قال الله تبارك وتعالى : ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) الآية من سورة البقرة (197) .
فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) : هذا إخبار معناه : النهي عن الرفث وعن الفسوق وعن الجدال والمماراة وما شاكل ذلك .
فالرفث : الجماع ومقدماته .
فالجماع مُفسدٌ للحجِّ يُفسد الحج ويبطله .
والفسوق : المعاصي باللسان أو بالقلب أو بالجوارح .
ولا جدال في الحج ) : لا جدال في أمور الحج ؛لأنها قد تبيَّنت وضَّحها الله تبارك وتعالى لا في وقته ولا في مناسكه كل هذه لا ينبغي الجدال فيها ؛لأنَّ الله قد بيَّنها غاية البيان . هذا وجه من وجوه تفسير هذه الآية .
والوجه الآخر : المجادلة والمماراة التي تؤدي إلى الغضب والمشاحنة وما شاكل ذلك. والظاهر : أنَّ الآية تتناول هذا وهذا .
فلا رفث : يحرم الجماع ومقدماته .وخِطبةُ الحاج مُحرَّمة ،وكذا عقد النكاح لا يجوز . فالجماع وما يتصل به كل هذا مُحرَّم ،والجماع يفسد الحج تماماً ويأثم صاحبه وعليه الفدية .
كل هذه الأشياء محظورة في الحج لأنَّها تُسخط الله تبارك وتعالى ؛فالمؤمن يجب أن يلتزم ويحرص أن يُؤدِّي المناسك كما أدَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها الناس خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد عامي هذا ) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وهو صحيح (.
فيذكر جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مكث في المدينة تسع سنين وفي العاشرة حجَّ عليه الصلاة والسلام .
وفي حديث ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب بالناس في المدينة وعلَّمهم مناسكهم ؛خطب الناس يوم الجمعة وعلَّمهم مناسكهم عليه الصلاة والسلام ثمَّ توجَّه إلى مكة قاصداً أداء النّسك ونزل بذي الحليفة عليه الصلاة والسلام .
وفي حديث ابن عمر وابن عباس وجابر أنَّه صلّى الله عليه وسلَّم أهلَّ من المسجد. وبعضهم روى أنَّه أهلَّ حينما استوى على دابته عليه الصلاة والسلام ،وبعضهم روى أنَّه أهلَّ من البيداء .
وفسَّر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما بأنَّ أناساً سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم أهلَّ من المسجد بعد أن صلَّى ثمَّ لما ركب دابته فسمعه أُناس آخرون ،ثم لماَّ وصل البيداء أهلَّ عليه الصَّلاة والسلام وسمعه أناس آخرون ؛كل واحد روى عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسلام ما سمعه .
وصيغة هذه التَّلبية التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لبَّيك اللَّهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك ،إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك لا شريك لك "
هذه التلبية سمَّاها جابر رضي الله عنه : التوحيد فقال : " أهلَّ صلّى الله عليه وسلَّم بالتوحيد " .
وهي كما ترون توحيد : " لبَّيك اللَّهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك ،إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك لا شريك لك "
فمعنى " لبَّيك اللَّهم لبَّيك " : إقامة على طاعتك بعد إقامة ،واستجابة لدعوتك بعد استجابة .
معنى هذا : أنَّ المؤمن حين يُلبِّي ويُعلن هذا الشِّعار -شعار التوحيد- أنَّه ملتزم بطاعة الله مادام حياًّ لا يفارقها ولا يخالفها ؛كأنَّ المؤمن يقطع على نفسه عهداً أنَّه ثابتٌ مستقيمٌ على طاعة الله مستجيبٌ لتوجيهات الله تبارك وتعالى مُنفِّذٌ لأوامره ؛هذا أمرٌ عظيمٌ ينبغي ألاَّ يردده المسلم بغير علمٍ ؛بل يقصد ويعزم العزم الأكيد أنَّه مؤمنٌ ثابتٌ على دين الله الحقِّ ,وثابتٌ على طاعته ما دام حياًّ .
هذا العزم الأكيد أمرٌ مهمٌ جداًّ ولعلَّ الله يصرف به عن المؤمن المُخلِص مكائد الشيطان وبواعثه ويعينه على الإستقامة ما دام صادقاً مُخلصاً عازماً على التزام طاعة الله .
ويُؤكِّد " لبَّيك اللَّهم لبَّيك ،لبَّيك لا شريك لك لبَّيك " : لا شريك لك في العبادة ,لا شريك لك في الخلق والإيجاد ,لا شريك لك في أسمائك الحسنى وصفاتك العليا .
فيتحرَّى المسلم أن يفهم ويعلم كيف أدَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المناسك في إحرامه وتلبيته وفي طوافه وأذكاره في هذا الطواف وماذا فعل فيه ،وإن كان أوَّل طوافٍ اضطبع فيه عليه الصلاة والسلام ورمل في الأشواط الثلاثة الأُوَل ,واستلم الحجر في بداية طوافه .
وبعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من الطواف ذهب إلى مقام إبراهيم وتلى قول الله تبارك وتعالى : ( واتَّخِذوا من مقام إبراهيم مصلَّى )
توحيد العبادة الذي تضمَّنـته سورة ( قل يا أيُّها الكافرون ) فيها إعلان التوحيد لله والعبادة الخالصة له ,والبراءة من الشرك والمشركين .
وتوحيد الأسماء والصفات : في سورة ( قل هو الله أحد ) هذه السورة -على وجازتها- عظيمة جداً ،وأنَّها تضمنت توحيد أسماء الله وصفاته عزَّ وجلَّ ؛وهي تعدل ثلث القرآن بفضلها وعظمتها عند الله تبارك وتعالى .
ثمَّ يتذكَّر ماذا صنع في سعيه صلَّى الله عليه وسلم بين الصَّفا والمروة فيكبر الله ويسبحه ويحمده على الصَّفا ويقرأ : ( إنَّ الصَّفا والمروة من شعائر الله ) .
قال صلَّى الله عليه وسلم : ( نبدأ بما بدأ الله به ) ثم تَلَى قوله تعالى : ( إنَّ الصَّفا والمروة من شعائر الله )
واستقبل البيت وحمد الله وسبَّحه وكبَّره وقال : ( لا إله إلاَّ الله وحده نصر عبده وأعزَّ جنده وهزم الأحزاب وحده ) .
ثم أعاد هذا الذكر وهذا التكبير أعاده ثلاثاً ،ودعاَ فيما بين هذه الثلاث . ثم اتَّجه إلى المروة ماشياً حتى هبط الوادي فسعى فلما انتصبت قدماه مشَى كعادته حتى وصل إلى المروة صعد عليها عليه الصلاة والسلام ،وفعل عليها من الذكر والتحميد والتهليل مثل ما فعل على الصفا عليه الصلاة والسلام .
والشاهد من هذا أنَّ المؤمن يتصوَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم بهذه الأعمال كأنَّه يشاهده ,ويفعل مثل فعله صلى الله عليه وسلم .
كذلك يتذكر ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منى ؛حيث صلَّى فيها خمس صلوات : الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ،ويتذكر ما صنع صلَّى الله عليه وسلَّم في عرفات حيث خطب في الناس وجمع بين الظهر والعصر عليه الصلاة والسلام ,ثم اتَّجه إلى مكانه المعروف عليه الصلاة والسلام من رواء الجبل الذي يسمى جبل عرفات في منتصف ساحة عرفات فاستقبل القبلة عليه الصلاة والسلام يذكر الله ويدعو إلى أن غربت الشمس .
ويتذكر أيضاً رجوعه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى مزدلفة بعد أن غابت الشمس راكباً ناقته يشنقها بزمامها حتى لا تؤذي الناس لتمشي بطمأنينة ويقول : ( أيُّها الناس السكينة السكينة ) هي الطمأنينة والهدوء ،و السكينة والهدوء أمر مطلوب في كل العبادات التي نؤدِّيها .
فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ) متفق عليه .
وفي رواية لمسلم : ( فإنَّ أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة ) .
كذلك إذا كان في الحج فحركاته عبادة فليكن مُطمئناً سواء كان في سيره راكباً دابته سيارته فلا يُؤذي بها الناس ولا يزاحم بها .
أو كان ماشياً لا يؤذي الناس ولا يزعجهم ،بل يمشي بالسكينة والوقار .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّ راكباً ناقته وخلفه على الناقة أسامة بن زيد رضي الله عنه . وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم .
ولما وصل صلى الله عليه وسلم مزدلفة أذَّن المؤذن ثم أقام لصلاة المغرب فصلاَّها ثم أقام لصلاة العشاء فصلاها ركعتين لأنَّ من السنَّة أيضاً القصر والجمع في عرفات والجمع والقصر أيضاً في مزدلفة هذا من سنَّته صلى الله عليه وسلم .
ولماَّ أصبح عليه الصلاة والسلام صلَّى بالناس الفجر بغلس مُبكِّراً جداًّ بعد طلوع الفجر ثم مضى بعد صلاته إلى المشعر الحرام ليذكر الله عليه كما قال الله تبارك وتعالى : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) .
والمشعر الحرام يُسمى جبل قزح : جبيل صغير وقف عنده صلى الله عليه وسلم كما أمر الله تعالى بذلك ،ومزدلفة كلُّها مشعر حرام لكن هذا أهمها ؛فمن تيسَّر له أن يقف في هذا المكان فالحمد لله وإلاَّ فإنَّ مزدلفة كلُّها موقف .
فذكر الله جل وعلا حتى أسفر جداً ثم مضى إلى أداء مناسك يوم العيد ؛من الرمي والنحر وطواف الإفاضة عليه الصلاة والسلام .
بدأ برمي جمرة العقبة الكبرى عليه الصلاة والسَّلام يُكبِّر الله مع كلِّ حصاة ،ثم ذهب إلى المنحر وهو قريب من منـزله فنحر عليه الصلاة والسلام مائة بدنة ,ساق عدداً كبيراً منها من المدينة وأكمل البقية علي رضي الله عنه جاء بها من اليمن ؛فنحر بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة ،ونحر علي رضي الله عنه بقيتها .
والسُنَّة إذا ذبح الإنسان هديه أن يأكل منه ,وقد فعل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام سنَّ ذلك لأمَّته امتثالاً لقوله تعالى : ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير )
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُؤخذ له من كل بدنة قطعة من اللَّحم فأكل منها هو و علي رضي الله عنه تنفيذاً لأمر الله تعالى ،فنستنُّ به عليه الصلاة والسلام .
ثم حلق رأسه عليه الصلاة والسلام ثم ذهب إلى مكة فطاف طواف الإفاضة عليه الصلاة والسلام كما أمر الله بذلك فقال سبحانه : ( وليطوَّفُوا بالبيت العتيق ) يعني هذا النص : في طواف الإفاضة .
فالحاج إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه أو رمى جمرة العقبة ونحر فقد حصل له التَّحلُل الأوَّل فيباح له كل محظورات الإحرام إلا الجماع . فإذا طاف طواف الإفاضة حلَّ له ما كان محظوراً عليه بما في ذلك الجماع . ثم عاد عليه الصلاة والسلام من مكة إلى منى فأقام بها ثلاثة أيَّام بلياليهنَّ عليه الصلاة والسلام يُصلِّي بالحجاج ويخطب فيهم ويُوجِّههم عليه الصلاة والسلام . ويصلي بهم الصلوات قصراً ؛كل صلاة في وقتها يصلي الظهر ركعتين والعصر كذلك والعشاء كذلك ركعتين .
فهذا من هديه صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
ويذهب كل يوم بعد الزوال يرمي الجمرات الثلاث يُكبِّر مع كل حصاة ؛يحذف بالحصاة ويقول : ( الله أكبر ) .
يحذف بها عليه الصلاة والسلام سبع حصيات في كل جمرة .كما وصف ابن عمر رضي الله عنه رميه عليه الصلاة والسلام للجمرة الأولى ثمَّ تقدَّم قليلاً واستقبل القبلة ودعا اللهَ كثيراً . وكان ابن عمر يفعل ذلك .
ثم رمى الجمرة الوسطى يرميها ويكبر مع كل حصاة يرميها عليه الصلاة والسلام . ثمَّ تقدَّم وتياسر قليلاً ودعا الله طويلاً ،ولماَّ فرغ من رميها ذهب يكبر ويدعو الله تبارك وتعالى مستقبل القبلة عليه الصلاة والسلام .
ثم رمى جمرة العقبة يفعل فيها كما فعل في الجمرتين الأوليين يُكبِّر ويرمي بالحصاة ؛يكبر عند كل حصاة . ثم يمضي ولا يدعو .
هذا مُوجزُ تأدية رسول الله صلى الله عليه وسلم للمناسك والتي قال في شأنها عليه الصلاة والسلام : : ( يا أيُّها الناس خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد عامي هذا ) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وهو صحيح .
وكان قد أنزل الله تعالى عليه سورة النصر : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيتَ النَّاس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبِّح بحمد ربِّك واستغفره إنَّه كان توَّاباً )
فهذه السورة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : يُبيِّن الله سبحانه وتعالى فيها اقتراب أجل نبيِّه صلى الله عليه وسلم ؛أي أنَّه إذا فتح الله عليه الجزيرة ورأى إقبال الناس على الإسلام وكذا وكذا فهذه علامة دنو أجله عليه الصلاة والسلام .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( سبحانك اللَّهم ربَّنا وبحمدك اللَّهم اغفر لي ) قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقوله في ركوعه وسجوده يتأوَّل القرآن .
أي امتثالاً لقوله تبارك وتعالى : ( فسبِّح بحمد ربِّك واستغفره إنَّه كان توابا )
هذا ما يسَّر الله من الحديث عن صفة حجته صلى الله عليه وسلم .