماضي واحباطاته، وروحا تسامت عن آلاعيب الحثالة ودسائس الباحثين عن موقع في خريطة الزمن..
عندما حطت الطائرة في المطار وفتح بابها وخرجت مع العائدين كان الجو معبقا بالرطوبة الخانقة والحر الشديد وليس هناك ذرة هواء واحدة بالجو، كان الوقت مساء، ولكنها اشتمت شيئا بالجو رغم قتامته وعتمته ولزوجته، شمت رائحة الوطن..
وهي بأمريكا كانت تتمتع بحياة رغدة آمنة ممتلئة بالدراسة والأصدقاء والاسترخاء النفسي، ولكن ذلك لم يمنعها من السكن الروحي في الوطن بنفس الوقت، بالذكريات التي تظهر بأحلامها وتشكل طفولتها وخبراتها ووعيها وشخصيتها، بكل موقف تواجهه ولا تتوقف عنده بل انه يرتد الى تجارب سابقة ومواقف ماضية في بلادها. كل عصب فيها معجون بحياة حافلة صنعت شخصيتها في ارضها منذ طفولتها وصباها ومراهقتها ونضجها.. كان لكل شيء يحمل عبق التراث من طعام وشراب وموسيقى يلمسونه بالغربة له معنى لديها وزملائها الخليجيين، كان يشدهم وينظرون اليه باجلال وفرح كأنهم اكتشفوا كنزا، كان كل خبر وتعليق عن البلد يهتمون به ويتناقلونه كأنهم ابتعدوا ملايين الأفلاك عن مسقط رأسهم ولا يصدقون ما يقربهم منه، كانوا يجتمعون ليحموا ذاكرتهم من الصدأ وليعيدوا ويكرروا عاداتهم وتقاليدهم وكلام عجائزهم لئلا يندثر الانتماء ويفقدوا الهوية، كانوا يرتبطون بملابسهم اكثر ويرتدونها بمناسباتهم ليروا الآخرين بفخر من هم وأي حضارة جميلة وغنية انجبتهم، كانوا يفتخرون بأنفسهم ويريدون أن يراهم الآخرون بثقافتهم ليعرفوا كم هم اقوياء ولهم جذورهم وذاكرتهم العتيقة وليس بمسخ انفسهم والضياع وسط الآخر.
اختلطت بها مشاعر غامضة وهي تتنفس الوطن من باب الطائرة وتتساءل:
ها قد عدت، هل استطيع ان اتعايش مع الواقع الجديد، هل يستطيع استيعابي أم سأتعب من جديد ولن اتصالح معه، ولكن اين المفر هذه المرة...؟؟

الحادي والأربعون
لا عودة للماضي...!!

في بيت عبدالرحمن استعدوا لاستقبالها بطلاء غرفتها وتغيير الأرضية واعادة تركيب ستائر جديدة لها مع وضع بعض الاكسسوارات الجمالية للترحيب بها.. وكانت في المطار وضحة وابناؤها وقد حملوا الورود بينما استمرت حلقة الاحتفالات بين بيوت الاخوة بمقدمها بذبح الخراف واقامة ولائم العشاء ودعوة الأهل والأنساب والمعارف..
عادت سارة الى عملها في المؤسسة ولكن ليس الى مكتبها البائس المجمد لان المؤسسة انتقلت الى مبنى جديد مجهز بالمعامل الحديثة وبالتخطيط العصري الذي نقل المؤسسة الى المرحلة الانتاجية المأمولة.. لقد تغيرت الأمور للأفضل وليست كما كانت..
وعندما قابلت مدير الادارة الملحقة بالمؤسسة وجدت مديرا جديدا شابا ممتلئا بالحماسة، متحلياً بالخبرة والشهادات اللازمة، كانت مفاجأة سارة أخرى لها وقد احتفل بها مديرها واعطاها حقها عندما قال لها:
انك يا دكتورة لست بموظفة جديدة... أنت من الأوائل الذين ساهمت افكارهم وجهودهم بتحديث المؤسسة ويشرفني أن اعرض عليك أن تكوني مستشارتي للأمور الفنية بالادارة.
قبلت سارة بكل سرور لان ذلك يعني اشرافها المباشر على كل المعامل الواقعة تحت تنظيم ادارتهم بالمؤسسة..
بعد وصولها بشهور قليلة فوجئت بصديقتها تماضر التي استقرت بالوطن قبلها تطلب رؤيتها بسرعة وقبل موعدهما الأسبوعي الذي تعودتا على اللقاء به بعد وصولهما واستقرارهما بالوطن حيث يتعشيان معا في احدى المطاعم الهادئة.. واتفقتا على شرب القهوة مساء في احدى جلسات الكافي شوب عندما قالت تماضر بحماس وجدية:
تتذكرين بالطبع خطيبك السابق، سالم، لقد اتصل بي بالعمل وكلفني بابلاغك بأنه لم يكف عن متابعة اخبارك، وما زال يفكر بك، ويريد أن يتقدم اليك بالزواج مجددا..
غاص قلب سارة وامتعضت واحست بلفح رياح حارة تلفحها تحمل معها ذكريات أليمة، وقالت بصوت يحمل احباطات الماضي:
هل تدركين يا تماضر انه كسرني عندما تخلى عني وأنا بين الحياة والموت اذا قلنا ذلك مجازا.. كنت محطمة من تداعيات عملي ومن العزلة التي احكم بعض الأشخاص فرضها علي، كنت اختنق من الضغوط النفسية التي تبثها ذبذبات الأرواح من حولي، ، من قدرة الوجوه على التلون والتصنع والتمثيل، هل تستحيل القلوب الى صفائح مجوفة، وهل تتجرد من النبل والكرامة وعزة النفس...؟؟
كنت اعاني من اجتياح متجرد من الشعور لا يبالي بمن يكسح في طريقه وما يقتطع من اخضر ويابس لا يرده ضمير ولا تمسه خلجة وجدان ثم جاء الحادث وكنت موعودة بفقدان قدماي وفقدتهما فعلا لمرحلة طويلة وماذا فعل هو..؟؟ وجه لي الضربة القاضية اللطمة التي ان افقت منها اليوم فهذه معجزة الهية منحني اياها الله، اتدرين في تلك الظروف تركني وهرب...!! هكذا... لملم نفسه وانسل مبتعدا دون أن يمنحني حق سؤاله لماذا...؟؟ دون أن يكلف نفسه الالتفات الى الخلف ليعرف حال من خلفها وراءه، لم يهتم بي كإنسانة... فكيف أولي نفسي ثانية لشخص لا أثق به، وقد تخلى عني مرة بأسلوب شنيع وخال من الشهامة، ألن يكررها عندما تمر نفس الظروف أوما يشابهها والمفاجأت أعظم، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقد أديت ديني ودفعت ثمنا باهظا من تفكيري وعواطفي ومشاعري ولا أستطيع أن ادفع الثمن مرتين فقد اكتفيت وتعلمت وأصبح ايضا لا يمثل لي شيئا ولا اريد أن اعرفه ولا يهمني امره بشيء.. فقط أعجب بجرأته ليتصل بك ويطلب منك مكالمتي بهذا الموضوع، لقد باعني وتركني وهنت عليه ألا يحرك ذلك شيئا من الخجل في نفسه.
انصدمت تماضر والتي اعتقدت بأنها تزف نبأ جميلا الى سارة، بينما رفعت سارة وجهها لها وركزت عيناها عليها وسألتها:
لوان ذلك جرى لك أولاحدى أخواتك، هل ستقبلين خطوبته من جديد وهل تشجعين اختك عليها..
بوجوم هزت تماضر رأسها رافضة الفكرة، فقالت لها سارة:
اذن كيف ترضين لي ما تأبينه وترينه كبيرا عليك.. لا... يا تماضر قد دفعت الثمن بما يكفي، لقد تعذبت واستحالت حياتي الى جحيم لا يطاق وكرهت صنف الرجال ولم أعد اثق بأحد منهم بسبب هذه التجربة.. ليس سهلا أن يصيبك الغدر من اقرب الناس اليك، حينها تخافين الجميع ولا تثقين بأحد مطلقا.. الله يفتحها عليه ويوفقه ويوفقني كلا في طريق مختلف..
لم تتوقف سارة عن الاحساس بوجود سلطان بحياتها، انها تعرف بأنها لا تعني شيئا لديه وان وجودها وعدم وجودها سيان، ولكنها لم تفلح بملئ هذا الفراغ العاطفي داخلها، لم تسمح لأي كائن بالتسلل الى قلبها ولا تدري هل هي عقدة بعد تخلي سالم عنها وهي الشعور بعدم الثقة والأمان...؟؟ هل لانها لم تجد الانسان الذي يميل اليه قلبها...؟؟ هل انه نصيبها أن لا تتعلق بأحد وأن تظل ابواب قلبها مغلقة الى الأبد... شيء واحد تعلمه، وهو وجود مخدر بحياتها اسمه سلطان لا يدعها تأسف على كونها عانسا بينما العمر يجري...! وربما لولا انها تعرف بأن ما بينها وبين سلطان ما هو الا مجرد اوهام ما فكرت فيه...؟؟
هل كانت طبيعية لتفكر هكذا...؟؟ بمعنى ألم تكن واقعة تحت تأثير سحر معين...؟؟ ؟ ام ان سذاجة العواطف ليس لها دخل بالمقدرة العقلية والامكانات العلمية...؟؟ هل يمكن ان يندرج تفكيرها تحت اطار تفكير الانسان الطبيعي...؟؟ انها تعلم علم اليقين بأن لو احد اخبرها شيئا كهذا عن احد ما فلن تعرف كيف تصفه...؟؟ هل هو مريض نفسيا...؟؟ يائس من العلاقات الأنسانية...؟؟ يتصف بالغباء وفقر الالمام في التصرف والسلوك...؟؟
ولكنها تتكلم هنا عن نفسها ولا تدري للأسف لم تفكر بهذه الطريقة الساذجة الحالمة الفارغة من المضمون...؟؟ والأنكى ان احساسها الساذج به لم ينته مع الأحداث الأليمة الماضية والزمن الطويل بل انها ما زالت عالقة بها وتتمثلها وتعيشها ولا تدري كيف تتعلق بهذه الأفكار مع علمها بأنها اوهام...؟؟ ولم تدعها تسيطر على حياتها وتملأها...؟؟ انها تعلم بأن ذلك مضحك وخطأ وغير صحيح وغير منطقي ولكنها مستعدة للتفكير فيه مجددا والوقوع في فخ تهاويمه الصغيرة مرة اخرى واخرى واخرى..
لماذا هو..؟؟ ؟ لو جردته من سلطته و وظيفته الهامة، ماذا تعرف عنه..؟؟ هل تعرف شيئا عن شخصيته...؟؟ معتقداته...؟؟ سلوكياته...؟؟ شيئا مفيدا عن حياته..؟؟ انها اسيرة معلومات استشفتها عنه لا تدري هل هي حقيقية وصادقة ام فقط من انطباعاتها وصدى لكلام واراء الآخرين..؟؟ انها تراهن على احاسيسها الداخلية عنه... لقد كونتها على مر السنوات منذ ان وعت على شخصيته وتوجهاته وآرائه التي استخلصتها من احاديث وتعليقات من حولها..
انها تعجب من نفسها...على الرغم من انه صفعها مرة بمرارة انتقامه واهانها معنويا بمؤازرة المخربين وتأييد الفاسدين، وأذاها نفسيا بسماحه لمسلسل التدمير والبغض بالبدأ والأستمرار، وحطمها مهنيا عندما خنق تفاعلها وعطل نشاطها الا انها لا تشعر البتة بأنه عدو لها او انه سبب لها التعاسة والألم.. هل يغفر الانسان ببساطة لمن يحب وهل هذا هو التفسير المعقول لهذا التخاذل الذي يضعفها امامه..؟؟
أم انها حيلة عقلية تستند عليها لتربط نفسها بالحياة، الموضوع لا علاقة له بالحب أو العواطف انه فقط مجرد تعود على نمط من التفكير، وأيضا اشباع حاجة نفسية ليكون الشخص محبوبا وقادرا على الحب ولو في خياله، في تلك المنطقة الداخلية الآمنة داخل نفسه التي يجاهد ليحولها الى واحة خلابة يرتاح فيها مع تصوراته الذاتية، ولا بد ان فارس احلامها يحتوي على هذه الصفات التي وجدتها بالوزير وما دام هذا الفارس غير متوافر ولن يكون بفعل الاحباطات والمرارة الداخلية المتكاثفة داخلها فلقد توجت هذا الشخص المجهول السيطرة على احلامها.
وان يكون جديرا بذلك أولا يكون فان مسألة اطاحته من موقعه تتطلب تتويجاً بديلا له ولا تملك القدرة على المغامرة ولا تشعر بوجود البديل وقد باتت لا تثق بصنف الرجال وتلمح الغدر بأخلاقهم ولا تشعر بالأمان لهم.. اصبح المهم لديها أن تشعر بالغنى الداخلي والسلام النفسي، ولأنها انسانة تتنفس المحبة وتشعر بها من حولها وتريد أن يزهر قلبها دوما ويتشبع بالشفافية والألق والجمال الذين لا يمكن ان يشعر بهما قلب لا يحب ولا يحس لذلك فانها سمحت لهذه المشاعر الخيالية باحتلالها والتنفس من خلالها..

الثاني والأربعون
خالد يعود

من الصعب ان يتواصل الانسان اكثر مع حياته اذا خبا الأمل وتلاشت جذوته..
تغير شكل وضحة، ذبلت ورقت روحها حتى تلاشت في الصمت والسكون، ورغم ايمانها العميق فان شلال الحزن الجارف طوى حيويتها معه فانكسر وجدانها وبقيت الدموع الحبيسة تضغط على صدرها وتضيق بالها..
هل كانت عصبية فحسب أم كانت متوترة متوجسة خائفة من شيء غامض يهددها بقدومه.. كلما اسرعت الخطى الى المستشفى كان وجيب قلبها يسبقها، يا ترى ماذا سيكون حال خالد..؟؟ هل ستكون تباشير خير واستجابة مفرحة...؟؟ أم انتكاسة خطيرة واخباراً سيئة..؟؟
يا لقلبها وهي ترى الأسلاك الموصلة اليه لتمده بأسباب الحياة، وجسده الحبيب ملقى على سرير مهمل وأناس يروحون ويجيئون ويحركونه اليمين واليسار، لا يرقون لقلبها الحاني وهو يكاد يقفز من مكانه مع كل غرزة حقنة ومع ادخال كل خرطوم وسلك، كانت تردد في دعاء عجيب
يا ليتني افديك بعمري، يا ليت ربي يستبدلني بك يا خالد
يا رب اجعله يحيا ولو كان الثمن عمري
كان دعاؤها غريبا
وكانت سارة تنهرها بألم وانقباض عن هذا الدعاء، وتدعوها الى استغفار ربها وطلب الشفاء لابنها بدون مقايضات، انه قادر كريم...!!
عندما يطول الشقاء ويمتد الليل بحيث تصبح الشمس امنية بعيدة المنال، عندما يرهق القلب من العناء وتخور القوى من الصمود والانتظار، عندما يثقل الحزن كاهل الانسان ويظلل ايامه ولياليه، ويربض على صدره كالجاثوم المستبد.. عندما تتساوى الأشياء وتختلط الأفراح بجحافل النكبات والأحزان، وتتلوث المسرات بفجائع المحن والمخاوف، حينها يصبح الانقباض والألم سيدة الوجود..
هكذا كانت ايام وضحة الأخيرة، قد استسلمت للأرواح الآتية من بعيد تولول في الظلام، وتندب شيئا غامضا كان يروعها حدوثه، وكانت لا تنام..
اصبح الأرق ملازما لها، وتنافر اعصابها يوترها، وتوقع احداثا مرعبة قادمة يجعلها على شفير الجنون.. اصبحت كثيرة السهو والنسيان والغياب في عوالم غامضة تناديها للبعيد.. تنكفىء على قراءة القرآن، وتنزوي للدعاء في غرفتها بالظلام لا تشعر بالوحدة ولا الوحشة لانها تسافر في عوالم اخرى تغيب فيها ولا تشعر بضجة أبنائها وحياتهم الصاخبة التي تريد استرجاعها من الأصوات الغامضة التي تسكنها وتأخذها عنهم في عوالمها الغريبة..
كلما رأت صور خالد في الطفولة وسن المدرسة ودخول المراهقة كانت تبكي بكاء لا يتوقف، وتؤنب نفسها وقد ادمنت تعذيب الذات، انه هروب من الألم الى الألم.. في وحدتها المطبقة بظلام الظنون والتفكير، انفصلت عن الحياة الاجتماعية للآخرين..
كانت مصلوبة بين السماء والأرض، لم تكن من أهل السماء ولكنها قطعا ليست من سكان الأرض.. انها روح هائمة تهمي كالمطر على سرير ابنها تسقيه من لوعتها وتطعمه من بؤسها وتحنو عليه من أساها..
تهمس بين الفينة والأخرى افديك بعمري... أفديك بعمري، وترتل القرآن وهي تمسد رأسه، وتفرك يديه، وتبتهل الى الله ، وتبلل وجهه بدموعها قبل أن تقبله مودعة اياه الى الغد..
وفي غيابها المعنوي تعلقت ابنتاها بخالتهما وأخذتا يمضيان وقتهما في بيت عبدالرحمن بصحبة بناته اللاتي يقاربهن في العمر.. ووجد محمد في ابن خاله ملجأ له من عصبية والده وسكون والدته واهمالها الواضح لهم وهو يقارن بين تعلقها بخالد، وهو مسجى غائبا عن الوعي في المستشفى وحرصها لزيارته صباحا ومساء وبين حزنها وسهومها الدائم بحيث لا تستسيغ قصة تحكى لها ولا تصبر على تكملة حكاياتهم مع رفاقهم ونوادرهم..
وحده فقط نواف الذي انعكس عليه حزن والدته المتراكم المدفون بالأعماق، كان يلتصق بها وهي تصلي أوتقرأ القرآن، فقط ليشعر بالأمان معها، وقد اخافه عويل الأحزان الذي يحس به ببراءة طفولته ينهمر بين حنايا صوتها وانكسار روحها..
في لجة مخاوفها وهمودها وانكسارها جاءها هاتف من المستشفى اوقع قلبها:
كانت ركبتاها تصطكان وقد شعرت بأن اللحظة التي تخشاها قد اتت..
هل ينازع بألم...؟ هل يتوجع...؟؟ هل وهل... وقبل ان يغمى عليها سمعت شيئا كأنه الحلم..!
اعجوبة قد حدثت، خالد اسيقظ من غيبوبته وهو في وعيه التام... تعالوا بسرعة الى المستشفى..!
تسمرت في مكانها، احتاجت لبعض الوقت لتستوعب بعقلها ما قيل وتصدقه وتتفاعل معه.
لم يبق للأفراح مكان في روحها المتصدعة، ولم تفلح الشحنات المضيئة لهذه المعجزة المباركة في صدم جسدها الواهن وتحريكه كأنها استنفذت كل قواها... سواء للحزن او للفرح او للتعبير، فقط كانت دموعها تهطل وتهطل..
حتى من يراها لا يعتقد بأنها تبكي فرحا وحمدا لله لأعجوبة لم تكن بالبال، وحالا تم اليأس منه منذ زمن بعيد..
بهدوء عجيب سارت الى غرفة زوجها احمد لتزف اليه النبأ حيث كان كعادته مسترخيا على كرسيه يدخن ويسمع الراديو ويقرأ الجريدة في آن واحد..
وقفت امامه وتمتمت كأنها تخاف أن يغدر بها الزمن ويغير رأيه:
احمد... اتصلوا من المستشفى، خالد استيقظ من الغيبوبة وهو في وعيه...
ولم تكمل كانت دموعها تنهمر في صمت..

وللأحداث بقية



الأعلى رد مع اقتباس
إضافة رد
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشتاء ملح الفصول حجازية الهوى مرافئ البوح 10 07 Apr 2010 10:40 AM
أرتقي بطموحك حتى تكون مثل شجرة الفصول الأربعة البسمة الخجولة القسم العام 6 26 Mar 2010 08:57 PM
"الآخرون" للكاتبة السعودية الشابة "صبا الحرز"،رواية فضائحية جديدة . كديميس كتّاب المنتدى في القصص والرواية الأدبية 5 16 Mar 2007 08:16 PM
~:: حلو الكلام ::~*~* للكاتبة مشاعل العيسى رغداء القسم العام 16 04 Oct 2006 10:05 PM
من أي الفصول أنت؟ بحر مرافئ البوح 7 02 Feb 2006 09:41 PM
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

01:16 PM
Powered by vBulletin® developed by Tar3q.com