عرض مشاركة واحدة
قديم 31 Jul 2010, 01:25 PM [ 2 ]

تاريخ التسجيل : Nov 2009
رقم العضوية : 22459
الإقامة : saudi arabia
الهواية : بعثرت الاوراق ونثر الحروف
مواضيع : 202
الردود : 2131
مجموع المشاركات : 2,333
معدل التقييم : 25خشوف الشدادي is on a distinguished road

خشوف الشدادي غير متصل


رد: حملة حفظ سورة البقرة ..(4)



تفسير الايات

..................................





" قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين "

أي: " قُلْ " لهم على وجه تصحيح دعواهم " إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ " يعني الجنة " خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ " كما زعمتم, أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى, وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة.
فإن كنتم صادقين في هذه الدعوى " فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ " وهذا نوع مباهلة بينهم, وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم, إلا أحد أمرين: إما أن يؤمنوا بالله ورسوله.
وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم, وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم, فامتنعوا من ذلك.

" ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين "

فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله, مع علمهم بذلك.
ولهذا قال تعالى " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ " من الكفر والمعاصي, لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة.

" ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون "

فالموت أكره شيء إليهم, وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس, حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب.
ثم ذكر شدة محبتهم الدنيا فقال: " يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ " .
وهذا أبلغ ما يكون من الحرص, تمنوا حالة هي من المحالات.
والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور, لم يغن عنهم شيئا ولا دفع عنهم من العذاب شيئا.
" وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.

" قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين "

أي: قل لهؤلاء اليهود, الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك, أن وليك جبريل عليه السلام, ولو كان غيره من ملائكة الله, لآمنوا بك وصدقوا: إن هذا الزعم منكم, تناقض وتهافت, وتكبر على الله.
فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل القرآن من عند الله على قلبك, وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك, والله هو الذي أمره, وأرسله بذلك, فهو رسول محض.
مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل - مصدقا لما تقدمه من الكتب - غير مخالف لها ولا مناقض, وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات, والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي, لمن آمن به.
فالعداوة لجبريل, الموصوف بذلك, كفر بالله وآياته, وعداوة لله ولرسله وملائكته.
فإن عداوتهم لجبريل, لا لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق, على رسل الله.
فيتضمن الكفر والعداوة, للذي أنزله وأرسله, والذي أرسل به, والذي أرسل إليه, فهذا وجه ذلك.

" ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون "

يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم " وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ " تحصل بها الهداية لمن استهدى, وإقامة الحجة على من عاند, وهي في الوضوح والدلالة على الحق, قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة لا يمتنع من قبولها إلا من فسق عن أمر الله, وخرج عن طاعة الله, واستكبر غاية التكبر.
وهذا فيه التعجب من كثرة معاهداتهم, وعدم صبرهم على الولاء بها.

" أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون "

فـ " كُلَّمَا " تفيد التكرار, فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض.
ما السبب في ذلك؟.
السبب أن أكثرهم لا يؤمنون.
فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود.
ولو صدق إيمانهم, لكانوا مثل من قال الله فيهم.
" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " .

" ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون "

أي: ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم, فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به.
" نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ " الذي أنزل إليهم أي طرحوه رغبة عنه " وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ " وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه وحقيقة ما جاء به, تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول, فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون.
ولما كان من العوائد القدسية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به ولم ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد.
ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.

" واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "

كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم.
وهم كذبة في ذلك فلم يستعمله سليمان بل نزهه الصادق في قيله: " وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ " أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه.
" وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا " في ذلك.
" يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ " من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر.
" وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى " ينصحاه, و " يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ " أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر فينهيانه عن السحر ويخبرانه عن مرتبته, فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام.
وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين, والسحر الذي يعلمه الملكان, فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين, وكل يصبو إلى ما يناسبه.
ثم ذكر مفاسد السحر فقال: " فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ " مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما " وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً " وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة وأنه يضر بإذن الله أي بإرادة الله, والإذن نوعان: إذن قدري وهو المتعلق بمشيئة الله, كما في هذه الآية.
وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة.
" فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ " وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير, ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة الله.
فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين.
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة, ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي.
كما قال تعالى في الخمر والميسر " قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا " .
فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا, فالمنهيات كلها إما مضرة محضة, أو شرها أكبر من خيرها.
كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها.
" وَلَقَدْ عَلِمُوا " أي اليهود " لَمَنِ اشْتَرَاهُ " أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة.
" مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ " أي: نصيب, بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا, ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
" وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " علما يثمر العمل ما فعلوه.

" يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم "

كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين " رَاعِنَا " أي: راع أحوالنا, فيقصدون بها معنى صحيحا.
وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا, فانتهزوا الفرصة, فصاروا يخاطبون الرسول بذلك, ويقصدون المعنى الفاسد.
فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدا لهذا الباب.
ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم.
وفيه الأدب, واستعمال الألفاظ, التي لا تحتمل إلا الحسن, وعدم الفحش, وترك الألفاظ القبيحة, أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق.
فأمرهم بلفظة, لا تحتمل إلا الحسن فقال " وَقُولُوا انْظُرْنَا " .
فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور.
" وَاسْمَعُوا " لم يذكر المسموع, ليعم ما أمر باستماعه.
فيدخل فيه سماع القرآن, وسماع السنة التي هي الحكمة, لفظا ومعنى, واستجابة.
ففيه الأدب والطاعة.

" ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم "

ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع, وأخبر عن عداوة اليهود المشركين للمؤمنين, أنهم ما يودون " أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ " .
أي: لا قليلا, ولا كثيرا " مِنْ رَبِّكُمْ " حسدا منهم, وبغضا لكم أن يختصكم بفضله فإنه " ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " .
ومن فضله عليكم, أنزل الكتاب على رسولكم, ليزكيكم, ويعلمكم الكتاب والحكمة, ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون, فله الحمد والمنة.

" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير "

النسخ, هو النقل, فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع, إلى حكم آخر, أو إلى إسقاطه.
وكان اليهود ينكرون النسخ, ويزعمون أنه لا يجوز, وهو مذكور عندهم في التوراة, فإنكارهم له, كفر وهوى محض.
فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال: " مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا " أي: ننسها العباد, فنزيلها من قلوبهم.
" نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا " وأنفع لكم " أَوْ مِثْلِهَا " .
فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول, لأن فضله تعالى يزداد, خصوصا على هذه الأمة, التي سهل عليها دينها, غايه التسهيل.
وأخبر أن من قدح في النسخ, قدح في ملكه وقدرته فقال: " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

" ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير "

" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " .
فإذا كان مالكا لكم, متصرفا فيكم, تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه, فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير, كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام.
فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية, فما له والاعتراض؟ وهو أيضا, ولي عباده, ونصيرهم.
فيتولاهم في تحصيل منافعهم, وينصرهم في دفع مضارهم.
فمن ولايته لهم, أن يشرع لهم من الأحكام, ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم.
ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ, عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده, وإيصالهم إلى مصالحهم, من حيث لا يشعرون بلطفه.

" أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل "

ينهى الله المؤمنين, أو اليهود, بأن يسألوا رسولهم " كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ " .
والمراد بذلك, أسئلة التعنت والاعتراض, كما قال تعالى: " يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً " .
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " .
فهذه ونحوها, هي المنهي عنها.
وأما سؤال الاسترشاد والتعليم, فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " .
ويقرهم عليه, كما في قوله " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ " " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى " ونحو ذلك.
ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة, قد تصل بصاحبها إلى الكفر قال: " وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " .

" ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير "

ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب, وأنهم بلغت بهم الحال, أنهم ودوا " لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا " وسعوا في ذلك, وعملوا المكايد, وكيدهم راجع عليهم كما قال تعالى: " وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم.
فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم بالعفو عنهم, والصفح, حتى يأتي الله بأمره.
ثم بعد ذلك, أتى الله بأمره إياهم بالجهاد, فشفى الله أنفس المؤمنين منهم, فقتلوا من قتلوا, واسترقوا من استرقوا, وأجلوا من أجلوا " إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "

" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير "

ثم أمرهم الله بالاشتغال بالوقت الحاضر, بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة وفعل كل القربات.
ووعدهم أنهم, مهما فعلوا من خير, فإنه لا يضيع عند الله, بل يجدونه عنده وافرا موفرا قد حفظه " إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " .

" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين "

أي: قال اليهود, لن يدخل الجنة إلا من كان هودا.
وقالت النصارى, لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى.
فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم, وهذا مجرد أماني غير مقبولة, إلا بحجة وبرهان, فأتوا بها إن كنتم صادقين.
وهكذا كل من ادعى دعوى, لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه.
وإلا, فلو قلبت عليه دعواه, وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما.
فالبرهان, هو الذي يصدق الدعوى أو يكذبها.
ولما لم يكن بأيديهم برهان, علم كذبهم بتلك الدعوى.

" بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "

ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد, فقال: " بَلَى " أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم, ولكن " مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ " أي: أخلص لله أعماله, متوجها إليه بقلبه.
" وَهُوَ " مع إخلاصه " مُحْسِنٌ " في عبادة ربه, بأن عبده بشرعه, فأولئك هم أهل الجنة وحدهم.
" فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ " وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم " وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " فحصل لهم المرغوب, ونجوا من المرهوب.

" وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون "

ويفهم منها, أن من ليس كذلك, فهو من أهل النار الهالكين.
فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود, والمتابعة للرسول.
وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد, إلى أن بعضهم ضلل بعضا, وكفر بعضهم بعضا, كما فعل الأميون من مشركي العرب وغيرهم.
فكل فرقة تضلل الأخرى, ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل, الذي أخبر به عباده, فإنه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع الأنبياء والمرسلين, وامتثل أوامر ربه, واجتنب نواهيه, ومن عداهم, فهو هالك.

" ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم "

أي: لا أحد أظلم, وأشد جرما, ممن منع مساجد الله, عن ذكر الله فيها, وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات.
" وَسَعَى " أي: اجتهد وبذل وسعه " فِي خَرَابِهَا " الحسي والمعنوي.
فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها, وتقديرها.
والخراب المعنوي, منع الذاكرين لاسم الله فيها.
وهذا عام, لكل من اتصف بهذه الصفة, فيدخل في ذلك أصحاب الفيل, وقريش, حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية, والنصارى حين أخربوا بيت المقدس, وغيرهم من أنواع الظلمة, الساعين في خرابها, محادة لله, ومشاقة.
فجازاهم الله, بأن منعهم دخولها شرعا وقدرا, إلا خائفين ذليلين, فلما أخافوا عباد الله, أخافهم الله.
فالمشركون الذين صدوا رسوله, لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا, حتى أذن الله له في فتح مكة.
ومنع المشركين من قربان بيته, فقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا " .
وأصحاب الفيل, قد ذكر الله ما جرى عليهم.
والنصارى, سلط الله عليهم المؤمنين, فأجلوهم.
وهكذا كل من اتصف بوصفهم, فلا بد أن يناله قسطه, وهذا من الآيات العظيمة, أخبر بها الباري قبل وقوعها, فوقعت كما أخبر.
واستدل العلماء بالآية الكريمة, على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد.
" لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ " فضيحة كما تقدم " وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " .
وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه, فلا أعظم إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية, كما قال تعالى: " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " .
بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها, فقال تعالى: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " .
وللمساجد أحكام كثيرة, يرجع حاصلها إلى مضون هذه الآيات الكريمة.

" ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم "

أي: " وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ " .
خصهما بالذكر, لأنهما محل الآيات العظيمة, في مطالع الأنوار ومغاربها.
فإذا كان مالكا لها, كان مالكا لكل الجهات.
" فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا " وجوهكم من الجهات, إذا كان توليكم إياها بأمره, إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس, أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها, فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة, فيتحرى الصلاة إليها, ثم يتبين له الخطأ, أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك.
فهذه الأمور, إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا.
وبكل حال, فما استقبل جهة من الجهات, خارجة عن ملك ربه.
" فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " في إثبات الوجه لله تعالى, على الوجه اللائق به تعالى, وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه, وهو - تعالى - واسع الفضل والصفات عظيمها, عليم بسرائركم ونياتكم.
فمن سعته وعلمه, وسع لكم الأمر, وقبل منكم المأمور, فله الحمد والشكر.

" وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون "

" وَقَالُوا " أي: اليهود والنصارى والمشركون, وكل من قال ذلك.
" اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله, وأساءوا كل الإساءة, وظلموا أنفسهم.
وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم, قد حلم عليهم, وعافاهم, ورزقهم مع تنقصهم إياه.
" سُبْحَانَهُ " أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله.
فسبحان من له الكمال المطلق, من جميع الوجوه, الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
ومع رده لقولهم, أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال: " بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أي: جميعهم ملكه وعبيده, يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك, وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره.
فإذا كانوا كلهم عبيده, مفتقرين إليه, وهو غني عنهم, فكيف يكون منهم أحد, يكون له ولدا, والولد لا بد أن يكون من جنس والده, لأنه جزء منه.
والله تعالى المالك القاهر, وأنتم المملوكون المقهورون, وهو الغني وأنتم الفقراء.
فكيف مع هذا, يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه.
والقنوت نوعان: قنوت عام وهو قنوت الخلق كلهم, تحت تدبير الخالق.
وخاص, وهو قنوت العبادة.
فالنوع الأول كما في هذه الآية.
والنوع الثاني كما في قوله تعالى " وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " .

" بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون "

ثم قال " بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أي: خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق.
" وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " فلا يستعصى عليه, ولا يمتنع منه.

" وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون "

أي: قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم: هل يكلمنا الله, كما كلم الرسل.
" أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ " , يعنون آيات الاقتراح, التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة, وآرائهم الكاسدة, التي تجرأوا بها على الخالق, واستكبروا على رسله كقولهم.
" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً " , " يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ " الآية.
" لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا " الآيات.
وقوله " وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا " الآيات.
فهذا دأبهم مع رسلهم, يطلبون آيات التعنت, لا آيات الاسترشاد, ولم يكن قصدهم تبين الحق.
فإن الرسل, قد جاءوا من الآيات, بما يؤمن كل مثله البشر, ولهذا قال تعالى " قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " .
فكل موقن, فقد عرف من آيات الله الباهرة, وبراهينه الظاهرة, ما حصل له به اليقين, واندفع عنه كل شك وريب.

" إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم "

ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال: " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا " فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها, وهي ترجع إلى ثلاثة أمور: الأول, في نفس إرساله, والثاني, في سيرته وهديه ودله.
والثالث, في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة.
فالأول والثاني, قد دخلا في قوله: " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ " .
والثالث في قوله " بِالْحَقِّ " .
وبيان الأمر الأول وهو - نفس إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران, والصلبان, وتبديلهم للأديان, حتى كانوا في ظلمة من الكفر, قد عمتهم وشملتهم, إلا بقايا من أهل الكتاب, قد انقرضوا قبيل البعثة.
وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى, ولم يتركهم هملا, لأنه حكيم عليم, قدير رحيم.
فمن حكمته ورحمته بعباده, أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم, يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له, فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه, وهو آية كبيرة على أنه رسول الله.
وأما الثاني, فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة, وعرف سيرته وهديه قبل البعثة, ونشوءه على أكمل الخصال, ثم من بعد ذلك, قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين, فمن عرفها,, وسبر أحواله, عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين, لأنه تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم.
وأما الثالث, فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع العظيم, والقرآن الكريم, المشتمل على الإخبارات الصادقة, والأوامر الحسنة, والنهي عن كل قبيح, والمعجزات الباهرة, فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة.
قوله " بَشِيرًا " أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية.
" وَنَذِيرًا " لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي.
" وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " أي: لست مسئولا عنهم, إنما عليك البلاغ, وعلينا الحساب.

" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير "

يخبر تعالى رسوله, أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى, إلا باتباعه دينهم, لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه, ويزعمون أنه الهدى.
فقل لهم " إِنَّ هُدَى اللَّهِ " الذي أرسلت به " هُوَ الْهُدَى " .
وأما ما أنتم عليه, فهو الهوى بدليل قوله " وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ " .
فهذا فيه النهي العظيم, عن اتباع أهواء اليهود والنصارى, والتشبه بهم فيما يختص به دينهم.
والخطاب - وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فإن أمته داخلة في ذلك.
لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب.
كما أن العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب.

" الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون "

ثم قال: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " .
يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب, ومن عليهم به منة مطلقة, أنهم " يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ " أي: يتبعونه حق اتباعه, والتلاوة: الاتباع.
فيحلون حلاله, ويحرمون حرامه, ويعملون بمحكمه, ويؤمنون بمتشابهه.
وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب, الذين عرفوا نعمة الله وشكروها, وآمنوا بكل الرسل, ولم يفرقوا بين أحد منهم.
فهؤلاء, هم المؤمنون حقا, لا من قال منهم " نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه " .
ولهذا توعدهم بقوله " وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " وقد تقدم تفسير الآية التي بعدها.

" وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين "

يخبر تعالى, عن عبده وخليله, إبراهيم عليه السلام, المتفق على إمامته وجلالته, الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه, بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات, أي: بأوامر ونواهي, كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده, ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء, والامتحان من الصادق, الذي ترتفع درجته, ويزيد قدره, ويزكو عمله, ويخلص ذهبه.
وكان من أجلهم في هذا المقام, الخليل عليه السلام.
فأتم ما ابتلاه الله به, وأكمله ووفاه, فشكر الله له ذلك, ولم يزل الله شكورا فقال: " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا " أي: يقتدون بك في الهدى, ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية, ويحصل لك الثناء الدائم, والأجر الجزيل, والتعظيم من كل أحد.
وهذه - لعمر الله - أفضل درجة, تنافس فيها المتنافسون, وأعلى مقام, شمر إليه العاملون, وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم, من كل صديق متبع لهم, داع إلى الله وإلى سبيله.
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام, وأدرك هذا, طلب ذلك لذريته, لتعلو درجته ودرجة ذريته.
وهذا أيضا من إمامته, ونصحه لعباد الله, ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون.
فلله عظمة هذه الهمم العالية, والمقامات السامية.
فأجابه الرحيم اللطيف, وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: " لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " أي: لا ينال الإمامة في الدين, من ظلم نفسه وضرها, وحط قدرها, لمنافاة الظلم لهذا المقام, فإنه مقام, آلته الصبر واليقين.
ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة, والأخلأق الجميلة, والشمائل السديدة, والمحبة التامة, والخشية والإنابة.
فأين الظلم وهذا المقام؟ ودل مفهوم الآية, أن غير الظالم, سينال الإمامة, ولكن مع إتيانه بأسبابها.

" وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود "

ثم ذكر تعالى, أنموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم, وهو: هذا البيت الحرام الذي جعل قصده, ركنا من أركان الإسلام, حاطا للذنوب والآثام.
وفيه من آثار الخليل وذريته, ما عرف به إمامته, وتذكرت به حالته فقال: " وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ " أي: مرجعا يثوبون إليه, لحصول منافعهم الدينية والدنيوية, يترددون إليه, ولا يقضون منه وطرا.
وجعله " أَمْنًا " يأمن به كل أحد, حتى الوحش, وحتى الجمادات كالأشجار.
ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام, ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم, فلا يهيجه.
فلما جاء الإسلام, زاده حرمة وتعظيما, وتشريفا وتكريما.
" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى " يحتمل أن يكون المراد بذلك, المقام المعروف الذي قد جعل الآن, مقابل باب الكعبة.
وأن المراد بهذا, ركعتا الطواف, يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم, وعليه جمهور المفسرين.
ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا, فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج.
وهي المشاعر كلها, من الطواف, والسعي, والوقوف بعرفة, ومزدلفة ورمي الجمار والنحر, وغير ذلك من أفعال الحج.
فيكون معنى قوله: " مُصَلًّى " أي: معبدا, أي: اقتدوا به في شعائر الحج.
ولعل هذا المعنى أولى, لدخول المعنى الأول فيه, واحتمال اللفظ له.
" وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ " أي: أوحينا إليهما, وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك, والكفر والمعاصي, ومن الرجس والنحاسات, والأقذار, ليكون " لِلطَّائِفِينَ " فيه " وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ " أي: المصلين.
قدم الطواف, لاختصاصه بالمسجد الحرام.
ثم الاعتكاف, لأن من شرطه, المسجد مطلقا.
ثم الصلاة, مع أنها أفضل, لهذا المعنى.
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد.
منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره, لكونه بيت الله.
فيبذلان جهدهما, ويستغرقان وسعهما في ذلك.
ومنها: أن الإضافة, تقتضي التشريف والإكرام.
ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.
ومنها: أن هذه الإضافة, هي السبب الجالب للقلوب إليه.
أي: وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت, أن يجعله الله بلدا آمنا, ويرزق أهله من أنواع الثمرات.

" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير "

ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين, تأدبا مع الله, إذ كان دعاؤه الأول, فيه الإطلاق, فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم.
فلما دعا لهم بالرزق, وقيده بالمؤمن, وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر, والعاصي والطائع, قال تعالى: " وَمَنْ كَفَرَ " أي: أرزقهم كلهم, مسلمهم وكافرهم.
أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله, ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة.
وأما الكافر, فيتمتع فيها قليلا " ثُمَّ أَضْطَرُّهُ " أي: ألجئه وأخرجه مكرها " إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " .


الأعلى رد مع اقتباس