|
|||||||||||||||||
محض ألم..
نص قصصي يدعوك للتأمل .. أستحضر كاتبها الموت بشكل مفزع .. . . . ...احتضاري... ناحلاً.. طويلا .. ومثقلا بالوجع حد الفناء.. يفترش جسدي مساحة السرير الخشبي المطلي بالقطران , بحباله المتهدلة للأسفل, مكوما في زاوية معتمة من الحجرة القديمة التي تمازج عتمتها رائحة بخور عدني , تنثره أمي كل صباح في أرجاء الغرفة , مع قبلة دافقة على جبين وحيدها القاطن مع العتمة , والمرض , وخشخشة الجرذان , وصرير الجنادب . هكذا كانت أيامي الماضية , محض ألم , ورتابة, وشعور غامض أن شبحا ثقيلا يحوم حول سريري. مذ عدت ذلك المساء ولساني يمج شكوى مفزعة كتلك التي مات بها((خضر)) قبل أعوام ثلاثة. اليوم بدا كل شيء جليا , واضحا , أنفاسي حبال مهترئة أشدها بوهن باذخ, وثمة أكف لها برودة الثلج تنز رع بهدوء على صدي العاري, تدب باتجاه القلب , تطيل المكوث متجسسة على نبضي المتقهقر عن لهاثه وكأنما هو ينذر بالإضراب عن دق حائط الضلوع التي بدت ماثلة مرتدية اللحم الداكن الموشوم ببقايا الكي المحفور على صدري أخاديد , محاطة بهالات من دواء أحمر , كانت أمي كل صباح تعصره على صدري من قطنة متسخة , وحين تلمح تقلصات الألم على وجهي , تذرف دموعها بغزارة وتنصرف. الأيدي ذاتها , تتحس وجهي , تمسح العرق الطافح على جبهتي , وتداعب شعري بحنان ينذر أن شيئا ما سيكون.. ملوحة حارقة تضطرم في حلقي .. تحرض السعال الحاد على بعثرة هدوئي .. ألمح يدا كيد أبي تدلق الماء في فمي القاحل من طرف طاسة مثقوبة .. قطرات الماء تخر من الثقب .. تنساب على صدري ممتزجة مع بقع الدواء الأحمر , وتنحدر نحو الفراش الرطب , العاطن بروائح أدوية وقيء وعرق. الرعشة تسري عبر أطرافي المتخشبة , المطمورة برمضاء الحمى, صوت خافت يكسر صمت المكان (( لحفوه , لحفوه)) .. الأيدي تتنازع الدثار المطوي تحت ساقي اللتين تجاوزتا حافة السرير , يعبث بهما طفل يغرس أصابعه بنهم في الشقوق الملأى بالصديد والدم الخاثر!. (( سعد)) رفيق البؤس الطفولي , والفشل المدرسي , وأمسيات المقاهي والمطر, ينثر الدثار الثقيل على ركام أعضائي , ويثني ركبتيه بجانب السرير , تلفحني أنفاسه الهادئة , ورائحة فمه , ونبرته المبحوحة ...(( كيف أنت )) .. أزيح جفني ببطء .. رجال كثيرون لهم سحنة الحزن تكتض بهم الغرفة الضيقة .. وجه أبي مواسم من أسى ودموع , بكاؤه الخافت يشي بحتمية المصير. سؤال ((سعد)) ما يزال يخزني كشوكة .. أستجمع نثار الحروف على لساني المتصلب كفلقة صخر, أقبض بفتور على حبال السرير .. ورفيف جفنيّ إجابة موحشة! (( سعد )) يستيقن عجزي .. وينكفيء على جبيني .. يسكب قبلات .. ويبوح بهسيس متقطع . ترى أين أمي ؟! ما حالها؟! مؤكد أنها لن تراني .. هؤلاء الرجال الذين تكتض بهم الغرفة منذ الصباح يمنعون مجيئها لو أن لي بهم قوة!! .. روحي العطشى تتشهى لمستها وقبلتها , تحن للارتواء بدمعها .. مقطع قديم يقفز إلى الذاكرة المجهدة أحن إلى لمسة أمي وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي تتراءى لي أمي هناك , يحطن بها النسوة المتشحات بالسواد , يقلن لها كلاما لا تعقله .. ترى كم ستسفح من الدمع لفقدي. . وماذا سيحدث لها بعدي؟ أسئلة تتوغل في روحي بوخز دام .. والكلمات حجارة تتراكم في فمي. (( يا جماعة أذكروا الله)) .. قالها (( صالح )) إمام المسجد , مد الجميع أصواته بتهليل جماعي , واقتعد هو طرف السرير بجانبي , ومازالت الهسهسات المكتومة تشي بحتمية المصير, والعرق الطافح على جبهتي يحرق وجهي بملوحته .. يتسرب إلى فمي .. يمازج ملوحة حلقي .. أختنق وأحشرج . يد (( صالح)) المبتلة بالماء تجوس خلال وجهي .. وأسمعه يردد ((قل : لا إله إلا الله)).. وتأخذني السكرة إلى حيث لا أدري .. تتمازج الأصوات في أذني .. يمعن الطفل في غرس أصابعه في قدمي .. أفيق وشيء ما ينجرف في بداخلي .. سيوف تتوغل في لحمي .. قواي ذابت تماما في حميم الألم . (( قل:لا إله إلا الله )).. وذلك المنجرف بداخلي يرتدم في حلقي .. ينحسر الدثار عن صدري.. يشهق أبي .. ينزع الطفل أصابعه بذعر ويهرب.. (( سعد )) بات يعرف الإجابة , بعد اليوم لن نجلس معا .. لن نحتسي شاي العصر معا .. لن يجد من يقاسمه الحمام والدجاج وعلب الصفيح والأرغفة.. بعد اليوم سيجلس في المقهى وحيدا .. وسيطرد من المدرسة وحيدا .. وسيذكرني وحيدا.. وحيدا ..وحيدا رعدة قاسية تهزني بعنف .. تبوح حنجرتي بغرغرة مخيفة.. يبكي الطفل.. يصرخ أبي .. ويكسوني هدوء غريب. . . كاتبها / محمد الراشدي . . دمتم بخير
|
22 Feb 2008, 09:14 AM | [ 2 ] | |||||||
|
استحضار قوي للموت في قصة مفزعه وللأمانة دعوة لمحاسبة النفس والنظر في عالمك المحيط وفي كل الإتجاهات مشكوره على القصه وتقبلي تحياتي أخوك نواف الشدادي |
|||||||
22 Feb 2008, 03:04 PM | [ 3 ] | |||||||
نائب المشرف العام
|
مشكوره اختي الكريمه على هالاختيار الجميل القصه جداً رااائعه لكاتب مميز تحيتي |
|||||||
|
||||||||
22 Feb 2008, 06:29 PM | [ 4 ] | ||||||||
شاعر
|
مشكوره ياسيده على نقل القصه الرائعه والله يعطيك العافيه ان شالله تحياتي |
||||||||
22 Feb 2008, 08:34 PM | [ 5 ] | |||||||||||||||||||||||||||
المراقبة العامة
|
من أقوى ماقرأت عن وصف لحظات الاحتضار بطريقة تدعوك للتأمل ثم التأمل .. سلمت اخوي نواف على المرور العطر .. |
|||||||||||||||||||||||||||
29 Feb 2008, 03:20 AM | [ 6 ] | ||||||||
عضو متميز
|
لا أخفيك أختي سيدة الأشجان أنه سبق لي أن قرأت هذه القصة للرائع محمد سعيد الراشدي وقد شعرت وقتها بالرعب من هذا التصوير لحالة إحتضار .. رعبها يسبق تأملها الأسود في حشرجة للروح .. وبلاش أفلام رعب .. مش ناقصين إحنا .. شكرا أختي سيدة الأشجان على هذا النقل الذي يعبر عن ذائقة قصصية مختلفة ..! |
||||||||
|
|||||||||
01 Mar 2008, 11:14 AM | [ 7 ] | |||||||||||||||||||||||||||
المراقبة العامة
|
هذا فيلم الرعب الوحيد الذي سنشاهده رغماً عنا شئنا أم أبينا ..
نسأل الله العلي العظيم ان يهون علينا خروج الروح .. شكراً لك كديميس واسفه لازعاجك بهذا الفيلم المرعب للمرة الثانية .. |
|||||||||||||||||||||||||||
02 Mar 2008, 01:29 AM | [ 8 ] | |||||||
عضوة متميزة
|
تصوير رائع ومؤثر في نفس الوقت سيدتي الله يعطيك العافية على النقل الرائع |
|||||||
|
||||||||
03 Mar 2008, 02:05 PM | [ 9 ] | |||||||
صديقة المنتدى
|
تسلمي اختي سيدة الاشجان اختيار رائع لقصه ... مؤثره يعطيك العافيه |
|||||||
04 Mar 2008, 05:51 AM | [ 10 ] | |||||||||||||||||||||||||||
المراقبة العامة
|
عافاك الله غاليتي ..
ودام لي مرورك العطر .. |
|||||||||||||||||||||||||||