..:.. مرحباً بك في شبكة الشدادين الرسمية ، ضيفنا الكريم يسعدنا دعوتك للانضمام والمشاركة معنا .. اضغط هنا لتسجيل عضوية جديدة ..:..


العودة   شبكة الشدادين > المنتديات الأدبية > منتدى القصص والحكايات > كتّاب المنتدى في القصص والرواية الأدبية
 
أدوات الموضوع
إضافة رد
قديم 30 Apr 2006, 01:14 AM [ 71 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




روضة، مذ انعقد لسانها، باتت غير قادرة على الإجابة. الشيخ الذي حاول فك تلك العقدة لم يزدها إلا تعقيداً... فالجني الذي دخل فم الفتاة وأمسك بلسانها أبى الخروج.. عصي الخيزران الثلاث كسرها على ظهرها، صرخاته ما زالت تدوي في أذنيها، بخوره في خيشوميها، مع ذلك أبى الجني الخروج.. روضة تذكر وقع العصي على ظهرها، إليتيها، فخذيها، تذكر الهمدرة والزمجرة، الصياح والصراخ، تذكر أوجاعها، آلامها، وهو ينهال عليها ضرباً لكنها لا تذكر متى توقف ذلك الضرب. أياماً وليالي ظل ظهرها ينزف دماً.. عظامها مكسرةً، جلدها كله أزرق مسوداً.. أمها تبكي عليها، أخواتها ينحن، ودموعها هي لا تجف.. "ماذا فعلت بك؟ كم أخطأت بحقك!! "كانت أمها لا تنفك تندب، لاطمة خدها، صدرها، وكلها شعور بالذنب.‏

ذلك الشعور بالذنب أفادت منه شمس فأقنعتهم باللجوء إلى الطبيب..‏

جاء الطبيب، فهاله حال الفتاة المسكينة التي لم يكفها الموت بل جاءتها عصة القبر. شهراً ظل يعالج جلدها المجرح ظهراً وعجزاً.. يدين ورجلين.. الميكرو كروم الأحمر، المسحوق الأبيض، الأقراص، الحبوب، كلها عرفتها روضة، مع الصراخ أحياناً وبلا صراخ أحياناً أخرى...‏

كان خوفها من ذلك الشيخ الذي يطرد الجن بعصا الخيزران جعلها تخاف من كل غريب. رأت الدكتور يدخل بحقيبته الجلدية السوداء فانكمشت على نفسها وعبست، متقلصة متكورة، رافضة أن يلمسها لمساً. شمس معه... تحاول طمأنتها تشرح للفتاة المذعورة من هو الدكتور الشهبندر، وكيف سيعالجها "هو صديق عزيز.. وطبيب بارع.. اطمئني إليه، أسلمي أمرك له، تعودي سالمة معافاة بإذن الله!! "لكن روضة لم تطمئن، بل كان على شمس والطبيب أن يحدثاها أكثر وأكثر... عن الشعوذة والخزعبلات.. عن النصابين والدجالين.. وعن الجهل الذي يوقع الناس بين أيديهم.. أخيراً، حسمت الأمر شمس، "هذا طبيب عالم.. وصديق مخلص.. رأيته مرات في بيتنا ولا يمكن أن يريد بك الشر.. فاطمئني "حينذاك فقط اطمأنت روضة وأسلمت قيادها للطبيب...‏

الطبيب كبير القلب، رحب الصدر، هادئ، صبور.. يعالج الفتاة بحنو الأب وإشفاق الأخ. "من يصدق؟" راحت شمس تتساءل وهي ترى الطبيب الهادئ الصبور يعالج مريضته. "هذا الرجل هو نفسه كان وزيراً لخارجية الملك فيصل؟ هو نفسه الذي ناضل ضد الاستعمار العثماني والفرنسي؟ شارك في الثورة السورية الكبرى؟ تعرض للمخاطر والأهوال؟ وفي الوقت نفسه يداوي ويعالج!! كم هو متعدد المواهب إذن!! كم هو نعمة لقومه ووطنه؟ "ولم يكن متعدد المواهب، النعمة لقومه ووطنه، يخيب لشمس ظناً.. هو صديق حميم يكن لها كل الاحترام، يكن لعزيز كل المودة والحب.. قبل أن يذهب إلى مريضته أو بعد أن يعود من لدنها.. يزور بيت الأصدقاء كما كان يدعوهم. يجلس مع عزيز، يجلس مع شمس إن لم يكن هناك عزيز، فالدكتور الشهبندر هو الرجل الوحيد الذي يطمئن لـه قلب شمس.. "رجل عظيم لا يوحي لك إلا بالثقة والاطمئنان!!" كانت تقول لعزيز كلما تحدثا عنه.. آراؤه في الحياة تعجبها، آراؤه في السياسة تعجبها، ولا تملك إلا أن تسأل وتسأل كلما جمعهما مقام. الرجل واسع المعارف، كبير التجربة، صلب الإرادة، قوي العزيمة. هو متفائل حيناً، متشائم حيناً آخر "أنا أؤمن بهذا الشعب، متفائل فيه، لكنني أكفر بمن يتنطحون لقيادته، متشائم من رجالات سياسته"، قال لشمس ذات مرة وحين سألته "لماذا"؟ كان جوابه واضحاً: "شعب عظيم كشعبنا بحاجة إلى رجال عظماء أقوياء قادرين على انتشاله من هاويته، إنقاذه من ورطته... لكن للأسف كل من ترينهم طافين على السطح الآن مسوخ، أقزام، صغار، أصفار". ولم تستطع هي وعزيز إلا أن يوافقاه... كان البلد يرزح تحت نير ثقيل ورجالاته يختصمون على صغائر الأشياء، كل منهم يريد الحصول على مكسب، أو إرضاء جنرال لبلوغ منصب، في كل يوم ينحدرون أكثر، يسقطون أكثر ومن أجل ماذا؟ سفاسف وصغائر، فتات يرميه لهم هذا الضابط الفرنسي أو ذاك. زعيم ليس بزعيم، ورئيس ليس له من الرئاسة شيء، والكل يسيرون في ركب المستعمر خاضعين، خانعين". الدكتور غير راض.. مذ عاد من مصر وهو يلوم ويعاتب، ينتقد ويهاجم. شمس تذكره حين دعته عايده بيهم آخر مرة إلى الرابطة النسائية.‏

جريئاً كان!! واضحاً كان!! أجاب على كل سؤال، شفى كل غل.. وفي النهاية أطلقها صريحة واضحة: "المرأة نصف المجتمع.. والنساء مدعوات لأن يعملن شأنهن شأن الرجال وجنباً إلى جنب مع الرجال.. بل عليهن أن يعملن بلا كلل أو ملل لشحذ همم الرجال، فالحرية تؤخذ ولا تعطى، الاستقلال لا تصنعه إلا التضحيات والبطولات، والتضحيات والبطولات يرضعها الأبناء من صدور الأمهات".‏

في الصحف، في المجلات، داخلاً، خارجاً، كان يكتب، بل لم يكن يفوّت مناسبة إلا ويصدر فيها بياناً يبين الحقيقة للشعب حاثاً إياه على الدفاع عن حقه، هادياً إياه إلى طريق الصواب...‏

أليس هو زعيم الشعب؟ أليس حزبه حزب الشعب؟ مع ذلك، وبكل تواضع زعيم الشعب، يأتي بنفسه إلى فتاة خرساء يبذل المستحيل كي يشفيها.. بقلب رحيم ونفس مفعمة بالحب كان ينكب عليها، يعالجها، يحدثها، يسألها، يحاول استدراجها، جرها جراً إلى النطق. أشهراً عدة ظل والفتاة ديدنه... هو واثق أن العلة في النفس وليس في الجسد.. شرح ذلك لأبيها، لأمها فهزا رأسيهما وقد استعصى عليهما الفهم. لكن شمساً كانت تفهم.‏

"يجب أن نكسب ثقتها.. يجب أن نجعلها تطمئن.. اطمئنانها سيخلصها من عقدة الخوف.. ذهاب عقدة الخوف وحده يذهب بعقدة اللسان". شمس مؤمنة بوجهة نظره، بتصوره الواضح ورؤيته التي لا شائبة فيها... "ستنطق ان استطعنا التغلغل إلى أعماق نفسها، فاخرجنا ما في تلك الأعماق. "على هذا الأساس بدأ يعمل.. يجلس معها طويلاً، يحدثها، يروي لها القصص، يفسر الأحداث ثم ينهال عليها بسؤال مفاجئ وكل ظنه أنها بحافز ما، باندفاعة ما قد تجيب... لكن، طوال ستة أشهر، ظلت روضة تجلس، تصغي، تتلقى الأسئلة لكنها لا تجيب...‏

حين جاءت رسالة الأخضر، همست أمه للطبيب:‏

-دكتور!! أنت قلت الفتاة بحاجة إلى حافز، إلى اندفاعة تفك عقدة لسانها، ما رأيك أن تستخدم هذه الرسالة حافزاً؟ وأخرجت من حقيبتها ورقات مطوية بعناية.‏

-أية رسالة أختاه، سألها الطبيب الذي كان معجباً بشمس "شخصية فذة" كان يقول عنها "امرأة لا كالنساء" وكان يأبى إلا أن يناديها "أختاه".‏

شرحت له الأخت الحب من طرف واحد، ذاك الذي كان يشد روضة إلى الأخضر مؤكدة له أن لذلك الحب دوراً في خرس الفتاة.‏

-لماذا لم تخبريني بذلك من قبل؟‏

-لم أكن على يقين.. لكن الآن نعم..‏

وتهلل وجه الطبيب!! "وضع اليد على العلة أقرب الطرق إلى معالجة المعلول". قرأ الرسالة فتهلل واستبشر:‏

-دعينا نجرب، قال لشمس وهو ينهض، كله همة وحماس. فقط الحقي بي بعد حين وافعلي ما أقول لك الآن...‏

بعد حين، لحقت به شمس.. كان قد تحدث مع روضة كعادته، حثها على الكلام، حرضها، لكن حين دخلت شمس ويدها خلف ظهرها، كما اتفقا، بادرها الطبيب باندفاع.‏

-بيدك شيء، ما هو يا أختاه؟‏

-لا.. لن أقول.. هو يهم روضة كثيراً.. يفرحها كثيراً..‏

وفي الحال، فتحت روضة عينيها على سعتهما.‏

-روضة لم يعد يهمها شيء.. ولم يعد يفرحها شيء..‏

قال الطبيب بمسحة من قنوط‏

-لا، ردت شمس بدفق من تفاؤل ما عدا هذه الرسالة، ما عدا صاحبها.. هما يهمانها كثيراً.. كثيراً.. كثيراً..‏

-هاتيها إذن.. أعرف ما فيها.. قال الطبيب وهو يمد يده إلى الرسالة فابتعدت بها شمس مقتربة من روضة...‏

-كيف دكتور والرسالة لروضة؟ تسلم باليد.‏

-حقاً؟ قال الطبيب وهو يغمز بعينه.‏

-حقاً وصدقاً!! صاحبها يقول: سلميها لروضة أغلى الناس عندي، وبدت روضة تشتعل حماساً وتحفزاً، حمية واندفاعاً، عيناها على الرسالة ويداها تهمان بالإمساك بها.‏

-قد أثرت فضولي.. ممن هي أذن؟ سأل الطبيب وهو يرقب روضة، مسروراً، بطرف خفي..‏

-لا.. عليها هي أن تحزر.. ردت شمس وهي تقترب أكثر من الفتاة.. انظري.. روضة...‏

شمي رائحة الرسالة.. قالت وهي تقربها من وجهها وتبعدها عنه. ألا تذكرك بأحد؟ ألا تستطيعين أن تخمني من المرسل؟ ومن جديد، راحت تلوح بالرسالة أمام عينيها، فبدا بريقهما أشد تراقصاً، وحماستها أكثر توهجاً، بل خيل لشمس أنها ترى في روضة كتلة مشتعلة من نار..‏

-الرسالة لك.. احزري من أرسلها؟ صاح بها الطبيب على حين غرة.. وعلى حين غرة انفجر صوت روضة.‏

-الأخضر!!. صاحت وهي تهب ملء طولها.. انها رائحته.. إنها رسالته... اقرئيها لي.. تابعت، وهي تمد يديها كلتيهما في محاولة للإمساك بالرسالة، فيما كانت تنفرج أسارير وتفتر شفاه وقد تنفس كل من شمس والطبيب الصعداء.‏


توقيع : كديميس

"لاتبحثوا عني بين كلماتي فهي لاتشبهني"
الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:15 AM [ 72 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




-8-

-بماذا أوصيكم؟ بصوت خفيض ونبرة هادئة بدأ علي المر المستلقي على فراش المرض حديثه.‏

يونس، عزيز، نرجس، إبراهيم، نواف تابع معدداً أسماء المتحلقين حوله، متوقفاً بعد كل اسم وكأنما يتلذذ بنطقه ويستمتع بطعمه. تعاونوا، كونوا معاً على الدهر، في السراء والضراء ظلوا يداً واحدة.. لا يدخل بينكم طمع، ولا يحشر إبليس قرنه...‏

-أكيد، أبي.. أكيد.. لكن.. لا تجهد نفسك، خاطبه يونس وهو يرى أنفاسه تصعب ولهاثه يزداد.‏

-بل يجب أن تسمعوني.. ربما كان هذا آخر كلامي لكم.. عاد علي المر بعد أن ربت يد يونس التي امتدت تهدئه، ونظر إلى نرجس التي كانت تجلس على الفراش بجانبه، وكأنما هي جاهزة لأن تضع رأسه على ذراعها تهدهده... "صحيح!! من قال إن الإنسان يعود في شيخوخته طفلاً؟.. أهي الدائرة التي لا بد من أن تكتمل؟ يبدأها المرء طفلاً، يشب ويترعرع، يصبح راشداً كهلاً ثم شيخاً.. خطا دائروياً يرسم إلى أن يلتقي طرف النهاية بطرف البداية وتنغلق الدائرة". راح عزيز يفكر وهو ينظر إلى أبيه. لم يكن علي المر يشكو من شيء، صحته، سمعه، بصره، كلها على خير ما يرام، يقرأ القرآن، يسمع أدق الكلام، يذهب، يجيء، في مضافته يستقبل الأصحاب، الأقرباء، الغرباء، يلعب المنقلة والداما، ويضحك بقهقهة تسمع حتى آخر الزقاق. لكن فجأة أحس بوهن، تعرق جسده، تصببت جبهته ماء، ارتفعت حرارته. كانوا في الصباح قد جاءوا بالفول الأخضر وكان هو يحب الفول الأخضر.. أكل خمسة أو ستة قرون.. بعدئذ بدأت عليه الأعراض:‏

قيء، تشنجات، وهن، ارتفاع حرارة وعرف الكل أنه الفوال. في اليوم الأول أخذه يونس إلى الطبيب. في المنطقة كلها لا يوجد طبيب.. وكان عليه أن يأخذه إلى حماة. "البوسطة" الوحيدة التي تمر بقرى المنطقة تلملم ركابها، تذهب إلى حماة مرة وحيدة.. تغرب مع الفجر لتشرق مع المغرب.. الطبيب أعطاه الدواء، وبدا أن الجسم القوي الذي لم يفقد سناً واحدة، ما يزال قادراً على المقاومة. عاد يونس بأبيه إلى القرية مع تحذيرات الطبيب، لا تقرب الفول أبداً.. حذار من الفول.. يصيبك بانحلال الدم فوراً ويقتلك. ولم يقرب علي المر الفول بعد ذاك.. لكن انحلال دمه تلك المرة كان كافياًُ لأن يفتح الباب لعلل أخرى كانت كامنة ما دام الجسم قوياً.. ضعف فبدأت تظهر برؤوسها: التهاب مرارة، تشنجات قولون، اضطرابات معوية.. وأدرك علي المر أن الثوب بات مهلهلاً، أية شدة تمزقه.. فأرسل في طلب عزيز يودعه قبل أن يموت. الشدة التي تمزق الثوب عادت بعد يومين، برداء تصطك لها الأسنان وترتجف الأوصال ثم لا تدعه إلا خرقة مبللة.. أرادوا إعادته للطبيب فرفض.. إنه الموت ولا مفر من الموت..‏

-أبي! لا تقل ذلك، أنت ما زلت قوياً!! رد عزيز شاداً على يده مشجعاً وهو يكره أن يراه، هو الذي لم يعرفه إلا قوياً شديد العزم، يستسلم للضعف والموت.‏

-كنت، عزيز.. لكنه الزمن يا بني.. يبلي الحديد ويضعف القوي، أم نسيت أنني ابن ثمانين؟‏

-لم أنس.. لكن..‏

-لا، عزيز، لا تقل لكن، قاطعه الأب الهادئ النبرة، المطمئن القسمات، وكأنه ليس على فراش الموت. كلنا مصباح، ولكل مصباح زيت، ينفد فينطفئ المصباح.. أجل.. يا أولاد، اليوم أشعر أن زيتي ينفد.. ربما هذه آخر قطرة..‏

-أبي. أرجوك. صاحت نرجس شبه نادبة، شبه باكية..‏

-نرجس، لا تندبي ولا تبكي قبل أن تسمعي ما أريد قوله.. وضغطت نرجس على أعصابها، شادة بكفها على كف أبيها، فعادت الدموع المغرورقة في العينين إلى مكانها، وعاد الذعر المرتسم على المحيا إلى مكان هناك في الأعماق، ربما بانتظار لحظة أخرى..‏

-قل أبي، ماذا تريد؟ حثه يونس وقد أدرك أنه بالغ ما ليس منه بد.‏

-نرجس، خاطب الأب ابنته التي كانت قد حبلت وانجبت الكثير، سمنت وتضخمت حتى أصبحت جذع سنديانة عتيقة.. افتحي الصندوق وهاتي علبة منه...‏

ذهبت نرجس إلى صندوق أمها في الزاوية، فتحته وأخرجت علبة، سلمتها إلى الأب ففتحها.‏

-هنا، قال وهو يشير إلى الذهب الذي لمع للتو، مائتان وخمس وثلاثون ليرة عثمانية.. توقف الشيخ الذي أضعفه الفوال ثم تشنجات القولون والتهاب المرارة، فيما كان ناظراه ينتقلان بين الأبناء المتحلقين حوله، في عيونهم الحزن وعلى رؤوسهم الطير. وفي هذه الصرة ثلاثة آلاف وأربعمائة ليرة سورية.. هي كل ما نملك من مال.. لكن الأرزاق كبيرة والحمد لله...‏

-الحمد لله، صاح كل من حوله فاتحين أيديهم رافعين عيونهم للسماء.‏

-أنتم تذكرون... يوم جئنا أم العيون.. هاربين، خائفين، لم نكن نملك شيئاً.. لكننا اليوم نملك الكثير: أراضينا الواسعة هنا، في قليب الثور، في أم الرجوم، أغنام، أبقار، خيول، عربات.‏

-الخير كثير والحمد لله، الخير كثير، قاطعه يونس، ربما رغبة في توفير الجهد على أبيه.‏

-هذا الخير أريدكم أن تزيدوه وتكثروه.. حتى تظل راية آل المر مرفوعة لا تعرف انتكاساً..‏

-سيكون ذلك بإذن الله يا أبي!! اطمئن يا أبي!! طمأنه عزيز وقد أدرك الهم الكبير الذي يشغل باله..‏

-الفرقة وحدها تضعفكم، الخلاف وحده ينكس رايتكم.. فلا تختلفوا ولا تفترقوا.. أنتم أخوة.. أنتم الثلاثة، قال وهو يشير إلى نرجس وعزيز ويونس، وإبراهيم.. ابن أخيكم لكنه بمثابة عمران.. اعتبروه عمران.. واقسموا كل شيء على أربعة.‏

-بل على ثلاثة.. اندفع عزيز فجأة رافعاً أصابعه الثلاث، ففتح يونس عينيه هاتفاً:‏

-ماذا؟‏

-أنا أتنازل لكم عن حصتي.. لا أريد شيئاً..‏

-وأنا أيضاً أتنازل.. تابعت على الفور نرجس وقد ألهبها عزيز حماسة ومروءة.. أسامحكم بكل شيء.. لا أريد أرضاً ولا غنماً، خيلاً ولا بقراً..‏

-لكنه حقكما، عقب علي المر وهو ينقل ناظريه بين عزيز ونرجس.. بمزيج من التعجب والانبهار، الحزن والسرور..‏

-صحيح.. هو حقنا.. لكن الحمد لله!! أنا هناك بخير!! تجارتي رابحة وأحوالي حسنة... ولن أقاسم أخي وابن أخي على أرض لن أعمل بها.‏

-وابنك نواف!؟ تساءل وهو يرمق الحفيد الذي يحب.‏

-نواف.. سآخذه معي إلى الشام.. أنا بأمس الحاجة إليه هناك.‏

-وأنت، قال وهو يميل برأسه إلى نرجس..‏

-أنا بخير أيضاً.. أبو خليل الساهي جاء معك إلى أم العيون وكسب كما كسبت.. أيضاً.. لدينا أراض وأغنام.. خيول وأبقار فلماذا أقاسم أخوتي ثروتهم؟‏

-بارك الله بك وبه!! قال علي المر وهو يمسك بيدها ثم بيد عزيز، إذن، ماذا أوصيك، يونس؟‏

إبراهيم هو عمران.. ,عمران هو أخوك.. والأخوة سواسية يقتسمون قسمة الحق...‏

-لا، أبي، حصة عزيز ستظل لعزيز.. صحيح.. نحن نقبل كرم نرجس وتسامحها.. لكن.. عزيز.. لا.. ستظل حصته معي متى أرادها كانت له.. مالاً.. أرزاقاً.. أرضاً..‏

-كذلك حصتي، عمي يونس، نطق إبراهيم أول مرة وقد أثارته الحمية والنخوة، تظل معك وأظل أنا واحداً من أولادك نعمل معاً ونعيش معاً.‏

-الحمد لله! الآن أموت مرتاحاً مطمئناً! تمتم علي المر وهو يتنفس الصعداء..‏

-حقاً أبي!! لست خائفاً من الموت؟ سأل عزيز بكل جد وكأنما يريد أن يتخلص من شاغل يشغله.‏

-خائف!؟ كرر الأب الذي انعكست الراحة والطمأنينة قبل ثوان على سيماه، فبدت مشرقة بشيء كالنور. أنا أخاف من الموت، عزيز؟ تابع سؤاله بمسحة من عتب. لا.. لا.. الموت حق وما علي المر من يخاف من الحق..‏

-صحيح!! لكنه الموت يا أبي!! المجهول الذي نلقى في هوته!! الغول الذي ترتعد له فرائص الشجعان..‏

-لا.. عزيز.. الموت ليس مجهولاً ولا غولاً.. الموت مجرد انتقال.. من دنيا فانية إلى دنيا باقية.. من حياة زائلة إلى أخرى دائمة فلماذا نخاف ونحن ننتقل إلى البقاء والخلود؟‏

-والحساب.. العقاب؟ سأل عزيز بكثير من التردد..‏

-الحساب!! العقاب!! كرر الأب الذي بدا وكأنه يستمد قوة من ضعف، وصفاء من تشوش. هو ذا ما يخافه الناس عزيز، وليس الموت!! ومن يخاف إلا الآثم المرتكب؟ وحدهم المذنبون الآثمون يخافون.. أما الأنقياء الأتقياء الذين لم يذنبوا ولم يأثموا، ما ضروا أحداً ولا آذوا أحداً فلماذا يخافون؟ هم يعلمون أنهم بموتهم تنتهي حياتهم هذه، لكن لتبدأ حياة جديدة وعدهم ربهم فيها بجنة من سندس أخضر تجري من تحتها الأنهار.. فلماذا لا يكونون مطمئنين؟‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:15 AM [ 73 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




وشعر عزيز بتيار من طمأنينة دافئة يسري في أوصاله.‏

-الحمد لله!! تنهد متمتماً..‏

-أجل الحمد لله!! ردد الأب وقد ارتعشت شفتاه فجأة وناست ذبالة المصباح في حدقتيه فجأةً.‏

مع ذلك شد بكفه على كف نرجس، وهي ما تزال ممسكة بها، ثم رفع سبابته اليمنى أمام وجهه مستأنفاً:‏

أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله!! مع الهاء الأخيرة سمع عزيز صوتاً كالحشرجة، فيما أحست نرجس بشيء ينسحب من كفها وبأنفاسها تنسحب من صدرها. نظرت إلى الأب فوجدت فمه انفتح على مصراعيه، وعينيه جحظتا وقد خبا منهما النور...‏

نظرة العينين نفسها، انفتاحة الفم نفسها، تخشب اليد نفسه كانت قد أحست بها يوم ماتت أمها قبل بعض الزمن.. إنه الموت.. نرجس تعرفه.. يأتي بالضباب والسديم فينشرهما على كل ما حوله ليترك القرس والحزن.‏

-لا.. أبي.. لا تمت، أبي!! دونما تفكير، دونما شعور، وجدت نفسها تصيح مولولة نادبة، فيما انكب يونس بخوف وهلع على يد أبيه، وانحنى عزيز على جبينه.. متحسساً بيديه، مقبلاً بشفتيه، الجبين ما يزال دافئاً لكنه ليس دفء الحياة، أنامله انحدرت مع صفحة الخد تتلمس الوجه الذي كانت تحب... الشفتان في الأثر.. تلثمان، تتحسسان.. لم يعد ثمة قلب يخفق، لم يعد دم يتحرك.. ثمة سكون.. برد..‏

-لقد مات!! تمتم عزيز وكأنه يخاطب نفسه فيما امتدت يده إلى العينين تغمضهما وإلى الشفتين تطبقهما بعد أن ظلتا منفتحتين على هاء الشهادة والطمأنينة.‏

سبعة أيام ظل بيت الشعر منصوباً في ساحة القرية والناس يتوافدون معزين.. من القرية، من الصابرة، من القرى الأخرى التي كانت قد نشأت وانتشرت خلال ذلك الردح من الزمن، لتشكل جبهة جديدة للحضارة والعمران في منطقة خالصة للبداوة والبداة. قليب الثور، أم الرجوم كانتا الأقرب إلى أم العيون وكان أهلوها قد جاؤوا من الغرب أيضاً، حيث الريحانة والجبال، لا هرباً من العصملي كما جاء علي المر وصحبه بل سعياً وراء الرزق وقد سدت في وجوههم أبواب الرزق.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:16 AM [ 74 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




لم تكن أم العيون قادرة على الاتساع للوافدين الجدد فقادهم علي المر إلى الشمال، حيث القباب الكثيرة، والعواميد الزرقاء التي إن دلت على شيء، فإنما تدل على عمران كان ثم باد.. حفروا هناك، فتشوا، بحثوا، فوجدوا آثار دور قديمة خربها الزمان، أساسات أبنية من حجر أزرق، دعامات وأعمدة من حجر أزرق وقد زينت بعناقيد العنب وأوراق الزيتون، كما وجدوا بقايا لمعاصر زيتون، وأباراً غطاها أهلها بصفائح من حجارة زرقاء. جفاف أو غزو جعلهم يرحلون على أمل العودة... ثم لم يعد أحد. رفع الوافدون الجدد الأغطية ثم أنزلوا الدلاء في الآبار فخرجوا بالماء.. أية نعمة إلهية!! كان علي المر قد شارك في بناء القرى الجديدة واستصلاح الأراضي الجديدة حيث المنطقة تعمر وتتوسع من جديد، وعلي المر رائد وطليعة، مرشد وشريك. سنوات خصب عشر تتابعت بغلال وفيرة ومواسم خيرة فجعلت دار علي المر تمتلئ حنطة وشعيراً، أغناماً وأبقاراً وجعلت صندوقه يعج بالذهب والفضة.. والناس كل الناس يحملون له الإعجاب والإكبار، الحب والود، فكيف لا يسارعون إلى المشاركة في عزائه؟.‏

خبر الموت ينتقل.. بسرعة ودون أن يعلم أحد كيف؟. وصل الخبر إلى قبيلة شمس فأسرع الشيخ نواف يعزي بالرجل الذي خاواه يوماً ثم ناسبه بعد ذلك ليصنعا معاً نسيجاً جديداً للحياة، لحمته وسداته: بدو وحضر، رعي وزراعة، يكمل واحدهما الآخر ولا يعيش واحدهما بغير الآخر.‏

خبر الموت انتقل أيضاً إلى الريحانة، وأسرع الأهل القدماء الذين لم تنقطع أواصرهم بعلي المر ولا انقطعت أواصر علي المر بهم... طوال ربع قرن كان ما ينفك يزورهم ويزورونه، يأتي بالحواصيد منهم ويستجر المهاجرين. مصاهرات قامت، علاقات امتدت، وظلت الريحانة المحج الذي لا يهنأ لعلي المرعيش إن لم يحج إليه العام تلو العام، ولا يطيب له طعام إن لم يأكل من زيته وزيتونه، جوزه ولوزه، دبسه وزبيبه. ظلت الريحانة الأرض التي تمتد فيها جذوره عميقاً في التربة كجذور الزيتون والسنديان فكيف يتخلف أهل الريحانة عن المشاركة في مأتمه؟. جدياناً حملوا، عجولاً ساقوا، وأحمال بغال من برغل وزيت سفحت كلها على روح علي المر وحملت لنفس عزيز كل شعور بالعزة والفخار.. فالرجل الذي فتح أرضاً جديدة بدا أكثر أهمية مما يتصور عزيز.. لكأنه ملك في مملكته الجديدة.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:16 AM [ 75 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




سبعة أيام ظل عزيز يستقبل المعزين.. متعبة كانت المراسم، متعبة كانت الطقوس.. لكنها الأعراف والتقاليد، وهل باستطاعته أن يغير الأعراف والتقاليد؟" لكن لماذا سبعة؟" كان لا يفتأ يتساءل وقد أرهقه استقبال الناس ووداعهم.. "أهو عدد مقدس؟ الأسبوع سبعة أيام، السماوات سبع، الأرضون سبع، الله خلق الكون في ستة أيام ثم استوى في اليوم السابع على عرشه.. أهو رمز الكمال والاكتمال؟ يستمد قداسته من قداسة الكمال والاكتمال؟". لم يكن عزيز يدري، لكنه كان يتساءل. في اليوم الخامس كان قد جاء المعزون من الريحانة، في السادس جاء صحبه من حماة: حسني الدباغ وأهله بعد أن مات الحاج صبحي.. الدكتور نورس، المحامي إبراهيم كلهم جاؤوا وحمل مجيئهم الكثير من العزاء لقلب عزيز.. "لم ينسني الناس هناك.. لم تذهب تلك المرحلة من عمري سدى".. وأكد له حسني أن الناس ما زالوا يذكرونه في الحاضر.. ما زالت النسوة تتحدث عن الشيخة ابنة الشيوخ التي ملأت ذات يوم الحب العتيق أحاديث كرم وقصص تفرد وشجاعة، لكن ما جعل عزيزاً يتنبه كل التنبه همسة حسني:‏

-تعلم؟ أحد المخبرين سألني قبل شهر عنك؟‏

-أحد المخبرين سألك؟ ماذا تعني؟‏

-أعني.. هكذا.. دون سابق إنذار، جاء رجل لم أكن أعلم أنه يعمل مع الفرنساوي، ثم تبين أنه مخبر.. تحري.. يعني..‏

-إي.. وما الذي كان يريد؟‏

-كان يريد أن يعلم أي شيء عن عزو المرارة.. عن امرأة تدعى شموس.. بدوية.. ابنة شيوخ..‏

-اي.. وبماذا أجبته؟‏

-قلت له أنا لا أعرف شيئاً عن مثل هذا الاسم.. لكني أعرف رجلاً باسم عزيز المر.. وامرأته شمس ابنة الشيخ نواف..‏

-سامحك الله!! قاطعه عزيز وهو يضرب كفاً بكف.. ما الذي فعلته؟‏

وبدا حسني الدباغ منبهتاً، فقد فاجأه الذعر في عيني عزيز.. حينذاك فقط تبين له سوء ما فعل. لقد جره ذلك المخبر، من حيث لا يدري، للإفضاء بكل ما يعرفه عن عزيز المر وزوجته الشيخة شمس التي دوخته ذات يوم، وكان على استعداد لأن يقدم لها تنكة من الذهب إن استجابت له.‏

في اليوم السابع فقط اكتمل سوء تلك الفعلة.. حين ظهر على حين غرة ثلاث سيارات يتعالى إثرها الغبار، وهي تشق طريقها إلى أم العيون. أولاد القرية الذين كانوا ما يزالون يعجبون من عربات تسير بلا خيول ودواليب ليست من معدن تكرج على طرق لم تمهد، استقبلوا الموكب عند أطراف القرية ثم تقدموه مرشدين إلى حيث بيت الشعر وعزيز الذي فتح عينيه على سعتهما وهو يرى القومندان رينو بنفسه ينزل من السيارة.. ثم يأخذه بالأحضان معزياً مواسياً.‏

-يا إلهي!! قومندان فرنسي!!‏

-موكب سيارات آتٍ من الشام لتعزية عزيز!!‏

-كم هو مهم، عزيز إذن!!‏

راحت الوشوشات تنداح في بيت الشعر، والناس ترى إلى القومندان بكل نجومه وأوسمته يخاصر عزيزاً، وراءه ضباط وجند، ثم يشقون طريقهم جميعاً إلى بيت الشعر ليحتلوا صدارته. لم يكن أحد من أهل القرية قد أحس بالخوف الذي سرى في أوصال عزيز وهو يرى الموكب، ولا بتوجس الشر الذي ملأ نفسه وهو يأخذ القومندان بالأحضان، ولا بالأفكار السوداء التي ملأت رأسه وهو يسير.‏

-هو يعرف كل شيء عنا، قال عزيز لشمس وهو يأوي إلى فراشه بعد يوم طويل من التعب والإرهاق.‏

-كل شيء!؟ كل شيء!؟ سألت شمس شبه مرتعدة، فقد كانت تعلم ما رواه حسني عن تحريات الفرنساوي، وكانت تعلم ما توصل إليه القومندان من استدراجه للأخضر في باريس، كما كانت على يقين من أن تحرياته القديمة وتقصياته لم تكن قد ذهبت بلا طائل.‏

-أعتقد... كل شيء.. أجاب عزيز وهو يحس بأمواج الرعدة تصل إليه..‏

-يا إلهي!! حتى علاقتنا بجيرار!؟ سألت شمس وقد صار وجهها قناعاً للذعر، ما هربت منه، هي وعزيز، سنين طويلة، وما حاولا معاً إخفاءه، سنين طويلة، بات الآن عارياً مكشوفاً أو يكاد..‏

-لا أدري.. هذا وحده ما يزال موضع شك، رد عزيز وهو يحاول أن يستعيد في ذهنه وجه القومندان عله يستشف من أمائره علامة للشك أو إشارة للاتهام، لكن القومندان كان قد جاء صديقاً، الود على محياه، والتعاطف في سيماه... لم يكن طوال ثلاث ساعات قد ألمح إلى شيء أو تحدث بما يثير الشك. هو رجل في منتهى التهذيب واللياقة.. عبر عن حزنه بوفاة الفقيد الغالي.. عن مسارعته للمجيء ما إن سمع نبأ الوفاة، عن سروره بمشاركة صديقه في عزائه، وحين قدمت المناسف أكل هو وصحبه، ردد العبارات التي يرددها الناس عادة في المآتم متمنياً لعزيز حسن الصبر والسلوان ثم امتطى سيارته ورحل.‏

-الغبي حسني.. لو نعلم فقط ما حدث به ذلك المخبر!؟‏

-ما قلته لك حرفاً بحرف..‏

-يا إلهي!! عزيز!! أشعر أن الأنشوطة تضيق حول عنقي!!‏

-أنا نفسي أشعر بذلك!! بل.. تصدقين!؟ شعرت، وأنا أراه ينزل من سيارته، أنه يحمل لي بيديه تلك الأنشوطة..‏

-إذن.. ماذا نفعل؟.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:17 AM [ 76 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




وكان ذلك هو السؤال الذي أرقهما حتى مطلع الفجر، فيما كان الجواب سبباً في إرباك ناس وقلب مخططات. دملجة، رغم الحزن على الجد الذي فارقه على عجل، كانت تكتم في صدرها سعادة لا تستطيع الحديث عنها لكن عينيها كانتا تبرقان بها. فعمها عزيز مذ وصل إلى القرية، كان قد قال لابنه "عليك أن تحزم متاعك إلى دمشق، أنا بأمس الحاجة إليك". "الحمد لله!! سنترك القرية"، راحت دملجة تهتف، وهي تكاد تطير فرحاً.. "سأعيش في المدينة".‏

كانت دملجة تحلم بالعيش في المدينة، بل ربما لم توقع نوافاً في هواها إلا لكي يأخذها إلى المدينة.. لكن أملها خاب بعد الزواج فكرهه للمدينة كان يجعلهما على طرفي نقيض. دملجة تعلم من قبل أنه يعشق الريف وأنه يريد العيش فيه، لكنها كانت تمني نفسها بتغييره بعد الزواج. "القرية!!؟ لماذا نعيش في القرية؟ هنا غبار وحر في الصيف ووحل وقر في الشتاء!!". كانت تقول له: "في القرية لا شيء سوى الشوك في الأرض والحشرات في الجو.. الضيق والحرمان.. الأقاويل والإشاعات" "في المدينة الطرقات المعبدة، الأبنية الجميلة وقبل هذا وذاك هناك الكهرباء". كانت تحاول إقناعه كلما خلا لها الجو، فالكهرباء كانت الساحر الذي يخطف الأبصار "حسبك أن تضغط زراً ليشع نور كنور الشمس"، كانوا قد تكلموا أمامها ففتحت عينيها إلى أقصى اتساع... "إذن، لن تكوني بحاجة لتعبئة زيت الكاز وغسل البلورة والمصباح كل يوم، قص الفتيلة وإشعال الكبريت؟" "لا، لا، ذلك الزر يغنيك عن هذا كله، يعفيك من كل تعب" بعدئذ سمعت دملجة أشياء أخرى: المكواة تصلينها بالكهرباء فتكوى ثيابك، التسخين، التدفئة، كله على الكهرباء والأهم الأهم الحاكي والمذياع.‏

في المدينة حاكٍ تضعين عليه أسطوانة فتسمعين الأغنية التي تشائين، الموسيقى التي عليها ترقصين... تديرين مفتاح المذياع فتسمعين محمد عبد الوهاب... أسمهان، أم كلثوم.. "يا إلهي!! أي حلم إذن، أن يعيش المرء في المدينة!!". على ذلك الحلم ظلت دملجة تعمل. نواف ضدها، أمها عليا، أبوها يونس، كلهم يريدون كسب نواف... إبقاءه في القرية، فهو قوة للعائلة ورصيد.. لكن دملجة غير معنية بقوة أو رصيد.. هي تريد أن تذهب إلى المدينة، تعيش حياة المدينة، حيث النظافة، الماء، الكهرباء، فتتيه على أخواتها ولداتها وتفقأ أعين الحاسدين والحاسدات..‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:17 AM [ 77 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




في أيام المآتم السبعة كانوا كلهم في هم ودملجة في هم، كلهم حزانى باكون، وهي تكتم سعادة في القلب تكاد تفيض على الوجه والشفتين.. هي تخشى اللوم فقط فتكبت، وتنتظر اليوم الموعود.. كل شيء معد للرحيل.. وما تراه هذا الكل شيء؟ ما تراها تأخذ من القرية إلى دمشق؟" لا.. لا.. حسبي بعض ثيابي الداخلية، مصاغي وذهبي".‏

فقد كانت دملجة تعلم أن ثياب القرية لا تصلح للمدينة وأن عمها وامرأة عمها سيجهزانها في دمشق عروساً تزف لابن عمها من جديد. نواف نفسه كان قد استعد للرحيل، رغم نفوره من المدينة، رغم تعلقه بالقرية لم يكن ليخالف أوامر أبيه. "أنا بحاجة إليك"، إذن سيلبي نواف الحاجة ودملجة سعيدة بذلك.. أيام المأتم طويلة، تعدها دملجة بالدقائق والثواني وهي تعلم أن عمها لن يستطيع المغادرة قبل إتمام الطقوس: الأسبوع، الذبائح، النفقة على روح الميت، كلها لا بد من قضائها قبل العودة إلى دمشق. عمها رجل هام، يأتي الناس لتعزيته من كل مكان.. حتى من دمشق جاؤوا.. قومندان بطوله وعرضه ركب سيارته تلك المسافات الطويلة كي يقوم بالواجب.. وازدادت سعادة دملجة "سأعيش أروع عيش: عزاً وجاهاً، غنى وسعادة".‏

الكل في القرية يتحدثون عن المكانة التي يتبوأها عزيز في دمشق، عن غناه وثروته، عن علاقاته الواسعة بكبار القوم من سياسيين وذوي شأن، فرنسيين ووطنيين.. ومجيء القومندان أكبر دليل زاد في أحاديث أهل القرية وزاد في سعادة دملجة.. لكن ما إن جاءت ساعة الرحيل حتى جاءت معها الصدمة:‏

-ابق هنا الآن، قال عزيز لابنه فزفر قلب الابن فرحاً.‏

-تعني لم تعد تريدني في دمشق؟ سأل نواف أباه وهو لا يكاد يصدق.‏

-بل أريدك.. لكن.. لنؤجل ذلك الآن.. ابق مع عمك في القرية.‏

لم يسأل نواف عن السبب، ولم يرغب في معرفة الطوارئ التي دعت الأب لتغيير قراره.. حسبه أنه سيظل في القرية.. حسبه أن يثب فرحاً متراقصاً إلى دملجة، يأمرها بفك صررها ورزمها فتجحظ عينا المرأة على الحلم الذي يهرب.‏

-لا.. نواف.. لا تقل ذلك..‏

-بل أقوله.. هما سيسافران غداً.. نحن سنبقى.. وأنا سعيد.. سعيد.. سعيد..‏

طوال السهرة ظلت دملجة مع امرأة عمها تسأل وتستفسر.. لكن عبثاً.. شمس متكتمة واجمة مقطبة الحاجبين.. هي تعلم هول الصدمة على الكنة التي تفقد أغلى أحلامها، لكن ماذا باستطاعتها أن تقول؟ أتقول لها إن القومندان يلاحقها ملاحقة الهر للفأر؟ إن ثمة سراً تخفيه، وهو يسعى للكشف عنه؟ إن خطر الموت يهددها إذا ما كشف ذلك السر؟ أتحكي لها عن الكابيتان جيرار؟ ثورة حماة؟ مطامع جيرار بها؟ دفاعها عن نفسها؟ وعن ذلك التاريخ الطويل من الهروب والتخفي والتمويه، عل السر يضيع؟. لا، ليس باستطاعة شمس أن تبوح بشيء.. السر الذي حملته مع زوجها من حماة لم يعرف به أحد.. كانت حذرة طوال تلك السنين وكان عزيز حذراً.. لكن ها هو ذا من مأمنه يؤتى الحذر.. القومندان يستفرد بالأخضر في باريس كي يحدثه عن طفولته في حماة.. المخبر يأتي إلى حسني الدباغ كي يستجره للحديث عنهما..‏

لا شك أن القومندان يقترب من ذلك السر ولا شك أن الخوف يمور في قلبيهما كليهما.‏

"أشعر أن الأنشوطة تضيق حول عنقي" تقول لعزيز، ثم يسهران حتى مطلع الفجر وقبل أن يرقد لهما جفن يقرران "نسافر إلى دمشق فإن رأينا خطراً هربنا في الحال". لكن هل تستطيع شمس البوح بذلك لدملجة؟ هل تستطيع إشعارها بالخوف الذي يعتورها، بالحذر الذي عاودها هي وعزيز فقررا إبعاد نواف عن مكمن الخطر.. إبقاءه احتياطاً في القرية حتى لا يضعوا بيضهم كله في سلة واحدة؟ شمس تلتزم جانب الصمت ودملجة تكاد تنفجر قهراً وغيظاً سرعان ما تحولا إلى دموع سخان وهي تودع الراحلين إلى دمشق.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:18 AM [ 78 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




في دمشق، كان الجو مكفهراً متلبداً بالغيوم، ليس غيوم المطر والثلج، البرق والرعد، بل غيوم السياسة والدسائس، الحرب والضرب. قبل ثلاث سنوات كانت مفاوضات قد أجريت ومعاهدة قد عقدت لإنهاء الانتداب. لكن قبل أن يجف حبر المعاهدة بدأت فرنسا تسحب البساط من تحت الأرجل، متذرعة بهذه الحجة أو تلك، منسحبة من هذا الالتزام أو ذاك، مؤكدة أنها لا تخطط إلا لترسيخ استعمارها للبلاد، فالوزارة التي لا تركع عند قدمي مندوبها السامي تحل في الحال، رئيس الجمهورية الذي لا يكون لديها "شبيك لبيك عبدك بين يديك" يعزل، والمدير الذي لا يكون عبداً مطيعاً يرمى في القمامة... تراجعات متتالية قامت بها فرنسا، ضربات متتالية وجهتها لحلم الاستقلال لكن الضربة الأشد كانت لواء اسكندرونة.‏

قبل عشرين عاماً كانت تركيا "العصملي" قد خرجت من البلاد، لكن هل تخرج تركيا أتاتورك؟ أحلامها بسورية لا تستطيع أن تتحقق، فلم لا تتحقق بلواء اسكندرون؟ بالحرب والضرب لا تستطيع ذلك فلماذا لا يكون بالتآمر؟. كليكية، جزيرة ابن عمرو، ديار بكر، كلها أراض عربية، مع ذلك وضعت يدها عليها، بالقوة أخذتها، فلماذا لا تأخذ لواء اسكندرون؟‏

منذ زمن طويل كان أتاتورك قد كشر عن أنيابه يريد التهامه. لكن ثمة فرنسا.. كما في الموصل بريطانيا.. بريطانيا لم تتخلَّ عن الموصل لكن فرنسا تتخلى.. "نجري استفتاء" اقترح أبناء أتاتورك وهم يلوحون بثمن اللواء لفرنسا. الصفقة رابحة وفرنسا لا يغريها كالصفقات الرابحة.‏

عصبة الأمم أرسلت بعض المندوبين، فرنسا أطلقت لتركيا العنان، تزوّر وتحرِّف، تبدل وتغير، وجاءت النتائج كما يشتهي أبناء أتاتورك.. الثمانية والستون بالمائة من السكان العرب صارت ثمانية وثلاثين، والأقلية التركية صارت أغلبية وسلخ لواء اسكندرون!! سلخ وهو حي، عكس ذبائح الدنيا كلها، تلك التي تذبح أولاً ثم تسلخ.. لواء اسكندرون صلب على خشبة عالية، دقت المسامير في يديه وقدميه ثم بدأ جلاوذة أتاتورك يسلخونه. دماؤه تنزف، صرخاته تتعالى، أناته تقطع نياط القلوب لكن لا أحد يسمع.. عصبة الأمم التي جاءت لإحقاق الحق وإحلال السلام على الأرض، بريطانيا التي تدعي الصداقة للعرب والاهتمام بمصالح العرب، فرنسا التي التزمت ذات يوم بحماية الأرض التي انتدبت عليها، حتى روزفلت الداعي لحقوق الشعوب في الحياة وتقرير المصير، لم يسمع بصيحات اللواء ولم تصل أذنيه توجعاته وآهاته، لكنها وصلت مدوية موجعة إلى دمشق.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:18 AM [ 79 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




في المرجة، الحجاز، الحميدية، كانت صرخات اسكندرونة تتردد. في باب الجابية والصالحية، على ضفاف بردى وجدران الأموي كانت ولولات أنطاكية تنعكس مستنجدة طالبة الغوث. الأخت تسلخ جلداً عن لحم، لحماً عن عظم، فماذا تفعل أختها التوأم؟.‏

الأخت التوأم هبت إلى النجدة.. هي مكبلة اليدين مغلولة القدمين لا تملك إلا الصوت فتطلقه صراخاً، سمعه عزيز وشمس مذ وصلت بهما السيارة إلى شارع بغداد، ذلك الشارع العريض الذي شقته فرنسا عبر الرياض والبساتين كي تقضي على متمردين خارجين على القانون، يتربصون بجنودها فيصرعونهم أرضاً، يكمنون للدوريات فيمزقونها تمزيقاً.‏

الشوارع الأخرى غير سالكة.. حشود الطلاب، جماهير الناس تملأها كلها مانعة السير، موقفة كل حركة.. فلم يملك الزوجان إلا أن يدورا حول سور دمشق قبل أن يصلا إلى الشاغور فالميدان.‏

-أين مناف؟ سأل الوالدان وضحة، وهي تستقبلهما بكثير من اللهفة والشوق.‏

- لا أدري.. منذ الصباح خرج ولم يعد..‏

-تعنين أنه في المظاهرة؟ خائفة ملهوفة أسرعت شمس تسأل.‏

-الله أعلم..‏

-وبدور؟ سأل الأب هذه المرة‏

-لا.. بدور.. عند روضة..‏

وتنفس كلاهما الصعداء، يخرج الشاب مظاهرة، في الأمر وجهة نظر، لكن أن تخرج الفتاة، تعرض نفسها للخطر فأمر يبث الذعر في الأوصال.‏

-ناديها، وأسرعت وضحة إلى روضة التي كان الدكتور الشهبندر قد حل عقدة لسانها فعادت تنطق ككل خلق الله. بعدئذ عرفت أن القصور التي بنتها كانت مجرد قصور في الهواء.. شمس شرحت لها "حبك للأخضر من طرف واحد، هو بعيد في شغل شاغل فكيف تربطين مصيرك بمصيره؟ العريس جاء فلماذا ترفضين؟ "أنا واثقة أن الأخضر يحبني" ردت حينذاك "لكنه يقسم انه لم يصرح لك بشيء ولم يلزم نفسه بشيء" "صحيح" قالت بغصة في الحلق. "إذن.. كيف تتصورين أشياء هي مجرد أوهام"؟ "أنا أحبه وسوف أنتظره" "تنتظرين عبثاً.. فمن يضمن شاباً في بلد أجنبي؟ من يكفل ألا يقع في شراك امرأة هناك؟" وبدت الحجة مفحمة، بدأت روضة بعدها تطرد شيئاً فشيئاً خيال الأخضر من عينيها، صورته من ذهنها.. شيئاً فشيئاً بدأت تنزل من السماء حيث كانت تحلق عالياً بأحلامها المجنحة فترى نفسها تستقبل بالأحضان الأخضر العائد من باريس طبيباً قد الدنيا لتصنع معه عش الزوجية السعيد.‏

أبوها، أمها، لم يعودا يجرؤان على إكراهها: "خذي هذا العريس، خذي ذاك" كان خرسها قد علمهما درساً فتركاها تقتنع وتختار.. وكانت قد اختارت العريس الذي تستعد للبناء به بعد أيام.‏

-أهلك جاؤوا، نقلت وضحة البشرى للصبية ابنة الخامسة عشرة قاطعة حديث روضة عن العرس والعريس.‏

-حقاً!؟ هتفت بدور وهي تهب بسرعة، فقد كان في صدرها شوق عارم لرؤية أبويها وكأنهما غابا عنها شهوراً طوالا.‏

بالأحضان أخذها الأب، بالأحضان لفتها الأم، يقبلانها ويلثمانها. وردة عبقة الرائحة عاطرة الأريج. كان البرعم قد تفتح صدراً ناهداً وقواماً فارعاً وخصراً أهيف...‏

شمس تنظر إليها فترى فيها نفسها تتشكل من جديد.. الشعر الأسود الفاحم، العينان السوداوان، البشرة البيضاء، وحدها القامة أطول، العظام أغلظ، الكتفان أعرض، أتراها بنية عزيز؟ بدور مزيج من شمس وعزيز، وأي مزيج؟ شمس تنظر إليها ولا تشبع.. الصبا والجمال.. كلاهما معاً بدور، وبدور كلاهما معاً، فكيف لا تسر الأم وكيف لا يرضى الأب؟.‏

لكن الأب مشغول البال، مناف يشغله والدار لا تسعه.‏

-أنا ذاهب إلى المحل، قال لشمس وهو يخرج لا يلوى على شيء. بيت صبري قريب. مربه، قرع الجرس:‏

-أين أبو فريد؟ سأل من وراء الباب ومن وراء الباب جاءه الجواب:‏

-خرج.. لا أدري أين..‏

"أنا أعلم أين" قال، وقد وصل إلى المحل المغلق، لنفسه ثم للأنثى التي جاءه صوتها من وراء الباب، لا يعلم من هي.. أهي الأم أم الابنة؟.. خلف الأبواب تتشابه أصوات النساء فلا تستطيع الأذن تمييزها. صداقته مع أبي فريد لم تغير شعرة واحدة من علاقته بأهل بيته.. بيوت الميدان ما تزال متمسكة بالحرملك والسلملك.. حاجز عال يفصل بينهما ولا فائدة من محاولة اختراق ذلك الحاجز.. لكأنه الاسمنت ينطحه الوعل بقرنيه فينكسر قرناه.. صبري يدخل بيت عزيز، يجلس مع شمس، يتحدثان، يشربان، يأكلان... منذ أيام حماة كان صبري قد دخل بيت شمس واستقبلته صديقاً، لكن ما كان لعزيز أن يدخل حرملك صبري الذي أبى أن يغادر دمشق. أم فريد في بيت العائلة في الميدان، صبري يذهب، يجيء، يحل، يرحل وهي قاعدة في البيت العتيق جزءاً لا يتجزأ منه.. الأم، الأخوات، نساء الأخوة، كلهن يشكلن حرملكا متين البنيان متماسك الأركان، يرى ولا يُرى، يسمع ولا يُسمع، ثم يكيد للرجال ذلك الكيد العظيم.‏


الأعلى رد مع اقتباس
قديم 30 Apr 2006, 01:19 AM [ 80 ]
عضو متميز

تاريخ التسجيل : Feb 2005
رقم العضوية : 28
الإقامة : saudi arabia
الهواية : ركوب الدرجات
مواضيع : 291
الردود : 5726
مجموع المشاركات : 6,017
معدل التقييم : 83كديميس will become famous soon enough

كديميس غير متصل


مـجـمـوع الأوسـمـة : 5
الكاتب المميز

مسابقة تعرجات قلم

ليلة حالمة

التواصل

عضو مخلص




طوال إقامته في دمشق، كان عزيز يتمنى لو ترمى الحجب وتزول الحواجز لتقوم علاقة طبيعية بينه وبين بيت صديقه، رفيق العمر أبي فريد.. لكن عبثاً كانت أمانيه.. أم فريد، أم صبري، البنات كلهن صديقات شمس وبدور ابنة شمس.. يلتقين، يتبادلن الزيارات، تربطهن أقوى الأواصر.. لكن حتى هنا وحسب.. فقانون الحريم صار يحرم عليه الاختلاط بالرجال: لا يرَ رجل وجهك، لا يلمس يدك، لا يسمع صوتك.. إلى آخر اللاءات التي سطرها قانون الحريم وتشرف على تنفيذها أمهات الحريم. عزيز يعلم رأي صبري، كرهه لذلك الحرملك والسلملك. لكن ما كان باستطاعته تغيير شيء فالعبدة أحرص على عبوديتها من سيدها، وأكثر دفاعاً عن قيودها من مقيّدها..‏

الأعلى رد مع اقتباس
إضافة رد
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تأملات على الطريق دق تحية قدامك مهرسية مرافئ البوح 10 02 Feb 2011 10:22 AM
تأملات على الطريق مجدي الشدادي القسم العام 4 12 Feb 2010 10:10 AM
الطريق خوي الذيب قصائد مختارة 10 08 Jan 2007 10:47 PM
وجه الطريق دايم الشوق قصائد مختارة 18 12 Apr 2006 02:22 PM
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

02:56 AM
Powered by vBulletin® developed by Tar3q.com